ﰡ
مكية، وقيل: إلا قوله: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لأن الزكاة فرضت بالمدينة، وهو ضعيف لأن الحق تعالى يخبر بالشيء قبل وقوعه كما تحقق وقوعه. وآياها: أربع وثلاثون، أو ثلاث وثلاثون. ومناسبتها لما قبلها قوله: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ.. «١» مع قوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إذ هو القرآن العظيم. وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ «٢» وهنا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا «٣». قيل: وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه، وعن بر والديه، فنزلت. قال تعالى:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
قلت: هُدىً وَرَحْمَةً: حالان من الآيات، والعامل: معنى الإشارة. ورفعهما حمزة على الخبر لتلك بعد خبر، أو: خبر عن محذوف، أي: هو، أو: هي هُدى. والموصول: نعت للمحسنين تفسير لإحسانهم، و (هم) : مبتدأ، و (يوقنون) : خبر. وتكرير الضمير للتوكيد، ولِمَا حيل بينه وبين خبره.
يقول الحق جلّ جلاله: ألم أيها المصطفى المقرب، تِلْكَ الآيات التي تتلوها هي آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي: ذي الحكمة البالغة، أو: الذي أُحكمت آياته وأُتقنت، أو: المحكم الذي لا ينسخه كتاب. أو:
المصون من التغيير والتبديل. حال كونه هُدىً وَرَحْمَةً هادياً لظواهرهم بتبين الشرائع، ورحمة لقلوبهم بتبين حقائق الإيمان، ولأرواحهم بإظهار حقائق الإحسان. وقد تقدم هذا البيان في قوله: إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا «٤» الآية. ولذلك خصه بقوله: لِلْمُحْسِنِينَ، فإنما يكون هدى ورحمة لأهل الإحسان لأنهم هم الذي
(٢) من الآية ٥٨ من سورة الروم.
(٣) من الآية السابعة من سورة لقمان.
(٤) من الآية ٩٣ من سورة المائدة.
ثم مدح المتصف بتلك الخصال فقال: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي: راكبون على مَتْنِ الهداية، متمكنون منها، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، الفائزون بكل مطلوب.
الإشارة: قال القشيري: الم، الألف إشارة إلى آلائه، واللام إلى لطفه، والميم إلى مجده وسنائه، فبآلائه دفع الجَحْدَ عن قلوب أوليائه، وبلطف عطائه أثبت المحبةَ في أسرار أصفيائه، وبمجده وسنائه هو مستغنٍ عن جميع خَلْقِه بوصف كبريائه. هـ.
ثم وصف كتابه بأنه هاد للسائرين، رحمة للواصلين إذ لا تكمل الرحمة إلا بشهود الحبيب، يكلمك ويناجيك، وهذه حالة أهل مقام الإحسان. قال القشيري: وشَرْطُ المحْسِنِ أن يكون محسناً إلى عباد الله: دانيهم وقاصيهم، مطيعِهم وعاصيهم. ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يأتون بشرائطها في الظاهر- ثم ذكرها-، وفي الباطن يأتون بشروطها من طهارة السَّرَّ عن العلائق، وسَتْرِ عورة الباطن، بتنقيته من العيوب لأن ما كان فيه فالله يراه.
فإذا أردت ألا يرى اللهُ عيوبَك فاحْذَرْها حتى لا تكون. والوقوف على مكان طاهر: هو وقوف القلب على الحدِّ الذي أُذن فيه، مما لا يكون فيه دعوى بلا تحقيق، بل رَحِمَ الله مَن وقف عند حدِّه بالمعرفة بالوقت، فيعلم وقت التذلُّل والاستكانة، ويميز بينه وبين وقت السرور والبسط، ويستقبل القبلة بَنْفسِه، ويعلق قلبه بالله، من غير تخصيص بقطْرِِ أو مكان أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وهم الذين اهتدوا في الدنيا، وسَلِموا ونَجوْا في العُقْبَى. هـ.
ثم شفع بضدهم، فقال:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٦ الى ٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧)
كان يشتري القيان، ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ليصده عنه.
والإشتراء من الشراء، كما تقدم عن النضر، ومن البدل، كقوله: اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ «٢». استبدلوه واختاروه، أي: يختار حديث الباطل على حديث الحق. وإضافة اللهو إلى الحديث للتبيين بمعنى «من» لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فيبين بالحديث، والمراد بالحديث: الحديث المكروه، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكُلُ الحسنَاتِ، كما تأكلُ البهيمة الحشيش» «٣»، أو: للتبعيض، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي فيه اللهو. وقال مجاهد: يعني: شراء المغنيات والمغنين، أي: يشتري ذات لهو، أو: ذا لهو الحديث.
وقال أبو أمامة: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل تعليم المغنيات، ولا بيعهن، وأثْمانُهنَّ حرام». وفي مثل هذا نزلت هذه الآية، ثم قال: «وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب، والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت» «٤».
قلت: هذا مقيد بِشِعْرِ الهوى لأهل الهوى، وأما أهل الحق الذين يسمعون من الحق، فلا يتوجه الحديث لهم، وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ثم قال أبو أمامة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى بعثني هدى ورحمة للعالمين، وأمرني ربي بمحو المعازف والمزامير والأوثان، والصلب وأمر الجاهلية، وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة خمر متعمداً إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة، مغفوراً له أو معذباً، ولا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك، ولا يتركها عبد من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة». انظر الثعلبي.
ثم قال تعالى: لِيُضِلَّ «٥» عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: فعل ذلك لِيَضل هو عن طريق الله ودينه، أو ليُضل غيره عنه، أو عن القرآن، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: جهلاً منه بما عليه من الوزر. وَيَتَّخِذَها أي: السبيل هُزُواً وسخرية. فمن رفع: استأنف، ومن نصب، عطفها على (ليضل) «٦»، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يمينهم ويخزيهم، و «مَنْ»، لإبهامه، يقع على الواحد والجمع، والمراد: النضر ومن تبعه.
(٢) من الآية ١٧٧ من سورة آل عمران.
(٣) قال العراقي فى المغني عن حمل الأسفار (١/ ١٨) : لم أقف له على أصل.
(٤) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٥/ ٢٥٢)، والطبري فى التفسير (٢١/ ٦٠)، والطبراني فى الكبير (٨/ ٢١٢، ٢٥١)، والبيهقي فى السنن (٦/ ١٥)، والبغوي فى التفسير (٦/ ٢٨٤)، والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٥٧) وذكره ابن الجوزي فى العلل المتناهية (٢/ ١٩٨) وأخرجه مختصرا الترمذي وضعفه فى (التفسير- سورة لقمان ٥/ ٣٢٢، ح ٣١٩٥).
(٥) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (ليضل) بفتح الياء. والباقون بالضم. انظر الإتحاف (٢/ ٣٦١).
(٦) قرأ حفص وحمزة والكسائي: «ويتخذها» بالنّصب. وقرأ الباقون: «ويتخذها» بالرفع. انظر الإتحاف (٢/ ٣٦٢). [.....]
