ﰡ
(١) - طَاسِينْ وتُقْرأ مُقَطَّعَةً كُلَّ حرفٍ عَلَى حِدَة، واللهُ أَعْلَمُ بِمُرادِه.
هَذِهِ الآياتُ التي أنْزَلَهَا عَليكَ رَبُّكَ يا مُحَمَّدُ، هيَ آياتُ القُرآنِ الجَلِيِّ الوَاضِحِ (المُبِينِ).
هدىً - هَادٍ مِنَ الضَّلاَلةِ.
(٣) - والمُؤْمِنُونَ حَقَّ الإِيمَانِ هُمُ الذينَ يُقِيمونَ الصَّلاةَ، ويُؤَدُّونَها حَقَّ أَدائِها، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوالِهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ، وبأنَّ الحَيَاةِ الدُّنْيا، ولِذَلِكَ فإِنَّهُمْ يَبْذُلُونَ جُهْدَهُمْ فِي طَاعَةِ اللهِ، وفي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ.
(٤) - أمَّا الذينَ يُكَذِّبُونَ بالآخِرَةِ ويَسْتَبْعِدُونَ قِيامَ السَّاعةِ، فقَدْ حَسَّنَ اللهُ لهُمْ في أعيُنِهِمْ أعمَالَهُمْ، ومَدَّ لَهُمْ في غَيِّهِمْ، فَهُمْ يَتِيِهُونَ في ضَلالِهِمْ حَيَارَى (يَعْمَهُونَ)، ويَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
يَعْمَهُونَ - يَتَحَيَّرُونَ وَيَتَرَدَّْوْنَ في الضَّلاَلةِ.
(٥) - وَهؤلاءِ الكُفَّارُ أعَدَّ اللهُ لَهُمْ أَسْوَأَ العَذَابِ في الدُّنْيا، بِقَتْلِهِمْ وأسْرِهِمْ وفَرْضِ الجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ... ، وسَيكُونُونَ في الآخِرَةِ هُمُ الخَاسِرِين وحْدَهُمْ.
(٦) - وإنَّكَ يا مُحَمَّدُ تَتَلَقَّى مِنْ عندِ اللهِ الحَكيمِ في أمْرِه ونَهْيِهِ، العَليمِ بالأُمورِ جَميعِها، جَلِيلِها وحَقِيرِها، فَخَبَرُهُ هُوَ الصِّدْقُ المَحْضُ، وحُكْمَهُ هُوَ العَدْلُ التَّامُّ.
(٧) - واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ خَبرَ مُوسى عَليهِ السَّلامُ حِين سَارَ بأهلهِ مِنْ مَدْيَنَ مُتَّجهاً إلى مِصْرَ، فَضَلَّ الطريقَ في ليلةٍ ظَلْمَاءَ، فَرَأى منَ جَانِبِ وَادي الطُّورِ نَاراً تَتَأَجَّجُ، فَقَالَ لأَهْلِه إِنَّه رَأى نَاراً، وإنهُ سَيَسْأَلُ مَنْ عَلَى النارِ مِنَ النَّاسِ عَنِ الطريقِ أو إنَّهُ سَيَأتِيهِمْ - أَيْ سَيَأْتِي أهْلَهُ - بِقِطْعَةٍ مِنْ نارٍ يُوقِدُونَ بِهَا ناراً لَهُمْ ناراً لَهُمْ يَسْتَدْفِئُونَ عَلَيْهَا مِنْ بَرْدِ تِلْكَ الليلةِ.
آنَسْتُ نَاراً - أبْصَرْتُ إبْصَاراً بَيِّناً.
بِشِهَابٍ قَبَسٍ - بِشُعْلَةِ نَارٍ سَاطِعَةٍ مَقْبُوسَةٍ مِنْ أَصْلِها.
تَصْطَلُونَ - تَسْتَدْفِئًونَ بِهَا.
(٨) - فَلمَّا أتَى مُوسَى النَّارَ لَمْ يَجِدْ عِندَها أَحَداً، وَوَجَدَهَا تَشْتَعِلُ في شَجَرةٍ خَضْراءَ، وَالنَّارُ لا تَزْدَادُ إلا اضْطِرَاماً، والشَّجرةُ لا تزْدادُ إلا اخْضِرَاراً، فتعجَّبَ مُوسَى مِنْ ذَلكَ، فَرَفَعَ رأسَهُ فوجَدَ نُوراً مُتَّصِلاً بِعَنَانِ السَّماءِ، فوقَفَ مُوسى مُتعجِّباً ممَّا يَرى، فَنَادَاه صَوْتٌ قَائِلاً: تَقَدَّسَ مَنْ مَكَانِ النَّارِ، وَمَنْ حَوْلَ مَكَانِهَا (وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ المَعْنى هُوَ تَقَدَّسَ مَنْ حَوْلَ النارِ مِنَ المَلائِكَةِ)، وَتَنَّزهَ اسمُ اللهِ تعَالى وتقَدَّسَ، وهُوَ الفَعَّالُ لِما يَشَاءُ، وهُوَ الأَحَدُ الصَّمَدُ المُنَزَّهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ المحْدَثَاتِ، وهُوَ رَبُّ العَالَمينَ.
بُورِكَ - قَدُسَ وطَهُرَ وَزِيدَ خَيْرُهُ.
مَنْ في النَّارِ ومَنْ حَوْلَها - الذِينَ في ذَلك الوادِي الذِي بَدَا فيهِ النُّورُ.
(٩) - ثُمَّ أَعْلَمَ اللهُ تَعالَى مُوسَى بَعْدَ ذلِكَ أَنَّ الذيْ يُكَلِّمُهُ، ويُنَاجيهِ هُوَ اللهُ، ربُّّهُ وهُوَ العَزيزُ الذي عَزَّ كُلَّ شيءٍ، وقَهَرَهُ وغَلَبَهُ، وهُوَ الحَكِيمُ في أقْوَالِهِ وشَرْعِهِ وأفْعَالِهِ.
(١٠) - ثُمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى مُوسَى بأَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ ليُظْهِرَ لَهُ دَليلاً واضِحاً على أنهُ الفاعلُ المختارُ القادرُ على كلِّ شيءٍ. فلما ألْقَى العَصا من يدِهِ انقَلَبَتْ في الحَالِ إلى حَيَّةٍ سَرِيعةِ الحَرَكَةِ كأنَّها جانٌّ (أيْ ضربٌ من الحَيَّاتِ سريعُ الحَرَكَةِ) فلما رَأى موسى ذلِك هَرَبَ خمُسْرِعاً ولمْ يَلْتَفِتْ خَلْفَهُ (ولم يُعَقِّبْ)، مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ واضْطِرَابِهِ، فقالَ لهُ اللهُ تَعالى: يَا مُوسى لا تَخَفْ مما تَرَى، فإِنِّي أريدُ أن أصْطِفيَكَ رَسُولاً، وأجْعَلَكَ نَبياً وَجِيهاً، وإنِّي لا يَخَافُ عندِي رُسُلي وأنْبِيائي.
تَهْتَزُّ - تَتَحَرَّكُ.
كأنَّها جانٌّ - كأنَّها حيةٌ خَفيفةُ الحَرَكَةِ.
لمْ يُعَقِّبْ - لم يَرْجِعْ على عَقِيَبْهِ أو لَمْ يَلْتَفِتْ.
(١٢) - ثمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى مُوسى بأنْ يُدْخِلَ يدَهُ في فَتْحَةِ الصَّدْرِ مِنْ ثَوْبِهِ (جَيْبهِ)، فأدْخَلَهَا وأخْرجَهَا فإِذا هِيَ بيضاءُ تَتَلأْلأُ منْ غَيْرِ سُوءٍ ولا مَرَضٍ. وهَاتَانِ آيتانِ مِنْ تِسْعِ آياتِ أَيَّدَ اللهُ بِهَا مُوسَى، وَجَعَلَهَا بُرْهَاناً لهُ في دَعْوَتِهِ فِرعَونَ وقومَهُ إلى عِبَادَةِ اللهِ، فَقَدْ كَانُوا خَارِجينَ عن طَاعةِ اللهِ (فاسقينَ) إذِ ادَّعى فرعَونُ الأُلُوِهيَّةَ، وَصَدَّقهُ قومُهُ في هذِه الدَّعْوى.
