هذه السورة مكية كلها. وهي فيها من القصص وأخبار السابقين من المرسلين والأمم ما فيه موعظة ومزدجر لكل ذي بال وعقل. فما يتفكر البصير في مضمونات هذه السور العظيمة حتى يغشاه الإعجاب والدهش والرهبة لعظيم ما يجد من فظائع الظالمين، وما نزل بهم من هلاك وويلات وتدمير ؛ كقوم نوح ولوط وشعيب وقوم عاد وثمود. وكذلك قارون وفرعون وهامان، أولئك العتاة الأشرار الذين دمّر الله عليهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر بما شاء من صور البلاء والتدمير جزاء طغيانهم وفسادهم وصدهم عن دين الله ومنهجه القويم للناس.
وفي السورة تنديد بالغ وتهجين شديد لأولئك المشركين الخاسرين الواهمين، الذين يَلون الطغاة المتجبرين من الساسة الكفرة والولاة الغاشمين المتسلطين على رقاب المسلمين، يبتغون عندهم الحظوة في الجاه أو المكانة أو الرعاية والحماية. أولئك هم الأرذال والخائرون المستخَفون من أولي القلوب الخاوية والعزائم المنهارة، الذين يلهثون خلف الساسة المجرمين والحاكمين العتاة ؛ ليجدوا في ظلمهم وتحت سطوتهم بعض ما يبتغون من الحوائج الدنيوية المبتذلة. وأولئك في صنيعهم المهين هذا إنما مثلهم مثل الذي يثوي إلى بيت العنكبوت ليجد بين خيوطه وتحت نسيجه الواهي الحماية والرعاية. لا جرم أن ﴿ أوهن البيوت لبيت العنكبوت ﴾.
إلى غير ذلك من القضايا ؛ كالتوصية بالفريضة الكبرى للصلاة، ومجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالرفق واللين وحسن الحديث.
على أن السورة كلها جاءت مبدوءة بالاستفهام الإنكاري ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴾ وذلك ليتبين للمسلمين والدعاة إلى الله أنهم مبتلون في حياتهم الدنيا بمختلف ضروب البلاء، كيما يستبين الصادقون من الكاذبين، والمخلصون من المنافقين، والأقوياء من الخائرين. جعلنا الله من الثابتين الصابرين المخلصين إلى يوم الدين.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الم ( ١ ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ( ٢ ) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( ٣ ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُون ﴾.مضى الكلام عن الحروف المقطعة من فواتح السور.
على أن المراد بالناس في الآية : قوم من المؤمنين كانوا بمكة وكان المشركون يؤذونهم بالغ الأذى ويعذبونهم أشد تعذيب بسبب إسلامهم، كعمار وأبيه ياسر وأمه سمية وغيرهم من المسلمين المستضعفين الذين جار عليهم الظالمون فنكلوا بهم تنكيلا لاستمساكهم بعقيدة الإسلام ورفضهم عقائد الكفر وملل الضلال والباطل. فنزلت هذه الآية لتواسيهم ولكي تُسرّي عنهم وتكفكف عن نفوسهم وقلوبهم ما كان يعتريها من الألم والمضاضة والاغتمام.
على أن هذه الآية، وإن نزلت بهذا السبب وما في معناه، لكنها باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لينسحب معناها ومقتضاها على المسلمين في كل زمان ؛ ذلك أن الفتنة ما فتئت تصيب المسلمين في سائر الأزمان والبلدان ؛ تصيبهم في أبدانهم وأموالهم وأرزاقهم وكراماتهم وأوطانهم مما يبتليهم به الله من مختلف البلايا، أو ما يحيف به الظالمون والطغاة عليهم. أولئك العتاة الغلاظ من مجرمي البشر وشياطين الإنسانية الذين يبطشون بالمسلمين ويتفاخرون بتعذيبهم والتنكيل بهم كلما سنحت لهم الأحوال والظروف، ليستذلوهم مرة، أو ليقتلوهم مرة أخرى، أو يخرجوهم من ديارهم ويستأصلوهم استئصالا في كثير من الأحيان العصيبة التي ألمت بالمسلمين وحاقت بهم ليُشردوا ويُهَجّروا أو يُقتلوا تقتيلا. وقد حصل للمسلمين مثل ذلك في مختلف الأزمان والأوطان، كالأندلس، وفلسطين، وكشمير، والبوسنة والهرسك وغير ذلك من الأوطان التي ذُبح فيها المسلمون بالكلية أو شردوا وهجروا من ديارهم تهجيرا.
وكذلك غيره من المؤمنين الذين نُشّروا بالمناشير وقطعت أطرافهم وأعضاؤهم تقطيعا وما صدهم ذلك كله عن دينهم. وقد روى البخاري عن خباب بن الأرث قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمهُ وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه. والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ".
قوله :﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ ﴾ : أي ليرين اللهُ الذين صدقوا في إيمانهم وليرين الكاذبين. وقيل : ليُظهرن الله الذين صدقوا وليُظهرن الكاذبين. وقيل : ليُميزنّ الله الصادقين من الكاذبين. والمقصود : أن الله عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان، وقبل أن يخلق الصادق أو الكاذب نفسه.
وإنما المراد إظهار الصادق والكاذب في قولهما والتمييز بينهما بما يصيبهما من بلاء.
قوله :﴿ سَاء مَا يَحْكُمُون ﴾ أي بئس الحكم حكمهم، أو ساء حكمهم الذي يحكمون بأن هؤلاء العصاة الفاسقين يسبقوننا بأنفسهم١.
المراد بالرجاء في الآية : الخوف ؛ أي من كان يخاف لقاء الله وهو الموت.
وقيل : الرجاء معناه الطمع. أي من كان يطمع في حسن الثواب والجزاء بلقاء الله ﴿ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ ﴾ أي أجله لبعث الخلائق آت قريبا. فكل ما هو آت آت. وكل آت قريب لا محالة. وحينئذ يجازي الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات خير الجزاء.
قوله :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ الله سميع لما يقوله العباد من دعاء ورجاء وذكر وتسبيح وتحميد. وهو سبحانه عليم بما يخفونه في صدروهم وما تصنعه جوارحهم من الأفعال.
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه لما أسلم قالت له أمه جميلة : يا سعد، بلغني أنك صبوت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الضّح١ والريح، ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وترجع إلى ما كنت عليه، وكان أحب ولدها إليها، فأبى سعد، فصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل حتى غُشيَ عليها، فأتى سعد النبي صلى الله عليه وسلم وشكا ذلك إليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي عن سعد أنه قال : كنت بارّا بأمي فأسلمتُ، فقالت : لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعيّرُ بي ويقال : يا قاتل أمه. وبقيت يوما ويوما فقلت : يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا. فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت. ونزلت ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ﴾ الآية٢.
