تفسير سورة الإنسان

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٧٦) سورة الإنسان مدنية وآياتها احدى وثلاثون
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١ الى ١٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢)
310
اللغة:
(أَمْشاجٍ) أخلاط أي من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين، ووقع الجمع صفة لمفرد أي لنطفة لأنه في معنى الجمع أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك فوصف بالجمع وفي المختار: «مشج بينهما خلط وبابه ضرب والشيء مشيج والجمع أمشاج كيتيم وأيتام ويقال نطفة أمشاج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها» وعبارة الزمخشري: «نطفة أمشاج كبرمة أعشار وبرد أكباش وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ويقال أيضا نطفة مشج قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهين
ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيرا له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما ومشجه ومزجه بمعنى، والمعنى: من نطفة امتزج فيها الماءان»
.
(كافُوراً) الكافور: نبت طيب وكأن اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء براحته والكافور أيضا كمام الشجر التي تغطي ثمرتها.
(مُسْتَطِيراً) : فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ من استطار الحريق واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر يقال: استطار يستطير استطارة فهو مستطير وهو استفعل من الطيران وقال الفراء: «المستطير:
المستطيل»
كأنه يريد أنه مثله في المعنى إلا أنه أبدل من اللام راءه، والفجر فجران مستطيل كذنب السرحان وهو الكاذب ومستطير وهو الصادق لانتشاره في الأفق.
(قَمْطَرِيراً) القمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه قال الزجّاج: يقال قمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزقت
311
بأنفها فاشتقته من القطر وجعل الميم زائدة، وقال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كل يوم باسل الشر قمطرير الصباح
وفي القاموس: «ويوم قماطر كعلابط وقمطرير شديد واقمطرّ اشتد».
الإعراب:
(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في هل وجهان: أحدهما هي بمعنى قد والثاني هي استفهام على بابها والاستفهام هنا للتقرير وللتوبيخ. وعبارة السمين: «في هل هذه وجهان: أحدهما أنها على بابها من الاستفهام المحض وقال مكّي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير: وهو تقرير لمن أنكر البعث فلا بدّ أن يقول نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه فيقال له: من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه كيف يمتنع عليه بعثه وإحياؤه بعد موته؟ وهو معنى قوله: ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أي فهلّا تذكرون فتعلمون أن من أنشأ شيئا بعد أن لم يكن قادرا على إعادته بعد موته وعدمه فقد جعلها للاستفهام التقريري لا للاستفهام المحض وهذا هو الذي يجب أن يكون لأن الاستفهام لا يرد من الله تعالى ألا على هذا النحو وما أشبهه، الثاني أنها بمعنى قد». أما الزمخشري فقال: «هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قوله: «أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم» فالمعنى قد أتى على التقرير والتقريب جميعا أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب» أما شطر البيت الذي أورده الزمخشري فهو عجز البيت:
312
والبيت لزيد الخيل الذي سمّاه النبي صلّى الله عليه وسلم زيد الخير، وسائل فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال لتتيقن حقيقة الحال ويربوع أبو حي، والباء بمعنى عن أي سلهم عن قوتنا والأصل في الاستفهام الهمزة ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام وأصل هل بمعنى قد لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال والاستفهام هنا للتقرير. وأتى فعل ماض وعلى الإنسان متعلقان بأتى وحين فاعل ومن الدهر نعت لحين، وجملة لم يكن فيها وجهان أحدهما أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان أي هل أتى عليه حين في هذه الحالة والثاني أنها في موضع رفع نعتا لحين بعد نعت وعلى هذا فالعائد محذوف تقديره حين لم يكن فيه شيئا مذكورا والأول أرجح، وعبارة الزمخشري «فإن قلت: ما محل لم يكن شيئا مذكورا قلت محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين كقوله يوما لا يجزي والد عن ولده» ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وشيئا خبرها ومذكورا نعت لشيئا (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية خلق الإنسان وإن واسمها وجملة خلقنا الإنسان خبرها ومن نطفة متعلقان بخلقنا وأمشاج نعت لنطفة، وقد تقدم في باب اللغة سر وقوع الجمع صفة لمفرد على أن أبا البقاء أجاز أن تكون بدلا من نطفة، وجملة نبتليه فيها وجهان أحدهما أنها حال من فاعل خلقنا أي خلقناه حال كوننا مبتلين له والثاني أنها حال من الإنسان وصحّ ذلك لأن في الجملة ضميرين كلّ منهما يعود على ذي الحال ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى نبتليه بتصريفه في بطن أمه نطفة ثم علقة وأن تكون مقدّرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلّف (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً
313
بَصِيراً)
الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وسميعا بصيرا مفعول به ثان، وقد نزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة لأنهما كناية عن التمييز والفهم إذ آلتهما سبب لذلك وهما أشرف الحواس تدرك بهما أعظم المدركات أي جعلناه بسبب الابتلاء حين تأهله له سميعا بصيرا ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات فالعطف على إرادة الابتلاء لا الابتلاء فيه فلا يرد السؤال الآتي: كيف عطف على نبتليه ما بعده بالفاء مع أن الابتلاء متأخر عنه (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الجملة تعليل للابتلاء وإن واسمها وجملة هديناه من الفعل والفاعل والمفعول خبر إنّا والسبيل مفعول به ثان أو في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بهديناه وإما حرف شرط وتفصيل وشاكرا وكفورا حالان من الهاء في هديناه أي مكّناه وأقدرناه على حالتيه جميعا أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع وكان معلوما أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة، ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله وهديناه النجدين ويكون وصف السبيل بالشكر والكفر مجازا، وسيأتي سر المخالفة بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة في باب البلاغة (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً) الجملة تعليل أيضا لأنه لما ذكر الفريقين اتبعهما الوعيد والوعد، وإن واسمها وجملة أعتدنا خبرها وللكافرين متعلقان بأعتدنا وسلاسل مفعول به ومنع من الصرف لأنه جمع على وزن مفاعل وقرئ بالصرف للمناسبة مع أغلالا وهما قراءتان سبعيتان. وعبارة أبي حيان: «وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة سلاسل ممنوع الصرف وقفا ووصلا وقيل عن حمزة وأبي عمرو الوقف بالألف وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف واختلف عنهم في الوقف وكذا عن البزّي وقرأ باقي السبعة بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وهي قراءة الأعمش، قيل: وهذا على ما حكاه
314
الأخفش من لغة من يصرف كلّ ما لا ينصرف إلا أفعل وهي لغة الشعراء ثم كثر حتى جرى في كلامهم وعلّل ذلك بأن
هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار أشبه المفرد فجرى فيه الصرف وقال بعض الرجّاز:
والصرف في الجمع أتى كثيرا... حتى ادّعى قوم به التخييرا
(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) إن واسمها وجملة يشربون خبرها ومن كأس متعلقان بيشربون ومفعول يشربون محذوف أي خمرا من كأس، والكأس الزجاجة إذا كانت فيها خمر وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال الأعشى:
وكأس شربت على لذة... وأخرى تداويت منها بها
وجملة كان مزاجها كافورا نعت لكأس وكان واسمها وخبرها (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) عينا أفاض النحاة في أوجه إعرابها والأوجه التي أوردوها تتناهى إلى السبعة ونوردها فيما يلي باختصار ثم نعمد إلى الترجيح: ١- بدل من كافورا لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرودته ٢- بدل من محل من كأس، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف قال: «كأنه قيل يشربون فيها خمرا خمر عين» وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدّرا على وجه البدل من كافورا فقال:
«والثاني بدل من كافورا أي ماء عين أو خمر عين» ٣- مفعول يشربون أي يشربون عينا من كأس ٤- النصب على الاختصاص ٥- منصوب بيشربون مقدّرا يفسّره ما بعده قاله أبو البقاء أيضا ٦- منصوب بإضمار فعل تقديره يعطون ٧- منصوب على الحال من الضمير في مزاجها قاله مكّي. ونرى أن الأول والرابع أرجح الأوجه وأدناها إلى السهولة على أن ذلك لا يمنع الاعتراف بصحة الأوجه التي أوردناها كلها. وجملة يشرب
315
صفة لعينا وبها جار ومجرور متعلقان بيشرب والضمير يعود على الكأس أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق، قال الزمخشري: «فإن قلت لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا وبحرف الإلصاق أخيرا؟
قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول شربت الماء بالعسل»
وقيل: الباء زائدة أي يشربها ويدل له قراءة يشربها معدى إلى الضمير بنفسه وإنها بمعنى من فتكون للتبعيض أثبته الأصمعي وابن مالك والفارسي والقتبي وجعلوا منه هذه الآية وقوله تعالى فامسحوا برءوسكم وعليها بنى الشافعي مذهبه في مسح بعض الرأس في الوضوء لما قام عنده من الأدلة ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال أي ممزوجة ويجوز أن يتضمن يشربون معنى يلتذون بها شاربين أو يتضمن معنى يرتوي أي يرتوي بها عباد الله. وجملة يفجرونها في موضع نصب على الحال أي يجرونها حيث شاءوا من منازلهم فهي سهلة لا تمتنع عليهم أو نعت ثان لعينا وتفجيرا مفعول مطلق (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: بم استحقوا هذا النعيم؟ فقيل يوفون، ويوفون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وبالنذر متعلقان بيوفون ويوما مفعول به وجملة كان صفة ليوم وشره اسم كان ومستطيرا خبرها (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) عطف على يوفون ويخافون، والطعام مفعول به وعلى حبه متعلقان بمحذوف حال أي محبين له وعلى بمعنى مع أي للمصاحبة وحبه مصدر أضيف للمفعول فالضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه «وآتى المال على حبه» ويصحّ رجوع الضمير لله أي على حب الله أي لوجه وابتغاء مرضاته والأول أمدح أن فيه الإيثار على النفس والطعام محبوب للفقراء والأغنياء وأما على الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر ومسكينا مفعول به ثان وما بعده عطف عليه وخصّ هؤلاء
316
بالذكر لسر يأتي في باب البلاغة (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) الجملة تعليل لبيان سبب الإطعام وإنما كافّة ومكفوفة ونطعمكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به ولوجه الله متعلقان بنطعمكم وجملة لا نريد إلخ حالية ولا نافية ونريد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومنكم متعلقان بنريد وجزاء مفعول به ولا شكورا عطف عليه (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) تعليل لقوله إنما نطعمكم وإن واسمها وجملة نخاف خبرها وفاعل نخاف ضمير مستتر تقديره نحن ومن ربنا متعلقان بنخاف ويوما مفعول به وعبوسا نعت وقمطريرا نعت ثان ليوما (فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) الفاء عاطفة لبيان السبب أي فبسبب خوفهم وقاهم الله أي دفع عنهم شرّ ذلك اليوم ووطأته، ووقاهم فعل ماض ومفعول به مقدّم والله فاعل مؤخر وشر مفعول به ثان وذلك مضاف إليه واليوم بدل من اسم الإشارة ولقاهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ونضرة مفعول به ثان وسرورا عطف على نضرة (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) وجزاهم عطف أيضا وجزاهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بجزاهم وما مصدرية أي بصبرهم وجنة مفعول به ثان وحريرا عطف على جنة.
البلاغة:
١- في قوله: «إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» لما كان الشكر قلّ من يتّصف به قال شاكرا فعبّر عنه باسم الفاعل للدلالة على قلته، ولما كان الكفر كثيرا من يتّصف به ويكثر وقوعه من الإنسان قال كفورا فعبّر عنه بصيغة المبالغة.
٢- وفي قوله: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا»
317
خصّ هؤلاء الثلاثة بالذكر لأن المسكين عاجز عن اكتساب قوته بنفسه واليتيم مات أبواه وهما اللذان يكتسبان وبقي عاجزا عن الكسب لصغره والأسير لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا نصرا ولا حيلة، قال عطاء:
نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وذلك أنه أجّر نفسه ليلة ليسقي نخلا بشيء من شعير حتى أصبح وقبض الشعير وطحنوا ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه فلما تمّ نضجه أتى مسكين فأخرجوا له الطعام ثم صنع الثلث الباقي فلما تمّ نضجه أتى يتيم فأطعموه ثم الثالث فلما تمّ نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومهم ذلك فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
٣- في قوله «إنّا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا» مجاز إسنادي وقد تقدمت له نظائر كثيرة في هذا الكتاب، لأن وصف اليوم بالعبوس مجاز كما يقال نهاره صائم وليله قائم والمراد أهلهما.
الفوائد:
١- «كان» في القرآن على خمسة أوجه:
١- بمعنى الأول والأبد نحو «وكان الله عليما حكيما».
٢- بمعنى المضي المنقطع نحو «وكان في المدينة تسعة رهط».
٣- بمعنى الحال نحو «كنتم خير أمة».
٤- بمعنى الاستقبال نحو «ويخافون يوما كان شره مستطيرا».
٥- بمعنى صار نحو «وكان من الكافرين».
٢- ولإما خمسة معان:
١- الشك نحو: جاءني إما زيد وإما عمرو إذا لم تعلم الجائي منهما.
318
٢- الإبهام نحو «وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم» أي إن الله تعالى عالم بحقيقة حالهم، وقصد الإبهام على السامع.
٣- التخيير نحو «إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا» ولا يكون إلا بعد الطلب فيقدّر في الآية والأصل: يا ذا القرنين افعل فإما أن تعذب إلخ.
٤- الإباحة نحو تعلّم إما فقها وإما نحوا.
٥- التفصيل نحو: «إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا».
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ١٣ الى ٢٢]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)
319
اللغة:
(زَمْهَرِيراً) في المختار: «الزمهرير: شدة البرد قلت: قال ثعلب الزمهرير أيضا القمر في لغة طيء وبه فسّر قوله تعالى: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا أي فيها من الضياء والنور ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر».
وعبارة أبي حيّان: «الزمهرير أشد البرد وقال ثعلب هو القمر بلغة طيء وأنشد قول الراجز:
سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما ظهر
وعبارة الزمخشري: «يعني أن هواءها معتدل لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي وفي الحديث: هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ».
(قَوارِيرَا) القارورة إناء صاف توضع فيه الأشربة قيل ويكون من الزجاج.
(زَنْجَبِيلًا) الزنجبيل قال الدينوري: نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر يؤكل رطبا وأجوده ما يحمل من بلاد الصين كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به، قال الشاعر:
كأن القرنفل والزنجبي ل باتا بفيها وأريا مشورا
وقال المسيب بن علس:
وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر
والضمير في به يعود للفم وإذ ذقته أي حين ذقت ريقه فهو مجاز
320
وسلافة الخمر أول ما يعصر من العنب وقال آخرون: الزنجبيل: نبات له عروق تسري في الأرض ويتولد فيها عقد حريفة الطعم وتتفرع هذه العروق من نبت كالقصب.
(سَلْسَبِيلًا) السلسبيل: ما سهل انحداره في الحلق وقال الزجّاج:
«هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة» وقال الزمخشري: «يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ودلّت على غاية السلاسة» وقال ابن الأعرابي:
«لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن» وقال مكّي: «هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف» ووزن سلسبيل مثل دردبيس وقيل فعفليل لأن الفاء مكررة وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث لأنها اسم لعين بعينها وعلى هذا فكيف صرفت في قراءة العامة ويجاب بأنها سمّيت بذلك لا على جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد أو يكون من باب تنوين سلاسل وقوارير كما تقدم وكما سيأتي.
(سُندُسٍ) السندس ما رقّ من الحرير ويكون أخضر وغير أخضر.
(إِسْتَبْرَقٌ) الإستبرق: ما غلظ من الديباج فهو البطائن والسندس الظهائر.
الإعراب:
(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) متكئين حال من مفعول جزاهم ووهم أبو البقاء فأجاز أن تكون صفة لجنة ولا أدري كيف سبق هذا إلى وهمه وازداد عجبي عند ما رأيت الزمخشري يجيز ذلك قال: «ويجوز أن تجعل متكئين ولا يرون ودانية كلها صفات لجنة» وذلك مردود لعدم بروز الضمير ليكون نعتا سببيا فلم
321
يقل متكئين هم فيها وفيها حال أي في الجنة وعلى الأرائك متعلقان بمتكئين وجملة لا يرون حال ثانية من مفعول جزاهم ولك أن تجعلها حالا من الضمير في متكئين فتكون حالا متداخلة كما يجوز لك أن تجعلها صفة لجنة كما قرر أبو البقاء والزمخشري وفيها متعلقان بيرون وشمسا مفعول ولا زمهريرا عطف على شمسا (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) عطف على متكئين فيكون فيها ما فيها ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم كأنه قيل وجزاهم جنة جامعين فيها بين السلامة من الحرّ والقرّ وبين دنو الظلال عليهم ولك أن تجعلها منصوبة عطفا على محل لا يرون وقال الزجّاج صفة لجنة الملفوظ بها أما أبو البقاء فأغرب إذ أعربها صفة لجنة محذوفة أي وجنة دانية وهو تكلّف وتحكم لا مبرر لهما. وعليهم متعلقان بدانية، ولا بدّ من تضمين على معنى من لأن الدنو لا يتعدى بعلى وإنما لم يقل منهم لأن الظلال عالية عليهم، والواو عاطفة وذللت فعل ماض مبني للمجهول وعطف على دانية وإنما خولف بعطف الفعلية على الاسمية للإشارة إلى أن التظليل أمر دائم لا يزول لأنها لا شمس فيها بخلاف التذليل فإنه أمر متجدد طارئ، وقطوفها نائب فاعل وتذليلا مفعول مطلق (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا) الواو عاطفة ويطاف فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان بيطاف وبآنية نائب مفعول لأنه هو المفعول به في المعنى ويجوز أن تكون عليهم هي النائبة وبآنية متعلقان بيطاف والآنية جمع إناء والأصل أأنية بهمزتين الأولى مزيدة للجمع والثانية فاء الكلمة فقلبت الثانية ألفا وجوبا وهذا نظير كساء وأكسية وغطاء وأغطية، ونظيره في الصحيح اللام حمار وأحمرة.
ومن فضة نعت لآنية وأكواب عطف على آنية من عطف الخاص على العام وجملة كانت نعت لأكواب واسم كانت مستتر يعود على الأكواب وقواريرا خبر كانت ويجوز أن تكون كانت تامة فيكون قواريرا حالا أي
322
كونت، وعبارة أبي البقاء: «ويقرأان بالتنوين وبغير التنوين والأكثرون يقفون على الأول بالألف لأنه رأس آية (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قوارير بدل من قواريرا الأولى وقد منعت من الصرف ومن فضة نعت لقوارير وجملة قدّرت نعت ثان وتقديرا مفعول مطلق وقرئ قوارير بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي قوارير ومعنى التقدير أنها هيئت على قدر ريّ الشاربين أي شهوتهم لأنه لا ظمأ في الجنة من غير زيادة ولا نقص وذلك ألذ الشراب (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) الواو عاطفة ويسقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها متعلقان بيسقون وكأسا مفعول به ثان وجملة كان صفة لكأسا ومزاجها اسم كان وزنجبيلا خبرها (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) عينا بدل من زنجبيلا وقيل تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه أو يخلق الله طعمه فيها وعينا على هذا القول مبدلة من كأسا أو منصوبة على الاختصاص ولعلّ هذا هو الأرجح وعلى كل حال تطبق عليها الأوجه المطبقة على عينا الأولى وفيها نعت لعينا وجملة تسمى نعت ثان ونائب الفاعل مستتر تقديره هي وسلسبيلا مفعول به ثان (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) الواو عاطفة ويطوف فعل مضارع وعليهم متعلقان بيطوف وولدان فاعل ومخلدون نعت لولدان وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رأيتهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة حسبتهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وحسبتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به ولؤلؤا مفعول به ثان ومنثورا نعت أي متفرقا، وفي المصباح «نثرته نثرا من بابي قتل وضرب رميت به متفرقا فانتثر» (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة رأيت في محل جر بإضافة الظرف إليه ورأيت فعل وفاعل وليس له مفعول ظاهر ولا مقدّر لإشاعة الرؤية وتعميمها كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية ثم، وثم ظرف مكان مختص
323
بالعبد متعلق بثم والمعنى وإذا صدرت منك الرؤية في ذلك المكان رأيت وجملة رأيت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونعيما مفعول رأيت الثانية وملكا كبيرا عطف على نعيما وقال الفراء ثم مفعول به لرأيت والتقدير وإذا رأيت ما ثم فحذفت ما وقامت ثم مقامها ولا داعي لهذا التكلّف (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) عاليهم: في إعرابه وجهان أحدهما أنه ظرف مكان لأنه بمعنى فوقهم وقد اعترض أبو حيان على هذا الإعراب فقال: «وعال وعالية اسم فاعل فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب» وهذا اعتراض مردود لأنه وردت ألفاظ من صيغ أسماء الفاعلين ظروفا نحو خارج الدار وداخلها وباطنها وظاهرها تقول جلست خارج الدار وكذا البواقي فكذلك هذا وإذا تقرر هذا فإن الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم وثياب سندس مبتدأ مؤخر وخضر نعت لثياب وإستبرق عطف على ثياب على حذف مضاف أي ثياب إستبرق وقرئ بجر إستبرق بالعطف على سندس لأن المعنى ثياب من سندس وثياب من إستبرق. والوجه الثاني وهو الذي جرى عليه الأكثرون أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أو من مفعول حسبتهم أو من مضاف مقدّر أي رأيت أهل نعيم وملك كبير عاليهم، فعاليهم حال من أهل المقدّر، وقد ذكر الزمخشري هذا القول وعبارته: «وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم أي يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب ويجوز أن يراد أهل نعيم» وقرئ عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء على أنها خبر مقدّم وثياب مبتدأ مؤخر كأنه قيل فوقهم ثياب. أما نص إعراب أبي البقاء فهو «قوله تعالى: عاليهم فيه قولان أحدهما هو فاعل وانتصب على الحال من المجرور في عليهم وثياب سندس مرفوع به أي يطوف عليهم في حال علو السندس ولم يؤنث
عاليهم لأن تأنيث الثياب غير حقيقي
324
والقول الثاني هو ظرف لأن عاليهم جلودهم وفي هذا القول ضعف ويقرأ بسكون الياء إما على تخفيف المفتوح المنقوص أو على الابتداء والخبر ويقرأ عاليتهم بالتاء وهو ظاهر وخضر بالجر صفة لسندس وبالرفع لثياب وإستبرق بالجر عطف على سندس وبالرفع على ثياب». ولا أدري كيف استساغ أبو البقاء أن يستضعف وجه الظرف والخطب فيه أهون من الحال لوروده معرفة مهما قيل في تأويله (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) عطف على ويطوف عليهم وساغ عطف الماضي على المضارع لأنه مستقبل المعنى وللإيذان بتحقيقه وحلّوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وأساور مفعول به ثان وقيل نصب بنزع الخافض لأنهم يعدّونه إلى واحد ومن فضة نعت لأساور وسقاهم عطف على حلّوا وربهم فاعل وشرابا مفعول به ثان وطهورا نعت لشرابا (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لأهل الجنة وإن واسمها وجملة كان خبرها ولكم متعلقان بجزاء واسم كان مستتر تقديره هو وجزاء خبرها وكان عطف على كان الأولى وسعيكم اسمها ومشكورا خبرها.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
325
الإعراب:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) إن واسمها ونحن ضمير فصل أو تأكيد لاسم إن وجملة نزلنا خبر إنّا وعليك متعلقان بنزلنا والقرآن مفعول به وتنزيلا مفعول مطلق ولك أن تجعل نحن مبتدأ فتكون جملة نزلنا خبر نحن والجملة خبر إن (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا فاصبر، واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولحكم ربك متعلقان باصبر والواو حرف عطف ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت ومنهم حال وآثما مفعول به وأو حرف عطف وكفورا عطف على آثما وإنما جنح إلى «أو» دون الواو لإفهام النهي عن طاعتهما معا ولو عطف بالواو لأفهم جواز طاعة أحدهما وليس مرادا وعبارة الزجّاج: «أو هنا أوكد من الواو لأنك لو قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى» وعبارة أبي حيان: «والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما لأنه يستلزم النهي عن أحدهما لأن في طاعتهما طاعة أحدهما ولو قال لا تضرب زيدا وعمرا لجاز أن يكون نهيا عن ضربهما جميعا لا عن ضرب أحدهما، وقال أبو عبيدة «أو» بمعنى الواو والكفور وإن كان آثما فإن فيه مبالغة في الكفر ولما كان وصف الكفور مباينا للموصوف لمجرد الإثم صلح التغاير فحسن العطف» (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) عطف على ما تقدم واذكر فعل أمر واسم ربك
326
مفعول به وبكرة وأصيلا ظرفان متعلقان باذكر والمراد الدوام على الصلاة في أوقاتها (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) ومن الليل متعلقان باسجد ومعنى من التبعيض أي اسجد وصل له بعض الليل، واسجد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وله متعلقان باسجد أيضا وسبّحه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وليلا ظرف متعلق بسبّحه وطويلا نعت (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا) الجملة تعليل لما قبلها من النهي والأمر وعبارة الشهاب الخفاجي: «هذا التعليل لما قبله من النهي والأمر في قوله ولا تطع إلى هنا فكأنه قال: لا تطعهم واشتغل بالأهمّ من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة فالأول علّة للنهي عن طاعة الآثم والكفور والثاني علّة للأمر بالطاعة، وإن حرف مشبّه بالفعل وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسمها وجملة يحبون خبرها والعاجلة مفعول به ويذرون عطف على يحبون ووراءهم ظرف مكان بمعنى قدّام متعلق بمحذوف حال من المفعول مقدم عليه ويوما مفعول به وثقيلا ظرف، وسيأتي معنى الثقل في باب البلاغة (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) نحن مبتدأ وجملة خلقناهم خبر وشددنا عطف على خلقناهم وأسرهم مفعول به أي قوينا أسرهم والأسر كما في القاموس «الشدة والغضب وشدة الخلق والخلق وشددنا أسرهم أي مفاصلهم» وفي المختار: «أسره من باب ضرب أي شدّه بالإسار بوزن الإزار وهو القدّ بالكسر وهو سير يقدّ من جلد غير مدبوغ ومنه سمي الأسير لأنهم كانوا يشدّونه بالقدّ فسمي كل مأخوذ أسيرا وإن لم يشدّ به وأسره الله خلقه وبابه ضرب ومنه: وشددنا أسرهم أي خلقهم والأسر بالضم احتباس البول كالحصر في الغائط وأسرة الرجل أهله لأنه يتقوى بهم» (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة شئنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة بدّلنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير
327
جازم وأمثالهم مفعول به وتبديلا مفعول مطلق، ومفعول بدّلنا الثاني لأنها بمعنى جعلنا محذوف تقديره بدلا منهم. هذا وقد تورط الزمخشري ورطة كان له مندوحة عنها ذلك أنه قال «وحقه أن يؤتى بإن لا بإذا كقوله: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، إن يشأ يذهبكم» ولم يعقب على ذلك بشيء فأوهم أنه يعني ورود القرآن في تعبيره بإذا على خلاف الحق والواقع أن إذا وإن تتعاوران فقد قالوا: إن إذا للمحقق وإن للممكن وهو تعالى لم يشأ فالظاهر أن تستعمل إن لكنه قد
توضع إذا موضع إن وإن موضع إذا كقوله: أفإن متّ فهم الخالدون (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) إن واسمها والإشارة إلى السورة وتذكرة خبرها والفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف أي الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخذ فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وإلى ربه في موضع المفعول الثاني وسبيلا مفعول اتخذ الأول (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) الواو عاطفة وما نافية وتشاءون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف أي الطاعة وإلا أداة حصر وأن يشاء الله المصدر المؤول في موضع نصب على الظرفية لأنه استثناء من أعمّ الظروف وأصله إلا وقت مشيئة الله وأجاز أبو البقاء أن يكون الاستثناء من أعمّ الأحوال فيكون المصدر حالا وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وعليما خبرها الأول وحكيما خبرها الثاني (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) الجملة حالية من الله ويدخل فعل مضارع مرفوع وفاعله هو ومن مفعول به وجملة يشاء صلة من وفي رحمته متعلقان بيدخل، والظالمين: الواو عاطفة والظالمين منصوب بفعل مقدّر يفسّره ما بعده وقدّره أبو البقاء:
ويعذب الظالمين، وجملة أعدّ مفسّرة ولهم متعلقان بأعدّ وعذابا مفعول به وأليما نعت.
328
البلاغة:
في قوله «يوما ثقيلا» استعارة تصريحية، فقد استعير الثقل لشدة ذلك اليوم وهوله من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.
خطأ وقياس في غير محله:
هذا ومن المضحك أن بعضهم علّق على قوله «وسبّحه ليلا طويلا» فقال هذه الآية رد على عدم ما قاله أهل علم المعاني والبيان إن الجمع بين الحاء والهاء مثلا يخرج الكلمة من فصاحتها وجعلوا من ذلك قول أبي تمام:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي وإذا ما لمته لمته وحدي
وهذا خطأ من الناقد الذي ظن أنه يبرئ القرآن الكريم من العيوب المخلّة بالفصاحة بشجبه لما قرره علماء البلاغة وقياس في غير محله فالفرق واضح بين الآية والشعر وهو أن تكرار أمدحه هو الذي أخرجه عن مهيع الفصاحة لا مجرد اجتماع الحاء والهاء، وإذن فالآية سليمة من تنافر الحروف قال الشيخ مخلوف الميناوي في حاشيته على شرح الشيخ أحمد الدمنهوري لمتن الإمام الأخضري: «فإن منشأ الثقل هو تكرار أمدحه دون مجرد الجمع لوقوعه بين الحاء والهاء في التنزيل نحو فسبّحه».
الفوائد:
«إن» و «إذا» يشتركان في إفادة تعليق حصول الجزاء في المستقبل
329
بحصول الشرط فيه، لكن أصل إن، أي موضع استعمالها الحقيقي، الشك في وقوع الشرط، قيل والتوهم وقيل وكذا المظنون. وأصل إذا الجزم بوقوعه، ولا تستعمل إن في غير الشك وإذا في غير الجزم إلا لنكتة، كما أنهما لا يدخلان على ماض من شرط أو جزاء إلا لنكتة ولو لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط.
330
Icon