جَيْبِكَ - فَتْحَةِ القَميصِ عِندَ الصَّدرِ.
مِنْ غيرِ سُوءٍ - مِنْ غَيرِ مَرضٍ ولا بَأْسٍ.
(١٣) - فَلَمَّا جَاءَتْ فرعونَ وقومَهُ هذهِ الآياتُ الواضِحَاتُ الظاهِرَاتُ (مُبْصِرَةً)، جَحَدُوا بِهَا، وعَانَدُوها، وَقَالُوا عَنْها: هذا سِحْرٌُ واضِحٌ بَيِّنٌ.
مُبْصِرَةً - واضِحَةً بَيِّنَةً هادِيَةً.
(١٤) - وَجَحَدُوا بالآياتِ التي جَاءَتْهُمُ مِنْ عِنْدِ اللهِ على يَدَيْ مُوسى، وكانَ جُحودُهُم بها ظُلْماً منْ عندِ أنفُسِهِمْ، واسْتِكْبَاراً عن اتِّباعِ الحَقِّ (عُلُوّاً)، وَهمْ يَعلَمُونَ أنّها حقٌّ وصِدْقٌ، وأَنَّ مَنْ جَاءَ بها هُوَ رَسُولُ الهِ حَقّاً وصِدْقاًَ، وإنْ قَالُوا عنهُ: سَاحِرٌ. فأهْلَكَهُمُ اللهُ جميعاً في صَبِيحةٍ واحدةٍ. فانظُرْنا يا محمَّدُ كيفَ كَانَتْ عَاقِبةُ أمْرِ هؤلاءِ المكَذَّبينَ المُفْسِدينَ في الأرض، فاحْذَرُوا يا مَنْ تُكَذِّبونَ مَحمَّداً رَسُولَ اللهِ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصَابَهُمْ.
عُلُوّاً - تَرَفُّعاً واسْتِكْبَاراً عنِ الإِيمانِ بِها.
(١٥) - يُخبِرُ اللهُ تَعالى عَمَّا أنْعَمَ بهِ على عَبْدَيْهِ داودَ وسُليمانَ عَلَيهما السَّلامُ، مِنَ النِّعم والمواهِبِ الجَلِيلةِ، وَمَا جَمَعَ لَهُما من سَعَادةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، والمُلْكِ والنُّبوَّةِ، فحَمِدَا الله تعالى على فَضْلِهِ، وَأَثْنَيَا عليهِ بما هُوَ أهْلُهُ، لِمَا تَفَضَّلَ بهِ عليهِما من تَفْضيلِهِ إياهُما على كثيرٍ من عبادِهِ بالعِلْمِ والشريعَةِ ودِرَاسَةِ الأحْكَامِ والنُّبُوَّةِ. فقد عَلَّمَ اللهُ داودَ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، وعَلَّمَ سُليمانَ مَنْطِقَ الطَّيرِ، وَالحيَواناتِ، وَتَسبِيحَ الجِبَالِ، وَسَخَّر لَهُ الجِنَّ والشَّيَاطِينَ.
(١٦) - وَوَرِثَ سُليمانُ أيَاهُ دَاودَ في المُلْكِ والنُّبُوَّةِ (وَلَيْسَ المُرادُ بالوِرَاثة هُنا وِرَاثةَ المالِ لأَن الأنْبياء لا يُوَرِّثُونَ أَمْوالَهُمْ). وَأخبرَ سُليمانُ مَنْ حَوْلَهُ بما أنْعَمَ اللهُ عَليهِ، وَبمَا وَهَبَهُ مِنَ المُلْكِ العَظِيمِ، حَتَّى إِنَّهُ سَخَّرَ لهُ الإِنْسَ والجِنَّ والطَّيرَ، وكانَ يعرِفُ سلُغَةَ الطَّيرِ والحَيَوانَاتِ، وَأُعْطِيَ كُلَّ مَا يَحتَاجُ إِليهِ المُلْكُ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ الظاهِرِ البَيِّن عليْهِ.
مَنْطِقَ الطيرِ - فَهْمَ أَغْرَاضِهِ كُلِّها مِنْ أَصْوَاتِهِ.
(١٧) - وَجُمِعَ لِسُلَيمانَ جُنودُهُ مِنَ الجنِّ والإِنسِ والطَّيرِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَرَكِبَ فيهمْ في أُبَّهةٍ عظيمةٍ ليُحَارِبَ بهِمْ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ في طَاعَةِ اللهِ، وَكَانَ يَتَولَّى أَمرَ كُلِّ فِئةٍ وازِعُونَ مِنْهُمْ يُلْزِمُونَ كلَّ واحدٍ مَكَانَهُ، لكيْلا يَتَقَدَّمَ عنْهُ في الموْكِبِ، أثْنَاءَ السَّيْرِ.
يُوزَعُونَ - يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ حَتَّى يَكْتَمِلَ جَمْعُهُمْ وَيَبْقَوْنَ كُتْلَةً وَاحِدَةً.
(١٨) - حَتَّى إِذا مَرَّ سُلَيمانُ بمنْ مَعَهُ مِنَ الجُنْدَ عَلى وَادٍ للنَّمْلِ قَالَتْ نملةٌ لِصَحْبِهَا: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، فإِنَّ سُليمانَ وَجُنُودَهُ قَدْ يَحْطِمُونَكُمْ وهُمْ لا يَشْعُرونَ بِوُجُودِكُمْ، وَلا يَفْعَلُونَ من تَحْطِيمِكُمْ.
يَحْطِمَنَّكُمْ - يُدُوسُكُمْ ويُهْلِكُكُمْ.
(١٩) - فَفهِمَ سُلَيمانُ مَا قَالَتْهُ النَّملةُ لجمَاعَةِ النَّمْلِ، فَتَبَسَّمَ مُتَعَجِّباً مِنْ حَذَرِهَا، وَمِنْ تَحْذِيرها جَمَاعَتَهَا، وَسُرَّ بما خَصَّهُ الله بهِ مِنْ فَهْمِ قَوْلِها، وَسَأَلَ رَبَّهُ أنْ يُلْهِمَهُ شُكْرَهُ على مَا أنْعَمَ بهِ عليهِ وَعَلى والِدَيْهِ، وأنْ يُيَسِّرَهُ لِلعَمَلِ الصَّالِحِ الذي يَرْضَاهُ اللهُ لَهُ. وَسَأَلَ رَبَّهُ أنْ يَجْعَلَهُ في عِبَادِهِ الصَّالِحينَ، وأنْ يُدخِلَهُ في رَحمَتِهِ.
أوْزِعْنِي - أَلْهِمْنِي واحْمِلْنِي.
(٢٠) - قالَ ابنُ عباسٍ: كَانَ الهُدْهُدُ يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَى مَواقِعِ الماءِ في بَاطِنِ الأَرضِ فَيَأْمُرُ سُليمانُ الجِنَّ بالحَفْرِ لِيُسْتنبَطَ الماءُ. وفي يومٍ نَزَلَ سليمانُ في أرض فَلاَةٍ فَتَفَقَّدَ لِيَرَى الهُدْهُدَ، فَلَمْ يَرَهُ فَسَألَ عَنْهُ، وقالَ: مَا لِيَ لا أَرى الهُدْهُدَ، هَلْ أخْطَأَهُ بَصَرِي منَ الطَّيْرِ، أمْ إِنَّهُ غابَ فَلَمْ يَحْضُرْ؟ وَلمْ أشْعُرْ بِغَيْبَتِهِ.
