ﰡ
وانتصبَ (هُدًى وَرَحْمَةً) على الحالِ. وقرأ حمزةُ بالرفعِ على الابتداء، وَقِيْلَ : على إضمار هُوَ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(مَعْنَى الآيةِ : هُدًى مِنَ الضَّلاَلَةِ وَرَحْمَةً مِنَ الْعَذَابِ لِلمُوَحِّدِيْنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وما بعدَ هذا قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
ومعنى قولهِ تعالى ﴿ لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ أي باطلُ الحديثِ، هذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل، وَقِيِْلَ : المرادُ بلَهْوِ الحديثِ الغناءُ، وعن النبيِّ ﷺ أنه قال :" لاَ يَحِلُّ تَعْلِيْمُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلاَ بَيْعُهُنَّ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ ؛ مَا رَفَعَ رَجُلٌ قًطُّ عَقِيْرَتَهُ يَتَغَنَّى إلاَّ ارْتَدَفَهُ شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِ بأَرْجُلِهِمَا عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرهِ حَتَّى يَسْكُتْ "، وهذا قولُ سعيدِ بن جُبير ومجاهد وابنِ مسعودٍ، قالوا :(هُوَ وَاللهِ الْغِنَاءُ، وَاشْتِرَاءُ الْمُغَنِّيَةِ وَالْمُغَنِّي بالْمَالِ).
وقال ﷺ :" " مَنْ مَلأَ مَسَامِعَهُ مِنْ غِنَاءٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أنْ يَسْمَعَ أصْوَاتَ الرُّوحَانِيِّيْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قِيْلَ : وَمَا الرُّوحَانِيُّونَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :" أهْلُ الْجَنَّةِ " "، وعن إبراهيمَ النخعيِّ أنه قالَ :(الْغِنَاءُ يُنبتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْب) وقال مكحولُ :(مَنِ اشْتَرَى جَاريَةً ضَرَّابَةً لِيُمْسِكَهَا لِغِنَائِهَا وَضَرْبها مُقِيْماً عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي أنه جاهلٌ فيما يفعلُ، لا يفعلهُ عن عِلْمٍ، ﴿ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً ﴾ بالرفعِ عطفاً على ﴿ مَن يَشْتَرِي ﴾، وبالنصب عَطفاً على ﴿ لِيُضِلَّ ﴾، والكتابةُ المذكورة تعودُ إمَّا إلى الآياتِ المذكورةِ في أوَّل السورةِ، وإما إلى (سَبيْلِ اللهِ)، والسبيلُ يُؤَنَّثُ لقولهِ﴿ قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي ﴾[يوسف : ١٠٨].
وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ؛ قالَ : سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ :" حَقّاً أقُولُهُ : لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبيّاً، وَلَكِنْ عَبْداً صَمْصَامَةً، كَثِيْرَ التَّفَكُّرِ، حَسَنَ الْيَقِيْنِ، أحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بالْحِكْمَةِ " ورويَ أنه كان تَتَلْمَذَ لألفِ نبيٍّ عليهم السَّلام.
واختَلفُوا في حِرفتهِ، فقالَ الأكثرُون : كان نَجَّاراً، ويقالُ : كان خيَّاطاً، ويقالُ : كان راعياً، ويروى : كان عَبْداً حَبَشِيّاً غليظَ الشَّفتين مشقوقَ الرِّجلين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :(مَرَّ رَجُلٌ بلُقْمَانَ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ وَهُوَ يَعِظُهُمْ، فَقَالَ : ألَسْتَ الْعَبْدَ الأَسْوَدَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟! قَالَ : بَلَى، قَالَ : فَمَا بَلَغَ بكَ إلَى مَا أرَى ؟ قَالَ : صِدْقُ الْحَدِيْثِ ؛ وَأدَاءُ الأَمَانَةِ ؛ وَتَرْكُ مَا لاَ يَعْنِيْنِي).
وعن أنسٍ :(أنَّ لُقْمَانَ كَانَ عَبْدَ دَاوُدَ عليه السلام وَهُوَ يَسْرِدُ دِرْعاً، فجَعَلَ لُقْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِمَّا يَرَى، وَيُرِيْدُ أنْ يَسْأَلَهُ فَمَنَعَتْهُ حِكْمَتُهُ مِنَ السُّؤَالِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا، جَعَلَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ : نِعْمَ دِرْعُ الْحَرْب هَذَا وَنِعْمَ حَامِلُهُ، فَقَالَ لُقْمَانُ : الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيْلٌ فَاعِلُهُ).
وقال عكرمة :(كَانَ لُقْمَانُ مِنْ أهْوَنِ مَمَالِيْكِ سَيِّدِهِ، فَبَعَثَ مَوْلاَهُ مَعَ عَبيْدٍ لَهُ إلَى بُسْتَانٍ لِمَوْلاَهُمْ يَأْتُونَهُ مِنْ ثَمَرِهِ، فَجَاءُوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، وَقَدْ أكَلُواْ الثَّمَرَةَ، وَأحَالُواْ عَلَى لُقْمَانَ بذَلِكَ! فَقَالَ لُقْمَانُ لِمَوْلاَهُ : إنَّ ذَا الْوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللهِ أمِيْناً، فَاسْقِنِي وَإيَّاهُمْ مَاءً حَمِيْماً، فَسَقَاهُمْ فَجَعَلُواْ يَتَقَيَّؤُن الْفَاكِهَةَ، وَجَعَلَ لُقْمَانُ يَتَقَيَّأُ مَاءً بَحْتاً، فَعَرَفَ صِدْقَهُ وَكَذِبَهُمْ).
قال :(وَأَوَّلُ مَا رُويَ مِنْ حِكْمَتِهِ أنَّهُ جَاءَ مَعَ مَوْلاَهُ فَدَخَلَ الْمَخْدَعَ، فَأَطَالَ الْجُلُوسَ فِيْهِ، فَنَادَاهُ لُقْمَانُ : إنَّ طُولَ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَاجَةِ يَتَجَمَّعُ مِنْهُ الْكَدَرُ، وَيُورثُ الْبَاسُورَ، وَتَصْعَدُ الْحَرَارَةُ إلَى الرَّأسِ، فَاجْلُسْ هُوَيْناً وَقُمْ هُوَيْناً، قَالَ : فَخَرَجَ وَكَتَبَ حِكْمَتَهُ عَلَى بَاب الْحَشِّ).
ومعنى الآية ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾ عِلْمَ التوحيدِ والمواعظِ والفقهِ والعقل والإصابة في القولِ، وألْهَمناهُ أن يشكرَ اللهَ على ما أعطاهُ من الحكمةِ.
ومعنى قولهِ :﴿ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ ﴾ ؛ أي قُلنا له : اشْكُرِ اللهَ فيما أعطاكَ من الحكمةِ، ﴿ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ ؛ أي مَن يشكرُ نِعَمَ اللهِ فإنا منفعةَ شُكرهِ راجعةٌ إلى نفسهِ، ﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ ؛ فلم يُوَحِّدْ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ ﴾ ؛ عن شُكرهِ، ﴿ حَمِيدٌ ﴾ ؛ يحمَدهُ الشاكرُ ويثبته إلى شُكرهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ ﴾ ؛ أي ضَعْفاً على ضعفٍ، ومشقَّةً على مشقةٍ، كلَّما ازدادَ الولدُ في الرَّحمِ كِبر، ازدادت الأمُّ ضَعفاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ ؛ أي وفِطَامُهُ في انقضاءِ عامَين، وقدَّرَهُ بعامين بناءً على الأغلب، ولأنَّ الرَّضاع لا يستحقُّ بعد هذه المدَّة. والفِصَالُ هو الفِطَامُ، وهو أن يُفْصَلَ الولدُ عن الأمِّ كي لا يرضع. والمعنى بهذا ذكرُ مشقَّة الوالدةِ بإرضاعِ الولد عامَين. ورُوي عن يعقوب :(وَفَصْلُهُ فِي عَامَيْنِ) بغير ألفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ ؛ أي قُلنا له اشكُرْ لِي على خلْقِي إياكَ، وعلى إنعامِي عليكَ، واشكُرْ لوالديكَ على تربيَتهما إياكَ. وقال مقاتلُ :(اشْكُرْ لِي إذْ هَدَيْتُكَ للإسْلاَمِ، وَلِوَالِدَيْكَ بمَا أوْلَيَاكَ مِنَ النِّعَمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ أي مصيرُكَ ومصيرُ والدَيك، وعن سُفيان بن عُيينةَ في قولهِ :﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ قال :(مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ شَكَرَ اللهَ، وَمَنْ دَعَا لِلْوَالِدَيْنِ فِي إدْبَار الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَ لِلْوَالِدَيْنِ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾ ؛ قال ﷺ :" حُسْنُ الْمُصَاحَبَةِ أنْ تُطْعِمْهُمَا إذَا جَاعَا، وَتَكْسُوهُمَا إذَا عَرِيَا، وَعَاشِرْهُمَا عِشْرَةً جَمِيْلَةً " ﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ ؛ أي واتَّبع طريقَ مَن رجعَ إلَيَّ ؛ أي مَنْ سَلَكَ طريقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وأصحابهِ. والمعنى : واتَّبعِ دِينَ من أقبل إلى طَاعَتِي وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقال عطاءُ عن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ :(يَعْنِي أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ رضي الله عنه أنَّهُ حِيْنَ أتَاهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ وَسَعِيْدُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَقَالُواْ : يَا أبَا بَكْرٍ آمَنْتَ وَصَدَّقْتَ مُحَمَّداً ؟ قَالَ : نَعَمْ، فَأَتَواْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَآمَنُواْ بهِ وَصَدَّقُواْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِسَعْدٍ :(وَاتَّبعْ سَبيْلَ مَنْ أنَابَ إلَيَّ) يَعْنِي أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ رضي الله عنه).
ويستدلُّ مِن قولهِ تعالى ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾ على أنَّ الابنَ لا يستحقُّ القَوَدَ على أبيهِ، ولا يُحَدُّ الأبُ بقَذفَةِ الابنِ، ولا يحبسُ الأبُ بدَينِ الابنِ، لأن في إيجاب القَوَدِ والحدِّ والحبسِ له عليه ما يُنافِي مُصَاحبتَهما.
وعن أبي يوسفَ :(أنَّ الْقَاضِي يَأْمُرُ الأبَ بقَضَاءِ دَيْنِ الابْنِ، فَإنْ تَمَرَّدَ حَبَسَهُ لاسْتِخْفَافِ أمْرِهِ) وقال محمَّدُ بن الحسنِ :(يُحْبَسُ الأَبُ فِي نَفَقَةِ الابْنِ الصَّغِيْرِ، وَلاَ يُحْبَسُ بالدِّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ؛ لأنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْبَسْ فِي نَفَقَةِ الصَّغِيْرِ لَتَضَرَّرَ الْوَلَدُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ ؛ أي مرجِعُكم ومرجعُ آبائِكم، ﴿ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ من الخيرِ والشرِّ. وقد تضمَّنت هذه الآيةُ النَّهيَ عن صُحبة الكفَّار والفُسَّاقِ، والترغيبَ في صُحبةِ الصالِحين لقولهِ تعالى ﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾.
وَقِيْلَ : إنَّ ابنَ لُقمان قال لأبيهِ : يا أبَتِ! إنْ عَمِلْتُ بالْخَطِيْئَةِ حيثُ لا يَرانِي أحدٌ، كيف يعلَمُها اللهُ ؟ فقال لُقمان لابنهِ :﴿ إِنَّهَآ إِن تَكُ ﴾ يعني إنَّ المعصيةَ إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكون في صَخرَةٍ التي تحتَ الأرضين السَّبع أو في السَّموات أو في الأرضِ يأتِ بها اللهُ للجزاءِ عليها.
ومَن قرأ برفعِ (مِثْقَالُ) فتقديرهُ : أن تَقَعَ مثقالُ حبَّة.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ ؛ أي قَادِرٌ على الإتيانٍ بها، خَبيرٌ بموضِعها، يُوصِلُها إلى صاحبها حيث كانَ. واللَّطِيْفُ : العالِمُ بكلِّ دقيقٍ وجليل. ومعنى الآيةِ : أن اللهَ تعالى ضَرَبَ هذا مَثلاً لأعمالِ العبادِ، يعني أنه يأتِي بأعمالِهم يومَ القيامةِ، وإنْ كان العملُ الصالح في الصِّغَرِ بوزنِ حبَّة مِن خردلٍ، فاللهُ تعالى يحفظهُ ولا يخفَى عليه مكانهُ حتى يجازيه عليهِ، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾[الزلزلة : ٧-٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً ﴾ ؛ أي ولا تَمْشِ في الأرضِ بالإعجَاب والبَطَرِ وَازْدِرَاءِ الناسِ، قال الحسنُ :(أنَّى لابْنِ آدَمَ الْكِبَرُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ؟!).
وروي : أنَّ الْمُهَلَّبَ بْنَ أبي صُفْرَةَ مَرَّ عَلَى مُطَّرِفِ بْنِ عَبْدِاللهِ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي جُبَّةِ خَزٍّ، فَقَالَ :(هَذِهِ مِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللهُ وَرَسُولُهُ) فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ : مَا تَعْرِفُنِي؟! قَالَ :(بَلَى ؛ أعْرِفُكَ، أوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُكَ جِيْفَةٌ قَذِرَةٌ، وَتُحْمَلُ بَيْنَ الْعُذْرَةِ) فَمَضَى الْمُهَلَّبُ وَتَرَكَ مِشْيَتَهُ تِلْكَ.
وروي : أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ خَرَجَ يَوْماً يَتَمَشَّى، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ :(مَنْ هَذَا؟!) قَالُواْ : هَذَا وَلَدُكَ عَبْدُاللهِ، قَالَ : ادْعُوهُ، فَجَاؤُا بهِ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ :(يَا بُنَيَّ! أتَدْري بكَمِ اشْتَرَيْتُ أُمَّكَ ؟ اشْتَرَيْتُهَا بثَلاَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأبُوكَ لاَ كَثَّرَ اللهُ مِنْ مِثْلِهِ فِي النَّاسِ، أتَمْشِي هَذِهِ الْمِشْيَةَ؟!).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ ؛ الاخْتِيَالُ : هو التَّبَخْتُرُ في المشيِ، والفَخُورُ : هو الْمُتَطَاولُ بذِكْرِ المناقب على السَّامعِ والافتخار عليه، وذلك مذمومٌ لأن المستحقَّ على نِعَمِ اللهِ شُكراً لا الْفِخْرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴾ ؛ أي اخفِضْ صوتَكَ ولا ترفعْهُ على وجهِ انتهار النَّاس وإظهار الاستخفافِ بهم، وقال عطاءُ :(مَعْنَاهُ : اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إذَا دَعَوْتَ وَنَاجَيْتَ رَبَّكَ)، وكذلك وصيَّةُ الله تعالى في الإنجيلِ لعِيسَى عليه السلام : مُرْ عِبَادِي يَخْفِضُوا أصْوَاتَهُم إذا دَعَونِي، فإنِّي أسمعُ وأعلَمُ ما في قلوبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ ؛ أي أقبحُ الأصواتِ صوتُ الحميرِ ؛ لأن أوَّلَهُ زفيرٌ وآخرهُ شهيقٌ. قال ابن زيدٍ :(لَوْ كَانَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ خَيْراً مَا جَعَلَهُ اللهُ لِلْحَمِيْرِ)، وعن أُمِّ سعدٍ قالت : قال رسولُ اللهِ ﷺ :" إنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْغَضُ ثَلاَثَةَ أصْوَاتٍ : نَهِيْقُ الْحِمَار، وَنُبَاحُ الْكَلْب، وَالدَّاعِيَةُ بالْوَيْلِ وَالْحَرْب " وقال سُفيان :(صِيَاحُ كُلِّ شَيْءٍ تَسْبيحُهُ اللهَ إلاَّ الْحِمَارُ فَإنَّهُ يَنْهَقُ بلاَ فَائِدَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ ؛ أي أتَمَّ عليكم ووسَّعَ لكم نِعَمَهُ (ظَاهِرَةً) من الْخَلْقِ الحسنِ وسلامةِ الأعضاء الظاهرة، (وبَاطِنَةً) من العقلِ والفهمِ والفطنة والمعرفةِ بالله.
وَقِيْلَ : النعمةُ الظاهرة هي الإسلامُ، والباطنةُ ما يخفَى من الذُّنوب ويُسْتَرُ من العوراتِ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ما يعلمُ الناس من حسنَاتِكَ، والباطنةُ ما لا يعلمون من السيِّئات.
وقال الضحَّاك :(الظَّاهِرَةُ : حُسْنُ الصُّورَةِ وَامْتِدَادُ الْقَامَةِ وَتَسْوِيَةُ الأَعْضَاءِ، وَالْبَاطِنَةُ الْمَعْرِفَةُ). وَقِيْلَ : الظاهرةُ الإسلامُ وما أفْضَلَ عليكَ من الرِّزق، والباطنةُ ما سَتَرَ من سوءِ عمَلِكَ.
وَقِيْلَ : الظاهرةُ نِعْمُ الدُّنيا، والباطنةُ نِعَمُ العُقبَى. وَقِيْلَ : الظاهرةُ تسويةُ الظواهرِ، والباطنةُ تصفيةُ السرائرِ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ الرِّزْقُ الذي يكتسبُ، والباطنةُ الرزقُ مِن حيث لا تحتسبُ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ المدخل للغداءِ، والباطنة المخرجُ للأذَى.
وَقِيْلَ : الظاهرةُ نِعْمَةٌ عليكَ بعد ما خرجتَ من بطنِ أُمِّكَ، والباطنةُ نعمةٌ عليك وأنتَ في بطنِ أُمِّكَ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ألوانُ العطََايَا، والباطنةُ غفرانُ الخطايَا. وَقِيْلَ : الظاهرةُ المالُ والأولاد، والباطنة الْهُدَى والإرشادُ. وَقِيْلَ : الظاهرة التوفيق للعبادات، والباطنةُ الإخلاصُ من الْمُرَاءَاتِ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ما أعطى من النَّعماءِ، والباطنة ما زوى من أنواعِ البلاء. وَقِيْلَ : الظاهرةُ إنزالُ القَطْرِ والأمطارِ، والباطنةُ إحياءُ الأقطار والأنصار. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ذِكْرُ اللسانِ، والباطنةُ ذكر الجِنَانِ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ضياءُ النَّهار، والباطنةُ ظلمة الليلِ للسُّكون والقرار.
ومَن قرأ (نِعْمَةً) على التوحيدِ فهي واحدةُ تُبنَى على الجميعِ، كما في قولهِ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[إبراهيم : ٣٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ ؛ يعني النَّضْرَ بن الحارثِ يخاصمُ في آياتِ الله وفي صفاتهِ جَهْلاً بغير علمٍ ولا حجَّة، ﴿ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ ؛ وقد تقدَّم تفسيرهُ في سُورةِ الحجِّ.
قرأ السُلَمِيُّ :(وَمَنْ يُسْلِّمْ) بالتَّشديدِ. ومعنى قولهِ تعالى ﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ أي اعَتْصَمَ بالطَّرَفِ الأوثقِ الذي لا يخافُ انقطاعَهُ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(هُوَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ).
والمعنى : لو جُعِلَ ما في الدُّنيا من الأشجار أقلاماً يكتبُ بها، وصارَتِ الجنُّ والإنسُ كُتَّاباً، والبحارَ مِدَاداً يَمدُّها من بعدِها سبعةَ أبْحُرٍ ؛ أي سبعةَ أمثالِ بحرِ الدُّنيا، وكتبَ بها كلماتِ الله وحِكَمَهُ، لانكسرَتِ الأقلامُ، وأُعيَتِ الإنسُ والجنُّ، وَفَنِيَتِ البحارُ قبل أن ينقطعَ كلامُ اللهِ وحِكَمُهُ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي عَزِيزٌ في سُلطانهِ ذُو حكمةٍ في قولهِ وأفعالهِ.
وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ معنى (كَلِمَاتُ اللهِ) تعالى في هذه الآيةِ : مَعانِي القُرْآنِ وفوائدهِ، وقال بعضُهم : وهي نِعَمُ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ، وإن نِعَمَهُ في الآخرةِ غيرُ متناهيةٍ.
وإنَّ هذه الآيةَ كانت سببَ إسلامِ عِكْرِمَةَ بن أبي جهلٍ، وذلك أنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، أمَّنَ النَّبيُّ ﷺ النَّاسَ إلاَّ أرْبَعَةَ نَفَرٍ، فَإنَّهُ قَالَ :" اقْتُلُوهُمْ، وَلَوْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِيْنَ بأَسْتَار الْكَعْبَةِ : عِكْرِمَةُ بْنُ أبي جَهْلٍ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ الأَخْطَلِ، وَمَقِيْسُ بْنُ صَبَابَةَ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدٍ بنِ أبي سَرْحٍ ".
فأمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ، فَأَصَابَهُمْ ريْحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ أهْلُ السَّفِيْنَةِ : أخْلِصُواْ فَإنَّ آلِهَتَكُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً هَا هُنَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ :(لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي فِي الْبَحْرِ إلاَّ الإخْلاَصُ مَا يُنْجِيْنِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ) ثُمَّ قَالَ :(اللَّهُمَّ إنَّ لَكَ عَهْداً إنْ أنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أنَا فِيْهِ أنْ آتِيَ مُحَمَّداً حَتَّى أضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ) فَجَاءَ فَأَسْلَمَ.
وَقِيْلَ : معنى ﴿ لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ﴾ أي لا يَحْمِلُ شيئاً من سيِّئاتهِ ولا يُعطيهِ شيئاً من طاعتهِ، ﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ ؛ في البعث والجزاء أي صدق كائن، ﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ ؛ فلاَ تغتَرُّوا بالحياة الدُّنيا وما فيها من زينَتِها وزهرَتِها، ﴿ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ ؛ الشَّيطانُ، فإنه هو الغَرُورُ، وهو الذي مَن يشاءُ أن يُغَرَّ، وغُرُورُ الشَّيطانِ تَمْنِيَتُهُ العبدَ : فإنَّ اللهَ تعالى غَفُورٌ، فَهَوَّنَ عليه رُكوبَ المعاصِي وما يَهواهُ.
ومَن قرأ (الْغُرُورُ) بضمِّ الغَينِ فهي مصدرٌ، ومعناهُ : الأبَاطِيلُ. وعن سعيدِ بنِ جُبير :(إنَّ الْغُرُورَ تَمَنِّي الْمَغْفِرَةِ مَعَ الإصْرَار عَلَى الْمَعْصِيَةِ).
وقال ﷺ :" مَفَاتِيحُ الْغَيْب خَمْسَةٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللهُ، لاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلاَّ اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إلاَّ اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا كَسْبُهُ فِي غَدٍ إلاَّ اللهُ، وَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ بأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلاَّ اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ إلاَّ اللهُ ".
يقالُ : إنَّ هذه الخمسة الأشياءٍ التي ذَكَرَها اللهُ في هذه الآيةِ هي مفاتيحُ الغَيْب لا يعلمُها إلاَّ اللهُ، استأثَرَ اللهُ بهِنَّ، فلم يُطْلِعْ عليهِنَّ مَلَكاً مُقرَّباً ولا نَبيّاً مُرسَلاً.
ومعنى الآيةِ :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ﴾ قيامِ ﴿ السَّاعَةِ ﴾، فلا يدري أحدٌ سواهُ متى تقومُ، في أيِّ سَنةٍ أو في أيِّ شهرٍ، ليلاً أو نَهاراً. وقوله ﴿ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ﴾ معناهُ : هو المختصُّ بإنزالِ الغيثِ، وهو العالِمُ بوقتِ إنزالهِ، (ويَعْلَمُ مَا فِي الأَرْضِ) أي لا يعلمُ أحدٌ ما في الأرحامِ أذكرٌ أم أُنثَى، أحمرٌ أم أسودٌ، وإنَّما يعلمهُ الله عَزَّ وَجَلَّ نطفةً وعلقة ومُضغةً، وذكراً أم أُنثى، وشقِيّاً وسَعيداً، ومتى ينفصلُ عن أُمِّهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾ يعنِي : ماذا تكسبُ من الخيرِ والشرِّ، أي مَا تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً خَيراً أو شرّاً، ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ أي في بَرٍّ أو بحرٍ أو سَهلٍ أو جبلٍ. قال ابنُ عبَّاس :(هَذِهِ الْخَمْسَةُ لاَ يَعْلَمُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبيٌّ مُرْسَلٌ مُصْطَفَى، فَمَنِ ادَّعَى أنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ فَقَدْ كَفَرَ بالْقُرْآنِ لأنَّهُ خَالَفَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾ ؛ أي عَلِيمٌ بخَلقهِ، خَبيْرٌ بأعمالِهم وبما يصيبُهم في مستقبلِ عُمرِهم.
وروي أن يهودياً كان في المدينة يحسب حساب النجوم، فقال اليهوديُّ لابن عباس : إن شئت أنبأتك عن ولدك وعن نفسك، إنك ترجع الى منزلك فتلقى إبناً لك محموماً، ولا يمكث عشرة أيام حتى يموت الولد، وأنت لا تخرج من الدنيا حتى تعمى، فقال ابن عباس : وأنت يا يهودي، قال : لا يحول عليَّ الحول حتى أموت ؟ قال : فأين موتك يا يهودي ؟ قال ما أدري، قال ابن عباس : صدق الله ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ قال فرجع ابن عباس فلقي إبناً له محموماً، فلما بلغ عشراً مات الصبي، ويقال عن اليهودي " أنه ماتَ قبل الحول "، وما خرج ابن عباس من الدنيا حتى كُفَّ بصره.