ﰡ
وقولهُ تعالى :﴿ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ يجوزُ أن يكون (هُدًى) في موضعِ رفعٍ ؛ أي هو هُدًى، والمعنى :(هُدًى) أي بيانٌ من الضَّلالةِ لِمن عَمِلَ به، (وَبُشْرَى) بما فيه من الثواب للمصدِّقين به أنهُ من عندِ الله.
ثم عرَّفَهم فقالَ :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ؛ أي زَيَّنَّا لَهم صلاتَهم حتى رأوْها حسنةً، ﴿ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ أي يتردَّدُون فيها متحيِّرين، ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ﴾ ؛ لأنَّهم خَسِرُوا أنفُسَهم وأهلِيهم وصَارُوا إلى النار.
والشِّهَابُ : هو النارُ الْمُسْتَطَارُ، ومنه قولهُ﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾[الصافات : ١٠] والقبَسُ والْجَذْوَةُ : كلُّ عودٍ أُشْعِلَ في طرفهِ نارٌ. قرأ أهلُ الكوفة (بشِهَابٍ قَبَسٌ) منوَّن على البدل أو النعتِ للشهاب.
وَقِيْلَ : المرادُ بالنار هو النُّورُ، وذلك أن موسَى رأى نُوراً عَظِيماً، ولذلك ذكرهُ بلفظ النار، ومَن في النار هم الملائكةُ ؛ لأن النورَ الذي رآهُ موسى كان فيه ملائكةٌ لَهُمْ زَجَلٌ بالتسبيحِ والتقديس، ومَنْ حَوْلَهَا هو موسَى ؛ لأنه كان بالقُرْب منها ولَم يكن فيها. وأهلُ اللغة يقولونَ : بُوركَ فُلاَنٌ ؛ وَبُوركَ فِيْهِ ؛ وَبُوركَ لَهُ وَعَلَيْهِ، بمَعنى واحدٍ. والمرادُ بالبركةِ ها هنا ما نَالَ مُوسَى من كرامةِ الله له بالنبوَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ كلمة تَنْزِيْهٍ عمَّا تَظُنُّ الْمُشَبهَةُ أنَّ اللهَ تعالى كان في تلك النار، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبيْراً.
فإن قيلَ : بمَاذا عَرَفَ مُوسَى ؟ قُلْنَا : إنَّما عَرَفَ نبوَّةِ نفسهِ أن ذلكَ النداءَ من اللهِ تعالى حتى جعلَ يدعُو الناسَ إلى نُبُوَّةِ نفسهِ بالمعجزة، وذلك أنهُ رأى شجرةً أخضرَ ما يكونُ من الشَّجرِ في أنضرَ ما يكون، لَها شعاعٌ يرتفعُ إلى السَّماء في الهواءِ، والنارُ تلتَهِبُ في أوراقِها والأغصانِ، فلا النارُ تُحْرِقُ الأوراقَ ولا رطوبةُ الشجرِ والأغصانِ تُطْفِىءُ النارَ، فلما رأى ذلكَ بخلافِ العادة، عَلِمَ أنه لا يكونُ ذلك إلاّ مِن صُنْعِ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ :﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ ﴾ ؛ أي وَقِيْلَ لهُ : ألْقِ عَصَاكَ من يدِكَ، فألْقَاهَا فَاهْتَزَّتْ ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾ ؛ أي تضطربُ كأنَّها جَانٌّ، والْجَانُّ : الحيَّةُ البيضاءُ الخفيفة السريعةُ، السريع شدَّة الاضطراب يقال لها الْمِسَلَّةُ. وإنَّما شبَّهَها بالْجَانِّ في خِفَّةِ حركَتِها وسرعةِ انتشارها عن الأعيُنِ، وشبَّهَها في موضعِ آخر بالثُّعبان لِعِظَمِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَّى مُدْبِراً ﴾ ؛ أي أعْرَضَ موسى هَارباً من الخوفِ من الحيَّة، ﴿ وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي لَم يَرْجِعْ ولَم يَلْتَفِتْ إلى شيءٍ وراءَهُ، يقال : عَقَّبَ فلانٌ إذا رَجَعَ.
فقالَ اللهُ :﴿ يامُوسَى لاَ تَخَفْ ﴾ ؛ مِن ضَرَرها، ﴿ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ ؛ أي لا يخافُ عندي وفي حُكْمِي مَن أرسلتهُ، ﴿ إِلاَّ مَن ظَلَمَ ﴾ ؛ مِن الْمُرْسَلِيْنَ بارتكاب الصغيرةِ ﴿ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ﴾، ثُمَّ تابَ مِن بعد ذلكَ، ﴿ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ به، فكان السببُ في هذا الاستثناءِ أنَّ موسى كان مُستَشْعِراً حقَّهُ لِمَا كان منه من قِبَلِ القبطيِّ، فأَمَّنَهُ اللهُ بهذا الكلامِ.
والصغائرُ والكبائر من الذُّنوب تُسمَّى ظُلْمَاً ؛ ولذلكَ قال مُوسَى﴿ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾[القصص : ١٦]. ويقالُ : إن قولَهُ ﴿ إِلاَّ مَن ظَلَمَ ﴾ استثناءٌ منقطع، ومعناهُ : لكِنْ مَن ظَلَمَ، فإنه يَخافُني إلاّ أن يتوبَ ويعملَ صالحاً، فإنِّي أغفرُ له وأرْحَمهُ. والمعنى : إلاّ من ظَلَمَ نفسه بالمعصيةِ ﴿ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً ﴾ أي توبةً ونَدَماً ﴿ بَعْدَ سُوءٍ ﴾ عملهِ ﴿ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ كأنه قالَ : لا يخافُ لديَّ المرسلونَ الأنبياءُ والتَّائبُونَ، وقال بعضُهم :(إلاّ) ها هُنا بمعنى (ولا) كأنهُ قال :﴿ لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ﴾.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ ﴾ ؛ أظهَرَها بين الآيَتينِ، والآياتُ التِّسعُ : قَلْبُ العَصَاةِ حَيَّةً، وجَعْلُ يَدِهِ بيضاءَ، وما أصابَ فرعونَ من الْجَدْب في بَوادِيهم، ونقصِ الثَّمرات في مزارِعهم، وإرسالِ الطُّوفان والجرادِ والقُمَّلِ والضفادعِ والدَّم، فهذه الآياتُ التِّسعُ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ ؛ أي خَارجين عن طاعةِ الله.
وعن أبي هريرةَ قال :(نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى دَاوُدَ عليه السلام مَخْتُوماً، فِيْهِ عَشْرُ مَسَائِلَ ؛ أن اسْأَل ابْنَكَ سُلَيْمَانَ عَنْهُنَّ، فَإنْ أخْرَجَهُنَّ فَهُوَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ : فَدَعَا دَاوُدُ سَبْعِيْنَ قِسِّيْساً وَسَبْعِيْنَ حَبْراً، وَأجْلَسَ سُلَيْمَانَ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ لَهُ : يَا نَبيَّ اللهِ ؛ إنَّهُ نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيْهِ عَشْرُ مَسَائِلَ، أرَدْتُ أنْ أسْأَلَكَ عَنْهُنَّ، فَإنْ أنْتَ أخْرَجْتَهُنَّ فَأَنْتَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ سُلَيْمَانُ : لِتَسْأَلْ نَبيَّ اللهِ عليه السلام عَمَّا اللهُ يَرَاهُ، وَمَا تَوْفِيْقِي إلاَّ باللهِ.
قَالَ : أخْبرْنِي يَا نَبيَّ : مَا أبْعَدُ الأَشْيَاءِ ؟ وَمَا أقْرَبُ الأَشْيَاءِ ؟ وَمَا آنَسُ الأَشْيَاءِ ؟ وَمَا أوْحَشُ الأَشْيَاءِ ؟ وَمَا الْقَائِمَانِ ؟ وَمَا الْمُخْتَلِفَانِ ؟ وَمَا الْمُتَبَاغِضَانِ ؟ وَمَا الأَمْرُ الَّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حَمَدَ آخِرَهُ ؟ وَمَا الأَمْرُ الَّّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ ذمَّ آخِرَهُ؟
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : أمَّا أقْرَبُ الأَشْيَاءِ فَالآخِرَةُ، وَأمَّا أبْعَدُ الأَشْيَاءِ فَمَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأمَّا آنَسُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ فِيْهِ رُوحٌ، وَأمَّا أوْحَشُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ لاَ رُوحَ فِيْهِ، وَأمَّا الْقَائِمَانِ فَالسَّّمَاءُ والأَرْضُ، وَأمَّا الْمُخْتَلِفَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَأمَّا الْمُتَبَاغِضَانِ فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ، وَأمَّا الأَمْرُ الَّّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حَمَدَ آخِرَهُ فَالْحِلْمُ عَلَى الْغَضَب، وَأمَّا الأمْرُ الَّذِي إذا رَكِبَهُ ذمَّ آخِرَهُ فَالْحِدَّةُ عَلَى الْغَضَب.
قَالَ : فَفَكَّ الْخَتْمَ فَإذا هِيَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ سَوَاءٌ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. فَقَالَ الْقِسِّيْسُونَ وَالأَحْبَارُ : لَنْ نَرْضَى حَتَّى نَسْأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَإنْ هُوَ أخْرَجَهَا فَهُوَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ : سَلُونِي وَمَا تَوْفِيْقِي إلاَّ باللهِ، قَالُواْ : مَا الشَّيْءُ الَّذِي إذا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ ؟ وَإذا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ ؟ قَالَ : هُوَ الْقَلْبُ ؛ إذا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإذا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ. قًَالُواْ : صَدَقْتَ! أنْتَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِهِ. وَدَفَعَ إلَيْهِ دَاوُدُ قَضِيْبَ الْمُلْكِ، وَمَاتَ مِنَ الْغَدِ).
