تفسير سورة التغابن

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
وهي ثماني عشرة آية

عليها، من منع واجب وغيره: لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء الله. وقرئ: تعملون، بالتاء والياء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق» «١».
سورة التغابن
مختلف فيها، وهي ثمان عشرة آية [نزلت بعد التحريم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)
قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأنّ الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به، والمهيمن عليه، وكذلك الحمد، لأنّ أصول النعم وفروعها منه. وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ يعنى: فمنكم آت بالكفر وفاعل له «٢»
(١). أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.
(٢). قوله «فمنكم آت بالكفر وفاعل له» قد أول الآية بمذهب المعتزلة: من أن العبد هو الخالق لفعله الاختياري، ومذهب أهل السنة: أن العبد ليس له في فعله إلا الكسب، وخالقه في الحقيقة هو الله عز وجل، بدليل قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ خيرا كان أو شرا، وكما أن خلق الكافر لا يستوجب الذم كما سيقول فخلق كفره لا يستوجب الذم لأنه لحكمة وإن خفيت علينا. (ع)
545
ومنكم آت بالإيمان «١» وفاعل له، كقوله تعالى وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ والدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم. والمعنى: هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح، وتكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين، فما فعلتم مع تمكنكم، بل تشعبتم شعبا، وتفرقتم أمما، فمنكم كافر ومنكم مؤمن، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم. وقيل: هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية، ومنكم مؤمن به.
فإن قلت: نعم، إن العباد هم الفاعلون للكفر، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ولم يختاروا غيره، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرّمة فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدق في فروته «٢» كما يذمون القاتل؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد؟ قلت: قد علمنا أنّ الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة، وخلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسنا، وأن يكون له وجه حسن، وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها بِالْحَقِّ بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وقرئ: صوركم بالكسر، لتشكروا. وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه. فإن قلت. كيف أحسن صورهم؟ قلت: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته
(١). قال محمود: «معناه: فمنكم آت بالكفر وفاعل له ومنكم آت بالايمان... الخ» قال أحمد: لقه ركب عمياء وخبط خبط عشواء، واقتحم وعرا: السالك فيه هالك، والغابر فيه عاثر، وإنما ينصب إلى مهاوي الأراك، ويحوم حول مراتع الاشراك، ويبحث ولكن على حتفه بظلفه، ويتحذق وما هو إلا يتشدق، ويتحقق وما هو إلا يتفسق، وهب أنه أعرض عن الأدلة العقلية والنصوص النقلية المتظافرة على أن الله تعالى خالق كل شيء، واطرد له في الشاهد ما ادعاه. ومن مذهبه قياس الغائب على الشاهد، قد التجأ إلى الاعتراف بأن الله خالق العبد الفاعل للقبيح، وأن خلق العبد الفاعل للقبيح بمثابة إعطاء السيف الباتر للرجل الفاجر، وأن هذا قبيح شاهدا، ولا يلزم أن يكون مثله قبيحا في خلق الله تعالى، أفلا يجوز أن يكون منطويا على حكمة استأثر الله تعالى بعلمها، فما يؤمنه من دعوى أن أفعال العبد وإن استقبحها العقلاء مخلوقة لله تعالى، وفي خلقها حكمة استأثر الله بعلمها، وهل الفرق إذا إلا عين التحكم، ونفس اتباع الهوى. هذا ودون تمكنه من اتباع هذه القواعد: أن يمكن من القتاد اختراط، ومن الجمل أن يلج في سم الخياط.
(٢). قوله «والدق في فروته» في الصحاح «الفروة» : جلدة الرأس. والفروة: قطعة نبات مجتمعة يابسة اه. (ع)
546
أنه خلق منتصبا غير منكب، كما قال عز وجل فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. فإن قلت: فكم من دميم مشوّه الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت: لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفى «١» عليها لا تستملح، وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه. ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها. وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال، والبيان. نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور: أنّ شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه، فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق «٢» ويجعله من جملته، والخلق: أعظم نعمة من الله على عباده، والكفر: أعظم كفران من العباد لربهم.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٥ الى ٦]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ الخطاب لكفار مكة. وذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّلهم من العذاب في الآخرة بِأَنَّهُ بأنّ الشأن والحديث كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ...... أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أنكروا أن تكون الرسل بشرا، ولم ينكروا أن يكون الله حجرا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أطلق ليتناول كل شيء، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. فإن قلت: قوله وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ يوهم وجود التولي والاستغناء معا «٣»، والله تعالى لم يزل غنيا. قلت: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
(١). قوله «وإضافتها إلى الموفى عليها» يعنى إلى المتفوق عليها من الصور. (ع)
(٢). قوله «فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق» يريد أهل السنة، حيث يقولون أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد حتى الكفر وغيره من المعاصي، ولا وجه لتجهيلهم مع استنادهم إلى قوله تعالى «والله خلقكم وما تعملون. (ع)
(٣). قال محمود: «أطلقه ليتناول كل شيء ثم قال فان قلت كان التولي فيهم... الخ»
قال أحمد: إنما الحق أنه لم يخلق لهم إيمانا ولا قدرة عليه، فكان قادرا أن يخلق لهم الايمان والقدرة عليه، وإنما حرفها الزمخشري إلى قاعدته. [.....]

[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٧ الى ٨]

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)
الزعم: ادعاء العلم: ومنه قوله عليه السلام «زعموا مطية الكذب» «١» وعن شريح: الكل شيء كنية وكنية الكذب «زعموا» ويتعدّى إلى المفعولين تعدّى العلم. قال:
... ولم أزعمك عن ذاك معزلا «٢»
وإن مع ما في حيزه قائم مقامهما. والذين كفروا. أهل مكة. وبَلى إثبات لما بعد لن، وهو البعث وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أى لا يصرفه عنه صارف. وعنى برسوله والنور: محمدا ﷺ والقرآن.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٩ الى ١٠]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)
وقرئ: نجمعكم. ونكفر. وندخله، بالياء والنون. فإن قلت: بم انتصب الظرف؟ قلت بقوله: لتنبؤن، أو بخبير، لما فيه من معنى الوعيد، كأنه قيل: والله معاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار «اذكر» لِيَوْمِ الْجَمْعِ ليوم يجمع فيه الأوّلون والآخرون. التغابن: مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكم بالأشقياء، لأنّ نزولهم ليس بغبن. وفي حديث رسول الله ﷺ «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرا. وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من
(١). لم أجده مرفوعا بهذا اللفظ وقد تقدم في أوائل البقرة بلفظ «بئس مطية الرجل إلى الكذب زعمواه وقد تقدم عن شريح «زعموا كنية الكذب».
(٢).
وإن الذي قد عاش يا أم مالك يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا
يقول: وإن كل حي وإن طال عمره يموت، ولم أظنك يا أم مالك معزالا عن ذلك الحكم أو الموت. والمعزل:
مكان العزلة والانفراد، أى: لم أظنك في معزل عنه أو ذات معزل أو معتزلة. أو نفس المقول مبالغة.
الجنة لو أحسن، ليزداد حسرة» «١» ومعنى ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ- وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم-: استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة، لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت صالِحاً صفة للمصدر، أى: عملا صالحا.
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١١]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلا بتقديره ومشيئته، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه يَهْدِ قَلْبَهُ يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير. وقيل: هو الاسترجاع عند المصيبة. وعن الضحاك:
يهد قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطنه. وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن مجاهد: إن ابتلى صبر، وإن أعطى شكر، وإن ظلم غفر. وقرئ. يهد قلبه، على البناء للمفعول، والقلب:
مرفوع أو منصوب. ووجه النصب: أن يكون مثل سفه نفسه، أى: يهد في قلبه. ويجوز أن يكون المعنى: أنّ الكافر ضال عن قلبه بعيد منه، والمؤمن واجد له مهتد إليه، كقوله تعالى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ وقرئ: نهد قلبه، بالنون. ويهد قلبه، بمعنى: يهتد. ويهدأ قلبه: يطمئن.
ويهد. ويهدا على التخفيف وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم ما يؤثر فيه اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فلا عليه إذا توليتم، لأنه لم يكتب عليه طاعتكم، إنما كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوّى به في أمره، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٤ الى ١٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥)
(١). رواه البخاري من رواية الأعرج عن أبى هريرة: وفي المتفق عليه من حديث أنس في قصة المؤمن، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال نبى الله: فيراهما جميعا، ولها عن ابن عمر «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى- الحديث».
إنّ من الأزواج أزواجا يعادين بعولتهنّ ويخاصمنهم ويجلبن عليهم، ومن الأولاد أولادا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى فَاحْذَرُوهُمْ الضمير للعدوّ أو للأزواج والأولاد جميعا. أى: لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدوّ، فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم وَإِنْ تَعْفُوا عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها، فإن الله يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم. وقيل: إنّ ناسا أرادوا الهجرة عن مكة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا: تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين: أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فزين لهم العفو. وقيل: قالوا لهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم، فغضبوا عليهم وقالوا: لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير، فلما هاجروا منعوهم الخير، فحثوا أن يعفوا عنهم ويردّوا إليهم البر والصلة. وقيل: كان عوف بن مالك الأشجعى ذا أهل وولد، فإذا أراد أن يغزو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه، فكأنه همّ بأذاهم، فنزلت تْنَةٌ
بلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما، ألا ترى إلى قوله اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
وفي الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته» «١» وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وعن النبي ﷺ أنه كان يخطب، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل إليهما فأخذهما «٢» ووضعهما في حجره على المنبر فقال: «صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما»
ثم أخذ في خطبته. وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما.
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١٦]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)
مَا اسْتَطَعْتُمْ جهدكم ووسعكم، أى: ابذلوا فيها استطاعتكم وَاسْمَعُوا ما توعظون به وَأَطِيعُوا فيما تأمرون به وتنهون عنه وَأَنْفِقُوا في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها
(١). لم أره مرفوعا: وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري من قوله. وروى على بن معبد في الطاعة والمعصية عن إسحاق بن أبى يحيى عن عبد الملك عن بكير قال «ينادى مناد يوم القيامة: أين الذين أكلت عيالهم حسناتهم قوموا فان قبلكم الانبعاث».
(٢). أخرجه أصحاب السنن وابن جبان والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من روايه حسين بن واقد عن ابن بريدة عن أبيه. قال البزار لا نعلم له طريقا إلا هذا.
وذكرُ القرض : تلطف في الاستدعاء ﴿ يضاعفه لَكُمْ ﴾ يكتب لكم بالواحدة عشراً، أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة. وقرىء :«يضعفه » ﴿ شَكُورٌ ﴾ مجاز، أي : يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب، وكذلك ﴿ حَلِيمٌ ﴾ يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم.
Icon