الإشارة: لهو الحديث هو كل ما يشغل عن الله، ويصد عن حضرة الله، كائناً ما كان، سواء كان غناء أو غيره، وإذا كان الغناء يهيج لذكر الله، ويحرك الروح إلى حضرة الله، كان حقاً، وإذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلاً. والحاصل: أن السماع عند الصوفية رُكن من أركان الطريقة، بشروطه الثلاثة: الزمان والمكان والإخوان.
وقد ألف الغزالي تأليفاً في تكفير من أطلق تحريم السماع. وقال في الإحياء، في جملة من احتج به المُحَرِّمُ للسماع:
احتج بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، وقد قال ابن مسعود والنخَعي والحسن: إنه الغناء.
وأجاب ما حاصله: أنه إنما يحرم إذا كان استبدالاً بالدين، وليس كل غناء بدلاً عن الدين، مُشْتَرَىً به، ومضلاً عن سبيل الله، ولو قرأ القرآن ليضلَّ عن سبيل الله كان حراماً. كما حكي عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا بسورة عبس، لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهَمَّ عمرُ بقتله. فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. هـ. وأما إن لم يكن شيء من ذلك، فلا يحرم.
وقال في القوت، في كتاب المحبة: ولم يزل الحجازيون، عندنا بمكة، يسمعون السماع في أفضل أيام السنة، وهي الأيام المعدودات، التي أمر الله عز وجل عبادَه فيها بذكره، أيام التشريق، من وقت عطاء بن أبي رباح، إلى وقتنا هذا، ما أنكره عالم، وكان لعطاء جاريتان تُلَحِّنانِ، فكان إخوانه يستمعون إليهما، ولم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا. وأدركنا أبا مروان القاضي، له جوار يسمعن التلحين، قد أعدهن للطوافين. فكان يجمعهن لهم، ويأمرهن بالإنشاد، وكان فاضلاً. وسئل شيخنا أبو الحسن بن سالم، فقيل له: إنك تنكر السماع، وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني. هـ.
وقال ابن ليون التجيبي في الإنالة: رُوي عن مصعب بن الزبير، قال: حضرت مجلس مالك، فسأله أبو مصعب عن السماع، فقال: ما أدري، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك، ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا غبي
يا رسول الله فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وهو نصف يوم، ففرح فقال: أفيكم من ينشدنا؟
فقال بدوي: نعم، يا رسول الله، فقال: هات، هات، فأنشد البدوي يقول:
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوى كَبِدِي | فَلاَ طَبِيبٌ لَهُ وَلاَ رَاقِي |
إلاَّ الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ | فعنده رقيتى وترياقى |
وقد تخلف الحسن البصري ذات يوم عن أصحابه، وسئل عن تخلفه، فقال: كان في جيراننا سماع. وقال الشبلي: السماع ظاهرة فتنة، وباطنه عبرة. فمن عرف الإشارة حلَّ له سماع العبرة، وإلا فقد استدعى الفتنة «٢».
هـ. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ.. إلخ، هذا مثال لمن لم يَقبل الوعظ لقسوة قلبه، وحُكم المشيئة يُبعده، فلا يزيده كثرة الوعظ إلا نفورا، فسماعه كلا سماع، ومعالجته عنىً وضياع، كما قال القائل:
إذَا أَنَا عَاتبتُ المُلولَ فإِنَّمَا | أخُط بأفلك على الماء أحرفا |
إن الحديث باطل، موضوع، باتفاق أهل الحديث.
(٢) اختلفت الآراء حول السماع، فأباحه البعض، وكرهه البعض، وحرّمه البعض. راجع فى هذه المسألة: الاعتصام للإمام الشاطبي (١/ ٢٢٠) اللمع للسّراج الطوسي (٣٣٨- ٣٧٤) - حقائق عن التصوف، للشيخ عبد القادر عيسى ١٩٧- ٢٠٩.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٨ الى ٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، قيل: معكوس، أي:
لهم نعيم الجنات، أو: لهم بساتين، أو: ديار النعيم. خالِدِينَ فِيها: حال من ضمير «لهم». والعامل: الاستقرار.
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي: وعدهم ذلك وعداً، وثبت لهم حقاً مُهماً، مصدران مؤكدان، الأول لنفسه، والثاني لغيره، إذ قوله: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ في معنى: وعدهم الله جنات النعيم. وحَقًّا: يدل على معنى الثبات المفهوم من انجاز الوعد. وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، الذي لا يُعارَض في حكمه، فينفذ وعده لا محالة. الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما استدعته حكمته.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا في البواطن، وحققوا ذلك بالعمل الصالح في الظواهر، لهم جنات المعارف معجلة، وجنات الزخارف مؤجلة، وعداً حقاً وقولاً صدقاً، فما كَمُنَ في السرائر ظهر في شهادة الظواهر، وإلا كان دعوى ونفاقاً، والعياذُ بالله.
ثم ذكر شواهد قدرته على إنجاز وعده، فقال:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٠ الى ١١]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
قلت: «بغير عمد» : يتعلق بحال محذوفه، أي: مُمْسَكَةً أو مرفوعة بغير عمد، و (عَمَدَ) : اسم جمع على المشهور، وقيل: جمع عماد أو عامد. وجملة (ترونها) : إما استئنافية، لا محل لها، أو صفة لعمد.
يقول الحق جلّ جلاله: خَلَقَ السَّماواتِ ورفعها بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، الضمير: إما للسموات، أي: خلقها، ظاهرة، ترونها، أو لعمد، أي: بغير عَمَد مرئية، بل بعمد خفية، وهي إمساكها بقدرته تعالى. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي: جبالاً ثوابت، كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي: لئلا تضطرب بكم، وَبَثَّ: نشر فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف من أصناف النبات،
الإشارة: خلق سموات الأرواح- وهو عالم الملكوت- مرفوعاً غنياً عن الاحتياج إلى شيء، وألقى في أرض النفوس- وهو عالم الأشباح- من العقول الراسخة، لئلا تميل إلى جهة الانحراف، إما إلى الحقيقة المحصنة، أو الشريعة. ونشر في أرض النفوس دواب الخواطَر والوساوس، وأنبتنا فيها من علوم الحكمة والقدرة، من كل صنف بهيج. قال القشيري: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ في الظاهر: الجبال، وفي الحقيقة: الأبدال، الذين هم أوتاد، بهم يقيهم، وبهم يَصرِف عن قريبهم وقاصيهم، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء.. المطر من سماء الظاهر في رياض الخُضْرَةَ، ومن سماء الباطن في رياض أهل الدنوِّ والحَضْرَة. هذا خلق الله العزيز في كبريائه، فأروني ماذا خَلَقَ الذين عَبَدْتم من دونه في أرضه وسمائه؟. هـ.
ثم ذكر قصة لقمان، الذي وقع السؤال عنه فنزلت السورة، فقال:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)
قلت: (يا بُني) فيه ثلاث قراءات كسر الياء، وفتحها مُشَدَّدةً، وإسكانها «١». وقد تتبعنا توجيهاتها في كتابنا «الدرر الناثرة فى توجيه القراءات المتواترة».
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ، وهو لقمان بن باعوراء بن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر، وقيل: أخو شداد بن عاد، أُعطى شداد القوة، وأُعطى لقمان الحكمة، وعاش ألف
قال ابن عمر: سمعت النبي ﷺ يقول: «لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنَّ عليه بالحكمة. كان قائماً فجاءه نداء: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض، تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت، فقال: إن خيرني ربي قبلت العافية، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإني أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني. قالت الملائكة بصوت ولا يراهم: لِمَ يا لقمان؟ فقال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، إن يُعَن، فالبحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً، خير من أن يكون شريفاً، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفُته الدنيا، ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأُعطى الحكمة، فانتبه وتكلم بها «١». هـ.
قال مجاهد: كان لقمان عبداً أسود، عظيم الشفتين، مُشققَّ القدمين «٢». زاد في اللباب: وكانت زوجته من أجمل أهل زمانها. قيل: لم يزل لقمان، من زمن داود، مظهراً للحكمة والزهد، إلى أيام يونس بن متى. وكان قد عمّر عمر سبعة أنس، فكان آخر نسوره «لبذ». رُوي أنه أخذ نسراً صغيراً فربّاه، وكان يصرفه في حوائجه، فعاش ذلك النسر ألف سنة ومات، ثم أخذ نسراً آخر، فعاش خمسمائة سنة، ثم أخذ آخر، فعاش مثل ذلك، إلى السابع، عاش خمسمائة سنة، واسمه لبذ، فقال له لقمان يوماً: يا لبذ انهض إلى كذا، فأراد النهوض فلم يستطع، وإذا بوتر لقمان قد اختلج، وكان لم يألم قط، فنادى بأهله وعشيرته، وعلم أن أجله قد قرب، وقال: إن أجلي قد حضر بموت هذا النسر، كما أعلمني ربي، فإذا مت فلا تدفنوني في الكهوف والمقابر، كما [تدفنون] «٣» الجبابرة، ولكن ادفنوني في ضريح الارض، فدفنوه كما أوصاهم، فقال ابن ثعلبة:
رَأَيْتُ الْفَتَى يَنْسَى مِنَ الْمَوتِ حَتْفَهُ | حَذُوراً لِرَيْبِ الدَّهْرِ، والدَّهْرُ آكِلُهْ |
فَلَوْ عَاشَ مَا عَاشَت بِلُقْمَانَ أَنْسُرٌ | لَصَرْفْ المَنَايَا، بعد ذلك، حافله |
(٢) أخرجه الطبري (٢١/ ٦٧).
(٣) فى الأصول (تدفنوا).
قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما رؤى من حكمة لقمان: أن مولاه أطال الجلوس في المخرج، فناداه لقمان: إن الجلوس على الحاجة ينخلع منه الكبد، ويورث الباسور، ويُصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هويناً، وقم هويناً.» «٢» وروي أنه قَدِمَ من سفر، فقيل له: مات أبوك، فقال: الحمد لله، ملكتُ أمري، فقيل له: ماتت امرأتك، فقال: الحمد لله جُدِّدَ فراشي، فقيل له: ماتت أختك، فقال: سُترت عورتي، فقيل له: مات أخوك، فقال: انقطع ظهري. «٣» هـ.
و «أَنْ» - في قوله: أَنِ اشْكُرْ: مفسرة لأنَّ إيتاء الحكمة في معنى القول، أي: وقلنا له: اشكر لله على ما أعطاك من الحكمة، وفيه تنبيه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما، وعبادةُ الله والشكر له، حيث فسر الحكمة بالحث على الشكر. وقيل: لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حليماً في قوله وفعله ومعاشرته وصُحبته.
وقال الجنيد: الشكر: ألا يُعْصَى اللهُ بنعمه. وقال أيضاً: ألا ترى مع الله شريكاً في نعمه. وقيل: هو الإقرار بالعجز عن الشكر. والحاصل: أن شكر القلب: المعرفة، وشكر اللسان: الحمد، وشكر الأركان: الطاعة. ورؤية العجز في الكل دليل القبول. وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن منفعته تعود عليه، لأنه بريد المزيد، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ غير محتاج إلى شكر أحد، حَمِيدٌ حقيق بأن يُحمد، وإن لم يحمده أحد. وَاذكر إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ، واسمه: أنعم، أو أشكم، أو ناران، وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ، تصغير ابن، لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنه تسوية بين مَنْ لاَ نِعْمَةَ إلا منه، ومن لا نعمة منه أصلاً. وبالله التوفيق.
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٣١١) لابن المنذر، عن عكرمة، بدون رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(٣) عزاه فى الدر (٥/ ٣١٧) لعبد الله فى زوائده، عن عبد الله بن دينار.
انفتاح عين القلب لشهود ملاطفات الحق. ويقال: الشكرُ: تَحَقُّقُكَ بعجزك عن شكره. ويقال: ما به يَحْصُلُ كَمَالُ استلذاذِ النعمة. ويقال: هو فضلةٌ تظهر على اللسان من امتلاء القلب من السرور، فينطق بمدح المشكور. ويقال:
الشكر: نعتُ كُلّ غنيٍّ، كما أن الكفران وصف كلِّ لئيم. ويقال: الشكر: قرعُ باب الزيادة. هـ. قلت: والأحسن: أنه فرح القلب بإقبال المنعم، فيسري ذلك في الجوارح.
ثم قال في قوله: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ: الشركُ على ضربين: جَليّ وخفيّ، فالجليُّ عبادة الأصنام، والخفيّ:
حسبان شيء من الحدثان من الأنام- أي: أن تظن شيئاً مما يحدث في الوجود أنه من الأنام- ويقال: الشرك:
إثباتُ غَيْنٍ مع شهود العين، ويقال: الشرك ظلمٌ عَلَى القلب، والمعاصي ظلمٌ على النفس، فظلم النفس مُعَرَّضٌ للغفران، وظلم القلب لا سبيل للغفران إليه. هـ.
ثم أمر ببر الوالدين، الذي تقدم السؤال عنه فى سبب نزول السورة، فقال:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
قلت: الجملتان معترضتان بين أجزاء توصية لقمان لابنه. و (وَهْناً) : حال من (أمه)، أي: حملته حال كونها ذَاتَ وَهْنٍ، أو من الضمير المنصوب، أي: حملته نُطْفَةً، ثم علقة.. إلخ، أو مصدر، أي: تهن وهناً.
يقول الحق جلّ جلاله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أن يَبَرَّهُمَا ويُطِيعَهُمَا، ثم ذكر الحامل على البر فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي: تضعف ضعفاً فوق ضعف، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل، كلما ازداد وعظم، ازدادت ثِقلاً. وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي: فطامه لتمام عامين. وهذا أيضاً مما يهيج
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، هو تفسير لِوَصَّينَا، أو على حذف الجار، أي: وصيناه بشكرنا وبشكر والديه. وقوله:
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ.. إلخ: اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر لأنه، لَمَّا وصى بالوالدين، ذكر ما تُكابده وتُعاينه من المشاق في حمله وفصاله، هذه المدة الطويلة تذكيراً لحقها، مفرداً.
وعن ابن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين، في أدبار الصلوات الخمس، فقد شكرهما. هـ. وقال القشيري: والإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما. ثم قال: فشكرُ الحقِّ بالتعظيم والتكبير، وشكرُ الوالدين بالإشفاق والتوقير. هـ.
ثم قال تعالى: إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأحاسبك على شكرك، أو كفرك. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أراد بنفي العلم به نفيَه من أصله، أي: أَن تُشْرِكَ بِي مَا ليس بشيء، أو: ما ليس لك به علم باستحقاقه الإشراك مع الله، بل تقليداً لهما، فَلا تُطِعْهُما في ذلك الشرك. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي: صِحَاباً معروفاً يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم، وهو الخُلُقُ الجميل، بِحِلْمٍ، واحتفالٍ، وبر، وصلة. وقد تقدم تفسيره في الإسراء «١».
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي: اتبع طريق مَنْ رَجَعَ إليَّ بالتوحيد والإخلاص، وهو الرسول ﷺ والمؤمنون، ولا تتبع سبيلهما، وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا. وقال ابن عطاء: اتبع سبيل من ترى عليه أنوار خدمتي. هـ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي: مرجعك ومرجعهما، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيك على إيمانك وَبِرِّكَ، وأجازيهما على كفرهما. وَاعْتَرَضَ بهاتين الآيتين، على سبيل الاستطراد تأكيداً لِمَا في وصية لقمان من النهي عن الشرك، يعني: إنما وصيناه بوالديه، وأمرناه ألا يطيعَهُمَا في الشرك، وإن جاهدا كل الجهد لقبح الشرك.
وتقدم أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وأنه مضت لأمه ثلاث ليال لم تَطْعم فيها شيئاً، فشكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت «٢»، وقيل: من أناب: أبو بكر لأن سعداً أسلم بدعوته «٣». والله تعالى أعلم.
الإشارة: بر الوالدين واجب، لا سيما في حق الخصوص، فيطيعهما في كل شيء، إلا إذا منعاه من صحبة شيح التربية، الذي يُطهر من الشرك الخفي، الذي لا ينجو منه أحد، فإن الآية تشمله بطريق العموم والإشارة، أي:
وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تشرك بي متابعة هواك وحظوظك ومحبتهن، فلا تُطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا،
(٢) راجع تفسير الآية (٨) من سورة العنكبوت مع حاشية التحقيق.
(٣) انظر سيرة ابن هشام (١/ ٢٥٠- ٢٥٢) وأسباب النزول للواحدى (ص ٣٥٨). وتفسير البغوي (٦/ ٢٨٨).
وقال الشيخ السنوسي، في شرح عقائد الجزائري، ما نصه: وحاصل الأمر في النفس: أنها شبيهة، في حالها، بحال الكافر الحَرْبِيّ، الذي يريد أن تكون كلمة الكفر هي العليا، وكلمة التوحيد السفلى، وكذلك النفس تريد أن تكون كلمة باطلها من الدعاوى للحظوظ العاجلة، المُشْغِلة عن إخلاص العبودية لمولانا جل وعلا، وعن القيام بوظائف تكاليفه، على الوجه الذي أمر به، هي العليا، النافذ أمرها ونهيها في مُدُنِ الأجسام وما تعلق بها، بعد أن نزلت ساحة الأبدان، واتصلت اتصالاً عظيماً لا انفكاك له إلا بالموت، فوجب، لذلك، على كل مؤمن يُعظّم حرمات الله تعالى أن ينهض كل النهوض، بغاية قواه العِلمية والعملية، لجهادها وقتالها. وفي مثل هذا القتال الذي نزل العدو فيه بساحة الأبدان، وهو فرض عين على كل مؤمن، يسقط فيه استئذان الأبوين وغيرهما. هـ. فأنت ترى كيف جعل قيام النفس على العبد، وحجابها له عن ربه، كعدو يجب جهاده ولو خالف الوالدين، وهو كذلك إذ طاعة الوالدين لا تكون في ترك فرض، ولا في ارتكاب معصية، ومن جملة المعاصي، عند الخواص، رؤية النفس والوقوف معها، وفي ذلك يقول الشاعر:
فَقلتُ: ومَا ذنبي؟ فَقَالَتْ مُجِيبَةً... : وُجودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
وتطهير النفس فرض عين، ولا طاعة للوالدين في فرض العين. وقوله تعالى: (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) قال الورتجبي: المعروف، هاهنا، أن تُعرفهما مكان الخطأ والغلط في الدين عند جهالتهما بالله. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، نهاه عن متابعة المخلَّطِين، وحثه على متابعة المنيبين. هـ. وبالله التوفيق.
ثم قال لقمان فى وصيته:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٦ الى ١٩]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَآ أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وقال لقمان لابنه، حين قال له: يا أبت: إن عَمِلْتُ بالخطيئة، حين لا يراني أحد، كيف يعلمها الله؟ فقال: يا بُنَيَّ إِنَّها، أي: القصة أو الخطيئة إِنْ تَكُ مِثْقالَ «١» حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي: إن تك المعصية في الصغر والحقارة، مثقال حبةٍ من خَرْدَلٍ، أو: إن تقع مثال حَبَّةٍ من المعاصي فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أي: فتكن، مع صغرها، في أخفى مكان، أو في جبل. وقال ابن عباس: هي صخرة تحت الأَرَضين السبع، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة الماء منها. هـ. قال السدي: خلق الله تعالى الأرض على حوت، والحوت في الماء، والماء على ظهر صَفَاةٍ- أي: صخرة- والصفاة على ظهر ملَكَ، والملك على صَخْرَة.
وهي الصخرة التي ذكر لقمان. ليست في السماء ولا في الأرض، والصخرة على الريح «٢». هـ.
أي: إن تقع المعصية في أخفى مكان يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يوم القيامة فيحاسب عليها عاملها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ: يتوصل علمه إلى كل خفي، خَبِيرٌ: عالم بكنهه، أو: لطيف باستخراجها خبير بمستقرها.
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ: أتقنها، وحافظ عليها تكميلاً لنفسك، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلاً لغيرك، وَاصْبِرْ عَلى مَآ أَصابَكَ في ذات الله تعالى، إذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر فإن من فعل ذلك تعرض للأذى، أو: على ما أصابك من الشدائد والمحن فإنها تورث المنح والمنن. إِنَّ ذلِكَ الذي وصيتك به، مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: مما عزمه الله من الأمور، أي: قَطَعَه قطع إيجاب وإلزام، أي: أمر به أمراً حتماً. وهو مصدر بمعنى المفعول، أي: من معزومات الأمور، أي: مقطوعاتها ومفروضاتها. وفيه دليل على أنَّ هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم.
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي: تُمله عنهم، ولا تولهم صفَحة خدك، كما يفعله المتكبرون. والتصعير: داء يصيب العير، فيلوى عُنُقَهُ منه. والمعنى: أَقْبِل على الناس بوجهك تواضعاً، ولا تُولهم شق وجهك وصفحته تكبرا.
(٢) انظر: تفسير البغوي (٦/ ٢٨٨- ٢٨٩)، والبحر المحيط (٧/ ١٨٧). قلت: كل هذه أقوال لا علاقة لها بالآية، ولا يصح تفسير الآية بها. وعلم الفلك الحديث، وعلم الفضاء، وجميع حقائقه القطعية تبرهن على أن الأرض جرم، وكوكب يسبح فى الفضاء، وليس على حوت ولا على صخرة. والذي نرجحه: أن هذه الأوهام غير صحيحة السند إلى هؤلاء السادة العلماء.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه بين الدبيب والإسراع، فلا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثوب الشطارين، قال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ سُرْعَةَ المَشي تُذْهِبُ ببهاء المُؤْمِنِ» «١». وأما قول عائشة- رضى الله عنها: (كان إذا مَشَى أسْرَع) فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب التماوت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كانوا ينهون عن خَبَبِ «٢» اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك. وقيل: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: انظر موضع قدميك، أو: اقصد: تَوَسَّطْ بين العلو والتقصير.
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ وانقص منه، أي: اخفض صوتك. كانت العرب تفخر بمجاهرة الصوت، فنهى الله عن خُلُق الجاهلية، فذكره لوصية لقمان، وأنه لو كان شيء يُهَابْ، لرفع صوته لكان الحمار، فجعلهم في المثل سواء. وهو قوله: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها وأقبحها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لأن أوله زفير، وآخره شهيق، كصوت أهل النار. وعن الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار، فإنه يصيح لرؤية الشيطان، وقد سماه الله منكراً، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير تنبيه على أن رفع الصوت في غاية البشاعة، ويؤيده: ما رُوِيَ أنه:
عليه الصلاة والسلام- كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون مجهور الصوت.
وقال بعضهم: رفع الصوت محمود في مواطن منها: الأذان والتلبية. وقال في الحاشية الفاسية: بل ينبغي الاقتصاد في ذلك، كما قال عمرُ بنُ عبد العزيز: أَذِّن أذاناً سنِّياً، وإلا اعتزلنا. هـ. وقال عليه الصلاة والسلام:
«ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لاَ تَدْعُون أصمَّ ولا غَائباً» «٣». وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من هذا الجنس حتى يجمع، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده.
الإشارة: قد اشتملت وصية لقمان على خصال صوفية، تدل على كمال صاحبها، منها: استحضار مراقبة الحق ومشاهدته، في السر والعلانية، في الجلاء والخفاء. وهو قوله: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ.. إلخ. ومنها:
القيام بوظائف العبودية، بدنية ولسانية، وهو قوله: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ.. إلخ، ويقاس على الأمر بالمعروف والنهى
(٢) الخبب: ضرب من العدو. وقيل: الخبب: السرعة. انظر: «اللسان» (خبب ٢/ ١٠٨٥).
(٣) بعض حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، ح ٦٣٨٤)، ومسلم فى (الذكر والدعاء، باب استجاب خفض الصوت بالذكر ٤/ ٢٠٧٦ ح ٢٠٧٤) من حديث أبى موسى الأشعري رضى الله عنه. وقوله «اربعوا» أي: ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم.
قال القشيري: قوله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ.. ، الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغُهُ: أن تمنع نفسك عما تنهى عنه، واشتغالك، واتصاف نفسك، بما تأمر به غيرك، ومنْ لا حُكْم له على نَفْسِه لا حُكْمَ له على غيره.
والمعروف الذي يجب الأمر به: ما يُوَصِّلُ العبدَ إلى مولاه، والمنكر الذي يجب النهي عنه: ما يشغل العبد عن الله.
ثم قال: وقوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى مَآ أَصابَكَ: تنبيه على أنَّ مَنْ قام لله بحقِّ امْتُحِنَ في الله، فسبيله أن يصبرَ في الله، فإنَّ من صبر لله لم يخسر على الله.
ثم قال: قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تتكبرْ عليهم، وطالِعْهم مِنْ حَيْثُ النسبة، وتحقق بأنكَ بمشهدٍ من مولاك. ومن عَلِمَ أن مولاه ينظر إليه لا يتكبرُ ولا يتطاول، بل يتخاضع ويتضاءل. قوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ.. الآية، أي: كُنْ فانياً عن شواهدك، مُصْطَلَماً عن صَوْلَتِك، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتك، متشبهاً بما استولى عليك من كشوفات سِرِّك. وانظر مَنِ الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خُمَارِ غفلتك، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ: في الإشارة: أنه الذي يتكلم بلسان المعرفة بغير إذنٍ من الحق. وقالوا: هو الصوفي يتكلم قبل أوانه. هـ. أي: يتكلم على الناس، قبل أن يأذن له شيخه في التذكير. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بالنعم، فقال:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)
(٢) الآية ١٠٨ من سورة طه.
فقيل: الظاهرة: السمع، والبصر، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة: القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك.
أو: الظاهرة: الصحة، والعافية، والكفاية والباطنة: الإيمان، واليقين، والعلم، والمعرفة بالله، وسيأتي في الإشارة بقيتها.
رُوِي أن موسى عليه السلام قال: دُلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم: النَّفسُ. هـ.
قلت: إذ بمجاهدتها تحصل السعادة العظمى، ولا وصول إليه إلا بمجاهدتها والغيبة عنها. وفي هذا المعنى كان شيخ شيخنا يقول: جزاها الله عنا خيراً ما ربحنا إلا منها. هـ. وقيل: الظاهرة: تحسين الخلْق، والباطنة: حُسْنُ الخلقُ.
وقال ابن عباس: الظاهرة: ما سوى من خلقك، والباطنة: ما ستر من عيوبك.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بعد هذه النعم المتواترة، أي: في توحيده وصفاته ودينه، بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل ولا برهان، وَلا هُدىً اي: هداية رسول، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله الله، بل بمجرد التقليد الردي. نزلت في النضر بن الحارث. وقد تقدمت في الحج «١».
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رسوله من التوحيد، والشرائع، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام. وهو دليل منع التقليد في الأصول. قاله البيضاوي قلت: والمشهور أن إيمان المقلِّد صحيح. وأما من قلَّد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ينظر، فهو مؤمن، اتفاقا. قال تعالى: أَوَلَوْ أيتبعونهم، ولو كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ، يحتمل أن يكون الضمير لهم، أي: أيقلدونهم، ولو كان يدعوهم بذلك التقليد إلى العذاب، أو: لآبائهم، أي: أيتبعون آباءهم، ولو كان الشيطان في زمانهم يدعوهم إلى عذاب السعير.
الإشارة: الأكوان كلها خُلِقَتْ لك أيها الإنسان، وأنت خُلِقْتَ للحضرة، فاعرف قَدْرَكَ، ولا تتعدّ طورك، واشكر النعم التي أسبغ عليك ظاهرة وباطنة. الظاهرة: استقامة الظواهر في عمل الشرائع، والباطنة: تصفية البواطن لتتهيأ لأنوار الحقائق، أو: الظاهرة: المنن، والباطنة: المحن. قال القشيري: قد تكلموا فى الظاهرة والباطنة وأكثروا.
نَفْس بلا زَلَّة، وقلبٌ بلا غفلة، أو: عطاء ورضى. أو: الظاهرة: في الأموال ونمائها، والباطنة: في الأحوال وصفائها، أو: الظاهرة: النعمةُ، والباطنة: العصمةُ، أو: الظاهرةُ: توفيقُ الطاعات، والباطنة: قبولُها، أو: الظاهرة:
صحبة العارفين، والباطنةُ: حِفْظُ حُرْمَتِهم وتعظيمهم. أو: الظاهرة: الزهدُ في الدنيا، والباطنة: الاكتفاءُ بالله من الدنيا والعُقبى. أو: الظاهرة: الزهد، والباطنة: الوَجْدُ. أو: الظاهرة: توفيق المجاهدة، والباطنة: تحقيقُ المشاهدة، أو:
الظاهرة: وظائف النَّفْس، والباطنة: لطائف القلب، أو: الظاهرة: اشتغالُك بنفسك عن الخلق، والباطنة: اشتغالك بربَّك عن نفسك، أو: الظاهرة: طَلَبَهُ، والباطنة: وجودُه، أو: الظاهرةُ: أنْ تَصِلَ إليه، والباطنة: أن تبقى معه. هـ. ببعض المعنى.
ثم قال القشيري: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ.. الآية: لم يتخطوا أمثالَهم، ولم يهتدوا إلى تحوِّل أحوالهم هـ. يعني: قلدوا أسلافهم في الإقامة مع الرسوم والأشكال، والانهماك في الحظوظ، فعاقهم ذلك عن السير والوصول. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما من خالف أمثاله وأشكاله، وانقاد بكليته إلى مولاه، فقد استمسك بالعروة الوثقى، كما قال تعالى:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
قلت: قال في الحاشية: لّمَّا ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم، وعدّاه هنا بإلى، وفي قوله: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «١»، باللام لأنه لَمَّا كان المجادل غير مُعين، ولم يخص له واحداً بعينه، عقَّبه بحال من حصل منه مطلق الاستسلام، ومَدْحُهُ يتناول مَدْحَ مَنِ اتصف بأخص الاستسلام. أو: في الآية الأخرى أتى به خاصاً، لما رتب عليه من الثواب الجزيل بقوله: فَلَهُ أَجْرُهُ... إلخ، الذي لم يذكر هنا إلا بعضه، فإن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء. و «إلى» : لا تقتضي ذلك. انظر ابن عرفة.
وقال النسفي: عدّاه هنا بإلى وهناك باللام لأن معناه، مع اللام: أنه جعل وجهه- وهو ذاته ونفسه- سالماً لله، أي: خالصاً له، ومعناه، مع «إلى» : أنه سلّم نفسه كما يُسلم المتاع إلى الرجل، إذا دفع إليه. والمراد: التوكل عليه والتفويض إليه. هـ. أي: فهو أبلغ من اللام، ومثله البيضاوي.
ما يستمسك به. والوثقى: تأنيث الأوثق. مثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل، فاحتاط لنفسه، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين، مأمونٍ انقطاعُهُ. قال الهروي: أي: تمسك بالعقد الوثيق. وقال الأزهري: أصله: من عروة الكلأ، وهو: ما له أصل ثابت في الأرض، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل في الأرض. ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به، ويُلْجأُ إليه. هـ.
وهو إشارة لكون التوحيد سبباً وأصلاً، والآخِذُ به، مُّتصلاً بالله، لا يخشى انقطاعاً ولا هلاكاً، بخلاف الشرك، فإنه على الضد، كما يرشد إليه قوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ.. «١» الآية. وقوله تعالى:
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ... الآية «٢».
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: صائرة إليه، فيُجازى عليها.
وَمَنْ كَفَرَ ولم يسلم وجهه لله، فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ فلا يهمك شأنه، فَسَيَقْدِمُ علينا ونجازيه، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، أي: فنعاقبهم على أعمالهم، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، أي: عالم بحقائق الصدور، وما فيها، فيجازى على حسبها، فضلاً عما في الظواهر، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، أي: نمتعهم زماناً قليلاً بدنياهم، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ شديد. شبَّه إلزامهم التعذيب، وإرهاقهم إليه، باضطرار المضطر إلى الشيء. والغِلظ: مستعار من الأجرام الغليظة، والمراد: الشدة والثَّقَلُ على المُعَذِّبِ. عائذاً بالله من موجبات غضبه.
الإشارة: ومن يَنْقَدْ بكليته إلى مولاه، وغاب عن كل ما سواه، وهو من أهل مقام الإحسان، بأن أشرقت عليه شمس العيان، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبداً. ومن أمارات الانقياد: ترك التدبير والاختيار، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فيوصل من يشاء برحمته، ويقطع من يشاء بعدله. ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه فلا يحزنك، أيها العارف،
(٢) الآية ٣١ من سورة الحج.
ثم برهن على توحيد من يجب الاستسلام له، فقال:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، فيضطرون إلى الإقرار بذلك، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم من شرك الأصنام، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن ذلك يلزمهم إذا نبهوا عليه، ولم ينتبهوا، فالإضراب عن كلام محذوف، أي: فيجب عليهم أن يعبدوا الله وحده، لمّا اعترفوا، ولكنهم لا يعلمون، لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكاً وعبيداً، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، أي: الغني عن حمد الحامدين، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.
الإشارة: قد اتفقت الملل على وجود الصانع. ثم وقفت العقول في مقام الحيرة والاستدلال، وامتدت الأرواح والأسرار بأعناقها إلى معرفة الذات وشهودها، فمن وَجَدَتْ عارفاً كاملاً سلك بها الطريق، حتى أوقعها على عين التحقيق، فأشرفت على البحر الزاخر، فغرقت في بحر الذات وتيار الصفات، ثم رجعت إلى بر الشريعة لتدل غيرها على الوصول. وقل الحمد لله أَنْ وَجَدْتَ من يعرفك بالله، وأكثر الخلق حائدون عن العلم بالله.
ثم إن العلم بالله وبصفاته وأسمائه لا نهاية له، كما قال تعالى:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)
قلت: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض) : مذهب الكوفيين وجماعة: أن ما بَعد «لو» : فاعل بفعل محذوف، أي: ولو ثبت كون ما في الأرض.. إلخ. ومذهب سيبويه: أنه مبتدأ، أي: ولو كون ما في الأرض واقع، و (البحر) : مبتدأ، و (يمده) : خبره، أي: يمد ما ذكر من الأقلام. و (من بعده سبعةُ أبحر) : مبتدأ وخبر. وحذف التمييز، أي: (مداداً)،
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ من الأشجار أَقْلامٌ، والبحر يمد تلك الأقلام، يصب في ذلك البحر سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وتلك الأقلام كلها تكتب كلمات الله الدالة على عظمته وكمالاته، ما نَفِدَتْ كلماته، ونفدت الأقلام، وجفت تلك الأبحر، وهذا كقوله: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي»
مع زيادة المبالغة بذكر السبعة أبحر، يقال: مد الدواة وأمدها: جعل فيها مداداً، فجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة مدادها، وفروع الأشجار كلها أقلام تكتب كلماته تعالى، فلو قدر ذلك لتكسرت الأقلام وجفت الأبحر، قبل ان تنفد كلماته تعالى لأنها تابعة لعلمه، وعلمه لا نهاية له.
وإنما وحدَّ الشجرة لأن المراد تفصيل الشجر وتقَصِيها شجرة شجرة، حتى ما يبقى من جنس الشجر، ولا واحدة إلا وقد بُريت أقلاماً. وأوثر الكلمات، وهي من حيز جمع القلة، على الكَلِم، الذي هو جمع الكثرة لأن المعنى: أن كلماته لا يفي بها الأقلام فكيف بكلامه الكَثير؟
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يُعجزه شيء، حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه وحكمته شيء، فلا تنفد كلماته وحكمته.
والآية جواب اليهود، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قلنا: الآية مدنية، أو: أَمروا وَفد قريش أن يسألوه عن قوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «٢»، فقالوا: هل عنيتنا أمْ قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كُلاّ قد عنيت»، فقالوا: أليس فيما قد أوتيت أنَّا قد أُوتينا التوراة، فيها علم كل شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله قليل»، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّ ما...
إلخ «٣».
ولما ذكر شأن كلامه وعلمه ذكر شأن قدرته، فقال: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، أي: إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة. فحُذف، للعلم به، أي: القليل والكثير في قدرة الله تعالى سواء، فلا يشغله شأن عن شأن، وقدرته عامة التعلق، تَنْفُذُ أسرع من لمح البصر. قال الغزالي في الإحياء: ومن غريب حِكَم الآخرة أن الرجل يُدعى به إلى الله تعالى، فيُحاسب ويُوبخ، وتُوزن له حسناته وسيئاته، وهو في ذلك كله يظن أن الله لم
(٢) الآية ٨٥ من سورة الإسراء.
(٣) أخرجه الطبري فى التفسير (٢١/ ٨١) عن ابن عباس. وذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٥٨) بدون إسناد.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقول من يُنكر البعث من المشركين، بَصِيرٌ بأعمالهم، فيجازيهم.
الإشارة: أوصاف الباري سبحانه كلها كاملة، غير محصورة ولا متناهية من علم، وقدرةٍ، وإرادة، وكلام، وغيرها. وأوصاف العبد كلها قصيرة متناهية، وقد يمد الحقُّ عبده بصفة من صفاته التي لا تتناهى «١»، فإذا أمده بصفة الكلام تكلم بكلام تعجز عنه العقول، لا يقدر على إمساكه، فلو بقي يتكلم عمرَه كله ما نفد كلامه، حتى يُسكته الحق تعالى. وقد كان بعض السادات يقول لأصحابه، حين يتكلم عليهم: إني لأستفيد من نفسي كما تستفيدون أنتم مني، وذلك حين الفيض الإلهي. وإذا أمده بصفة القدرة، قدر على كل شيء، وإذا أمده بصفة السمع سمع كل شيء، وإذا أمده بصفة البصر، أبصر كل موجود.. وهكذا. وهذه الأوصاف كامنة في العبد من حيث معناه، احتجبت بظهور أضدادها صوناً لسِّر الربوبية. والله تعالى أعلم.
ثم برهن على كمال أوصافه، فقال:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يُدخل ظلمة الليل في ضوء النهار، إذا أقبل الليل، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يُدخل ضوء النهار في ظلمة الليل، إذا أقبل النهار. أو: بإدخال جزء
فدل، بتعاقب الليل والنهار، أو بزيادتهما ونقصانهما، وَجَرْي النيرين في فلكهما، على تقدير وحساب معلوم، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق، على عظيم قدرته، وكمال علمه وحكمته.
ذلِكَ شاهد بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وما سواه باطل، وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ «١» مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ المعدوم في حد ذاته، لا حقيقة لوجوده. أو: ذلك الذي وصف بما وصف به، من عجائب قدرته وباهر حكمته، التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله؟ إنما هو بسبب أنه الحق الثابت الإلهية، وأن مَن دونه باطل ألوهيته، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، أي: العلي الشأن، الكبير السلطان.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ السفن تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه ورحمته، أو: بالريح، لأن الريح من نعم الله. أو: ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والمتاع، فالباء، حينئذٍ، للأرزاق، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته، وكمال حكمته، وشمول إنعامه. لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموه، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دالة على وحدانيته وكمال صفاته لِكُلِّ صَبَّارٍ في بلائه، شَكُورٍ لنعمائه. وهما من صفة المؤمن. فالإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر، فلا يَعْتَبِرُ بعجائب قدرته إلا من كان هكذا.
وَإِذا غَشِيَهُمْ، أي: الكفار، أي: علاهم وغطاهم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، أي: كشيء يظل من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، فالموج الكبير يرتفع فيعود كالظلل جمع ظُلة، وهو ما أظلك من جبل أو سقف. فإذا غشيهم ذلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لا يدعون معه غيره، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ مقيم على الطريق القصد، باقٍ على الإيمان، الذي هو التوحيد، الذي كان منه في حال الشدة، لم يعد إلى الكفر، أو: متوسط في الظلم والكفر، انزجر بعض الانزجار. ، ولم يَغْلُ في الكفر والعدوان.
أو: مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني: أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، إلا النادر، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي: بحقيقتها إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدار. والختْر: أقبح الغدر، كَفُورٍ لنعم ربه. وهذه الكلمات متقابلة لفظاً ومعنى، فَخَتَّارٌ: مقابل صبّار، وكفور: مقابل شكور لأن من غدر لم يصبر، ومن كفر لم يشكر. والله تعالى أعلم.
وإذا غشيهم، في حال استشرافهم على بحر الحقيقة، موج من أنوار ملكوته، فكادت تدهشهم، تضرعوا والتجئوا إلى سفينة الشريعة، حتى يتمكنوا، فلما نجاهم إلى بر الشريعة، فمنهم مقتصد معتدل بين جذب وسلوك، بين حقيقة وشريعة، ومنهم: غالبٌ عليه السكر والجذب، ومنهم: غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء الله، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختَّار جاحد. قال القشيري: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاء الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.
فَكَمْ قدْ جَهِلْتُمْ، ثم عُدْنا بِحِلْمِنَا،... أَحِبَّاءَنَا: كم تجهلون ونحلم!
ثم ختم بالوعظ والتذكير، فقال:
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
قلت: (بأي أرض) قال في المصباح: الأفصح: استعمال «أي» في الشرط والاستفهام بلفظ واحد، للمذكر والمؤنث، وعليه قوله تعالى: أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
«١»، وقد تطابق في التذكير والتأنيث، نحو: أَيُّ رَجُلٍ، وأي وأية امرأة. وفي الشاذ: بأية أرض تموت. هـ.
لا يجزى فيه، فحذف. وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً، وتغيير النظم في حق الولد، بأن أكده بالجملة الاسمية، وبزيادة لفظ (هو)، وبالتعبير بالمولود للدلالة على حَسْمِ أطماعهم في أن ينفعوا آباءهم الذين ماتوا على الكفر بالشفاعة في الآخرة. ومعنى التأكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه، فضلاً عن أن يشفع لأجداده لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود لأنه لِمَا وُلِدَ منك.
كذا في الكشاف، قلت: وهذا في حق الكفار، وأما المؤمنون فينفع الولد والده، والوالد ولده بالشفاعة، كما ورد في قارئ القرآن والعالمِ، وكل من له جاه عند الله، كما تقدم في سورة مريم «١».
ثم قال تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والحساب والجزاء، حَقٌّ لا يمكن خلفه، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بزخارفها الغرارة فإِنَّ نعمها دانية، ولذاتها فانية، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء، بالزهد فيها، والتفرغ لِمَا يرضي الله، من توحيده وطاعته، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ، أي: لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحمله، أو: لا يوقعنكم في الجهل بالله والغرة به، الْغَرُورُ أي: الشيطان، أو: الدنيا، أو: الأمل. وفي الحديث: «الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ المَوْتِ، والأحمقُ من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنَّى على اللهِ الأمَاني» «٢». وفي الحديث أيضاً: «كَفَى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً».
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: وقت قيامها، فلا يعلمه غيره، فتأهبوا لها، قبل أن تأتيكم بغتة. وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ: عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل، أي: إن الله يُثبت عنده علم الساعة، ويُنزل الغيث في وقته، من غير تقديم ولا تأخير، وفي محله، على ما سبق في التقدير، ويعلم كم قطرة ينزلها، وفي أي بقعة يمطرها.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وشقي أو سعيد، وحسن أو قبيح. وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، ووفاق وشقاق، فربما كانت عازمة على الخير فعملت شراً، أو على شر فعملت خيراً. وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي: أين تموت، فربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت:
لا أبرحُها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها.
رُوي أن ملك الموت مرَّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، فقال الرجل: مَن هذا؟ فقال:
ملك الموت، فقال: كأنه يُريدني، فسأل سليمانَ أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أُمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك. هـ.
(٢) سبق تخريج الحديث عند إشارة الآيات: ٣٨- ٤٠ من سورة العنكبوت.
وجاءه يهودي منجم، فقال: إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول عليّ الحول حتى أموت. قال له: أين موتك؟ قال: لا أدري، فقال ابن عباس: صدق الله: ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. ورأى المنصورُ في منامه ملك الموت، وسأله عن مدة عمره، فأشار بأصابعه الخمس، فعبرها المعبرون بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبخمسة أيام. فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو إشارة إلى هذه الآية، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلاَّ الله. هـ.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: قيل: أنَّ الله تعالى يُعْلِم الأشياء بالوَسم والرسم، والرسم يتغير، والوسم لا يتغير، فقد أخفى الله تعالى الساعة، ولم يخف أمارتها، كما جاء عن صاحب الشرع. وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه، ولكن لا من كل وجوهه، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره، وبالجملة فعلمُ ما يكون من الخواص، جُملة لا تفصيلي، وجزئي لا كُلي، ومقيد لا مطلق، وعرضي لا ذاتي، بخلاف علمه تعالى. هـ.
قال المحلي: روى البخاري عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.. «١»
إلى آخر السورة.. ونقل ابن حجر عن ابن أبي جمرة، بعد كلام، ما نصه: والحكمة في جعلها خمسة: الإشارة إلى حصر العوالم فيها، ففي قوله: ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ: الإشارة إلى ما يزيد في الإنسان وما ينقص. وخص الرحم بالذكر، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها، فغيرها بطريق الأولى. وفي قوله:
لا يعلم متى يأتي المطر: إشارة إلى أمور العالم العلوي، وخص المطر مع أن له أسباباً قد تدل بجرى العادة على وقوعه، لكنه من غير تحقيق. وفي قوله: «لا تدري نفس بأي أرض تموت» : إشارة إلى أمور العالم السفلي، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده، ولكن ليس ذلك حقيقة، وإن مات ببلده لا يعلم بأي بقعة يُدفن فيها، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه، بل قبر أعده هو له.
وفي قوله: «ولا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إلا الله» : إشارة إلى أنواع الزمان، وما فيها من الحوادث، وعبَّر بلفظ (غدٍ) لكون حقيقته أقربَ الأزمنة إليه، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه، مع إمكان الأمارة والعلامة، فما بعد
في الآية الأخرى، وهي قوله: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى.. «١» الآية، أن الإطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف. هـ ملخصاً.
والحاصل: أن العوالم التي اختص الله بها خمسة: عالم القيامة وما يقع فيه، والعالم العلوي وما ينشأ منه، وعالم الأرض وما يقع فيه، وعالم الإنسان وما يجري عليه، وعالم الزمان وما يقع فيه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ عليم بالغيوب، خبير بما كان وبما يكون. وعن الزهري: أَكْثِرُوا من قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب هـ.
الإشارة: يا أيها الناس المتوجهون إلى الله، إن وعد الله بالفتح، لمن أنهض همته إليه، حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأشغالها، عن النهوض إليها، ولا يغرنكم بكرم الله الشيطانُ الغرور، فيغركم بكرم الله، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما، إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ الساعة التي يفتح على العبد فيها، وينزل غيث المواهب والواردات، ويعلم ما في أرحام الإرادة، من تربية المعرفة واليقين، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً من زيادة الإيمان ونقصانه، وما تلقاه من المقادير الغيبية، فيجب عليها التفويض والاستسلام، وانتظار ما يفعل الله بها في كل غد، وما تدري نفس بأي أرض من العبودية تموت فيها، إن الله عليم خبير.
قال القشيري: في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ: خوّفهم، تارةً، بأفعاله، فيقول: اتَّقُوا يَوْماً «٢»، وتارة بصفاته، فيقول: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى «٣»، وتارة بذاته، فيقول: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «٤». هـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
(٢) جاء فى آيات كثيرة، منها الآية ٤٨ من سورة البقرة.
(٣) من الآية ١٤ من سورة العلق.
(٤) من الآية ٢٨ من سورة آل عمران.