تفسير سورة الإنسان

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مدنية وآياتها ٣١، وقال الحسن وعكرمة : منها آية مكية وهي قوله تعالى :﴿ ولا تطع منهم آثما أو كفورا ﴾ والباقي ومدني.

تفسير سورة «الإنسان»
قيل: مكّيّة، وقيل: مدنيّة وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكية «١»، وهي [قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً والباقي مدنيّ.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥)
[قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ... الآية، هَلْ في كلام العرب قد تجيء] «٢» بمعنى قَدْ حكاه سيبويه، لكنها لا تخلو من تقرير، وبابُها المشهورُ الاستفهام المَحْضُ، والتقرير أحياناً قال ابن عباس: «هل» بمعنى «قد»، والإنسان يراد به آدم «٣»، وقال أكثر المتأولين: «هل» تقرير، الإنسان: اسم جنس، أي: إذا تَأَمَّلَ كُلُّ إنسان نفسه علم بِأَنَّه قد مَرَّ حِينٌ من الدهر عظيم لم يكن فيه شيئاً مذكوراً، وهذا هو القوي أَنَّ الإنسان اسم جنس، وأَنَّ الآية جُعِلَتْ عبرةً لكل أحد من الناس لِيُعْلَمَ أَنَّ الخالق له قادر على إِعادته.
- ص-: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً في موضع حال من الْإِنْسانِ أو في موضع صفة ل حِينٌ والعائد عليه محذوف، أي: لم يكن فيه، انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ... الآية، الإنسان هنا: اسم جنس بلا خلافٍ، وأمشاج معناه: أخلاط قيل: هو أَمْشاجٍ ماءِ الرجل بماءِ المرأة، ونقل الفخر أنّ
(١) ذكره البغوي (٤/ ٤٢٦)، وابن عطية (٥/ ٤٠٨).
(٢) سقط في: د.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٨).
الأمشاج لفظٌ/ مفرد، وليس يُجْمَعُ، بدليل أَنَّه وقع صفةً للمفرد، وهو قوله: نُطْفَةٍ، انتهى.
نَبْتَلِيهِ أي: نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا، وهو حال من الضمير في خَلَقْنَا كأَنَّه قال: مختبرين له بذلك.
وقوله تعالى: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً عَطْفُ جملة نِعَم على جملة نِعَمٍ، وقيل:
المعنى: فلنبتليه جعلناه سميعاً بصيراً وهَدَيْناهُ: يحتمل: أنْ يكون بمعنى أرشدناه، ويحتمل: أنْ يكون بمعنى أريناه، وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان، وعبارة الثَّعْلَبِيِّ: هَدَيْناهُ السَّبِيلَ بَيَّنَا له وَعَرَّفْنَاهُ طريقَ الهدى والضلال، والخير والشر كقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: ١٠] انتهى.
وقوله تعالى: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان، وقسمتهما إِمَّا، والْأَبْرارَ:
جمع بَارٍّ قال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذَّرَّ، ولا يرضون الشرَّ «١»، قال قتادة: نعم قوم يمزجُ لهم بالكافور، ويُخْتَمُ لهم بالمسك «٢»، قال الفرَّاء: يقال إِنَّ في الجنة عينا تسمى كافورا.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٦ الى ٨]
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)
وقوله تعالى: عَيْناً قيل: هو بدل من قوله: كافُوراً وقيل: هو مفعول بقوله:
يَشْرَبُونَ أي: ماءُ هذه العين من كأس عَطِرَةٍ كالكافور، وقيل: نصب عَيْناً على المدح أو بإضمار «أعني».
قوله تعالى: يَشْرَبُ بِها بمنزلة [يشربها]، فالباء زائدة قال الثعلبيُّ: قال الواسطي: لَمَّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة، انتهى.
قال- ص-: وقيل: الباء في بِها للإلصاق والاختلاط، أي: يشرب بها عباد اللَّه الخمرَ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعسل، انتهى.
وقوله تعالى: يُفَجِّرُونَها معناه: يفتقونها ويقودونها حيث شاؤوا/ من منازلهم
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٩).
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٥٧، ٣٥٨)، رقم: (٣٥٧٦٧)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٨٣)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.
528
وقصورهم، فهي تجري عند كُلِّ أحد منهم، ورُدَّ بهذا الأثر، وقيل: عين في دار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تفجر إلى دُورِ الأنبياء والمؤمنين قال ع «١» : وهذا قول حسن، ثم وصف تعالى حال الأبرار فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي: ممتدًّا مُتَّصِلاً شائعاً.
وقوله تعالى: عَلى حُبِّهِ يحتمل أنْ يعودَ الضمير على الطعام، وهو قول ابن عباس «٢»، ويحتمل أنْ يعودَ على اللَّه تعالى قاله أبو سليمان الدَّارانيُّ «٣».
وقوله: وَأَسِيراً قال الحسن: ما كان أسراهم إلاَّ مشركين لأَنَّ في كل ذي كبد رطبة أجراً «٤».
ت: وفي «العتبيةِ» سُئِلَ مالك عن الأسير في هذه الآية أمسلم هو أم مشرك، فقال: بل مشرك، وكان ببدر أسارى، فأنزلت فيهم هذه الآية فقال ابن رشد: والأظهر حمل الآية على كل أسير، مسلماً كان أو كافراً، انتهى يعني: وإنْ كان سبب نزولها ما ذكر فهي عامَّةٌ في كُلِّ أسير إلى يوم القيامة، وقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ: قال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
«مِسْكِيناً [قال:] فَقِيراً وَيَتِيماً قال: لا أَبَ لَهُ وَأَسِيراً قال: المَمْلُوكُ والمَسْجُونُ» «٥»، وأسند القُشَيْرِيُّ في رسالته عن مالك، عن نافع، عنِ ابن عمر، عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ، وَمِفْتَاحُ الجَنَّةِ حُبُّ المَسَاكِينِ، والفُقَرَاءُ الصُّبَّرُ هُمْ جُلَسَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «٦» انتهى.
وروى الترمذيُّ عن أنس أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللَّهُمَّ، أحْيِنِي مِسْكِيناً، وأَمِتْنِي مِسْكِيناً، واحشرني في زُمْرَةِ المَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قالَ: إنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً، / يَا عَائِشَةُ، لاَ تَرُدِّي الْمِسْكِينَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ، أَحِبِّي المَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قال أبو عيسى:
هذا حديث غريب «٧»، انتهى.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤١٠).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٤١٠).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤١٠).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٦٠)، رقم (٣٥٧٨٢)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٨٤)، وعزاه لسعيد بن المنصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه عن الحسن بنحوه.
(٥) ينظر: «الدر المنثور» (٦/ ٤٨٥).
(٦) ينظر: «كنز العمال» (٦/ ٤٦٩)، رقم: (١٦٥٨٧).
(٧) أخرجه الترمذي (٤/ ٥٧٧، ٥٧٨)، كتاب «الزهد» باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل [.....]
529

[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٩ الى ١٩]

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩)
أغنيائهم (٢٣٥٢)، والبيهقي (٧/ ١٢)، كتاب «الصدقات» باب: ما يستدل به على أن الفقير أمسّ حاجة من المسكين.
قال الترمذي: هذا حديث غريب- يعني: ضعيف، وهو مصطلح خاص به.
وفي الباب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أخرجه الحاكم (٤/ ٣٢٢)، وابن ماجه (٢/ ١٣٨١)، كتاب «الزهد» باب: مجالسة الفقراء (٤١٢٦)، والخطيب (٤/ ١١١) (١٧٧٠)، قال العجلوني في «كشف الخفاء» (١/ ٢٠٦- ٢٠٧) : رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، قال أحبوا المساكين، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقوله في دعائه، ورواه الطبراني عن عطاء بسند ضعيف بلفظ:
«اللهم توفني إليك فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة»، وأخرجه الحاكم في «مستدركه» بزيادة «وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة»، وقال صحيح الإسناد، ورواه البيهقي في «الشعب» عن أبي سعيد بلفظ: «يا أيها الناس لا يحملنكم العسر على أن تطلبوا الرزق من غير حله»، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول، وذكره بالزيادة المذكورة، وله شواهد، فرواه الترمذي والبيهقي في «الشعب» بسند فيه منكر عند بعضهم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة»، فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشقّ تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة»، وقال: إنه غريب، ورواه الطبراني في «الدعاء» بسند رجاله ثقات عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أحيني مسكينا، وتوفني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين»، ومع وجود هذه الطرق لا يحسن الحكم عليه بالوضع، وقال في «الدرر» رواه الترمذي عن أنس، وابن ماجه عن أبي سعيد عن أبي عبادة، وادعى ابن الجوزي، وابن تيمية أنه موضوع، وليس كما قالا انتهى، وقال ابن حجر في «التحفة» إن الحديث ضعيف ومعارض بما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم استعاذ من المسكنة، وفسّرت المسكنة المسئولة بسكون القلب، وفسر شيخ الإسلام زكريا هذا الحديث فقال معناه طلب التواضع والخضوع، وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين، وقال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٢٧٥). هذا إسناد ضعيف، أبو المبارك لا يعرف اسمه وهو مجهول ويزيد بن سنان التيمي أبو فروة ضعيف رواه أبو بكر بن أبي شيبة في «مسنده» هكذا.
ورواه عبد بن حميد في «مسنده»، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد الأحمر فذكره بإسناده ومتنه.
ورواه الحاكم في «المستدرك» من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
قلت: ورواه البيهقي في «سننه الكبرى» عن الحاكم به.
وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت، ومن حديث أنس بن مالك، رواه البيهقي في «الكبرى».
ورواه ابن الجوزي في «الموضوعات» من طريق أبي خالد الأحمر.
530
وقولَه: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ... الآية، قال مجاهد، وابن جبير: ما تكلموا به، ولكنه علمه اللَّه من قلوبهم، فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب «١»، وَوَصْفُ اليوم بِعَبُوسٍ تَجُوُّزٌ، والقَمْطَرِيرُ: هو في معنى العبوس والإرْبِدَاد تقول: اقمطر الرَّجُلُ: إذا جمع ما بين عَيْنَيْهِ. غضباً، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيلَ ما بين عينيه كالقَطِرَانِ «٢»، وَعَبَّرَ ابن عباس عن القمطرير بالطويل «٣»، وعَبَّرَ عنه غيره بالشديد وذلك كله قريب في المعنى، والنضرة: جمال البشرة وذلك لا يكون إلاَّ مع فرح النفس وقرة العين.
وقوله: بِما صَبَرُوا عامٌّ في الصبر عنِ الشهوات وعلى الطاعات والشدائد، وفي هذا يدخل كُلُّ ما خصص المفسرون من صوم، وفقر، ونحوه.
وقوله سبحانه: لاَ يَرَوْنَ فِيها شَمْساً... الآية، عبارةٌ عن اعتدال هوائها وذَهَابِ ضَرَرِيِ الحَرِّ والقَرِّ، والزَّمْهَرِير: أَشَدُّ البرد، والقطوف: جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوه، والقوارير: الزجاج.
وقوله تعالى: مِنْ فِضَّةٍ يقتضي أَنَّها من زجاج ومن فضة، وذلك متمكن لكونه من زجاج في شفوفه ومن فضة في جَوْهَرِهِ، وكذلك فضة الجنةِ شفَّافة، [قال القرطبيُّ في «تذكرته» : وذلك أَنَّ لكل قومٍ من تراب أرضهم قَوَارِيرَ، وأَنَّ ترابَ الجنة فضة، فهي قوارير من فضة قاله ابن عباس «٤»، انتهى] «٥».
وقوله تعالى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي: على قَدْرِ رِيِّهِمْ قاله مجاهد «٦»، أو على قدر الأَكُفِّ قاله الربيع «٧»، وضمير قَدَّرُوها يعود إمَّا على الملائكة، أو على الطائفين، أو على المنعمين.
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٦١)، رقم: (٣٥٧٨٧، ٣٥٧٨٨)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢٨)، وابن كثير (٤/ ٤٥٥) بنحوه
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٦١)، رقم: (٣٥٧٨٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤١١).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٦٢)، رقم: (٣٥٨٠٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤١١).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٦٥)، رقم: (٣٥٨١٧)، وذكره ابن كثير (٤/ ٤٥٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٨٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث» من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس بنحوه.
(٥) سقط في: د.
(٦) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٦٦)، رقم: (٣٥٨٣١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤١٢)، وابن كثير (٤/ ٤٥٦).
(٧) ذكره ابن عطية (٥/ ٤١٢)، وابن كثير (٤/ ٤٥٦).
531
وقوله سبحانه: عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا «عيناً» بدل من «كأس» أو من «عين» على القول الثاني، وسَلْسَبِيلًا قيل: هو اسم بمعنى/ السَّلِسُ المنقاد الجرية، وقال مجاهد:
حديدة الجرية «١»، وقال آخرون: سَلْسَبِيلًا صفة لقوله: عَيْناً وتُسَمَّى بمعنى تُوْصَفُ وتشهر، وكونه مصروفاً مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسماً.
وقوله تعالى: حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً قال الإمام الفخر «٢» : وفي كيفية التشبيه وجوه:
أحدها: أَنَّهُم شُبِّهُوا في حسنهم، وصفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم في أنواع الخدمة- باللؤلؤ المنثورِ، ولو كانوا صفًّا لَشُبِّهُوا باللؤلؤ المنظوم أَلاَ ترى أَنَّهُ تعالى قال: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
الثاني: أَنَّ هذا من التشبيه العجيب لأَنَّ اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسنَ في المنظر لوقوع شعاع بعضه على بعض.
الثالث: أَنَّهم شُبِّهُوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأَنَّه أحسن وأجمل، انتهى.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
وقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ قال الفَرَّاءُ: التقدير: وَإِذا رأيت ما ثَمَّ رأيت نعيماً، فحُذِفَتْ «ما» وكُرِّرَتِ الرؤية مبالغةً وَمُلْكاً كَبِيراً: وهو أَنَّ أدناهم منزلةً ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أَقصاه كما يرى أدناه، وخرَّجَهُ الترمذيُّ، وفي التِّرْمِذِيِّ أيضاً من رواية أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً، وَتُنْصَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ لُؤلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ كَمَا بَيْنَ الجَابِيَةِ إلى صَنْعَاءَ» «٣» انتهى، وقال سفيان: الملك الكبير هو استئذان الملائكة، وتسليمهم عليهم،
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٦٨)، رقم: (٣٥٨٤٣- ٣٥٨٤٤، ٣٥٨٤٦)، وذكره البغوي (٤/ ٤٣٠)، وابن عطية (٥/ ٤١٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٨٨)، وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن مجاهد.
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (٣٠/ ٢٢٢).
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٩٥)، كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء ما لأدنى أهل الجنة من الكرامة (٢٥٦٢).
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث رشدين.
وتعظيمُهم لهم، قال الثعلبيُّ: قَال محمد «١» بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أرادوا شيئاً كان، انتهى.
ت: وجميع ما ذكر داخل في الملك/ الكبير، وقرأ نافع وحمزة: «عَالِيهِمْ» وقرأ الباقون «٢» :«عَالِيَهُمْ» بالنصب، والمعنى: فوقهم، قال الثعلبيُّ: وتفسير ابن عباس قال: أما رأيتَ الرجل عليه ثياب يعلوها أفضلُ منها «٣»، انتهى، وقرأ حمزة والكسائيُّ:
«خُضْرٍ وَإسْتَبْرَقٍ» بالخفض فيهما «٤»، وباقي الآية بيّن.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦)
وقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ... الآية تثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية لنفسه على أذى قريش، والآثم هنا هو الكفور، واللفظ أيضاً يقتضي نهيَ الإمام عن طاعة آثم من العُصَاةِ أو كفور باللَّه، ثم أمره تعالى بذكر ربه دأباً بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ:
بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة، ويحتمل أنْ يريد قول: سبحانَ اللَّهِ، قال ابن زيد وغيره: كان هذا فرضاً ثم نُسِخَ «٥»، وقال آخرون: هو مُحْكَمٌ على وجه الندب، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : أَمَّا قوله تعالى: وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا فإنَّهُ عبارة عن قيام الليل، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعله كما تقدم، وقد يحتمل أنْ يكون هذا خطابا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد الجميعُ، ثم نُسِخَ عَنَّا، وبَقِيَ عليه صلّى الله عليه وسلّم، والأول أظهر، انتهى.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)
(١) في د: مجاهد.
(٢) وقرأ بها أبان عن عاصم.
ينظر: «السبعة» (٦٦٤)، و «الحجة» (٦/ ٣٥٤)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٤٢٢)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٠٩)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٨٨)، و «العنوان» (٢٠١)، و «حجة القراءات» (٧٣٩)، و «شرح شعلة» (٦١٦)، و «إتحاف» (٢/ ٥٧٨).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤١٤). [.....]
(٤) ينظر: «السبعة» (٦٦٥)، و «الحجة» (٦/ ٣٥٧)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٤٢٢)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٠٩)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٨٨- ٨٩)، و «حجة القراءات» (٧٤٠)، و «شرح شعلة» (٦١٦)، و «إتحاف» (٢/ ٥٧٨).
(٥) ذكره القرطبي (١٩/ ٩٧)، وأبو حيان في «البحر المحيط» (٨/ ٣٩٣)، وابن عطية (٥/ ٤١٤).