(٢١) - فَقَالَ سُلَيمانُ إِنهُ سَيُعَذِّبُ الهُدْهُدَ عَذَاباً شَدِيداً بِنَتْفِ ريشِهِ وَتَرْكِهِ لِيَأْكُلَهُ الذَّرُّ والنَّمْلُ، أَوْ إنَّهُ سَيقْتُلُهُ إذا لمْ يَأْتِ بِعُذْرٍ مُقْنِعٍ مَقْبُولٍ (مبينٍ)، يَبَرِّرُ بِهِ غَيْبَتَهُ.
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ - بِحُجَّةٍ وَمعْذِرَةٍ تُبَرِّرُ غَيْبَتَهُ.
(٢٢) - فَغَابَ الهُدْهُدُ زَمَناً يَسيراً (فَمَكَثَ غيرَ بعيدٍ) بَعْدَ أنْ سَأَلَ سُليمانُ عنْهُ، ثمَّ جَاءَ فَقالَ لِسُلِيمانَ: لَقَد اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَليهِ أنْتَ وَجُنودُكَ، وَجئتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ صَادِقٍ حَقٍّ (يقينٍ).
بِنَبَأٍ - بِخَبَرٍ.
سَبَأٍ - مدينةٍ في اليَمَنِ.
(٢٤) - لقدْ وَجَدْتُها وَقَومَهَا يَعبُدُونَ الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيسْجُدُونَ لَها، وقَدْ أَضَلَّهُمُ الشَّيطَانُ عنِ الطَّريقِ السَّوِيِّ، فهُمْ لا يَهْتَدُونَ إلى الحَقِّ.
(٢٥) - وقدْ صَدَّهُمُ الشَّيطَانُ عنِ السَّبيلِ السَّوِيِّ حَتَّى لا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخرِجُ المَخْبُوءَ في السَّماواتِ والأرضِ، وَمَا جَعَلَ فيها من الأَرْزَاقِ: المَطرِ، والماءِ مِنَ السَّماواتِ والنَّبَاتِ مِنَ الأرْضِ، وَيَعْلَمُ مَا يُخفِيهِ العِبَادُ، ومَا يُعْلِنُونَهُ مِنَ الأَقْوَالِ والأَفْعالِ.
الخَبْءَ - المَخْبُوءَ، المَسْتُورَ أَياً كَانَ.
" وَيُرْوَى أَن النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ قَتْلِ الهُدْهُدِ لأَنَّهُ دَاعِيَةٌ إِلى الخَيرِ، وَإِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى " (رَوَاهُ أحمدُ وابنُ مَاجَه وأَبو دَاودَ).
(٢٧) - فَقَالَ سُلَيمانُ للهدهُدِ: سَنَنْظُرُ فيما قُلْتَهُ أَصَدَقْتَ فيما أَخْبَرْتَ بِهِ، أَمْ كَذَبْتَ للتَّخَلُّصِ مِنَ العِقَابِ الذي أوْعَدْتُكَ بهِ؟
(٢٨) - فَكَتَبَ سُليمانُ كِتَاباً إِلى بلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَأٍ، وأمَرَ الهُدْهُدَ بحَمْلِهِ إليها، وبإِلْقَائِه بينَ يَدَيْها، ثُمَّ أَمَرَهُ بالتَّنَحي عنهُمْ جَانِباً لِيُلاَحِظَ ما ستفْعَلُهُ بالكتابِ، وماذا يكونُ رَدُّهَا عليهِ، فحمَلَ الهُدْهُدْ الكِتَابَ إليْها، وأَلقاهُ بينَ يدَيْها. ولما فَتحتْهُ وقرأَتْهُ، استَدْعَتْ كِبَارَ رِجَالِ دَولَتِها، لتُشَاوِرًهُمْ في الأمْرِ.
تَوَلَّ عنهمْ - تَنَحَّ عنهُمْ قَليلاً.
(٢٩) - فَقَصَّتْ على رِجَالِ دَوْلَتِها خبرَ الكتاب الذِي أُلْقِيَ إليْهَا، وَوَصَفَت الكتَابَ بأَنَّهُ كريمٌ، لأنَّها رَأتْ طائِراً يَحْمِلُهُ إليها، وَيُلْقِيهِ بين يديْهَا، ثم يَقِفُ جَانِباً مَتأَدِّباً، وهذا شيءٌ لاَ يَفْعَلُهُ البَشَرُ عَادَةً.
(٣٠) - وقدْ جَاءَ في الكِتَابِ إِنًَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ سُليمانَ نَبيِّ اللهِ، وَمُبْاَدَأٌ باسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحِيمِ.
ألا تَعْلُوا عَلَيَّ - لاَ تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ.
مُسْلِيمنَ - مُؤْمِنِينَ مُنْقَادِينَ مُسْتَسْلِمِينَ.
(٣٢) - ولما قَرَأَتْ عَليهمْ كِتَابَ سُلَيمانَ واسْتَشَارَتْهُمْ في أَمْرِهَا، وكَيْفَ تَفَعَلُ، قَالَتْ لَهمْ إِنَّهَا لا تَقْطَعُ بأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدَّوْلَةِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا إِليْها، ويُشِرُوا عَلَيها فِيهِ.
تَشْهُدُونَ - تَحْضُرُونَ، أَو تُشِيرُون عليَّ.
(٣٣) - فَذَكَّرُوها بأَنَّهُمْ قَوخٌ ذَوُوْ عَدَدٍ وقُوَّةٍ، فإِذَا شَاءَتْ أَنْ تَقْصِدَ سليمانَ لِتُحَارِبَهُ فَهُمْ مَعَها، وَتَحْتَ أمْرِهَا، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلك لأَنَّهُمْ ذَوُو عَدَدٍ وَعُدَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ بالحَرْبِ، ثمَّ فَوَّضُوا الأمْرَ إِليْهَا لِتَتَصَرَّفَ حَسْبَما تَرى فِيهِ المصلحَةَ.
أولُو بأْسٍ - أَصْحَابُ قوةٍ وَبلاءٍ ونَجْدَةٍ في الحُروبِ.
(٣٦) - وأَرْسَلَتْ إلى سُلَيْمَانَ بالهَدِيَّةِ فَلَمْ يهتَمَّ بِهَا، وَقَالَ لِمَنْ حَمَلَ إليهِ الهَدِيَّةَ: إنَّكُمْ تُرِيدُونَ بهذِهِ الهَدِيَّةِ مُصَانَعتِي عَلى مَالٍ لأَتْرُكَكُمْ، فما أعْطَانِي اللهُ، مِنَ المالِ والمُلْكِ والجُنُودِ، خَيْرٌ ممَّا آتَاكُمْ وممَّا أنتُمْ فِيهِ وأَنتمُ الذين تَهْتَمُّونَ بالهَدايا والتُّحَفِ، وتَنْقَادُونَ إليْهَا، وَتَفْرَحُونَ بِهَا، أمَّا أنا فلا أقْبَلُ مِنْكُمْ إِلاّ الإِسلاَمَ أَوِ السَّيفَ.
(٣٧) - ثُمَّ أمَرَ سليمانُ الرَّسُولَ بأنْ يرجِعَ إلى بلْقِيسَ، مَعَ جَوابِ سُليمانَ، سَمِعتْ وَأَطَاعَتْ هيَ وقومُهَا، وَسَارَتْ إِليهِ بِجَيْشِهَا وجنودِهَا خاضِعَةً لأَمرِ سُلَيمانَ، وَرَاغِبَةً في مُتَابَعَتِهِ عَلى دِينِهِ، وأَرسَلَتْ تُخبِرُ سُلَيمانَ بقُدُومِها عَلَيهِ.
لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا - لاَ طَاقَةَ لَهُمْ بمقاوَمَتِها.
صَاغِرُون - ذَلِيلُونَ مَقْهُورُونَ.
(٣٨) - ولما تَحقَّقَ سُليمانُ مِنْ قُدُومِهِمْ عَلَيهِ طَائِعينَ مُسْتَسلِمينَ فَرِحَ وَكَانَ الهُدْهُدُ قَدْ وَصَفَ لَهُ كُرْسِيَّ المُلْكِ الذي تَجلِسُ بلْقيسُ عَليهِ، وَمَا هُوَ عَليهِ مِنَ الرَّوْعَةِ والبَهَاءِ، فأعجَبَهُ، وَخَافَ أَنَّهُمْ إِنْ أَتَوْهُ مُسْلِمِينَ أَنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أخْذَهُ بَعدَ ذَلكَ، فَجَمَعَ مَنْ تَحْتً يدِهِ منَ الإِنْسِ والجِنِّ وسَألَهُمْ مَنْ مِنْهُمْ يَستطيعُ أنْ يحمِلَ إليهِ عَرْشَها قَبْلَ أَنْ يَأْتُوه مُسْلِمِينَ؟ لِيُريَهَا بَعْضَ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عليهِ مِنَ القُدْرَةِ والعَجَائِبِ، لِتَعرِفَ صِدْقَ نُبوَّتِهِ.
(٣٩) - فَقَالَ لَهُ مَارِدٌ مِنَ الجِنِّ إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يأْتيَهُ بالعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ هَذا، وَإِنَّهُ قويٌ عَلى حَمْلِهِ، أًَمينٌ عَلَى مَا فِيهِ منَ الجَواهِرِ.
(٤٠) - فَقَالَ سُليمانُ لجماعَتِهِ إِنهُ يريدُ أَنْ يأتُوهُ بهِ بأَسرَعَ منْ ذلِكَ، فقالَ لهُ رَجُل يعرفُ اسمَ اللهِ الأَعْظَمِ (عندَهُ عِلمٌ منَ الكِتابِ) إِنهُ مُسْتَعِدٌّ أنْ يأتِيَهُ بهِ قَبْلَ أن تَطْرِفَ عينُهُ وَدَعَا الرّجلُ باسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ، فمَثلَ العَرْشُ بينَ يَديْ سُلَيمانَ فَلَمَّا رَآهُ سُليمان ومَنْ حَوْلَهُ مُسْتَقِراً بينَ أيديهمْ قالَ سليمانُ: هذَا مِنْ نِعَمِ اللهِ عليَّ لِيَخْتَبِرَنِي رَبِّي أَأَشْكُرُهُ عَلى نِعَمِهِ أمْ أكفرُ بها؟ ومنْ شَكَرَ وَعَمِلَ صَالحاً فلنفْسِهِ، ومَنْ كَفَرَ فَعَليهِ كُفرُهُ، وَاللهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عنِ العِبادِ، وعَنْ عبادَتِهِمْ.
(وقِيل بَلِ المعْنى هُوَ: أَنَّ سُلَيمانَ قَالَ لِلجِنِّيِّ أنَا أُحْضِرُهُ في لَمْحِ البَصَرِ، وَكَانَ كَما قَالَ، فلما رآهُ أمَامَهُ شَكَرَ ربَّهُ، والأوَّلُ أظهرُ).
الذي عندَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ - رَجُلٌ أَوْ مَلَكٌ يَعْلَمُ اسْمَ اللهِ الأَعظَمَ يرتَدُّ إليكَ طَرْفُكَ - قَبْلَ أَنْ تُغْمِضَ عَينَكَ ثُمَّ تَفتَحَها.
ليبلوَني - ليَخْتَبِرَني ويَمْتَحِنَنِي.
نَكِّرُوا - غَيِّرُوا فيهِ وبَدِّلُوا.
وَقَالَ سليمانُ إِنَّهُ أُوتِيَ العِلمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِلْقِيسُ، وإِنَّهُ كَانَ مِنَ المسلِمينَ أَيضاً.
(وقيلَ إِنَّ معْنَى قولِهِ تَعَالى ﴿وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا﴾ هُوَ أَنَّ سُليمانَ أرادَ بِذَلِكَ اخْتِبَارَ رَجَاحَةِ عَقْلِهَا، وإِظهارَ المُعْجِزَةِ لَها، فقالَتْ: لَقَدْ أُوُتِينَا العلمَ بكمَالِ قُدْرَةِ اللهِ، وصِدْقِ نُبُوَّتِكَ، مِنْ قَبْلِ هَذه المُعْجِزَةِ، بما شَاهَدْنَاه من أمر الهُدْهُدِ، وبِما سَمِعْنَاهُ من رُسُلِنَا إليكَ من الآياتِ الدَّالَةِ على ذلِكَ، وكنَّا مُنْقَادِينَ لَكَ مُنْذُ ذَلكَ الحِينِ، فَلا حَاجَةَ بِنَا إلى إظْهَارِ مَزِيدٍ من المُعْجِزَاتِ الأُخْرَى).
(٤٣) - أمَّا هيَ فَقَدْ صَدَّها عنِ الإِيمانِ باللهِ، وعَنِ الإِسْلامِ إليهِ، ما كَانَتْ هِيَ وقَومُها يَعْبُدونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَكَانوا كَافرين.
(٤٤) - كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً (صَرْحاً) عَظيماً من زُجَاجٍ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي. ثمَّ قالَ لها سليمانُ: ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ، وليسَ ماء، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ، وَقَالَتْ: رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ، وخالقِ كلِّ شيءٍ.
الصَّرْحُ - القَصْرُ أَوِ البِنَاءُ المُرْتَفِعُ.
مُمرَّدٌ - مُملَّسٌ مُسَوَّى.
لُجَّةً - مَاءً غَزيراً أو عَمِيقاً.
مِن قَواريرَ - من زجاجٍ شَفَّافٍ.
(٤٥) - يُخْبِرُ اللهُ تَعالى عَنْ قَوْمِ ثَمودَ وما كانَ من أَمرهمْ مَعَ نبيِّهِمْ صَالحٍ عليهِ السلامُ. حينَ بَعَثَهُ اللهُ إليهم فدعاهُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، فآمنَ بهِ، بعضُهُمْ، وكَفَرَ بِهِ بعضُهُمْ، وأصْبَحُوا فَرِيقينِ يخْتَصِمَانِ ويتَجَادَلاَنِ في اللهِ، وفي رسالةِ صالحٍ.
(٤٦) - فقالَ لهُمْ صالحٌ: لماذا تطلبونَ أنْ يُنْزِلَ اللهُ بكُم عقابَهُ وعذابَهُ، ولا تَطْلُبُونَ منَ اللهِ الرَّحْمَة؟ فَهَلاَّ تُبْتُمْ مِنْ كُفْرِكُمْ إليهِ تَعَالى، واستَغْفَرْتُمُوهُ وسَأَلْتُمُوهُ العَفْوَ لَعَلَّهُ يَغْفِرُ لكُمْ ويَرحَمُكُمْ؟
(٤٧) - فَقَالُوا لَهُ: إنَّهم تَشَاءَمُوا مِنْ وُجُودِهِ بينَهُمْ، ومِنْ وُجُودِ مَنْ آمَنَ مِنْ قومِهِ (أيْ تَطَيَّرُوا بِهِمْ). فَقَالَ لهُمْ صَالِحٌ عليهِ السَّلامُ: إِنَّ مَا يُصِيبُكُمْ من خَيْرٍ أو شَرّ مكْتُوبٌ عندَ اللهِ، وهُوَ بقَضَائِهِ وقَدَرِهِ، وليسَ شيءٌ منهُ بِيَدِ غيرهِ تَعالى، فَهُوَ إنْ شَاءَ رَزَقَكُمْ وإن شَاءَ حَرَمَكُمْ. ولكنَّكُمْ قومٌ يختَبِرُكُمْ ربُّكُمْ حينَ أرْسَلنِي إليكُمْ لِيَرَى: أتُطِيعُونَهُ فَتَعْمَلُوا بما أَمَرَكُمْ بهِ، فَتَنَالُوا ثَوَابَهُ، أمْ تَعْصُونَهُ فَتَعْمَلُوا ما نَهَاكُمْ عنهُ، فَيَحِلُّ بِكُمْ عِقَابُهُ.
اطَّيَّرْنَا - تَطَيَّرْنَا وَتَشَاءَمْنَا إذْ أُصِبْنَا بالشَّدَائِدِ.
