ﰡ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ﴾ ؛ أي رُخِّصَتْ لكم الأنعامُ نفسُها، وأضافَ البهيمةَ إلى الأنعامِ، كما يقالُ : مسجدُ الجامِعِ ؛ ونفسُ الإنسان. والأنْعَامُ : هِيَ الإبلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، ودخل في هذه الآية إباحةُ الظِّبَاءِ وبَقَرِ الْوَحْشِ وحمار الوحشِ ؛ لأنَّها أبْهَمُ في التَّمْيَيُّزِ من الأَهْلِيَّةِ، ولِهذا استثنَى اللهُ الصيدَ في حالةِ الإحرام في قولهِ تعالى :﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾. والبهيمةُ في اللغة يتناولُ كلَّ حَيٍّ لا يُميِّزُ، اسْتَبْهَمَ عليه الجوابُ ؛ أي اسْتَغْلَقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي إلاَّ ما يُقْرَأُ عليكم في القُرْآنِ مِمَّا حُرِّمَ عليكم في هذه السورة من الْمِيْتَةِ والدَّمِ ولحمِ الخنْزيرِ والموقُوذةُ والمتَردِّيَةُ والنَّطيحَةُ الايَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ﴾ ؛ نُصِبَ على الحالِ من الكافِ والميم التي في قولهِ :﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ ﴾ كما يقالُ : جاءَ زيدٌ راكباً ؛ وجاءَ غيرُ راكبٍ. والمعنى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأنَعَامِ غَيْرَ مُحِلبِّي الصَّيْدِ ؛ أي من أنْ تَسْتَحِلُّوا قتلَ الصَّيدِ وأنتُم مُحْرِمُونَ. وَقِيْلَ : نُصِبَ على الحالِ من قوله ﴿ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ أي أوْفُوا بالمعقُودِ غيرِ مُحِلِّي الصَّيْدِ، هذا قولُ الأخفشِ، والأوَّلُ قولُ الكسائيِّ.
ومعنى الآيةِ : أُحِلَّتْ لكمُ الأنعامُ إلاَّ ما كان وَحْشِياً، فإنَّهُ صَيْدٌ لا يحلُّ لكم إذا كنتم مُحْرِمِيْنَ، فذلكَ قولهُ :﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ ؛ أي يقضِي على عبادهِ بما شاءَ من التحليل والتحريْمِ على ما تُوجِبُهُ الحكمةُ.
والشَّعَائِرُ في اللغة : الْمَعَالِمُ، والإشْعَارُ : الإعْلاَمُ، وَالشَّعِيرَةُ وَاحِدَةُ الشَّعَائِرِ ؛ وهِيَ كُلُّ مَا جُعِلَ عَلَماً لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ ؛ أي ولا تَسْتَحِلُّوا القَتْلَ والغارَة في الشَّهرِ الحرامِ، وأرادَ بذلك الأشهُرَ الْحُرُمَ كلَّها ؛ وهي رَجَبٌ ؛ وذُو الْقَعْدَةِ ؛ وذُو الْحِجَةِ ؛ وَالْمُحَرَّمُ، إلاَّ أنه ذُكِرَ باسمِ الجنس كما في قولهِ تعالى :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ﴾[العصر : ٢] أرادَ به جِنْسَ الإنسانِ، ولذلك استثنَى المطيعَ بقوله :﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾[البقرة : ٢١٧]، ثم نُسِخَ حرمةُ القتال في الشهرِ الحرام بقولهِ تعالى :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة : ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ ﴾ ؛ أي لا تُحِلُّوا الْهَدْيَ ؛ أي لا تَذْبَحُوهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ ؛ ولا تنتفِعُوا بهِ بعدَ أن جعلتموهُ للهِ، ولا تَمنعوهُ أن يَبْلُغَ البيتَ. قَوْلُهَ تَعَالَى :﴿ وَلاَ الْقَلائِدَ ﴾ أي ولا تُحِلُّوا القلائدَ التي تكونُ في أعناقِ الهدايا ؛ أي لا تقطعُوها قبلَ الذبْحِ وتصدَّقوا بها بعدَ الذبحِ كما قالَ ﷺ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه :" تَصَدَّقُوا بحَلاَلِهَا وَخِطَامِهَا، وَلاض تُعْطِي الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئاً "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ﴾ ؛ معناهُ : ولا تسْتَحِلُّوا القَتْلَ والغارَّة على القاصدينَ المتوجِّهينَ نحوَ البيتِ الحرامِ، وعنِ ابن عبَّاس رضي الله عنه :" أنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ في شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ هِنُدِ الْيُمَامِيِّ، " دَخَلَ عَلَى النَّبيِّ ﷺ بالْمَدِيْنَةِ وَقَالَ : أنْتَ مُحَمَّدٌ النَّبيُّ ؟ قَالَ :" نَعَمْ " قَالَ : إلاَمَ تَدْعُو ؟ قالَ :" أدْعُو إلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ ". فَقَالَ : إنَّ لِي أُمَرَاءَ أرْجِعُ إلَيْهِمْ وَأَشَاورُهُمْ، فَإنْ قَبلُوا قَبلْتُ. ثمَّ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ النَّبيِّ ﷺ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ النَّبيُّ ﷺ :" لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بعَقِبَي غَادِرٍ ". فَمَرَّ بسَرْحٍ لأَهْلِ الْمَدِيْنَةِ فَاسْتَاقَهَا، وَانْطَلَقَ نَحْوَ الْيَمَامَةِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ يَقُولُ :
_@_ بَاتُوا نِيَاماً وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ _@_ بَاتَ يٌقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزُّلَمْ _@_ خَدَلَّجُ السَّاقينَ خَفَّاقُ الْقَدَمْ _@_ قَدْ لَفَّهَا اللّيْلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ _@_ لَيْسَ برَاعِي إبلٍ وَلاَ غَنَمْ _@_ وَلاَ بجزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ _@_ _@_ هَذا أوَّانُ الْحَرْب فَاشْتَدِّي زَلَمْ _@_
وَقَدْ كَانَ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى النَّّبيِّ ﷺ خَلَّفَ خَيْلَهُ خَارجَ الْمَدِيْنَةِ وَدَخَلَ وَحْدَهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ ؛ خَرَجَ شُرَيْحُ نَحْوَ مَكَّة فِي تِجَارَةٍ عَظِيْمَةٍ فِي حُجَّاجِ بَكْرٍ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أهْلِ الْيَمَامَةِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُغَيْرُ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإذا كَانَ أشْهَرُ الْحَجِّ أمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعضاً، وَإذا سَافَرَ أحَدُهُمْ فِي غَيْرِ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ نَحْوَ مَكَّةَ قَلَّدَ هَدْيَهُ مِنَ الشَّعْرِ وَالْوَبَرِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَدْيٌ قَلَّدَ رَاحِلَتَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَاحِلَةٌ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ قَلاَدَةً، وَكَانُوا يأْمَنُونَ بذلِكَ، فَإذا رَجَعُوا مِنْ مَكَّةَ جَعَلُوا شَيْئاً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فِي عُتُقِ الرَّاحِلَةِ فَيْأْمَنُوا، فَلَمَّا سَمِعَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ بخُرُوجِ شُرَيْحٍ وَأصْحَابهِ اسْتَأْذَنُوا النَّبيَّ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾ ؛ في موضعِ نَصْبٍ على الحالِ، معناهُ : قَاصِدِيْنَ طالِبينَ رزْقاً بالتِّجارةِ، ﴿ وَرِضْوَاناً ﴾ أي رضىً مِن اللهِ تعالى عَلَى عَمَلِهِمْ، وَلاَ يرضَى عنهم حتَّى يُسْلِمُوا. وقال الحسنُ وقتادةُ :[مَعْنَى رضْوَاناً ؛ أيْ يَرْضَى اللهُ عَنْهُمْ ؛ فَيُصْلِحُ مَعَاشَهُمْ وَيَصْرِفُ عَنْهُمْْ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا إذا كَانُوا لاَ يُقَرُّونَ بالْبَعْثِ، ثُمَّ نُسِخَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذلِكَ تَعَرَّضَ الْمُشْرِكينَ بقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة : ٥] كَافَّةً، وَبقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا ﴾ [التوبة : ٢٨]]. وقرأ الأعمشُ [وَلاَ آمِّينَ] أبي البيتَ الحرامَ بالإضافةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴾ ؛ أي لا يحملَنَّكم ويكسبنَّكم بُغْضُ قومٍ وعداواتُهم بأن صرفوكُم عامَ الْحُدَيْبيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على أن تَظْلُمُوهُمْ، وتتجاوزُوا الحدَّ للمكافأةِ. وموضع :[أنْ تَعْتَدُوا] نَصْبٌ لأنه مفعولٌ، و ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ مفعوةلٌ لهُ، كأنهُ قال : لا يَكْسِبَنَّكُمْ بغضُ قومٍ الاعتداءَ عليهم بصدِّهم إيَّاكم.
قرأ أهلُ المدينةِ إلاَّ قالون ابنَ عامرٍ والأعمش :[شَتْآنُ] بجوزِ النُّون الأُولى. وقرأ الآخرون بالفَتْحِ وهُما لُغتان ؛ إلاّ أنَّ الفتحَ أجودُ لأنه أفْهَمُ اللُّغتين، ولأنَّ المصادِرَ أكثرُ ما تجيءُ على [فِعْلاَنُ] مثل النَّفَيَانِ وَالرِّتَقَانِ والعَسَلاَنِ ونحوُ ذلك.
قال ابنُ عبَّاس :[مَعْنَى :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ أيْ وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمْ]. وقال الفرَّاءُ :[وَلاَ يَمْسِبَنَّكُمْ]، قال :[يُقَالُ : فُلاَتٌ جَرِيْمَةُ أهْلِهِ ؛ أيْ كَاسِبُهُمْ]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو بكسرِ الالفِ على الاستئناف الجزاءِ، وقرأ الباقون بالفتحِ ؛ أي لئن صَدُّوكُمْ، والفتحُ أجودُ ؛ لأن الصَدَّ كان وَاقِعاً من الكفَّارِ يومَ الحديبيةِ قبل نُزُولِ هذه السورةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ ؛ أي تَحَاثُّوا على الطَّاعةِ وترك المعصيةِ، قال أبو العاليَةِ :[الْبِرُّ : مَا أُمْرِتَ به، وَالتَّقْوَى : تَركُ مَا نُهِيْتَ عَنْهُ]. وظاهرُ الأمرِ يقتضي وجوبَ المعاونةِ على الطَّاعةِ، وظاهرُ الأمرِ على الوُجُوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ ؛ أي لاَيُعِنْ شيءٍ من المعاصي والظُّلْمِ، وقال بعضُهم : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الإثْمِ وَالْبرِّ ؛ فَقَالَ :[الْبرُّ : حًسْنُ الْخُلُقِ، وَالإثْمُ : مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرَهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ؛ أي اخْشَوْهُ وأطيعوهُ فيما أمرَكم به ونهاكم عنه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ إذا عَاقَبَ، فعقابهُ شديدٌ. "
وفائدةُ تخصيصِ لَحْمِ الْخِنْزِيْرِ بالْذِّكْرِ دونَ لحمِ الكلب وسائرِ السَّباعِ : أنَّ كثيراً من الكُفَّار ألِفُوا لحمَ الْخِنْزِير، واعتادُوا أكلَهُ وأوْلِعُوا به ما لَمْ يعتادُوا بهِ أكلَ غيرهِ. وَقِيْلَ : فائدتهُ : أنَّ مُطْلَقَ لفظِ التحريم يدلُّ على نجاسةِ عَيْنِهِ مع حُرْمَةِ أكلهِ، ولحمُ الخنْزِيرِ مختصٌ بهذا الحُكْمِ ؛ وذلكَ : أنَّ سائرَ الحيواناتِ الْمُحَرَّمِ أكلُها إذا ذُبحَتْ كان لحمُها طاهراً لا يفسدُ الماءُ إذا وقعَ فيه، وإنْ لم يَحِلَّ أكلهُ بخلافِ لحم الْخِنْزِيْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ أي وحُرِّمَ عليكم ما ذُكِرَ عليه عندَ الذبْحِ اسمُ غيرِ الله، وذلك أنَّهم كانوا يذبحونَ لأصنامِهم يتقرَّبون بذبْحِها إليهم، فََحَرَّمَ اللهُ كلَّ ذبيحةٍ يُتَقَرَّبُ بذبحِها إلى غيرِ الله تعالى، ولذلك قالَ الفُقَهَاءُ : إنَّ الذابحَ لو سَمَّى النبيَّ ﷺ معَ اللهِ تعالى فقالَ : بسمِ اللهِ ومُحَمَّدٍ ؛ حَرُمَتِ الذبيْحَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ ﴾ ؛ أي حُرِّمَ عليكم أكلُ لحم الْمُنْخَنِقَةِ ؛ وهي التي تَنْخَنِقُ بحَبْلٍ أوْ شَبَكَةٍ فَتَمُوتُ مِنْ غَيْرِ ذكَاةٍ، وأمَّا الْمَوْقُوذةُ ؛ فهي الْمَضْرُوبَةُ بالْخَشَب حتَّى تَمُوتَ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُتَرَدِّيَةُ ﴾ هي التي تَتَرَدَّى من جَبَلٍ أو سَطْحٍ أو فِي بئْرٍ فَتَمُوتُ قَبْلَ الذكَاةِ. وَالتَّرَدِّي : هُوَ السُّقُوطُ، مأخوذٌ من الرِّدَاءِ وهو الْهِلاَكُ، قال ﷺ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتَمٍ :" إذا تَرَدَّتْ رَمْيَتُكَ مِنْ جَبَلٍ فَوَقَعَتْ فِي مَاءٍ فَلاَ تَأْكُلْ ؛ فَإنَّكَ لاَ تَدْري أسَهْمُكَ قَتَلَهَا أمِ الْمَاءُ "
فصارَ هذا الكلامُ أصلاً في كلِّ موضعٍ اجتمعَ فيه معنيان : أحدُها حَاظِرٌ، والآخرُ مبيحٌ فأنَّهُ تَغْلُبُ جِهَةُ الْحَظْرِ، ولهذا قال ﷺ :" الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُشَبَّهَةٌ، فَدَعْ مَا يُرِيْبُكَ إلَى مَا لاَ يُرِيْبُكَ، ألاَ وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، وَإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارمُهُ، فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوْشِكُ أنْ يَقَعَ فِيْهِ " وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ :(كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أعْشَار الْحَلاَلِ مَخَافَةَ الرِّبَا].
قوله عزّ وَجَلَّ :﴿ وَالنَّطِيحَةُ ﴾ ؛ هي التي تُنْطَحُ حتى تَموتَ، وإذا تناطحتِ الحيواناتُ فَقَتَلَ بعضُها بعضاً في النِّطَاحِ فهي حرامٌ بالآية، قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إذا مَاتَتْ أكَلُوهَا وَكَذلِكَ الْمَوْقُوذةُ)، قال قتادةُ :(كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الشَّاةَ بالبَعْضِ حَتَّى إذا مَاتَتْ أكَلُوهَا)، يقالُ منهُ : وَقَدَهُ يَقِدُهُ إذا ضَرَبَهُ حتى أشفاَ على الهلاكِ. قال الفَرَزْدَقُ : شَغَارَةٌ تَقِذُ الْفَصِيلَ برجْلِهَا فَطَّارَةٌ لِقَوَادِم الأَبْكَار
ومعناها : يَسألونَكَ يا مُحَمَّدُ : أيَّ شيءٍ أحِلَّ لَهم من الصَّيدِ وغيرِه ؟ قُلْ أحَلَّ لَكُمُ الْمُبَاحَاتِ. يقال : هذا يَطِيْبُ لفلانٍ ؛ أي يَحِلُّ، قال الله تعالى :﴿ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ ﴾[النساء : ٣] أي ما حَلَّ لكم. وكلُّ شَيْءٍ لَمْ يَأْتِ تَحْرِيْمُهُ فِي كِتَابٍ أوْ سُنَّةٍ فَهُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وقال بعضُهم : أراد بالطِّيباتِ المستلذاتِ والمشتَهَياتِ، وهو عامٌّ أريدَ به غيرُ ما تَضْمَّنَتْهُ الآيةُ المتقدِّمةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ أي وأحلَّ صَيْدَ ما عَلَّمْتُمْ، فحذفَ ذِكْرَ الصَّيدِ لأنَّ في الكلامِ دليلاً عليه، والْجَوَارحُ : هِيَ الْكَوَاسِبُ مِنَ الْفَهْدِ ؛ وَالصَّقْرِ ؛ وَالْبَاز ؛ وَالْعُقَاب ؛ وَالنَّسْرِ ؛ وَالْبَاشِقِ ؛ وَالشَّاهِيْنِ وسائرِ ما يُصْطَادُ به الصيدُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ﴾[الأنعام : ٦٠] أي كَسَبْتُمْ، وَقِيْلَ : معنى الْجَوَارحِ : الْجَارحَاتُ بنَاتٍ أو مَخْلَبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ حالٌ للمعلِّمينَ ؛ أي في حالِ إغْرَائِهِمْ الكلبَ على الصَّيدِ، والتَّكْلِيْبُ : إغْرَاءُ السَّبُعِ عَلَى الصَّيْدِ وإرْسَالُهُ.
ومن قرأ (مُكَلَّبيْنَ) بفتحِ اللاَّمِ فهو حالُ من الكوَاسِب المعلِّمين. وقرأ ابنُ مسعودٍ والحسنُ :(مُكَلِبيْنَ) بإسكانِ الكافِ وتخفيف اللام، فعلى هذا المعنى يجوزُ أن يكونَ مِن قولِهم : أكْلَبَ الرَّجُلُ إذا كَثُرَتْ كِلابُهُ، وأمْشَى إذا كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ، ولذلكَ ذَكَرَ الكلاب ؛ لأنَّها أعَمُّ وأكثَرُ، والمرادُ به جميعُ الجوارحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ﴾ ؛ أي تُؤَدِّبُوهُنَّ أن يُمْسِكْنَ الصَّيدَ عليكم كما أدَّبَكُمُ اللهُ تعالَى :﴿ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ؛ أي على الإرْسَالِ، كما رُويَ عنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ :" إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَسَمَّيْتَ اللهَ تَعَالَى فَكُلْ، وَإنْ أكَلَ مِنْهُ فَلاَ تَأْكُلْ، فَإنَّهُ إنَّمَا أمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ " وفي بعضِ الرِّواياتِ :" وَإنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلاَ تَأَكُلْ، فَإنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْب غَيْرِكَ "
وذهبَ بعضُ أهلِ العلم إلى أنَّ معنى الإمساكِ في هذه الآيةِ أنْ يَحْفَظَ الكلبُ الصَّيْدَ حتَّى يجيءَ صاحبهُ، فإنْ تركَهُ حتى غابَ عن صاحبهِ ثم وجدَهُ صاحبُهُ بعدَ ذلكَ ميتاً لَمْ يَحِلَّ أكلهُ. قال ﷺ :" كُلْ مَا أصْمَيْتَ، وَدَعْ مَا أنْمَيْتَ "، قِيْلَ : الإصْمَاءُ : مَا رَأيْتَ ؛ والإنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْكَ.
والدليل على أنَّ المرادَ بالطعامِ ها هنا الذبائحُ : أنَّ ما سِوَى الذبائحِ من الأطعمةِ والأشربةِ حلالٌ للمسلمين ؛ سواءٌ كانت لأهلِ الكتاب أو لغيرهم، فَبَانَ المرادُ به الذبائحُ ؛ لأنَّ ذبائحَ غيرِ أهل الكتاب من الكفَّار حرامٌ على المسلمينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ ؛ أي ذبائحُكم حلالٌ لَهم ؛ أي رُخِصَّ لكم في أن تُطْعِمُوهُمْ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾ ؛ قال الحسنُ :(أرَادَ بالْمُحْصَنَاتِ هَا هُنَا الْحَرَائِرَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكِتَابيَّاتِ). وقال ابنُ عبَّاس :(أرادَ بهِ الْحَرَائِرَ الْعَفَائِفَ مِنْهُنَّ).
وتقديرُ الآية : وأحِلَّ لكم نكاحُ الْمُحْصَنَاتِ من المؤمناتِ والكتابيَّات، وقد استدلَّ بعضُ الفقهاءِ بظاهرِ هذه الآية : على أنه لا يجوزُ للمسلم نكاحُ الأَمَةِ الكتابيَّةِ، والصحيحُ : أنه يجوزُ بظاهرِ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾[النساء : ٢٥] بدليلِ حلِّ ذبائحِهن.
وإنَّما خَصَّ الْمُحْصَنَاتِ بإباحةِ نكاحهنَّ مع جواز نكاحِ غيرِهن ؛ لأنَّ الآية خرجت مَخْرَجَ الامتنانِ والْمِنَّةِ في نكاحِ الحرائرِ العفائف أعظمَ وأتَمَّ، يدلُّ على ذلكَ : أنه لا خلافَ في جواز النكاحِ بين المسلم والأَمَةِ المؤمنةِ، وإنْ كان في الآيةِ تخصيصُ الْمُحْصَنَاتِ من المؤمنات، والأفضلُ لمن أرادَ النكاحَ أن لا يَعْدِلَ عن نكاحِ الحرائرِ الكتابيَّات مع القدرةِ عليهنَّ ؛ وذلك لأنَّ نكاح الأمَةِ يؤدِّي إلى إرقاقِ الولد ؛ لأنَّ الولدَ يتبعُ الأَمَةَ في الرِّقِّ والحريَّةِ، ولا ينبغِي لأحدٍ أن يختارَ رقَّ وَلَدِهِ، كما لا ينبغي أنْ يختارَ رقَّ نفسهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ ؛ أي ناكحينَ غيرَ زَانينَ معلنينَ بالزِّنَا، ولا مُتَّخِذِي صديقاتٍ للزِّنا سِرّاً. قال الحسنُ :(كَانَ بَعْضُ الْجَاهِلِيَّةِ تُسَافِحُ وَتَزْنِي بكُلِّ مَنْ وَجَدَ مِنَ النِّسَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ خَلِيْلَةً يَزْنِي بهَا سِرّاً وَيَتَجَنَّبُ الزِّنَا عَلاَنِيَةً، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى بهَذِهِ الآيَةِ حُرْمَةَ الزِّنَا سِرّاً وَعَلاَنِيَةً).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا رَخَّصَ اللهُ لِلْمُسْلِمِيْنَ فِي نِكَاحِ الْكِتَابيَّاتِ ؛ قَالَ أهْلُ الْكِتَاب : لَوْلاَ أنَّ اللهَ رَضِيَ أعْمَالَنَا لَمْ يُحِلَّ لِلْمُسْلِمِيْنَ تَزْويْجَ نِسَائِنَا. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : كَيْفَ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْكِتَابيَّةَ وَهِيَ كَافِرةٌ ؟ فَأَنْزَلَ ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ مِنَ الْمَغْبُونِيْنَ، غَبَنَ نَفْسَهُ وَفَسَقَ وَصَارَ إلَى النَّار، لا يُغْنِي عَنِ الْمَرْأةِ الْكِتَابيَّةِ إسْلاَمُ زَوْجِهَا وَلاَ يَنْفَعُهَا ذلِكَ، وَلاَ يَضُرُّ الْمُسْلِمَ كُفْرُ زَوْجَتِهِ الْكِتَابيَّةِ).
وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ القيامَ إلى الصلاةِ يكون سَبَباً لوجوب الطَّهارةِ، ولا خلافَ بين السَّلَفِ والْخَلَفِ أنَّ الطهارةَ لا تجبُ سبب القيام إلى الصَّلاةِ، إلاّ أنه رُويَ عن ابن عُمَرَ وَعليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(أنَّهُمَا كَانَا يَتَوَضَّأَنِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ، وََيَقْرَآنِ هِذِهِ الآيَةَ). فيحتمل أنَّهما كانا يفعلان ذلك نَدْباً واستحباباً، فإنْ تَجيدَ الطَّهارةِ لكلِّ صلاةٍ مستحبٌّ. وقد روي عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنهُ قالَ :" مَنْ تَوَضَّأَ فَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ " وَقَالَ :" لاَ وُضُوءَ إلاَّ مِنْ حَدَثٍ " فَثَبَتَ أن في الآيةِ إضمارٌ آخر تقديرهُ : أذا أرَدْتُمْ القيامَ إلى الصلاةِ وأنتم مُحْدِثُونَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وهذا نظيرُ قولهِ تعالى :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾[البقرة : ١٨٤] معناه : فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عدَّةٌ مِن أيَّامٍ أخُرَ، وقولهُ :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ ﴾[البقرة : ١٩٦] معناه فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ. وقال بعضُهم : معنى الآيةِ : إذاَ قُمْتُمْ من نَوْمِكُمْ إلى الصَّلاةِ، وقال : هذا على أنَّ النومَ في حالةِ الاضطجاع حَدَثٌ.
قولُهُ تَعَالَى :﴿ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ الغَسْلُ : إجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَى المَحَلِّ وَتَسْييْلُهُ، سَوَاءٌ وُجِدَ مَعَهُ الدَّلْكُ أمْ لاَ، وَالْوَجْهُ : مَا يُوَاجِهُكَ مِنَ الإنْسَانِ، وَحَدُّهُ مِن قِصَاصِ الشَّعْرِ إلى أسفلِ الذقْنِ، ومِن شَحْمَتَي الأُذُنِ إلى شَحْمَتَي الأُذُنِ. وظاهرُ الآيةِ يقتضي أنَّ المضمضةَ والاستنشاقَ غيرُ واجبتينِ في الوضوءِ، لأن اسمَ الوجهِ يتناولُ الظاهرَ دون الباطنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ﴾ أي مع المرافقِ، هكذا قال علماؤُنا رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى، إلاّ زُفَرَ رَحِمَهُ اللهُ ؛ فإنهُ ذهبَ إلى ظاهرِ الآية وقال :(إنَّ حَرْفَ (إلَى) لِلْغَايَةِ، وَالْغَاَيَةُ لاَ تَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ﴾[البقرة : ١٨٧]). وأمَّا عامَّةُ العلماءِ فقالوا : إنَّ (إلى) تُذْكَرُ بمعنى (مَعَ) كما قالَ تعالى﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾[النساء : ٢]، فاذا احتملَ اللفظُ الغايةَ واحتملَ معنى المقارنةِ حَلَّ مَحَلَّ الْمُجْمَلِ، فَكَانَ مَوْقُوفاً عَلَى بَيَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقد روي :" أنَّهُ كَانَ إذا تَوَضَّأَ أدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ "، فصار فعلهُ بياناً للمجملِ، فحُمِلَ على الوُجُوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ اختلفَ العلماءُ في مقدار وجوب الْمَسْحِ منه، فذهبَ مالكٌ إلى أنَّ مسحَ جميعِ الرأسِ واجبٌ، وقال :(ظَاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي الْجَمِيْعَ دُونَ الْبَعْضِ، لأنَّكَ إذا قُلْتَ : مَرَرْتُ بزيدٍ ؛ أردتَ جُمْلَتَهُ لاَ بَعْضَهُ، وَمِثْلُ ذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
وقال السُّدِّيُّ :(أرَادَ بالْمِيْثَاقِ هُنَا مُبَايَعَةُ النَّبيِّ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَا أمَرَ بهِ أوْ نَهَى فِي حَالِ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالرِّضَا وَالْكُرْهِ). وَهَذا أقْرَبُ إلَى ظَاهِرِ الآيَةِ ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَّرَهُمْ الميثاقَ وهم لا يحفظونَ الميثاقَ الذي من وَقْتِ آدمَ.
وَقِيْلَ : أرادَ به العهدَ الوثيقَ الذي أخَذهُ اللهُ على جميعِ عبادهِ في أوامرهِ ونواهيه فَسَمِعُوهُ وقَبلُوهُ وآمَنُوا به على ما فَسَّرَ اللهُ بقولهِ :﴿ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾ ؛ أي اخْشَوا عِقَابَهُ في نقضِ الميثاقِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ ؛ أي بما في القلوب من الوَفَاءِ والنَّقْضِ، وذاتُ الصُّدُور ما تَضَمَّنَتْهُ الصُّدورُ وهي القلوبُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ ؛ أي اعْدِلُوا في جميعِ أقوالِكم وأفعالكم فيما لكُم وعليكُم، فإنَّ العدلَ أقربُ للتَّقوَى ؛ أي أقربُ إلى أن تَصِيروُا به مؤمنينَ، وَقِيْلَ : أقربُ إلى تقوَى عذاب الله. ﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ من الخيرِ والشرِّ والعدلِ والْجَوْر.
ثُمَّ أقْبَلَ الأَرْبَعَةُ الَّذِينَ أضَلُّوا الْبَعِيْرَ، فَلَقِيَتْهُمُ أمَةٌ لِبَنِي عَامِرٍ فَقَالَتْ لَهُمْ : أمِنْ أصْحَاب مُحَمَّدٍ أنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ، قَالَتْ : فَإنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا جَمِيْعاً عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ : أحَدُ الأرْبَعَةِ : مَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى أنْ نَرْجِعَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَنُخْبرَهُ بالأَمْرِ، قَالَ : لاَ ؛ وَلَكِنْ وَاللهِ لَمْ أكُنْ لأَرْغَبَ بنَفْسِي عَنْ أصْحَابي، إرْجِعُوا فَأَقْرِئُوا مُحَمَّداً ﷺ مِنِّي السَّلاَمَ. ثُمَّ أشْرَفَ عَلَى أصْحَابهِ فَإذا هُمْ مَقْتُولُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ قُعُودٌ يَتَغَدَّوْنَ، فَانْحَدَرَ إلَيْهِمْ مِنَ الْجَبَلِ بسَيْفِهِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.
وَغَشِيَ الثَّلاَثَةُ الْمَدِيْنَةَ، فَلَقُوا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ خَارِجَيْنِ مِنَ الْمَدِيْنَةِ فَقَالاَ لَهُمَا : مَنْ أنْتُمَا ؟ قَالاَ : مِنْ بَنِي عَامِرٍ، قَالاَ : هَذانِ مِنَ الَّذِيْنَ قَتَلُوا إخْوَانَنَا ؛ فَقَتَلُوهُمَا وَأخَذُوا سِلاَحَهُمَا، ثُمَّ دَخَلُوا المَدِيْنَةَ فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ :" بئْسَ مَا صَنْعْتُمْ، قَتَلْتُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ أهْلِ الْمِيْثَاقِ " وَجَاءَ أوْلِيَاءُ الْقَتِيْلَيْنِ يَطْلُبُونَ الْقِصَاصَ، فَقَالَ ﷺ :" لَيْسَ لَكُمْ إلاَّ دِيَةُ صَاحِبَيْكُمْ أغَرْنَا إلَى عَدُوِّنَا مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَلَكِنَّا نُؤَدِّي إلَيْكُمُ الدِّيَةَ "
فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ حَتَّى أتَى بَنِي قَُرَيْظَةَ ؛ فَقَالَ لَهُمْ :" إنَّكُمْ جِيْرَانُنَا وَحُلَفَاؤُنَا، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا أصَبْنَا بهِ مِنْ دَمِ الرَّجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَهُمَا مِنْ أهْلِ الْمِيْثَاقِ، وَنَحْنُ نُرِيْدُ أنْ نُؤَدِّي دِيَتَهُمَا، فَاتَّخِذُوا بهَا عَنْدَنَا يَداً نَجْزِيكُمْ بهَا بَعْدَ الْيَوْمِ، فَإنَّ الأَيَّامَ دُوَلٌ " فَقَالُوا : مَرْحَباً وَأهْلاً يَا أبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنَّ إخْوَانَنَا مِنْ بَنِي النَّضِيْرِ لاَ نَقْضِي أمْراً مِنْ دُونِهِمْ، نُعْلِمُهُمْ بذلِكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا يَوْمَ كَذا وقَدْ جَمَعْنَا الَّذِي تُرِيْدُ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وأصْحَابُهُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْمِيْعَادِ ؛ أتَاهُمْ وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ؛ فَأَجْلَسُوهُمْ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ خَرَجُوا يَجْمَعُونَ السِّلاَحَ، وَخَلاَ بَعْضُهُمْ ببَعْضٍ وَقَالُوا : إنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا مُحَمَّداً أقْرَبَ مِنْهُ الآنَ ؛ فَمَنْ يَظْهَرُ عَلَى هَذا الْبَيْتِ فَيَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيْحُنَا مِنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ جَحَّاشٍ : أنَا، فَجَاءَ إلَى رَحَاءٍ عَظِيْمَةٍ لِيَطْرَحَهَا عَلَيْهِ ؛ فَأَمْسَكَ اللهُ أيْدِيَهُمْ.
وقال الحسنُ :(النَّقِيْبُ الضَّمِيْنُ، وَإنَّمَا أرَادَ بهَذا أنْ يَضْمَنَ بهَا مُرَاعَاةَ أحْوَالِهِمْ)، وقد روي :" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسيلم جَعَلَ الأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ اثْنَى عَشَرَ نَقِيْباً " وفائدةُ النَّقِيْب : أنَّ القومَ إذا عَلِمُوا أنَّ عليهِم نقيباً كانوا أقربَ إلى الاستقامةِ، والنَّقِيْبُ والعَرِيْفُ نَظِيْرَانِ، وَقِيْلَ : النقيبُ فوقَ العريفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ﴾ ؛ خطابٌ للنُّقَبَاءِ، ومعناها : إنِّي حفيظٌ عليكم في النَّصْرِ لكم والدفعِ عنكم. وَقِيْلَ : هو خطابٌ لجميعِ بني إسرائيلَ ضَمِنَ لَهم النَّصْرَ على عدوِّهم بالشَّرَائطِ التي شَرَطَهَا عليهم بقولهِ تعالى :﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾ ؛ أي لو عَظَّمْتُمُوهُمْ وَنَصْرتُمُوهُمْ بالسَّيفِ على الأعداءِ، ﴿ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾ ؛ أي تَصَدَّقْتُمْ مِن أموالِكم تطوُّعاً صدقةً حسَنَةً ؛ وهي أن تكونَ من حَلاَلِ المالِ وخِيَارهِ برغبةٍ وإخلاصٍ لا يَشُوبُهَا رياءٌ ولا سُمعةٌ وَلا يُكَدِّرُهَا مَنٌّ ولا أذًى، ﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ ؛ من تحت شَجَرِهَا ومساكِنها ؛ ﴿ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ ﴾ ؛ العَهْدِ والميثاقِ ؛ ﴿ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ﴾ ؛ اي أخْطَأَ قصدَ الطريقِ وهو طريقُ الجنَّةِ، فمَنْ أضَلَّهُ وقعَ في طريقِ النَّار إذ لا طريقَ سواهُما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ أي صيَّرنَاها يَابسَةً خاليةٌ من حَلاَوَةِ الإيْمانِ مجازاةً لَهم على معصيتِهم. قرأ يحيَى بن وثَّاب والأعمشُ وحمزة والكسائيُّ :(قَسِيَّةً) بتشديدِ اليَاءِ من غيرِ ألِفٍ، وقرأ الباقون (قَاسِيَةً) بألفٍ وهُما لُغتان، مثلُ زَكِيَّة وَزَاكِيَة، وَقِيْلَ : معنى (قَاسِيَةٍ) : غَلِيْظَةٌ متَكَبرةٌ لا تَقْبَلُ الوعظَ، وَقِيْلَ : رَدِيْئَةٌ فَاسِدَةٌ، من الدَّراهمِ القَسِيَّةِ، وهي المغشوشةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾. قرأ السلَّمي والنخعيُّ : يحرِّفونَ الكلامَ باللَّفِّ ؛ أي يُغَيِّرُونَ ألفاظَهُ ولا يُقِرُّونَهُ على ما هو عليه في التَّوراةِ، كما أخبرَ الله تعالى عنهُم مِن لَيِّ ألسِنَتِهم بالكتاب، وَقِيْلَ : يُغَيِّرُونَ تَأْويْلَه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ﴾ ؛ أي وَتَرَكُوا نصِيباً مِمَّا أُمِرُوا به في كتابهم من نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ وصفتهِ، ومِنْ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وأصلُ النِّسيَانِ التَّرْكُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ ؛ أي لا تَزَالُ يا مُحَمَّدُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ ومعصيةٍ مِنْهُمْ، وفَاعِلَةٌ من أسماءِ المصادرِ مثل : عَاقِبَةٍ وَكَاذِبَةٍ، وقد تكونُ الخائنةُ من أسماءِ الجماعةِ كما يقالُ : رَافِضٌ ورافِضَةٌ، فيكون المعنى : ولا تزالُ تَطَّلِعُ على فِرْقَةٍ خائنةٍ منهم مثلَ كعب بن الأشرف وأصحابهِ من بني قُريظةَ حين نَقَضُوا العهدَ، ورَكِبُوا إلى أبي سُفيانَ بمكة، ولَقُوهُ وعاهَدوهُ على رسولِ اللهِ ﷺ على ما سَبَقَ ذِكْرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ﴾ ؛ لم ينقُضُوا العهدَ، وهم عبدُالله بنُ سَلامٍ وأصحابُه. وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى (خَائِنَةٍ) أيْ مَعْصِيَةٌ)، وقال بعضُهم : أي كَذِبٌ وفجورٌ، وكانت خيانتُهم بنَقْضِ العهدِ، ومظاهرتُهم المشركينَ على حَرْب رسولِ الله ﷺ وهَمُّهُمْ بقتلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ﴾ ؛ أي أعْرِضْ عنهُم ولا تعاقِبْهُم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي الْمُتَجَاوزيْنَ، وهذا مَنْسُوخٌ بآيةِ السَّيفِ بقولهِ :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾[التوبة : ٢٩].
وذلك أنَّ اللهَ رَفَعَ الأُلْفَةَ بينَهم وألقَى بينهم العداوةَ والبغضاءَ، فَهُمْ يَقْتَتِلُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وأصلُ الإغْرَاءِ : الإلْصَاقُ مَأَخُوذٌ مِنَ الغِرَاءِ الَّذِي يُلْصَقُ بهِ الأَشْيَاءُ، وَالْعَدَاوَةُ : تَبَاعُدُ الْقُلُوب وَالنِّيَّاتِ، والْبَغْضَاءُ : الْبُغْضُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ ؛ أي يخبرُهم في الآخرةِ بما كانوا يصنعونَ من الجِنَايَةِ والمخالفةِ وكِتْمَانِ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ وصِفَتِهِ.
ثم خاطبَ اللهُ تعالى الفريقين من اليهودِ والنَّصارَى فقالَ تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ ؛ يعني التَّوراةَ والإنجِيْلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :(تُخْفُونَ) يعني صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وآيةَ الرَّجْمِ، وإضافةُ اليهودِ والنَّصارَى إلى الكِتَابِ تَعْييْرٌ لَهم، كما يقالُ : يَا عَاقِلُ لَمْ تَعْلَمْ ؛ أي يا جاهلُ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ يعني بالنُّور مُحَمَّداً ﷺ يُبَيِّنُ لكم كثيراً مِمَّا كنتم تَكْتُمُونَ من الإسلامِ، وآيةِ الرَّجمِ، وتحريمِ الزِّنَا وغيرِ ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ أي يتجاوزُ عن كثيرٍ مِمَّا كنتُم تكتمونَهُ ولا يعاقبُكم عليهِ، يعني مِمَّا لم يُؤْمَرْ ببَيَانِهِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ يعني الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الحلالَ والحرامَ والأمرَ والنَّهيَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ ؛ أي يخرجُهم من ظُلُمَاتِ الكُفْرِ، بالتعريفِ لَهم إلى نُور الإيْمان، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ ؛ أي بإذنِ الله ومشيئتِه، وسُمِّيَ الإيْمانُ نوراً ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا آمَنَ أبْصَرَ بهِ طريقَ نَجاتِهِ فَطَلَبَهُ، وطريقَ هَلاَكِهِ فَحَذِرَهُ. قَوْلُهُ تعالَى :﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ أي ويُرْشِدُهُمْ إلى طريقِ الحقِّ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ ؛ نزلَتْ في نَصَارَى نَجْرَانَ وهم الماريعقوبية أو اليعقوبية، قالُوا : إنَّ اللهَ هو المسيحُ بن مريَمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : مَن يَقْدِرُ أن يدفعَ شيئاً من عذاب الله ؛ ﴿ إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ ؛ أي إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ عيسَى ابن مريم وأمَّهُ، وهذا احتجاجٌ من اللهِ تعالى على النَّصارَى بما لا يَملكون دَفْعَهُ، إذِ المسيحُ وأمُّهُ بَشَرانِ يأكُلانِ الطعامَ ويحتاجَان إلى ما يحتاجُ إليه الناسُ، وقد عَلِمُوهُ ضرورةً أنَّهما كَانَا بعدَ أن لَم يَكُونَا، وشاهدَ كثيرٌ منهم ميلادَ عِيْسَى وحالَهُ مِن الطفولةِ والشَّباب والكُهُولَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ﴾ أي إذا أرادَ اللهُ إهلاكَ عيسَى وأُمَّهُ لَمَا أعجزَهُ ذلكَ، ولا هناكَ دافعٌ، وكيفَ يكون إلَهاً مَن لا يقدرُ على دفعِ الْهَلاكِ عن نفسهِ ولا عن غيرِه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ ؛ أي مَنْ مَلَكَ السَّمواتِ والأرضَ لا يُوصَفُ بالولادةِ. وَقِيْلَ : مَن كان مَالِكُ السَّمواتِ والأرضَ يقدرُ على خَلْقِ وَلَدٍ بلا وَالِدٍ، كما قال تعالى :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ ؛ أي كما يشاءُ، بأَبٍ وبغيرِ أبٍ، ولو كان خَلْقُ عيسَى من غيرِ أبٍ مُوجِباً كونه إلَهاً وابنَهُ لكانَ خَلْقُ آدمَ من غيرِ أبٍ ولا أمٍّ أوْلَى بذلكَ ؛ لأنه أعجَبُ وأبْدَعُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ مِن خَلْقِ عيسَى وغيرِه قادرٌ على عقوبَتِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ﴾ ؛ معناهُ : كَيْلاَ تقولُوا يومَ القيامةِ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيْرٍ يُبَشِّرُنَا بالجنَّةِ، ولا مُخَوِّفَ يُخَوِّفُنَا بالنار، ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ ﴾ ؛ يُبَشِّرُكُمْ بالجنَّةِ إنْ أطعتمُوهُ، ﴿ وَنَذِيرٌ ﴾ ؛ يُنْذِرُكُمْ بالنار إنْ عصيتموهُ، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ مِن إرسالِ الرُّسُلِ والثواب والعِقَاب.
وقولهُ تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾ ؛ فَاذْكُرُوا يا أهلَ الكِتَاب إذ قالَ مُوسَى لِبَنِي إسرائيلَ احْفَظُوا مِنَّةَ اللهِ عليكُم إذْ أكرمَ بعضَكم بالنُّبُوَّةِ، وهم السَّبعُونَ الذين اختارَهم موسَى وانطلَقُوا معهُ إلى الجبلِ.
وإنَّما مَنَّ اللهُ عليهِم بذلكَ، لأنَّ كثرةَ الأشرافِ والأفَاضِلِ في القومِ شرفٌ وفضلٌ لَهم، ولا شرفَ أعظمَ من النُّبُوَّةِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾ أي أحْرَاراً تَملِكُونَ أمرَ أنفسِكم بعدَ أن كانت تَسْتَعْبدُكُمُ القِبْطَةُ في مملكةِ فرعونَ، وَقِيْلَ : مُلُوكاً ذوي خَدَمٍ، وأهلِ مَنَازلَ لا يدخلُ عليكم فيها إلاَّ بإذنٍ.
قَوْلُهُ تعالى :﴿ وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي أعطاكُم من عالِمِي زمانِكم، ويقالُ : أرادَ بذلكَ جميعَ العالمين، فإنه تَعَالَى أنزلَ عليهم الْمَنَّ والسَّلْوَى، وظَلَّلَهُمْ بالغَمَامِ، ولم يُؤْتِ أحداً مِثْلَ هذه النِّعَمِ قبلَهم.
ولا يدخلُ المستقبلُ في اللفظِ ؛ لأنَّ اللفظَ خَبَرٌ عن ما مَضَى، ولا يدخلُ ذلكَ على أنهُ لم يُؤْتِ أمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ مثلَ الفَضِيْلَةِ التي آتاهُمْ أو أكْثَرَ، والغرضُ من هذه الآيةِ أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أن يُكَلِّفَهُمْ دخولَ الأرضِ المقدَّسة، وكان يَشُقُّ ذلكَ عليهم فَقَدَّمَ ذِكْرَ نِعَمِهِ عليهم ليكونَ بأمتثالِهم مثالٌ على امتثالِ أمرِ الله تعالى.
فَطَافُوا بِهِمْ، وَكَانُوا يَلْعَبُونَ بهِمْ حَتَّى أنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لِيَأْتِي بالْقَدَحِ وَالسُّكْرَجَةِ وَالْقَصْعَةِ فِيِدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ تَحْتَهَا، ثُمَّ رَدُّوهُمْ إلَى الْمَلِكَ فَأَرَادَ قَتْلَهُمْ، فَقَالَتْ : إيْش تَصْنَعُ بقَتْلِ هَؤُلاَءِ وَيَكْفِيْهِمْ مَا رَأواْ، رُدُّوهُمْ إلَى أصْحَابِهِمْ يُحَدِّثُونَهُمْ بمَا رَأواْ، فَأَرْسَلُوهُمْ.
فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : قَدْ عَلِمْتُمْ خِلاَفَ بَنِي إسْرَائِيْلَ لِمُوسَى، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ مُوسَى أنْ يَفْتَحَ لَهُمُ الأَرْضَ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ، فَهِيْمُوا التَّحَالُفَ أنْ لاَ يُخْبَرَ شَيْئاً غَيْرُ مُوسَى ؛ فَتَحَالَفُوا.
فَلَمَّا خَلَوا بنِسَائِهِمْ جَعَلَتِ الْمَرَأةُ تَسْأَلُ زَوْجَهَا عَمَّا رَأَى، فَيَأْخُذُ عَلَيْهَا الْمَوَاثِيْقَ أنْ لاَ تُخْبرَ أحَداً، ثُمَّ يُخْبرُهَا، وَجَعَلَتِ الْمَرْأةُ يَأَتِيْهَا أبُوهَا وَأمُّهَا وَإخْوَانُهَا فَتَأْخُذُ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيْقَ ثُمَّ تُخْبرُهُمْ.
فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى فَشَا الْخَبَرُ فِي الْبلاَدِ، وَلَمْ يُخْبرْ يُوشُعُ وَلاَ كَالِبُ أحَداً بشَيْءٍ مِنْ أمْرِهِمْ، إنَّمَا أخْبَرَ بذلِكَ الْعَشَرَةُ. فَجَمَعَ مُوسَى عليه السلام بَنِي إسْرَائِيْلَ وَخَطَبَهُمْ ثُمَّ قَالَ : يَا بَنِي إسْرَائِيْلَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبيَاءَ...) إلى قوله :﴿ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾.
وأمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴾ قال ابنُ عبَّاس :(هِيَ أرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ). ويقال : هي دمشقُ وفلسطين وبعضُ الأردنِّ، وسُميت (الْمُقَدَّسَةَ) ؛ لأنَّها طُهِّرَتْ من الشِّرْكِ، وجُعِلَتْ مَسْكَناً وقَراراً للأنبياءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ ﴾ أي أمَرَكُم بدخولِها. وَقِيْلَ : التي كتبَ اللهُ لكم في اللَّوحِ الْمحفوظِ أنَّها لكُم مساكنُ، ويقال : التي وَهَبَ اللهُ لأبيكُم إبراهيمَ عليه السلام، وجعلَها مِيراثاً لكم، وذلكَ أنَّ إبراهيمَ حين ارتفعَ على الجبلِ، قِيْلَ لهُ : أنْظُرْ ؛ فَلَكَ ما أدركَ بصرُكَ وهو ميراثٌ لولدِكَ مِنْ بعدكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ ؛ أي لا تَرْجِعُوا وراءَكم وتَجْبُنُوا من عدوِّكم منهزمينَ منهم فتنصرفُوا مغبونينَ بفَوْتِ الظَّفَرِ في الدُّنيا والعقوبةِ في الآخرة.
وفي الآيةِ ثناءٌ على الرَّجُلَيْنِ إذ لم يَمْنعهُما الخوفُ من العدوِّ عن قولِ الحقِّ. وقد رويَ عن رسولِ اللهِ ﷺ أنه قَالَ :" لاَ يَمْنَعَنَّ أحَدَكُمْ مَخَافَةَ النَّاسِ أنْ يَقُولَ الْحَقَّ إذا رَآهُ أوْ عَمِلَهُ، فَإنَّهُ لاَ يُبْعِدُ مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ يُدْنِي مِنْ أجَلٍ "
وَقِيْلَ : يحتملُ أنَّهم عَنَوا بذلكَ الذهابَ ذهابَ النُّقْلَةِ، وهذا تشبيهٌ وكُفْرٌ مِن قائلهِ، وهو أقربُ إلى معنى كلامِهم ؛ لأنَّ كلامَ اللهِ تعالى خَرَجَ مخرجَ الإنكار عليهم، والتَّعَجُّب من جَهْلِهِمْ.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ لَمَّا أرَادَ الْخُرُوجَ إلَى بَعْضِ الْغَزَوَاتِ اسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مَعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ذلِكَ ؛ فَقَالاَ :(إنَّا لَنْ نَقُولَ لَكَ مِثْلَ مَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيِلَ لِمُوسَى : إذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَإنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنَّّا نَقُولُ : إذْهَبْ فَقَاتِلْ عَدُوَّكَ إنَّا مَعَكَ مُقَاتِلُونَ).
وفِي بعضِ الرِّواياتِ قالُوا :(أقْعُدْ أنْتَ فَإنَّا بأَمْرِكَ مُقَاتِلُونَ). وقال الْمِقْدَادُ ابنُ الأَسْوَدِ :((إنَّا وَاللهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيْلَ لِمُوسَى :(إذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ) وَلَكِنَّا نَقُولُ : نُقَاتِلُ عَنْ يَمِيْنِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ، وَلَوْ خُضْتَ بنَا الْبَحْرَ لََخُضْنَاهُ مَعَكَ، وَلَوْ عَلَوْتَ جَبَلاً لَعَلَوْنَاهُ مَعَكَ. فَأَشْرَقَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِذلِكَ وَسَرَّهٌ)).
وكَانَتْ عَجَلَةً عَجَّلَهَا مُوسَى عليه السلام، فأوحَى الله إلى موسى : إلَى مَتَى يَعْصِيني هذا الشعبُ وإلى متَى لا يُصَدِّقُونَ بالآياتِ، لأُهْلِكَنَّهُمْ وَاجْعَلَنَّ لكَ شَعْباً أشَدَّ وأكثرَ منهم. فقال : إلَهِي لو أنَّكَ أهلكتَ هذا الشَّعبَ من أجْلِ أنَّهم لن يستطيعُوا أن يدخلوا هذه الأرضَ فتقتلُهم في البَرِّيَةِ وأنت عظيمٌ عَفْوُكَ كثيرٌ نِعْمَتُكَ وأنتَ تغفرُ الذنوبَ، فَاغْفِرْ لَهم.
فقال اللهُ تَعَالَى : قد غَفَرْتُ لَهم بكلمتِكَ، ولكن بَعْدَمَا سَمَّيتَهُمْ فاسِقينَ، وَدَعَوْتَ عليهم في عجلة لأُحَرِّمَنَّ عليهم دخولَ الأرضِ المقدَّسةِ، فذلك قولهُ :﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ ﴾ ؛ يَتَحَيَّرُونَ ؛ ﴿ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾.
وَقِيْلَ : إنَّ قولهم لموسَى :﴿ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ كان سُؤَالاً منه الفَرْقَ في الحقيقةِ دون القضاء، وكان دعاؤُه مُنْصَرِفاً إلى الآخرةِ، أي أدْخِلْنَا الجنَّةَ إذا أدخلتَهم النارَ، ولم يَعْنِ بذلك في الدُّنيا ؛ لأنه لو عَنَى ذلكَ لأجاب الله تعالى دُعَاءَهُ وأهلكَهم جميعاً ؛ لأنَّ دعاءَ الأنبياءِ لا يُرَدُّ من أجلِ أنَّهم يدعونَ بأمرِ الله تعالى.
ويقالُ : كان هذا دعاءً راجعاً إلى الدُّنيا، وقد أجابَ اللهُ تعالى دعاءَه ؛ لأنَّهُ عاقبَ قومَهُ في التِّيْهِ، ولم يكن موسَى وهارون محبوسَين في التِّيْهِ ؛ لأن الأنبياءَ علَيْهِمُ السَّلاَمُ لا يعذبون. قال الحسنُ :(لاَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُوسَى مَعَهُمْ فِيْهَا لاَ حَيّاً وَلاَ مَيِّتاً، ولاَ يجُوزُ إذا عَذبَ اللهُ بنَبيٍّ إلاَّ أنْ يًنَجِّيَ ذلِكَ النَّبيَّ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ). ويقالُ : إنَّ هذا الدُّعاء كان مِن موسى عليه السلام عندَ الغَضَب ؛ لأنه عنى به الحقيقة، ألا ترى أنه نَدِمَ على دعائه وجزِعَ من تحريم قرية الجبارين عليهم جزعاً شديداً حتى قيل له : لا تأس على القوم الفاسقين.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ أي قال اللهُ تعالى : فإنَّ الأرضَ المقدَّسةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ؛ أي هم مَمْنُوعُونَ من دخولِها أربعينَ سنةً، وأصْلُ التَّحْرِيْمِ الْمَنْعُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾[القصص : ١٢] وأرادَ : به الْمَنْعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ أي يَتَحَيَّرُونَ. قال ابنُ عبَّاس :(يَتَحَيَّرُونَ فِي سِتَّةِ فَرَاسِخَ أرْبَعِيْنَ سَنَةً، كَانُوا يَسِيْرُونَ فِي أوَّلِ النَّهَار فَيُمْسُونَ فِي مَكَانِهِمْ، وَيَسِيْرُونَ فِي أوَّلِ اللَّيْلِ، فَتَدُورُ بهِمُ الأَرْضُ فَيُصْبحُونَ فِي مَكَانِهِمْ). قال الحسنُ :(عَمِيَ عَلَيْهِمُ السَّبيْلَ وَأخْفِيَ عَلَيْهِمُ الأعْلاَمُ الَّتِي يَهْتَدُونَ إلَى الطَّرِيْقِِ فَلَمْ يَسْتَطِيْعُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا).
قال ابنُ عبَّاس :(وَذَلِكَ أنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ تَلِدُ كُلَّ بَطْنٍ وَلَدَيْنِ ذكَرٍ وَأنْثَى ؛ إلاَّ شيث فَإنَّهَا وَلَدَتْهُ مُنْفَرِداً، فَوَلَدَتْ أوَّلَ بَطْنٍ قَابيْلَ وَأُخْتَهُ إقْلِيْمَا، ثُمَّ وَلَدَتْ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي هَابِيْلَ وَأُخْتَهُ لَبُودا. فَلَمَّا أدْرَكُوا، أمَرَ اللهُ آدَمَ أنْ يُزَوِّجَ قَابيْلَ أخْتَ هَابيْلَ، وَيُزَوِّجَ هَابيْلَ أخْتَ قَابِيْلَ، فَرَضِيَ هَابيْلُ وَكَرِهَ قَابيْلُ ؛ لأَنَّ أخْتَهُ كَانَتْ أحْسَنَهُمَا، فَقَالَ آدَمُ : مَا أمَرَ اللهُ إلاَّ بهَذا يَا بُنَيَّ ؛ وَلاَ يَحِلُّ لَكَ. فَأَبَى أنْ يَقْبَلَ ؛ وَقَالَ : إنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْ بهَذا وَإنَّمَا هُوَ مِنْ رَأيكَ. فَقَالَ لَهُمَا : قَرِّبَا قُرْبَاناً ؛ فَأَيُّكُمَا يُقْبَلُ قُرْبَانُهُ فَهُوَ أحَقُّ بهَا.
وَكَانَ هَابيْلُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَقََابيْلُ صَاحِبَ حَرْثٍ، فَقَرَّبَ هَابيْلُ كَبْشاً سَمِيْناً وَلَبَناً وَزُبْداً، وَقَرَّبَ قَابيْلُ سُنْبُلاً مِنْ شَرِّ زَرْعِهِ، وَأضْمَرَ فِي قَلْبهِ مَا أبَالِي أتُقُبلَ مِنِّي أمْ لاَ، لاَ يَتَزَوَّجُ أخْتِي أبَداً، وَأضْمَرَ هَابِيْلُ فِي نَفْسِهِ الرِّضَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَوَضَعَا قُرْبَانَهُمَا عَلَى الْجَبَلِ، فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَمَا أَكَلَتْ شَيْئاً مِنَ السُّنْبُلِ بَعْدَ، ثُمَّ أكَلَتِ الْكَبْشَ وَاللَّبَنَ وَالزُّبْدَ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ﴾.
فَنَزَلُوا الْجَبَلَ وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَ آدَمُ عليه السلام مَعَهُمْ، فَذَهَبَ هَابيْلُ إلَى غَنَمِهِ، وَقَابِيْلُ إلَى زَرْعِهِ غَضْبَانَ وَأظْهَرَ الْحَسَدَ لِهَابِيْلَ، وَقَالَ : يَا هَابيْلُ لأقْتُلَنَّكَ! قَالَ : وَذَلِكَ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى تَقَبَّلَ قُرْبَانَكَ وَرَدَّ عَلَيَّ قُرْبَانِي، وَتَنْكِحُ أخْتِي الْحَسَنَةَ، وَأنْكِحُ أخْتَكَ الْقَبِيْحَةَ، فَيُحَدِّثُ النَّاسَ أنَّكَ خَيْرٌ مِنِّي. ﴿ قَالَ ﴾ ؛ هَابِيْلُ : مَا ذنْبي فِي ذلِكَ؟!). ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي من الزَّاكيةِ قلوبُهم الذين يخافونَ على حسناتِهم أن لا تُقْبَلَ، ولم تَكُنْ أنتَ زَاكِيَ القَلْب، فردَّ اللهُ قربانَكَ حيث نِيَّتَكَ.
وَقِيْلَ : أرادَ بالمتَّقين الذين يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ قَابيْلُ كَافِراً) وَفي أكثرِ الرِّواياتِ أنَّهُ كانَ رَجُلَ سَوْءٍ. قال الحسنُ :(كَانَ الرَّجُلُ إذا أرَادَ أنْ يُقَرِّبَ الْقُرْبَانَ ؛ تَعَبَّدَ وَتَابَ وَتَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوب وَلَبسَ الثَّيَابَ الْبيْضَ، ثُمَّ قَرَّبَ وَقَامَ يَدْعُو اللهَ، فَإنْ قَبلَ اللهُ قُرْبَانَهُ جَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ، وذلِكَ عَلاَمَةُ الْقَبُولِ، وَإنْ لَمْ تَجِئْ نَارٌ فَذلِكَ عَلاَمَةُ الرَّدِّ).
واختلفَ العلماءُ في وقتِ مَوْلِدِ قابيلَ وهابيلَ، قال بعضُهم : غَشِيَ آدمُ حوَّاءَ بعد ما هَبَطَ إلى الأرضِ بمائة سَنَةٍ، فولدت لهُ قابيلَ وتَوْأمَتَهُ في بطنٍ، ثم بعدَ ذلكَ البطنِ هابيلُ وتَوْأمَتَهُ. قال ابنُ عبَّاس :(وَلَمْ يَمُتْ آدَمُ حَتَّى بَلَغَ وَلَدَهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أرْبَعِيْنَ ألْفاً).
وقال بعضُهم : كان آدمُ يغشَى حوَّاءَ في الجنَّةِ، فَحَمَلَتْ بقابيلَ وتَوْأمَتِهِ، فلَم تَجِدْ عليهما وَحَماً ولا وَصَباً ولا طَلْقاً ولا نِفَاساً لِطُهْرِ الجنَّة، فلما هَبَطَ إلى الأرضِ تَغشَّاها فحملت بهابيلَ وتوأمتهِ، فوجدَتْ عليهما الوَحَمَ وَالوَصَبَ والطَّلْقَ والدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ ؛ أي طَاوَعَتْهُ نفسهُ، وَقِيْلَ : زَيَّنَتْ لهُ قَتْلَهُ فَقَتَلَهُ. قال السُّدِّيُّ :(لََمَّا قَصَدَ قَابيْلُ قَتْلَ هَابيْلُ أتَاهُ فِي رَأسِ جَبَلٍ وَهُوَ نَائِمٌ وَغَنَمُهُ تَرْعَى، فَأَخَذ صَخْرَةً فَشَدَخَ بهَا رَأسَهُ فَمَاتَ).
وقال الضحَّاك :(كَانَ قَابيْلُ لاَ يَدْرِي كَيْفَ يَقْتُلُهُ حَتَّى جَاءَ إبْلِيْسُ وَبيَدِهِ حَيَّةٌ فَوَضَعَهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَرَضَخَ رَأسَهَا بالْحَجَرِ وَقَابيلُ يَنْظُرُ، فَلَمَا نَظَرَ ذلِكَ جَاءَ إلَى هَابيلَ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بالْحِجَارَةِ عَلَى رَأسِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَكَانَ لِهَابيلَ يَوْمَ قُتِلَ عُشْرُونَ سَنَةً). واختلفوا في موضعِ قتله، قِيْلَ : قُتِلَ على جبلِ ثور. وقِيْلَ : بالبصرةِ.
فلمَّا مات هابيلُ قصَدتْهُ السِّباعُ لتأكلَهُ، فحملَهُ قابيلُُ على ظهرهِ حتى انتنَّ ريحهُ، فعكفَ الطُّيور والسِّباع حوالَيهِ تنتظرُ متى يُرمَي به فتأكلَهُ، ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ﴾ ؛ فبعثَ الله غُرابين فاقتَتلا، فقَتل أحدُهما صاحبه، ثم حفرَ له بمنقارهِ ورجله، ثم ألقاهُ في الحفيرةِ ووارَاهُ، وقابيلُ ينتظرُ إليه فـ ؛ ﴿ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾.
وعن ابنِ عباس قالَ :(لَمَّا قَتَلَ قَابيلُ هَابيلَ رَجَعَ إلَى أبيهِ قَبْلَ أنْ يَدْفِنَهُ، فَلَمَّا أبْطَأَ هَابيلُ قالَ آدَمُ عليه السلام : يَا قَابيلُ أينَ أخُوكَ ؟ قالَ : مَا رَأيْتُهُ ؛ وَكَأَنَّنِي بهِ أرْسَلَ غَنَمَهُ فِي زَرْعِي فَأَفْسَدَهُ، فَلَعَلَّهُ خَافَ أنْ يَجِيءَ مِنْ أجْلِ ذلِكَ، قَالَ : وَحَسَّتْ نَفْسُ آدَمَ، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ مَحْزُوناً، فَلَمَّا أصْبَحَ قَابيلُ غَدَا إلَى ذلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإذا هُوَ بغُرَابٍ يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ عَلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ لِيُواريَهُ).
وَقِيْلَ : بعثَ اللهُ الغرابَ إكراماً لهابيل، وكان الغرابُ يحثِي الترابَ على هابيل ليُرِيَ قابيل كيف يُواريه ؛ أي كيف يغطِّي عورتَهُ. وفي الخبرِ : أنَّهُ لَمَّا قتله سلبَهُ ثيابه، وتركه عُرياناً. وَقِيلَ : أرادَ بالسَّوْءَةِ جسَدَ المقتولِ، سماه سَوْءَةً لأنه لَمَّا بقي على وجهِ الأرض تغيَّرَ وَنَتَنَ، والسوءَةُ في اللغة : عبارةٌ عن كل شيء مستنكرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ ؛ الخاسرين، أي صارَ من المغبونِين بالوزر والعقوبة. قال الكلبيُّ :(كَانَ قَابيلُ أوَّلَ مَنْ عَصَى اللهَ فِي الأَرْضِ مِنْ ولْدِ آدَمَ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ يُسَاقُ إلَى النَّارِ).
وقال مقاتلُ :(كَانَ قَبْلَ ذلِكَ تَسْتَأْنِسُ الطُّيُورُ وَالسِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ بهِ، فَلَمَّا قَتَلَ قَابيلَ نَفَرُواْ، فَلَحِقَتِ الطُّيُورُ بالْهَواءِ ؛ وَالْوُحُوشُ بالْبَرِّيَّةِ ؛ وَالسِّبَاعُ فالفيَافِي وشَاكَ الشَّجَرُ، وَتَغَيَّرَتِ الأَطْعِمَةُ وَحَمِضَتِ الْفَوَاكِهُ وَاغْبَرَّتِ الأَرْضُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ ؛ أي من استنقذ نفساً من غَرَقٍ أو من حَرْقٍ أو مما يُميتها لا محالةَ، أو استنقذها من كفرٍ أو ضلالة فأحياها بالنعيمِ الدائم في الجنَّة، أو عفَى عن دمها بعد ما وجبَ عليها القصاصُ استوجبَ الجنَّة، كما استوجبَها مَن أحيَا الناس جميعاً. وعن ابنِ عبَّاس قالَ : قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ :" مَنْ سَقَا مُؤْمِناً شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فَكَأَنَّمَا أعْتَقَ سَبْعِينَ رَقَبَةً، وَمَنْ سَقَاهَا فِي غَيْرِ مَوْطِنِهَا فَكَأَنَّمَا أحْيَا نَفْساً، وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ﴾ ؛ أي لقد جاءت بني إسرائيلَ رسُلنا بالأوامر والنواهِي والعلامات الواضِحات، ﴿ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ ﴾ ؛ بعدَ أن جاءَتهم الدلائلُ والمعجزات، ﴿ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ ؛ مُشرِكون تاركُو أمرَ اللهِ تعالى.
فَمَرَّ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُرِيدُونَ الإسْلاَمَ عَلَى قَوْمٍ مِمَّنْ أسْلَمَ مِنْ قَوْمِ هِلاَلٍ، وَلَمْ يَكُنْ هِلاَلٌ يَوْمَئِذٍ حَاضِراً، فَخَرَجَ أصْحَابُهُ إلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ وَأخَذُوا أمْوَالَهُمْ، فَبَلَغَ ذلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها :(إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَاربُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ) الفَسَاد نحو القتلِ والنَّهب والتخريب وقطع الطريقِ ﴿ أَن يُقَتَّلُواْ ﴾ إنْ قتَلُوا أحداً ولم يأخذُوا المالَ ﴿ أَوْ يُصَلَّبُواْ ﴾ مقتُولين إن قتَلُوا وأخذُوا المالَ، ﴿ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ ﴾ اليدُ اليمين من الرِّسغ، والرِّجل اليُسرى من الكعب إن أخَذُوا المالَ ولم يقتُلوا أحَداً، ﴿ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ﴾ إن أخَافُوا الطريقَ ولم يفعَلُوا سِوَى ذلك.
واختلَفُوا في معنى النَّفي، قال بعضُهم : يعني الحبسَ، وقال بعضُهم : هو الطلبُ حتى لا يستقرَّ بهم مكانٌ. والتوفيقُ بين القولَين : أنَّهم إنْ أخِذُوا بعد ما أخَافُوا الطريقَ ؛ أودعَهم الإمامُ السِّجن حتى يتوبُوا أو يموتوا، وإنْ لم يُؤخَذوا أمَرَ بطلبهم، وأمرَ أن يُنادى في الناسِ : أنَّ مَن قتلَهم لا سبيلَ عليه.
وإنما سُمي الحبسُ نَفياً ؛ لأنه يمنعُ المحبوسين من التردُّد والتصرُّف في الأرضِ، ويكون ذلك بمنزلةِ النَّفيِ من الأرض.
واختلَفُوا في كيفيَّة الصَّلب مع القتلِ. قال أبو حَنيفة :(يُصْلَبُ حَيّاً لِيَرَى النَّاسَ وَيَرَوهُ ؛ وَيَكُونُ ذلِكَ زيَادَةً عُقُوبَةٍ لَهُ، ثُمَّ تُبْعَجُ بَطْنُهُ بالرُّمْحِ ؛ يُطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حَتَّى يَمُوتَ). وقال أبو يُوسف والشافعيُّ :(يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي فضيحةٌ في الدنيا، ﴿ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ أعظَمُ من هذا.
وقال مقاتلُ وسعيد بن جُبير :(نَزلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي عُرَيْنَةَ، قَدِمُوا الْمَدِيْنَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبَايَعُوهُ عَلَى الإسْلاَمِ، وَهُمْ كَذبَةٌ وَلَيْسَ يُرِيدُونَ الإسْلاَمَ، فَاجْتَوَواْ الْمَدِيْنَةَ وَعَظُمَتْ بُطُونُهُمْ وَاصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَخْرُجُوا إلَى إبلِ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُواْ مِنْ أبْوَالِهَا وَألْبَانِهَا، فَفَعَلُوا ذلِكَ حَتَّى صَحُّوا، ثُمَّ قَتَلُوا الرُّعَاةَ وَاسْتَاقُوا الإبِلَ وَارْتَدُّواْ عَنِ الإسْلاَمِ.
فَصَاحَ الصَّائِحُ : يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي. فََرَكِبُوا لاَ يَنْتَظِرُ فَارسٌ فَارساً، فَأَسْرَعُوا فِي طَلَبهِمْ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي طَلَبهِمْ، فَجَاءوا بهِمْ، فَقَطََّعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَمَّلَ أعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بالْحَيَاةِ حَتَّى مَاتُواْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَصَارَتْ عَامَّةً فِي قُطَّاعِ الطُّرُقِ نَاسِخَةً لِتَسْمِيلِ الْعَيْنِ).
وقال الليثُ بنُ سعدٍ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَعْلِيماً لَهُمْ عُقُوبَتَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ﴾ وَلَمْ يَكُنْ جَزَاؤُهُمْ هَذِهِ الْمُثْلَةَ الَّتِي هِيَ السَّمْلُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ خَطِيباً وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ).
روى الشعبيُّ :(أنَّ حَارثَةَ بْنَ زَيْدٍ خَرَجَ مُحَارباً فِي عَهْدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَأَخَافَ السُّبُلَ وَسَفَكَ الدِّمَاءَ وَأخَذ الأَمْوَالَ، ثُمَّ جَاءَ تَائِباً فَأَتَى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَطَلَبَ إلَيْهِ أنْ يَسْتَأْمِنَ لَهُ عَلِياً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فَأَبَى، فَأَتَى عَبْدَاللهِ بْنَ جَعْفَرَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَتَى سَعْدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمَدَانِيَّ فَقَبلَهُ وَضَمَّهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلِيٌّ رضي الله عنه صَلاَةَ الْغَدَاةِ، أتَى سَعْدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمَدَانِيُّ وَقَالَ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ مَا جَزَاءُ الَّّذِينَ يُحَاربُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ؟ قَالَ : أنْ يُقَتَّلُواْ أوْ يُصَلَّبُواْ أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ. قَالَ : مَا تَقُولُ فِيْمَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : أقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ إلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ قَيْسٍ : وَإنْ كَانَ حَارثَةَ بْنَ زَيْدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ، فَجَاءَ بهِ إلَيْهِ، فَبَايَعَهُ وَأمَّنَهُ وَكَتَبَ لَهُ أمَاناً مَنْشُوراً، فَقَالَ حَارثَةُ : ألاَ أبْلِغَنَّ هَمَدَان إمَّا لَقِيتَهَا عَلَى النَّأْي لاَ يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَالَعَمْرُو أبيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِى الـ إلَهَ وَيَقْضِى بالكِتَاب خَطِيبُهَا
وقرأ عيسى بن عمر :(وَالسَّارقَ وَالسَّارقَةَ) بالنصب على إضمار اقطَعُوا السارقَ والسارقةَ، كما تقولُ : زَيداً اضرِبهُ، والقراءة المختارةُ : الرفعُ ؛ لأن القطعَ على الأيدِي لا على السارقِ. وقال المبرِّدُ :(لَيْسَ الْقَصْدُ مِنَ الْكَلاَمِ إلَى وَاحِدٍ بعَيْنِهِ، وَإنَّمَا مَعْنَاهُ : مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، بِخِلاَفِ قَوْلِكَ : زَيْداً اضْرِبْهُ. وَلَوْ أرَادَ سَارقاً بعَيْنِهِ لَكَانَ وَجْهُ الْكَلاَمِ النَّصْبَ). وعلى هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ﴾[النور : ٢] ولو أرادَ زانياً بعينهِ لنصبَ.
وإنما ذكرَ أيديَهُما بلفظِ الجمع ؛ لأنه أرادَ أيْمانَهُما ؛ لأنَّ ما كان واحداً فَبَيَّنَهُ بلفظِ الجمع والإضافةِ إلى الاثنين، ومثلُ ذلكَ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾[التحريم : ٤]، والإضافةُ إلى الاثنينِ يدلُّ على أن المرادَ به التثنيةُ دونَ الجمعِ.
فإن قِيْلَ : لأيِّ معنى قدَّمَ اللهُ ذكرَ السارقِ على السَّارقة، وقدَّمَ ذكرَ الزانيةِ على الزانِي ؟ قِيْلَ : لأنَّ السرقةَ في الرجالِ أكثرُ، والنساءُ هي أصلُ الفتنةِ للرجال بالتعريضِ لهم، ولو لَزِمَتِ المرأةُ بيتَها كما أمرَ اللهُ تعالى لم تقَعْ هي، ولا الرجالُ في الزِّنا.
واختلفوا في كم تقطَعُ يدُ السارقِ من المال إذا سرقَهُ، فقال بعضُهم : في عشرةِ دراهمَ فصاعداً، ولا يقطعُ فيما دون ذلك، وإليه ذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ، وكان سُليمان بن يسار لا يقطعُ الخمسَ إلاَّ في خمسةِ دراهمَ. وقال مالكُ :(يُقْطَعُ فِي ثَلاثَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِداً)، وقال الأوزاعيُّ والشافعي :(يُقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً).
وقال بعضُهم : يقطع في القليلِ والكثير ولو كان دَانِقاً، وهو قولُ ابنِ عبَّاس. وقال بعضُهم : في درهمٍ.
ولو قطعَ السارقُ ثم عادَ فسرقَ، قُطعت رجلهُ اليُسرَى، فإن سرقَ ثالثاً قال أبو حنيفةَ وأصحابهُ :(لاَ يُقْطَعُ، لِمَا رُويَ أنَّ عَلِيّاً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أتِيَ بسَارقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أتِيَ بهِ مَرَّةً أخْرَى فَقَطَعَ رجْلَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ أتِيَ بهِ ثَالِثَةً فَضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَقَالَ : إنِّي أسْتَحِي مِنَ اللهِ أنْ لاَ أدَعَ لَهُ يَداً يَسْتَنْجِي بهَا وَلاَ رجْلاً يَمْشِي بَها).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا ﴾ ؛ أي عقوبةً على ما فعَلاَ، وانتصبَ (جَزَاءً) لأنه مفعولٌ له، كأنه قالَ : فاقطَعُوهما لجزاءِ فعلهِما. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي عقوبةً وفضيحة من اللهِ. والنَّكَالُ : هو أن يُنَكَّلَ بهِ ليعتبرَ به غيرهُ فَيَنْكَلَ ؛ أي لا يفعلَ مثلَ فعلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي منيعٌ بالنِّقمة من السارقِ، ذو حِكمة فيما حكمَ من القطعِ لما في ذلك من زَجْرِِ السَّارق عن غيِّهم صيانةً لأموالِ الناس.
وأما إذا رُفع إلى الحاكمِ ثم تابَ فالقطعُ واجبٌ، فإنْ كانت توبتهُ حقيقةً كان ذلك زيادةَ درجاتٍ له، كما أنَّ الله تعالى ابتلَى الصالحين والأنبياءَ بالبلايا والْمِحَنِ والأمراضِ زيادةً لهم في درجاتِهم، وإنْ لم تكن توبتهُ حقيقةً كان الحدُّ عقوبةً له على ذنبهِ، وهو مؤاخَذٌ في الآخرةِ إن لم يتُبْ.
وعن عبدِالله بن عامر قال :" سَرَقَتِ اْمَرَأةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَجَاءُوا بهَا إلَيْهِ، قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ سَرَقَتْنَا، فَقَالَ قَوْمُهَا : نَحْنُ نَفْدِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" اقْطَعُوا يَدَهَا " قَالُواْ : نَحْنُ نَفْدِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ مِثْقَالٍ، فَقَالَ :" اقْطَعُوا يَدَهَا " فَقُطِعَتْ يَدُهَا الْيُمْنَى، فَقَالَتِ الْمَرْأةُ : هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :" نَعَمْ إنَّ التَّوْبَةَ تُخْرِجُكِ عَنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أمَّكِ " فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾.
وعن عائشةَ قالت :" كَانَتِ امْرَأةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيْرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بقَطْعِ يَدِهَا، فَأَتَى أهْلُهَا أسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ، فَكَلَّمَ النَّبيَّ ﷺ فَقَالَ :" يَا أُسَامَةُ لاَ أرَاكَ تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ " ثُمَّ قَامَ خَطِيباً فَقَالَ :" إنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بأَنَّهُمْ كَانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " أعَاذهَا اللهُ مِنْ ذلِكَ، فَقَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ.
وقولهُ تعالى :﴿ ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ أي لا يحزِنُكَ يا مُحَمَّدُ فعلُ الذين يسارعُ بعضهم بعضاً في الإقامةِ على الكفرِ والحثِّ عليه.
قرأ نافعُ :(يُحْزِنُكَ) بضمِّ الياء، ومعناهما واحدٌ. وقرأ السلميُّ :(يُسْرِعُونَ فِي الْكُفْرِ)، وقولهُ تعالى :﴿ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ وهم المنافقون ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ ﴾ ؛ أي ومن يهودِ المدينة الذين هم أهلُ الصُّلح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تسليةٌ للنبيِّ ﷺ وتثبيتٌ لفؤادهِ بوعد النُّصرَةِ والظفرِ، وإعلامٌ أنَّ اليهود والنصارَى والمنافقين لا يضرُّونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :" ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ ؛ أي قابلون للكذب، يعني بني قُريظة هم سَمَّاعون لقومٍ آخَرين لم يأتُوكَ، يعني يهودَ خيبر، وذلك : أنَّ رَجُلاً وَامْرَأةً مِنْ أشْرَافِ أهْلِ خَيْبَرَ زَنَيَا، وَكَانَتْ خَيْبَرُ حَرْباً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ الزَّانِيَانِ مُحْصِنَيْنِ، وَكَانَ حَدَّهُمَا الرَّجْمُ فِي التَّوْرَاةِ، فَكَرِهَتِ الْيَهُودُ رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا، وَقَالُواْ : إنَّ هَذا الرَّجُلَ الَّذِي فِي يَثْرِبَ لَيْسَ فِي كِتَابِهِ الرَّجْمُ وَلَكِنَّهُ الضَّرْبُ، فَأَرْسِلُوا إلَى إخْوَانِكُمْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإنَّهُمْ صُلْحٌ لَهُ وَجِيراَنُهُ فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ ذلِكَ، فَبَعَثُوا رَهْطاً مِنْهُمْ مُسْتَخْفِينَ، وَقَالُواْ لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّداً عَنِ الزَّانِيَينِ مُحْصِنَينِ مَا حَدُّهُمَا ؟ فَإنْ أمَرَكُمْ بالْجَلْدِ فَاقْبَلُواْ مِنْهُ، وَإنْ أمَرَكُمْ بالرَّجْمِ فَاحْذرُوهُ وَلاَ تَقْبَلُواْ مِنْهُ، وَأرْسَلُواْ الزَّانِيَيْنِ مَعَهُمْ.
فَقَدِمَ الرَّهْطُ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَذَكَرُوا لَهُمْ ذلِكَ وَقَالُواْ : اسْأَلُوا لَنَا مُحَمَّداً عَنْ قَضَائِهِ، فَقَالَ لَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ : إذاً وَاللهِ يَأْمُرُكُمْ بمَا تَكْرَهُونَ، ثُمَّ انْطَلَقَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مِثْلُ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ وَكَعْب بْنِ أسَدٍ وَسَبْعَةَ بْنِ عُمَرَ وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَعَازُورَاءَ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ أخْبرْنَا عَنِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي إذا أحْصَنَا مَا حَدُّهُمَا وَكَيْفَ تَجِدُ فِي كِتابكَ ؟ فَقَالَ ﷺ :" وَهَلْ تَرْضَوْنَ بقَضَائِي فِي ذلِكَ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بالرَّجْمِ، فَأَخْبَرَهُمْ فَأَبَوا أنْ يَأْخُذُواْ بهِ.
فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام : اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ ابْنَ صُوريَّا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" هَلْ تَعْرِفُونَ شَابّاً مِنَ الرِّبيِّينَ أعْوَرَ سَكَنَ فَدَكْ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ، قَالَ :" فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ فِيْكُمْ ؟ " قَالُواْ : هُوَ أعْلَمُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ الْيَهُودِ بالتَّوْرَاةِ، قَالَ :" فَأَرْسِلُواْ لَهُ "، فَفَعَلُواْ، فَأَتَاهُمْ ابْنُ صُوريَّا، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ :" أنْتَ ابْنُ صُوريَّا ؟ " قَالَ : نَعَمْ، قَالَ :" أنْتَ أعْلَمُ الْيَهُودِ ؟ " قَالَ : كَذلِكَ يَزْعُمُونَ، قَالَ :" أتَجْعَلُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ قَدْ رَضِينَا بهِ إذا رَضِيْتَ بهِ.
فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ :" أنْشِدُكَ باللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الْقَوِيُّ، إلَهُ بَنِي إسْرَائِيلَ الَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالَّذِي فَلَقَ لَكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَاكُمْ وَأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، وَالَّذِي ظَلَّلَ عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ، وَأنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، هَلْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمُ الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أحْصَنَ ؟ " قَالَ ابْنُ صُوريَّا : نَعَمْ وَالَّذِي ذكَّرْتَنِي بهِ ؛ وَلَوْلاَ خِشْيَةَ أنْ تُحْرِقَنِي التَّوْرَاةُ إنْ كَذبْتُ أوْ غَيَّرْتُ لَمَا أعْرَفْتُ لَكَ، وَلَكِنْ كَيْفَ فِي كِتَابكَ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ :" إذا شَهِدَ أرْبَعَةٌ عُدُولٌ أنَّهُ أدْخَلَ فِيْهَا، كَمَا يَدْخُلُ الْمِيْلُ فِي الْمِكْحَلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ "، قَالَ ابْنُ صُوريَّا : وَالَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى لَهَكَذا أنْزِلَ عَلَى مُوسَى.
فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ : مَا أسْرَعَ مَا صَدَقْتَهُ، أمَا كُنْتَ لَمَّا أتَيْنَا عَلَيْكَ بأَهْلٍ وَمَا أنْتَ بأَعْلَمِنَا، فَقَالَ لَهُمْ : أنْشَدَنِي بالتَّوْرَاةِ، وَلَوْلاَ خِشْيَةَ التَّوْرَاةِ أنْ تُهْلِكَنِي لَمَا أخْبَرْتُهُ، وَخِفْتُ إنْ كَذبْتُهُ أنْ يَنْزِلَ بنَا عَذابٌ شَدِيدٌ.
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ برَجْمِ الْيَهُودِيَّين الزَّانِيَينِ، وَقَالَ :" أنَا أوَّلُ مَنْ يُحيْي سُنَّةً إذا أمَاتُوهَا "، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ فَلاَ يُخْبرُكُمْ بهِ.
فَقَالَ ابْنُ صُوريَّا : أنْشِدُكَ باللهِ يَا مُحَمَّدُ أنْ تُخبرَنَا بالْكَثِيرِ الَّّذِي أمِرْتَ أنْ تَعْفُو عَنْهُ، فَأَعْرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ابْنُ صُوريَّا : أخْبرْنَا عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ، قَالَ :" مَا هُنَّ ؟ " قَالَ : أخْبرْنِي عَنْ نَوْمِكَ ؟ قَالَ :" تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبي يَقْظَانٌ "، قَالَ : صَدَقْتَ.
قَالَ : فَأَخْبرْنِي عَنْ شَبَهِ الْوَلَدِ بأَبيهِ لَيْسَ فِيْهِ مِنْ شَبَهِ أمِّهِ شَيْءٌ، وَعَنْ شَبَهِ أمِّهِ لَيْسَ فِيْهِ مِنْ شَبَهِ أبيهِ شَيْءٌ، قَالَ :" أيُّهُمَا عَلاَ وَسَبَقَ مَاؤُهُ مَاءَ صَاحِبهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ "، قَالَ : صَدَقْتَ.
فَأَسْلَمَ ابْنُ صُوريَّا حِينَئِذٍ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَأْتِيكَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بالْوَحْيِ ؟ قَالَ :" جِبْرِيْلُ " قَالَ : صِفْهُ لِي، قَالَ : فَوَصَفَهُ لَهُ النَّبيُّ ﷺ، فَقَالَ : أشْهَدُ أنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا قُلْتَ، وَإنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَلَمَّا أسْلَمَ ابْنُ صُوريَّا شَتَمُوهُ ".
واختلَفُوا في المرادِ بالسُّحْتِ، فقال ابنُ مسعودٍ والحسنُ :(أرَادَ بهِ الرِّشْوَةَ عَلَى الْحُكْمِ) وقال عليٌّ وأبو هريرةَ :(هُوَ الرِّشْوَةُ عَلَى الْحُكْمِ ؛ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ ؛ وَعَسْبُ التَّيْسِ ؛ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ ؛ وَثَمَنُ الْخَمْرِ).
والسُّحْتُ : اسمٌ لما لا يَحِلُّ أخذهُ، وأصلُ السُّحتِ من الهلاكِ، يقال : سَحَتَهُ وَأسْحَتَهُ ؛ إذا اسْتَأْصَلَهُ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾[طه : ٦١] أي يُهْلِكَكُمْ، وسُمِّيَ الحرامُ سُحتاً ؛ لأنه يؤدِّي إلى الهلاكِ والاستئصالِ.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنه قالَ :" كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أوْلَى بهِ " قِيلَ : مَا السُّحْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :" الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ " وعن مسروقِ عن ابن مسعودٍ قال :((الرِّشْوَةُ سُحْتٌ، قُلْتُ لَهُ : فِي الْحُكْمِ ؟ قَالَ : لاَ ؛ ذاكَ الْكُفْرُ ؛ ثُمَّ قَرَأ ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة : ٤٤]. وأرادَ بهذا استحلالَ الرِّشوة وجَحْدَ الحقِّ.
والرشوةُ تنقسمُ على وجوهٍ ؛ منها : الرشوةُ على الحكمِ، وذلك حرامٌ على الرَّاشِي والمرتَشِي ؛ لأنه لا يخلُو إمَّا ليحكمَ له الحاكمُ بحقِّه، فيكون المرتشِي آخِذاً للأُجرةِ على أداءِ ما هو فرضٌ عليه، ويكون الرَّاشي مُحَاكِماً إلى مَن لا يصلحُ للحكمِ ولا ينفذُ حُكمه، وإما أنْ يرشِي فيقضِي له بما ليس له بحقٍّ، فيكون الإثمُ أعظمَ ويفسق الحاكمُ من وجهين، وكذلك المرتشي، والرَّائِشُ : أرادَ بالرائش الذي يمشِي بينهما.
ومنها : الرشوةُ في غيرِ الحكم، كما رُوي عن وهب بن منبه :(أنَّهُ قِيْلَ لَهُ الرِّشْوَةُ حَرَامٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؟ قَالَ : إنَّمَا نَكْرَهُ أنْ تَرْشِي لِتُعْطَى مَا لَيْسَ لَكَ، أوْ تَدْفَعَ حَقّاً لَزِمَكَ، فَأَمَّا أنْ تَرْشِي لِتَدْفَعَ عَنْ دِينِكَ وَدَمِكَ وَمَالِكَ، فَلَيْسَ بَحَرامٍ، وَإنَّمَا الإثْمُ عَلَى الْقَابضِ).
قرأ عاصمُ ونافع وحمزة وابن عامر :(للسُّحْتِ) بضم السين وجزمِ الحاء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمِّهما جميعاً، وقرأ أبو العبَّاس :(للسَّحْتِ) بفتح السِّين وجزم الحاء، وقرأ عُبيد بن عمر :(للسِّحْتِ) بكسر السين وجزم الحاء، وكلُّه بمعنى واحدٍ وهو الحرامُ.
وَقِيْلَ : يقال رجلٌ مَسْحُوتُ المعِدَةِ ؛ إذا كَانَ أكُولاً لاَ يُلْفَى أبَداً إلاَّ جَائِعاً، قِيْلَ : نزَلت هذه الآيةُ في حكَّام اليهودِ كعب بن الأشرفِ وأمثالهِ، كانوا يرتَشُون ويقضُون لمن رشَاهُم. وعن الحسنِ في قوله :(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِب أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قال :(ذلِكَ الْحُكَّامُ ؛ يَسْمَعُ كَذِبَهُ وَيَأْخُذُ رشْوَتَهُ، فَيَكُونُ الْحَاكِمُ قَدْ سَمِعَ الدَعْوَةَ الْكَاذِبَة وَيَأْكُلُ رشْوَتَهُ).
ورُوي : أنَّ مسروقاً شَفَعَ لرجُلٍ في حاجةٍ، فأهدَى له جاريةً، فغضِبَ غَضباً شديداً وقال : لَوْ عَلِمْتُ أنَّكَ تَفْعَلُ هَذا مَا تَكَلَّمْتُ فِي حَاجَتِكَ وَلاَ أتَكَلَّمُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ حَاجَتِكَ، سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : يَقُولُ :((مَنْ شَفَعَ فِي حَاجَةٍ لِيَرُدَّ بهَا حَقّاً أوْ يَدْفَعَ بهَا ظُلْماً فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ سُحْتٌ)، فَقِيلَ لَهُ : يَا أبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَرَى ذلِكَ إلاَّ أخْذ رشْوَةٍ عَلَى الحُكْمِ ؟ فَقَالَ :(الأَخْذُ عَلَى الْحُكْمِ كُفْرٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :
والمرادُ بالنبيِّين مُوسَى وعيسى ومُحَمَّدٍ ﷺ وغيرُهم من الذين كانوا من وقتِ موسى إلى وقت نبيِّنا عليهم السَّلامُ. ويقال أرادَ بالنَّبيِّين مُحَمَّداً ﷺ فإنه كان كالنائب عن أنبياء بني إسرائيلَ في أنْ يحكُمَ في الزِّنا بينهم بحُكمِ التوراةِ.
وَقِيْلَ : معنى ﴿ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ﴾ أي انقَادُوا لأحكامِ الله لا على أنَّ غيرَهم من النبيِّين لم يكونوا مُسلمين. وَقِيْلَ : معنى (أسْلَمُوا) أي صَارُوا إلى السَّلامةِ، كما يقال : أصْبَحُوا وَأمْسَوا : وادَّخَلُوا في الصَّباح والمساءِ. وَقِيْلَ : معناهُ : الَّذِين أسْلَمُوا أنفُسَهم إلى اللهِ. " كما رُوي أنَّ النبيَّ ﷺ كان يقولُ إذا آوَى إلَى فِرَاشِهِ :" أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ " قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ يعني لليهودِ، وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : للذين تَابُوا من الكفرِ، كما في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ ﴾[الأعراف : ١٥٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالرَّبَّانِيُّونَ ﴾ ؛ هم العُلماء العامِلون، يَرُبُّونَ العلمَ ؛ أي يقُومون به، ﴿ وَالأَحْبَارُ ﴾ ؛ سائرُ العلماء دون الأنبياءِ والربَّانيِّين، وإنما سُمي العالِمُ حَبراً لكثرةِ ما يكتبُ بالحبرِ، ويقال : هو مِن التحبيرِ وهو تحسينُ العلمِ، وتقبيحُ الجهلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ ﴾ ؛ من الرَّجمِ وسائر الأحكامِ، ﴿ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ﴾ ؛ إنه كذلك، ومعنى (اسْتُحْفِظُوا) : استَودَعُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ ؛ خطابٌ لعلماء اليهودِ ؛ أي لا تخشَوُا السَّفلةَ والْجُهَّالَ في إظهار نعت النبيِّ ﷺ وآيةِ الرَّجم، واخشَوا عِقَابي في كتمانِها، ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ ؛ أي لا تختَارُوا عَرَضاً يَسيراً من الدُّنيا، فإن الدُّنيا ما فيها قليلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ ؛ ذهبَ الخوارجُ إلى أنَّ معنى الآيةِ :(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بخِلاَفِهِ كَانَ كَافِراً بفِعْلِ ذلِكَ، اعْتِقَاداً كَانَ أوْ غَيْرَ ذلِكَ)، وَكَفَّرُوا بذلك كلَّ مَن عصَى اللهَ تعالى بكبيرةٍ أو صغيرة، وأدَّاهم ذلك إلى الضَّلال والكُفرِ تكفيرِهم الأنبياءَ صلواتُ الله عليهم بصغائرِ ذُنوبهم!
وأما عامَّةُ أهلِ الإسلام قالوا : إن المرادَ بهذه الآية : أنَّ مَنْ جَحَدَ شيئاً مما أنزلَ اللهُ مثلَ ما فعلَهُ اليهودُ من التحريفِ والتبديل وإنكار بعض آياتِ الله تعالى، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة بمنزلةِ الكافر بالكُتب وبالرُّسل كلِّها.
يدلُّ على هذا أنه لا خلافَ أنَّ مَن لم يَقْضِ بينهم بما نزَّلَ اللهُ لا يكفرُ بأنْ لم يحكُمْ ؛ لأنَّ أكثرَ الناس بهذه الصِّفةِ، والحاكمُ بين الناس في كثيرِ حالاته لا يحكمُ، فإذا صَلُحَ الخوارجُ أن يَزِيدُوا في ظاهرِ اللفظ فيقولوا معناهُ :(مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بِخِلاَفِهِ) صَلُحَ لغيرِهم أن يقولوا معناهُ : ومَن لم يحكُمْ بصحَّة ما نزَّلَ اللهُ ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾، وهذا عامٌّ في اليهودِ وغيرهم.
ومعناها : وأوحَينا على بني إسرائيلَ في التَّوراة :﴿ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ يعني أن نفسَ القاتلِ بنفسِ المقتول وَفاءً، ﴿ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾ بفَقْئِهِمَا، ﴿ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ ﴾ يُجدع بهِ، ﴿ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ ﴾ يُقطَعُ به ﴿ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ﴾ يُقلَعُ بهِ، وخفَّفَ نافعُ الأُذُنَ في جميعِ القرآن، وثقَّلَهُ غيرهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ ؛ أي يجزئُ فيها القصاصُ، والقِصَاصُ : عبارةٌ عن الْمُسَاوَاةِ، وهذا مخصوصٌ فيما يُمكن القِصَاصُ فيه، فأمَّا ما كان من رضَّةٍ أو هَشْمَةٍ لعظمٍ، وهذه ركنٌ لا يحيطُ العلمُ به، ففيه أرْشٌ أو حكومةٌ.
قرأ الكسائيُّ :(وَالْعَيْنُ) رَفعاً إلى آخرهِ، وكذلك قولهُ (وَالْجُرُوحُ) رفعَهُ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ، ونصَبُوا سائرَ الحروفِ قبلَهُ، قالوا : لأَنَّ لَهَا نَظَائِرَ فِي الْقُرْآنِ ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾[التوبة : ٣] و﴿ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[الأعراف : ١٢٨] و﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ ﴾[الجاثية : ٣٢]. وقرأ نافعُ وعاصم وحمزة وخلفُ كلها بالنصب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ أي مَن عفَا عن مَظْلَمَةٍ في الدُّنيا، فهو كفَّارةٌ للجراحِ لا يؤاخَذُ به في الآخرة، كما أنَّ القصاصَ كفَّارةٌ له، وأما أجرُ العَافِي فعلى اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾[الشورى : ٤٠] وهذا قولُ إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، وروايةٌ عن ابنِ عباس.
وَقِيْلَ : معناهُ : فهو كفَّارة للمجروحِ وولِيِّ القتيلِ، وهو قولُ ابنِ عمرَ والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد. ودليلُ هذا قولهُ ﷺ :" مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بشَيْءٍ كَفَّرَ اللهُ بقَدْرهِ مِنْ ذُنُوبهِ " فمَن عفا كان عفوهُ كفارةً لذُنوبِه يعفو عنه الله ما أسلفَ من ذُنوبه، وأما الكافرُ إذا عفَا لا يكون عفوهُ كفارةً له مع إقامتهِ على الكفر. وقال ﷺ :" مَنْ أُصِيبَ بشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَتَرَكَهُ للهِ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ "
ورُوي : أنَّ رجلاً طَعَنَ رَجُلاً على عهدِ معاويةَ رضي الله عنه ؛ فأعطَوهُ دِيَتَيْنِ على أن يرضَى، فلم يَرْضَ، فحدَّث رجُلاً من أصحاب رسول الله ﷺ أنه قالَ :" مَنْ تَصَدَّقَ بدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ بهِ " فَتَصَدَّقَ بهِ. وقال ﷺ :
قولهُ :﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ نُصِبَ على الحالِ من عيسَى، كان مصدِّقاً بالكتاب الذي أنزِلَ قبله وهو التوراةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ ؛ أي أعطيناه الإنجيلَ فيه هدى من الضلالة، وبيان الأحكام، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً ﴾ نعتُ الإنجيل الذي أعطيناهُ ذلك كتاباً، أو ومُوافقاً لما تَقدَّمَهُ، ﴿ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى ﴾ ؛ أي بَياناً لنعتِ النبيِّ ﷺ وصفته، ﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي نَهياً للذين يتَّقون الفواحشَ والكبائر.
قرأ الأعمش وحمزةُ :(وَلِيَحْكُمَ) بكسر اللام وفتحِ الميمِ ؛ أي آتيناهُ الإنجيلَ لكي يحكُمَ، وقرأ الباقون بجزمِ اللام والميم. قال مقاتلُ :(أمَرَ اللهُ الرَّبَّانِيِّينَ أنْ يَحْكُمُوا بمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأمَرَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُهْبَانَ أنْ يَحْكُمُوا بمَا فِي الإنْجِيلِ، فَكَفَرُواْ وَكَذبُوا مُحَمَّداً ﷺ ؛ وَقَالُواْ : الْعُزَيْرُ ابْنُ اللهِ، وَقَالُواْ : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ؛ أي مَن لم يحكُمْ بما أنزلَ اللهُ في كُتبهِ على رُسله، فأُولئِكَ همُ الخارجون عن أمرِ الله.
وأصلُ مُهَيْمِنٍ : مُؤْتَمَنٍ، على وزن مُفَيْعِلٍ من الأمانةِ، إلاّ أن الهاءَ أبدلت من الهمزةِ كما قالوا : أرَقْتُ الماءَ وهرَقْتُ الماءَ، وأنَاكَ وَهُنَاكَ، وهَيْهَاتَ وأيْهَاتَ، ونظيرُ المهيمنِ : مُسَيطِرٌ. قال الشعبيُّ والكسائي ورواية الكلبي عن ابنِ عباس معنى قوله ﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ أي شَاهداً، قال الشاعرُ : إنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبيِّنَا وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذوُو الأَلْبَابأي شَاهداً. وقال ابنُ جبير وأبو عبيد والحسن :(أمِيناً)، وهي روايةُ العوفي عن ابنِ عباس. وأمانةُ القرآن أنه أمينٌ على ما قبلَهُ من الكتب وهي فيما أخبرَ به أهل الكتاب في كُتبهم، فإنْ كان ذَلك في القرآنِ فصَدَّقوا وإلاّ كَذبوا. وقال الضحاكُ :(مُهَيْمِناً ؛ أيْ قَاضِياً). وقال عكرمةُ :(دَالاًّ). وقال ابنُ زيدٍ :(مُصَدِّقاً). وقال الخليلُ :(رَقِيباً وَحَافِظاً).
ويقالُ : هَيْمَنَ فلانٌ على كذا إذا شاهدَهُ وحَفِظَهُ. تقولُ العرب للطائرِ إذا طارَ، وحوَّلَ وَكْرَهُ، ورفرفَ على فَرْخِهِ صيانةً له : هَيْمَنَ الطَّيرُ يهَيْمِنُ، وكذلك يقالُ للطائرِ إذا أرخَى جناحَيهِ يسَعُهما بيضُهُ وفرخُهُ ورفرفَ على فرخهِ صيانةً له. ومنه قيلَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ : الْمُهَيْمِنُ، أي الرقيبُ الرحيمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ ؛ أي فاحكم في الزانِي والزانية بالرَّجم، ويقال : احكُمْ بين بني قُريظة وبني النضير في الجراحاتِ التي بينهم في التَّسوية بين الفريقين، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ ؛ أي لا تتَّبع مرادَهم، ﴿ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ ؛ أي جعلنا لكلِّ نبيٍّ منكم يا معشرَ الأنبياءِ فرائضَ وسُنناً، والشِّرْعَةُ والشَّرِيعَةُ : هو التخلُّص إلى الجنَّة كشريعةِ الأنْهَار والحياضِ في الدُّنيا، وهو التخلُّص إلى الشرب والاستقامة، وأصلُ الشِّرْعَةِ من قولهم : شَرَعَ فلانٌ يَشْرَعُ شُروعاً إذا دخلَ في الأمرِ دخولاً ظاهراً، ويقالُ : الشِّرْعَةُ والمنهاجُ كِلاَهُمَا الطريقُ، والطريقُ ها هنا الدِّينُ، وقد يعبَّرُ عن الشيءِ الواحد بلَفظَين مختلفين تأكيداً للكلامِ.
وقال المبرِّدُ :(الشِّرْعَةُ : ابْتِدَاءُ الطَّرِيقِ، وَالْمِنْهَاجُ : الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ). ويقالُ : عنى المنهاجِ : الدلائلُ الواضحة التي يستدلُّ بها على الفرائضِ من كتابٍ وسُنَّة، وَقِيْلَ : معناهُ : لكلٍّ جَعلنا منكم سَبيلاً وسُنَّة. والمنهاجُ : الطريقُ الْمُبينُ الواضحُ.
قال المفسِّرون : عنَى بذلك جميعَ أهلِ الْمِلَلِ المختلفةِ، جعلَ الله لكل ملَّةٍ شِرعَةً ومنهاجاً، فلأَهْلِ التوراةِ شريعةٌ، ولأهلِ الإنجيل شريعةٌ، ولأهلِ القرآن شريعةٌ، يُحِلُّ فيها ما شاءَ ويحرِّمُ فيها ما شاءَ، فالدِّينُ واحدٌ والشريعةُ مختلفة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ ؛ أي لجعلَكم على أمرٍ واحد في دعوةِ جميع الأنبياء، ﴿ وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ ﴾ ؛ أي ولكن ليختبرَكم، ﴿ فِي مَآ آتَاكُم ﴾ ؛ فيما أعطَاكُم من الكتب، وفيما أمرَكم من السُّنن والشرائعِ المختلفة، فيتبيَّنُ من يطيعُ اللهَ ومن يعصيه.
قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ أنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِير مِثْلَ ابْنِ صُوريَّا وَكَعْب بْنِ أسَدٍ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا فِيْمَا بَيْنِهِمْ : اذْهَبُوا بنَا إلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَإنَّمَا هُوَ بَشَرٌ! فَأَتَوْهُ فَقَالُواْ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أنَّا أحْبَارُ الْيَهُودِ وَأشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَإنَّا إنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ كُلُّهُمْ وَلَنْ يُخَالِفُونَا، وَإنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْكَ فَاقْضِ لَنَا عَلَيْهِمْ فَنُؤْمِنُ بكَ، فَأَبَى النَّبيُّ ﷺ، وَكَانَ حَرِيصاً عَلَى إسْلاَمِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾.).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم ﴾ ؛ أي إنْ أعرَضُوا عن حُكمِكَ، فاعلم إنَّما يريدُ الله أنْ يُعَاقِبَهم بالقتلِ في بني قُريظَةَ، وَبالْجَلاَءِ إلَى الشَّامِ فِي بَنِي النَّضِيرِ، ﴿ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾ ؛ أي بمَا سلَفَ من ذُنوبهم، وهو جُحودهم لدِينِكَ ونَعْتِكَ وصفتِكَ والتوراةِ والإنجيلِ، ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ ؛ أي خارجون عن الطاعةِ ناقِضُون للعهدِ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي لا يُرشِدُ اليهودَ والنصارى إلى دِينه، وحُجَّتهِ ما دامُوا على كُفرِهم.
ويقال : أرادَ بهذا القولِ أنَّهم يخشَون أن لا يَتِمَّ أمرُ مُحَمَّدٍ ﷺ بأن يدورَ الأمرُ على الحالةِ التي هم عليها فيحتاجون إلى الكفَّار. يقول اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ﴾ ؛ أي عسَى أن يَظهَرَ المسلمون، و ﴿ عَسَى ﴾ من اللهِ واجبةٌ. وسَمَّى النصرَ فتحاً ؛ لأن فيه الأمرِ المغلَقِ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ﴾ ؛ معناه : أو يقضِي بالخصب لِمُحَمَّدٍ ﷺ وأصحابهِ، ويقال هو أن يُؤْمَرَ النبيُّ ﷺ بإظهار أمر المنافقين وقَتلِهم، ﴿ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآأَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ ؛ فيصبحَ المنافقون على ما أضمَرُوا في أنفُسِهم من ولايةِ رؤوس اليهود والنصارَى إليهم نَادِمين، فلا تنفعُهم الندامةُ حينئذٍ.
ومعنى الآية : يقولُ المؤمنون المخلِصون عندما أظَهَرَ اللهُ نفاقَ المنافقين :(أهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أقْسَمُوا باللهِ) يعنون المنافقين الذين حلَفُوا بالله أنَّهم لَمَعَكُمْ على دينِكم، ﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾، بَطَلَ ما أظهروهُ من الإيمانِ والأعمال الصالحةِ، ﴿ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ﴾ ؛ فصاروا مَغبُونين في الوِزْر والعقوبةِ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ تفسيرٌ للقَسَمِ باللهِ تعالى، فإنَّ مَن يحلفُ باللهِ فقد بذلَ جُهد يَمينهِ، إذ لا يمينَ أعظمُ من اليمينِ بالله، ولا حرمةَ أكبرُ من حرمةِ الله. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه :(فَجَاءَ اللهُ بالْفَتْحِ وَنَصَرَ الرَّسُولَ ﷺ، وجاءَ أمرُ الله من عنده بإجلاءِ بني النضيرِ، وقتل مقاتِلة بني قُريظة وسَبيِ ذراريهم)، فنَدِمَ المنافقون حين ظهرَ نفاقُهم، وقال المؤمنون :﴿ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾.
وَكَانَ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ فِرْقَةٌ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو حَنِيْفَةَ بالْيَمَامَةِ، وَرَئِيسُهُمْ مُسَيْلَمَةُ الْكَذابُ وَكَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ، وَزَعَمَ أنَّهُ أشْرِكَ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي النُّبُوَّةِ، وَكَتَبَ إلَى النَّبيِّ ﷺ :" مِنْ مُسَيْلَمَةَ رَسُولِ اللهِ إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ؛ أمَّا بَعْدُ : فَإنَّ الأَرْضَ نَصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَكَ! وَبَعَثَ بذَلِكَ رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابهِ نَهْشَلاً وَالْحَكَمَ بْنَ الطُّفَيْلِ، وَكَانَا مِنْ سَادَاتِ الْيَمَامَةِ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبيُّ ﷺ :" أتَشْهَدَانِ أنَّ مُسَيْلَمَةَ رَسُولُ اللهِ ؟ " قَالاَ : نَعَمْ، فَقَالَ :" لَوْلاَ أنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أعْنَاقَكُمَا "، ثُمَّ أجَابَ :" مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى مُسَيْلَمَةَ الْكَذاب ؛ أمَّا بَعْدُ : فَإنَّ الأَرْضَ للهِ يُورثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ".
ومَرِضَ رسولُ اللهِ ﷺ وتوفِّيَ، وجعلَ مسيلمةُ يغلو أمرهُ باليمامةِ يوماً بعدَ يومٍ، فبعثَ أبو بكرٍ رضي الله عنه خالدَ بن الوليدِ في جيشٍ عظيم حتى أهلكَهُ الله على يدي وحشيٍّ قاتِلِ حمزةَ بن عبدِ المطلب بعد حربٍ شديدة، فكان وحشيُّ يقول :(قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَتَلْتُ شَرَّ النَّاسِ فِي الإسْلاَمِ).
ومن المرتدِّين أيضاً طلحةُ بن خُوَيلِد رئيسُ بني أسدٍ، وكان قد ادَّعى النبوةَ أيضاً في حياةِ رسول الله ﷺ، فقاتلَهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه بعد وفاةِ رسول الله ﷺ، بعثَ إليه خالدَ ابن الوليدِ، فقاتلَهُ قتالاً شديداً، وهربَ طلحةُ على وجههِ نحوَ الشامِ، فلجأَ إلى بني حنيفةَ فأجاروهُ، ثم أسلَمَ بعد ذلك وحسُنَ إسلامهُ.
وارتدَّ أيضاً بعد وفاةِ رسول الله ﷺ كثيرٌ من العرب منهم : فَزَارَةُ ورئيسهم عُيينة بن حصين، وبنو سُليم وبنو يربوعَ، وطائفةٌ من بني تَميم، ورأسُوا عليهم امرأةً يقال لها سَجَاحُ بنت المنذر، وادَّعتِ النبوةَ ثم زوَّجت نفسَها من مسيلمةَ الكذاب.
وارتدَّت كندةُ ورئيسهم الأشعثُ بن قيسٍ، وارتدَّت بنو بكرِ بن وائل بأرضِ البحرين، وكَفى اللهُ المسلمين أمرَ هؤلاء المرتدِّين، ونصرَ دينَهُ على يدِ أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وأخبارُ أهلِ الردَّة طويلةٌ مشهورة فلا نطوِّلُ بذكرِها الكتابَ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ ؛ قال عليُّ والحسن وقتادة :(هُمْ أبُو بَكْرٍ وَأصْحَابُهُ)، وقال مجاهدُ :(هُمْ أهْلُ الْيَمَنِ).
فََبَيْنَمَا هُمْ يَشْكُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ فِيْهِ مِنْ قَائِمٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ، إذا بمسْكِينٍ يَطُوفُ يَسْأْلُ النَّاسَ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ :" أعْطَاكَ أحَدٌ شَيْئاً ؟ " قَالَ : نَعَمْ، قَالَ :" مَاذا ؟ " قَالَ : خَاتَمُ فِضَّةٍ، قَالَ :" مَنْ أعْطَاكَهُ ؟ " قَالَ : ذاكَ الرَّجُلُ، فَإذا هُوَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، قَالَ :" عَلَى أيِّ حَالٍ أعْطَاكَهُ ؟ " قَالَ : أعْطَِانِيَهُ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَقَرَأ رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ وَأصْحَابهِ ".
وألبَسَهُمْ بما أبدلَهم اللهُ به من ولايتهِ وولاية رسولهِ وولاية المؤمنين، ومعنى الآيةِ : إنَّما حافِظُكم وناصرُكم اللهُ ورسوله والمؤمنون الذي يُقيمون الصلاةَ بحقوقها ويؤتُون الزكاةَ في حالِ رُكوعهم. وفي الآيةِ دليلٌ على إباحةِ العمل اليسيرِ في الصَّلاة، فلما قرأ رسولُ الله ﷺ عليهم الآية قالَ عبدُ الله بن سلام وأصحابه :(رَضِينَا باللهِ وَبرَسُولِهِ وَبالْمُؤْمِنِينَ أوْلِيَاءً).
" ورُوي أن عبدَالله بن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَان ذاتَ يومٍ جالساً عند شَفير زَمْزَمَ يقولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، إذا أقْبَلَ رَجُلٌ مُتَعَمِّمٌ بعِمَامَةٍ قَالَ : فَهَلاَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ألا قَالَ ذلِكَ الرَّجُلُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : سَأَلْتُكَ باللهِ مَنْ أنْتَ ؟ فَكَشَفَ الْعِمَامَةَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ : أيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ الْبَدْريُّ، أنَا أبُو ذرٍّ الْغَفَّاريُّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بهَاتَيْنِ وَإلاَّ فَصُمَّتَا، وَرَأيْتُهُ بهَاتَيْنِ وَإلاَّ فَعَمِيَتَا، يَقُولُ عَلَى قَائِدِ الْبُرْدَةِ وَقَاتِلِ الْكَفَرَةِ :" مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذلَهُ ".
أمَا إنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْماً مِنَ الأَيَّامِ صَلاَةَ الظُّهْرِ، فَسَأَلَ سَائِلٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يُعْطِهِ أحَدٌ، فَرَفَعَ السَّائِلُ رَأسَهُ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ أنِّي سَأَلْتُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِكَ ﷺ يَوْماً مِنَ الأيَّامِ فَلَمْ يُعْطِنِي أحَدٌ، وَكَانَ عَلِيٌّ راكِعاً فَأَوْمَأَ إلَيْهِ نَحْوَهُ بخِنْصَرِهِ الْيُمْنَى وَكَانَ فِيهَا خَاتَمٌ، فَأَخَذ السَّائِلُ الْخَاتَمَ مِنْ خِنْصَرِهِ وَذَلِكَ بحَضْرَةِ النَّبيِّ ﷺ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَأسَهُ إلَى السَّمَاءِ قَالَ :
ومعنى الآية : لا تتَّخذوا اليهودَ والنصارى الذين يتخذون ﴿ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ﴾ أي استهزاءً وسُخريةً، يسخَرون منكم إذا أذنَ مُؤذِّنُكم، ويضحَكون من صلاتِكم إذا صلَّيتُم.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ وَالْكُفَّارَ ﴾ ؛ فيه قراءَتان : النصبُ والخفضُ، فمَن نصبَهُ فمعناهُ : لا تتَّخذوا الكفارَ، ﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾، وأراد بهم مُشركي العرب، ومن خفضَهُ فمعناهُ : مِن الذين أوتوا الكتابَ ومن الكفار. وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي اخشَوهُ في ولايةِ الكافرين إنْ كُنتم مُؤمنين باللهِ وبرسوله.
ورُوي :((أنَّ يَهودياً كان إذا سمعَ المؤذِّنَ يقولُ :(أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ) قالَ : أحرقَ اللهُ الكاذبَ، فدخلَ خادمهُ البيتَ بنارٍ، فوقعت شرارةٌ منها في البيتِ فالتهبَ، واحترقَ اليهوديُّ هو وأهلهُ، واستُجيب دعاؤهُ على نفسهِ)).
وفي الآيةِ دليلٌ أنَّ للصلاة أذاناً يدعو به الناسَ إليها، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ﴾[الجمعة : ٩]. وعن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" ثَلاَثَةٌ لاَ يَكْتَرِثُونَ مِنَ الْحِسَاب، وَلاَ تُفْزِعُهُمْ الصَّيْحَةُ، وَلاَ يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ : حَامِلُ الْقُرْآنِ الْعَامِلُ بهِ، يَقْدُمُ عَلَى اللهِ سَيِّداً شَرِيفاً، وَمُؤَذِّنٌ أذنَ سَبْعَ سِنِينَ لاَ يَأْخُذُ عَلَى أذانِهِ طَعَاماً، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أحْسَنَ عِبَادَةَ رَبهِ وَأدَّى حَقَّ مَوْلاَهُ "
وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" مَنْ أذنَ سَنَةً مِنْ نِيَّةٍِ صَادِقَةٍ، أجْلِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَقِيلَ لَهُ : إشفَعْ لِمَنْ شِئْتَ " وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه : قالَ ابنُ عبَّاس : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" مَنْ أذنَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ إيْمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ " وقالَ رسولُ الله ﷺ :" الْمُؤَذِّنُ الْمُحْتَسِبُ كَالشَّهِيدِ الْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ مَا دَامَ فِي أذانِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابسٍ، فَإذا مَاتَ لَمْ يُدَوِّدْ فِي قَبْرِهِ " قال عمرُ رضي الله عنه : لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّناً لَكَمُلَ أمْرِي، وَمَا بَالَيْتُ أنْ لاَ أتنصب لِقِيَامٍ وَلاَ لِصِيَامٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ "
وأما قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾، قال بعضُهم : أرادَ بالأكثرِ كلَّهم، وأكثرُ الشيءِ يقومُ مقامَ الكلِّ. وَقِيْلَ : إنما ذكرَ لفظ الأكثرِ ؛ لأن الآيةَ خرجت مخرجَ التلطُّف للدعاءِ إلى الإيمانِ، وكان في سابقِ علم اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنَّ فيهم من يُسلِمُ، وكان في القومِ من يطعنُ بنفسهِ في دين الإسلام، وإنْ كان سكتَ عن طعنِ الطاعنين.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ﴾ ؛ أي مَسَخَ بعضَهم قردةً في زمنِ داوُدَ عليه السلام بدُعائه عليهم حين اعتَدَوا في السَّبت واستحلُّوهُ، ومسخَ بعضَهم خنازيرَ في زمنِ عيسى عليه السلام بعدَ أكلِهم من المائدة حين كفَرُوا بعدَ ما رأوا الآياتِ البيِّنة. ورُوي : أنه لَمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المسلمون لليهودِ :(يَا إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ) فنَكَّسُوا رؤُوسَهم وفضَحَهم اللهُ تعالى.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾ ؛ فيهِ عشرُ قراءاتٍ، قرأ العامة (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) بفتحِ العين والباءِ والدالِ على الفعلِ ؛ ومعناها : وجعَلَ منهم مَن عَبَدَ الطاغوتَ ؛ أي بالغَ في طاعةِ الشَّيطان والكُهَّان ورؤساءِ المعصية. وقرأ ابنُ مسعود :(وَعَبَدُوا الطَّاغوتَ) أي ومَن عَبَدَ الطاغوتَ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وحمزةُ : بفتحِ العين وضمِّ الباء وكسر التاء من الطاغوتِ، وهو لغةٌ في عبَدَ، مثل سَبْع وَسَبُع. وقرأ أبو جعفرٍ الفرَّاء :(وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ) على الفعلِ المجهول، وقرأ الحسنُ :(وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ) على الواحدِ.
وقرأ يزيدُ الأسلمي :(وَعَابدَ الطَّاغُوتِ) بالأف، وقرأ ابنُ عباس :(وَعَبيدَ الطَّاغُوتِ) بالجمعِ، وقرأ أبو واقدٍ الليثيِّ :(وَعُبَّادَ الطَّاغُوتِ) مثل كُفَّار، وقرأ عَوْنُ العقيلي وإبَانُ بن ثعلبٍ :(وَعُبَّدَ الطَّاغُوتِ) مثل رَاكِعْ ورُكَّع، وقرأ عبيدُ بن عمير :(أعْبَدَ الطَّاغُوتِ) مثل كلب وأكلَبٍ، وقرأ الأعمشُ :(وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ) بضمِّ العين والباء وكسرِ التاء من الطاغوتِ. قال الشاعرُ : انْسُبِ الْعَبْدَ إلَى آبَائِهِ أسْوَدُ الْجِلْدِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ ﴾ فإن قِيْلَ : كيف معنى هذا ليس في الإيمانِ شرٌّ وضلالٌ ؟ قِيْلَ : سِمَةُ المشركين شرٌّ مَكاناً لا يوجبُ أن يكون في الإيمانِ شرٌّ وتطيُّر. قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾[الفرقان : ٢٤] ومعلومٌ أنه لا خيرَ في مستقرِّ الكُفَّار ومُنقَلَبهم، فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المسلمون ليَهُودَ :(يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ) فَسَكَتُوا وأفحِمُوا، وفيهم يقولُ الشاعرُ : فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ إنَّ الْيَهُودَ إخْوَةُ الْقُرُودِ
وقولهُ :﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ أي بئسَ ما يصنعُ علماؤهم من كتمانِهم الحقَّ، وتركِهم النهيَ عن المعصيةِ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا والضحاك :(إنَّ هَذِهِ الآيَةَ أشَدُّ الآيَاتِ فِي تَخْوِيفِ مَنْ تَرَكَ الأَمْرَ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، قالَ رسولُ الله ﷺ :" مَا مِنْ رَجُلٍ يُجَاورُ قَوْماً فَيَعْمَلُ بالْمَعَاصِي بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فَلاَ يَأْخُذُونَ عَلَى يَدَيْهِ، إلاَّ أوْشَكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُمُّهُمْ مِنْهُ بعِقَابٍ "
قال بعضُهم : إنما قالَ هذه المقالةَ فِنْحَاصُ ولم ينهَهُ الآخرون، ورَضُوا بقولهِ فأشرَكهم اللهُ فيها، وأرادوا باليدِ العطاءَ، لأن عطاءَ الناسِ وبذلَهم في الغالب بأيديهم، فاستعملَ الناسُ اليدَ في وصفِ الناسِ بالجودِ والبُخل. ويقالُ للبخيلِ : جَعْدُ الأَنَامِلِ ؛ مقبوضُ الكفِّ ؛ مكفوفُ الأصابعِ ؛ مغلولُ اليدَين، قال الشاعرُ : كَانَتْ خُرَاسَانُ أرْضاً إذ يَزِيدُ بهَا وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُفَاسْتُبْدِلَتْ بَعْدَهُ جَعْداً أنَامِلهُ كَأَنَّمَا وَجْهُهُ بالْخَلِّ مَنْضُوحُوقولهُ تعالى :﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ جوابٌ عن كلامِهم على طريقِ المقابلَة في الازدواجِ ؛ أي أمسِكَتْ أيديهم عن الإنفاقِ في الخيرِ، وجُعِلُوا بُخلاءَ واليهودُ أبْخَلُ الناسِ، ولا أمَّةٌ أبخلُ منهم. ويقال : معنى (غُلَّتْ أيْدِيهمْ) أي غُلَّت إلى أعناقِهم في نار جهنم، ويقال : لا يخرجُ يهوديٌّ من الدنيا إلاّ وتصيرُ يدهُ مغلولةً إلى عنقه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ﴾ أي عُذِّبوا بالجزيةِ، وطُردوا عن رحمةِ الله تعالى لقولهم :﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ ؛ عبارةٌ عن الجودِ وكثرة العطيَّة لِمَن يشاءُ، كما يقالُ : فلان بَسْطُُ اليدَين، وبَاسِطُ اليدين إذا كان جَواداً يعطي يَمنَةً ويَسرَةً، وعن ابنِ عباس :(أنَّ مَعْنَاهُ : بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، وأرادَ نعمةَ الدينِ والدنيا، وَقِيْلَ : نعمتهُ الظاهرةُ ونعمته الباطنة. وَقِيْلَ : أراد بالتثنيةِ في هذا للمبالغةِ في صفة النعمةِ. قال الأعشى : يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ وَكَفٌّ إذا مَا ضَنَّ بالْمَالِ تُنْفِقُوهذا كلُّه لأنَّ اليهود قصَدُوا تبخيلَ اللهِ، فحوسِبُوا على قدر كلامهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ ؛ دليلٌ على أن المرادَ بجواب اليهود بيانُ بسطِ النعمة، وأنَّ اللهَ يرزقُ كيف يشاءُ بحسب المصالحِ، فربَّما كان الصلاحُ في أن يعتَبروا، وربَّما كان في أن يُوسِّع، ولا يخلو حُكمه عن الحكمةِ.
واعلم أن اليدَ في اللغة تتصرفُ على وجوهٍ ؛ منها : الجارحةُ وهي معروفةٌ، وتعالَى اللهُ عن الجوارحِ. ومنها : النعمةُ كما يقال : لفلانٍ علَيَّ يدٌ ؛ أي نعمةٌ. ومنها : القوةُ كما قال تعالى :﴿ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾ ؛ أي من أهلِ الكتاب أمَّةٌ عادلة، يعني جماعةٌ عادلة في القولِ، وهم الذين أسلَمُوا منهم، وهم ثمانيةٌ وأربَعون رجُلاً : النجاشيُّ وأصحابهُ من النَّصارى، وبَحِيرَا الراهبُ وأصحابهُ، وسَلمان الفارسيُّ وأصحابهُ، وعبدُالله بن سَلام وأصحابهُ، وجَبْرٌ مولَى قريشٍ، ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي كثيرٌ من أهلِ الكتاب ساءَ ما يعمَلون من كتمانِ نعت النبيِّ ﷺ وتكذيبهِ، وهم : كعبُ بن الأشرفِ وأصحابهُ وسوف تسوؤُهم أعمالهم يومَ القيامةِ إذا رأوا وبَالَها.
يقالُ : إنَّ في هذه الآيةِ دَليلاً على أن النبيَّ ﷺ كان إذا أمر بشيءٍ خاص تأنَّى قَليلاً عن تبليغهِ حَذراً وخوفاً أن يبتليَهُ اللهُ، كما ابتلَى قبلَهُ إبراهيمَ بالنار وإسماعيلَ بالذبحِ وزكريَّا ويحيى بالقتلِ، وكان ﷺ عَازماً على فعلِ ما أُمر به مع خوفهِ، فقيلَ له إن لم تفعَلْ ما أمرت به من دعوتِهم إلى الإسلامِ، وعبتَ دينَهم فقد بطلَ جميعُ ما فعلتَ من قبلِ التبليغِ، كأنَّك لم تبلِّغْ شيئاً من الرسالةِ، ولهذا قرأ نافعُ وابن عامر وعاصم :(رِسَالاَتِهِ) بلفظ الجمعِ، وقد يُذكر الواحد ويراد به الجماعةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ ؛ أمانٌ من اللهِ للنبيِّ ﷺ كيلاَ يخافَ ولا يحذرَ، كما رُوي في الخبرِ :" أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا دَخَلَ الْمَدِيْنَةَ قَالَتْ لَهُ الْيَهُودُ : يَا مُحَمَّدُ إنَّا ذوُو عُدَدٍ وَنَاسٍ، فَإنْ لَمْ تَرْجِعْ قَابَلْنَاكَ، وإنْ رَجَعْتَ زَوَّدْنَاكَ وَأكْرَمْنَاكَ. فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَحْرِسُهُ مِائَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار يَبيتُونَ عِنْدَهُ، وَيُخْرُجُونَ مَعَهُ خَوْفاً مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ عَلِمَ أنَّ اللهَ يَحْفَظُهُ مِنْ كَيْدِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَالَ لِلْمُهَاجِرِيْنَ وَالأنْصَارِ :" انْصَرِفُوا إلَى رِجَالِكُمْ، فَإنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ الْيَهُودِ " فَكَانَ ﷺ عِنْدَ ذلِِكَ يَخْرُجُ وَحْدَهُ فِي أوَّلِ اللَّيْلِ وَعِنْدَ السَّحَرِ إلَى أوْدِيَةِ الْمَدِيْنَةِ وَحَيْثُ مَا شَاءَ، فَعَصَمَهُ اللهُ مَعَ كَثْرَةِ أعْدَائِهِ وَقِلَّةِ أعْوَانِهِ، فَعَاشَ حَمِيداً وَمَاتَ سَعِيداً صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي لا يُرْشِدُهم إلى دينهِ وحُجَّته، ولا يهدِيهم إلى طريقِ الجنة في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ ؛ قد ذكرنَا تفسيرَهُ، ﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي ليس عليكَ إلاَّ تبليغُ الرسالةِ فلا تحزَنْ عليهم إن كذبوكَ ؛ أي لا تحزَنْ على هلاكِهم إذا أهلكنَاهم.
ويقال : الصَّابئُ هو الخارجُ من ملَّة فيها أمةٌ عظيمة إلى ملَّة فيها شرذمةٌ قليلة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ أي من آمَنَ من هذه الفرقِ بالله وبجميعِ ما أنزل اللهُ، والبعثِ بعد الموتِ، وعَمِلَ صالحاً فيما بينَهُ وبين اللهِ، فلا خوفٌ عليهم، حيث يخافُ أهلُ النار، ولا هم يحزَنون حيث يحزنُ أهل النار.
وأما الرفعُ في قولهِ :(وَالصَّابئُونَ) : فقال الكسائيُّ : هو نسَقٌ على المضمرِ في (هَادُوا) تقديرهِ : هادُوهم والصائبون. وقال الخليلُ وسيبويه والبصريُّون قوله :﴿ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ ﴾ مرفوعٌ بالابتداءِ ؛ تقديرهُ : إنَّ الذين آمَنُوا ومن آمَنَ مِن الذين هَادُوا والصابئون والنصارَى، مَن آمَن بالله واليوم الآخرِ. وَقِيْلَ : إنما رُفِعَ لأنه عُطِفَ على (الَّذِينَ) قبل دخولِ (إنَّ) ؛ لأنه لا يُحِدثُ معنى، كما تقولُ : زيدٌ قائمٌ، وإنَّ زَيداً قَائِمٌ معناهُما واحدٌ. وقرأ الحسنُ :(إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتُهُ) برفع التاءِ.
وأما نفيُ الحزنِ عن المؤمنين ها هنا، فقد ذهبَ بعض المفسِّرين إلى أنه لا يكون عليهم حزنٌ في الآخرةِ ولا خوفٌ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ﴾[فصلت : ٣٠].
وقال بعضُهم : إنَّ المؤمنين يخافون ويحزَنون لقولهِ تعالى :﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ ﴾[الحج : ٢] وقولهُ تعالى :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾[عبس : ٣٤-٣٥]. وقال ﷺ :" يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً " فَقَالَتْ عَائِشَةُ : وَاسَوْأتَاهُ! فَقَالَ ﷺ :" أمَا سَمِعْتِ قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ " قالُوا : وإنما نفَى اللهُ تعالى في هذه الآيةِ الحزنَ عن المؤمنين ؛ لأن حزنَهم لِما كان يعرض الزوالَ، ولم يكن له بقاءٌ معهم لم يعتدَّ بذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ ؛ بدلٌ من الواوِ في قوله (عَمُوا) كأنه قالَ : عَمِيِ وصَمَّ كثيرٌ منهم، وهذا كما يقالُ : جاءَني قومُكَ أكثرُهم، وقوله :﴿ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ يقتضي في المرة الثانيةِ أنَّهم لم يكفُروا بأكملِهم، وإنما كفَرَ أكثرُهم، كما قالَ تعالى :﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾[آل عمران : ١١٣] وقال تعالى :﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾[المائدة : ٦٦].
ويُحكى عن بعضِ أهل اللُّغة جوابَ جمعِ الفعل متقدِّماً على الاسمِ، كما يقالُ : أكَلُونِي البراغيثُ، ويجوزُ أن يكون (كَثِيرٌ) خبرُ مبتدأ محذوفٍ ؛ معناهُ : العميُ والصمُّ كثيرٌ منهم.
وقوله :﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي بما تعمَلون من التكذيب ونقضِ الميثاق وتحريف الكلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ ﴾ ؛ إعلامٌ من اللهِ تعالى أن المسيحَ دعاهم إلى توحيدِ الله تعالى، وأعلمَهم أنَّ شيئاً حالهُ في أمه مربوبٌ كحالهم، وأعلمَهم أن مَن أشركَ مع اللهِ شيئاً غيرَهُ فهو كافرٌ من أهلِ النار، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ أي وحِّدوهُ، فهو خالِقي وخالقُكم ورازقي ورازقُكم. ﴿ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ ﴾ ؛ أن يدخلَها، ﴿ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ﴾ ؛ ومصيرهُ في الآخرة النارُ، ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ ؛ أي ما للمشرِكين من مانعٍ يمنعُهم من عذاب الله.
ثم بيَّن اللهُ كُفرَ الفريقِ الآخر من النَّصارى، وهم المرقُوشيَّة، فقال عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ ؛ أي أحدُ ثلاثةٍ : أبٌ ؛ وابنٌ ؛ وروحُ قدسٍ، ﴿ وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلاَّ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ ﴾ ؛ أي المنافقون ؛ ﴿ عَمَّا يَقُولُونَ ﴾ ؛ من مقالتِهم الأُولى والثانية، ﴿ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي ليُصِيبَنَّ الذين أقَامُوا على مقالةِ الكفر، ﴿ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ وجيعٌ يخلصُ وجعه إلى قلوبكم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ﴾ ؛ بيانُ أنَّهما كانا مُحدَثَين محتاجَين، وهذا احتجاجٌ بيِّنُ على القومِ في أنه لم يكن إلَهاً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وَصَفَهُ في الآيةِ بصفاتٍ تُنافِي الآلهيَّة، منها : أنَّهُ رسولٌ بعدَ أن لم يكُنْ، ومنها : أنه كسائرِ الرُّسل فيما ظَهرت منه وعليه، ومنها : أنه مولودٌ من أمٍّ، ومنها : أنَّهما كَانا يعِيشان بالغداءِ كما يعيشُ سائر الآدميِّين، وكيف يكون إلَهاً مَن تكون حياتهُ بالحيلةِ ولا يقيمهُ إلاّ أكلُ الطعامِ.
ومنها ما قالوا : إنَّ أكلَ الطعامِ في الآية كنايةٌ عن قضاءِ الحاجة ؛ لأن الذي يأكلُ الطعامَ لا بدَّ له من قضاءِ الحاجة. فكلُّ هذه الصفاتِ دلالةٌ على كونهِ عَبداً مخلوقاً مربُوباً مستحيلاً أن يكون إلَهاً قَديماً، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ﴾ ؛ أي انظُرْ يا مُحَمَّدُ كيف نبيِّنُ لهم العلاماتِ في أمر عيسَى أن لم يكُنْ إلَهاً ولا ابناً له ولا ثالثَ ثلاثةٍ، ﴿ ثُمَّ انْظُرْ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ، ﴿ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ ؛ أي مِن أين يُصرَفون عن الحقِّ الواضح إلى الباطلِ.
وَالإفْكُ : هو الصَّرْفُ، كلُّ شيء صَرَفْتَهُ فهو مأْفُوكٌ، تقولُ : أفَكْتُهُ عَنْهُ أفَكَهُ إفكاً، ويسمَّى الكذبُ إفْكاً ؛ لأنه يصرفُ عن الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ أي لا تتَّبعوا شَهواتِ أوليائِكُم ورُؤسَائِكُمْ، ولا تُؤثِرُوا الهوَى على البيان والبرهان، ﴿ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً ﴾ ؛ من السَّفلة الذين أطَاعُوهم، ﴿ وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ ﴾ ؛ وأصَرُّوا على ضلالتِهم عن قصدِ الطريق.
ثم بيَّن اللهُ تعالى سببَ المعصية والكفرِ، فقال تعالى :﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ ؛ أي لا ينهَى بعضُهم بعضاً عن قبيحٍ يعملونَهُ، واصطَلَحوا على الكفِّ عن نَهي المنكرِ، ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ ؛ ودخولُ اللامِ في (لَبئْسَ) للقسَمِ والتوكيدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ﴾ ؛ لم يرِدْ جميعَ النَّصارى مع ما هم فيه من عداوةِ المسلمين، وتخريب بلادِهم وهدمِ مساجدهم وقتلِهم وأسرِهم وأخذِ مصاحفهم. وإنما نزَلت هذه الآيةُ في النجاشيِّ وأصحابهِ. قال ابنُ عبَّاس وسعيدُ بن جبير والسديُّ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ النَّجَاشِيُّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ نَصْرَانِيّاً قَبْلَ ظُهُور الإسْلاَمِ، ثُمَّ أسْلَمَ هُوَ وَأصْحَابُهُ).
قال المفسرون : ائتمَرَتْ قريشُ أن يَفِتنُوا المسلمين عن دِينهم، فوثَبتْ كلُّ قبيلةٍ على مَن فيهم مِن المسلمين، يؤذونَهم ويعذِّبونَهم فافتتنَ كثيرٌ، وعَصَمَ اللهُ من شاءَ منهم، ومنَعَ اللهُ النبيَّ ﷺ بعمِّه أبي طالبٍ، فلمَّا رأى رسولُ الله ﷺ ما بأصحابهِ، ولم يقدِرْ على مَنعِهم ولم يُؤمَرْ بالجهادِ، أمرَهم بالخروجِ إلى أرضِ الحبشةِ، وقَالَ :[إنَّ بهَا مَلِكاً صَالِحاً لاَ يَظْلِمُ وَلاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحَدٌ، فَاخْرُجُوا إلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لِلمُسْلِمِينَ فَرَجاً]، وأرادَ به النجاشيَّ واسمهُ أصْحَمَةُ، وهوَ بالحبشيَّة عطيَّة، وإنما النجاشيُّ اسمُ الملكِ، كقولهِم : كِسرَى وقَيصَرَ.
فخرجَ إليه سِرّاً أحدَ عشر رجلاً وأربعُ نسوةٍ، وهم عثمانُ بن عفَّان وامرأتهُ رُقَيَّةُ بنتُ رسولِ الله ﷺ، والزُّبير، وعبدُالله بن مسعودٍ، وعبدُالرحمن بن عَوفٍ، وأبو حُذيفة بن عقبةَ وامرأتهُ سَهلَةُ بنت سُهيل، ومصعبُ بن عُمَير، وأبو سَلَمَة وامرأتهُ أمُّ سَلمة، وعثمانُ بن مظعونٍ، وعامرُ بن رَبيعة وامرأتهُ لَيلَى بنتُ جَثْمَةَ، وحَاطبُ بن عمرَ، وسُهيل بن بيضاءَ. فخرَجُوا إلى البحرِ وأخَذُوا سفينةً بنصفِ مثقالٍ إلى الحبشةِ، وذلك في رَجب في السَّنة الخامسةِ من عهد رسولِ الله ﷺ، وهذه الهجرةُ الأُولى.
ثم خرجَ جعفرُ بن أبي طالبٍ وتتابعَ المسلمون، وكان جميعُ مَن هاجرَ إلى الحبشةِ من المسلمين اثنينِ وثَمانين رجُلاً سوَى النِّساء والصبيان، فلما عِلمَتْ قريشُ بذلك وجَّهت عمرَو بن العاصِ وصاحبَهُ بالهدايا إلى النجاشيِّ وإلى بَطَارقَتِهِ ليردُّوهم إليهم، فعصمَهم اللهُ تعالى، وقد ذكرنا هذه القصَّة في سورةِ آل عِمرانَ.
فلمَّا انصرفَا خَائِبَين أقامَ المسلمون هناك بخيرِ دار وأحسنِ جوار إلى أن هاجرَ رسولُ الله ﷺ وعَلاَ أمرهُ، وذلك في سَنة ستٍّ من الهجرةِ.
ومعنَى الآيةِ : وإذا سَمِعوا القرآنَ ترَى الدمعَ يسيلُ من أعيُنِهم بمعرفتهم الحقَّ من صفةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ونعتهِ في كتابهم، ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا ﴾ ؛ أي صدَّقنا بوحدانيَّتِكَ وكتابكَ ورسولِكَ، ﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ ؛ أي مَع مَن شَهِدَ من أنبيائِكَ ومؤمنِي عبادِكَ بأنَّكَ واحدٌ لا إلهَ غيرك ؛ أي اجعَلنا في جُملتهم.
قال ابنُ عبَّاس :(فَلَمَّا رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ لاَمُوهُمْ عَلَى الإيْمَانِ بمُحَمَّدٍ ﷺ والقرآن وَقَالَوا لَهُمْ : تَرَكْتُمْ مِلَّةَ عِيسَى عليه السلام وَدِينَ آبَائِكُمْ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ أي نحن نرجو أن يُدخِلَنا ربُّنا في الآخرةِ مع صالِحي أمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
ومعناها : لا تحرِّموا على أنفُسِكم طيِّبات ما أحلَّ اللهُ لكم من الطعام والشراب واللباسِ والجماع، ولا تظلِمُوا أنفسكم بقطعِ المذاكيرِ، ﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ ؛ أي لا تُجاوزوا حدودَ اللهِ بتحريم حلالهِ، فإن مُحَرِّمَ ما أحلَّ اللهُ، كمُحِلِّ ما حرَّمَ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ ؛ أي لا يرضَى عمل المعتدِين على أنفُسِهم المتجاوزين حدودَ الله.
فَلَمَّا جَاءَ عثْمَانُ أخْبَرَتْهُ زَوْجَتُهُ بذلِكَ، فَعَنِيَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَسَأَلَهُ النَّبيُّ ﷺ عَنْ ذلِكَ، فَقَالَ : نَعَمْ. فَقَالَ عليه السلام :" أمَّا أنَا ؛ فَلَمْ أوْمَرْ بذلِكَ، إنَّ لأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً ؛ فَصُومُوا وَأفْطِرُواْ ؛ وَقُومُواْ وَنَامُواْ، فَأَنَا أقُومُ وَأنَامُ، وَأصُومُ وَأفْطِرُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ وَالدَسَمَ، وآتِي النِّسَاءَ، مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ".
ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ وَقَالَ :" مَا بَالُ قَوْمٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ الطَّيِّبَ وَالنَّوْمَ، أمَّا أنَا فَلاَ آمُرُكُمْ أنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ أوْ رُهْبَاناً، فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ، وَاتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ، فَإنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الصَّوْمُ، وَرَهْبَانِيَّتَهُمُ الْجِهَادُ، فَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بهِ شَيْئاً، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُواْ وَأقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَاسْتَقِيمُوا لِيَسْتَقِيمَ لَكُمْ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُواْ عَلَى أنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ ".
وعن سعيدِ بن المسيِّب ؛ قال :" جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ مَضْعُونٍ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فََقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بأَنْ أخْتَصِي، قَالَ :" مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! إنَّ اخْتِصَاءَ أمَّتِي الصِّيَامُ]. قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أتَرَهَّبَ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ، قَالَ :" مَهْلاً يَا عُثْمَانَ! فَإنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ لانْتِظَار الصَّلاَةِ ".
قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ. قَالَ :" مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ صَدَقَتَكَ يَوْمٌ بيَوْمٍ، وَتَعِفُّ بنَفْسِكَ وَعِيَالِكَ، وَتَرْحَمُ الْمَسَاكِينَ وَالْيَتِيْمَ، فَتُعْطِيهِمَا أفْضَلُ مِنْ ذلِكَ ". قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدَّثُنِي أنْ أطَلِّقَ امْرَأتِي خَوْلَةَ. قَالَ :" مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ الْهِجْرَةَ فِي أمَّتِي مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، أوْ هَاجَرَ إلَيَّ فِي حَيَاتِي، أوْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي، أوْ مَاتَ وَلَهُ امْرَأةٌ أوْ امْرَأتَانِ أوْ ثَلاَثٌ أوْ أرْبَعٌ ".
قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! فَإنْ نَهَيْتَنِي أنْ لاَ أطَلِّقَهَا فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ أغْشَاهَا. قَالَ :" مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ الْمُسْلِمَ إذا غَشِيَ امْرَأتَهُ أوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ رَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ، كَانَ لَهُ وَصِيْفَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَإنْ كَانَ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ، فَمَاتَ قَبْلَهُ كَانَ لَهُ فَرْطاً وَشَفِيعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإنْ مَاتَ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ آكُلَ اللَّحْمَ. قَالَ :" مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنِّي أحِبُّ اللَّحْمَ وَآكُلُهُ إذا وَجَدْتُهُ، وَلَوْ سَأَلْتُ رَبي أنْ يُطْعِمَنِيَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ لأَطْعَمَنِيَهُ ". قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ أمَسَّ الطَّيبَ. قَالَ :" مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أمَرَنِي بالطَّيب غَبّاً "، وَقَالَ :" يَوْمَ الْجُمُعَةِ لاَ تَرْكَهُ، يَا عُثْمَانَ لاَ تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي، فَإنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أنْ يَتُوبَ، صَرَفَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ﴾ ؛ أي بما وكَّدتم الأيمان. قرأ أهلُ الحجاز وحفص وأبو عمرو :(عَقَّدْتُمْ) بالتشديدِ، وقرأ أهلُ الكوفة إلاَّ حفصاً : بالتخفيف (عَقَدْتُمْ). ومعناه : أن يحِلفَ الرجلُ على أمرٍ في المستقبل ليفعلَهُ ثم لا يفعلهُ، أو يحلفَ أن لا يفعلَهُ ثم يفعلهُ. فمَن قرأ (عَقَّدْتُمْ) بالتشديدِ فمعناهُ المبالغة والتأكيدُ. وفائدتهُ أن يعتقدَها في قلبهِ، ولو عقدَها في أحدِهما دون الآخرِ لم يكن مُعتقداً، وهو كالتعظيمِ.
وكان أبو الحسنِ الكرخيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يقول :(قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ لاَ تَحْتَمِلُ إلاَّ الْعَقْدَ بالْقَوْلِ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَحْتَمِلُ عَقْدَ الْقَلْْب، وَهُوَ الْعَزِيْمَةُ وَالْقَصْدُ إلَى الْقَوْلِ). ويحتملُ عقد اليمينِ قَولاً ؛ يقال : عقدتُ على أمرِ كذا ؛ إذا عزمتُ عليه.
وَقِيْلَ : الأصحُّ أن المرادَ بالعقدِ القولُ ؛ لأنه لا خلافَ بين الأئمَّة أن القصدَ من اليمينِ لا يتعلقُ به وجوبُ الكفَّارة، وإن وجوبَها متعلقٌ باللفظِ دون القصدِ. ويحتملُ أن يكون معنى التشديدِ : أنه متى أعادَ اليمينَ على وجه التكرار، وهو يريدُ التكرارَ لا يلزمهُ إلا كفارةٌ واحدة.
وقرأ أهلُ الشام :(عَاقَدْتُمْ) بألف وهو من المعاقَدة، وهو أن يحلفَ الرجلُ لصاحبهِ على مسأَلته، أو يحلفَ كلُّ واحد منهما لصاحبهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكَفَّارَتُهُ ﴾ ؛ أي كفَّارة ما عقَّدتُم من الأيمانِ عند الحنثِ، ﴿ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾ ؛ أي مِنْ أعدل مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ غداءً وعشاء ولا وكَسَ ولا شَطَطَ.
وَقِيْلَ : معناهُ : من أوسَطهِ في الشَّبع، ولا تفرطُ في الأكلِ، ولا يكون دون المغنى عن الجوعِ، فإن أرادَ أن يُطعِمَهم الطعامَ أعطَى لكلِّ مسكين نصفَ صاعٍ من حنطة عند أصحابنا، هكذا رُوي عن عمرَ وعليٍّ وعائشة. وقال الشافعيُّ ومالك :(مُدّاً بمُدِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم).
وَالْمُدُّ : رَطْلٌ وَثُلُث، وهكذا رُوي عن زيدِ بن ثابت وابنِ عبَّاس وابن عمرِو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أجمعين. وأما غدَاؤهم وعشاؤهم فلا عبرةَ بمقدار الطعام، إلا أن يكون فيهم صبيٌّ صغير لا يستوفِي الأشياءَ يسيراً فلا يعتدُّ به حينئذ، وإنما قال : يُغَدِّيهِمْ ويُعَشِّيهم ؛ لأن ذلك أوسطُ طعامِ الأهل ؛ لأن أكثرَ الأكلِ ثلاثُ مرات، وأقلُّه وجبة، والغالبُ الأوسط ؛ والأوسطُ الغالب مرَّتان. وقال سعيدُ بن جبير :(يُعْطِي لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ ؛ مُدٌّ لِطَعَامِهِ وَمُدٌّ لإدَامِهِ).
وسُئل شريح عن الكفَّارة ؛ فقال :(الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ). فقال له السائلُ : رأيتَ إن أطعمتُ الخبزَ واللحم، فقال :(ذَلِكَ أرْفَعُ طَعَامِ أهْلِكَ وَطَعَامِ النَّاسِ).
نَهى اللهُ عن هذه الأشياءِ، وحرَّمَها بأبلغِ أسباب التحريمِ ؛ لأنه تعالى سَمَّاها كلها رجْساً، والرِّجْسُ : هو الشيءُ المستقذرُ النَّجِسُ، الذي يرتفع " في القُبحِ "، ذكرَهُ بالفتحِ ؛ يقال : رَجَسَ الرَّجُلُ يَرْجِسُ، ورَجِسَ يَرْجِسُ. والرَّجْسُ بفتحِ الراءِ : شدَّةُ الصوتِ، ورعدٌ رَجَّاسٌ إذا كان شديدَ الصوتِ. وسُميت هذه المعاصي رجْسًا ؛ لوجوب اجتنابها كما يجبُ اجتناب الشيءِ المستقذر.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ ؛ أي من تزيينهِ ؛ لأنه هو الداعِي إليه والمرغِّبُ فيه والمرنِّنُ له في قُلوب فَاعليه. وقولهُ تعالى :﴿ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ؛ أمرٌ باجتنابهِ وهو تَركُه بَاطناً، وظاهر الأمرُ على الوجوب. وروي عن عثمانَ بن عفَّان رضي الله عنه أنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" إنَّ اللهَ تَعَالَى يُجْمِعُ الْخَمْرَ وَالإيْمَانَ فِي قَلْب مُؤْمِنٍ أبَداً " وقالَ ﷺ :" مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابدِ الْوَثَنِ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ "
وقالَ ﷺ :" مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا سَقَاهُ اللهُ مِنْ سُمِّ الأَسَاوِدِ، وَسُمِّ الْعَقَارب، إذا شَرِبَهُ تَسَاقَطَ لَحْمُ وَجْهِهِ فِي الإنَاءِ قَبْلَ أنْ يَشْرَبَهَا، فَإذا شَرِبَهَا يُفَسَّخُ لَحْمُهُ بالْجِيفَةِ، يَتَأَذى بهِ أهْلُ الْمَوْقِفِ. وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ أنْ يَتُوبَ مِنْ شُرْب الْخَمْرِ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يَسْقِيَهُ بكُلِّ جُرْعَةٍ شَرِبَهَا فِي الدُّنْيَا شَرْبَةً مِنْ صَدِيدِ أهْلِ جَهَنَّمَ "
وقال ﷺ :" لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ وَسَاقِيهَا ؛ وَشَارِبَهَا ؛ وَبَائِعَهَا ؛ وَمُبْتَاعَهَا ؛ وَعَاصِرَهَا ؛ وَمُعْتَصِرَهَا ؛ وَحَامِلَهَا ؛ وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ ؛ وآكِلَ ثَمَنِهَا " وقالَ ﷺ :" اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ " وقال ﷺ :" مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَ أنْ حَرَّمَهَا اللهُ عَلَى لِسَانِي، فَلَيْسَ لَهُ أنْ يُزَوَّجَ إذا خَطَبَ، وَلاَ يُصَدَّقَ إذا حَدَّثَ، وَلاَ يُشَفَّعَ إذا شَفَعَ، وَلاَ يُؤْتَمَنَ عَلَى أَمَانَةٍ ؛ فَمَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَى أمَانَةٍ فَاسْتَهْلَكَهَا فَحَقٌّ عَلَى اللهِ تَعَالَى أنْ لاَ يُخْلِفَ عَلَيْهِ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ ﴾ ؛ أي يريدُ الشيطان أن يَصرِفَكم عن طاعةِ الله وعن الصَّلوات الخمسِ على ما هو معلومٌ في العادةِ من أحوال أهلِ الشَّراب والقِمار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ ؛ معناهُ : انْتَهُوا عنهُما، وهذا نَهيٌ بألطفِ الوجُوهِ ؛ ليكون أدعى إلى تنهاكما، كما قال تعالى :﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾[هود : ١٤] معناه : أسلِمُوا. فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قالوا :(انْتَهَيْنَا يَا رَبُّ). فأنزلَ الله تعالى هذه الآيةَ :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ ﴾ ؛ أي أطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ في تركِ جميعِ المعاصي عُموماً، واحذرُوا شُربَ الخمرِ وتحليلها وسائرِ المعاصي، ﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ ؛ أي أعرَضتُم عن طاعةِ الله وطاعة الرسولِ، ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾ ؛ أي تبليغُ الرسالة عن اللهِ بأوامره ونواهيه بلُغَة تعرفونَها. وأما التوفيقُ والخذلان والثواب والعقابُ، فإلى الله عَزَّوَجَلَّ.
فلمَّا نزلَ تحريمُ الخمرِ والميسر قال الصحابةُ :(يَا رَسُولَ اللهِ! فَكَيْفَ بإخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟) حتى قال المهاجِرون :(يَا رَسُولَ اللهِ! قُتِلَ أصْحَابُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَاتُوا فِيْمَا بَيْنَ بَدْر وأحُدٍ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ؛ فَمَا حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ؟) فأنزل اللهُ قَولَهُ تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ﴾ ؛ أي فيما شَرِبوا من الخمرِ، ﴿ إِذَا مَا اتَّقَواْ ﴾ ؛ الشِّركَ، ﴿ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ ؛ وصدقوا واجتنبوا الخمرَ والميسرَ بعد تحرِيمها، ﴿ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ ؛ ما حرَّمَ الله كلَّهُ، ﴿ وَّأَحْسَنُواْ ﴾.
وَقِيْلَ : معناه :(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا - بالله ورسوله - وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني الطاعاتِ (جُنَاحٌ) أي حرَجٌ ومَأْثَمٌ (فيمَا طَعِمُوا) من الحرامِ وشربوا من الخمرِ قبل تحريمها، وقبل العلمِ بتحريمها إذا ما اجتَنبوا الكفرَ والشِّركَ وسائرَ المعاصي فيما مضى، ﴿ وَآمَنُوا ﴾ أي وصدَّقوا بمُحَمَّدٍ ﷺ والقرآنِ ﴿ وَعَمِلُواْ ﴾ الطاعات ﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ شربَ الخمرِ بعد التحريم ﴿ وَآمَنُوا ﴾ أي أقَرُّوها بتحريمها ﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ ﴾ أي ثم دَاوَمُوا على ذلك وضَمُّوا إلى ذلك الإحسانَ في العملِ.
وَقِيْلَ : أرادَ بالاتقاءِ الأول : اتقاءُ جميع المعاصِي فيما مضَى، وأراد بالثانِي : اتقاءُ المعاصي في المستقبلِ، وأراد بالثالثِ : اتقاءُ ظُلمِ العباد في المعاملاتِ. وَقِيْلَ : أرادَ بقوله :(إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ) إذا ما اجتَنبوا شُربَ الخمرِ بعد تحريمها وصدَّقوا بتحريمها، ﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ سائرَ المعاصي، وأقرُّوا بتحريم ما يحدُثُ تحريمهُ من بعد مجانبته، ثم جَمعوا بين اتِّقاء المعاصي وإحسانِ العمل والإحسان إلى الناسِ.
وقال بعضهم :(مِن) ها هنا للجنس كقوله تعالى :﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾[الحج : ٣٠] معناه : اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الذي هو وثَنٌ. وقال بعضُهم : أرادَ بقوله :(بشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) بما يكون من جزاءِ الصَّيد وإن لم يكن صَيداً كالبيضِ والفرخ والريشِ، والآية شاملةٌ لجميع هذه المعانِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ ؛ أي تأخذونَهُ بأيديكم من فراخِ الطَّير وصغار والوحش والبيضِ، وما تصيبهُ رماحُكم من كبار الصَّيد التي لا تُصاد باليدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ﴾ ؛ أي ليميِّزَ اللهُ مَن يخافهُ ممن لا يخافه في السرِّ بينه وبين اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ ﴾ ؛ أي من تجاوزَ الحدَّ في أخذ صيدِ البرِّ مع الإحرامِ، وأخذ الصيد في الحرمِ بعد البيان له والنهيِ عنه، ﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ يعني التعزيرَ والكفَّارة في الدُّنيا ؛ يفرق الضربُ على أعضائهِ كلِّها ما خلاَ الوجهَ والرأس والفرجَ، فيضربُ ضَرباً وجيعاً ويؤمر بالكفَّارة، ويكون هذا المتعدِّي مأخوذاً بعذاب الآخرة إن ماتَ قبل التوبة.
وقولهُ تعالى :﴿ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ ﴾ دليلٌ على أن كلَّ ما يقتلهُ المحرِمُ من الصيدِ لا يكون مِلكاً ؛ لأن اللهَ تعالى سَمَّى ذلك قَتلاً، ولا يجوزُ أكلُ المقتولِ وإنما يجوز أكلُ المذبوحِ على شرط الذكاة.
والصيدُ في اللغة : اسمٌ لكل مُمتَنعٍ متوحِّش، فلا يفرقُ الحكمِ في وجوب الحلِّ بين المأكولِ منه وبين غيرهِ، إلا أنه رُوي عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحَيَّةُ ؛ وَالْعَقْرَبُ ؛ وَالْغُرَابُ ؛ وَالْفَأْرَةُ ؛ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " وأرادَ بالكلب العقور : الذئبَ على ما وردَ في بعض الرواياتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ﴾ ؛ روي أنه نزلَ في كعب بن عمرٍو ؛ عُرِضَ له حمارُ وحشٍ فطعنَهُ برُمحهِ فقتلَهُ، ولم يكن عَلِمَ بنُزولِ التحريمِ.
واختلَفُوا في صفةِ العمل الموجب للجزاءِ والكفَّّارة في قتلِ الصيد، فقال الأكثَرون من أهلِ العلم : سواءٌ قَتَلَ الْمُحرِمُ الصَّيدَ عَمداً أو خطأًَ فعليه الجزاءُ، وجعلوا فائدةَ تخصيصِ العمل بالذِّكر في هذه الآيةِ ما في نَسخِها بقوله :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾ ؛ لأن المخطئَ لا يجوزُ أن يلحقه الوعيدُ.
والقول الثانِي : ما رُوي عن قتادةَ وطاووس وعطاء ؛ أنَّهم قالوا :(لاَ شَيْءَ عَلَى الْخَاطِئ) وهو روايةٌ عن ابنِ عبَّاس.
والقولُ الثالث : وهو قولُ مجاهدٍ والحسن :(أنَّ الْمُرَادَ بهِ إذا قَتَلَهُ نَاسِياً لإحْرَامِهِ، وَحَصَلَ الْقَتْلُ عَمْداً). وهذا القولُ يقتضي أن غيرَ العامدِ الذاكر لإحرامهِ لا يؤمَرُ بالكفَّارة، ولكنَّ اللهَ يعاقبهُ في الآخرةِ على ما فعلَهُ. وعلى هذا التأويلِ قالوا : إنَّ معنى قولهِ :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾ أي عادَ إلى هذا الفعلِ من بعد العلمِ بالنهي، كان عقوبتهُ النقمة ينتقمُ الله منه.
وقال آخَرون : هو القتلُ عَمداً وهو ذاكرٌ لإحرامه، فحُكم عليه في العمدِ والخطأ الكفارةُ والجزاء، وهو اختيارُ الشافعيِّ. وقال الزهريُّ :(نَزَلَ الْقُرْآنُ بالْعَمْدِ، وَجَرَتِ السُّنَّةُ بالْخَطَأ). وقال ابنُ عبَّاس :(إنْ قَتَلَهُ عَمْداً سُئِلَ : هَلْ قَتَلَ قَبْلَهُ شَيْئاً مِنَ الصَّيْدِ ؟ فَإنْ قَالَ : نَعَمْ ؛ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهُ، وَيُقَالُ لَهُ : اذْهَبْ، فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ، وَإنْ قَالَ : لَمْ أقْتُلْ قَبْلَهُ شَيْئاً، حُكِمَ عَلَيْهِ، فَإنْ عَادَ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ ثَانياً وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَمَا حُكِمَ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ ثَانِياً، ويُمْلأُ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ ضَرْباً وَجيعاً). وعندَنا إذا عادَ حُكم عليه ثانياً، وعليه الجمهورُ.
وقولهُ تعالى :﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ ﴾ ؛ أي منفعةً لكم. وهو مصدرٌ مؤكِّد للكلامِ ؛ أن تَمتَّعوا مَتاعاً لكم. وقولهُ تعالى :﴿ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ ؛ أي ومنفعةٌ للمارَّة في السفر. قال ابن عبَّاس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي مُدْلَجٍ، كَانُوا أهْلَ صَيْدِ الْبَحْرِ، أتَوا رَسُولَ اللهِ ﷺ وَقَالُوا : إنَّا نَصْطَادُ فِي الْبَحْرِ، وَرُبَّمَا يَعْلُو الْبَحْرُ وَرُبَّمَا مَدَّ الْبَحْرُ، فَيَعْلُو الْمَاءُ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَيَبْقَى السَّمَكُ بالأَرْضِ، وَيَذْهَبُ الْمَاءُ عَنْهُ فَنُصِيبُهُ مَدّاً، فَحَلاَلٌ لَنَا أكْلُهُ أمْ لاَ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾ ؛ أي وحرَّمَ عليكم اصطيادَ ما في البرِّ. ويقالُ : عَينُ صيدِ البر ما دُمتم مُحرِمين، ولا خلافَ في الاصطيادِ أنه حرامٌ على الْمُحْرِمِ في البرِّ، فأما عينُ الصيدِ فإن صادَهُ حلالٌ بأمرِ الْمُحْرمِ أو بإعانتهِ أو دلالته وإشارتهِ حَرُمَ على المحرمِ تناولهُ، وإنْ صادَهُ حلالٌ بغيرِ أمر المحرمِ حلَّ للمحرم تناولهُ كما رُوي في حديث أبي قتادةَ ؛ قالَ :" كُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُحْرِمِينَ وَأَنَا حَلاَلٌ، فَبَصُرْتُ بحِمَارِ وَحْشٍ فَقُلْتُ : نَاوِلْنِي الرُّمْحَ، فَأَبَواْ، فَأَخَذْتُهُ وَأتَيْتُ الصَّيْدَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ أكْلِهِ فَقَالَ :" هَلْ أعنْتُمْ ؟ هَلْ أشَرْتُمْ ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ ؟ " فَقَالُوا : لاَ ؛ فَقَالَ :" إذاً فَكُلُوا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ؛ أي اتَّقوا اللهَ في أخذِ الصَّيد في الإحرامِ الذي إلى موضعِ جزائه تُبعثون.
وَقِيْلَ : معنى قولهِ :﴿ قِيَاماً لِّلنَّاسِ ﴾ أي قِبلَةً لهم، أمروا أن يقوموا في الصلاةِ متوجِّهين إليها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ أي جعلَ الشهر الحرامَ آمِناً أيضاً، كانوا إذا دخلَ الشَّهرُ الحرامُ لم يقتُلوا فيه أحداً حتى يمضيَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ﴾ ؛ جعل الهديَ الذي يُهدى إلى البيت أمناً للرِّفقة، وجعلَ القلائدَ أمناً، والقلائدُ البُدْنُ من البقرِ والإبل كانوا يقلِّدونَها بنعلٍ أو خُفٍّ، وربَّما كانوا يقلِّدون رواحلَهم إذا رجَعوا من مكَّة من لحاءِ شجرِ الحرم فيأمَنون بذلك، وكان أهلُ الجاهلية يأكلُ الواحد منهم القضيبَ والشجرَ من الجوع وهو يرَى الهديَ والقلائد فلا يتعرَّضُ له تَعظيماً له.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ؛ معناهُ : ذلك أمرُ الجاهلية دليلٌ أنه تعالى يعلمُ ما في السَّموات وما في الأرضِ وما فيه صلاحُ الخلقِ إذ جعلَ في أعظمِ الأوقات فَساداً يؤمَنُ به، وشرعَ الحجَّ وفيه مصالِحُ الخلقِ على نحو ما تقدَّمَ.
وَقِيْلَ : مَعناهُ : ولا يستوِي الكافرُ والمؤمن ولو أعجبكَ كثرةُ الكافرِ، والعدلُ والفاسقُ وإنْ كان في الفُسَّاقِ كثرةٌ، ولا يباركُ في الحرامِ وإنما يباركُ في الحلالِ، ﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ؛ أي اخشَوا عذابَ الله في أخذِ الحرام يا ذوي العقولِ، لكي تفوزُوا بالنجاةِ والسَّعادات في الآخرةِ.
فَوَجَدَ مِنْ قَوْلِ ذلِكَ الرَّجُلِ وَجْداً شَدِيداً، ثُمَّ قَالَ لَهُ :[مَا كَانَ يُؤْمِنُكَ أنْ أقُولَ : نَعَمْ، فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ عَامٍ فَلاَ تُطِيقُوهُ، فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ كَفَرْتُمْ، ذرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ]).
وفي بعضِ الروايات :" أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَامَ خَطِيباً، فَسَأَلَهُ النَّاسُ عَنْ أشْيَاء، فَقَالَ :" لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاَّ حَدَّثْتُكُمْ بهِ "، فَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ السُّؤَالَ حَتَّى سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْحَجِّ : أفِي كُلِّ عَامٍ ؟ فَسَكَتَ النَّبيُّ ﷺ فَأَعَادَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ثَالِثاً، فقال ﷺ :" لَوْ قُلْتُ لَكُمْ : نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ " فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ : أفِي الْجَنَّةِ أنَا أمْ فِي النَّار؟! فَاشْتَدَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَقَالَ عُمَرُ : رَضِينَا باللهِ رَبّاً وَبالإسْلاَمِ دِيناً وَبكَ نَبيّاً، نَعُوذُ باللهِ مِنْ غَضَب اللهِ وَغَضَب رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَسَرَى عَنِ النَّبيِّ ﷺ الْغَضَبُ ".
وروي :" أن رجلاً قال يا رسولَ اللهِ أين أبي ؟ فقال :" فِي النَّار "، فَقَامَ عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ : رَضِينَا باللهِ رَبّاً وَبالإسْلاَمِ دِيناً وَبمُحَمَّدٍ نَبيّاً وَبالْقُرْآنِ إمَاماً، إنَّا يَا رَسُولَ اللهِ حَدِيثُو عَهْدٍ بالْجَاهِلِيَّةِ فَاعْفُ عَنَّا عَفَا اللهُ عَنْكَ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ ".
ورويَ :" أنَّ رَجُلاً مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ حُذافَةَ، وَكَانَ يُطْعَنُ فِي نَسَبهِ إذا لاَحَى ؛ أيْ يُدْعَى لِغَيْرِ أبيهِ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أبي ؟ قَالَ :" أبُوكَ حُذافَةُ ". قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَقَالَتْ أمُّهُ : مَا رَأَيْتُ وَلَداً أعَقَّ مِنْكَ قَطْ! أكُنْتَ تَأْمَنُ أنْ تَكُونَ أمُّكَ قَارَفَتْ مَا قَارَفَ " نِسَاءُ " أهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَفْضَحَهَا عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ ".
وفي رواية أخرى :" أنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ :" أبُوكَ حُذافَةُ "، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أبي فُلاَنٌ، قَالَ :" إنَّكَ وَلَدُ الزَّانِيَةِ، وَإنَّ الَّذِي وُلِدْتَ عَلَى فِرَاشِهِ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَتَعَرَّضَتْ أُمُّكَ لِحُذَافَةَ فَجَامَعَهَا فَاشْتَمَلَتْ بكَ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. ومعناها : يا أيُّها الذين آمَنوا بالله ورسولهِ لا تسأَلُوا النبيَّ ﷺ عن أشياء إنْ أظهرَ لكم جوابَها ساءَكم، ذلك ﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ ؛ وإنْ تسألوا عنها عندَ نُزول القرآنِ أظهرَ لكم جواباً، ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ﴾ ؛ أي عن مسأَلتِكم لم يؤاخذكم بالبحثِ عنها. ويقال : أراد بالعفوِ السترَ عليهم، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ ؛ أي متجاوزٌ عن العباد، حليمٌ عن الجهَّال لا يعجِّلُ عليهم بالعقوبةِ.
وأما تفسيرُ البَحِيرَةِ : كانت الناقةُ إذا نتَجت خمسةَ أبطُنٍ نظَرُوا، فإنْ كان البطنُ الخامس ذكراً ذَبَحوهُ لآلهتِهم، وكان لَحمهُ للرِّجال من سَدَنَةِ آلهتِهم ومن أبناءِ السَّبيل دونَ النِّساء، وإن ماتَ قبل الذبحِ أكلَهُ الرجالُ والنِّساء، وإن كان الخامسُ أنثى نَحَرُوا أذُنَها ؛ أي شَقُّوها شَقّاً وَاسعاً وهي البَحِيرَةُ : لا تُركَبُ ولا تذبَحُ ولا تطرَدُ من ماءٍ ولا أكلٍ، وألبانُها ومنافعُها للرِّجال من السَّدَنَةِ وأبناءِ السبيلِ دون النِّساء حتى تموتَ، فاذا مَاتت اشتركَ فيها الرجالُ والنساء.
وأما السَّائبة : فكان إذا قَدِمَ الرجلُ من سَفَرٍ أو بَرِئَ من مرضٍ أو بنى بناءً، سَيَّبَ شيئاً من إناثِ الأنعام وسلَّمها إلى سَدَنَةِ آلهتهم، فيُطعمون منه أبناءَ السَّبيل من ألبانِها وأسمانِها إلاّ النساءَ، فإنَّهم كانوا لا يُطعمونَهن منها شيئاً حتى تموتَ، فإذا ماتت أكلَها الرجالُ والنساء جميعاً.
وأما الوَصِيلَةُ : فهي من الغَنم كانت الشاةُ إذا نَتجت سبعةَ أبطُن، فإنْ كان البطنُ السَّابع ذكراً ذبَحوهُ لآلهتهم، وإنْ كانت أنثى صَنَعوا بها ما يصنَعون بالأُنثى من البَحِيرَةِ، وإنْ كان ذكراً وأنثى قالوا : إنَّها وصَلَتْ أخَاها، فلم تَذبح الذكرَ لمكانهِ منها، وكان منافعُهما للرِّجال دون النساءِ من السَّدَنَةِ وأبناءِ السَّبيل الى أن يموتَ واحدٌ منهما فيشتركُ فيه الرجالُ والنساء.
وأما الْحَامِي : فهو الفحلُ إذا رَكِبَ ولدُ ولدهِ قالوا : قد حَمَى ظهرَهُ فلا يُركب ولا يحمل عليه ولا يُمنع من ماءٍ ولا مرعَى حتى يموتَ، فيأكلهُ الرِّجالُ والنساء.
وقد رُوي عن زيدِ بن أسلمَ عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" إنِّي لأَعْرِفُ أوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَأوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ خَلِيل اللهِ "، قَالُوا : مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :" عَمْرُو بْنُ لَحِي، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّار يُؤْذِي أهْلَ النَّار برِيحِ قُصْبهِ. وَإنِّي لأَعْرِفُ أوَّلَ مَنْ بَحَّرَ الْبَحَائِرَ "، قَالُوا : مَنْ هُوَ ؟ قَالَ :" رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلَجَ، كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ فَجَدَعَ أذُنَيْهِمَا وَحَرَّمَ ألْبَانَهَا، ثُمَّ شَرِبَهُ بَعْدَ ذلِكَ، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النَّار يَعَضَّانِهِ بأَفْوَاهِهِمَا وَيَخْبطَانِهِ بأَخْفَافِهِمَا ".
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قَالَ :" قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لأَكْثَمَ الْخُزَاعِيَّ :" رَأيْتُ عَمْرَو ابْنَ لُحَي يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّار، فَمَا رَأيْتُ مِنْ رَجُلٍ أشْبَهَ برَجُلٍ مِنْهُ بكَ وَلاَ بكَ مِنْهُ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَنَصَبَ الأَوْثَانَ، وبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِي، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النَّار يُؤْذِي أهْلَ النَّار بريحِ قُصْبهِ "، قَالَ أكْثَمُ : يَا رَسُولَ اللهِ أيَضُرُّنِي شَبَهُهُ ؟ فَقَالَ :" إنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ ".
ورُوي عن السَّلف في تأويلِ هذه الآية أحاديثُ مختلفة الظواهرِ، وهي متفقةٌ في المعنى، فمِنها ما رُوي عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال على المنبرِ : أيُّها النَّاسُ، إنِّي أرَاكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" مَا مَنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ بالْمَعَاصِي فَلَمْ يُغَيِّرُوهَا إلاَّ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعِقَابِهِ "
وعن أبي أمَامَةَ قالَ : سَأَلْتُ أبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ : لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبيراً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ لِي :" يَا أبَا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإذا رَأيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً وَشُحّاً مُطَاعاً، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأيٍ برَأيهِ، فَعَلَيْكَ بنَفْسِكَ، فَإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ، وَالصَّابرُ فِيهَا كَالْقَابضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَالصَّبْرُ فِيْهَا كَالْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَالْمُتَمَسِّكُ فِيهَا بمِثْلِ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِِ خَمْسِينَ عَامِلاً مِنْكُمْ ".
ففي هذه الأخبار دليل على أنَّ فرضَ الأمرِ بالمعروف والنهيَ عن المنكرِ لا يسقطُ إلاَّ عند العجزِ عن ذلك. كما رُوي عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" إذا رَأى أحَدُكُمْ مُنْكَراً وَاسْتَطَاعَ أنْ يُغَيِّرَهُ فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلْبهِ، وذَلِكَ أضْعَفُ الإيْمَانِ "
وحكي : أنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ قَالَ الْحَسَنُ رضي الله عنه :(اللَّهُمَّ أنْتَ أمَتَّهُ فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ، فَإنَّهُ أتَانَا أخَيْفِشُ أعَيْمِشُ، يَمُدُّ بيَدٍ قَصِيرَةٍ، وَاللهِ مَا عَرِقَ فِيهَا فِي سَبيلِ اللهِ عَنَانٌ، يَرْجُلُ جُمَّتَهُ وَيَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ، وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْدِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلاَةُ، لاَ مِنَ اللهِ يَتَّقِي وَلاَ مِنَ النَّاسِ يَسْتَحْيي، فَوْقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَحْتَهُ مِائَةُ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ، لاَ يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ : الصَّلاَةُ أيُّهَا الرَّجُلُ. ثُمَّ جَعَلَ الْحَسَنُ يَقُولُ : هَيْهَاتَ، وَاللهِ حَالَ دُونَ ذلِكَ السَّيْفُ وَالسَّوْطُ). وفي هذا الخبرِ دليلٌ أن السَّلفَ كانوا مُعذُورينَ في ذلك الوقتِ في تركِ الإنكار باليدِ واللِّسان.
فَلَمَّا قَدِمَا الْمَدِيْنَةَ وَسَلَّمَا الْمَتَاعَ إلَى أهْلِهِ، وَجَدَ أهْلُهُ كِتَاباً فِي دُرْجِ الْثِّيَاب فِيْهِ أسْمَاءُ الأمْتِعَةِ، قَالُوا لَهُمَا : هَلْ بَاعَ صَاحِبُكُمَا شَيئاً مِنْ مَتَاعِهِ ؟ قَالاَ : لاَ، فَهَلْ طَالَ مَرَضُهُ فَأَنْفَقَ شَيْئاً ؟ قَالاَ : لاَ، إنَّمَا مَرِضَ حِينَ قَدِمَ الْبَلََدَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ مَاتَ. فَقَالَ لَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْمُطَّلِبُ ابْنُ أبي وَدَاعَةَ : فإنَّا وَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ صَحِيفَةً فِيهَا تَسْمِيَةً مَتَاعِهِ، وَفِيْهَا إنَاءٌ مَنْقُوشٌ مُمَوَّهٌ بالذهَب فِيْهِ ثَلاَثُمِائَةِ مِثْقَالٍ. قَالاَ : مَا نَدْري، إنَّمَا أوْصَى إلَيْنَا بشَيْءٍ وَأَمَرَنَا أنْ نَدْفَعَهُ إلَيْكُمْ فَدَفَعْنَاهُ. فَرَفَعُوهُمَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَذكَرُوا ذلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
ومعناها : يا أيُّها الذين آمَنوا شهادةُ الحالِ الذي بينكم إذا حضرَ أحدَكم الموتُ فأراد الوصيَّةَ شهادةُ اثنين ذوي عدلٍ منكم ؛ أي من أهل دينِكم. وهذه جملةٌ تامَّة تتناولُ حكمَ الشَّهادة على الوصيَّة في الحضر والسفرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ ؛ مقيَّدٌ بالسَّفرِ خاصَّة، معناهُ : أو آخَران من غير أهل دينكم، ﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ إن أنتم سافَرتُم في الأرضِ، ﴿ فَأَصَابَتْكُم ﴾ ؛ في السَّفرِ، ﴿ مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ ؛ ولم يكن يحضرُكم مسلمون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ ﴾ ؛ أي تَقِفونَهما وهما النصرانيَّان، والمرادُ بقوله :﴿ بَعْدِ الصَّلاَةِ ﴾ بعد صلاةِ العصر كان النبيُّ ﷺ يقضي بعدَ صلاة العصرِ وهو وقتُ اجتماعِ الناس، وأهلُ الكتاب يعظِّمونَهُ، ﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾ ؛ أي الشَّاهدان النصرانيان يَحلفان باللهِ إذا ادَّعى عليهما ورثةُ الميِّت بسبب شأنِهم في جِنايتهما، ويقولان في اليمينِ : لاَ نشتري بهذا القول الذي نقولهُ بأنا دفَعنا المالَ جميعه إليكم عَرَضاً يَسِيراً من الدُّنيا، ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ ؛ أي وإن كان الميْتُ ذا قرابةٍ منَّا في الرَّحِمِ ؛ أي لم نَخُنْ في التِّركة لقرابته منَّا. رُوي أنه كان بين الميْتِ المسلمِ وبين هذين النصرانيين قرابةٌ في الرَّحِم، ومعنى قوله :﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ أي شَكَكْتُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ويقولون في اليمينِ : ولا نكتمُ شهادةَ اللهِ، ﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ ﴾ ؛ أي العاصِين إنْ كتَمنَاهما كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى
وأما قولُ الرسلِ :(لاَ عِلْمَ لَنَا)، فقال ابنُ عبَّاس والحسن والسديُّ ومجاهد :(إنَّ هَذا الْجَوَابَ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ زَفْرَةِ جَهَنَّمَ، وَجُثُوِّ الأُمَمِ عَلَى الرُّكَب، لاَ يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبيٌّ مُرْسَلٌ إلاَّ قَالَ : نَفْسِي نَفْسِي، فَعِنْدَ ذلِكَ تَطِيرُ الْقُلُوبُ مِنْ أمَاكِنِهَا، فَتَقُولُ الرُّسُلُ مِنْ شِدَّةِ هَوْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهَوْلِ الْمَوْطِنِ : لاَ عِلْمَ لَنَا) ﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ ؛ تُرجِعُ إليهم عقولُهم، فيشهَدُون على قومِهم أنَّهم بلَّغوهم الرسالةَ، وأنَّ قومَهم كيف ردُّوا عليهم.
فإن قِيْلَ : كيف يصحُّ ذُهول العقلِ مع قولهِ تعالى﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ﴾[الأنبياء : ١٠٣] قِيْلَ : إن الفزعَ الأكبرَ دخولُهم جهنَّم. وعن ابنِ عبَّاس :(أنَّ مَعْنَى : لاَ عِلْمَ لَنَا ؛ أيْ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا)، فَحُذِفَ الاسْتِثْنَاءُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا علمَ لنا بتفصيلِ الأمُور.
ومعنى الآيةِ : أظْهِرْ مِنَّتِي عليكَ بالنبوَّة وعلى أمِّك بأن طهَّرتُها واصطفيتُها على نساءِ العالَمين ؛ ليكون حجَّة على من كَفَرَ وادَّعاكَ إلهاً، فيكون ذلك حسرةً وندامةً عليهم يومئذٍ. والفائدةُ في ذكرِ أمِّهِ : أنَّ الناس تكلَّمُوا فيها كما تكلَّمُوا فيه.
ثم عدَّ الله نِعمَةً نعمةً :﴿ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ ؛ أعَنتُكَ وقرَّبتُكَ بجبريلَ الطاهر حين حاولَتْ بني إسرائيل قتلَكَ، ويقال : أيَّدتُكَ به في الحجَّة في كلِّ أحوالِكَ.
وقوله تعالى :﴿ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ انتصبَ (ابْنَ مَرْيَمَ) لأنه مُنادَى مضافٌ ؛ أي يا عيسى يا ابنَ مريمَ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ﴾ معناهُ : اذكر نِعمَتي، لفظة واحدةٌ ومعناها الجمعُ، كقوله تعالى :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[إبراهيم : ٣٤] أي نِعَمَ اللهِ، لأنَّ العددَ لا يقعُ على الواحدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ ؛ أي تكلِّمُ الناسَ في حِجْرِ أمِّكَ في حالِ صِغَرِكَ، وتخاطبُهم كَهلاً بعد ثلاثين سَنة، على صفةٍ واحدة واحداً واحداً، وذلك من أعظمِ الآيات.
ويقال : أرادَ بالمهدِ الذي يُربَّى فيه الطفلُ حين قال لَهم وهو في المهدِ :﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾[مريم : ٣٠]. قال الكلبيُّ :(مَكَثَ فِي رسَالَتِهِ بَعْدَ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً ثَلاَثِينَ شَهْراً، ثُمَّ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ). وَقِيْلَ : ثلاثَ سنين، ثم رُفع إلى السَّماء وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سَنة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾ ؛ أي علَّمتُكَ كُتبَ الأنبياء قبلَك والفهمَ، ويقال : أرادَ بالكتاب الخطَّ بالقلمِ، وأرادَ بالحكمةِ كلَّ صوابٍ منهنَّ من قول أو فعلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ﴾ ؛ معناهُ : إذ تُصوِّرُ من الطينِ كَشِبهِ الْخُفَّاشِ بأمرِي، ﴿ فَتَنفُخُ فِيهَا ﴾ ؛ أي في الهيئةِ، ﴿ فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ﴾ ؛ يطيرُ بين السَّماء والأرضِ بأمرِ الله، ويكون النفخُ كنفخِ الرَّاقِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي ﴾ ؛ الأكمَهُ : الذي وُلد أعمَى، والأَبْرَصُ : الذي لا تعالِجهُ الأطبَّاء، وهو الذي إذا غُرزَ الإبرةَ لا يخرجُ منه الدَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِيِ ﴾ ؛ أي الموتَى تخرِجُهم من قُبورهم احياءَ بإرادتِي، والمرادُ أنَّ الله تعالى كان يأذنُ له في المسألةِ والدُّعاء، فيقعُ ذلك عن اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ ﴾ ؛ معناه وإذ صَنعتُ (صَرَفْتُ) أولادَ يعقوب عنكَ حين هَمَّوا بقتلِكَ، ﴿ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ ؛ أي بالمعجزاتِ الدالَّة على رسالتِكَ، ﴿ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـاذَا ﴾ ؛ أي ما هذا الذي يُرينا عيسى، ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ سحرٌ ظَاهِرٌ. ومن قرأ (سَاحِرٌ مُبينٌ) أراد به عيسَى عليه السلام.
وقولهُ تعالى :﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾. قرأ الكسائيُّ (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) بالتاءِ بإدغام ونصب الباءِ من رَبَّكَ، أي هل تقدرُ أن تسأَلَ رَبَّكَ؟.
وقد رُوي عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالت :(كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أعْلَمَ باللهِ مِنْ أنْ يَقُولُوا : هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ؟) وفيه ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدهم : أنَّ هذا السؤالَ كان في ابتداءِ أمرهم قبل أن تَستحكِمَ معرفتُهم باللهِ تعالى ولذلك أنكرَ عليهم عيسَى عليه السلام فقال :(اتَّقُوا اللهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأنه لم يُسْتَكْمَلَ إيمانُهم في ذلك الوقتِ.
والقولُ الثاني : أنَّ معناهُ : هل يفعلُ ذلك كما يقول الرجلُ لآخرَ : هل تستطيعُ أن تقومَ معي في أمرِ كذا ؟ أي هل أنتَ فاعلهُ؟
والقولُ الثالث : أنَّ معناهُ : هل يستجيبُ لكَ ربُّكَ ؟ وهل يُطِيعُكَ إنْ سألتَهُ ؟ كما تقولُ : استجابَ بمعنى أجابَ.
وَالْحَوَاريُّونَ : خواصُّ أصحاب عيسى عليه السلام. قال الحسنُ :(كَانُوا قَصَّارينَ) وقال مجاهدُ :(كَانُوا صَيَّادِينَ) وَقِيْلَ : كانوا مَلاَّحِينَ. وقال قتادةُ :(الْحَوَاريُّونَ : الْوُزَرَاءُ) وقال عكرمة :(هُمُ الأَصْفِيَاءُ) وكانوا اثنَى عشرَ رجُلاً.
وقولهُ تعالى :﴿ وَآيَةً مِّنْكَ ﴾ ؛ أي تكون المائدةُ دَلالة وحجةً لِمَنْ آمنَ على مَن كفرَ، ﴿ وَارْزُقْنَا ﴾ ؛ أي اجعَلْ ذلك رزقاً لنا، وَقِيْلَ : ارزُقنا الشُّكرَ عليه، ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ ؛ وأنتَ أفضلُ الْمُعْطِينَ والموفِّقين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي فمَن يكفُرْ بعدَ نُزول المائدةِ، وَقِيْلَ : بعد ما أكَلَ من المائدةِ، فإنِّي أُعذِّبهُ بجنسٍ من العذاب لا أعذِّبُ أحداً من عالَمي زمانِهم بذلك العذاب، وهو أن جعلَ اللهُ مَن كَفَرَ منهم بعد نزول المائدة خنازيرَ. وَقِيْلَ : أرادَ بهذا عذابَ الآخرةِ، كما رُوي عن ابنِ عمر أنه قالَ (أشَدُّ النَّاسِ عَذاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةٌ : الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أصْحَاب الْمَائِدَةِ، وَآلَ فِرْعَوْنَ).
ورُوي عن ابنِ عبَّاس في سبب نُزول المائدةِ :(أنَّ عِيسَى كَانَ إذا خَرَجَ اتَّبَعَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ رَجُلٍ أوْ أكْثَرُ مِنْ أصْحَابهِ الَّّذِينَ يَقْتَدُونَ بهِ، وَأهْلُ الزَّمَانَةِ وَالْمَرْضَى والبطارة، فَسَلَكَ بهِمْ ذاتَ يَوْمٍ الْقِفَارَ، فَفَنِيَ طَعَامُهُمْ وَجَاعُواْ جُوعاً شَدِيداً، فَأَعْلَمَ النَّاسُ تَلاَمِيذهُ الْحَوَارِيِّينَ قَالُواْ : إنْ كَانَ صَاحِبُكُمْ حَقّاً فَلْيَدْعُ رَبَّهُ يُنَزِّلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ، فَكَلَّمَهُ فِي ذلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْحَوَاريِّينَ يُقَالُ لَهُ : شَمْعُونَ الصَّفَّارُ، فَقَالَ : قُلْ لَهُمْ يَتَّقُوا اللهَ وَلاَ يَسْأَلُوا لأَنْفُسِهِمْ الْبَلاَءَ، فَإنَّهُمْ إنْ كَفَرُوا بَعْدَ نُزُولِهَا عَاقَبَهُمُ اللهُ. فَأَخْبَرَهُمْ شَمْعُونُ بذلِكَ، فَقَالُواْ :(نُرِيدُ أنْ نأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنَا).
فَقَامَ عِيسَى عليه السلام فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ :(قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ)، ثُمَّ أنْزَلَ اللهُ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ فَوْقَهَا مَنَديلُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا وَعِيْسَى يَبْكِي، حَتَّى اسْتَقَرَّتِ الْمَائِدَةُ بَيْنَ يَدَي عِيسَى وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً، ثُمَّ كَشَفَ الْمِنْدِيلَ وَقَالَ : بِسْمِ اللهِ، فَإذا عَلَى الْمَائِدَةِ سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ لاَ شَوْكَ فِيهَا، وَالْوَدَكُ يَسِيلُ مِنْهَا، وَالْخَلُّ عِنْدَ رَأْسِهَا، وَالْمِلْحُ عَنْدَ ذنَبهَا، وَعَلَيْهَا أرْبَعَةُ أرْغِفَةٍ، وَعَلَيْهَا الْبَقُولُ إلاَّ الكُرَّاثُ - قالَ عطيَّةُ :(كَانَ فِي السَّمَكَةِ طَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ).
فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى : كُلُوا مِنْ رزْقِ رَبكُمْ، فَأَكَلُواْ مِنْهَا، وَرَجَعَتِ الْمَائِدَةُ كَمَا كَانَتْ، فَلَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ إلَى قَرَارِهِمْ، وَبَشَّرُوا هَذا الْحَدِيثَ لِسَائِرِ النَّاسِ، ضَحِكَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ، وَقَالَ : وَيْحَكُمْ! إنَّهُ قَدْ سَحَرَ أعْيُنَكُمْ وَأخَذ بقُلُوبكُمْ. فَمَنْ أرَادَ اللهُ بهِ الخَيْرَ ثبَّتَهُ عَلى الصَّبْرِ، وَمَنْ أرَادَ فِتْنَتَهُ رَجَعَ إلَى كُفْرِهِ، فَلَعَنَهُم عِيْسَى فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ، ثُمَّ أصْبَحُوا خَنَازيرَ يَنْظُرُ النَّاسُ إلَيْهِمْ، الذكَرُ ذكَرٌ وَالأُنْثَى أنْثَى وَيَلْعَنُوهُمْ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُواْ، وَلَمْ يَتَوَالَدُواْ وَلاَ طَعِمُواْ وَلاَ شَرِبُواْ).
وقال بعضُهم : لَمَّا دعَا عيسى ربَّهُ أن يُنزِّلَ عليهم مائدةً من السَّماء، أقبَلت الملائكةُ بمائدةٍ يحملونَها، عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحْوَاتٍ حتى وضَعُوها بين أيديهم، فأكلَ منها آخرُهم كما أكلَ أوَّلُهم.
وقال السديُّ وقطرب :(إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِعِيسَى عليه السلام هَذا الْقَوْلَ حِينَ رَفَعَهُ)، واحتجَّا بقولهِ :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ﴾[المائدة : ١١٨]، ولا خلافَ أنَّ الله لا يَغفِرُ لِمُشرِكٍ ماتَ على شِركهِ، وإنما معنى الآية : وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بتَوْبَتِهِمْ.
وقال أكثرُ المفسِّرين : إنَّما يقولُ الله تعالى هذه المقالةَ يوم القيامةِ، بدليلِ ما ذكَرنا من قولهِ :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ﴾[المائدة : ١٠٩]، ﴿ يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾[المائدة : ١١٩]، فإن قالوا (إذْ) للماضي، قُلنا قد تكون بمعنى (إذا) كقوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾[سبأ : ٥١] أي إذا فَزِعوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ﴾ يعني أأنتَ قُلتَ لَهم في الدُّنيا :﴿ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ ؟ فإنْ قيلَ : ما وجهُ سؤالِ الله تعالى لعيسَى مع علمهِ بأنه لم يقُلْ ؟ قِيْلَ : ذلكَ توبيخٌ لقومِ عيسى وتحذيرٌ لهم عن هذه المقالةِ. وَقِيْلَ : أرادَ الله بذلك أن يُقِرَّ عيسَى بالعبوديَّة على نفسهِ، فيظهرُ منه تكذيبُهم بذلك، فيكون حجَّةً عليهم.
قال أبو رَوْقٍ وميسرةَ :(إذْ قَالَ اللهُ لِعِيسَى عليه السلام : أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ؟ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ، وَانْفَجَرَتْ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ عَيْنٌ مِنَ الدَّمِ).
ثُمَّ يَقُولُ عِيسَى عليه السلام مُجيباً اللهَ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ ؛ أي تَنزيهاً لكَ يا رب، ما ينبغِي لي أن أدَّعي شيئاً لستُ بجديرٍ له، ﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ﴾ ؛ عندي وما في ضَمِيري، وما كان منِّي في الدُّنيا، ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ ؛ غَيبكَ، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ ؛ لا يعلمُ الغيبَ أحدٌ غيرُكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : تعلمُ ما أريدُ، ولا أعلمُ ما تريدُ، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ أي ما كانَ وما يكون.
وأمَّا ذِكْرُ النفسِ في قوله :﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ فعلى من أوجُه الكلامِ : بأن الغيبَ من اللهِ تعالى في حُكمِ الضميرِ من الآدميِّين، والنَّفْسُ في كلامِ العرب على ضُروب ؛ تُذكَرُ ويرادُ بها ذاتُ الشيءِ، كما يقالُ : جاءَني زيدٌ نفسُه ؛ أي ذاتهُ، وقتَلَ فلانٌ نفسَهُ، وأهلَكَ فلان نفسَهُ، ويرادُ بذلك الذاتُ بكمالِها.
وذهبَ بعضُ المفسرين إلى أن معنى قولهِ :﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ﴾ أمَتَّني، وقالوا : إنَّ عيسى ليس بحيٍّ في السَّماء. إلاّ أنَّ القولَ الأولَ أشهرُ، ويحتمل أنَّ الله تعالى أمَاتَهُ، ثم أحياهُ ورفعَهُ إلى السَّماء.
وقال الحسن :(الْوَفَاةُ فِي كِتَاب اللهِ تَعَالَى عَلَى ثَلاَثَةِ أوْجُهٍ : وَفَاةُ الْمَوْتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا ﴾[الزمر : ٤٢]، وَوَفَاةُ النَّوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ﴾[الأنعام : ٦٠] أيْ يُنِيمُكُمْ، وَوَفَاةُ الرَّفْعِ كَقَوْلِهِ :﴿ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾[آل عمران : ٥٥].
عن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في معنى هذه الآيةِ :(وَإنْ تُعَذِّبْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي أجْزَمُوهَا فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإنْ يَتُوبُوا فَتَغْفِرَ لَهُمْ). قولهُ :﴿ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، أي المنيعُ في مغفرتِكَ لهم لا يمنعُكَ أحدٌ مما تريدُ، الحكيمُ في أمرِكَ.
فإنْ قيلَ : ظاهرُ الآية يقتضي سؤالَ المغفرةِ للكفَّار، واللهُ لا يغفِرُ أن يُشركَ به، فما معنى هذا السؤالِ ؟ قِيْلَ : يحتملُ أنه لم يكن في كتابهِ : إنَّ الله لا يغفرُ أن يُشركَ بهِ، ويحتملُ أن يكون معناهُ : إنْ تغفِرْ لهم كَذِبَهم الذي قالوا عليَّ.
وَقِيْلَ : إنَّ عيسى عَلِمَ أنه منهم مَن آمنَ، ومنهم من أقامَ على الكفرِ، فكأنه قالَ : إن تعذِّب الكفارَ منهم فإنَّهم عبادُكَ، وأنت القادرُ عليهم، وإنْ تغفِرْ لِمَن تابَ منهم فذلك تفضُّلٌ منكَ ؛ لأنه كان لكَ أن لا تفعلَ ذلك بهم بعد عظيمِ فِريَتِهم عليكَ، وكان هذا القولُ من عيسَى عليه السلام على وجهِ الخضوع والانقيادِ والاستسلام على معنى أنَّكَ أنتَ المالكُ والقادر على كلِّ شيء، فلذلك قالَ :﴿ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ولو كان قالَ : فإنك أنتَ الغفورُ الرحيم، لأوْهَمَ الدعاءُ بطلب المغفرة والرحمةِ.
ورُوي : أنه لَمَّا نزَلت هذه الآيةُ، " أحْيَا رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلَتَهُ بهَا، وَكَانَ بهَا يَقُومُ وَبهَا يَقْعُدُ وَبهَا يَسْجُدُ، ثُمَّ قَالَ :" أمَّتِي أمَّتِي يَا رَب "، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ : إنَّ اللهَ تَعَالَى يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَكَ :" إنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءَكَ ".
ومن قرأ (يَوْمَ) بالنصب فعلى الظرفِ، على معنى : قالَ اللهُ لعيسى هذا القولَ الذي تقدَّم ذِكرهُ في يومٍ ينفعُ الصادقين صدقُهم. وقال الكلبيُّ :(مَعْنَى الآيَةِ : قالَ اللهُ : هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الْمُؤمِنِينَ إيْمَانُهُمْ)، وَقِيْلَ : ينفعُ الصَّادقين في الدُّنيا صِدقَهم وفي الآخرةِ. وقرأ الأعمشُ (هَذَا يَوْمٌ) بالتنوينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ ؛ أي بساتينُ تجري من تحت شجرها وغُرَفها الأنهارُ، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ ؛ أي إلى الأبدِ، ﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ ؛ بإيمانِهم وطاعتهم، ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ ؛ بإكرامِهم في الجنَّة النجاةَ الوافرة. وحقيقةُُ الفوز نيلُ المرادِ. قوله عزّ وَجَلَّ :﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ أي بما أكرمهم به من الثواب، ﴿ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ أي ذلكَ الثوابُ والخلود في الجنَّة النجاةُ الوافرة، وحقيقةُ الفوز نيلُ المرادِ.
والغرضُ من هذه الآيةِ نفيُ الربُّوبية عن عيسَى عليه السلام، وبيانُ أنَّ الله تعالى هو المستحقُّ للعبادةِ دونَ غيره، فإنه هو القادرُ على كلِّ شيءٍ من الجزاء ؛ تَرغيباً في الطاعةِ ؛ وتَحذيراً عن المعصيةِ.
وعن أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قَالَ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْمَائِدَةِ أعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ كُلِّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ "