ﰡ
سورة التغابن
مختلف فيها، وهي ثمان عشرة آية [نزلت بعد التحريم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأنّ الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به، والمهيمن عليه، وكذلك الحمد، لأنّ أصول النعم وفروعها منه. وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ يعنى: فمنكم آت بالكفر وفاعل له «٢»
(٢). قوله «فمنكم آت بالكفر وفاعل له» قد أول الآية بمذهب المعتزلة: من أن العبد هو الخالق لفعله الاختياري، ومذهب أهل السنة: أن العبد ليس له في فعله إلا الكسب، وخالقه في الحقيقة هو الله عز وجل، بدليل قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ خيرا كان أو شرا، وكما أن خلق الكافر لا يستوجب الذم كما سيقول فخلق كفره لا يستوجب الذم لأنه لحكمة وإن خفيت علينا. (ع)
فإن قلت: نعم، إن العباد هم الفاعلون للكفر، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ولم يختاروا غيره، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرّمة فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدق في فروته «٢» كما يذمون القاتل؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد؟ قلت: قد علمنا أنّ الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة، وخلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسنا، وأن يكون له وجه حسن، وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها بِالْحَقِّ بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وقرئ: صوركم بالكسر، لتشكروا. وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه. فإن قلت. كيف أحسن صورهم؟ قلت: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته
(٢). قوله «والدق في فروته» في الصحاح «الفروة» : جلدة الرأس. والفروة: قطعة نبات مجتمعة يابسة اه. (ع)
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٥ الى ٦]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ الخطاب لكفار مكة. وذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّلهم من العذاب في الآخرة بِأَنَّهُ بأنّ الشأن والحديث كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ...... أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أنكروا أن تكون الرسل بشرا، ولم ينكروا أن يكون الله حجرا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أطلق ليتناول كل شيء، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. فإن قلت: قوله وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ يوهم وجود التولي والاستغناء معا «٣»، والله تعالى لم يزل غنيا. قلت: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
(٢). قوله «فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق» يريد أهل السنة، حيث يقولون أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد حتى الكفر وغيره من المعاصي، ولا وجه لتجهيلهم مع استنادهم إلى قوله تعالى «والله خلقكم وما تعملون. (ع)
(٣). قال محمود: «أطلقه ليتناول كل شيء ثم قال فان قلت كان التولي فيهم... الخ» قال أحمد: إنما الحق أنه لم يخلق لهم إيمانا ولا قدرة عليه، فكان قادرا أن يخلق لهم الايمان والقدرة عليه، وإنما حرفها الزمخشري إلى قاعدته. [.....]
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٧ الى ٨]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)الزعم: ادعاء العلم: ومنه قوله عليه السلام «زعموا مطية الكذب» «١» وعن شريح: الكل شيء كنية وكنية الكذب «زعموا» ويتعدّى إلى المفعولين تعدّى العلم. قال:
... ولم أزعمك عن ذاك معزلا «٢»
وإن مع ما في حيزه قائم مقامهما. والذين كفروا. أهل مكة. وبَلى إثبات لما بعد لن، وهو البعث وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أى لا يصرفه عنه صارف. وعنى برسوله والنور: محمدا ﷺ والقرآن.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٩ الى ١٠]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)
وقرئ: نجمعكم. ونكفر. وندخله، بالياء والنون. فإن قلت: بم انتصب الظرف؟ قلت بقوله: لتنبؤن، أو بخبير، لما فيه من معنى الوعيد، كأنه قيل: والله معاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار «اذكر» لِيَوْمِ الْجَمْعِ ليوم يجمع فيه الأوّلون والآخرون. التغابن: مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكم بالأشقياء، لأنّ نزولهم ليس بغبن. وفي حديث رسول الله ﷺ «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرا. وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من
(٢).
وإن الذي قد عاش يا أم مالك | يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا |
مكان العزلة والانفراد، أى: لم أظنك في معزل عنه أو ذات معزل أو معتزلة. أو نفس المقول مبالغة.
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١١]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلا بتقديره ومشيئته، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه يَهْدِ قَلْبَهُ يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير. وقيل: هو الاسترجاع عند المصيبة. وعن الضحاك:
يهد قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطنه. وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن مجاهد: إن ابتلى صبر، وإن أعطى شكر، وإن ظلم غفر. وقرئ. يهد قلبه، على البناء للمفعول، والقلب:
مرفوع أو منصوب. ووجه النصب: أن يكون مثل سفه نفسه، أى: يهد في قلبه. ويجوز أن يكون المعنى: أنّ الكافر ضال عن قلبه بعيد منه، والمؤمن واجد له مهتد إليه، كقوله تعالى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ وقرئ: نهد قلبه، بالنون. ويهد قلبه، بمعنى: يهتد. ويهدأ قلبه: يطمئن.
ويهد. ويهدا على التخفيف وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم ما يؤثر فيه اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فلا عليه إذا توليتم، لأنه لم يكتب عليه طاعتكم، إنما كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوّى به في أمره، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٤ الى ١٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥)
بلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما، ألا ترى إلى قوله اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
وفي الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته» «١» وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وعن النبي ﷺ أنه كان يخطب، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل إليهما فأخذهما «٢» ووضعهما في حجره على المنبر فقال: «صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما» ثم أخذ في خطبته. وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما.
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١٦]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)
مَا اسْتَطَعْتُمْ جهدكم ووسعكم، أى: ابذلوا فيها استطاعتكم وَاسْمَعُوا ما توعظون به وَأَطِيعُوا فيما تأمرون به وتنهون عنه وَأَنْفِقُوا في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها
(٢). أخرجه أصحاب السنن وابن جبان والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من روايه حسين بن واقد عن ابن بريدة عن أبيه. قال البزار لا نعلم له طريقا إلا هذا.