ﰡ
فالإثم : ما كان محرم الجنس، كالكذب والزنا، وشرب الخمر، ونحو ذلك.
والعدوان : ما كان محرم القدر والزيادة. فالعدوان تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه، إما بأن يتعدى على ماله، أو بدنه، أو عرضه. فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره. وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه. وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها، فهذا كله عدوان وتعد للعدل.
وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين، وإضافة الدين إليهم إذ هم القائمون به المقيمون له، وأضاف النعمة إليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم، فهي نعمته حقا، وهم قابلوها.
وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص، وأنه شيء خصوا به دون الأمم وفي إتمام النعمة ب «على » المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة فجاء ب ﴿ أتممت ﴾ في مقابلة ﴿ أكملت ﴾ و﴿ عليكم ﴾ في مقابلة ﴿ لكم ﴾ و﴿ نعمتي ﴾ في مقابلة ﴿ دينكم ﴾ وأكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله :﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾.
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته، فكما قال تعالى :﴿ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ﴾ [ المائدة : ٤١ ] وقال :﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ﴾ [ السجدة : ١٣ ] ﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ﴾ [ يونس : ٩٩ ] وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده، كما أن مشيئته تستلزم وجوده، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده، وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاءون إلا بعد مشيئته، ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته فقال :﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ﴾ [ الإنسان : ٣٠. – التكوير : ٢٩ ] وقال :﴿ وما يذكرون إلا أن يشاء الله ﴾ [ المدثر : ٥٦ ].
فإن قيل : فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله ؟
قيل : إن أريد بكونه مقدورا : سلامة آله البد التي يتمكن بها من الفعل، وصحة أعضائه، ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له، فنعم، هو مقدور بهذا الاعتبار، وإن أريد بكونه مقدورا : القدرة المقارنة للفعل، وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل، فليس بمقدور بهذا الاعتبار.
[ أنواع القدرة ]
وتقرير ذلك : أن القدرة نوعان :
قدرة مصححة وهي : قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة، وهي مناط التكليف. وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له.
وقدرة مقارنة للفعل، مستلزمة له، لا يتخلف الفعل عنها. وهذه ليست شرطا في التكليف، فلا يتوقف صحته وحسنه عليها، فإيمان من لم يشأ الله إيمانه، وطاعة من لم يشأ طاعته : مقدور بالاعتبار الأول، غير مقدور بالاعتبار الثاني.
وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
فإذا قيل : هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان، أم لم يخلق له قدرة ؟
قيل : خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل، هي مناط الأمر والنهي.
ولم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له، لا يتخلف عنها. فهذه فضله يؤتيه من يشاء، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.
فإن قيل : فهل يمكنه الفعل ولم يخلق له هذه القدرة ؟
قيل : هذا هو السؤال السابق بعينة. وقد عرفت جوابه : وبالله التوفيق.
النعمة نعمتان :( نعمة مطلقة، ونعمة مقيدة ) :
فالنعمة المطلقة : هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها، ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى، حيث يقول تعالى :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا ﴾ [ النساء : ٢٩ ] فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول الله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ فأضاف الدين إليهم، إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم.
و«الدين » تارة يضاف إلى العبد، وتارة يضاف إلى الرب، فيقال : الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه، ولهذا يقال في الدعاء :«اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء ».
ونسب الكمال إلى الدين، والتمام إلى النعمة، مع إضافتها إليه ؛ لأنه هو وليها ومسديها إليهم. وهم محل محض النعمة قابلين لها، ولهذا يقال في الدعاء، المأثور للمسلمين :«واجعلهم مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها عليهم ».
وأما «الدين » فلما كانوا هم القائمين به، الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم، فقال :﴿ أكملت لكم دينكم ﴾ وكان الإكمال في جانب الدين والإتمام في جانب النعمة.
واللفظتان - وإن تقاربتا وتواخيتا - فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل.
فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني، ويطلق على الأعيان والذوات، ولكن باعتبار صفاتها وخواصها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :«كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد ».
وقال عمر بن عبد العزيز :«إن للإيمان حدودا وفرائض، وسننا وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ».
وأما «التمام » فيكون في الأعيان والمعاني، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان.
وأما «دينه » فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه، فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن، كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن.
والمقصود : أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة، وهي التي اختصت بالمؤمنين. وإذا قيل : ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح.
والنعمة الثانية : النعمة المقيدة : كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وتبسط الجاه، وكثرة الولد والزوجة الحسنة، وأمثال هذه. فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر، والمؤمن والكافر.
وإذا قيل : لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار، فهو حق.
فلا يصح إطلاق السلب والإيجاب إلا على وجه واحد، وهو أن النعمة المقيدة لما كانت استدراجا للكافر، ومآلها إلى العذاب والشقاء، فكأنها لم تكن نعمة، وإنما كانت بلية، كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك. فقال تعالى :﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا ﴾ [ الفجر : ١٥. ١٧ ] أي : ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه، وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبارا، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضلة، أكون قد أهنته، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب.
فإن قيل : كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله :﴿ فأكرمه ﴾ فأثبت له الإكرام، ثم أنكر عليه قوله ﴿ ربي أكرمن ﴾ وقال :﴿ كلا ﴾ أي ليس ذلك إكراما مني [ وإنما ] هو ابتلاء، فكأنه أثبت له الإكرام ونفاه.
قيل : الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي، وهما من جنس النعمة المطلقة والمقيدة، فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق.
وكذلك أيضا إذا قيل : إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة، ولكنه رد نعمة الله وبدلها، فهو بمنزلة من أعطى ما لا ليعيش به فرماه في البحر، كما قال :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] وقال تعالى :﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ [ فصلت : ١٧ ]. فهدايته إياهم نعمة منه عليهم، فبدلوا نعمة الله، وآثروا عليها الضلال.
فهذا فصل النزاع في مسألة : هل لله على الكافر نعمة أم لا ؟
وأكثر اختلاف الناس من جهتين :
إحداهما : اشتراك الألفاظ وإجمالها.
والثانية : من جهة الإطلاق والتفصيل.