وهذه جملة من آيات يأمر الله فيها ببر الوالدين والإحسان إليهما وإسداء الخير والمعروف لهما وطاعتهما تمام الطاعة ما لم يكن في ذلك إثم أو معصية. ولا عجب فإن فضل الوالدين على الإنسان عظيم، بل إن فضلهما عليه يفوق كل فضل ولا ما كان من فضل الله ؛ فإنه يدنو دونه كل فضل.
ويأتي في طليعة الفضل للوالدين على الإنسان : أن الإنسان بعض والديه أو جزؤهما. فهما السبب في وجوده على هذه الأرض. إلى غير ذلك من المشقة والهم والتعب، من أجل ذلك أعظمَ الله الإيصاء بالوالدين ووجوب طاعتهما والبر بهما، وأن لا يؤذيا بأدنى مراتب الإيذاء وهو النبس بأفّ. فقال : سبحانه :﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ ﴿ حُسْنًا ﴾ : منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ؛ أي وصيناه إيصاء حسنا. وقيل : مفعول لفعل مقدر، وتقديره : ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا.
قوله :﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ﴾ أي إن بذلا جهدهما في الطلب منك أن تشرك بالله أحدا لا تعلم أنه إله فلا تطعهما في ذلك ؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والمراد بنفي علمه : نفي الشريك لله بالكلية، فإن ما لا يُعلم أنه إله لا يجوز أن يعبد أو يتبع. ويُلحق بالنهي عن مطاوعة الوالدين في الإشراك : مطاوعتهما في كل المعاصي ؛ فإنهما لا يطاعان البتة فيما فيه معصية لله سبحانه.
قوله :﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ إلى الله معاد الناس، فهم لا محالة صائرون إلى ربهم يوم القيامة، وحينئذ يخبرهم الله بما عملوه من طاعات وسيئات ثم يجازيهم على الحسنة بالإحسان، وعلى السيئة بالعقاب.
٢ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٣٠..
والصحيح أن ذلك في سائر الذين تتزعزع قلوبهم وعزائمهم وتضطرب هممهم وأبدانهم من ضَعَفة الإيمان أو الذين في قلوبهم مرض أو المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام والإيمان تكلفا، فإنهم عند وقوع المحنة والبلاء من الكافرين والظالمين يبادرون بخلع أنفسهم من الإسلام ليرتكسوا في الشرك والباطل ترضية للكفرة الذين أخافوهم وأفزعوهم.
قوله :﴿ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ إذا جاء المسلمين نصر من الله فأظهرهم الله على الكافرين قال لهم هؤلاء الخائرون والمنافقون الذين ارتدوا عن دين الإسلام مخافة العذاب والمحنة :﴿ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ أي كنا نعتقد ما تعتقدون ونحن لكم عون. وهم في الحقيقة كاذبون. وإنما قالوا ذلك بعد ما أظفر الله المسلمين بأعدائهم وغنموا منهم كثير الغنائم.
قوله :﴿ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ استفهام توبيخ ؛ فإن الله جل وعلا أعلم من الناس بما يستكنُّ في قلوبهم من خير أو شر. فما زعموه من إيمان متكلَّف ؛ إن هو إلا كذب مكشوف لا يخفى على الله علام الغيوب.
وفي الامتحان بضروب البلايا والمحن يتثاقل المريبون والذين في قلوبهم زيغ، ويتداعى الكاذبون والمنافقون لينتكسوا إلى حمأة الردة والباطل.
وأما المؤمنون الراسخون في عقيدة الحق والتقوى فإنهم لا جرم ثابتون ظاهرون على منهج الإسلام حتى يلقوا ربهم وهم على دينه١.
هذا إخبار من الله عن فريق من المشركين السخفاء الذين غلبت عليهم الشقوة وأعماهم الضلال والسفه فراحوا يتصدون للمؤمنين بما يغويهم مما اصطنعوه من سقيم الحجة ومكذوب النطق قائلين لهم في عماية وسفاهة واستخفاف ﴿ اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ﴾ أي اتبعوا ديننا واجتنبوا دينكم، دين التوحيد، وكونوا على مثل ما نحن عليه من إنكار البعث بعد الممات ﴿ ولنحمل خطاياكم ﴾ وتقديره : ولنحمل خطاياكم عنكم١ أي إن اتبعتم ديننا فإننا نتحمل ما عليكم من آثام وخطايا. أو إن كانت لكم آثام وذنوب في ترك دينكم فهي علينا وفي رقابنا.
قوله :﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ﴾ لقد كانوا في قيلهم ذلك للمؤمنين. فإنهم خير حاملين من آثامهم شيئا ؛ فإن أحدا لا يحمل وزر أحد، وإنما هم كاذبون فيما قالوه لهم وما وعدوهم به من حمل الخطايا.
وذلك هو مصير الأشقياء والمجرمين من أكابر الشياطين البشرية، أولئك الفتانون المضلون الدجاجلة الذين أغووا الناس وفتنوهم عن جادة الحق والصواب، ليزلقوهم إلى الفساد والكفر والباطل، ويحرفوهم عن منهج الإسلام بما زينوه لهم من الأساليب المموهة والمخططات الخبيثة المخادعة، التي انطلت على كثير من أبناء المسلمين فانسلخوا عن عقيدة الإسلام أيما انسلاخ مما أسقطهم في براثن الضلالات والثقافات والملل الكافرة الغريبة
أولئك المضلون الفتانون الذين أضلوا الناس بالإغواء بمعسول الكلام، يجيئون يوم القيامة وهم يجرجرون ذنوبهم وآثامهم الثقيلة فوق ما يحملونه من الخطايا الأخرى الثقال جزاء إفسادهم غيرهم من الناس. وفي الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا ".
قوله :﴿ وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾ الله سائل هؤلاء المفترين يوم القيامة عن كذبهم على الناس وعن إضلالهم وعن إزلاقهم إياهم ليرتدوا عن دينهم ارتدادا، وهو مجازيهم ما يستحقونه من أليم العذاب١.
هذه قصة نوح عليه الصلاة والسلام يذكرها الله تسلية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم كيلا يغتم أو يجزع مما أصابه من قومه من شديد الإعراض والأذى. فلقد لقي نوح من قومه من المكاره والآلام والألوان الصدّ ما يعزّ على الوصف وما لا يطيقه غير أولى العزائم من النبيين الميامين. لقد دعا قومه إلى دين الله ونبذ الشرك ألف سنة إلا خمسين وهو يحاورهم خلال هذه المدة الطويلة، في الليل والنهار، في السر والعلن. فما كان يزيدهم ذلك إلا عتوا وكفرانا، حتى دعا عليهم دعاءه المعروف فاستجاب الله دعاءه ﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ أهلكهم الله بالتغريق المدمر الجارف، إذ انفتحت عليهم السماء بماءها المنهمر، وتفجّرت الأرض عيونا دافقة غامرة حتى طمت المياه وجه الأرض فصارت بحرا هادرا لُجيّا تتلاطم فيه الأمواج الجارفة الثقال، فغرق القوم ﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ الجملة في موضع نصب على الحال : أي هلكوا بالطوفان وقد ظلموا أنفسهم بكفرهم.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ أي جعلنا السفينة عبرة ظاهرة تتذكرها البشرية وتتعظ بها طول الدهر. وقيل : الضمير عائد على النجاة أو إلى العقوبة ؛ ليتذكر الناس ويعتبروا ويخشوا عذاب ربهم وسخطه ؛ فإن أخذه أليم شديد١.
إبراهيم : منصوب من ثلاثة أوجه. الأول : أن يكون معطوفا على نوح في قوله :﴿ أرسلنا نوحا ﴾ والتقدير : وأرسلنا إبراهيم.
الثاني : أن يكون منصوبا بالعطف على الهاء في أنجيناه.
الثالث : أن يكون منصوبا بتقدير فعل، وتقديره : واذكر إبراهيم١ وذلك تذكير بنبي كريم ورسول مفضال عظيم، إمام الحنفاء والصديقين والميامين. وذلكم هو خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين دعا قومه إلى الوحدانية وإفراد الله وحده بالعبادة، ونبذ الأصنام الجامدة الخرساء التي لا تنطق ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع. وهو قوله :﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ﴾ أفردوا الله وحده بالعبادة والتوحيد ؛ فإنه المعبود الحق دون سواه. وما غيره إلا المخاليق أو أمم أمثالكم ﴿ وَاتَّقُوهُ ﴾ أي خافوه واتقوا عذابه بطاعته واجتناب معاصيه.
قوله :﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ عبادة الله وحده لا شريك له خير لكم من عبادة الأوثان على اختلاف أشكالها ومسمياتها ؛ فإنها فارغة وموهومة وجوفاء لا تجدي ولا تنفع، إن منتم تعلمون الخير من الشر، أو النافع من الضار.
قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ ﴾ يعني أن آلهتكم المزعومة الموهومة التي تعبدونها من دون الله ليست غير أصنام جامدة خرساء لا تملك لكم شيئا، فلا تقدر أن ترزقكم بل الله هو رازقكم فالتمسوا عنده الرزق ﴿ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي أذعنوا له بالخضوع والطاعة واشكروه على ما رزقكم من مختلف أصناف الرزق، وعلى ما منَّ به عليكم من وجوه النعم، وأنكم لا محالة صائرون إلى الله بعد مماتكم ليسألكم عما فعلتموه في حياتكم الدنيا من طاعة أو عصيان.
قوله :﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ﴾ أي ليس على رسولنا محمد إلا تبليغكم دعوة الحق الواضح الأبلج، ورسالة التوحيد الساطع المستبين.
يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المكذبين الذين ينكرون البعث بعد الموت والفناء :﴿ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ أي سيروا في البلاد وتفكروا واعتبروا مما ترونه من كثرة الخلائق واختلاف أجناسه وألوانهم وألسنتهم وطبائعهم، وانظروا كيف خلق الله ذلك كله ابتداء لتستيقنوا أن الله قادر على خلقهم مرة أخرى ؛ فإن الذي يبدأ النشأة الأولى لا يعزّ عليه أن ينشئ النشأة الأخرى ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ وهذا هو التعليل الحقيقي لقضية الخلق، وهو أن الله قادر على فعل كل شيء، فإنه سبحانه لا يعز عليه أن يفعل ما يريد أو يصنع في الخلق ما يشاء. وما الكون والكائنات أو الحياة والأحياء جميعا إلا بيده مقاليدها جميعا. فلا يعجبنَّ بعد ذلك مكابر أو جاهل أو مغرور، من إعادة الخلق بعد الموت والبِلى.
قوله :﴿ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴾ أي ترجعون إليه وتردون.
قوله :﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وََلاَ نَصِيرٍ ﴾ الولي ضد العدو. وكل من ولي أمر واحد فهو وليه١ أي ليس لكم من ولي يلي أمركم ولا نصير ينصركم من الله فيدفع عنكم عذابه إن حل بكم.
وثانيهما : أن تكون ما، كافة عن العمل، فيكون أوثانا منصوبا على أنه مفعول للفعل اتخذتم. ومودة منصوب على أنه مفعول لأجله ؛ أي إنما اتخذتم الأوثان للمودة فيما بينكم١.
وعلى هذا يكون المعنى : إن إبراهيم قال لقومه المشركين موبخا لهم توبيخا : إنما اتخذتم هذه الأصنام معبودة لكم من دون الله لأجل التودد، والتواصل فيما بينكم ولاجتماعكم على عبادتها، أو جعلتم الأوثان تتحابون عليها وعلى عبادتها في الحياة الدنيا ﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا ﴾ أي تنقلب الخلُة يوم القيامة عداوة على أصحابها فيفترق الأخلاء يومئذ ويتباغضون، ويتبرأ الصّحاب المتوادون على الأصنام، بعضهم من بعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضا بعد أن كانوا في الدنيا متواصلين مجتمعين على الباطل.
وهذه هي حال المجرمين الظالمين الذين يجمعهم الباطل وتشدهم عُرى الفساد والضلال على اختلاف ضروبه ومسمياته في الدنيا، ليكونوا يدا واحدة على الحق وأهله، أو على الإسلام والمسلمين. لكنهم إذا سيقوا يوم القيامة إلى ربهم غشيهم الذل والمهانة وأرهقهم الذعر والخزي والعار فانقلبوا بين يدي الله خزايا متفرقين، وقد كفر بعضهم ببعض ولعن بعضهم بعضا. ثم مصيرهم جميعا إلى النار وبئس المأوى والقرار. وهو قوله :﴿ وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ ليس لهم حينئذ من مجير ولا نصير يكشف عنهم البلاء أو يدرأ عنهم شيئا من العذاب وإنما هم مجتمعون في النار يتقاحمون فيها كما تتقاحم القردة بلعن بعضهم بعضا، ويكيل بعضهم لبعض التَّسابَّ والتشاتم واللعائن٢.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٠٩، وتفسير البيضاوي ص ٥٢٧..
صدَّق لوط خليل الله إبراهيم، وهو ابن أخيه ﴿ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ الضمير عائد إلى لوط ؛ لأنه أقرب مذكور. وقيل : عاد إلى إبراهيم، ويدل على هذا ما بعده من كلام. وذلك إخبار من الله عن إبراهيم أنه اختار المهاجرة من أظهرهم لشدة ضلالهم ومعاندتهم، ولفرط استكبارهم وعتوهم، وإنما هاجر إلى فلسطين مبتغيا بذلك إظهار دين الله وأن يعبد الله وحده آمنا مطمئنا.
قوله :﴿ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ أي إن ربي لهو القوي القهار الذي لا يُغلب، وأنه هو الحكيم في تدبيره وتصريفه أمور خلقه.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ لم يبعث الله نبيا من بعد إبراهيم إلا كان من سلالته عليه الصلاة والسلام. لا جرم أن هذا تكريم رباني هائل أسبغه الله على خليله إبراهيم. وعلى هذا فإن جميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحق بن إبراهيم. حتى آخرهم عيسى بن مريم ؛ إذ قام في قومه مبشرا بالنبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم المرسلين وهو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وليس من نبي من سلالة إسماعيل سوى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الكتاب، فهو بمعنى الجمع ويراد به الكتب. والمقصود به التوراة والإنجيل والقرآن.
قوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ أعطاه الله الثناء الحسن وهو أن كل أهل ملة يتولونه ويعتبرونه ويقولون : هو منا.
قوله :﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ علاوة على كونه في الدنيا محبوبا لدى أهل الملل السماوية جميعها ؛ فإنه في الآخرة من المقربين الأبرار١.
لوطا : منصوب من ثلاثة أوجه : الأول : أن يكون منصوبا بالعطف على الهاء في قوله :﴿ فأنجيناه ﴾.
الثاني : أن يكون على قوله :﴿ نوحاً ﴾ أي وأرسلنا لوطا.
الثالث : أن يكون منصوبا بفعل مقدر، وتقديره : اذكر لوطا١.
وعلى هذا يكون المعنى : واذكر لوطا حين قال لقومه موبخا ومحذرا :﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴾.
قوله :﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ ﴾ قال لوط لقومه مستقذرا مقبحا : أئنكم لتأتون الذكران في أدبارهم ﴿ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ﴾ كانوا قطاع طريق. وقيل : كانوا يقطعون المسافرين عليهم بفعلهم الخبائث ؛ فقد كانوا يفعلون هذا بمن مرّ عليهم من المسافرين أو بمن ورد بلادهم من الغرباء. ولقد أسرفوا في هذه الفعلة البشعة حتى إنهم استغنوا عن النساء بالرجال.
قوله :﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَر ﴾ النادي معناه المجلس. واختلفوا في المراد بالمنكر الذي كانوا يأتونه في مجالسهم. فقد قيل : كانوا يتضارطون في مجالسهم. فالمراد بالمنكر هنا الضراط. وهذا يكشف عن وقاحتهم وإسفافهم وانحطاط نفوسهم. وقيل : كانوا يحذفون من يمرّ بهم بالحصى ويسخرون منهم، وذلك إتيانهم المنكر في ناديهم.
قوله :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ أي لم يكن جواب هؤلاء المتفحشين الشذاذ١ لنبيهم لوط ؛ إذ نهاهم وحذرهم سوء فحشهم وقذرهم : ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا إن كنت تصدق فيما تقول وتنجز ما تعد. قالوا ذلك على سبيل الإنكار والاستخسار والتكذيب.
قوله :﴿ وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ ﴾ قالت رسل الله لنبي الله لوط لما رأوا حزنه وضيقه وابتئاسه من جيئتهم : لا تخف علينا ولا تحزن من وصول قومك إلينا ﴿ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ﴾ الكاف في قوله :﴿ مُنَجُّوكَ ﴾ في موضع جر بالإضافة. و ﴿ أَهْلَكَ ﴾ : منصوب بفعل مقدر، وتقديره : وننجي أهلك١ ؛ أي أننا منجوك يا لوط من الهلاك النازل بقومك ومنجو أهلك الذين آمنوا معك ﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ أي من الباقين الذين يأتي عليهم الهلاك ؛ لأنها كانت تدل قومها المجرمين على ضيوفه لوط فيقصدونه. فبالدلالة صارت واحدة منهم.
قوله :﴿ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ عثا عثوا : أي أفسد١ ؛ أي لا تفسدوا في الأرض بفعل المعاصي ؛ بل توبوا إلى الله واستقيموا واعملوا الصالحات ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾.
قوله :﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ أي ميتين بعضهم فوق بعض.
﴿ عَادًا وَثَمُودَا ﴾، منصوب من ثلاثة أوجه. الأول : أن يكون معطوفا على الهاء والميم في قوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾.
الثاني : أن يكون منصوبا بالعطف على ﴿ الذين ﴾ في قوله :﴿ ولقد فتناّ الذين من قبلهم ﴾.
الثالث : أن يكون منصوبا بفعل مقدر، وتقديره : وأهلكنا عادا وثمود١ وقيل : بفعل تقديره اذكر. فيكون المعنى : واذكروا قوم عاد وقوم ثمود ؛ إذ أرسلنا إليهم هودا وصالحا فكذبوهما فأهلكنا عادا بالريح، وأهلكنا ثمود بالصيحة ﴿ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾ أي تبين لكم من خراب مساكنكم وخوائها منهم، ما أنزلناه بساحتهم من الهلاك.
قوله :﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي سوّل لهم الشيطان بوساوسه الخفية الشريرة كفرهم بالله وتكذيبهم لرسله ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ أي أضلهم وردهم عن طريق الله ومنهجه القويم الحكيم، بتزيينه لهم الكفر والباطل.
قوله :﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِِِِرِينَ ﴾ أي كانوا عقلاء متمكنين من النظر والتفكير. أو كانوا يعرفون الحق من الباطل لوقوفهم على الأدلة والبراهين لكنهم لجوا في الضلالة والتمرد٢.
٢ الكشاف ج ٣ ص ٢٠٦، وتفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٤٣، ٣٤٤..
قارون وفرعون وهامان : أسماء منصوبة بالعطف على ﴿ وعاداً ﴾ ولا تنصرف للعجمة والتعريف١.
والمعنى : واذكر يا محمد، قارون وفرعون وهامان، هؤلاء الطغاة العتاة المستكبرين. فقارون صاحب الأموال الكثيرة ومفاتيح الكنوز الثقيلة، وفرعون ملك مصر، ووزيره هامان، وهما قبطيان كفرا بالله وبرسوله موسى عليه السلام ؛ إذ جاءهم بالآيات الواضحات وضوح الشمس، والدالة على صدق نبوته ورسالته، وهي معجزاته المعروفة ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ استكبروا عن التصديق والإيمان بالله ورسوله فلجوا في عتوهم كافرين معاندين.
قوله :﴿ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ أي لم يفوتونا بأنفسهم ولم يعجزونا، بل كنا مقتدرين عليهم فهم في قبضتنا ولذلك أهلكناهم ﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ﴾.
قوله :﴿ وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ﴾ المراد بهم ثمود قوم صالح، وكذلك أهل مدين، قوم شعيب. فكلا الأمتين قد أخذتهم الصيحة فأتت عليهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
قوله :﴿ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ ﴾ يعني قارون، فقد خسف الله به وبداره الأرض فانساخ فيها فكان من الهالكين.
قوله :﴿ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ﴾ يعني بذلك قوم نوح وقوم فرعون وملأه فقد عتوا عن أمر ربهم وجحدوا النبوة وكذبوا الرسل فأخذهم الله بالطوفان والتغريق.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ لا يظلم الله أحدا من خلقه، وما الله بظلام للعبيد. فلم يأخذ هؤلاء المجرمين ظلما بل أهلكهم بسبب طغيانهم وكفرهم وشدة جحودهم آلاءه وأياديه عليهم، وبذلك ظلموا أنفسهم فاستحقوا العذاب٢.
٢ تفسير الطبري ج ٢٠ ص ٩٧، وتفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٤٥..
مثل وما بعده، مبتدأ، وخبره الكاف في قوله :﴿ كمثل ﴾ ١ والأولياء : جمع ومفرده الولي. ومعناه المحب والصديق والنصير. ومنه المولى وهو الحليف والرب والناصر والمنعم٢.
وهذا مثل ضربه الله المشركين من الناس الذين يتخذون لهم من دون الله أنصارا وأعوانا ومتبوعين يتولونهم ويركنون إليهم ويحبونهم كحب الله أو أشد، فيتوجهون إليهم بالعبادة والخضوع والامتثال أو الإذعان الوجداني بالإحساس والمشاعر. وهم في ذلك يبتغون عندهم النصرة والعون والتأييد ويرجون منهم تحصيل ما يشتهون من منافع وحاجات دنيوية ؛ كالجاهات والدرجات والعزة ووافر الأموال.
على أن الأولياء المقصودين أصناف متعددة ومختلفة، منها : الأصنام والأوثان. ومنها : الثراء الفاحش والأموال الطائلة، ومنها : حب الشهرة والاستعلاء والظهور، ومنها : الساسة الطغاة والمتجبرون من الحكام وأولي السطوة والسلطان. وغير ذلك من وجوه الأنداد والمعبودين الذين يتخذهم الضعفاء والخائرون والغافلون آلهة من دون الله يلجئون إليهم، ويثوون إلى جانبهم تمام الثواء ويركنون إلى سلطانهم وجاههم تمام الركون، ويحومون من حول حماهم وحصونهم حوم الذباب على الفتات المتساقط ؛ هؤلاء هم المشركون السفهاء والمغفلون والواهمون يتزاحمون من حول متبوعيهم ومعبوديهم على اختلاف أسمائهم ومسمياتهم ؛ إذ يخاطبونهم في هوان وضَعَة وخَوَر ويتحدثون إليهم أحاديث المرذولين الخانعين. أولئك جميعا مثلهم ﴿ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ والعنكبوت في ذاته من الحشرات الصغيرة الضعيفة، يصنع لنفسه بيتا رقيقا مهلهلا وفي غاية البساطة والهوان. وهو نسيج من خيوط واهية متشابكة هشة لا تصون ثاويا، ولا تحمي مستكنا، ولا ترد عما بداخله أيما أذى أو ضُر. وهو بيت هزيل ومضطرب وفي غاية الهشاشة لا يدفع عن صاحبه حر الشمس اللافحة، ولا يصد عنه قرَّ البرد القارس اللاسع. وهو قوله :﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ﴾ من الوهن وهو الضعف. لا جرم أن بيت العنكبوت بخيوطه الرقيقة الواهية لهو غاية البساطة والضعف. وهو في هذا الحال من الهوان والبساطة لا يقي العنكبوت بداخله من الأذى ولا يحميه من عبث العابثين ولا يصد عنه أيما اختراق من ماء أو ريح أو شمس. فهو بداخله غير مصون ولا مكين.
وتلك هي حال الأتباع من المشركين الواهمين الذين يلهثون وراء معبوديهم من الأصنام والأنداد على اختلاف أجناسهم وأسمائهم ؛ إنهم لا يجدون في كنفهم وحماهم غبر الفشل والخذلان والخسران، وسوف لا يبوءون من وراء استجدائهم غير الذلة والابتئاس.
قوله :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ لو كان هؤلاء المشركون الذين اتخذوا من دون الله أندادا آلهة يعلمون أن عبادتهم لا قيمة لها، وأن الذين ركنوا إليهم من المعبودين أشبه ببيت العنكبوت الواهن الهزيل، لما اتخذوا من دون الله أولياء.
٢ القاموس المحيط ج ٤ ص ٤٠٤، وأساس البلاغة ص ٦٨٩..
ثانيهما : أن تكون ﴿ ما ﴾ استفهامية في موضع نصب للفعل ﴿ يدعون ﴾. وتقديره : أي شيء تدعون من دونه١ وقيل :﴿ ما ﴾ نافية. فيكون المعنى : إن الله يعلم أنكم تدعون من دونه من شيء ؛ أي ما تعبدون ليس بشيء.
قوله :﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الله القوي القهار، ينتقم من المجرمين والظالمين الذين يضلون عن سبيل الله ويتخذون من دونه أولياء يركنون إليهم. وهو سبحانه حكيم في تصريف الأمور للخلق، فهو مهلك الطغاة والمشركين، وممتحن الصابرين وراحمهم بفضله وإحسانه.
خلق الله السماوات والأرض بالعدل والقسط الذي لا عوج فيه ولا بعث. والسماوات والأرض في عظيم بنائها، وروعة نظامها واتساق أجزائها ومركباتها وأجرامها، وانسجام قوانينها ونواميسها المطردة ؛ لأكبر دلالة على عظيم قدرة الله وتفرده بالألوهية. وقد خص المؤمنين بكونها آية لهم ؛ لأنهم أكثر الناس اعتبارا واتعاظا وتدبرا لما يخلفه الله. وذلك لمبادرتهم الإيمان والتصديق. ولما هم عليه من طبائع وسلامة الفطرة.
قوله :﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ ﴿ الْفَحْشَاء ﴾ : ما قبح من الأعمال، ﴿ وَالْمُنكَرِ ﴾ : معاصي الله ؛ فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأداء الصلاة المفروضة بحدودها وتمام أركانها وشروطها، فإن في الصلاة منتهى ومزدجرا عن معاصي الله. ذلك أن الصلاة مشغلة للقلب بحب الله ودعائه والخشوع بين يديه. وهي بذلك ترتدع بها نفس المصلي عن فعل الآثام والمعاصي فينتهي بها المرء عما نهى عنه الله وزجر.
وفي الحديث من رواية ابن عباس مرفوعا. " من لم تنه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده صلاته إلا بعدا " وعن عمران بن الحصين قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله :﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ قال : " من لم تنههُ صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ".
قوله :﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ أي أن ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه، أو ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم. وهو قول ابن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء وغيرهم. وروي مرفوعا عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذلك :" ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ".
قوله :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ الله عليم بسائر أفعالكم من صلاة وذكر وتسبيح وغير ذلك من وجوه الطاعة، وهو مجازيكم على ما تفعلونه من خير أو معصية١.
هذا سبيل المسلمين ؛ إذ يدعون الناس إلى منهج الإسلام يدعونهم بالحجة الظاهرة والمنطق والود ويظهرون لهم حقيقة الإسلام وما بني عليه من سماحة العقيدة وإشراقها وموافقتها للفطرة الإنسانية، وما تضمنه من قواعد وأركان تتفق وطبيعة الإنسان وتنسجم مع مكوناته النفسية والروحية والعقلية والبدنية، وتدعو في جملتها إلى الرحمة والخير والعدل والمساواة بين بني البشر.
قوله :﴿ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ المراد بالذين ظلموا : الذين نصبوا للمسلمين الحرب وجاهروا بالعداوة والتصدي لمنهج الله بالعدوان والمكايدة، وأبوا إلا أن يتمالئوا على الإسلام بالتشويه والتشكيك والتنفير والافتراء، وعلى المسلمين بالعدوان ليقتلوهم أو يستذلوهم ويضعفوهم. وهؤلاء ظالمون معتدون، فما ينبغي للمسلمين أن يعاملوه بالحسنى، أو يركنوا إلى مجادلتهم بالرفق ؛ إذ لا يجدي معهم غير سبيل القوة والتخويف دفعا لأذاهم وشرورهم عن الإسلام والمسلمين.
قوله :﴿ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ﴾ يأمر الله المؤمنين –إذ حدثهم أهل الكتاب عما حوته كتبهم مما يمكن أن يكونوا فيه صادقين أو يكونوا فيه كاذبين- أن يقولوا لهم :﴿ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ أي صدقنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم في التوراة والإنجيل، ومعبودنا ومعبودكم واحد لا شريك له، ونحن له مستسلمون مذعنون بالطاعة والخضوع.
وبذلك إذا أُخبر المسلمون بما لا علم لهم به من التوراة والإنجيل مما لا يحتمل الحق والصدق أو التحريف والباطل فإنهم لا يبادرون إلى تصديقه أو تكذيبه ؛ لأنه قد يكون حقا وقد يكون باطلا، بل إنهم يعلنون عن إيمانهم بهما إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو كونه منزل من عند الله، غير مبدَّل ولا محرَّف. وفي هذا روى البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا :﴿ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.
قوله :﴿ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ المراد مؤمنو أهل الكتاب ؛ كعبد الله بن سلام وغيره من أحبار بني إسرائيل الذين قرءوا القرآن وآمنوا به واتبعوه.
قوله :﴿ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ المراد بهؤلاء أهل مكة ؛ فإن منهم من سمع القرآن فآمن واهتدى. وقيل : المراد بهؤلاء الذين بين ظهرانيك اليوم من بني إسرائيل ممن آمن بالقرآن١.
هذا برهان ساطع على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أن القرآن منزل من رب العالمين. دليل جليّ مستبين لكل ذي طبع سوي وذي نباهة وفطانة يمحص بها الحق من الباطل. أما الذين أشربت قلوبهم الضغينة والحقد والكراهية للإسلام، أو الذين زاغت عقولهم وأبصارهم فلا يرون ولا يركنون إلى الزيف والاعوجاج والباطل ؛ فإنهم في معزل عن إدراك هذا القرآن أو التصديق بإعجاز نظمه وأسلوبه الفذ.
هذا دليل للبشرية كافة يقرع فيها القلوب والأذهان لكي تستيقن أن هذا القرآن من لدن حكيم حميد. وهو قوله :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ أي ما كنت تقرأ يا محمد من قبل القرآن كتابا ؛ إذ لم تكن قارئا. وكذلك ما كنت تكتبه، إذ لم تكن كاتبا ؛ بل كنت أميا فلم تقرأ ولم تكتب. وقد وصفه الله في التوراة والإنجيل بأنه النبي الأمي المبعوث للعالمين. وهو ما يعلمه بنو إسرائيل من قبل أن يحرفوا التوراة والإنجيل ومن قبل أن يغيروهما تغييرا. لا جرم أن هذه علامة نبوة واضحة بلجة تكشف عن صدق هذا النبي الكريم الذي أرسله الله رحمة للعالمين. آية ظاهرة لا لَبس فيها لا إبهام، ولا تقبل المرء أو التأويل. آية لو انفردت وحدها من بين الدلائل والحجج على صدق النبي وعلى حقيقة القرآن لكان فيها ما يكفى. نقول ذلك ونحن نذكر أن هذا الكتاب الحكيم المعجز الذي لا نظير له في السابقين، بل في تاريخ الكتابة والكتب كافة. كتاب قد تضمن من وجوه البينات والمعجزات والأحكام والأخبار والمعاني بأنه حق وأنه ليس من صنع بشر ؛ بل هو من لدن إله مدبر مقتدر. نقول ذلك ونحن نذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أميًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة. وما تلقى من أحد من الناس علما ولا خالط أحدا من أهل العلم أو الحكمة، لا في مدرسة ولا في بيت من بيوت التدريس أو المعرفة. لقد نشأ عليه الصلاة والسلام أميا وعاش طيلة حياته أميا ؛ فتلقى القرآن على هيئته من كمال المضمون والمعنى، وعجيب الأسلوب والمبنى. المبنى المميز الباهر الخلاب، الذي لا قِبل للعرب طُرًّا –وهم أهل البيان واللسن ومصاقع١ الكلام والخطابة- أن يعارضوه أو يأتوا بمثله.
إن ذلكم برهان أكبر على أن هذا القرآن من كلام الله وأنه معجز وفذ.
قوله :﴿ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ لو كان محمدا صلى الله عليه وسلم قارئا أو كاتبا لارتاب أهل الباطل من أهل الكتاب. وسبب ارتيابهم : أنهم كانوا يجدون في كتبهم أن صفته الأمية ؛ فهو لا يقرأ ولا يكتب. ولو كان على خلاف ذلك لارتابوا وشكُّوا.
وكذلك فإن كونه أميا يشهد له بصدق النبوة وأنه رسول مبعوث من رب العالمين. وأي شهادة أكبر من هذه الشهادة إذا ما تذكرنا أن هذا القرآن حافل بعجائب الأخبار والأسرار والأحكام والمواعظ وأنباء السابقين الغابرين. وغير ذلك من المعاني والمشاهد والعبر التي تزجي بالدليل القاطع على أن القرآن لا يطيق مضاهاته أو الإتيان بمثله بشر وإنما هو من كلام العليم الخبير.
قوله :﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ أي ما يكذب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويجحد نزول القرآن عليه وينكر أنه من عند الله إلا الذين ظلموا أنفسهم فباءوا بالهلاك والتخسير.
قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، معاندين مكابرين : هلا أُنزل على محمد آيات كآيات النبيين من قبله. وذلك كما جاء صالح بالناقة، وموسى بالعصا، وعيسى بإحياء الموتى ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ﴾ يعني إنما أمر الآيات والمعجزات إلى الله فلا يقدر أحد أن يأتي بشيء من ذلك سواه. وهو سبحانه لو كان يعلم أنكم تهتدون بمعاينة الآيات لجاءكم بها وهو عليه هين ويسير. لكن الله عليم بكفركم وجحودكم. ويعلم أنكم ما قصدتم غير التعنت والعبث والعناد ﴿ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي إنما بعثت إليكم لأبلغكم رسالة ربكم وأنذركم عقابه على كفركم وإعراضكم عن دينه.
أو لم يكفهم هذا الكتاب المجيد الذي جاء حافلا بظواهر شتى من وجوه الإعجاز مما لم يأت على مثله أو هيئته في تاريخ العالمين كتاب.
لا جرم أن معجزة القرآن تفوق كل المعجزات، وفيها من الأدلة القواطع على نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى صدق هذا الكتاب وأنه منزل من عند الله.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ المراد باسم الإشارة : القرآن، فإنه فيه رحمة للبشرية في الدنيا ؛ إذ يخرجهم من ظلمات الشر والباطل والمرض بكل صوره وأسمائه إلى نور الحق والعدل والمودة والمساواة. وهو كذلك رحمة لهم في الآخرة ؛ فإنه منجاة لهم من ويلات يوم القيامة وأهوالها وشدائدها. وكذلك فإن القرآن ذكرى ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي تذكرة لهم، باقية على مرّ الزمن فيتعظون بها ويتدبرون ما فيها من جليل المعاني والأحكام والعبر.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ذلك تنديد بالمشركين الذين ظلموا أنفسهم ؛ إذ آمنوا بالباطل وهو الكفر أو الشرك أو الضلال بكل معانيه ومسمياته ﴿ وكفروا بالله ﴾ أي جحدوا الله وكذبوا برسله وكتبه واليوم الآخر، أولئك الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة فكانوا في الأذلين الأخسرين١.
المشركون السفهاء استعجلوا عذاب بالله. وما كان استعجالهم إلا لفرط إنكارهم وتكذيبهم بيوم القيامة ؛ فقد كانوا على سبيل التهكم والجحود ﴿ ربنا عجل لنا قِطَّنا ﴾ أي عقابنا. وإنما يأتيهم العذاب بتقدير الله ومشيئته، وليس تبعا لهواهم.
وإذا جاءهم العذاب المحقق من عند الله لا يرده عنهم شيء.
قوله :﴿ لَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ ﴾ المراد بالأجل المسمى : الوقت الذي قدره الله لهلاكهم وعذابهم وهو يوم القيامة. وقيل : مدة أعمارهم في الدنيا. وقيل : غير ذلك. فلولا أن الله كتب تأخير العذاب عن المجرمين إلى يوم القيامة لأنزله بهم في الحال دون إمهال كما استعجلوه.
قوله :﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ﴾ ليأتينهم عذاب الله المحقق الموعود فجأة وهم لا يشعرون به قبل مجيئه. لسوف يفجأهم العذاب الوجيع الواصب فيدهمهم وهم لاهون غافلون ؛ فيجدون فيه من هول الصدمة وفظاعة الذعر ما يجدون.
يأمر الله عباده المؤمنين أن يهاجروا من البلد الذي يفتنون فيه عن دينهم فلا يقدرون بذلك أن يعبدوا الله أحرارا، أو أن يجاهروا بعبادة ربهم على الملأ خشية أن يميل الكافرون الظالمون فينكلوا بهم تنكيلا أو يستأصلوهم استئصالا أو يلقوا بهم في مهالك السجون والزنازين حيث الموت والتنكيل والإبادة. هؤلاء يأمرهم ربهم أن يغادروا بلدهم هذا الذي يجدون فيه الهوان والفتنة ليخرجوا إلى بلاد الله الواسعة كما يعبدوا الله أحرارا طلقاء ؛ فإذا أحاطت بالمؤمن الفتنة ؛ والمعاصي في بلد وهو غير قادر على تغيير ذلك، أو كان بقاؤه في هذا البلد سببا في سقوطه في الضلال والانغماس في الرذيلة والمعصية بات خروجه واجبا ؛ صونا لدينه أن يضيع. فقال سبحانه في ذلك :﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ وفي ذلك روى الإمام أحمد، عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البلاد بلاد الله والعباد عباد الله فحيثما أصبت خيرا فأقم ".
ولهذا لما ضاق المقام على المسلمين المستضعفين بمكة خرجوا منها مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم فيها فوجدوا فيها خير مقام في كنف المسلم العادل أصحمة النجاشي ملك الحبشة. وبعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه سلم وأصحابه إلى يثرب –المدينة المنورة- فوجدوا فيها الأمن والاستقرار وحسن المقام لدى إخوان كرام أبرار وهم الأنصار.
وفي الآية يدعو الله جل وعلا المؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يهاجروا على حيث العبادة والطاعة والتزام شرع الله في أمن وطمأنينة، مجانبين الفتنة والضلال، ويدعوهم أيضا أن يجاهدوا الكافرين الذين يحادون الله ورسوله ويكيدون للإسلام والمسلمين كيدا، وأن لا يخشوا افتقارا أو قلة ؛ فإنما رزقهم على الله، يرزق من يشاء بغير حساب. وهو سبحانه الخالق الرازق لا ينسى من فضله أحدا من خلقه ؛ فكم من دابة محتاجة إلى غذاء وشراب ﴿ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ أي لا تحمل معها غذاءها فتخزنه لغدها ؛ فإنها عاجزة عن فعل ذلك ﴿ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ يتساوى المرزوقون في تحصيل الرزق، الحريصون منهم أو المتوكلون، والراغبون أو القانعون، والجادون أو العاجزون، فكل مرزوق بفضل الله وتقديره. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أنكم توكّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا ".
قوله :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ الله يسمع قولكم : نخشى بالهجرة ومفارقة الأوطان أن نفتقر ويمسنا البؤس والحاجة. وهو يعلم ما تخفونه في قلوبكم وما أنتم صائرون إليه٣.
.
٢ مختار الصحاح ص ١٩٧، وأساس البلاغة ص ١٨١..
٣ تفسير الطبري ج ٢١ ص ٧-٨، والكشاف ج ٣ ص ٢١١..
يبين الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حال المشركين من السفاهة وهوان الأحلام وصفاقتها وما هم عليه من ذميم التعصب. وليس أدل جهالتهم وحماقتهم وتعصبهم الممقوت من عبادتهم أحجارا صماء لا تنطق ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع. وهم مع ذلك مقرون إقرارا بأن الله خالق السماوات والأرض وما فيهما من خلائق وأجرام. وفي ذلك يخاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم منكرا على هؤلاء الضالين إشراكهم وكفرهم ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ أي لسوف يعترفون بأن خالق ذلك كله هو الله لذلك قال لهم الله ﴿ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ والاستفهام للإنكار، أي فكيف يُصرفون عن الإقرار لله بالوحدانية وتفرده بالألوهية فيعدلوا عن إخلاص العبادة له وحده.
فما ينبغي لمؤمن –بعد استقرار هذه الحقيقة وجلائها- أن يتخلف عن مجاهدة الأعداء ومقارعة الباطل والمبطلين خشية الفقر والقلة.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ الله عليم بمصالحكم وما يُصلحكم من توسيع أو تقتير.
قوله :﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ الشكر لله وحده، والثناء عليه جل جلاله على ما أفاض به من الأدلة والبراهين على ظهور الحق و على بالغ قدرته ومشيئته. ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ أكثر هؤلاء المشركين لا يتدبرون الحجج والدلائل، ويحسبون –وهم يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى- أنهم على شيء، وهم في الحقيقة لا يفهمون أنهم موغلون في الجهالة والضلالة وأنهم صائرون إلى النار١.
ذلك إخبار من الله تعالى عن هوان الدنيا وحقارتها وسرعة زوالها، وأنها ليست إلا الحطام الفاني الذي لا بقاء له ولا ديمومة، وهو ما يلبث أن يتبدد ويذهب. والحياة الدنيا في خفة شأنها وبساطة اعتبارها أشبه بسحابة تتراءى للناظرين ثم تزول وتنقشع. وأعظم ما توصف به الدنيا هو قول الله فيها ﴿ إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ فهي للتلهي الذي ينشغل به القلب والذهن. وللعب الذي يغتر به اللاهون والواهمون والغافلون من الناس.
قوله :﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ المراد بالحيوان الحياة. والمعنى : أن الدار الآخرة حيث الجنة ذات النعيم المقيم لهي دار الحياة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي لو كان المشركون يعلمون أن الأمر كذلك لما أشركوا مع الله في عبادتهم أحدا ولما تلبسوا بالمعاصي والخطيئات. لكنهم لا يعلمون أن الأمر كذلك فهم موغلون في جهالاتهم وسفاهاتهم.
وقد ذكر في هذا الصدد عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارّا منها، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة فقال أهلها : يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء ؛ فإنه لا ينجي ههنا إلا هو. فقال عكرمة : والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره ؛ فإنه لا ينجي في البر أيضا غيره. اللهم لك عليّ عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد فلأجدنه رءوفا رحيما. فكان كذلك.
قوله :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ لما كتب الله لهم السلامة وأنجاهم من الموت المحدق، فخلصوا إلى البر آمنين سالمين بعون الله وفضله ورحمته بادروا الإشراك بالله ونسيان ما مَنّ الله به عليهم من التنجية والتسليم. وقيل : إشراكهم أن يقول قائلهم : لولا الله والرئيس أو الملك أو الملاح الفلاني لغرقنا أو أهلكنا. فهم بذلك يجعلون ما كتب الله لهم من النجاة قسمة بين الله وبين عباده. وإنما الله وحده هو المنجي وهو المنان الذي سبقت قدرته وإرادته كل أفعال المخاليق.
قوله :﴿ أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ ﴾ أي كذب بالقرآن أو برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فجحد بنبوته ولم يصدقه فيما جاء به من عند الله.
قوله :﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴾ استفهام تقرير ؛ أي ليس في النار مستقر يثوي إليه الظالمون الذين أنكروا وحدانية الله وكذبوا رسوله ؟.
على أن المجاهدة الصحيحة والمقبولة ما كان منها في سبيل الله. وهو قوله :﴿ فيناَ ﴾ أي ابتغاء مرضاتنا. أما ما كان من ذلك في غير سبيل الله، بل طمعا في مكسب أو مغنم أو مكانة مرموقة ؛ فإن المجاهدة حينئذ لا أجر فيها ولا قيمة لها في ميزان الله.
قوله :﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ أي لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة. ففي الدنيا : يوفقهم الله للصواب والسداد من القول والفعل، والسلوك النافع السوي الذي قرره الإسلام. وفي الآخرة : يوفقهم الله ويهديهم إلى طريق الجنة.
قوله :﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ اللام للتوكيد. والمراد بالمحسنين : المصدقون المستيقنون الذين يعملون بما يعلمون، ويجاهدون في الله مخلصين غير مرائين، أولئك الله معهم بالعون والنصرة والتأييد١.