533
وقوله: إِنَّ هؤُلاءِ يعني كُفَّارَ قريشٍ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يعني: الدنيا، واعلمْ أَنَّ حُبَّ الدنيا رأسُ كل خطيئة، وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وازهد فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» «١» رواه ابن ماجه وغيره بأسانيدَ حَسَنَةٍ، قال ابن الفاكهانيِّ: قال القاضي أبو الوليد بن رشد: وأَمَّا الباعث على الزهد فخمسة أشياء:
أحدها: أنَّها فانية شاغلة للقلوب عن التفكر في أمر اللَّه تعالى.
والثاني: أَنَّها تنقص عند اللَّه/ درجات من ركن إليها.
والثالث: أَنَّ تركها قربة من اللَّه تعالى وعلُوُّ مرتبة عنده في درجات الآخرة.
والرابع: طول الحبس والوقوف في القيامة للحساب والسؤال عن شكر النعيم.
والخامس: رضوان اللَّه تعالى والأمن من سخطه، وهو أكبرها قال الله عز وجل:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢] قال ابن الفاكهاني: ولو لم يكن في الزهد في الدنيا إلاَّ هذه الخصلة التي هي رضوانُ اللَّه تعالى- لكان ذلك كافياً-، فنعوذ باللَّه من إيثار الدنيا على ذلك، وقد قيل: من سُمِّيَ باسم الزهد فقد سُمِّيَ بألف اسم ممدوح، هذا مع ما للزاهدين من راحة القلب والبدن في الدنيا والآخرة، فالزُّهَّادُ هم الملوك في الحقيقة، وهم العقلاء لإيثارهم الباقي على الفاني، وقد قال الشافعية: لو أوصى لأعْقَل الناس صُرِفَ إلى الزهاد، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً»، ولفظ أبي الحسن الماوردِيِّ: وقد قيل: العاقل مَنْ عقل من اللَّه أمره ونهيه حتَّى قال أصحاب الشافعيِّ فيمن أوصى بثلث ماله: لأَعْقَلِ الناس أَنَّه يكون مصروفاً للزُّهَّادِ لأنهم انقادوا للعقل، ولم يغتروا بالأمل، انتهى، والأَسْر الخلقة واتساق الأعضاء والمفاصل، وعبارة البخاريِّ: أَسْرَهُمْ: شِدَّةُ الخلق، وكل شيء شددته من قتب أو غبيط فهو مأسور، والغبيط شيء يركبه النساء شبه المحفة، انتهى قال ع «٢» : ومن اللفظة: الإسارُ، وهو القيد الذي يُشَدُّ به الأسير، ثم تَوَعَّدَهُم سبحانه بالتبديل، وفي الوعيد بالتبديل احتجاج على مُنْكِرِي البعث، أي: مَنْ هذه قدرته في الإيجاد والتبديل فكيف تتعذر عليه الإعادة؟!.
وقال الثعلبيُّ: بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا قال ابن عباس: يقول: أهلكناهم، / وجئنا بأطوعَ للَّهِ منهم، انتهى «٣».
(١) تقدم تخريجه.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤١٥).
(٣) ذكره القرطبي (١٩/ ٩٩).
534

[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٩ الى ٣١]

إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ القول فيها كالتي في سورة المزمل.
وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا كلام واضح لا يفتقر إلى تفسير، جعلنا اللَّه ممن اهتدى بأنواره، وعَمَّتْ عليه بركتُه في أفعاله وأقواله قال الباجِيُّ: قال بعض أهل داود الطائيِّ: قلت له يوماً: إنَّك قد عرفت فأوصني، قال: فَدَمِعَتْ عيناه ثم قال: يا أخي، إنَّما الليلُ والنهار مراحلُ يرحلُها الناس مرحلةً مرحلةً، حَتَّى تنتهي بهم إِلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أَنْ تُقَدَّمَ من أَوَّلِ مرحلة زاداً لما بين يديك فافعل فإنَّ انقطاع السفر قريب، والأمر أعجل من ذلك فتزوَّدْ لسفرك، واقْضِ ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأَنَّ بالأمر قد بَغَتَكَ، ثم قام وتركني، انتهى من «سنن الصالحين».
وقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في نفوسهم، ولا يَرُدُّ هذا وجود مالهم من الاكتساب، وقرأ عبد اللَّه «١» :«وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ».
وقوله تعالى: عَلِيماً حَكِيماً معناه: يعلم ما ينبغي أَنْ ييسر عبدَه إليه، وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلّا هو سبحانه.
(١) ينظر: «الشواذ» ص: (١٦٧)، و «الكشاف» (٤/ ٦٧٦)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٤١٥)، و «البحر المحيط» (٨/ ٣٩٣).
Icon