ﰡ
﴿ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾؛ أي العملُ فيها خيرٌ من العملِ في ألفِ شهر، وعلى هذا قالُوا: إنَّ مَنْ صلَّى فيها رَكعتين كان له ثوابُ من صلَّى ليالي ألفَ شهرٍ ركعَتين، بل ثوابُ هاتَين الركعتين أكثرُ من ثواب تلك الصلاةِ كلِّها. وسببُ نزول هذه السورة:" أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذكرَ يوماً لأصحابهِ: " أنَّ أرْبَعَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُمْ: أيُّوبُ وَزَكَرِيَّا وحِزْقِيلُ ويُوشُعُ بْنُ نُونٍ عَبَدُوا اللهَ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوهُ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ "، فتعجَّبَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، فأتَى جبريلُ فقالَ له: عجِبَتْ أُمَّتُكَ من عبادةِ هؤلاء النَّفر ثمانين سَنة لم يعصُوا اللهَ فيها طرفةَ عينٍ، فقد أنزلَ الله عليكَ خيراً منه، ثم قرأ ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ... ﴾ إلى آخرِها، وقالَ: هذا أفضلُ مما عجِبتَ منه أنتَ وأُمَّتك، فسُرَّتِ الصحابةُ بذلك ". ورُوي:" أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ حَمَلَ السِّلاَحَ عَلَى عَاتقهِ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ، فعجبَ المسلمون من ذلك عَجباً شَديداً، وتَمنَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ يكون مثلُهُ في أُمَّته، فأعطاهُ الله ليلةَ القدر. واختلَفُوا في وقتِها؛ فقال بعضُهم: كانتْ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رُفعت، والصحيحُ: أنَّها لم تُرفع وأنَّها إلى يومِ القيامة، لِمَا رُوي عنِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قِيْلَ: لَهُ: هَلْ رُفِعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْر؟ فَقَالَ: " بَلْ هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "عن عبدِالله بن حسن قالَ: قلتُ لأبي هريرةَ رضي الله عنه: زعَمُوا أنَّ ليلةَ القدر قد رُفعت، قال: ((كَذبَ مَنْ قَالَ)) قُلْتُ: أهيَ كلَّ شهرِ رمضان؟ قال: ((نَعَمْ)). وقال بعضُهم: هي في ليالِي السَّنة كلِّها، وأنَّ مَن علَّقَ طلاقَ امرأتهِ أو عتقَ عبدهِ بليلة القدر لم يقع شيءٌ من ذلك إلى مُضي سَنة من يومِ حلفهِ. والجمهورُ من العلماءِ: أنَّها في شهرِ رمضان في كلِّ عامٍ. وسُئل الحسنُ عن ليلةِ القدر فقالَ: ((وَاللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ؛ إنَّهَا فِي كُلِّ رَمَََضَانَ)). واختلَفُوا في أيِّ ليلةٍ هي، فقال أبو رَزين العُقَيلي: ((هِيَ أوَّلُ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ))، وقالَ الحسنُ: ((هِيَ ليْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَتْ صَبيحَةَ وَقْعَةِ بَدْرٍ)). والصحيحُ: أنَّها في العشرِ الأواخر من رَمضان، وقال أبو سعيدٍ الخدري: ((هِيَ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ))، وعن أُبَيِّ بن كعبٍ قالَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" تَحَرَّواْ لَيْلَةَ الْقَدْر مِنْ كُلِّ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ ". ورُوي أن عمرَ قال لابنِ عبَّاس: ((أخْبرْنِي برَأيكَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر. فقَالَ: إنَّ اللهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ، السَّمَاوَاتُ سَبْعٌ؛ وَالأَرْضُونَ سَبْعٌ؛ وَالطَّوَافُ سَبْعٌ؛ وَالرَّمْيُ لِلْجِمَار سَبْعٌ، فَلاَ أرَاهَا إلاَّ فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ)). قال: ((وَعَدَدُ حُرُوفِ سُورَةِ الْقَدْر إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ سَلاَمٌ ﴾ هِيَ سَبْعٌ وَعُشْرُونَ، فَيَجِبُ أنْ تَكُونَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعَشْرِينَ))، وأرادَ بالحرفِ الكلمةَ، فقالَ له عمرُ: ((وَافَقَ رَأيي رَأيَكَ. ثم ضربَ على منكبهِ فقالَ: مَا أنْتَ بأَقَلِّ الْقَوْمِ عِلْماً)). وعن ابنِ عُمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ:" قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ليلةِ القدر: " مَنْ كَانَ مُتَحَرِّياً فَلْيَتَحَرَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ "وعن أُبَي بن كعبٍ قالَ:" سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأُذْنَيَّ وإلاَّ فصُمَّتَا: " أنَّ لَيْلَةَ الْقَدْر سَبْعٌ وَعِشْرِينَ " ". وقال أبو بكرٍ الورَّاق: ((إنَّهُ قَسَّمَ كَلِمَات هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى عَدَدِ لَيَالِي رَمَضَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى السَّابعَةَ وَالْعِشْرِينَ أشَارَ إلَيْهَا فَقَالَ: هِيَ)). وقال بعضُهم: هي ليلةُ إحْدَى وعشرين. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" لَيْلَةُ الْقَدْر لَيْلَةُ السَّابعِ وَالْعِشْرِينَ أو التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَأنَّ الْمَلاَئِكَةَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بعَدَدِ الْحَصَى "وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:" فِي اللَّيْلَةِ مِنْ عَلامَتِهَا أنَّهَا لَيْلَةٌ سَمِحَةٌ لاَ حَارَّةٌ وَلاَ بَاردَةٌ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبيحَتَهَا لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ ". وقال بعضُهم: إنَّ من علامتِها أنَّ ماءَ البحرِ فيها يكون عَذباً سَلِساً!" وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا أدْرَكْتُ لَيْلَةَ الْقَدْر فَمَا أقُولُ؟ قَالَ: " قُولِي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفُوَ فَاعْفُ عَنِّي " ".
﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾؛ أمَرَهم اللهُ به في تلك الليلةِ. وقد يقامُ حرفٌ من مقامِ الباء، كما في قولهِ تعالى:﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ﴾[الرعد: ١١] معناهُ: أي بأمرِ الله، فكذلكَ معنى ﴿ مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾ أي بكُلِّ أمرٍ قدَّرَهُ اللهُ تعالى في تلك الليلةِ إلى مثلِها من السَّنة القابلة. ويقالُ: إنَّ الملائكةَ ينْزِلون إلى الدُّنيا في تلك الليلة، ويسَلِّمون على المؤمنينِ على كلِّ قائمٍ وراكع وساجد إلى طُلوع الفجرِ. قرأ طلحةُ بن مُصَرِّف (تُنْزَلُ الْمَلاَئِكةُ) مخفَّفاً. والمرادُ بالرُّوح جبريلُ في قولِ أكثر المفسِّرين، وقال مقاتلُ: ((الرُّوحُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، لاَ تَرَاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إلاَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، يَنْزِلُونَ مِنْ غُرُوب الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ)). وَقِيْلَ: هو ملَكٌ عظيمٌ.