طَائِرُكُمْ عِنْدَ الله - شُؤْمُكُمْ عمَلُكُم المكتوبُ عليكُمْ عندَ اللهِ.
قَومٌ تُفْتَنُونَ - قَوْمٌ يفتِنُكُم الشَّيَطانُ بِوَسْوَسَتِهِ.
تِسْعَةُ رَهْطٍ - تِسْعَةُ أشْخَاصِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ مَعاً كَأَنَّهُمْ رَهْطٌ.
(٤٩) - فقالَ أولئِكَ المُفْسِدُونَ بعضُهُمْ لبعضٍ: تَعَالَوا نَتَحالَفْ، وَنَتَقَاسَمْ فِيمَا بَينَنَا عَلى أَنْ نَقتُلَ صَالِحاً لَيلاً غِيْلَةً. فَبَعدَ أَنْ قَتَلوا النَّاقَةَ أنذرَهُمْ صَالحٌ بأنهمْ سَيهْلِكُون بعدَ ثلاثةِ أيامٍ، فقالَ بعضُهُم لبعضٍ: هَلُمَّ فلْنَقْتلْ صَالِحاً وأهلَهُ، ثُمَّ لنقُولنَّ إنَّنا لا نَعلمُ شيئاً عَنْ مَصْرَعِهِمْ. فإِذا كانَ صادِقاً فِيمَا يقولُ عَجَّلْنَا بهِ قَبْلَنَا، وإن كانَ كاذباً ألحَقْنَاه بِناقَتِه، وكانَ ذلكَ مكْراً مِنهمْ. فأتَوْهُ ليلاً لِيُبَيِّتُوه فِي أهْلِهِ، فأهْلَكَهُمُ اللهُ تَعالى بالحِجَارَةِ، ولمَّ أَبْطَؤُوا على أَصْحَابِهِمْ أتَى هؤُلاَءِ إِلى مَنْزِلِ صَالِحٍ فَوَجَدُوهُمْ قَدْ رُضِخُوا بالحِجَارةِ، فَقَالَ أهلُهُمْ لصَالحٍ أنْتَ قَتَلْتَهُمْ.
تَقَاسَمُوا - حَلَفُوا بالله.
لَنُبَيِّتَنَّهُ - لَنَقْتُلنَّهُ، غِيْلَةً.
مَهْلِكَ أهْلِهِ - هَلاكَهُمْ.
مَكَرَ - دَبَّرَ تَدْبِيراً خَفِيّاً.
(٥١) - وَكَانَتْ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنْ دَمَّرَ اللهُ المُجرِمِينَ وَأَهْلَكَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ أَجْمعِينَ، فَلَمْ يُبقِ مِنَ الكُفَّارِ أَحَداً في دِيارِهِمْ.
دَمَّرنَاهُمْ -أَهْلَكْنَاهُمْ.
(٥٢) - وَهذِهِ بُيُوتُهم أَصبَحَتْ خَاوِيةً خَاليةً لا يَسْكُنَها أَحَدٌ، وذلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُم بِسَبِبِ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. وفِيمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذابٍ وَهَلاَكٍ لَعِبَرَةٌ وَعِظةٌ لِمَنْ يَنَظُرُ وَيَتَفكَّرُ في قُدرَةِ اللهِ وَتَدبِيرِهِ فَيَتَّعِظُ.
خَاوِيَةٌ - خَالِيَةٌ خَرِبَةٌ - أَوْ سَاقِطَةٌ مُتَهَدِّمَةٌ.
(٥٣) - أَمَّا الذينَ آمنوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ صَالِحٌ، واتَّقَوا رَبَّهُمْ وخَافُوهُ، فَقَدْ أَنْجَاهُم اللهُ تَعَالَى مَعَ صَالِحٍ وَأهلِهِ.
(٥٤) - واذكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَومِكَ حَديثَ لُوطٍ مَعَ قَومِهِ إِذْ أَنذَرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ نِقَمَ اللهِ أَنْ تَحلَّ بِهِمْ إِذَا استمرُّوا عَلَى فِعْلِهِم الفَاحِشَةَ التي لَمْ يَسبِقْهُمْ إٍِليها أَحَدٌ مِنَ البَشَرِ، فَقَدْ كَانُوا يَأتُونَ الرِّجَالَ شَهوةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، ويأتوُنَ الفَاحِشَةَ في نَادِيهِمْ في حُضُورِ الآخَرِينَ، وأَمَامَ أَعيُنِهِمْ (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ).
(وقيلَ بَلِ: المَعْنَى هُوَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ الفَاحِشَةَ ويعلَمُونَ أَنَّها فَاحِشَةٌ، واقتِرافُ القَبيحِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَفعَلُهُ هُوَ قَبيحٌ، هُوَ أقْبَحُ وأَشْنَعُ.
وأنتُمْ تُبْصِرُون - لاَ تَُبَالُونَ بِإِظْهَارِهَا مَجَانَةً.
(٥٥) - فإِنَّكُمْ تَأْتُونَ الذُّكُورَ، وَتَذَرُونَ النِّسَاءَ، وهذا فَسَادٌ ومُنْكَرٌ، فَأَنتُمْ مُعتَدُونَ جَاهِلُونَ، لا تُمَيِّزُونَ بَيْنَ الخَبيثِ والطَّيِّبِ، مُتَجَاوِزَونَ حُدُودَ مَا شَرَعَ الله لَكُمْ.
(٥٦) - فَلَمْ يَجِدْ هؤلاءِ المُفْسِدُونَ مَا يَردُّونَ بهِ عَلَى دَعوةِ لُوطٍ لَهُمْ، واستِنْكَارِه، لأَعمالِهِم وفَسَادِهِم، إِلا أَنْ قَالُوا: إِنَّ لُوطاً وأهلَهُ أُناسٌ يَتَطَهَّرُون، وَيَتَوَرَّعُونَ عَنْ مُجَارَاتِكم في فِعْلِ المُنْكَرِ، فَأَخْرِجُوهُمْ من قَريَتِكُم، لأَنَّهُمْ لا يَصْلُحُونَ لمُجَاوَرتِكُمْ.
يَتَطَهَّرُونَ - يَزعُمُونَ التَّنزُّهَ عَمَّا نَفْعَلُ.
(٥٧) - وَعَزَمُوا عَلَى إٍِخرَاجِ لُوطٍ وَأَهْلِهِ مِنْ قَريَتِهِمْ، فَعَاجَلَهُمُ اللهِ بالعُقُوبةِ، فَدَمَّر عَلَيهِمْ، ولِلكَافِرينَ أمثَالُهَا، وَأَنَجى اللهُ لُوطاً وأَهلَهُ والمُؤمنينَ مَعَهُ، إِلاّ امرأَتَهُ فَقَدْ قَضَى اللهُ بهَلاَكِهَا، لأَنَّها كَانَتْ رَاضِيَةً بأَفعَالِ قَومِهَا القَبِيحَةِ فَكَانَتْ تَدُلُّ قَومَها عَلَى أَضْيَافِ زَوْجِهَا لُوطٍ ليَأتُوا إِليهِمْ لِفعلِ المُنكَرِ مَعَهُمْ.
مِنَ الغَابِرينَ - بِجَعلِهَا مِنَ البَاقِينَ فِي العَذَابِ أَوِ الهَالِكِينَ.
مَطَراً - حِجَارَةً مُهِلكَةً، تَنزِلُ عَلَيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّها المَطَرُ.
ويُنكِرُ اللهُ تَعَالَى المُشرِكِينَ عِبَادَتَهُم آلهةً مَعَ اللهِ. ثُمَّ يَسأَلُهُم، مُستَنْكِراً، مَنْ هُو خيرٌ وأَفْضَلُ: أَهوَ اللهُ الحَقُّ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَمُدَبِّرُ الكَوْنِ، وَمَنْ فِيهِ، وَرازِقُ المَخلُوقَاتِ، أَم الأَصنَامُ التي لاَ تَمْلِكُ لنَفسِها وَلا لِغَيرِهَا نَفْعاً ولا ضَرّاً وَلا مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً؟
(٦٠) - واسْأَلْهُمْ هَلْ عِبَادَةُ مَا تَعبُدُونَ يَا أَيُّها المُشرِكُونَ مِنْ أَوثَانٍ وأَصنَامٍ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، خيرٌ أًَمْ عِبَادَةُ اللهِ الذي خَلَقَ السَّمَاواتِ في ارتِفَاعِهَا وَعَظَنَتِها، وَمَا جَعَلَ فِيها مِنَ الكَواكِبِ والنُّجُومِ والأَفْلاكِ الدَّائِرَةِ، وَخَلَقَ الأَرضَ وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ وَجِبالٍ وأَنهارٍ وأَشْجَارٍ ومخلُوقَاتٍ.. وأَنزَلَ لَكُمُ المَطَرَ مِنَ السَّماءِ فرَوَّى بهِ الأَرض فَأَنْبَتَتِ الزُّرُوعَ والأَشْجَارَ والثِّمَارَ، وَلَمْ يَكُن الإِنْسَانُ قَادِراً عَلَى أَنْ يُنْبِتَ مِنْهَا شَيئاً؟
إِنَّكَ إِنْ سَأَلتَهُمْ هَذَا السُّؤَالَ فَسَيقُولُونَ إِنَّ الذِي فَعَلَ ذَلِكَ هُو اللهُ، وسَيقُولُونَ إِنَّهُ ليسَ هُنَاكَ أَحَدٌ مَعَ اللهِ قَامَ بِعَمَلِ شَيءٍ مِنَ الخَلْقِ والتَّدبِيرِ، وَإِنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِكُلِّ ذَلِكَ. فَقُلْ لَهُمْ: كَيفَ تَعبُدُونَ مَعَهُ غيرَهُ إذاً، وَهُوَ المُستَقِلُّ المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ والتَّدبِيرِ، وَهؤُلاءِ الذينَ تَعْبُدُونَهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شيءٍ مِنْ ذَلك كُلِّهِ؟
حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ - بَسَاتِينَ ذَاتَ حُسْنٍ وَرَوْنَقٍ.
قَومٌ يَعدِلُونَ - يَنْحَرِفُونَ عَنِ الحَقِّ إِلى البَاطِلِ.
(٦١) - واسأَلْهُمْ: هَلْ عِبَادَةُ مَا تَعبُدُونَ مِنَ الأَوثانِ والأَصْنَامِ، التي لا تَضُرُّ وَلاَ تَنفَعُ خَيرٌ أمْ عِبَادَةُ اللهِ الذي جَعَلَ الأَرضَ مُسْتَقَرّاً للبَشَرِ وَالمَخْلُوقَاتِ، وَجَعَلَ فِيهاه أنهاراً يَنْتَفِعُونَ بِها في شُربهِمْ وَسَقْيِ أنعَامِهِم وريِّ زُرُوعِهِمْ؟ وَجَعَلَ فِيها جبَالاً رَاسِيَاتٍ تُرسِي الأًَرْضَ وَتُثَبِّتُها لِكيلا تَمِيدَ وَتَضْطَرِبَ بِمَنْ عَلَيها، وَجَعَلَ بَينَ المِيَاهِ العَذَبَةِ والمَلِحَةِ حَاجِزاً يَمنَعُها مِنَ الاختِلاَطِ لِكَيلا يَفْسُدَ المَاءُ العَذْبُ، فَيمتَنِعَ عَلى الإِنسانِ والحَيَوانِ والنَّبَاتِ الانتِفَاعُ بهِ، وَجَعَلَ البِحَارَ مَلِحَةً لأَنها سَاكِنَةٌ، وَلولا مُلُوحَتُها لَفَسَدَتْ.
إِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ إِنَّ الذِي فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ، ولا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ. فَقُلْ لَهُمْ كَيفَ تعبُدُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى لاَ تَسْتَطِيعُ فِعْلَ شيءٍ مِنْ ذَلك كُلِّه؟ ولكِنَّ أَكثَرَهُمْ جَاهِلُونَ عَظَمَةَ اللهِ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ (لاَ يَعْلَمُون).
الأرضَ قَرَاراً - مُسْتَقرّاً بالدَّحْوِ والتَّسْوِيَةِ.
رَوَاسِي - جِبَالاً ثَوَابِتَ لكَيلاَ تَضْطَرِبَ بِمَنْ عَلَيهَا.
حَاجِزاً - فَاصِلاً يَمْنَعُ اختِلاَطَهُما.
(٦٢) - واسأَلهُم هَلِ الذِينَ تُشرِكُونَهُم في العِبَادَةِ مَعَ اللهِ خَيرٌ، وَهُمْ لا يَضُرُّونَ وَلا يَنفعُونَ، أَمْ مَنْ يُجيبُ دَعوَةَ المُضْطَرِّ عِنْدَ الشَّدَّةِ إِذا دَعَاهُ لِيَكشِفَ عَنْهُ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَمَنْ يَجْعَلُ أُمَما في الأَرْضِ قَرْناً بَعْدَ قَرنٍ، وَجيلاً بَعْدَ جِيل، وَلو شَاءَ لخَلَقَهُمْ أَجمَعِين، ولَمْ يَجْعَلْ بعضَهُم مِنْ ذُرِّيَّةِ بعضٍ، ولو فَعَلَ ذَلِك لضَاقَتِ الأرضُ بالبَشَرِ، ولضَاقَتْ عَليهِم مَعَايِشُهُمْ وَأَرزَاقُهُمْ، ولكِنّ حِكمَتَهُ اقتَضَتْ أن يَخْلُقَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأ، يَجْعَلَهُمْ أُمماً يَخْلُفُ بَعْضُهُم بَعْضاً، حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَجَلُ وَيَعُودَ النَّاسُ إِلى اللهِ تَعَالى يَومَ القِيامَةِ، وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ غيرُ اللهِ تَعَالى؟ فَهَلْ هُنَاكَ إِلهٌ مَعَ اللهِ، وَهَلْ تَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلهاً غَيرَهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ اللهُ؟ فَمَا أقَلَّ تَذَكُّرَكُمْ أنْعُمَ اللهِ عَلَيكُم التِي يُرشِدُكُم بِها إِلى الحَقِّ، وَيَهدِيكُمْ بِها إلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؟
(٦٣) - وَمَنْ تُشرِكُونَهم فِي العِبَادَةِ مَعَ الله خَيرٌ أَمِ اللهُ الذي يُرشِدُكُم في ظُلُمَاتِ البَرِّ والبَحْرِ إِذا أُظلَمَتْ عَلَيكُمُ السُّبُلُ، فَضَلَلْتُمُ الطَّريقُ، بِمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ الدَّلائِلِ السَّماوِيَّةِ، والعَلاَمَاتِ الأَرضِيَّةِ؟ وَمَنْ يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بالسَّحَابِ المُثْقَلِ بِالمَطَرِ الذي يُغِيثُ بهِ العِبَادَ المُجدِبينَ القَانِطِينَ؟ فَهَلْ هُنَاكَ إِلهٌ آخَرُ غيرُ اللهِ يَستَطِيعُ فِعلَ ذَلِكَ؟
إِنَّ اله هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَلا يَقْدِرُ عَلَيهِ غَيرُهُ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ آلهَةً لاَ تَضُرُّ وَلا تَنفَعُ وَلا تَقْدِرُ عَلى شيءٍ؟ فَتَعَالَى اللهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ شِرْكِ المُشرِكِينَ وَكَذِبِهِمْ.
رَحْمَتِهِ - المَطَرِ الذي تَحْيَا بِهِ الأَرضُ.
(٦٤) - وَاسْأَلْهُمْ هَلِ الذينَ تُشْرِكُونَهُمْ بالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ خيرٌ أَمِ اللهُ الذي يَبْدَأُ الخَلْقَ، بِقُدْرَتِهِ وَسُلطَانِهِ، وَيَبتَدِعُهُ عَلى غيرِ مِثَالٍ سَبَقَ، ثُمَّ يُفْنِيهِ إِذا شَاءَ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ الذِي يَرزُقُكُمْ بِإِنزالِ المَطرِ مِنَ السَّماءِ فَيُخرجُ لكُم منَ الأَرضِ زُرُوعاً وَثِماراً ونَبَاتَاتٍ، وثِمَاراً ونَبَاتَاتٍ، تَنْتَفِعُ بِها الأَنْعَامُ والمَخلُوقَاتُ والبَشَرُ، فَهلْ إٍِلهٌ آخرُ مَعَ اللهِ فَعَلَ هذا؟ أَمْ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ؟ فإِذا ادَّعيُتُمْ أَنَّ آلِهَةً أُخْرى فَهَاُوا بُرْهَانَكُم عَلَى صِحَّةِ مَا تَقُولُونَ مِنْ وُجُودِ هذِهِ الآلِهَةِ الأُخْرَى التِي تَستَطيعُ أَنْ تَخلُقَ وَتَرْزُقَ؟
(٦٥) - يَأْمُرُ الله تَعالى رَسُولَه ﷺ بأَنْ يُعْلِمَ الخَلائِقَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهلِ السَّماواتِ والأرضِ الغَيبَ، وإِنَّما يعلَمُهُ اللهُ وَحْدَهُ، وَعِنْدَهُ وَحْدَهُ مَفَاتِيحُ الغَيبِ، لاَ يعلَمُها إلاَّ هُو، وَلا يَشْعُرُ الخَلاَئِقُ المَوْجُودُونَ في السَّماواتِ والأَرْضِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ومَتَى يَبْعَثُ اللهُ الأَمواتَ مِنْ قُبُورِهِمْ.
(٦٦) - وَقَدْ قَصَّرَ عِلْمُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعَجَزُوا عَنْ ذلك وَغَابَ عَنْهُمْ، وَإِنَّ أكثرَ النّاسِ مِنَ الكَافِرينَ في شَكٍّ مِنْ حُدُوثِها وَوَقُوعِها، بَلْ هُم في عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ كَبيرينِ مِنْ أمرِها وشَأْنِها.
أدَّارَكَ - عِلْمُهُمْ - تَكَامَلَ واسْتَحْكَمَ عِلْمُهُمْ بأَحوَالِها. وَيقْصدُ تَعَالَى بِقَولِهِ هذَا التَّهكُّمَ عَلَيهِمْ.
عَمُونَ - عُمْيُ البَصَائِرِ.
(٦٧) - وَقَالَ الكَافِرُونَ باللهِ، وَالمُكَذِّبُونَ لِرُسُلِهِ، المُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ والنُّشُورِ: هَلْ سَنَخْرُجُ مِنْ قُبُورِنا أحياءً كَهَيئتنا مِنْ بعدِ مَمَاتِنا، وَبَعْدَ أَنْ نَكُونَ قَد بَلِينا، وَأَصْبَحَتْ عِظَامُنا تُراباً؟
(٦٨) - وَمَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهذا نَحْنُ وَآباؤُنَا، ولاَ نَرَى حَقِيقَةً لَهُ، وَلاَ وُقُوعاً، وَمَا هذا الوَعدُ بِإِعَادةِ نَشْرِ الأَجسَادِ منَ القُبُورِ بعدَ أَنْ تَصيرَ رُفَاتاً وتُراباً إِلا قَصَصٌ مِنْ قَصَصِ الأوَّلينَ، تَتَنَاقَلُهَا الأَلسُنُ، جيلاً بعدَ جيل، ولا سَنَدَ لها مِنَ الحَقيقةِ ولا ظِلَّ، لأنَّهُ لَوْ كَانَ البَعثُ حَقاً لحَصَلَ.
أَساطيرُ الأوّلينَ - قَصَصُهُمْ وأَكاذِيبُهُم المَسْطُورَةُ في كُتُبِهِمْ.
(٦٩) - فَقُلْ يا مُحَمَّد لهؤلاءِ المُكَذِّبينَ لِلرُّسُلِ وَالمَعَادِ: سِيروا في الأرضِ فانظُروا كَيفَ كَانَتْ نِهَايَةُ الذين كَذَّبوا الرُّسُلَ مِنْ قَبلِكُمْ، وكَفَرُوا بربِّهِمْ، وأَفسَدُوا في الأَرضِ؟ لَقَد دَمَّرَ اللهُ عَلَيهِمْ، وَأْهْلَكَهُمْ، وَنَجَّى رُسُلَهُ والمُؤمنينَ، فاحذَرُوا أَنّ يُصيبُكُم مِثلُمَا أَصَابَهُم، ولسْتُمْ بأَكْرَمَ على اللهِ مِنْهُمْ.
ضَيْقٍ - حَرَجٍ وضِيقِ صَدْرٍ.
(٧١) - وَيقُولُ المُشْرِكُونَ مُتَسَائِلين: مَتَى يَكُون يومُ القِيامةِ (أو مَتَى يكونُ هذا العَذاب) الذي تَعِدونَنَا بِهِ، إِنّ كُنتُم صَادقينَ في أنَّهُ كَائِنٌ لا مَحَالَةَ؟
(أَوْ عَسَى أنْ يَلْحَقَكُم وَيَصِلَ إِلَيكُمْ بَعْضُ مَا تَستَعجِلُونَ حُلُولَهُ مِنَ العَذَابِ - أَيْ مَا حَلَّ بِهِمْ يَومَ بدرٍ).
رَدِفَ لَكُمْ - عُجِّلَ لَكُمْ، أَوْ وَصَلَ إِلَيكُمْ، أَوْ لَحِقَ بِكُمْ.
مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ - مَا تُخفِي وَتَسْتُرُ مِنَ الأَسرارِ.
(٧٥) - وَمَا مِنْ أَمرٍ مَكتُومٍ، وَسِرٍّ خَفِيٍّ، يَغِيب عَنِ النَّاظِرِينَ (غَائِبَةٍ)، في السَّماءِ ولا في الأَرْضِ، إِلاَّ وَيَعلَمُ اللهُ تَعَالى بهِ، وَقَدْ أَثبَتَهُ في أُمِّ الكِتَابِ، الذِي لا يُغَادِرُ صَغِيرةً ولا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا، وَقَدْ أَثبَتَ فيهِ تَعَالى كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا سَيَكُونَ من ابتِداءِ الخَلْقِ حَتَّى قِيامِ السَّاعةِ؟
غَائِبَةٍ - مَا غَابَ عَنِ النَّاظِرينَ، وَخَفِيَ عَنْهُمْ.
(٧٦) - يُخِرُ اللهُ تَعَالى أَنَّ هذا القُرآنَ قَدْ تَضَمَّنَ كَثيراً مِنَ الأُمُورِ التي اخْتَلَفَ حَولَها بَنُو إِسرائيلَ مِنْ أُمُورِ دينِهِمْ، ومِنْ ولاَدَةِ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ، وَرِسَالَتِهِ، وَمَا افتَرَوْهُ عَلَى أُمِّهِ مَريَمَ عَليها السّلاَمِ مِنَ الإِفْكِ والبُهْتَانِ، فَجَاءَ القُرآن بالقَولِ الفَصْلِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ، وَكَانَ عَلَيهِمْ لَوْ أَنْصَفُوا أَنْ يَتْبَعُوه، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذلِكَ، عُتُوّاً واسْتِكْبَاراً عَنِ الحَقِّ.
الصُّمُّ - الذِينَ فَقَدُوا حَاسَّة السَّمعِ.
الدُّعَاءَ - النِّدَاءَ.
(٨١) - وَإِنَّك لاَ تَستَطِيع أَنْ تَهدِيَ مَنْ أَعْمَاهُمُ اللهُ عَنِ الهُدَى والرَّشَادِ فَجَعَلَ عَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً تَمنَعُهُمْ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا جِئْتَ بِهِ نَظَراً يُوصِلُهُمْ إِلى مَعرِفَةِ الحَقِّ، وَسُلُوكِ سَبيلِهِ، وَإِنَّما يَستَجِيبُ لَكَ مَنْ هُوَ سَميعٌ بَصِيرٌ، يَنْتَفِعُ بِسَمِعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقَدْ خَضَعَ وَخَشَعَ للهِ، وَوَعَى مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ عَلى أَلسِنَةِ الرُّسُلِ، عَليهِم السَّلاَمُ، فَهؤُلاءِ هُمْ مُسلِمُونَ لأَمرِ رَبِّهِمْ.
(٨٢) - وفِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِينَما يَفْسُدُ النَّاسُ، وَيَتْرُكُونَ أَوَامِرَ اللهِ، وَيَتَبدَّلُونَ الكُفرَ بالدِّينِ الحَقِّ وَالإِيمَانِ، وتَحقُّ عَليهِمْ كَلِمَةُ العَذَابِ، فإِنًَّ اللهَ تَعالى يُخْرِجُ لَهُمْ مِنَ الأَرضِ دَابةً تُخَاطِبُ النَّاسَ وَتُكَلِّمُهُمْ وَتَقُولُ لَهُم: (انَّ النَاسَ كانُوا بآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ). أَيْ إِنَّهُمْ لاَ يُوقِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلى قُرْبِ قيامِ السَّاعَةِ، وَظُهُورِ مَقَدِّمَاتِها.
وَقَعَ القَولُ - دَنَتِ السَّاعَةُ وَأَهْوَالُها المَوْعُودَةُ.
دَابَّةً - خُرُوجُها مِنْ أَشْرَاطِ قِيَامِ السَّاعَةِ.
(٨٣) - يُخبِرُ اللهُ تَعَالى عَنْ يَومِ القِيَامَةِ، وَعَنْ حَشرِهِ الظَّالِمينَ المُكَذِّبينَ رُسُلَ الله وَآياتِهِ، لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ في الدَّارِ الدُّنْيا، تَقْرِيعاً لَهُمْ، وَتَصْغِيراً وَتَحقِيراً لِشَأنِهِمْ، فَفي ذلِكَ اليَومِ يَحْشُرُ اللهُ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ وَأُمَّةٍ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بآيَاتِ رَبِّهِمْ، وَيْؤْمَرُونَ بِالتِزَامِ أَمَاكِنِهِمْ. (يُوزَعُونَ) لِيَجتَمِعُوا في مَوقِفِ التَّوبيخِ والإِهَانَةِ.
يُوزَعُونَ - يُوقَفُ أَوَائِلُهُمْ لِيَلْحَقَهُمْ أًَوَاخِرُهُمْ ثُمَّ يُسْأَلُونَ.
فَوْجاً - جَمَاعَةً وَزُمْرَةً.
(٨٤) - حَتَّى إِذا جَاؤُوا وَوَقَفُوا بَينَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى في مقَامِ المُسَاءَلَةِ، وَمُنَاقَشَةِ الحِسَابِ، قَالَ لَهُمُ الرَّبُّ الكَرِيمُ، مُؤَنِّباً وَمُوَبِّخاً عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرِ وَتَكذِيبٍ: أَكَذَّبتُمْ بِآياتِي النَّاطِقَةِ بِلِقَاءِ يَومِكُمْ هذا دُونَ تَدَبُّرٍ وَلاَ فَهْمٍ، غَيرَ نَاظِرينَ فِيها نَظَراً يُوصِلُكُمْ إِلى العِلمِ بَحقِيقَتِها، أَمْ مَاذا كُنتُم تَعمَلُون فِيها مِنْ تَصدِيقٍ وَتَكذِيبٍ؟
(٨٦) - يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى هؤلاءِ المُكَذِّبينَ بسُلطَانِهِ العَظِيم، وشَأْنِهِ الرَّفيعِ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنَ حَرَكَاتُهُمْ فِيهِ، وتَهدَأَ أَنفُسُهُمْ وَيستَرِيحُوا مِنَ العَنَاءِ والتَّعَبِ في نَهَارِهِمْ. وَجَعَلَ النَّهَارَ مُبْصِراً مُشْرِقاً بالنُّورِ والضِّيَاءِ لِيَعْمَلُوا فِيهِ، وَيَتَصَرَّفُوا في مَعَايِشِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ وأَسْفَارِهِمْ وَتِجَارَاتِهِمْ ومَا يَحتَاجُونَ إِليه مِنْ شُؤُونِهِم. وَفي ذلكَ دَلاَلاَتٌ عَلَى وُجُودِ اللهِ وقُدْرَتِهِ عَلَى البَعْثِ والنُّشُورِ، وعَلى عِنَايَتِهِ ولُطْفِهِ بِعِبَادِهِ.
(٨٧) - وَاذكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ هَوْلَ يَومِ القِيَامَةِ، حِينَ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى إِسرافِيلَ، عَلَيهِ السَّلاَمُ، فَيَنفُخُ في الصُّورِ، وحِينَما يَسْمَعُ الأَحياءُ مِنَ المَخْلُوقَاتِ ذلِكَ الصَّوت يُصِيبُهُمُ الفَزَعُ، إِلا مَنْ شَاءَ اله مِنْ عِبَادِهِ الأَبْرارِ المُخْلِصِينَ فَإِنَّهمْ لا يُصِيبُهُمُ الفَزَعُ. ثُمَّ يَنفُخُ إِسْرافِيلُ نَفْخَةُ أُخْرَى الصّعْقِ، فَيُصْعَقُ كُلَّ مَنْ سَمِعَهَا مِنَ المَخْلُوقَاتِ. ثُمَّ يَنْفَخُ الثَّالِثَةَ المُؤْذِنَةَ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ، فَتَقُومُ الأَجسَادُ لِرَبِّ العِبَادِ، وَيأتُونَ رَبَّهم جَمِيعاً صَاغِرِينَ مُطِيعِينَ لاَ يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَنْ أمرِ رَبِّهِ.
فَزِعَ - خَافَ خَوْفاً يَسْتَتْبعُ المُوتَ.
دَاخِرينَ - صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ.
(٨٩) - زَمَنْ جَاءَ في ذَلِكَ اليَومِ رَبَّهُ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ في الدُّنيا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى يُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، وَيُجَنِّبُهُ الفَزَعَ الأَكبرَ الذي يُصِيبُ المُجرِمينَ الأَشقِياءَ في ذلكَ اليومِ.
(أَوْ يُقَال لَهُمْ: هَلْ تُجْزَونَ إِلا بِمَا كَنْتُم تَعْمَلُونَ في الدُّنيا مِمَّا يُسْخِطُ رَبَّكُمْ؟).
كُبَّتْ وُجُوهُهُمْ - أُلْقُوا مَنْكُوسِينَ عَلَى رُؤُوِسِهِمْ.
(٩٢) - وَقُلْ لَقَدْ أَمَرني رَبي بِأَنْ أَتلُوَ القُرآنَ عَلَى النَّاسِ، وَأْلَلِّغَهُمْ إِياهُ، وَلِي أُسْوَةٌ بَِنْ تَقَدَّمَني مِنَ الرُّسُلِ، الذين أَنْذَرُوا أَقوَامَهُمْ، وَقَامُوا بتأْدِيَةِ الرِّسَالةِ، وَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهُدَاهُ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَلا يَضُرُّ الله شَيْئاً.
(٩٣) - وَقُلْ لَهُمُ: الحَمْدُ للهِ الذِي لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيه، والإِعذارِ إِليِهِ، وإِنَّهُ تَعَالى سَيُظْهِرُ للنَّاسِ آياتِهِ العِظَامَ لِيَعْرِفَهَا النَّاسُ، وَيتَّعِظُوا بِها، وَيَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى وُجُودِهِ وَعَظَمَتِهِ، واللهُ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ جَمِيعاً لا يفُوتَهُ شَيءٌ مِنْ أَعمَالِهِمْ، وَلا يَغْفلُ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ.