ﰡ
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول سورة الواقعة، وقال : كالطامة والصاخة، والآزفة، والقارعة. اه. أي وكذلك الصاخة والساعة.
ومعلوم أن الشيء إذا عظم خطره كثرت أسماؤه.
أو كما روي عن الإمام علي : كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى.
ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات، فإن لكل اسم دلالة على معنى خاص به.
فالواقعة لصدق وقوعها، والحاقة لتحقق وقوعها، والطامة ؛ لأنها تطم وتعم بأحوالها، والآزفة من قرب وقوعها ﴿ أزفت الآزفة ﴾ مثل ﴿ اقتربت الساعة ﴾، وهكذا هنا.
قالوا : القارعة : من قرع الصوت الشديد لشدة أهوالها.
وقيل : القارعة اسم للشدة.
قال القرطبي : تقول العرب : قرعتهم القارعة، وفقرتهم الفاقرة، إذا وقع بهم أمر فظيع.
قال ابن أحمر :
وقارعة من الأيامِ لولا | سبيلهم لزاحت عندك حِينا |
وقد أدراه هنا بقوله :﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ٤ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾، وهذا حال من أحوالها.
وقد بين بعض الأحوال الأخرى في الواقعة بأنها خافضة رافعة، وفي الطامة والصاخة : ينظر المرء ما قدمت يداه.
وقوله :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ٣٤ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ٣٥ ﴾.
وأيضاً فإن كل حالة يذكر معها الحال الذي يناسبها، فالقارعة من القرع وهو الضرب، ناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث، ويفكك ترابط الجبال إلى هباء العهن المنفوش.
الفراش : جمع فراشة.
وقيل : هي التي تطير وتتهافت في النار.
وقيل : طير رقيق يقصد النار، ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق.
وذكر الشيخ في إملائه قول جرير :
إن الفرزدق ما علمت وقومه *** مثل الفراش غشين نار المصطلى
وقال الفراء : هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ويركب بعضه بعضاً من الهول.
ونقل القرطبي عن الفراء : أنه الهمج الطائر من بعوض وغيره.
ومنه الجراد، ويقال : هو أطيش من فراشة، قال :
طويش من نفر أطياش *** أطيش من طائرة الفراش
وفي صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذُبُّهنَّ عنها. وأنا آخذ بِحُجزِكم عن النار، وأنتم تفلَّتون من يدي ".
والمبثوث : المنتشر.
ومثله قوله :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيانه في سورة " اقتربت الساعة "، سورة " ق والقرآن، وسورة " يس والقرآن الحكيم " بما يغني عن إعادته هنا.
وقد قيل : إن وصفها بالفراش في أول حالها في الاضطراب والحيرة، ووصفها كالجراد في الكثرة ووحدة الاتجاه ﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ﴾.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في صورة الواقعة بيان أحوال الجبال يوم القيامة من بدئها بكثيب مهيل، ثم كالعهن المنقوش، ثم تسير كالسراب.
وأحال فيها على غيرها، كقوله :﴿ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾.
وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة سأل سائل.
في قوله :﴿ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾، دلالة على وقع الوزن لكل إنسان.
والموازين : يراد بها الموزون، ويراد بها آلة الوزن، كالمعايير، وهما متلازمان.
وتقدم أن المعايير بالذرة وأقل منها.
وقد جاء نصوص على وضع الموازين وإقامتها بالعدل والقسط.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند قوله تعالى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾.
فالقول الأول : هو المعروف في البلاغة بإطلاق المحل وإرادة الحال، كقوله تعالى :﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾.
والنادي : مكان منتدى القوم، أي ينادي بعضهم بعضاً للاجتماع فيه.
والمراد : من يحل في هذا النادي، ويكون هنا أطلق المحل -وهو محل العيشة- وأراد الحال فيها.
وعلى الثاني : فهو إسناد حقيقي، من إسناد الرضى لمن وقع منه، أو قام به. ومما هو جدير بالذكر أن حمله على الأسلوب البياني ليس متجهاً كالآية الأخرى ؛ لأن العيشة ليست محلاً لغيرها ؛ بل هي حالة، والمحل الحقيقي هو الجنة، والعيشة حالة فيها، وهي اسم لمعاني النعيم كما تقدم، فيكون حمل الإسناد على الحقيقة أصح.
وقد جاءت الأحاديث : أن الجنة تحس بأهلها، وتفرح بعمل الخير، كما أنها تتزين وتبتهج في رمضان، وأنها تناظرت مع النار، وكل يدلي بأهله وفرحه بهم، حتى وعد الله كلاً بملئها.
ونصوص تلقي الحور والولدان والملائكة في الجنة لأهل الجنة بالرضى والتحية معلومة.
وقوله :﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ﴾، أي لا يتأخر عنهم شيء.
وقوله :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاِمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾.
وقوله :﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جان ﴾.
وقاصرات الطرف عن رضى بأهلهن. ومنه ﴿ حُورٌ مقْصُورَاتٌ في الْخِيَامِ ﴾، أي على أزواجهن.
وقوله :﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ﴾، ونحو ذلك، مما يشعر بأن نعيم الجنة بنفسه راض بأهل الجنة، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
وقع الخلاف في المراد من قوله :﴿ أُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾، هل المراد بأمه مأواه وهي النار، وأن هاوية من أسمائها، أم المراد بأمه رأسه، وأن هاوية من الهوى، فيلقى في النار منكساً رأسه يهوي في النار.
وقد بحث الشيخ -رحمة الله تعالى علينا وعليه - ذلك في دفع إيهام الاضطراب، ولا يبعد من يقول : إنه لا تعارض بين القولين.
فتكون أمه هاوية، وهي النار، ويلقى فيها منكساً تهوي رأسه والعياذ باللَّه.
وحكى القرطبي على أن الأم بمعنى قول لبيد :
فالأرض معقلنا وكانت أمنا | فيها مقابرنا وفيها نولد |
يا عمرو لو نالتك رماحنا | كنت كمن تهوى به الهاوية |
كما قيل :
أكلت دماً إن لم أرعك بضرة | بعيدة مهوى القرط مياسة القد |
وفي الحديث : " إن أحدكم ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً ".
نسأل الله السلام.
وقد فسر الهاوية بما بعدها :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾.
وقد فسر الهاوية بأنها أسفل دركات النار. عياذاً باللَّه.
وقد جاء قوله تعالى :﴿ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ في الْحُطَمَةِ ٤ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ٥ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ﴾.
والنبذ : الطرح، مما يرجح ما قلناه من إمكان إرادة المعنيين كون أمه هي الهاوية، أي النار، يهوي فيها على أُم رأسه، وذلك بالنبذ في الهاوية بعيدة المهوى، وعادة الجسم إذا ألقى من شاهق بعيداً يسبغه إلى أسفل أثقله، وأثقل جسم الإنسان رأسه. واللَّه تعالى أعلم.