قال المهايمي سميت به لتضمنها غاية تعظيم ذلك اليوم، من لا يتناهى ثوابه وعقابه، بحيث تتحسر في كل نفس من تقصيرها وإن عملت ما عملت.
وهي مكية وآيها أربعون.
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القيامةقال المهايمي: سميت به لتضمنها غاية تعظيم ذلك اليوم، من لا يتناهى ثوابه وعقابه، بحيث تتحسّر فيه كل نفس من تقصيرها، وإن عملت ما عملت.
وهي مكية. وآيها أربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢)لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال القاشاني: جمع بين القيامة والنفس اللوامة، في القسم بهما، تعظيما لشأنهما، وتناسبا بينهما. إذ النفس اللوامة، هي المصدقة بها، المقرة بوقوعها، المهيئة لأسبابها، لأنها تلوم نفسها أبدا في التقصير، والتقاعد عن الخيرات، وإن أحسنت، لحرصها على الزيادة في الخير، وأعمال البر، تيقنا بالجزاء، فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت منها بادرة غفلة ونسيانا.
ومر الكلام على لا أُقْسِمُ في مواقعه قبل هذا فتذكر. وحذف جواب القسم لدلالة قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣ الى ٤]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ عليه، وهو لتبعثنّ. قال القاشانيّ: المراد بالقيامة، هاهنا، الصغرى، لهذه الدلالة بعينها.
بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي بلى! نجمع عظامه، قادرين تسوية بنانه التي هي أطراف خلقته وتمامها، على صغرها ولطافتها، وضم بعضها إلى بعض، فكيف بكبار العظام؟!
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي ليدوم على الفجور، فيما يستقبله من الزمان، ولا يثنيه عنه شيء، ولا يتوب منه أبدا.
قال الشهاب: أَمامَهُ ظرف مكان، استعير هنا للزمان المستقبل، فيفيد الاستمرار والضمير للإنسان، أو ليوم القيامة. وقيل الدوام والاستمرار، لأنه خبر عن حال الفاجر، بأنه يريد ليفجر في المستقبل. على أن إرادته وحسبانه هما عين الفجور. وفي إعادة المظهر ما لا يخفى من التهديد ونعي قبيح ما ارتكبه، وأن الإنسانية تأباه. وقيل: حمله على الاستمرار ليصح الإضراب، ويصير المعنى بل يريد الإنسان أن يستمر على فجوره، ولا يتوب، فلذا أنكر البعث.
وقال القاشانيّ: أي ليدوم على الفجور بالميل إلى اللذات البدنية، والشهوات البهيمية، غارزا رأسه فيها، فيما بين يده من الزمان الحاضر والمستقبل، فيغفل عن القيامة لقصور نظره عنها، وكونه مقصورا على اللذات العاجلة، وفرط تهالكه عليها، واحتجابه بها عن الآجلة، سائلا عنها، متعنتا مستبعدا إياها، كما قال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٦ الى ١٣]
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)
كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي متى يكون؟ استبعادا وهزؤا. والجملة استئناف أو حال أو تفسير لقوله (يفجر)، أو بدل منه والاستئناف بيانيّ، كأنه قيل: لم يريد الدوام على الفجور؟ قيل: لأنه أنكر البعث واستهزأ به فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أي تحير ودهش. أي لما أتى من أمر الله. قال مجاهد: أي عند الموت. وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي ذهب ضوؤه وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أي جمع بينهما في ذهاب الضوء، فلا ضوء لواحد منهما. وقيل: إنها يجمعان ثم يكوران، كما قال جل ثناؤه إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: ١]، قال ابن زيد: جمعا فرمي بهما في الأرض. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أي الفرار. أي يطلب مهربا ومحيصا لدهشته، أو يقول قول الآيس لعلمه بأنه لا قرار حينئذ. كَلَّا ردع له عن طلب المفر، لا وَزَرَ أي لا ملجأ.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي مستقر العباد، من نار أو جنة. أي مفرض إليه لا إليه لا إلى غيره مستقرهم، أو استقرار أمرهم، والحكم فيهم يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ
أي
أي منه ففرط وقصر فيه ولم يعمله.
قال الشهاب: بِما قَدَّمَ
كناية عما عمل، وما أَخَّرَ
ما تركه ولم يعمله.
وهو مجاز مشهور فيما ذكر. أو ما قدمه، ما عمله، وما أخره، عمل من اقتدى به بعده عملا له، كأنه وقع منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
قال القاشاني: أي حجة بينة، يشهد بعمله، لبقاء هيئات أعماله المكتوبة عليه في نفسه، ورسوخها في ذاته، وصيرورة صفاته صور أعضائه، فلا حاجة إلى أن ينبأ من خارج.
قال الشهاب: بَصِيرَةٌ
مجاز عن الحجة الظاهرة. أو بَصِيرَةٌ
بمعنى بينة، وهي صفة لحجة مقدرة. وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها يبصر بها، فالإسناد مجازيّ.
أو هي بمعنى دالة مجازا. أو هو استعارة مكنية وتخييلية. والْإِنْسانُ
مبتدأ، وبَصِيرَةٌ
خبره، وعَلى
متعلق به. والتأنيث للمبالغة، أو لكونه صفة (حجة).
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي ولو ألقى أعذاره مجادلا عن نفسه بكل معذرة. وفيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك وعبادة الأوثان، وإنكار البعث، منكر باطل، تنكره قلوبهم، وأنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل. ولا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة، والدين دين الفطرة.
قال الشهاب: شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستقاء به، فيكون فيه تشبيه لذلك بالماء المرويّ للعطش.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٦ الى ١٩]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي، لتأخذه على عجلة، مخافة أن يتفلت منك. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أي في صدرك، وإثبات حفظه في قلبك، بحيث لا يذهب عليك منه شيء. وَقُرْآنَهُ
أي أن تقرأه بعد فلا تنسى فَإِذا قَرَأْناهُ
أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام،
أي كن مقفيا له ولا تراسله. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان ما فيه، إذا أشكل عليك شيء من معانيه، أو أن نبيّنه على لسانك.
تنبيهات:
الأول- ما ذكرناه في تأويل الآية هو المأثور في الصحيحين وغيرهما.
ولفظ البخاري «١» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ يحرّك شفتيه إذا أنزل عليه، فقيل له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
يخشى أن يتفلت منه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أن نجمعه في صدرك وَقُرْآنَهُ
أن تقرأه فَإِذا قَرَأْناهُ
يقول أنزل عليه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
أن نبيّنه على لسانك. زاد في رواية: فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك، إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النبيّ ﷺ كما قرأه.
قال ابن زيد: أي لا تكلم بالذي أوحينا إليك، حتى يقضى إليك وحيه، فإذا قضينا إليك وحيه، فتكلم به. يعني: أن هذه الآية نظير قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤].
قال ابن كثير: وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد أن هذه الآية نزلت في ذلك، وأنها تعليم من الله عزّ وجلّ لرسوله، كيفية تلقيه الوحي.
الثاني- ذكروا في مناسبة وقوع الآية معترضة في أحوال القيامة- على تأويلهم المتقدم- وجوها:
منها- تأكيد التوبيخ على ما جبل عليه الإنسان- والمرء مفتون بحب العاجل- حتى جعل مخلوقا من عجل. ومن محبة العاجل، وإيثاره على الآجل، تقديم الدنيا الحاضرة على الآخرة، الذي هو منشأ الكفر والعناد، المؤدي إلى إنكار الحشر والمعاد. فالنهي عن العجلة في هذا يقتضي النهي فيما عداه، على آكد وجه. وهذه مناسبة تامة بين ما اعترض فيه وبينه. قاله الشهاب.
ومنها- أن عادة القرآن، إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد، حيث يعرض يوم القيامة، أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملا وتركا، كما قال في الكهف: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف: ٤٩]، إلى أن قال:
ومنها- أن أول السورة لما نزل إلى قوله: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
صادف أنه ﷺ في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل، وحرّك به لسانه من عجلته خشية من تفلته، فنزلت لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلى قوله: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدأ به.
قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرس على الطالب مثلا مسألة، فتشاغل الطالب بشيء عرض له فقال له: ألق إليّ بالك، وتفهّم ما أقول. ثم كمل المسألة فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسبا للمسألة، بخلاف من عرف ذلك- قاله الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) -.
الثالث- استدلوا على التأويل السابق بقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو مذهب الجمهور لما تقتضيه ثُمَّ من التراخي. وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب، وتبعوه.
وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له، وظهوره على لسان، فلا!.
قال الآمدي: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار، لا بيان المجمل. يقال (بان الكوكب إذا ظهر) قال: ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص بالأمر المذكور دون بعض.
وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يراد البيان التفصيلي، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي، فلا يتم الاستدلال. وتعقب باحتمال إرادة المعنيين: الإظهار والتفصيل وغير ذلك، لأن قوله بَيانَهُ جنس مضاف، فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك- قاله الحافظ في (الفتح) -.
وجوز القفال أن تكون ثُمَّ للترتيب في الإخبار. أي ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه، فلا تدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. وضعفه الرازي بأنه ترك للظاهر من غير دليل.
الرابع- ما قدمناه من معنى قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ، وما استفيد
ليس خطابا مع الرسول ﷺ بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: ١٣]، فكان ذلك حال ما ينبأ بقبائح أفعاله، وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: ١٤]. فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف، وسرعة القراءة، فيقال له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
فإنه يجب علينا بحكم الوعد، أو بحكم الحكمة، أن نجمع أعمالك عليك، وأن نقرأها عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه، بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال. ثم إن علينا بيان أمره، وشرح مراتب عقوبته.
وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية: أن المراد منه أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله، على سبيل التفصيل. وفيه أشد الوعيد في الدنيا، وأشد التهويل في الآخرة.
ثم قال القفّال: فهذا وجه حسن، ليس في العقل ما يدفعه، وإن كانت الآثار غير واردة به. انتهى.
ونقل الشهاب أن بعضهم ارتضى هذا الوجه، وقدمه على الوجه السابق.
وزعم الحافظ ابن حجر أن الحامل على هذا الوجه الأخير هو عسر بيان المناسبة بين هذه الآية وما قبلها من أحوال القيامة. أي ولما بيّن الأئمة المناسبة التي أثرناها عنهم، لم يبق وجه للذهاب إلى هذا الوجه الأخير، مع أن هذا الوجه- هو فيما يظهر- فيه غاية القوة والارتباط به قبله وما بعده، مما يؤثره على المأثور، الذي قد يكون مدركه الاجتهاد، والوقوف مع ظاهر ألفاظ الآية. ومما يؤيده ما أورد عليه أن ابن عباس لم ير النبيّ ﷺ في تلك الحال، لأن الظاهر أن ذلك كان في مبدأ البعث النبوي، ولم يكن ابن عباس ولد حينئذ. ولا مانع- كما قال ابن حجر- أن يخبر النبيّ ﷺ بذلك بعد، فيراه ابن عباس، أو يخبر به، فيكون من مراسيل الصحابة- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٥]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا العاجلة، بإيثار شهواتها. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ أي بلغت النفس أعالي الصدر. وإضمارها، وإن لم يجر لها ذكر، لدلالة السياق عليها، كقول حاتم:
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى | إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر |
ورب عظيمة دافعت عنها | وقد بلغت نفوسهم التّراقي |
قال ابن جرير: أي وقال أهله: من ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به، وطلبوا له الأطباء والمداوين، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل به شيئا. أي فالاستفهام بمعنى الطلب لراق أو طبيب. وجوز كونه بمعنى الإنكار، يأسا من أن يقدر أحد على نفعه برقية أو عوذة.
لطيفة:
قال الواحدي: إن إظهار النون عند حروف الفم لحن. فلا يجوز إظهار نون مَنْ
في قوله: مَنْ راقٍ
. وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله: مَنْ راقٍ
وبَلْ رانَ قال أبو علي الفارسي: ولا أعرف وجه ذلك. قال الواحدي:
وبَلْ فأظهرهما. ثم ابتدأ بما بعدهما.
وهذا غير مرضي من القراءة. انتهى.
نقله الرازي.
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي وأيقن الذي قد نزل ذلك به، أنه فراق الدنيا والأهل والمال. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التوت ساقه بساقه، فلا يقدر على تحريكها.
وقيل: هما ساقاه، إذا التفتا في الكفن. وقيل: الساق عبارة عن الشدة، كما مر في سورة (القلم). والتعريف للعهد أيضا.
قال الشهاب: فإن قلت: ما مرّ هو الكشف عن الساق، ووجه ظاهر، لأن المصاب يكشف عن ساقه، فكيف ينزل هذا عليه؟
قلت: الأمر كما ذكرت، لكنه شاع فيه، ففهم ذلك من الساق وحده، حتى صار عبارة عن كل أمر فظيع- كما أشار إليه الراغب- انتهى.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي سوقه إلى حكمه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣١ الى ٤٠]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
فَلا صَدَّقَ أي بالدين والكتاب. أو صدق ماله، أي ما زكاه وَلا صَلَّى أي الصلاة التي هي رأس العبادات، التي سها عنها. وَلكِنْ كَذَّبَ أي بدل التصديق وَتَوَلَّى أي بدل الصلاة التي بها كمال التوجه إلى الله تعالى: ثُمَّ أي مع هذه التقصيرات في جنب الله تعالى: ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي يتبختر في مشيته.
وأصله (يتمطط) أي يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه.
تنبيهات:
الأول- الضمير في الآيات للإنسان المتقدم في قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.
الثاني- قال الرازي: إنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه، وفيما يتعلق بدنياه. أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين،
وأما ما يتعلق بدنياه، فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى ويختال في مشيته.
الثالث- دلت الآية على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة، كما يستحقهما بترك الإيمان.
الرابع- قال الرازي: قال أهل العربية: (لا) هاهنا في موضع (لم) فقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى أي لم يصدق ولم يصلّ، وهو كقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: ١١]، أي لم يقتحم.
وكذلك ما روي «١» : أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا استهل. قال الكسائيّ: لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها، حتى تتبعها بأخرى، إما مصرحا بها، أو مقدرا. أما المصرح، فلا يقولون لا عبد الله خارج، حتى يقولوا ولا فلان، ولا يقولون مررت برجل لا يحسن، حتى يقولوا ولا يجمل. وأما المقدر فهو كقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: ١١]، ثم اعترض الكلام فقال: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ، وكان التقدير: لا فك رقبة ولا أطعم مسكينا، فاكتفى به مرة واحدة. ومنهم من قال: التقدير في قوله: فَلَا اقْتَحَمَ أي أفلا اقتحم، وهلا اقتحم. انتهى. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي ويل لك مرة بعد مرة. دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه وأذلاء متكررا متضاعفا.
وقيل: المعنى بعدا لك. فبعدا في أمر دنياك، وبعدا لك فبعدا في أمر أخراك- حكاه الرازي عن القاضي- ثم قال: قال القفال: هذا يحتمل وجوها.
أحدها- أنه وعيد مبتدأ من الله للكافر.
والثاني- أنه شيء قاله النبيّ ﷺ لعدوه- يعني أبا جهل- فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه، فأنزل الله تعالى مثل ذلك.
والثالث- أن يكون ذلك أمرا من الله لنبيه بأن يقولها لعدو الله، فيكون المعنى: ثم ذهب إلى أهله يتمطى، فقل له يا محمد: أولى لك فأولى، أي احذر،
أخرجه البخاري في صحيحه في: الطب، ٤٦- الكهانة، حديث رقم ٢٢٦٩، عن أبي هريرة، ونصه: أن رسول الله ﷺ قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها. فاختصموا إلى النبي ﷺ فقضى أن دية ما في بطنها غرة: عبد أو أمة. فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلّ، ومثل ذلك بطل؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهّان
.
لطيفة:
تفسير أَوْلى لَكَ ب (ويل لك) قال الشهاب: هو محصل معناه المراد منه، فإنه مثله، فيرد للدعاء عليه، أو للتهديد والوعيد.
وعن الأصمعي أنها تكون للتحسر على أمر فات.
هذا هو المعنى المراد بها. وأما الكلام في لفظها فقيل: هو فعل ماض دعائي من (الولي) واللام مزيدة. أي أولاك الله ما تكرهه. أو غير مزيدة، أي أدنى الهلاك لك. وقريب منه قول الأصمعي: إن معناه قاربه ما يهلكه أن ينزل به. واستحسنه ثعلب.
وقيل: إنه اسم وزنه (أفعل) من الويل، فقلب. وقيل فعلى، ولذا لم ينون.
ومعناه ما ذكر، وألفه للإلحاق لا للتأنيث. وعلى الاسمية هو مبتدأ، و (لك) الخبر.
وقيل: إنه اسم فعل مبنيّ، ومعناه وليك شر بعد شر.
ونقل الزمخشري عن أبي عليّ أنه علم لمعنى الويل، وهو غير منصرف للعلمية ووزن الفعل. وقيل عليه: إن الويل غير متصرف، ومثل (يوم أيوم) غير منقاس، ولا يفرد عن الموصوف. وادعاء القلب من غير دليل، لا يسمع، وعلم الجنس خارج عن القياس. فما ذكر بعيد من وجوه عدة. وقيل: الأحسن أنه أفعل تفضيل خبر لمبتدأ يقدر كما يليق بمقامه. فالتقدير هنا: النار أولى لك. يعني: أنت أحق بها، وأهل لها. انتهى.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي: هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يجازى، مع أنه الإنسان الذي أودع العقل وعلّم البيان، وغرز في طبعه أن يعيش مجتمعا، وخص من المواهب ما فضل على غيره. فمن تمام الإحسان إليه إنقاذه من حيرته، وإعلامه بسبيل هدايته، وأن لا يترك خابطا في متائه جهالته، وقد كان ذلك بفضل الله ونعمته، كما أشار لذلك بقوله:
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي يصبّ في الرحم.
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي دما فَخَلَقَ أي قدّر أعضاءه فَسَوَّى أي سوى تلك الأعضاء لأعمالها وعدّلها.
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي فيوجدهم بعد مماتهم لعمارة الآخرة.
وقد روي أن النبيّ ﷺ كان إذا قرأها قال: سبحانك، فبلى- رواه أبو داود عن رجل من الصحابة.
ورواه أيضا عن أبي هريرة بلفظ: من قرأ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فليقل: بلى. ورواه الإمام أحمد والترمذي
أيضا- والله أعلم-.