وعن محمَّد بن جعفرٍ عن أبيهِ قال :(أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ مُلْكَ مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَاربهَا، فَمَلَكَ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتَّةَ أشْهُرٍ، مَلَكَ أهْلَ الدُّنْيَا كُلَّهُمْ مِنَ الْجِنِّ والإنْسِ وَالشَّيَاطِيْنِ وَالدَّوَاب وَالطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، وَأُعْطِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْطِقَ كُلِّ شَيْءٍ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾ ؛ صَوْتٌ منهُ. قال الفرَّاءُ :(مَنْطِقُ الطَّيْرِ : مَعْنَى كَلاَمِ الطَّيْرِ، جَعَلَهُ كَمَنْطِقِ الرَّجُلِ إذا فُهِمَ). قال مقاتلُ :(كَانَ سُلَيْمَانُ جَالِساً إذْ مَرَّ بهِ طَائِرٌ، فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ : هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ هَذا الطَّائِرُ ؟ قَالُواْ : لاَ، قَالَ : إنَّهُ قَالَ لِي : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيْلَ. وَمَرَّ سُلَيْمَانُ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى بُلْبُلٍ فَوْقَ شَجَرَةٍ يُحَرِّكُ رَأسَهُ وَيُمِيْلُ ذنَبَهُ وَيَصِيْحُ، فَقَالَ لأَصْحَابهِ : هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَذا الْبُلْبُلُ ؟ قَالُواْ : اللهُ أعْلَمْ! قَالَ : إنَّهُ يَقُولُ : أكَلْتُ نِصْفَ ثَمَرَة فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ).
ووجهُ تسخيرِ الطَّير له أنَّ الله زادَ في عقُولِها حتى كانت تفهمُ ما يقالُ ويراد منها، وتقبلُ الأدَبَ وتخافُ وتحذر، وكان لسليمانَ عليه السلام ألفُ بيتٍ من قَوَاريْرَ على الخشب، فيها ثَلاثُمائة صريحة، وسَبْعُمائة سَرِيَّةٍ، فيأمرُ الرِّيحَ العاصفَ فترفعه، ويأمرُ الرَّحا فتسيرُ به، فأوحَى اللهُ وهو يسيرُ بين السَّماء والأرضِ : أنِّي قَدْ زدْتُ فِي مُلْكِكَ أنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ أحَدٌ مِنَ الْخَلاَئِقِ إلاَّ جَاءَتْ بهِ الرِّيْحُ فَأَخْبَرَتْكَ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ ؛ قال قتادةُ :(كَانَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْ جُنُودِهِ وَزْعَة تَرِدُ أُوْلاَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِيَجْتَمِعُواْ وَيَتَلاَحَقُواْ) وهو من الوَزْعِ الذي هو الكَفُّ، يقالُ : وَزَعْتُهُ وَزْعاً، والشَّيْبُ وَازعٌ ؛ أي مانعٌ. قال الليثُ :(وَالْوَازعُ فِي الْحَرْب الْمُوَكَّلُ بالصُّفُوفِ يَزَعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ).
ومعنى الآيةِ :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي كان يُحْبَسُ أوَّلُهم على آخرِهم ليتلاَحقُوا، وكانوا يجتمعونَ ويتفرَّقون ويقومون في مسِيرِهم على مراتِبهم. وَالإيْزَاعُ هو المنعُ من الذهاب، والوَازعُ هو القَيِّمُ بأَمْرِ الْجَيْشِ، ومن ذلكَ قولُ الحسنِ :(لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزْعَةٍ) أي مِن سُلْطَانٍ يَكُفُّهُمْ، ويقالُ : لا بدَّ للسُّلطانِ من وَزْعَةٍ ؛ أي مَن يَمْنَعُ الناسَ عنهُ. وأصلُ الوَزْعِ الكَفُّ والْمَنْعُ، ومنهُ الحديثُ :" إنَّ اللهَ لَيَزَعُ بالسُّلْطَانِ أكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ بالْقُرْآنِ ".
ونُصِبَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ضَاحِكاً ﴾ على الحالِ، وسببُ ضَحِكِهِ مِن قَوْلِها التعجُّبُ، وذلك أنَّ الإنسانَ إذا رأى ما لا عَهْدَ له بِهِ عَجِبَ وضَحِكَ. قال مقاتلُ :(ثُمَّ حَمَدَ رَبَّهُ حِيْنَ عَلَّمَهُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَسَمِعَ كَلاَمَ النَّمَْلَةِ) ﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ﴾ ؛ يقالُ : فلانٌ مُوزَعٌ بكَذا ؛ أي مُولَعٌ بهِ، وَقِيْلَ : معناهُ : وَفِّقْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ، ﴿ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ وَ، وَفِّقْنِي، ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ في الآخرةِ.
فإن قِيْلَ : بَماذا عرفَتِ النملةُ سليمانَ، وعلى أيِّ سبيلٍ كانت معرفتُها بهِ ؟ قُلْنَا : إنَّها كانت مأمورةً بطاعتهِ، فلا بدَّ أن تعرفَ مَن أُمِرَتْ بطاعتهِ، ولا يمنع أنْ تعرفَ الدوابُّ والبهائمُ هذا الضربَ، كما تعرفُ كثيراً من منافعِها ومضارِّها، والنملةُ فيها من الفَهْمِ فوقَ هذا، فإنَّا نشاهدُ صُنْعَهَا في إدخالِ رزْقِهَا وحفظهِ وتعهُّدهِ، حتى إنَّها تكسرُ ما تجمعهُ من الحبوب نصفَين نصفين لئَلاَّ تَنْبُتَ، إلاَّ اللُّوَيْزَةَ فإنَّها تكسِرُها أربعَ قِطَعٍ ؛ لأنَّها إذا كسرَتْها نِصفَين تنبتُ، فالذي هَدَاها إلى هذهِ الأمور هو الذي ألْهَمَهَا معرفةَ سُليمانَ عليه السلام.
واختلَفُوا في سبب تفقُّدهِ عن حالِ الْهُدْهُدِ. قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ الْهُدْهُدُ يَرَى الْمَاءَ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ كَمَا تَرَاهُ مِنَ الزُّجَاجِ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ إذا احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ فِي مَسِيْرِهِ، أمَرَ الْهُدْهُدَ حَتَّى يَنْظُرَ إلَى أقْرَب مَوْضِعٍ مِنَ الْمَاءِ، فَاحْتَاجَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إلَى الْمَاءِ، فَلِذلِكَ تَعَرَّفَ عَنْ حَالِ الْهُدْهُدِ).
قال عكرمةُ : قُلْتُ : يَا ابْنَ عَبَّاس ؛ كَيْفَ يَرَى الْهُدْهُدُ الْمَاءَ وَإنَّ صَيَّادَتَنَا يَأْخْذُونَهُ بالْفَخِّ فَلاَ يَرَى الْخَيْطَ وَالشَّبَكَةَ؟! قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :(مَا ألْقَى هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى لِسَانِكَ إلاَّ الشَّيْطَانُ، أمَا تَعْلَمُ أنَّهُ إذا جَاءَ الْقَدَرُ ذهَبَ الْبَصَرُ). وعن سعيدِ بن جُبير :(أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ تَفَقُّدِ سُلَيْمَانَ الْهُدْهُدَ، فَقَالَ : لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مَسَافَةَ الْمَاءِ. وَأنَّ الصَّبيَّ يَضَعُ لَهُ الْفَخَّ فَيُغَطِّي عَلَيْهِ بشَيْءٍ مِنَ التُّرَاب فَيَجِيْءُ فَيَقَعُ فِيْهِ، فَقَالَ : وَيْحَكَ! أمَا عَلِمْتَ أنَّ الْقَدَرَ يَحُولُ دُونَ الْبَصَرِ). ورُوي أنه قالَ :(إذا نَزَلَ القضاءُ والقَدَرُ ذهَبَ اللُّبُّ وعَمِيَ البصرُ).
وقال وهبُ :(كَانَ سَبَبُ تَفَقُّدِهِ لَهُ لإخْلاَلِهِ بالنَّوْبَةِ، كَمَا يَتَعَرَّفُ الْوَالِي عَنْ رَعِيَّتِهِ)، ويقالُ : كانتِ الطيرُ تُظِلُّهُ من الشَّمسِ، كانت تقفُ في الهواءِ مصطَّفةً موصولةَ الأجنحةِ ومتقاربةً، فلما أخْلَى الهدهدُ بمكانهِ بَانَ ذلك لوقوعِ الشَّمسِ عليه، فلذلكَ تعرَّفَ عن حالهِ.
قولهُ تعالى :﴿ أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ ﴾ ؛ أي لأقْطَعَنَّ حَلْقَهُ، ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ أي بحجَّةٍ ظاهرة توجبُ عُذْرَهُ في غيبتهِ، وقصَّتهُ : أنَّ سليمانَ عليه السلام لَمَّا فرغَ من بناءِ بيت المقدسِ عَزَمَ على الخروجِ إلى أرضِ الْحَرَمِ، فتجهَّزَ للسيرِ واستصحبَ مِن الْجِنِّ والإنسِ والشَّياطينِ والطُّيور والوحوشِ ما بلغَ معسكرهُ مِائَةَ فرسخٍ، وأمرَ الرِّيحَ فحملَتْهم، فلما وَافَى الحرمَ أقامَ به ما شاءَ اللهُ أن يُقيمَ، وكان ينحرُ كلَّ يومٍ مدَّةَ إقامتهِ خمسةَ آلافِ ناقة، ويذبحُ خمسةَ آلاف ثورٍ، وعشرون ألفَ شاةٍ، وأقامَ بمكَّةَ حتى قضَى نُسُكَهُ.
ثُم سارَ إلى أرضِ اليمن فوافََى صنعاءَ اليمنِ وقتَ الزَّوالِ، فأحبَّ النُّزولَ ليُصَلِّي ويتغدَّى، فطلَبُوا الماءَ فلم يجدوهُ، وكان الهدهدُ دليلَهُ على الماءِ، فلما نَزَلَ سليمانُ قال الهدهدُ : إنَّ سليمانَ قد اشتغل بالنُّزولِ، فارتفعَ الهدهدُ إلى جهةِ السَّماء، فنظرَ يَميناً وشِمالاً فرأى خُضْرَةَ بساتين مَأْربَ في أرضِ بلقيسَ، فمالَ إلى جهةِ الْخُضْرَةِ، فالتقَى بهُدهُدٍ من هدهُدِ سََبَأ، فقال لهُ : مِن أينَ أقبلْتَ وأينَ تريدُ ؟ قال : أقبلتُ من الشَّامِ مع نبيِّ الله سُليمانَ عليه السلام، قال لهُ : ومَن سليمانُ ؟ قال : مَلِكُ الإنسِ والجنِّ والشياطين والوحوشِ والطُّيور. ثُم قال له هدهدُ سُليمانَ : وأنتَ مِن أين أقبلتَ ؟ قال : مِن هذه البلادِ، قال : ومَن مَلِكُهَا ؟ قال : امرأةٌ يقالُ لها بَلْقِيْسُ ؛ مَلَكَتِ اليمنَ كلَّها وتحتَها اثنا عشرَ ألفَ قائدٍ، مع كلِّ قائدٍ مائة ألفِ مقاتل، فهل أنتَ منطلقٌ معي ننظرُ إلى مُلْكِها ؟ قال : أخافُ أن يَفْقِدَنِي سليمانُ في وقتِ الصَّلاة إذا احتاجَ إلى الماءِ، فقال لهُ هدهدُ بلقيس : إنَّ صاحبَكم يسرُّهُ أن تأتيهِ بخبرِ هذه الملكةِ. فانطلقَ معهُ ونظرَ إلى بلقيسَ ومُلكِها، وما رجعَ إلاّ وقتَ العصرِ.
قال : فلما نزلَ سليمانُ ودخلَ عليه وقتُ الصَّلاة، طلب الهدهدَ لأنه نزلَ غير ماءٍ، فسألَ الإنسَ عن الماءِ فقالُوا : ما نعلمُ هنا ماءً، فسأل الجنَّ والشياطينَ فلم يعلَمُوا، ففقدَ الهدهد فلم يجدْهُ، فدعا بعفريتِ الطير النِّسْر، فسألَهُ عن الهدهدِ، فقال : ما أدري أينَ ذهبَ، فغَضِبَ سليمانُ عند ذلك، وقالَ ﴿ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بحجَّة.
وعن النبيِّ ﷺ أنهُ قالَ :" كَانَ أحَدُهُمْ يُؤْتَى بَلْقِيْسَ جِنِّيّاً " فَلَمَّا مَاتَ أبُوهَا وَلَمْ يُخَلِّفْ أحَداً غَيْرَهَا طَمِعَتْ فِي الْمُلْكِ، فَطَلَبَتْ مِنْ قَوْمِهَا أنْ يُبَايعُوهَا، فَأَطَاعَهَا قَوْمٌ وَعَصَاهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، وَاخْتَارُواْ عَلَيْهَا رَجُلاً فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَافْتَرَقُواْ فِرْقَتَيْنِ، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ اسْتَوْلَتْ بمُلْكِهَا عَلَى طَرَفٍ مِنْ أرْضِ الْيَمَنِ.
ثُمَّ إنَّ هَذا الْمَلِكَ الَّذِي مَلَّكُوهُ أسَاءَ السِّيْرَةَ فِي أهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَتَّى كَانَ يَمُدُّ يَدَهُ إلَى حُرَمِ رَعِيَّتِهِ وَيَفْجُرُ بهِنَّ، فَأَرَادَ أصْحَابُهُ أنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُواْ، فَلَمَّا رَأتْ بَلْقِيْسُ ذلِكَ أدْرَكَتْهَا الْغَيْرَةُ، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، فَأَجَابَهَا إلَى ذلِكَ، وَقَالَ : مَا مَنَعَنِي أنْ أبْدَأكِ بالْخِطْبَةِ إلاَّ الْيَأْسُ مِنْكِ، فَقَالَتْ : إنِّي رَاغِبَةٌ إلَيْكَ لأَنَّكَ كُفْؤٌ كَرِيْمٌ، فَاجْمَعْ رجَالَ قَوْمي فَاخْطِبْنِي إلَيْهِمْ، فَجَمَعَهُمْ فَخَطَبَهَا إلَيْهِمْ فَقَالُواْ : لاَ نَرَاهَا تَفْعَلُ هَذا، قَالَ : إنَّهَا هِيَ الَّتِي ابْتَدَأتْنِي، فَذكَرُواْ لَهَا ذلِكَ، فَقَالَتْ : نَعَمْ ؛ لأَجْلِ الْوَلَدِ، وَلَمْ أزَلْ كُنْتُ كَارهَةً لِذلِكَ، فَالآنَ قَدْ رَضِيْتُ، فَزَوَّجُوهَا مِنْهُ.
فَلَمَّا زُفَّتْ إلَيْهِ خَرَجَتْ فِي نَاسٍ كَثِيْرٍ مِنْ خَدَمِهَا وَحَشَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَتْهُ سَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ، ثُمَّ حَزَّتْ رَأسَهُ وَانْصَرَفَتْ مِنَ اللَّيْلِ إلَى مَنْزِلِهَا، فَلَمَّا أصْبَحَ رَأوا الْمَلِكَ قَتِيْلاً وَرَأسُهُ مَنْصُوباً عَلَى رَأسِ دَارهَا، فَعَلِمُواْ أنَّ تِلْكَ الْمُنَاكَحَةَ كَانَتْ مَكْراً وَخَدِيْعَةً مِنْهَا، فَاجْتَمَعُواْ إلَيْهَا وَقَالُواْ لَهَا : أنْتِ أحَقُّ بهَذا الْمُلْكِ مِنْ غَيْرِكِ، فَقَالَتْ : لَوْلاَ الْعَارُ وَالشَّنَارُ مَا قَتَلْتُهُ، وَلَكِنْ عَمَّ فَسَادُهُ وَأَخَذتْنِي الْحَمِيَّةُ حَتَّى فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ، فَمَلَّكُوهَا فَأَسَّسَتْ أمْرَهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ؛ قال عطاءُ :(مِنْ زيْنَةِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْجُنُودِ)، ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾، أي سريرٌ من ذهَبٍ طولهُ ثَمانونَ ذِرَاعاً وعَرْضُهُ أربعونَ ذِراعاً وارتفاعهُ في السَّماء ثلاثونَ ذِراعاً مضروبٌ بالذهب مُكَلَّلٌ بالدُّرِّ والياقوتِ الأحمرِِ والزُّبُرْجُدُ الأخضرُ. قال مجاهدُ :(وَكَانَ تَحْتَهَا اثْنَا عَشَرَ ألْفَ قَيْلٍ - وَالْقَيْلُ بلُغَةِ الْيَمَنِ - تَحْتَ يَدَي كُلِّ قَيْلٍ ألْفُ مُقَاتِلٍ). وَقِيْلَ : كان سريرُها له أربعُ قوائمَ : قائمةٌ من ياقوتٍ أخضر، وقائمةٌ من ياقوتٍ أحمر، وقائمةٌ من زمُرُّد، وقائمةٌ من دُرٍّ، وصفائحُ السريرِ من ذهبٍ، وعليه سبعةُ أبياتٍ لكلِّ بيتٍ بابٌ مغلَقٌ.
قرأ الكسائيُّ والأعرجُ ويعقوب وحميدُ وأبو جعفرٍ :(ألاَ يَسْجُدُواْ) بالتخفيف : ألاَ يا هؤلاءِ اسْجُدُوا، جعلوهُ من أمرِ الله مستأنَفاً، وحذفُوا (هَؤُلاَءِ) اكتفاءً بدلالةِ (يَا) عليها، فعلى هذه القراءةِ (اسْجُدُواْ) في موضع جزمٍ على الأمرِ والوقفُ عليه (ألاَ يَا)، ثُم يبتدئُ (اسْجُدُوا)، وفي قراءةِ عبدِالله (هَلاَّ يَسْجُدُواْ للهِ). وقرأ الباقونَ (ألاَّ يَسْجُدُواْ) بالتشديدِ على معنى وزَيَّنَ لَهم الشيطانُ ألاَّ يَسْجُدُوا.
وقولهُ تعالى :(يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، الْخَبَأَُ : كلُّ ما غابَ عن الإدراك، مصدرٌ وقد وقعَ موقع المفعولِ كالْخَلْقِ بمعنى المخلوقِ والعلمِ بمعنى المعلومِ، وخبَأُ السَّموات : الأمطارُ، وخبأُ الأرض : النباتُ، فعلى هذا تكون (فِي) بمعنى (مِن). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ ؛ أي يعلمُ ما يُخفون في قُلوبهم، وما يُعلِنون بألسنتِهم، وفي قراءةِ الكسائيِّ بالتاء، لأنَّ أولَ الآية خطابٌ على قراءتهِ بتخفيف (ألاَ) يا اسجُدوا.
فلمَّا فَرَغَ الهدهدُ من كلامه، ﴿ قَالَ ﴾ ؛ سليمانُ للهدهدِ :﴿ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ ﴾ ؛ فيما أخبَرْتَنا به مِن هذه القصَّة، ﴿ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ فنعذِّبُك.
ثُم كتبَ سليمانُ كِتاباً خَتَمَهُ بخَاتَمٍ ودفعهُ إلى الهدهدِ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي إلى أهل سبأ. وقولهُ تعالى :﴿ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ﴾ ؛ أي انصرِفْ عنهم، وهذا على التقديْمِ والتأخيرِ، تقديرهُ :﴿ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ ؛ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ؛ لأن التولِّي عنهم بعد الجواب، ومعنى ﴿ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ أي ماذا يردُّونَ من الجواب. وَقِيْلَ : معناهُ :﴿ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ﴾ أي انْصَرِفْ عنهم قَليلاً إلى حيث لا يَرَوْنَكَ ﴿ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ أي يقولُون ويردون ويحسبون.
وكان كتابُ سُليمانَ عليه السلام : مِنْ عَبْدِ اللهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ إلَى بَلْقِيْسَ مَلِكَةِ سَبَأ، السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أمَّا بَعْدُ : فَلاَ تَعْلُوا عَلَيَّ وأتُونِي مُسْلِمِيْنَ. وقال ابنُ جريج :(لَمْ يَزِدْ سُلَيْمَانُ عَلَى نَصِّ اللهِ كِتَابهِ). فلمَّا كَتَبَ الكتابَ طَبَعَهُ بالْمِسْكِ وخَتَمَهُ بخاتَمهِ، وقال للهُدهدِ : اذْهَبْ بهِ، فأخذ الكتابَ بمنقارهِ وذهبَ به.
فلما أغلقَتِ المرأةُ الأبوابَ دونَها ونامَتْ على سريرِها، ووضعت المفاتيحَ تحت وسادَتِها، فأتَى بها الهدهدُ من الكُوَّةِ وهي نائمةٌ مستلقية على قَفَاهَا، فألقى الكتابَ على وجهِها ونبَّهَها بمنقارهِ وصوتهِ، فأخذتِ الكتابَ، وكانت كاتبةً قارئة عربيَّة من تُبَّعِ سراحيل الْحِمْيَرِيِّ، فقرأتِ الكتابَ وناخَرَ الهدهدُ غيرَ بعيدٍ، فدعت بذوي الرَّأيِ من قومِها وهم اثنا عشرَ ألفَ قائدٍ مع كلِّ قائد مائة ألفِ مُقاتلٍ.
وقال قتادةُ :(كَانَ أهْلُ مَشُورَتِهَا ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً) فجَاؤُا إليها، و ﴿ قَالَتْ ﴾ لَهم :﴿ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ ؛ أي حَسَنٌ، وَقِيْلَ : شريفٌ، وَقِيْلَ : مَخْتُومٌ، قال ﷺ :" كَرَامَةُ الْكِتَاب خَتْمُهُ " وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ ﴾ ؛ أي الكتابُ مِن سليمانَ، ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ ؛ المكتوب، ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ ﴾ أي لا تَستَكِبُروا، ﴿ عَلَيَّ ﴾ ولا ترَفَّعُوا علَيَّ، ﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ ؛ منقادِين طائعين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ ﴾ بدلٌ من (كِتَابٌ) وموضعهُ على هذا القولِ رفعٌ، ويجوزُ أن يكون نَصباً على معنى بأن لاَ تَعْلُوا عَلَيَّ. وَقِيْلَ : معنى قوله ﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ أي مُؤمِنين باللهِ ورسولهِ مِن الإسلامِ الذي هو دِينُ اللهِ. وَقِيْلَ : مُستَسْلِمين لأَمْرِي فيما أدعُوكُم إليه، فإنِّي لا أدعُوكُم إلاّ إلى حقٍّ، فأطيعُونِي قبلَ أن أكْرِهَكُم على ذلكَ.
ثُم قالُوا :﴿ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ ﴾ ؛ أي في القتالِ وتَرْكِهِ إن أمَرْتِنا بالقتالِ قاتلناهُ، وإنْ أمَرْتِنا بغيرِ ذلك فعلناهُ، وذلك معنى قولهِ :﴿ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ أي ماذا تُشِيرِينَ علينا.
قال اللهُ تصديقاً لَها :﴿ وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ ؛ أي كما قالَتْ هُم يفعلُونَ. ومعنى الآية : أنَّها حذرَتْهُمْ مسيرَ سُليمانَ إليهم ودخولَ بلادِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ ؛ وذلك أنَّها لَمَّا تدبَّرَتْ في أمرِها قَوَّتِ الْمُلاطفةَ بالْهَدايَا، وكانت مِن أولادِ الملوكِ، تعرفُ عادتِهم وحُسْنَ مواقع الهدايا عندَهم، فإنَّ ذلك هو الأَولى، وكانت بلقيسُ امرأةً لَبيْبَةً أدِيْبَةً، فقالَت بهذا القولِ اختِبَاراً لسليمانَ : أمَلِكٌ هو أم نَبيٌّ ؟ فإن كان مَلِكاً قَبلَ الْهَدايا وتَرَكَ الوُصولَ إلى بلدِها، وإنْ كان نَبيّاً لَم يرضَ بالْهَدِيَّةِ، ولا يُرضِيه إلاّ أن تَتَّبعَهُ، فهيَّأَتِ الْهَدايا من الْمِسْكِ والعَنْبَرِ والعُودِ وغيرِ ذلك، وأهدت له خَمسَمِائَةِ عبدٍ وخَمسَمِائَةِ جَاريةٍ، وأهدَتْ له أيضاً صِحَافَ الذهب وخمسَمائة لَبنَةٍ من ذهبٍ وخمسَمائة لَبنَةٍ من فِضَّةٍ، وتَاجاً مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوتِ.
وفي الخبر : أنَّ سُليمانَ عليه السلام لَمَّا عَلِمَ بالْهَدايَا قَبْلَ أنْ تَصِلَ إليه أمَرَ أنْ يضرَبَ لَبنَاتٍ مِن الذهَب أحسنَ وأجودَ مما كانَ مع رسُولِها، وأمَرَ أن تُلْقَى تلك اللَّبنَاتُ بين قوائمِ الدَّواب حتى تَرُوثَ وتَبُولَ عليها، فلمَّا رأى ذلك الرسولُ استخَفَّ الهديَّةَ التي كانت معهُ، وكانت بلقيسُ قد قالت لرسُولِها : إذا دخلْتَ عليهِ، فَإذا نَظَرَ إليكَ نَظَرَ غَضَبٍ، فَاعْلَمْ أنَّهُ مَلِكٌ يَهُولَنَّكَ منظرهُ، فأنا أعَزُّ منه، وإنْ نَظَرَ إليكَ بوجهٍ طَلِقٍ فإنه نَبيٌّ مرسلٌ، فتَفَهَّمْ قولَهُ ورُدَّ الجوابَ. فَانْطَلَقَ الرسولُ بالْهَدايا ومعهُ الْهُدهُدُ مُسْرِعَين إلى سليمانَ.
فلمَّا وَصَلَ الرسولُ إلى سليمانَ وجَدَهُ قاعداً في مجلسهِ على سريره، وعلى يَمينه أربعةُ آلاف كرسِيٍّ من ذهبٍ، وعن يساره مثلُ ذلكَ، وقد اصطَفَّتِ الإنسُ صُفوفاً وفراسِخَ، واصطَفَّتِ الجنُّ والشياطينُ والوحوش والسِّباع والْهَوَامُّ والطيرُ كذلك صُفوفاً وفراسخَ، عن يَمينهِ ويسارهِ.
فلما رَأوا الشياطينَ نظَرُوا إلى منظرٍ فَضِيعٍ ففَزِعُوا منهم، فقالت لَهم الشياطينُ : جُوزُوا فَلا بأسَ عليكم، فكانوا يَمرُّونَ على كلٍّ كرُؤوسٍ من الجنِّ والإنس والطيرِ والوحوش حتى وقَفُوا بين يدَي سليمانَ، فنظرَ إليهم نَظَراً حَسَناً بوجهٍ طَلِقٍ، وقال : ما ورَاءَكم؟
فأخبَرَهم رئيسُهم بما جَاءُوا به من الْهَدِيَّةِ، وأعطاهُ كِتَاباً من الملكةِ، فنظرَ فيه، ثُم قالَ لرسُولِها :﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ﴾ ؛ أي بعَسَاكِرَ لا طاقةَ لَهم بها، ﴿ وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ ﴾ ؛ مِن بلادِهم، ﴿ أَذِلَّةً ﴾ ؛ مغلولةً أيْدِيهم إلى أعناقِهم، ﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ ؛ أي مُهَانُونَ.
فلمَّا أخبَرَها الرسولُ بذلكَ، قالت : قد عرفتُ ما هذا بمَلِكٍ، وما لَنَا من طاقةٍ ولا ينبغِي لنا مخالفتهُ، فتجهَّزَت للميسرِ إليه، ثُم عمَدَتْ إلى سرِيرِها فوضتعْهُ في سبعةِ بيوت مقفلة الأبواب، بيتٌ فوقَ بيتٍ وجعلته في الطَّبقة السابعةِ، وجعلتِ الجيوشَ حولَهُ وخرجَتْ متوجِّهة إلى سليمانَ.
فجاءَ جبريلُ عليه السلام إلى سليمانَ وأخبرَهُ بمجِيئها إليه، ﴿ قَالَ ﴾ سليمانُ :﴿ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ﴾ ؛ أي سَريرِ مُلكِها، ﴿ قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ ؛ أي مُؤمنينَ، وَقِيْلَ : صَاغِرِين مُستَسْلِمين منقادينَ.
وإنَّما خَصَّ العرشَ بالطلب ؛ لأنه أعْجَبَهُ صِفَتُهُ، فأحبَّ أن يُعاتِبَها به، ويختبرَ عقلَها به إذا رأتْهُ، تعرفهُ أم تُنكِرهُ، وأحبَّ أن يُرِيَها قدرةَ اللهِ في معجزةٍ يأتِي بها في عرشِها، وأحبَّ أن يأخُذ عرشَها قَبْلَ أنْ تُسْلِمَ، فلا يحلُّ أخذُ مالِها بعدَ الإسلامِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾.
قِيْلَ : إنَّها سارَتْ إلَى سليمانَ في اثنَى عشرَ ألفَ قِيْل، تحتَ كلِّ قِيْل ألُوفٌ كثيرةٌ، فخرجَ سليمانُ ذات يومٍ وإذا هو يَرَى هَرَجاً قريباً منهُ، فقال : ما هَذا ؟ قالوا : بلقيسُ، قال : نزلَتْ منَّا بهذا المكانِ. قال ابنُ عبَّاس :(وَهُوَ مَكَانٌ بَيْنَ الْحِيْرَةِ وَالْكُوفَةِ بُعَيْدَ فَرْسَخٍ) فأقبلَ حينئذ سليمانُ على جنودهِ، وقال :﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ؟ ﴾.
واختلفَ أهلُ العلمِ في السَّبب الذي لأجلهِ أمرَ سليمانُ بإحضار عرشِها، قِيْلَ : أنْ يَحْرُمَ عليه أخذهُ بإسلامِها. وقال قتادةُ :(إنَّهُ أعْجَبَهُ صِفَتُهُ لَمَّا وَصَفَهُ لَهُ الْهُدْهُدُ، فَأَحَبَّ أنْ يَرَاهُ)، وقال ابنُ زيدٍ :(أرَادَ أنْ يَخْتَبرَ عَقْلَهَا بتَنْكِيْرِ عَرْشِهَا وَلِيَنْظُرَ هَلْ تَعْرِفُهُ إذا رَأتْهُ أوْ تُنْكِرُهُ)، وَقِيْلَ : لِيُرِيَها قدرةَ اللهِ وعِلْمَ سُلْطانهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ ؛ أي من مجلسِ قضَائِكَ، وكان سليمانُ يجلسُ للقضاء من الغَدَاةِ إلى انتصافِ النَّهار، وقال مقاتلُ :(قَالَ الْعِفْريْتُ : أنَا أضَعُ قَدَمِي عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِي، فَلَيْسَ شَيْءٌ أسْرَعُ مِنِّي) ﴿ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ ؛ أي قَوِيٌّ على حملهِ، أمينٌ على ما فيهِ مِن الذهب والجواهرِ. فقال سليمانُ : أريدُ أسرعَ مِن ذلكَ.
وقولهُ تعالى :﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ ؛ قال ابنُ جبير :(قَالَ لِسُلَيْمَانَ : انْظُرْ إلَى السَّمَاءِ، فَمَا طَرَفَ حَتَّى جَاءَ بهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ). والمعنى : حتى يعودَ إليك طَرْفُكَ بعد مَدِّهِ إلى السَّماء. وَقِيْلَ : معناهُ : بقدر ما تفتحُ عينَيْكَ، وهذا الكلامُ عبارةٌ عن المبالغةِ في السُّرعةِ.
قال محمَّدُ بن اسحق :(انْخَرَقَ مَكَانُ عَرْشِهَا حَيْثُ هُوَ، ثُمَّ نَبَعَ بَيْنَ يَدَي سُلَيْمَانَ) ومثلُ هذا رُويَ عن ابنِ عبَّاس. وقال الكلبيُّ :(خَرَّ آصِفُ سَاجِداً وَدَعَا بالاسْمِ الأَعْظَمِ، فَغَارَ عَرْشُهَا تَحْتَ الأَرْضِ حَتَّى نَبَعَ عِنْدَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ).
قال أهلُ المعانِي : لا يُنْكَرُ من قدرةِ الله " نقله " من حيث كانَ، ثُم يوجدهُ حيث كانَ سليمانُ بالأفضلِ، لدعاءِ الذي عندَهُ علمٌ من الكتاب، ويكونُ ذلك كرامةً للولِيِّ ومعجزةً للنبيِّ.
واختلَفُوا في ذلكَ الدُّعاءِ الذي دعَا به آصِفُ، فقال مقاتلُ ومجاهد :(يَا ذا الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ)، وقال الكلبيُّ :(يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ)، وَقِيْلَ : قالَ له سليمانُ : قد رأيتُكَ تُرْجِعُ شفَتيكَ فَمَا قُلْتَ ؟ قالَ : قلتُ : إلَهِي وَإلَهَ كلِّ كل شيء واحدٌ لا إلهَ إلاّ أنتَ إئْتِ بهِ. وقال بعضُهم : هو يا إلَهَنَا وإلهَ كلِّ شيء، يا ذا الجلالِ والإكرامِ لا إلهَ إلاّ أنتَ. وقال الحسنُ :(اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ : يَا رَحْمَنُ، وَذلِكَ أنَّهُ لاَ يُسَمَّى أحَدٌ بهَذيْنِ الاسْمَيْنِ عَلَى الإطْلاَقِ غَيْرُ اللهِ عَزَّ وَجلَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً ﴾ ؛ أي فلمَّا رأى سليمانُ العرشَ مستَقِرّاً، ﴿ عِندَهُ ﴾، نَابتاً بين يديهِ، ﴿ قَالَ هَـاذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ﴾ ؛ أي هذا التمكينُ من حصولِ المراد من حصولُ فَضْلِ اللهِ وعطائهِ، ﴿ لِيَبْلُوَنِي ﴾ ؛ أي ليَخْتَبرَنِي ويَمْتَحِنَني على هذه النعمةِ، ﴿ أَأَشْكُرُ ﴾ ؛ أأشكرهُ فيما أعطانِي من نعمةٍ، ﴿ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ ؛ أي أتركُ شُكرَها، ﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ ؛ أي مَن شَكَرَ نعمةَ ربهِ فإنَّما منفعةُ شُكْرِهِ راجعٌ إلى نفسهِ، يعني ثوابَ شُكرِهِ يعودُ إليه، ﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ ؛ أي تَرَكَ شُكْرَ نعمتهِ، ﴿ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ ﴾ ؛ عنهُ وعن شُكرهِ، ﴿ كَرِيمٌ ﴾ ؛ يقبلُ الشُّكْرَ ؛ أي ويزيدُ عليه في النعمةِ في الدُّنيا ويثيبُ عليه في العُقبَى.
وقال عكرمةُ :(كَانَتْ حَكِيْمَةً، قَالَتْ : إنْ قُلْتُ هُوَ هُوَ خَشِيْتُ أنْ أكْذِبَ، وَإنْ قُلْتُ لاَ خَشِيْتُ أنْ أكْذِبَ) فلَم تقُلْ نَعَمْْ، ولا قالت لاَ ؛ لأنه كان يشبهُ سريرَها، وشكَّتْ في وصولهِ إلى سليمانَ بعد أن وضعتْهُ في أحصَنِ المواضعِ، وشَكَّتْ أيضاً لِمَا أحدثُوا فيه من التغيُّرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ ؛ هذا من قولِ سُليمانَ عليه السلام وقومَهُ، أي قالُوا : وأُعطينا العلمَ بها وبمُلكِها وسريرِها من قبلِ مَجيئِها، وهو ما أخبرَ به الهدهدُ من شأنِها وقصَّتِها، وقالوا : وَكُنَّا مُسْلِمِيْنَ بحمدِ الله عَزَّ وَجَلَّ من قبلِ مشاهدةِ المعجزات، وهذا قولُ مجاهدٍ.
وقال بعضُهم : هذا قولُ من بلقيسَ لَمَّا رأت عرشَها قالت : وَأُوتِينَا العلمَ بصحَّة نبوَّة سليمانَ عليه السلام من قَبْلِ الآيةِ في العرضِ وكنا مُسْلِمِيْنَ طائعينَ منقادين لأمرِ سُليمانَ عليه السلام قبلَ أن نجيءَ إليه.
قًوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ ؛ أي إنَّها كانت من قومٍ يعبدونَ الشَّمسَ، فنشأَتْ في ما بينِهم. وقال بعضُهم معنى قولهِ :﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ أيْ صَدَّهَا سليمانُ ؛ أي منعَها ذلك، وحالَ بينَهُ وبينَها، فعلى هذا يكون موضعُ (مَا) نصباً.
وَقِيْلَ : إنَّ سليمانَ عليه السلام إنَّما أمَرَ ببناءِ الصَّرحِ ؛ لأن الجنَّ كانوا قد أخبَروهُ أن رجلَها رجْلُ حِمَارٍ، وإنَّها شعراءُ الرِّجْلَين ؛ لأن أُمَّهَا كانت من الجنِّ، فخَافُوا أن يتزَوَّجَها فتُفشِي إليه أسرارُ الجنِّ، فأرادُوا أن يُزهِدُوهُ فيها بهذا الكلامِ، وقالوا لَهُ أيضاً : إنَّ في عقْلِها شيءٌ، فأرادَ أن يختبرَ حقيقةَ قولِهم أنَّ رجْلَها كحافِرِ الحمار، ولينظُرَ إلى سَاقِها هل به شَعْرٌ كما قالوا ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ﴾ أي القَصْرَ، وَقِيْلَ : صَحْنُ القصرِ.
قال الزجَّاجُ :(والصَّرْحُ : الْقَصْرُ والصَّحْنُ، يُقَالُ : هَذِهِ سَاحَةُ الدَّار وصُرْحَةُ الدار). والصَّرْحُ في اللغة : هو البَسْطُ المنكشفُ من غير سَقْفٍ، ومنهُ صَرَّحَ بالأمرِ إذا أفصحَ به ولَم يُكَنِّ عنهُ، والتصريحُ بخلافِ التَّضميرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا رَأَتْهُ ﴾ ؛ أي فلمَّا رأتْ بلقيسُ الصَّرْحَ على تلك الصِّفةِ، ﴿ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾ ؛ واللُّجَّةُ مُعْظَمُ الماءِ الكثيرِ، ﴿ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ﴾ ؛ أي رَفَعَتْ ثِيابَها عن ساقيها حتى لا تَبْتَلَّ ثيابُها على ما هو العادةُ من قصدِ الماء. قال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا كَشَفَتْ سَاقَهَا رَأى سُلَيْمَانُ قَدَماً لَطِيْفاً وَسَاقاً حَسَناً خَدْلَجاً، إلاَّ أنَّهَا كَثِيْرَةُ شَعْرِ السَّاقَيْنِ). فَلمَّا رأى سليمانُ ذلك صَرَفَ بصرَهُ عنها، ونادَها :﴿ قَالَ إِنَّهُ ﴾، ليس هذا بماءٍ، وإنَّما هو، ﴿ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ ﴾ ؛ أي مُمَلَّسٌ من زُجاجٍ، فلا تَخافِي وَاعبُرِي عليهِ، فلمَّا رأتِ السَّريرَ والصَّرْحَ عَلِمَتْ أنَّ مُلْكَ سليمانَ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، و ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ ؛ بعبادةِ الشَّمسِ، ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي أخْلَصْتُ التوحيدَ.
والمعنى : أنَّ بلقيسَ اسْتَدَلَّتْ بما شاهدَتْ على وحدانيَّة اللهِ وصِحَّةِ نُبوَّةِ سُليمانَ بما رَأتْ مِن شِدَّةِ قوَّتهِ وما كان مِن تَرَسُّلِ الطيرِ له، وإحضار عَرشِها في أسرعِ مدَّة على بُعْدِ المسافةِ. وَبناءِ الصَّرحِ من القََوَاريْرِ على وجهِ الماء، فلذلكَ قالَتْ :﴿ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فتزوَّجَها سليمانُ عليه السلام.
وَقِيْلَ : لَمَّا أرادَ سليمانُ أن يتزوَّجَها كَرِهَ ذلك لِمَا رأى من كَثْرَةِ شَعْرِ ساقيها، فسألَ الإنسَ : ما يُذْهِبُ هذا ؟ قالُوا : الْمُوسى، فقال : إنَّها تقطعُ ساقَيها، فسألَ الجِنَّ فقالوا : لا نَدري، ثُم سأَلَ الشياطينَ فقال لَهم : كيفَ لِي أن أقلعَ هذا الشَّعْرَ من غير مضَرَّةٍ للجسدِ ؟ فدلُّوه على عَمَلِ النُّورَةِ، وكانت النُّورَةُ والحمَّامَاتُ من يومئذٍ، فاتَّخَذُوا لَها النُّورَةَ والحمَّامَ، وتزَوَّجَها سليمانُ عليه السلام، فلما تزوَّجَها أحبَّها حُبّاً شديداً، وأقرَّها على مُلْكِهَا، وأمَرَ الجنَّ بأَنْ يَبْنُوا لَها بأرضِ اليَمَنِ ثلاثةَ حُصُونٍ لَم يُرَ مِثلُها حُسْناً وارتفاعاً ؛ وهي سَيْلَحِيْنَ وَسُونَ وَغَمَدَانَ، ثُم كان سليمانُ يَزُورُهَا في كلِّ شهرٍ مرَّةً بعد أن رَدَّهَا إلى مُلكِها، ويقيمُ عندَها ثلاثةَ أيَّام، وولدت لَهُ أولاداً في ما ذُكِرَ.
ورُويَ أنَّ رَجُلاً جاءَ إلى عبدِالله بن عُتْبَةَ وسألَهُ : هل تَزَوَّجَ سليمانُ بلقيسَ ؟ فقالَ :(عَهْدِي بهَا أنْ قَالَتْ : وَأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَب الْعَالَمِيْنَ) يَعنِي أنهُ لا يَعلَمُ ذلكَ.
وإنَّما ذُكِرَ التطيُّرُ بلفظِ التَّشَائُمِ على عادةِ العَرَب في نِسْبَتِهِمُ الشُّؤْمَ إلى ما يَأْتِي من الطَّيرِ ناحيةَ اليَدِ الشِّؤمَى وهي اليُسْرَى، ويُسَمُّونَ الطَّيرَ الذي يأتِي من ناحية اليد اليُسْرَى البَارحُ، وأما الطَّيْرُ الذي يأتِي من ناحيةِ اليد اليُمْنَى فهو السَّانِحُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي قال لَهم صالِحُ عليه السلام رَدّاً عليهم :﴿ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ﴾ أي الشُّؤْمُ أتَاكُم من عندِ الله بكُفْرِكُمْ، وهذا الذي أصَابَكم من الْجَدْب والخصب عندَ الله مكتوبٌ عليكم، لاَزمٌ لاكم في أعنَاقِكم وليسَ ذلك إلَيَّ ولا علمهُ عندِي، وهذا كقولهِ﴿ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ ﴾[الأعراف : ١٣١].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ ؛ أي تَخْسَرُونَ في الدُّنيا باختلافِ الأحوالِ من الخير والشرِّ. وَقِيْلَ : معناهُ : بل أنتُمْ قومٌ تُعَذبُونَ بذُنُوبكُمْ. وَقِيْلَ : تُمْتَحَنُونَ بإرسَالِي إليكُم لِتُثَابُوا على مُتابَعَتِي، وتُعَاقَبُوا على مُخَالَفَتِي. وَقِيْلَ : بمعنى (تَفْتَنُونَ) أي تُعاقَبون كما في قولهِ تعالى :﴿ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ﴾[الذاريات : ١٤] أي عُقوبَتَكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ ؛ فيما نقولُ، وقرأ عاصمُ برواية أبي بكرٍ (مَهْلَكَ) بفتحِ الميم واللامِ، والْمَهْلَكُ : يجوز أن يكونَ مصدراً بمعنى الإهْلاَكِ، ويجوزُ أن يكون الموضعُ. ورَوَى حفصٌ عن عاصمٍ (مَهْلِكَ) بفتح الميم وكسرِ اللاَّم وهو اسمُ المكانِ على معنى : مَا شَهِدْنَا مَوْضِعَ هَلاكِهم.
قال الزجَّاجُ :(تَحَالَفَ هَؤُلاَءِ التِّسْعَةُ عَلَى أنْ يُبَيِّتُواْ صَالِحاً وَأهْلَهُ، ثُمَّ يُنْكِرُواْ عِنْدَ أوْلِيَائِهِ، وَكَانَ هَذا مُنْكَراً عَزَمُواْ عَلَيْهِ)، كما قالَ تعالى :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ ؛ أي دَبَّرُوا في أمرِ صالِح عليه السلام وأهلَهُ من حيث لَم يَشْعُرْ بهم صالح ولاَ أهلهُ، ﴿ وَمَكَرْنَا مَكْراً ﴾ بما أرَدْنا فيهم.
قرأ الحسنُ وأهل مكَّة والأعمشُ (أنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) بفتحِ الهمزةِ ولذلكَ وَجْهان في أحدِهما : أنْ تكون بدلاً في محلِّ الرفعِ تَبَعاً للعاقبةِ، كأنَّهُ قال : العاقبةُ أنَّا دمَّرْنَاهُمْ. والثانِي : أنَّ موضِعَها نُصِبَ على خبرِ كَانَ، تقديرهُ : كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ التَّدْمِيْرَ. وقرأ الباقونَ بالكسر على الابتداء وهو تفسيرُ ما كان قبلَهُ مثلَ قولهِ﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ﴾[عبس : ٢٤-٢٥].
والتدميرُ : هو الإهلاكُ على وجهٍ عظيم قطيعٍ. واختلَفُوا في كيفيَّةِ هلاكِهم، قال ابنُ عبَّاس :(أرْسَلَ اللهُ الْمَلاَئِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إلَى دَار صَالِحٍ يَحْرُسُونَهَا، وَجَاءَتِ التِّسْعَةُ إلَى دَار صَالِحٍ شَاهِرِيْنَ سُيُوفَهُمْ، فَرَمَتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ بالْحِجَارَةِ مَنْ حَيْثُ كَانُواْ يَرَوْنَ الْحِجَارَةَ وَلاَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ فَقَتَلَتْهُمْ). وقال مجاهدُ :(نَزَلُواْ فِي سَفْحِ جَبَلٍ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً لِيَأْتُوا دَارَ صَالِحٍ، فَخَتَمَ عَلَيْهِمْ الْجَبَلُ فَأَهْلَكَهُمْ وَأهْلَكَ اللهُ قَوْمَهُمْ أجْمَعِيْنَ بصَيْحَةِ جِبْرِيْلَ عليه السلام).
وَقِيْلَ :(خَاويَةً) نُصِبَ على القطعِ، تقديرهُ : فتِلْكَ بُيوتُهم الخاويةَ، فلما قُطِعَ منها الألفُ واللام نُصِبَ، كقولهِ﴿ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً ﴾[النحل : ٥٢]. وقرأ عيسَى بن عمر (خَاويَةٌ) بالرفعِ على الخبر.
قولهُ تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي إنَّ في إهلاكِنا إيَّاهُم لَدَلاَلةٌ ظاهرةٌ وعِبرَةٌ لِمن عَلِمَ توحيدَ الله وقدرتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؛ أي أنْجَيْنَا الذينَ آمَنُوا بصالِحٍ من العذاب ﴿ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ ؛ الشِّركَ والعقابَ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ قال يعني الانبياءَ الذي اختارَهم اللهُ لرسالَتِهِ، وقال ابنُ عبَّاس :(هُمْ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)، وقال الكلبيُّ :(هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالَّذِيْنَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ)، ومعنى السَّلاَمِ عليهم : أنَّهم سَلِمُوا مِمَّا عُذِّبَ به الكفارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ؛ أي قُلْ لأهلِ مكَّةَ : أعِبَادَةُ اللهِ أفضلُ أم عبادةُ مَن تُشرِكُونَ به مَن دُونَهُ من الأصنامِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، قَالَ :" اللهُ أبْقَى وَأجَلُّ وَأكْرَمُ مِمَّا تُشْرِكُونَ " قرأ عاصمُ وأهلُ البصرةِ (أمَّا يُشْرِكُونَ) بالياءِ، وقرأ الباقون بالتَّاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾ ؛ هذا نَفْيٌ، يعني ما قَدِرْتُمْ عليهِ، والمعنَى : ما ينبغي لكم ذلكَ ؛ لأنَّكُم لا تقدرونَ عليها، ثُم قال اسْتِفْهَاماً مُنْكِراً عَلَيْهم :﴿ أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي هل معَهُ معبودٌ سِوَاهُ أَعَانَهُ على صُنعهِ في خَلْقِ هذه الأشجار. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ ؛ يعني كُفَّارَ مكَّةَ قومٌ يَعْدِلُونَ الأصنامَ بخالِقِهم بجَهلِهم. وَقِيْلَ :(يَعْدِلُونَ) أي يُشرِكُونَ باللهِ غيرَهُ. وَقِيْلَ : يَمِيلُونَ عن الطريقِ وعن النَّظرِ في الدَّلائلِ المؤدِّية إلى العِلْمِ بوحدانيَّةِ اللهِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً ﴾ ؛ أي جَعَلَ وسَطَ الأرضِ أوديةً وعُيوناً من عَذْبٍ وَمَالِحٍ، ﴿ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾ ؛ أي جَعَلَ على الأرضِ جِبَالاً ثوابتَ وأوديةً أوتاداً لها، ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً ﴾ ؛ أي بين الْمِلْحِ والعَذْب مانِعاً بلُطفهِ وقدرتهِ فلا يختلطُ أحدُهما بالآخرِ، ولا يبغِي أحدُهما على صاحبهِ، وقولهُ تعالى :﴿ أَإِلَـاهٌ مَّعَ الله ﴾ ؛ أي مع اللهِ إلهٌ فَعَلَ شيئاً من هذهِ الأشياء، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَْْ ﴾ ؛ توحيدَ ربهم وسلطانه وقدرتهِ.
وقولهُ تعالى :﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ ؛ الْمُضْطَرُّ : الْمَكْرُوبُ الْمَجْهُودُ المدفوعُ إلى ضيقٍ من الأمُور من غَرَقٍ أو مرضٍ أو بلاء أو حبسٍ أو كَرْبٍ إذا دعاهُ، ﴿ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ ؛ فيكشِفُ ضُرَّهُ ويفرجُ عنه فيبعدهُ مِن الغَرَقِ وينجيهِ ويَشفيهِ من المرضِ. ويعافيهِ من البلاء. وقال السديُّ :(الْمُضْطَرُّ الَّذِي لاَ حَوْلَ لَهُ وَلاَ قُوَّةَ)، وقال ذُو النُّونِ :(هُوَ الَّّّذِي قَطَعَ الْعَلاَئِقَ عَمَّا دُونَ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ ﴾ ؛ أي يأتِي بقومٍ بعد قومٍ، ويخلقُ قَرْناً بعد قَرْنِ، وكلَّما أهْلَكَ قَرْناً أنشأَ آخَرِينَ، فيكون كلٌّ خلفاءٌ لِمَنْ قبلَهم. وقولهُ تعالى :﴿ أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي إلَهٌ سِوَى اللهِ فَعَلَ ذلكَ، ﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ أي قَلِيلاً ما تتَّعِظُونَ.
وقال السديُّ :(اجْتَمَعَ عِلْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَشُكُّواْ وَلَمْ يَخْتَلِفُواْ). وقال مقاتلُ :(بَلْ عَلِمُواْ فِي الآخِرَةِ حِيْنَمَا عَايَنُوهَا مَا شَكُّواْ فِيْهِ وَعَمَواْ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا). ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾ ؛ أي بل هُم اليومَ في الدُّنيا في شَكٍّ من السَّاعةِ، ﴿ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ ؛ جمع عَمٍ، وهو عَمِيُّ القلب، وَقِيْلَ : معنى ﴿ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ مُتَحَيِّرُونَ بتَرْكِ التأمُّلِ، يقال : رجلٌ عَمِهٌ وَعَامِهٌ وعَمٍ، إذا كان مُتَحَيِّراً، وقومٌ عَمُونَ ؛ أي مُتَحَيِّرُونَ، ويجوزُ أن يكونَ معنى (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) أي لَحِقَ علمُهم ذلكَ بما نُصِبَ لَهم من الأدلَّةِ، بل هم في شكٍّ منها بتركِ التأمُّلِ.
والمعنى : أنَّ الله تعالى أمَرَ نَبيَّهُ ﷺ أن يقولَ للذين يَسْتَعْجِلُونَ بالعذاب : قد دَنَا لكم بعضُ ما تستعجِلُون، فكان بعضُ الذي دَنَا لهم القتلُ ببَدْرٍ، والقَحْطُ الذي سُلِّطَ عليهم عُقَيْبَ هذه الآيةِ حتى أكَلُوا الْجِيَفَ، والمعنى في ﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾ أي رَدِفَكُمْ، فأدخلَ اللاَّمَ فيه كما أدخَلَها في قولهِ تعالى :﴿ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾[الأعراف : ١٥٤] و﴿ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ ﴾[يوسف : ٤٣]، قال الفرَّاء :(اللاَّمُ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، كَمَا يَقُولُونَ نَقَدْتُهُ ونَقَدْتُ لَهُ).
وقرأ حمزةُ والأعمش :(وَمَا أنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) بالتَّاء ونصب الياء على الفعلِ ها هنا وفي الرُّومِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ﴾ ؛ ما سَمِعَ سَماع إفهامٍ إلاّ مَن يؤمنُ بآياتِنا ويطلبُ الحقَّ بالنظرِ في القُرْآنِ. وقال مقاتلُ :(إلاَّ مَنْ يُصَدِّقُ بالْقُرْآنِ أنَّهُ مِنَ اللهِ) ﴿ فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴾ ؛ أي مُخلِصُونَ بتوحيدِ الله، والمعنَى ما سَمِعَ دعوتَكَ سَماعَ القَبُولِ إلاّ مَن يطلبُ الحقَّ بالنظرِ في آياتِ الله، فلا بدَّ أن يُسْلِمَ في ظهور الدَّلائِلِ.
ورُوي أنه تخرجُ بين الصَّفَا والْمَرْوَةِ، ولا تُخْرِجُ إلاّ رأسَها وعنُقَها، فيبلغُ رأسُها السحابَ فيراها أهلُ المشرقِ والمغرب فيَسْمَعُونَ كلامَها باللِّسانِ، فتقولُ لَهم : أيُّها الكُفَّارُ مصيرُكم إلى النار، ثُم تُقبلُ على المؤمنينَ فتقولُ : أيُّها المؤمنونَ مصيرُكم إلى الجنَّةِ، فتُمَيِّزُ عند ذلك أهلَ الجنَّة مِن أهلِ النار.
ويجوزُ أن يكون قولهُ ﴿ تُكَلِّمُهُمْ ﴾ مِن الكَلْمِ وهو الْجَرَاحَةُ، كما رُوي في قراءةِ ابنِ عبَّاس (تَكْلِمُهُمْ) بنصب التاء وكسرِ اللام ؛ أي تَسِمُهُمْ، تكتبُ على وجهِ الكافرِ : إنَّهُ كَافِرٌ، وعلى جَبينِِ المؤمن : إنَّهُ مُؤْمِنٌ.
قال أبُو هريرةَ :(إنَّهَا تَخْرُجُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ)، وعن ابنِ عَمرو بن العاص أنه قالَ :(تَكْتُبُ عَلَى وَجْهِ الْكَافِرِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، فَتَعْثُوا فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَسْوَدَّ وَجْهُهُ، وَتَكْتُبُ عَلَى وَجْهِ الْمُؤْمِنِ نُكْتَةً بَيْضَاءَ، فَتَعْثُوا فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَجْهُهُ، فَتَعْرِفُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ عِنْدَ ذلِكَ). وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنهُ قال :(إذا تَرَكَ النَّاسُ الأَمْرَ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِِ الْمُنْكَرِ كَانَ ذلِكَ الْوَقْتُ وَقْتُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّابَّةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنَّ النَّاسَ ﴾ ؛ قرأ أهلُ الكوفةِ ويعقوب (أنَّ النَّاسَ) بفتحِ الألفِ على وجه الحكايةِ من قولِ الدَّابة وعلى معنى : أخْرَجْنَا الدَّابَّةَ بأنَّ الناسَ ﴿ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ ﴾ ؛ وقرأ الباقونَ بالكسرِ على الابتداء.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قال رسولُ اللهِ ﷺ :" " بئْسَ الشِّعْبُ جِيَاد - مرَّتَين أو ثَلاثاً - " قَالُوا : وَلِمَ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :" تَخْرُجُ مِنْهُ الدَّابَّةُ، فَتَصْرُخُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ يَسْمَعُهَا مِنْ بَيْنِ الْخَافِقَيْنِ " ".
وقال بعضُهم : كنتُ مع ابنِ عبَّاس بمكَّة، فبينما هو على الصَّفا إذْ قَرَعَ الصَّفا بعصاةٍ وهو مُحْرِمٌ وهو يقولُ : إنَّ الدابةَ تسمعُ قَرْعَ عَصَايَ هذهِ، قال ابنُ عبَّاس :(هِيَ دَابَّةٌ ذاتُ زَغَبٍ وَريشٍ، ولَهَا أرْبَعَةُ قَوَائِمَ).
وعن أبي هريرةَ قَالَ :[تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَيَجْلُوا وَجْهُ الْمُؤْمِنِ بالْعَصَا، وَتَحْطِمُ وَجْهَ الْكَافِرِ بالْخَاتَمِ] والْمَحَاطِمُ هي الأُنُوفُ، واحِدُها مُحْطِمٌ بكسرِ الطَّاء، وعن حذيفةَ قالَ : قال رسولُ اللهِ ﷺ :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ﴾ ؛ أي مُضِيئاً لطلب المعاشِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي أنَّ فيما ذكَرْنَا من اختلافِ اللَّيلِ والنَّهار لدلاَلاتٍ للمؤمنينَ والكافرين، ولكنه خَصَّ المؤمنينَ لأنَّهم همُ الذين ينتفعونَ بالذِّكْرِ.
وقولهُ :﴿ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيْدُ الشُّهَدَاءَ وَهُمْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبهِمْ يُرْزَقُونَ)، وقال الكلبيُّ ومقاتل :(يَعْنِي جِبْرِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ وَإسْرَافِيْلَ وَمَلَكَ الْمَوْتِ). وقولهُ تعالى :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ ؛ أي كلُّ الخلائقِ يَأْتُونَ إلى موضعِ الْجَزَاءِ أذلاَّء صَاغِرِيْنَ.
وأمَّا النفخةُ الثانية فتسَمَّى نفخةُ البَعْثِ، وبينَهما أربعون سَنة. ويقالُ : ينفخُ في الصُّور ثلاثَ نفخاتٍ ؛ الأُولَى : نفخةُ الفَزَعِ، والثانية : نفخةُ الصَّعْقِ وهو الموتُ، والثالثةُ : نفخةُ الْقِيَامِ لرَب العالَمِين.
وعن عبدِالله بنِ عمرَ قال :" جَاءَ أعْرَابيٌّ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَسَأَلَهُ عَنِ الصُّور، فَقَالَ :" هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيْهِ " وقالَ مجاهدُ :(هُوَ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ).
وعن أبي هريرةَ قال : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" " لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ، فَأَعْطَاهُ إسْرَافِيْلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيْهِ شَاخِصٌ يُبْصِرُ نَحْوَ الْعَرْشِ، يَنْظُرُ مَتَى يُؤْمَرُ " قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الصُّورُ ؟ قَالَ :" هُوَ قَرْنٌ " قُلْتُ : كَيْفَ هُوَ ؟ قَالَ :" عَظِيْمٌ، وَالَّّذِي بَعَثَنِي بالْحَقِّ إنَّ عِظََمَ دَائِرَةٍ فِيهِ كَعِظَمِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. فَيَنْفُخُ ثَلاَثَ نَفْخَاتٍ ؛ النَّفْخَةُ الأُوُلَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالنَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالنَّفْخَةُ الثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَب الْعَالَمِيْنَ.
فَيَأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيْلَ بالنَّفْخَةِ الأُوُلَى، فَيَقُولُ لَهُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ مِنْهَا أهْلُ السَّمَواتِ وَأهْلُ الأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ وَيَأْمُرُهُ أنْ يَمُدَّهَا وَيُطِيْلَهَا وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ ﴿ وَمَا يَنظُرُ هَـاؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴾، وَيُسَيِّرُ اللهُ الْجِبَالَ فَتَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب فَتَكُونُ سَرَاباً، وَتُرَجُّ الأَرْضَُ بأَهْلِهَا رَجّاً، فَتَكُونُ كَالسَّفِيْنَةِ الْمُوثَقَةِ فِي الْبَحْرِ، تَضْرِبُهَا الأَمْوَاجُ وَتُلْقِيْهَا الرِّيَاحُ، وَكَالْقِنْدِيْلِ الْمُعَلَّقِ تَرُجُّهُ الرِّيَاحُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴾ فَتَمِيْدُ الأَرْضُ بالنَّاسِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ ؛ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ ؛ وَيَشِيْبُ الأَطْفَالُ، وَتِطِيْرُ الشَّيَاطِيْنُ هَاربَةً مِنَ الْفَزَعِ، حَتَّى تَأْتِي الأَقْطَارَ فَتَلْقَاهَا الْمَلاَئِكَةُ فَتَضْرِبُ وَجُوهَهَا فَتَرْجِعُ، وَتُوَلِّي النَّاسُ مُدْبرِيْنَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ ؛ إذْ تصَدَّعَتِ الأَرْضُ، وَتَصِيْرُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَنْشُرُ نُجُومَهَا وَتَكْسِفُ شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا. ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيْلَ أنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ " ".
وَقَوْلُهُ تعالى :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾، قرأ الأعمشُ وحمزة وخلَف (أتَوْهُ) مقصُوراً على الفعل بمعنى جَاءوهُ. وقرأ الباقونَ بالمدِّ وضَمِّ التاء، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ دَاخِرِينَ ﴾ أيْ صَاغِرِيْنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ ؛ نُصِبَ على المصدر ؛ كأنه قالَ : صَنَعَ اللهُ ذلكَ صُنْعاً على الإتقانِ والإحْكَامِ. وَقِيْلَ : على الإغْرَاءِ ؛ أي أبْصِرُوا صُنْعَ اللهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ؛ أي أحْكَمَ وَأبْرَمَ ما خَلَقَ. ومعنى الإتْقَانِ في اللُّغة : الإحْكَامُ للأَشْيَاءِ.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ ؛ قرأ نافعُ وابن عامر والكوفيُّون بالتاءِ، والباقونَ بالياء، والمعنى : إنَّهُ خَبيْرٌ بمَا يفعلهُ أعداؤهُ من المعصيةِ والكُفْرِ، وبما يفعلهُ أولياؤه من الطاعَةِ.
وقال بعضُهم : دخلتُ على علِيِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه فقالَ لِي :(ألاَ أنَبؤُكَ بالْحَسَنَةِ الَّّتِي مَنْ جَاءَ بهَا أدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَالسَّيِّئَةِ الَّتِي مَنْ جَاءَ بهَا أدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَمَلاً؟) قلتُ : بَلَى، قالَ :(الْحَسَنَةُ حُبُّنَا، وَالسَّيِّئَةُ بُغْضُنَا). ومعنى ﴿ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ : رضوانُ اللهِ. وَقِيْلَ : الأضعَافُ بعطيَّةِ اللهِ بالواحدة عَشْراً فصاعِداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ ؛ قرأ أهلُ الكوفة (فَزَعٍ) منوناً بنصب الميمِ، وقرأ الباقونَ بالإضافةِ، واختارَهُ أبو عُبيدٍ لأنه أعَمُّ ويكون شَامِلاً لجميعِ فَزَعِ ذلك اليومِ، وإذا كان منَوَّناً كان الفزعُ دونَ فزعٍ.
وقال أبو علِيِّ الفارسي :(إذا نُوِّنَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الْفَزَعُ وَاحِداً، وَيَجُوزُ أنْ يَعْنِي بهِ الْكَثْرَةَ لأنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ تَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَإنْ كَانَتْ مُفْرَدَةَ الأَلْفَاظِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ :﴿ وَإِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾[لقمان : ١٩]). قال الكلبيُّ :(إذا أطْبَقَتِ النَّارُ عَلَى أهْلِهَا فَزِعُواْ فَزْعَةً لَمْ يُفْزَعُواْ مِثْلَهَا أبَداً، وَأهْلُ الْجَنَّةِ آمِنُونَ مِنْ ذلِكَ الْفَزَعِ).
وَقِيْلَ : معنى ﴿ حَرَّمَهَا ﴾ أي عظَّم حُرمَتها، فجعلَ لَها من الأمنِ ما لَم يجعل لغيرِها. وقولهُ تعالى :﴿ وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ ﴾ ؛ لأنه خَالِقُهُ ومَالِكُهُ. وقرأ ابنُ عبَّاس (الَّتِي حَرَّمَهَا) أشارَ إلى البلدةِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ؛ أي وأُمِرْتُ أنْ أكونَ مِن المسلمينَ الْمُخْلِصِيْنَ للهِ بالتَّوحيدِ، ﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ﴾ ؛ عليكُم يا أهلَ مكَّة، يريدُ تلاوةَ الدَّعوةِ إلى الإيْمانِ. وفي الآية تعظيمٌ لأمرِ الإسلامِ وتِلاَوَةِ القُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾ ؛ أي مَن اهتَدَى فإنَّما منفعةُ اهتدائهِ راجعةٌ إلى نفسهِ، ﴿ وَمَن ضَلَّ ﴾ ؛ أي ضلَّ عن الإيْمانِ والقُرْآنِ وأخطأَ طريقَ الْهُدَى، ﴿ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ ؛ أي مِن الْمُخَوِّفِيْنَ، فليس عَلَيَّ إلاّ البلاغُ، فإنِّي لَم أوْمَرْ بالإجْبَارِ على الْهُدَى، وليسَ عَلَيَّ إلاّ الإنذارُ، وكان هذا قَبْلَ الأمرِ بالقتالِ.
وعن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قَالَ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ النَّمْلِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ مَنْ كَذبَ وَصَدَّقَ بمُوسَى وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَإبْرَاهِيْمَ وَاسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمُُ السَّلاَمُ، وَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وَهُوَ يُنَادِي : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ".