أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحو ذلك وروي القول بأنها مكية عن الحسن وجابر وعكرمة وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة وفي البحر عن الحبر وقتادة أنها مدنية وقال يحيى ابن سلام : هي مكية إلا من أولها إلى قوله ( وليعلمن المنافقين ) وذكر ذلك الجلال السيوطي في الاتقان ولم يعزه وأنه لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها ثم قال : قلت ويضم إلى ذلك ( وكأين من دابة ) الآية لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك وهي تسع وستون آية بالإجماع كما قال الداني والطبرسي وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه ( علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ) وافتتح هذه بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الايمان بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل بكثير تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثا على الصبر ولذا قيل هنا :( ولقد فتنا الذين قبلهم ) وأيضا لما كان في خاتمة الأولى الاشارة إلى هجرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي في قوله تعالى :( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) على بعض الاقوال وفي خاتمة هذه الاشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى :( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ) ناسب تتاليهما.
ﰡ
أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحو ذلك، وروي القول بأنها مكية عن الحسن وجابر وعكرمة وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة. وفي البحر عن الحبر وقتادة أنها مدنية وقال يحيى بن سلام: هي مكية إلا من أولها إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: ١١] وذكر ذلك الجلال السيوطي في الإتقان ولم يعزه، وأنه لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها ثم قال: قلت ويضم إلى ذلك وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ [العنكبوت: ٦٠] الآية لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك وهي تسع وستون آية بالإجماع كما قال الداني والطبرسي، وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص: ٤] وافتتح هذه بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل بكثير تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثا على الصبر، ولذا قيل هنا: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: ٣] وأيضا لما كان في خاتمة الأولى الإشارة إلى هجرة النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أي في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: ٨٥] على بعض الأقوال، وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
[العنكبوت: ٥٦] ناسب تتاليهما.
تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: ١٧] وقول الشاعر:
فضمير الجمع نائب مفعول أول والمفعول الثاني متروك بدلالة الحال الآتية أي كما هم أو على ما هم عليه كما في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا [التوبة: ١٦] على ما قدره الزمخشري فيه وقوله سبحانه: أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بمعنى لأن يقولوا متعلق بيتركوا على أنه غير مستقر، وقوله تعالى: وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ في موضع الحال من ضمير يتركوا، ويجوز أن لا يعتبر كون المفعول الثاني ليتركوا متروكا بل تجعل هذه الجملة الحالية سادة مسده، ألا ترى أنك لو قلت: علمت ضربي زيدا قائما صح، على أن ترك ليس كأفعال القلوب في جميع الأحكام، بل القياس أن يجوز الاكتفاء فيه بالحال من غير نظر إلى أنه قائم مقام الثاني لأن قولك: تركته وهو جزر السباع كلام صحيح كما تقول أبقيته على هذه الحالة، وهو نظير سمعته يتحدث في أنه يتم بالحال بعده أو الوصف، وهاهنا زاد أنه يتم أيضا بما يجري مجرى الخبر، وجوز أن تكون هذه الجملة هي المفعول الثاني لا سادة مسده وتوسط الواو بين المفعولين جائز كما في قوله:
وصيرني هواك وبي... لحيني يضرب المثل
وقد نص شارح أبيات المفصل على أنه حكي عن الأخفش أنه كان يجوز كان زيد وأبوه قائم على نقصان كان وجعل الجملة خبرا مع الواو تشبيها لخبر كان بالحال فمتى جاز في الخبر عنده فليجز في المفعول الثاني وهو كما نرى، واستظهر الطيبي كون الترك هنا متعديا لواحد على أنه بمعنى التخلية وليس بذاك وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون أَنْ يَقُولُوا بدلا من أن يتركوا وجوز أن يكون أَنْ يُتْرَكُوا هو المفعول الأول لحسب وهُمْ لا يُفْتَنُونَ في موضع الحال من الضمير وَإِنْ يَقُولُوا بتقدير اللام هو المفعول الثاني، وكونه علة لا ينافي ذلك كما في قولك: حسبت ضربه للتأديب، والتقدير أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنا، والمفعول الثاني ليتركوا متروك بدلالة الحال، واعترضه صاحب التقريب بما حاصله أن الحسبان لتعلقه بمضامين الجمل إذا أنكر يكون باعتبار المفعول الثاني فإذا قلت: أحسبته قائما فالمنكر حسبان قيامه وكذلك إذا قيل: أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا أفاد إنكار حسبان أن الترك غير مفتونين لهذه العلة بل إنما هو لعلة أخرى ولا يلائم سبب النزول ولا مقصود الآية.
واختار أن يكون أَنْ يُتْرَكُوا سادا مسد المفعولين وأَنْ يَقُولُوا علة للحسبان أي أحسبوا لقولهم آمنا أن يتركوا غير مفتونين، وأجيب بأن أصل الكلام ألا يفتنون لقولهم آمنا على إنكار أن يكون سببا لعدم الفتن، ثم قيل:
أيتركون غير مفتونين لقولهم آمنا مبالغة في إنكار أن يبقوا من غير فتن لذلك ثم أدخل على حسبان الترك مبالغة على مبالغة، وإنما يرد ما أورد إذا لم يلاحظ أصل الكلام ويجعل مصب الإنكار الحسبان من أول الأمر.
وقيل: إنما يلزم ما ذكر لو لم يقدر أحسبوا تركهم غير مفتونين بمجرد قولهم: آمنا دون إخلاص وعمل صالح أما لو قدر ذلك استقام كما صرح به الزجاج، على أن ذلك مبني على اعتبار المفهوم، واعترض ذلك بعضهم من حيث اللفظ بأن فيه الفصل بين الحال وذيها بثاني مفعولي حسب وهو أجنبي وأجيب بأن الفصل غير ممتنع بل الأحسن أن لا يقع فصل إلا إذا اعترض ما يوجبه، وهاهنا الاهتمام بشأن الخبر حسن التقديم لأن مصب الإنكار ذلك، ولا يخفى أنه يحتاج إلى مثل هذا الجواب على ما يقتضيه الظاهر من جعل أَنْ يُتْرَكُوا في تأويل مصدر وقع مفعولا أولا وَإِنْ يَقُولُوا في تأويل مصدر أيضا مجرور بلام مقدرة والجار والمجرور في موقع المفعول الثاني، وأما على ما ذكره بعض المحققين من أنهما لم يجعلا كذلك وإنما جعل أَنْ يَقُولُوا معمولا ليتركوا بتقدير اللام وجعل أَنْ يُتْرَكُوا
وذكر بعضهم أنه سبحانه لو أثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذب: ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فإيمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت والآية على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:
١١٠].
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال سمعت ابن عمير وغيره يقولون: كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل على عمار درعا من حديد في اليوم الصائف وطعن في فرج أمه برمح ففي ذلك نزلت أَحَسِبَ النَّاسُ إلخ، وقيل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب قتل ببدر فجزع عليه أبواه وامرأته «و
قال فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة»
، وقيل: نزلت في عياش أخي أبي جهل غدر وعذب ليرتد كما سيأتي خبره إن شاء الله تعالى، وفسر الناس بمن نزلت فيهم الآية، وقال الحسن الناس هنا المنافقون.
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حال من الناس أو من ضمير يفتنون، وعلى الأول يكون علة لإنكار الحسبان أي أحسبوا ذلك وقد علموا أن سنة الله تعالى على خلافه ولن تجد لسنة الله تعالى تبديلا، وعلى الثاني بيانا لأنه لا وجه لتخصيصهم بعدم الافتنان، وحاصله أنه على الأول تنبيه على الخطأ، وعلى الثاني تخطئة، والمراد بالذين من قبلهم المؤمنون أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصابهم من ضروب الفتن والمحن ما أصابهم فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ كما يعرب عنه قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا [آل عمران: ١٤٦] الآيات.
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي في قولهم آمنا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفصح عنه ما قبلها من وقوع الامتحان، واللام واقعة في جواب القسم، والالتفات إلى الاسم الجليل لإدخال الروعة وتربية المهابة، وتكرير الجواب لزيادة التأكيد والتقرير، ويتوهم من الآية حدوث علمه تعالى بالحوادث وهو باطل. وأجيب بأن الحادث تعلق علمه تعالى بالمعدوم بعد حدوثه، وقال ابن المنير: الحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء فكأنه قيل: فو الله ليعلمن بما يشبه الامتحان والاختبار الذين صدقوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب فليجازين كلا بحسب علمه فيه، وفي معناه ما قاله ابن جني من أنه من إقامة السبب مقام المسبب، والغرض فيه ليكافئن الله تعالى الذين صدقوا وليكافئن الكاذبين وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم، وقال محيي السنة: أي فليظهرن الله تعالى الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلوما لأن الله تعالى عالم بهم قبل الاختبار.
وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وجعفر بن محمد والزهري رضي الله تعالى عنهم «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام
على أنه مضارع أعلم المنقولة بهمزة التعدية من علم المتعدية إلى واحد وهي التي بمعنى عرف فيكون الفعل على هذه القراءة متعديا لاثنين والثاني هنا محذوف أي فليعلمن الله الذين صدقوا منازلهم من الثواب وليعلمن الكاذبين منازلهم من العقاب وذلك في الآخرة، أو الأول محذوف أي فليعلمن الله الناس الذين صدقوا وليعلمنهم الكاذبين أي يشهدهم هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر، والظاهر أن ذلك في الآخرة أيضا، وقال أبو حيان: في الدنيا والآخرة، وجوز أن يكون ذلك من الاعلام وهو وضع العلامة والسمة فيتعدى لواحد أي يسمهم بعلامة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها، وقيل: يسمهم سبحانه بعلامة يعرفون بها في الدنيا
كقوله عليه الصلاة والسلام: «من أسر سريرة ألبسه الله تعالى رداءها».
وقرأ الزهري الفعل الأول كما قرأ الجماعة، والفعل الثاني كما قرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وجعفر والزهري رضي الله تعالى عنهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا قال مجاهد: أي يعجزونا فلا نقدر على مجازاتهم على أعمالهم والانتقام منهم وأصل السبق الفوت، ثم أريد منه ما ذكر وقيل: أي يعجلونا محتوم القضاء، والأول أولى.
وفسر قتادة على ما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير السَّيِّئاتِ بالشرك والجمع باعتبار تعدد المتصفين به وإطلاق العمل على الشرك سواء قلنا إنه ما كان عن فكر وروية كما قيل: أو عن قصد كما قال الراغب: أم لا لا ضير فيه لأنه يكون بعبادة الأصنام وغيرها، وقيل: المراد بالسيئات المعاصي غير الكفر فالآية في المؤمنين قطعا، وهم وإن لم يحسبوا أن يفوتوه تعالى ولم تطمع نفوسهم في ذلك لكن نزل جريهم على غير موجب العلم وهو غفلتهم وإصرارهم على المعاصي منزلة من لم يتيقن الجزاء، ويحسب أنه يفوت الله عز وجل.
وعمم بعضهم فحمل السيئات على الكفر والمعاصي، وتعليق العمل بها بناء على تسليم تخصيصه بما سمعت
وقال ابن عطية: أَمْ معادلة للهمزة في قوله تعالى: أَحَسِبَ وكأنه سبحانه قرر الفريقين، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله تعالى ويعجزونه انتهى. ورد بأنها لو كانت معادلة للهمزة لكانت متصلة والتالي باطل لأن شرط المتصلة أن يكون ما بعدها مفردا نحو أزيد قائم أم عمرو أو ما هو في تقدير المفرد نحو أقام زيد أم قعد وجوابها تعيين أحد الشيئين أو الأشياء وبعدها هنا جملة ولا يمكن الجواب هنا أيضا بأحد الشيئين فالحق أنها منقطعة والاستفهام الذي تشعر به إنكاري لا يحتاج للجواب كما لا يخفى، والظاهر أن الحسبان متعد إلى مفعولين وأن أَنْ يَسْبِقُونا ساد مسدهما.
وجوز الزمخشري هنا أن يضمن معنى التقدير فيكون متعديا لواحد وإن يسبقونا هو ذلك الواحد، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين ليس بقياس ولا يصار إليه إلا عند الحاجة وهنا لا حاجة إليه ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك على أن ساء بمعنى بئس وما موصولة ويَحْكُمُونَ صلتها، والعائد محذوف وهي فاعل ساء، والمخصوص بالذم محذوف أو بئس حكما يحكمونه حكمهم ذلك على أن ما موصوفة ويحكمون صفتها والرابط محذوف وهي تمييز وفاعل ساء ضمير مفسر بالتمييز والمخصوص محذوف أيضا.
وقال ابن كيسان: ما مصدرية، والمصدر المؤول مخصوص بالذم فالتمييز محذوف، وجوز كون ساء بمعنى قبح وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة، والمضارع للاستمرار إشارة إلى أن دأبهم ذلك أو هو واقع موقع الماضي لرعاية الفاصلة وكلا الوجهين حكاهما في البحر، والأول أولى، وعندي أن مثل هذا لا يقال: إلا في حق الكفرة مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: أي من كان يخشى البعث في الآخرة فالرجاء بمعنى الخوف كما في قول الهذلي في وصف عسال:
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها | وخالفها في بيت نوب عوامل |
وجوز أن يكون بمعنى ذلك إلا أن الكلام بتقدير مضاف أي من كان يتوقع ملاقاة جزاء الله تعالى ثوابا أو عقابا أو
واختار بعضهم أن الرجاء بمعناه المشهور وأن لقاء الله تعالى مشاهدته سبحانه على الوجه اللائق به عز وجل كما يقوله أهل السنة والجماعة إذ لا حاجة للخروج عن الظاهر من غير ضرورة وما حسبه المعتزلي منها فليس منها كما بين في علم الكلام أي من كان يتوقع مشاهدة الله تعالى يوم القيامة التي لا نعيم يعدلها ويلزمها الفوز بكل خير ونعيم فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الأجل غاية لزمان ممتد عينت لأمر من الأمور، وقد يطلق على كل ذلك الزمان، والأول أشهر في الاستعمال أي فإن الوقت الذي عينه جل شأنه لذلك لَآتٍ لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لأن أجزاء الزمان على التقضي والتصرم دائما، ومجيء ذلك الوقت كناية عن إتيان ما فيه ووقوعه، والجملة الاسمية قائمة مقام جواب الشرط وهي في الحقيقة دليل الجواب المحذوف أي فليبادر ما ينفقه من امتثال الأوامر واجتناب المناهي أو فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو نحو ذلك مما يلائم الشرط فتدبر.
وقيل: يجوز أن تكون هي الجواب على أن المراد بها المعنى الملائم للشرط كما ذكر وَهُوَ السَّمِيعُ جل شأنه لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأحوالهم من الأعمال الظاهرة والعقائد والصفات الباطنة، والجملة تذييل لتحقيق حصول المرجو والمخوف وعدا ووعيدا وَمَنْ جاهَدَ في طاعة الله عز وجل.
فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لعود المنفعة من الثواب المعد لذلك إليها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا حاجة له إلى طاعتهم وإنما أمرهم سبحانه بها تعريضا لهم للثواب بموجب رحمته وحكمته.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الكفر الأصلي أو العارضي بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم والجزاء الحسن أن يجازي بحسنة حسنة، وأحسن الجزاء أن تجازى الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة، وقيل: لو قدر لنجزينهم بأحسن أعمالهم أو جزاء أحسن أعمالهم لإخراج المباح جاز وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما، وانتصب حسنا على أنه وصف لمصدر محذوف أي إيصاء حسنا أي ذا حسن أو هو في حد ذاته حسن لفرط حسنه كقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: ٨٣] وهذا ما اختاره أبو حيان ولا يخلو عن حسن، وقال الزمخشري: حسنا مفعول به لمصدر محذوف مضاف إلى والديه أي وصيناه بإيتاء والديه أو بإيلاء والديه حسنا، وفيه إعمال المصدر محذوفا وإبقاء عمله وهو لا يجوز عند البصريين، وجوز أن يكون حسنا مصدرا لفعل محذوف أي أحسن حسنا، والجملة في موضع المفعول لوصي لتضمنه معنى القول، وهذا على مذهب الكوفيين القائلين بأن ما يتضمن معنى القول يجوز أن يعمل في الجمل من غير تقدير للقول، وعند البصريين يقدر القول في مثل ذلك وعليه يجوز أن يكون مفعولا به لفعل محذوف والجملة مقول القول وجملة القول مفسرة للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما حسنا، وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه لاستئناف الجملة بعده، ورجح تقدير الأمر بأنه أوفق لما بعده من الخطاب والنهي الذي هو أخوه لكن ضعف ما فيه كثرة تقدير بكثرة التقدير، ونقل ابن عطية عن الكوفيين أنهم يجعلون حسنا مفعولا لفعل محذوف ويقدرون أن يفعل حسنا، وفيه حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول وهو لا يجوز عند البصريين، وقيل: إن حسنا منصوب بنزع الخافض وبوالديه متعلق بوصينا والباء فيه بمعنى في أي وصينا الإنسان في أمر والديه بحسن وهو كما
والمراد لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم، وفي العدول عنه إلى ما في النظم الجليل إيذان بأن ما لا يعلم صحته ولو إجمالا كما في التقليد لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم على أتم وجه بطلانه، وجعل العلامة الطيبي نفي العلم كناية عن نفي المعلوم، وعلل ذلك بأن هذا الأسلوب يستعمل غالبا في حق الله تعالى نحو «أتعلمون الله بما لا يعلم» (١) ثم قال: وفيه إشارة إلى أن نفي الشرك من العلوم الضرورية وأن الفطرة السليمة مجبولة عليه على ما
ورد «كل مولود يولد على الفطرة»
وذلك أن المخاطب بقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان انتهى، وفيه بحث. ومتعلق تطعهما محذوف لوضوح دلالة الكلام عليه أي وإن استفرغا جهدهما في تكليفك لتشرك بي غيري مما لا إلهية له فلا تطعهما في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وفي تعليق النهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكليف إشعار بأن موجب النهي فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية وكذا موجبه في مجاهدة أحدهما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مرجع من آمن منكم- ومن أشرك- ومن بر- ومن عق والجملة مقررة لما قبلها ولذا لم تعطف فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازي كلا منكم بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه رضي الله تعالى عنه حين أسلم قالت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس: يا سعد بلغني أنك صبأت فو الله تعالى لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وأن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.
وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما متوافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبا لك منا فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله تعالى عنه فقال هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم ما لي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعها وعصى عمر رضي الله عنه تعالى عنه فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهم ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك، قال: نعم. فنزل ليوطىء لنفسه
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرة الراسخين في الصلاح الكاملين فيه، والصلاح ضد الفساد وهو جامع لكل خير، وله مراتب غير متناهية ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا، ولذا طلبها الأنبياء عليهم السلام كما قال سليمان عليه السلام وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: ١٩] ويحتمل أن يكون الكلام بتقدير مضاف أي في مدخل الصالحين وهي الجنة، والموصول مبتدأ ولندخلنهم الخبر على ما ذكره أبو البقاء، وجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير لندخلن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم وَمِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي لأجله عز وجل على أن في للسببية، أو المراد في سبيل الله تعالى بأن عذبهم المشركون على الإيمان به تعالى جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ أي نزلوا ما يصيبهم من أذيتهم كَعَذابِ اللَّهِ أي منزلة عذابه تعالى في الآخرة فجزعوا من ذلك ولم يصبروا عليه وأطاعوا الناس وكفروا بالله تعالى كما يطيع الله تعالى من يخاف عذابه سبحانه فيؤمن به عز وجل.
وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ بأن حصل للمؤمنين فتح وغنيمة لَيَقُولُنَّ بضم اللام الثانية وحذف ضمير الجمع لالتقاء الساكنين، وهذا الضمير عائد إلى من والجمع بالنظر إلى معناها، كما أن إفراد الضمائر العائدة إليها فيما سبق بالنظر إلى لفظها، وحكى أبو معاذ النحوي أنه قرىء «ليقولن» بفتح اللام على إفراد الضمير كما فيما سبق إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي مشايعين لكم في الدين فأشركونا فيما حصل من الغنيمة، وقيل: أي مقاتلين معكم ناصرين لكم فالمراد الصحبة في القتال. ورد بأنها غير واقعة، والآية نزلت في ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانوا يكتمونه من المسلمين وبذلك يكونون منافقين، ولذا قال ابن زيد والسدي: إن الآية في المنافقين فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله سبحانه:
أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وهو في الظاهر عطف على مقدر أي أيخفى حالهم وليس إلخ أو أليس المتفرسون الذين ينظرون بنور الله تعالى بأحوالهم عالمين وليس إلخ، و (أعلم) إما على أصله أي أليس هو عز وجل أعلم من العالمين بما في صدور العالمين من الأخلاق والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء عن المسلمين وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة أو هو بمعنى عالم. وقال قتادة: نزلت فيمن هاجر فردهم المشركون إلى مكة، وقيل: نزلت في ناس مؤمنين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا وهم الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: ٩٧] الآية، وما تقدم هو الأوفق لما سبق من الآية وما لحق من قوله سبحانه: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالإخلاص وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ سواء كان كفرهم بأذية أو لا، والمراد بالعلم المجازاة أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق، وكأن تلوين الخطاب في الذين آمنوا والمنافقين لرعاية الفواصل، والظاهر أن الآية بناء على أن النفاق ظهر في المدينة مدنية، وهو يؤيد ما تقدم من عدها من المستثنيات، ولعل من يقول إنها مكية لظاهر إطلاق جمع القول بمكية السورة، وأن تعذيب الكفرة المسلمين إنما كان في الأغلب بمكة يمنع ذلك أو يذهب إلى أنها من الأخبار بالغيب فتدبر وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بيان لحملهم المؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملهم إياهم عليه بالأذية والوعيد، ووصفهم بالكفر هاهنا دون ما سبق لما أن مساق الكلام لبيان جنايتهم وفيما سبق لبيان جناية من أضلوه، واللام للتبليغ أي قالوا مخاطبين لهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين، عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر تنزيلا للمسلك منزلة
أكرمني أنفعك لا يفيد ذلك، والداعي لهم إلى المبالغة التشجيع على الاتباع، والحمل هنا مجاز، وفي البحر شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر والخطايا بالمحمول، وقال مجاهد: الحمل هنا من الحمالة لا من الحمل انتهى.
والآية على ما أخرج جماعة عن مجاهد نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا فإن كان عليكم شيء فعلينا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن الحنفية قال كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسلمون يقولون: إنه يحرم الخمر ويحرم الزنا ويحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية
، وقيل: قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف قالا لعمر رضي الله تعالى عنه: إن كان في الإقامة على دين الآباء إثم فنحن نحمله عنك.
وقيل: قائله الوليد بن المغيرة، ونسبة ما صدر عن الواحد للجمع شائعة، وقد تقدم الكلام غير مرة في وجه ذلك، وقرأ الحسن وعيسى ونوح القارئ
«ولتحمل» بكسر لام الأمر، ورويت عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه
وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ نفي مؤكد عن سبيل الاستمرار لكونهم حاملين شيئا ما من خطاياهم التي التزموا حملها، فالباء زائدة لتأكيد النفي والاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية معتبر بعد النفي، ومن الأولى للبيان وهو مقدم من تأخير، ومن الثانية مزيدة لتأكيد الاستغراق، وهذه الجملة اعتراض أو حال.
وقرأ داود بن أبي هند فيما ذكر أبو الفضل الرازي «من خطيئتهم» على التوحيد قال: ومعناه الجنس، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة، وذكر ابن خالويه وأبو عمرو الداني أن داود هذا قرأ «من خطيئاتهم» جمع خطيئة جمع السلامة بالألف والتاء، وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ من «خطيهم» بفتح الطاء وكسر الياء، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين فأشبهت الياء لأن قياس تسهيلها هو ذلك وقوله تعالى: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ استئناف مقرر للنفي السابق، والكذب قيل راجع إلى تعليق الحمل بالاتباع فإنه إخبار لا إلى الأمر السابق لأنه إنشاء ولا يجري الكذب فيه، وتعقب بأن التعليق لا يلزمه أن يكون إخبار بل هو ضمان معلق أي إنشاء الضمان عند وجود الصفة، ولذا قال الزمخشري: إن ضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وجعل هذا سؤالا عن وجه التعبير بكاذبون، وأجاب عن ذلك بوجهين، ثانيهما على ما في الكشف هو الوجه، وحاصله أن الكذب ليس راجعا إلى أنهم غير حاملين ليقال: إن الضامن لا يسمى كاذبا بل أخبر الله تعالى أنهم عجزوا عما ضمنوه ومع ذلك هم كاذبون في وعد إنشاء الضمان عند وجود الوصف، والمحصل أن من وعد الضمان إن ضمن ولم يحقق لا يسمى كاذبا وإن لم يضمن سمي كاذبا، وأولهما أنه شبه الله تعالى حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده سبحانه لا على ما هو عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ بيان لما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلا، والتعبير عن الخطايا بالأثقال للإيذان بغاية ثقلها وكونها فادحة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله ليحملن أثقال أنفسهم كاملة وَأَثْقالًا أخر مَعَ أَثْقالِهِمْ وهي أثقال ما تسببوا بالإضلال والحمل على الكفر والمعاصي من غير أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما.
فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أيما داع دعا إلى هدي فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا»
قال عون: وكان الحسن يقرأ عليها وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، وللإشارة إلى استقلال أثقال أنفسهم وأنها نهضتهم واستفرغت جهدهم وأن الأثقال الأخر كالعلاوة عليها اختير ما في النظم الجليل على أن يقال وليحملن أثقالا مع أثقالهم.
وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع وتبكيت عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها كذبهم هذا.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً شروع في بيان افتتان الأنبياء عليهم السلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم السلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى، والظاهر أن الواو للعطف وهو من عطف القصة على القصة، قال ابن عطية: والقسم فيها بعيد يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه فإن فيه حذف المجرور وإبقاء الجار، وهم قالوا: لا بد من ذكر المجرور، والفاء للتعقيب فالمتبادر أنه عليه السلام لبث في قومه عقيب الإرسال المدة المذكورة وقد جاء مصرحا به في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: بعث الله تعالى نوحا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا،
وعلى هذه الرواية يكون عمره عليه السلام ألف سنة وخمسين سنة، وقيل: إنه عليه السلام عمر أكثر من ذلك،
أخرج ابن جرير عن عون بن أبي شداد قال: إن الله تعالى أرسل نوحا عليه السلام إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة فيكون عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة،
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان
وعن وهب أنه عليه السلام عاش ألفا وأربعمائة سنة،
وفي جامع الأصول كانت مدة نبوته تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الغرق خمسين سنة، وقيل: مائتي سنة وكانت مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون ما ذكر الله عز وجل مدة إقامته عليه السلام من لدن مولده إلى غرق قومه، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه السلام، ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم
وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا
، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال: يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال:
كرجل دخل بيتا له بابان فقال وسط الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر
، ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه السلام للدلالة على كمال العدد وكونه متعينا نصا دون تجوز فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة لأنها أول ما تقرع السمع فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء، واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة، والنكتة في اختيار السنة أولا أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسى من قومه فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أي عقيب تمام المدة المذكورة، والطوفان قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام قال العجاج:
حتى إذا ما يومها تصبصبا | وغم طوفان الظلام الأثأبا (١) |
وروي مرفوعا كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة
أي مع أهليهم وَجَعَلْناها أي السفينة آيَةً لِلْعالَمِينَ عبرة وعظة لهم لبقائها زمانا طويلا على الجودي يشاهدها المارة ولاشتهارها فيما بين الناس، ويجوز كون الضمير للحادثة والقصة المفهومة مما قبل وهي عبرة للعالمين لاشتهارها فيما بينهم وَإِبْراهِيمَ نصب بإضمار اذكر معطوفا على ما قبله عطف القصة على القصة فلا ضير في اختلافهما خبرا وإنشاء وإذ في قوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ بدل اشتمال منه لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، وقد جوز ذلك الزمخشري وابن عطية، وتعقب ذلك أبو حيان بأن إذ لا تتصرف فلا تكون مفعولا به والبدلية تقتضي ذلك. ثم ذكر أن إذ إن كانت ظرفا لما مضى لا يصح أن تكون معمولة لأذكر لأن المستقبل لا يقع في الماضي فلا يجوز قم أمس، وإذا خلعت من الظرفية الماضوية وتصرف فيها جاز أن تكون مفعولا به ومعمولا لأذكر، وجوز غير واحد أن يكون نصبا بالعطف على نوحا فكأنه قيل: وأرسلنا إبراهيم فإذ حينئذ ظرف للإرسال، والمعنى على ما قيل أرسلناه حين تكامل عقله وقدر على النظر والاستدلال وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق، وهذا
١٨] إلخ إذا كان من قوله عليه السلام لقومه كالنص في أن القول المحكي عنه عليه السلام كان بعد الإرسال وفي الحواشي السعدية أن ذلك إشارة إلى دفع ما عسى أن يقال: الدعوة تكون بعد الإرسال والمفهوم من الآية تقدمها عليه، وحاصله أنه ليس المراد من الدعوة ما هو نتيجة الإرسال بل ما هو نتيجة كمال العقل وتمام النظر، مع أن دلالة الآية على تقدمها غير مسلمة ففي الوقت سعة، ويجوز أن يكون القصد هو الدلالة على مبادرته عليه السلام للامتثال اهـ فتدبر.
وجوز أبو البقاء، وابن عطية أن يكون نصبا بالعطف على مفعول أنجيناه وهو كما ترى، والأوفق بما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [الأعراف: ٨٥، هود: ٨٤، العنكبوت: ٣٦] أن يكون النصب بالعطف على نوحا وقرأ أبو حنيفة، والنخعي وأبو جعفر وإبراهيم بالرفع على أن التقدير ومن المرسلين إبراهيم، وقيل: التقدير ومما ينبغي ذكره إبراهيم، وقيل: التقدير وممن أنجينا إبراهيم، وعلى الأول المعول لدلالة ما قبل وما بعد عليه، ويتعلق بذلك المحذوف إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاتَّقُوهُ أن تشركوا به سبحانه شيئا ذلِكُمْ أي ما ذكر من العبادة والتقوى خَيْرٌ لَكُمْ من كل شيء فيه خيرية أو مما أنتم عليه على تقدير الخيرية فيه على زعمكم، ويجوز كون خير صفة لا اسم تفضيل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر، أو إن كنتم تعلمون شيئا من الأشياء بوجه من الوجوه فإن ذلك كاف في الحكم بخيرية ما ذكر من العبادة والتقوى إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً بيان لبطلان دينهم وشريته في نفسه بعد بيان شريته بالنسبة إلى الدين الحق، أي ما تعبدون من دونه تعالى إلا أوثانا هي في نفسها تماثيل مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله سبحانه أو تعملونها وتنحتونها للإفك والكذب، واللام لام العاقبة وإلا فهم لم يعملوها لأجل الكذب، وجوز أن يكون ذلك من باب التهكم. وقال بعض الأفاضل: الأظهر كون إفكا مفعولا به والمراد به نفس الأوثان وجعلها كذبا مبالغة، أو الإفك بمعنى المأفوك وهو المصروف عما هو عليه، وإطلاقه على الأوثان لأنها مصنوعة وهم يجعلونها صانعا. وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والسلمي وعون العقيلي وعبادة وابن أبي ليلى وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «تخلّقون» بفتح التاء والخاء واللام مشددة، قال ابن مجاهد: ورويت عن ابن الزبير وأصله تتخلقون فحذفت إحدى التاءين وهو من تخلق بمعنى تكذب وصيغة التكلف للمبالغة. وزعم بعضهم جواز أن يكون تفعل بمعنى فعل، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أيضا «تخلقون» من خلق بالتشديد للتكثير في الخلق بمعنى الكذب والافتراء، وقرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان «أفكا» بفتح الهمزة وكسر الفاء على أنه مصدر كالكذب واللعب أو وصف كالحذر وقع صفة لمصدر مقدر أي خلقا أفكا أي ذا أفك إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً بيان لشرية ما يعبدونه من حيث إنه لا يكاد يجديهم نفعا، ورِزْقاً يحتمل أن يكون مصدرا مفعولا به ليملكون، والمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، وأن يكون بمعنى المرزوق أي لا يستطيعون، إيتاء شيء من الرزق وجوز على المصدرية أن يكون مفعولا مطلقا ليملكون من معناه ولمحذوف والأصل لا يملكون أن يرزقوكم رزقا وهو كما ترى ونكر. وقال بعض الأجلة: للتحقير والتقليل مبالغة في النفي، وخص الرزق لمكانته من الخلق فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي كله على أن تعريف الرزق للاستغراق. قال الطيبي: هذا من المواضع التي ليست المعرفة المعادة عين الأول فيها، وجوز أن تكون عين الأول بناء
عليهم السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئا وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم إياي وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلا.
وهذه الآية أعني وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلخ على ما ذكرنا من جملة قصة إبراهيم عليه السلام وكذا ما بعد على ما قيل إلى قوله تعالى: ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [الأعراف: ٨٢، النمل: ٥٦، العنكبوت: ٢٤، ٢٩] وجوز أن يكون ذلك اعتراضا بذكر شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي القصة من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم والتنفيس عنه بأن أباه خليل الرحمن كان مبتلي بنحو ما ابتلي به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، قالوا:
وفي وَإِنْ تُكَذِّبُوا اعتراضية، والخطاب منه تعالى أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم على معنى وقل لقريش إِنْ تُكَذِّبُوا إلخ.
وذهب بعض المحققين إلى أن قوله تعالى: إِنْ تُكَذِّبُوا إلخ من كلام إبراهيم عليه السلام، وقوله سبحانه:
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ إلخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها، والواو للعطف على مقدر أي ألم ينظروا ولم يعلموا كيفية خلق الله تعالى الخلق ابتداء من مادة ومن غير مادة أي قد علموا ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بخلاف عنه «ألم تروا» بتاء الخطاب، وهو على ما قال هذا البعض لتشديد الإنكار وتأكيده ولا يحتاج عليه إلى تقدير قول ومن لم يجعل ذلك كلاما مستأنفا مسوقا من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث قال: إن الخطاب على تقدير القول أي قال لهم رسلهم: «ألم تروا».
ووجه ذلك بأنه جعل ضمير أَوَلَمْ يَرَوْا على قراءة الغيبة لأمم في قوله تعالى: أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ فيجعل في قراءة الخطاب له أيضا ليتحد معنى القراءتين، وحينئذ يحتاج لتقدير القول ليحكي خطاب رسلهم معهم إذ لا مجال للخطاب بدونه.
وقيل: إن ذاك لأنه لا يجوز أن يكون الخطاب لمنكري الإعادة من أمة إبراهيم أو نبينا عليهما الصلاة والسلام وهم المخاطبون بقوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا لأن الاستفهام للإنكار أي قد رأوا فلا يلائم قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا إلخ لأن المخاطبين فيها هم المخاطبون أولا، يعني إن كانت الرؤية علمية فالأمر بالسير والنظر لا يناسب لمن حصل
وقرأ الزبيري وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه كيف يبدأ على أنه مضارع بدأ الثلاثي مع إبدال الهمزة ألفا كما ذكره الهمداني، وقوله تعالى: ثُمَّ يُعِيدُهُ عطف على أَوَلَمْ يَرَوْا لا على يبدىء لأن الرؤية إن كانت بصرية فهي واقعة على الإبداء دون الإعادة فلو عطف عليه لم يصح وكذا إذا كانت علمية لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوما لهم كان تحصيلا للحاصل.
وجوز العطف عليه بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه سبحانه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه على ما قيل من غير ريب، وعن مقاتل أن الخلق هنا الليل والنهار وليس بشيء إِنَّ ذلِكَ أي ما ذكر من الإعادة، وجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من الأمرين عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يحتاج فعله تعالى إلى شيء خارج عن ذاته عز وجل.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أمر لإبراهيم عليه السلام أن يقول لقومه ذلك عند بعض المحققين، وكذا جعله من جعل جميع ما تقدم من قصة إبراهيم عليه السلام، ومن جعل قوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلى قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ اعتراضا جعل هذا أمرا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أن يقول ذلك لقريش.
وجوز أن يجعل نظم الآيات السابقة على ما نقل عن بعض المحققين ويجعل هذا أمرا للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك لهم فإنهم مثل قوم إبراهيم عليه السلام والأمم الذين من قبلهم في التكذيب بالبعث والإنكار له، وما في حيز هذا القول متضمن ما يدل على صحته، وعدم اتحاده مع ما سبق لا يضر. وأيا ما كان فإضافة الرحمة إلى ضمير المتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى لما أن ذلك حكاية كلامه عز وجل على وجهه ومثله في القرآن الكريم كثير، والسير كما قال الراغب: المضي في الأرض، وعليه يكون في الآية تجريد، والظاهر أن المراد به المضي بالجسم، وجوز أن يراد به إجالة الفكر. وحمل على ذلك فيما يروى في وصف الأنبياء عليهم السلام أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة، ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة المتوصل بها إلى الثواب، والمعنى على ما قلنا أولا امضوا في الأرض وسيحوا فيها فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الله تعالى الْخَلْقَ أي كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى، فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها، وعلى هذا تتغاير الكيفية في الآية السابقة والكيفية في هذه الآية لما أن الأولى كما علمت باعتبار المادة وعدمها وهذه باعتبار تغاير الأحوال. ولعل التعبير في الآية الأولى بالمضارع أعني يُبْدِئُ دون الماضي كما هنا لاستحضار الصورة الماضية لما أن بدء الخلق من مادة وغيرها أغرب من بدء الخلق على أطوار مختلفة على معنى أن خلق الأشياء أغرب من جعل أطوارها مختلفة، وأنت إذا لا حظت أن خلق الأشياء يعود في الآخرة إلى إيجادها من كتم العدم من غير سبق مادة دفعا للتسلسل وأن جعل أطوارها مختلفة إنما هو بعد سبق المادة ولو سبقا ذاتيا وهو ما قام به الاختلاف أعني ذوات الأشياء لا تشك في أن الأول أغرب من الثاني، ولذا ترى التمدح بأصل الخلق في القرآن العظيم أكثر من التمدح بالجعل المذكور. وقد وافق الصيغة في الإشعار بالغرابة بناء الفعل من باب الافعال فإنه غير مستعمل ولذا قالوا: إنه مخل بالفصاحة لولا وقوعه مع (يعيد)، ومما يقرب من هذا السر ما قيل في وجه حذف الياء من يسر في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر: ٤] من أن ذلك لأن الليل يسرى فيه لا يسري أي ليدل مخالفة الظاهر في اللفظ على مخالفته في المعنى وهو معنى دقيق.
والظاهر أنه مبني على أن الجسد يعدم بالكلية ثم يعاد خلقا جديدا لا أنه تتفرق أجزاؤه ثم تجمع بعد تفرقها وإلى كل ذهب بعض، والأدلة متعارضة، والمسألة كما قال ابن الهمام عند المحققين ظنية، وفي كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام الغزالي، فإن قيل: فما تقولون أتعدم الجواهر والاعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض؟ قلنا: كل ذلك ممكن ولكن ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات انتهى، وذهب ابن الهمام إلى أن الحق وقوع الكيفيتين إعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق من الأجزاء، وقد يقال: إن بدء الإنسان ونحوه ليس اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة لما أنه مخلوق من التراب وسائر العناصر، والظاهر أن فناءه ليس عبارة عن صيرورته عدما محضا بل هو عبارة عن انحلاله إلى ما تركب منه ورجوع كل عنصر إلى عنصره. نعم لا شك في فناء بعض الأعراض وانعدامها بالكلية، وقد يستثنى منه بعض الأجزاء فلا ينحل إلى ما منه التركيب بل يبقى على ما كان عليه وهو عجب الذنب لظاهر حديث الصحيحين «ليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة» وتأويله بما أوله به ملا صدرا في أسفاره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وحينئذ فالإعادة تكون بتركيب ما انحل من العناصر وضمه إلى هذا الجزء فلا تكون اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة، لكن لكل من البدء والإعادة شبه تام بالاختراع والإخراج المذكور، وبه يصح أن يقال لكل اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود فلا تغفل، والجملة معطوفة على جملة سِيرُوا فِي الْأَرْضِ داخلة معها في حيز القول، ولا يضر تخالفهما خبرا وإنشاءا فإنه جائز بعد القول وما له محل من الإعراب، ولا يصح عطفها على بدأ الخلق لأنها لا تصلح أن تكون موقعا للنظر أما إن كان بمعنى الإبصار فظاهر وأما إن كان بمعنى التفكر فلأن التفكر في الدليل لا في النتيجة، وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم فإنه الاسم الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال وتكرير الإسناد ورد ما تقدم على مقتضى الظاهر فلا يحتاج للتوجيه وكون المراد منه ليس إثبات الإعادة لمن أنكرها فلذا لم ينسج على هذا المنوال غير مسلم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «النشاءة» بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة والقصر أشهر، ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشىء فينشؤون النشأة الآخرة نحو أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته عز وجل على جميع الممكنات التي من جملتها الإعادة لا يتصور أن يتردد في قدرته سبحانه عليها ولا في وقوعها بعد ما أخبر به، ثم اعلم أن أكثر المنكرين للبعث لا يقولون باستحالته كجمع النقيضين بل غاية ما عندهم استبعاده، والرد على هؤلاء بهذه الآيات ونحوها ظاهر لما فيها مما يزيل الاستبعاد من الإبداء الذي هو في الشاهد أشق من الإعادة، ومنهم من يقول باستحالته عقلا فلا يصلح متعلقا للقدرة، وهؤلاء هم
تناله أيدي الحوادث فيما ترون لو استطعتم الرقي إليها كما في قوله تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن:
٣٣] أو البروج والقلاع المرتفعة في جهتها على ما قيل، وهو خلاف الظاهر، وقال ابن زيد والفراء: إن فِي السَّماءِ صلة موصول محذوف هو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير ولا من في السماء بمعجز، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، وضعف بأن فيه حذف الموصول مع بقاء صلته وهو لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
على ما هو الظاهر فيه، على أن ابن مالك اشترط في جوازه عطف الموصول المحذوف على موصول آخر مذكور كما في هذا البيت، وبأن فيه حذف الخبر أيضا مع عدم الحاجة إليه، ولهذا جعل بعضهم الموصول معطوفا على أنتم ولم يجعله مبتدأ محذوف الخبر ليكون العطف من عطف الجملة على الجملة، وزعم بعضهم أن الموصول محذوف في موضعين وأنه مفعول به لمعجزين وقال: التقدير وما أنتم بمعجزين من في الأرض أي من الإنس والجن ولا من في السماء أي من الملائكة عليهم السلام فكيف تعجزون الله عز وجل، ولا يخفى أن هذا في غاية البعد ولا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى.
وقيل ليس في الآية حذف أصلا، والسماء هي المظلة إلا أن أَنْتُمْ خطاب لجميع العقلاء فيدخل فيهم الملائكة ويكون السماء بالنظر إليهم والأرض بالنظر إلى غيرهم من الإنس والجن وهو كما ترى.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحرسكم من بلاء أرضي أو سماوي وَلا نَصِيرٍ يدفعه عنكم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله، فيدخل فيها النشأة الأولى الدالة على صحة البعث والآيات الناطقة به دخولا أوليا، وتخصيصها بدلائل وحدانيته تعالى لا يناسب المقام وَلِقائِهِ الذي تنطق به تلك الآيات أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه عز وجل يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة على أنه وعيد، وإلا فالكافر لا يوصف باليأس في الدنيا لأنه لا رجاء له، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وجوز أن يكون المراد إظهار مباينة حالهم وحال المؤمنين لأن حال المؤمن الرجاء والخشية وحال الكافر الاغترار واليأس فهو لا يخطر بباله رجاء ولا خوفا إن أخطر المخوف بباله كان حاله اليأس بدل الخوف وإن أخطر المرجو كان حاله الاغترار بدل الرجاء، فكأنه تنصيص على كفرهم وتعريف لحالهم، وأن يكون الكلام على الاستعارة.
وقرأ الحسن: وسالم الأفطس بالرفع على العكس، وقد مر ما فيه في نظائره، والمراد بالقتل ما كان بسيف ونحوه فتظهر مقابلة الإحراق له، ولا حاجة إلى جعل أو بمعنى بل، والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض أو كبرائهم قالوا لأتباعهم: اقتلوه فتستريحوا منه عاجلا أو حرقوه بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا مضته النار وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه، وأيا ما كان ففيه إسناد ما للبعض إلى الكل، وجاء هنا الترديد بين قتله عليه السلام وإحراقه فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل وناس بالإحراق، وفي اقترب قالوا حرقوه اقتصروا على أحد الشيئين وهو الذي فعلوه رموه عليه السلام في النار ولم يقتلوه ثم إنه ليس المراد أنهم لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حججه عليه السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم، بل إن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة، وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها سبحانه عليه بردا وسلاما حسبما بين في مواضع أخر، وقد مر بيان كيفية إلقائه عليه السلام فيها وإنجائه تعالى إياه منها، وكان ذلك في كوثى من سواد الكوفة، وكونه في المكان المشهور اليوم من أرض الرها وعنده صورة المنجنيق وماء فيه سمك لا يصطاد ولا يؤكل حرمة له لا أصل له إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنجائه عليه السلام منها لَآياتٍ بينة عجيبة وهي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها.
وعن كعب أنه لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه عليه السلام به، ولولا وقوع اسم الإشارة في أثناء القصة لكان الأولى كونه إشارة إلى ما تضمنته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالفحص عنها، والتأمل فيها.
إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم، فالمفعول له غاية مترتبة على الفعل ومعلول له في الخارج، أو المعنى إن مودة بعضكم بعضا هي التي دعتكم إلى اتخاذها بأن رأيتم بعض من تودّونه اتخذها فاتخذتموها موافقة له لمودتكم إياه، وهذا كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا فيفعله مودّة له، فالمفعول له على هذا علة باعثة على الفعل وليس معلولا له في الخارج، والمراد نفى أن يكون فيها نفع أو ضر وأن الداعي لاتخاذها رجاء النفع أو خوف الضر، وكأنه لم يعتبر ما جعلوه علة لاتخاذها علة وهو ما أشاروا إليه في قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] للإشارة إلى أن ذلك لكونه أمرا موهوما لا حقيقة له مما لا ينبغي أن يكون علة باعثة وسببا حاملا لمن له أدنى عقل.
وقال بعضهم: يجوز أن يكون المخاطبون في هذه الآية أناسا مخصوصين، والقائلون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أناسا غيرهم، وقيل: إنّ الأوثان أول ما اتخذت بسبب المودة، وذلك أنه كان أناس صالحون فماتوا وأسف عليهم أهل زمانهم فصوروا أحجارا بصورهم حبا لهم فكانوا يعظمونها في الجملة ولم يزل تعظيمها يزداد جيلا
وقال مكي: يجوز أن يكون اتخذ متعديا إلى مفعول واحد كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ [الأعراف: ١٥٢] ورد بأنه مما حذف مفعوله الثاني أيضا، وجوز أن يكون مودة هو المفعول الثاني بتقدير مضاف أي ذات مودة وكونها ذات مودة باعتبار كونها سبب المودة، وظاهر كلام الكشاف أن المضاف المحذوف هو لفظ سبب، وقد يستغنى عن التقدير بتأويل مودة بمودودة، أو بجعلها نفس المودة مبالغة، واعترض جعل مودة المفعول الثاني بأنه معرفة بالإضافة إلى المضاف إلى الضمير والمفعول الأول نكرة وذلك غير جائز لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر. وأجيب بأنه لا يلزم من غير جواز ذلك في أصلهما عدم جوازه فيهما، وإذا سلم اللزوم فلا يسلم كون المفعول الثاني هنا معرفة بالإضافة لما أنها على الاتساع فهي من قبيل الإضافة اللفظية التي لا تفيد تعريفا وإنما تفيد تخفيفا في اللفظ، كذا قيل: وهو كما ترى.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر «مودة» بالنصب والتنوين بينكم بالنصب، والوجه أن مودة منصوب على أحد الوجهين السابقين و «بينكم» منصوب به أو بمحذوف وقع صفة له، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس «مودة بينكم» برفع مودة مضافة إلى بين وخفض بين بالإضافة، وخرج الرفع على أن مودة خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة على أحد التأويلات المعروفة والجملة صفة أوثانا، وجوز كونها المفعول الثاني أو على أنها خبر إن على أن ما مصدرية، أي إن اتخاذكم، أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول، أي إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم، ويجري فيه التأويلات التي أشرنا إليها.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو في رواية الأصمعي والأعشى عن أبي بكر «مودة» بالرفع والتنوين «بينكم» بالنصب، ووجه كل معلوم مما مر. وروي عن عاصم «مودة» بالرفع من غير تنوين و «بينكم» بفتح النون، جعله مبنيا لإضافته إلى لازم البناء فمحله الجر بإضافة مودة إليه، ولذا سقط التنوين منها. وفي قوله تعالى: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا على هذه القراءات والأوجه فيها أوجه من الإعراب ذكرها أبو البقاء. الأول: أن يتعلق باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة لا على جعلها موصولة أو مصدرية، ورفع مودة لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في حيز الصلة بالخبر. الثاني: أن يتعلق بنفس مودة إذا لم يجعل بين صفة لها بناء على أن المصدر إذا وصف لا يعمل مطلقا، وأجاز ابن عطية هذا التعلق وإن جعل بين صفة لما أنه يتسع بالظرف ما لم يتسع في غيره، فيجوز عمل المصدر به بعد الوصف. الثالث: أن يتعلق بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم. الرابع: أن يجعل حالا من بينكم لتعرفه بالإضافة. وتعقب أبو حيان هذين الوجهين بعد نقلهما عن أبي البقاء كما ذكرنا بأنهما إعرابان لا يتعقلان. الخامس: أن يجعل صفة ثانية لمودة إذا نونت وجعل بينكم صفة لها، وأجاز ذلك مكي وأبو حيان أيضا. السادس: أن يتعلق بمودة ويجعل بينكم ظرفا متعلقا بها أيضا، وعمل مودة في ظرفين لاختلافهما. السابع: أن يجعل حالا من الضمير في بينكم إذا جعل وصفا لمودة والعامل الظرف لأن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال، ولا يجوز أن يكون العامل مودة لذلك. وقال مكي: لأنك قد وصفتها ومعمول المصدر متصل به فيكون قد فرقت بين الصلة والموصول بالصفة. وعن ابن مسعود أنه قرأ «إنما اتخذتم من دون الله أوثانا إنما مودة بينكم في الحياة الدنيا» بزيادة «إنما» بعد أوثانا ورفع «مودة» بلا تنوين وجر بين بالإضافة وخرجت على أن مودة مبتدأ وفي الحياة الدنيا خبره، والمعنى إنما توادكم عليها أو مودتكم إياها كائن أو كائنة في الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يتبدل الحال حيث يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ وهم العبدة بِبَعْضٍ
وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبدا.
وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها، وجمع الناصرين لوقوعه في مقابلة الجمع، أي ما لأحد منكم من ناصر أصلا فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه عليه السلام في جميع مقالاته أو بنبوته حين ادعاها لا أنه صدقه فيما دعا إليه من التوحيد ولم يكن كذلك قبل، فإنه عليه السلام كان متنزها عن الكفر، وما قيل: إنه آمن له عليه السلام حين رأى النار لم تحرقه ضعيف رواية وكذا دراية، لأنه بظاهره يقتضي عدم إيمانه قبل وهو غير لائق به عليه السلام، وحمله بعضهم على نحو ما ذكرنا أو على أن يراد بالإيمان الرتبة العالية منها وهي التي لا يرتقي إليها إلا الأفراد، ولوط على ما في جامع الأصول ابن أخيه هاران بن تارح، وذكر بعضهم أنه ابن أخته بالتاء الفوقية وَقالَ إبراهيم عليه السلام: كما ذهب إليه قتادة والنخعي وقيل: الضمير للوط عليه السلام وليس بشيء لما يلزم عليه من التفكيك، والجملة استئناف بياني كأنه قيل: فماذا كان منه عليه السلام؟ فقيل: قال إِنِّي مُهاجِرٌ أي من قومي إِلى رَبِّي أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها، وقيل: إلى حيث لا أمنع عبادة ربي، وقيل: المعنى مهاجر من خالفني من قومي متقربا إلى ربي إِنَّهُ عز وجل هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره فيمنعني من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي.
روي أنه عليه السلام هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوطا وسارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام فنزل قرية من أرض فلسطين، ونزل لوط سذوم وهي المؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام، وكان عمره إذ ذاك على ما في الكشاف والبحر خمسا وسبعين سنة، وهو أول من هاجر في الله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ولدا ونافلة حين أيس من عجوز عاقر، والجملة معطوفة على ما قبل ولا حاجة إلى عطفها على مقدر كأصلحنا أمره، ولم يذكر سبحانه إسماعيل عليه السلام، قيل لأن المقام مقام الامتنان وذكر الإحسان وذلك بإسحاق ويعقوب لما أشرنا إليه بخلاف إسماعيل وقيل لأنه لا يناسب ذكره هاهنا لأنه ابتلي بفراقه ووضعه بمكة مع أمه دون أنيس، وقال الزمخشري: إنه عليه السلام ذكر ضمنا وتلويحا بقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ولم يصرح به لشهرة أمره وعلو قدره، هذا مع أن المخاطب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من أولاده وأعلم به، والمراد بالكتاب جنسه المتناول للكتب الأربعة وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على ما عمل لنا فِي الدُّنْيا قال مجاهد:
بإنجائه من النار ومن الملك الجبار والثناء الحسن عليه بحيث يتولاه كل أمة، وضم إلى ذلك ابن جريج الولد الذي قرت به عينه.
وقد يضم إلى ذلك أيضا استمرار النبوة في ذريته، وقال السدي: إن ذلك إراءته عليه السلام مكانه من الجنة، وقال بعضهم: هو التوفيق لعمل الآخرة، وقيل: هو الصلاة عليه إلى آخر الدهر، وقال الماوردي: هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لنبي غيره، ولا يخفى حال بعض هذه الأقوال، وذكر بعضهم أن المراد آتيناه أجره بمقابلة هجرته إلينا، وعليه لا يصح عد الإنجاء من النار من الأجر بل يعد إعطاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم ونحوه ذلك مما كان له عليه السلام بعد الهجرة من الأجر، وعطف هذا وما بعده من قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ كالذي في القصة السابقة.
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة في القبح، وقرأ الجمهور «أئنكم» على الاستفهام الإنكاري: ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ استئناف مقرر لكمال قبحها، فإن إجماع جميع أفراد العالمين على التحاشي عنها ليس إلا لكونها مما تشمئز منه الطباع السليمة وتنفر منه النفوس الكريمة، وجوز أبو حيان كون الجملة حالا من ضمير تأتون، كأنه قيل: إنكم لتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تنكحونهم وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي وتقطعون الطريق بسبب تكليف الغرباء والمارة تلك الفعلة القبيحة وإتيانهم كرها أو وتقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث، وقيل: تقطعون الطريق بالقتل وأخذ المال، وقيل:
تقطعونه بقبح الأحدوثة وَتَأْتُونَ أي تفعلون فِي نادِيكُمُ أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه، وهو اسم جنس إذ أنديتهم في مجالسهم كثيرة، ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله فإذا ناموا عنه لم يطلق عليه ناد الْمُنْكَرَ
أخرج أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت: «سألت رسول الله ﷺ عن قول الله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فقال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم
، وعن مجاهد ومنصور والقاسم بن محمد وقتادة وابن زيد هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا، وعن مجاهد أيضا هو لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم، وعن ابن عباس هو تضارطهم وتصافعهم فيها، وفي رواية أخرى عنه هو الخذف بالحصى والرمي وبالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الإزار والسباب والفحش في المزاح ولم يأت في قصة لوط عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى كما جاء في قصة إبراهيم وكذا في قصة شعيب الآتية لأن لوطا كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وقد سبقه إلى الدعاء لعبادة الله تعالى وتوحيده واشتهر أمره عند الخلق فذكر لوط عليه السلام ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها، وأما إبراهيم وشعيب عليهما السلام فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله عز وجل ويدعو إليه سبحانه فلذلك دعا كل منهما قومه إلى عبادته تعالى كذا في البحر.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما تعدنا من نزول العذاب على ما في الكشاف وغيره، وهذا ظاهر في أنه عليه السلام كان أوعدهم بالعذاب، وقيل: أي في دعوى استحقاقنا العذاب على ما نحن عليه المفهومة من التوبيخ المعلوم من الاستفهام الإنكاري، وقيل: أي في دعوى استقباح ذلك الناطق بها كلامك وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مرات مواعظ لوط عليه السلام، وما في سورة الأعراف المذكور في قوله تعالى: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الأعراف: ٨٢] الآية وما في سورة النمل المذكور في قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل: ٥٦] الآية فقد صدر عنهم بعد هذه المرة فلا منافاة بين الحصر هنا والحصر هناك، قاله أبو حيان وتبعه أبو السعود. وتعقب بأن هذا التعيين يحتاج إلى توقيف. وأجيب بأن مضموني الجوابين يشعران بالتقدم والتأخر، وذلك أن ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ من باب التكذيب والسخرية وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات وأَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ونحوه من باب التعذيب والانتقام، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي، وهذا القدر يكفي لدعوى التقدم والتأخر، وقيل
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي أي بإنزال العذاب الموعود عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة وسنها فيما بعدهم والإصرار عليها واستعجال العذاب بطريق السخرية، وإنما وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي البشارة بالولد والنافلة قالُوا أي لإبراهيم عليه السلام في تضاعيف الكلام إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قرية سذوم وهي أكبر قرى قوم لوط وفيها نشأت الفاحشة أولا على ما قيل، ولذا خصت بالذكر، وفي الإشارة بهذه إشارة إلى أنها كانت قريبة من محل إبراهيم عليه السلام وإضافة مُهْلِكُوا إلى أَهْلِ لفظية لأن المعنى على الاستقبال، وجوز كونها معنوية لتنزيل ذلك منزلة الماضي لقصد التحقيق والمبالغة إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تعليل للإهلاك بإصرارهم على الظلم وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي، والتأكيد في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر وقال سبحانه: إِنَّ أَهْلَها دون إنهم مع أنه أظهر وأخصر تنصيصا على اتفاقهم على الفساد كما اختاره الخفاجي.
وقال بعض المدققين: إن ذلك للدلالة على أن منشأ فساد جبلتهم خبث طينتهم، ففيه إشارة خفية إلى أن المراد من أهل القرية من نشأ فيها فلا يتناول لوطا عليه السلام، واعترض بأنه يبعد كل البعد خفاؤها لو كانت على إبراهيم عليه السلام كما هو ظاهر قوله تعالى: قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً وقيل: يجوز أن يكون عليه السلام علم ما أشاروا إليه من عدم تناول أهل القرية إياه لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه، وقيل: أراد أن يعلم هل يبقى في القرية عند إهلاكهم أو يخرج منها ثم يهلكون، وكأن في قوله: إِنَّ فِيها دون إن منهم إشارة إلى ذلك، وأفهم كلام بعض المحققين أن قوله: إِنَّ فِيها لُوطاً اعتراض على الرسل عليهم السلام بأن في القرية من لم يظلم بناء على أن المتبادر من إضافة الأهل إليها العموم، وحمل الأهل على من سكن فيها وإن لم يكن تولده بها، أو معارضة للموجب للهلاك وهو الظلم بالمانع وهو أن لوطا بين ظهرانيهم وهو لم يتصف بصفتهم، وأن جواب الرسل المحكي بقوله تعالى: قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ تسليم لقوله عليه السلام في لوط مع ادعاء مزيد العلم به باعتبار الكيفية وأنهم ما كانوا غافلين عنه، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله على الاعتراض، أو بيان وقت إهلاكهم بوقت لا يكون لوط وأهله بين ظهرانيهم على المعارضة، وفيه ما يدل على جواز تأخير البيان عن الخطاب في الجملة، والذي يغلب على الظن أنهم أرادوا بأهل القرية من نشأ بها على ما هو المتعارف فلا يكون لوط عليه السلام داخلا في الأهل، ويؤيد ذلك تأييدا ما قول قومه أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ وفهم إبراهيم عليه السلام ما أرادوه وعلم أن لوطا ليس من المهلكين إلا أنه خشي أن يكون هلاك قومه وهو بين ظهرانيهم في القرية فيوحشه ذلك ويفزعه.
ولعله عليه السلام غلب على ظنه ذلك حيث لم يتعرضوا لإخراجه من قرية المهلكين مع علمهم بقرابته منه ومزيد شفقته عليه فقال: إِنَّ فِيها لُوطاً على سبيل التحزن والتفجع كما في قوله تعالى: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: ٣٦] وجل قصده ان لا يكون فيها حين الإهلاك فأخبروه أولا بمزيد علمهم به وأفادوه ثانيا بما يسره ويسكن جأشه نظير ما في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمران: ٣٦] وأكدوا الوعد بالتنجية إما للإشارة إلى مزيد اعتنائهم بشأنه وإما لتنزيلهم إبراهيم عليه السلام منزلة من ينكر تنجيته لما شاهدوا منه في
وقيل: ضمير بِهِمْ للقوم أي سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم، وكذا ضمير بِهِمْ الآتي وليس بشيء، وأَنْ مزيدة لتأكيد الكلام التي زيدت فيه فتؤكد الفعلين واتصالهما المستفاد من لما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان فكأنه قيل: لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث.
وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم: ضاقت يده، ويقابله رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له قادرا عليه، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع.
وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ عطف على سيء، وجوز أن يكون عطفا على مقدر أي قالوا: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ [هود: ٨١] وقالوا إلخ، وأيا ما كان فالقول كان بعد أن شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه عليه السلام قد عجز عن مدافعة قومه حتى آلت به الحال إلى أن قال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: ٨٠] والخوف للمتوقع والحزن للواقع في الأكثر، وعليه فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا ولا تحزن على قصدهم إيانا وعدم اكتراثهم بك، ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل إعلامهم إياه أنهم رسل الله تعالى فظاهر، وإن كان بعد الإعلام فهو لتأنيسه وتأكيد ما أخبروه به.
وقال الطبرسي: المعنى لا تخف علينا وعليك ولا تحزن بما نفعله بقومك إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ فلا يصيبكم ما يصيبهم من العذاب إِلَّا امْرَأَتَكَ إنها كانَتْ في علم الله تعالى مِنَ الْغابِرِينَ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب «لننجينه» و «منجوك» بالتخفيف من الإنجاء، ووافقهم ابن كثير في الثاني.
وقرأ الجمهور بشد نون التوكيد، وفرقه بتخفيفها، وأيا ما كان فمحل الكاف من منجوك الجر بالإضافة ولذا حذفت النون عند سيبويه و «أهلك» منصوب على إضمار فعل أي وننجي أهلك، وذهب الأخفش وهشام إلى أن الكاف في محل النصب وأهلك معطوف عليه وحذفت النون لشدة طلب الضمير الاتصال بما قبله للإضافة، وقال بعض الأجلة: لا مانع من أن يكون لمثل هذا الكاف محلان الجر والنصب ويجوز العطف عليها بالاعتبارين، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي «سيء» بإشمام السين الضم، وقرأ عيسى وطلحة «سوء» بضمها وهي لغة بني هذيل وبني دبير يقولون في نحو قيل وبيع قول وبوع وعليه قوله:
حوكت على نولين إذ تحاك | تختبط الشوك ولا تشاك |
أمرهت منها جبة وتيسا يريد أمهرتها. وقال بعضهم: إن ذلك نظير قولك: رأيت منه أسدا، وقيل: الآية حكايتها العجيبة الشائعة، وقيل:
ضمير مِنْها للفعلة التي فعلت بهم والآية الحجارة، أو الماء الأسود والظاهر ما عليه الأكثر.
ولا يخفى معنى (من) على هذه الأقوال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار، فالفعل منزل منزلة اللازم ولِقَوْمٍ متعلق بتركنا أو ببينة، واستظهر الثاني هذا، وفي الآيات من الدلالة على ذم اللواطة وقبحها ما لا يخفى، فهي كبيرة بالإجماع، ونصوا على أنها أشد حرمة من الزنا. وفي شرح المشارق للأكمل أنها محرمة عقلا وشرعا وطبعا، وعدم وجوب الحد فيها عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لعدم الدليل عنده على ذلك لا لخفتها، وقال بعض العلماء: إن عدم وجوب الحد للتغليظ لأن الحد مطهر، وفي جواز وقوعها في الجنة خلاف، ففي الفتح قيل: إن كانت حرمتها عقلا وسمعا لا تكون في الجنة وإن كانت سمعا فقط جاز أن تكون فيها والصحيح أنها لا تكون لأن الله تعالى استبعدها واستقبحها فقال سبحانه: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت: ٢٨] وسماها خبيثة فقال عز وجل كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ [الأنبياء: ٧٤] والجنة منزهة عنها. وتعقب هذا الحموي بأنه لا يلزم من كون الشيء خبيثا في الدنيا أن لا يكون له وجود في الجنة ألا ترى أن الخمر أم الخبائث في الدنيا ولها وجود في الجنة، وفيه بحث، لأن خبث الخمر في الدنيا لإزالتها العقل الذي هو عقال عن كل قبيح وهذا الوصف لا يبقى لها في الجنة ولا كذلك اللواطة. وفي الفتوحات المكية في صفة أهل الجنة أنهم لا أدبار لهم لأن الدبر إنما خلق في الدنيا لخروج الغائط وليست الجنة محلا للقاذورات، وعليه فعدم وجودها في الجنة ظاهر، ولا أظن ذا غيرة صادقة تسمح نفسه أن يلاط به في الجنة سرا أو علنا، وجواز وقوعها فيها قد ينجر إلى أن تسمح نفسه بذلك أو يجبر عليه وذلك إذا اشتهى أحد أن يلوط به إذ لا بد من حصول ما يشتهيه، وهذا وإن لم يكن قطعيا في عدم وقوع اللواطة مطلقا في الجنة إلا أنه يقوي القول بعدم الوقوع فتأمل وَإِلى مَدْيَنَ متعلق بأرسلنا مقدر معطوف على أرسلنا في قصة نوح أي وأرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون به غائلته، أو الأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب عليه الرجاء إقامة المسبب مقام السبب، وفي الكلام مضاف مقدر فالمعنى افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر، وجوز أن لا يقدر مضاف، وإرادة الثواب من إطلاق الزمان على ما فيه، وقيل: الأمر برجاء الثواب أمر بسببه اقتضاء بلا تجوز فيه بعلاقة السببية.
وقال أبو عبيدة: الرجاء هنا بمعنى الخوف والمعنى وخافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله تعالى منكم إن لم تعبدوه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لأن العثو الفساد فَكَذَّبُوهُ فيما تضمنه كلامه من أنهم إن لم يمتثلوا أمره ونهيه وقع بهم العذاب وإليه ذهب أبو حيان، وقيل: من أنه تعالى مستحق لأن يعبد وحده سبحانه وأن اليوم الآخر متحقق الوقوع أو نحو ذلك فَأَخَذَتْهُمُ بسبب تكذيبهم إياه الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة وفي سورة
وفي مفردات الراغب هو استعارة للمقيمين من قولهم: جثم الطائر إذا قعد ولطىء بالأرض ويرجع هذا إلى ميتين أيضا وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بإضمار فعل ينبىء عنه ما قبله من قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي وأهلكنا عادا وثمود، وقوله تعالى: وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ عطف على ذلك المضمر أي وقد ظهر لكم أتم ظهور إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم أو بسببها. وذلك بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهابا إلى الشام وإيابا منه، وجوز كون مِنْ تبعيضية، وقيل: هما منصوبان بإضمار اذكروا أي واذكروا عادا وثمود.
والمراد ذكر قصتهما أو بإضمار اذكر خطابا له صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجملة قَدْ تَبَيَّنَ حيالية، وقيل:
هي بتقدير القول أي وقل: قد تبين، وجوز أن تكون معطوفة على جملة واقعة في حيز القول أي اذكر عادا وثمود قائلا قد مررتم على مساكنهم وقد تبين لكم إلخ، وفاعل تبين الإهلاك الدال عليه الكلام أو مساكنهم على أن مِنْ زائدة في الواجب، ويؤيده قراءة الأعمش «مساكنهم» بالرفع من غير من، وكون مِنْ هي الفاعل على أنها اسم بمعنى بعض مما لا يخفى حاله.
وقيل: هما منصوبان بالعطف على الضمير في فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والمعنى يأباه، وقال الكسائي: منصوبان بالعطف على الذين من قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو كما ترى، والزمخشري لم يذكر في ناصبهما سوى ما ذكرناه أولا وهو الذي ينبغي أن يعول عليه. وقرأ أكثر السبعة «وثمودا» بالتنوين بتأويل الحي، وهو على قراءة ترك التنوين بتأويل القبيلة، وقرأ ابن وثاب «وعاد وثمود» بالخفض فيهما والتنوين عطفا على مدين على ما في البحر أي وأرسلنا إلى عاد وثمود وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ بوسوسته وإغوائه أَعْمالَهُمْ القبيحة من الكفر والمعاصي فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي الطريق المعهود وهو السوي الموصل إلى الحق، وحمله على الاستغراق حصرا له في الموصل إلى النجاة تكلف وَكانُوا أي عاد وثمود لا أهل مكة كما توهم: مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالاستدلال والنظر ولكنهم أغفلوا ولم يتدبروا وقيل: عقلاء يعلمون الحق ولكنهم كفروا عنادا وجحودا، وقيل: متبينين أن العذاب لاحق بهم بإخبار الرسل عليهم السلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا.
وعن قتادة والكلبي كما في مجمع البيان أن المعنى كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة يحسبون أنه على هدى وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه قال: أي معجبين بضلالتهم وهو تفسير بحاصل ما ذكر، وهو مروي كما في البحر عن ابن عباس ومجاهد، والضحاك، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ معطوف على عادا، وتقديم قارون لأن المقصود تسلية النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فيما لقي من قومه لحسدهم له، وقارون كان من قوم موسى عليه السلام وقد لقي منه ما لقي، أو لأن حاله أوفق بحال عاد وثمود فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ولم يفده الاستبصار شيئا كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا،
وَما كانُوا سابِقِينَ أي فائتين أمر الله تعالى، من قولهم: سبق طالبه أي فاته ولم يدركه، ولقد أدركهم أمره تعالى أي إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك، وقال أبو حيان: المعنى وما كانوا سابقين الأمم إلى الكفر أي تلك عادة الأمم مع رسلهم عليهم السلام، وليس بذاك وأيا ما كان فالظاهر أن ضمير كانوا لقارون وفرعون وهامان، وقيل: الجملة عطف على أهلكنا المقدر سابقا وضمير- كانوا- لجميع المهلكين، وفيه تبر للنظم الجليل فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ هذا وما بعده كالفذلكة للآيات المتضمنة تعذيب من كفر ولم يمتثل أمر من أرسل إليه، وقال أبو السعود: هذا تفسير لما ينبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام وما بعده تفصيل للأخذ، وفي القلب منه شيء. وكأنه اعتبر رجوع ضمير- كانوا- إلى المهلكين، وقد علمت حاله وتقديم المفعول للاهتمام بأمر الاستيعاب والاستغراق، وقال الفاضل: المذكور للحصر أي كل واحد من المذكورين عاقبناه بجنايته لا بعضا دون بعض، وبحث فيه بأن كلّا متكفلة بهذا المعنى قدمت أو أخرت، وأجيب بأنا لا نسلم أنه يفهم منها لا بعضا إذا أخرت وإنما يفهم منها بواسطة التقديم فتأمل، والكلام في مرجع ضمير بذنبه سؤالا وجوابا لا يخفى على من أحاط علما بما قيل في قولهم: كل رجل وضيعته. وقولهم: الترتيب جعل كل شيء في مرتبته، وهو شهير بين الطلبة فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي ريحا عاصفا فيها حصباء، وقيل:
ملكا رماهم بالحصباء وهم قوم لوط.
وقال ابن عطية: يشبه أن يدخل عاد في ذلك لأن ما أهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلو عن الحصب بأمور مؤذية، والحاصب هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ هم مدين وثمود ولم يقل أخذناه بالصيحة ليوافق ما قبله وما بعده في إسناد الفعل إليه تعالى الأوفق بقوله تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ دفعا لتوهم أن يكون سبحانه هو الصائح وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وهو قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وهو فرعون ومن معه، وذكر بعضهم قوم نوح عليه السلام أيضا. واعترض بأنهم ليسوا من المذكورين، وتعقب بأنهم أول المذكورين في هذه السورة من الأمم السالفة ولعل المعترض أراد بالمذكورين المذكورين متناسقين أي بلا فصل بأمة لم تفد قصتها إهلاكها، وقوم نوح وإن ذكروا أولا لكن فصل بينهم وبين نظائرهم من المهلكين بقصة قوم إبراهيم عليه السلام وهي لم تفد أنهم أهلكوا، وذكر النيسابوري أنه سبحانه قرر بقوله تعالى:
فَكُلًّا إلخ أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الأربعة فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم، فالحاصب وهو حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر إشارة إلى التعذيب بعنصر النار، والصيحة وهي تموج شديد في الهواء إشارة إلى التعذيب بعنصر الهواء، والخسف إشارة إلى التعذيب بعنصر التراب، والغرق إشارة إلى التعذيب بعنصر الماء اه ولا يخفى ما فيه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي ما كان سبحانه مريدا لظلمهم وذلك بأن يعاقبهم من غير جرم لأنه خلاف ما تقتضيه الحكمة. وفي أنوار التنزيل أي ما كان سبحانه ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من سنته عز وجل، ويفيد ذلك أنه لو وقع منه تعالى تعذيبهم من غير جرم لا يكون ظلما لأنه تعالى مالك الملك يتصرف به كما يشاء فله أن يثيب العاصي ويعذب المطيع، وهذا أمر مشهور بين الأشاعرة والكلام في تحقيقه يطلب من علم الكلام. وقد أسلفنا في تفسير قوله تعالى:
وجوز أن يكون جميع من اتخذ غيره تعالى متكلا ومعتمدا آلهة كان ذلك أو غيرها، ولذا عدل إلى أولياء من آلهة أي صفتهم أو شبههم كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ أي كصفتها أو شبهها.
اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بيان لصفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه، والجملة على ما نقل عن الأخفش من لزوم الوقف على العنكبوت مستأنفة لذلك وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ إلخ في موضع الحال من فاعل اتخذت المستكن فيه، وجوز كونه في موضع الحال من مفعوله بناء على جواز مجيء الحال من النكرة، وعلى الوجهين وضع المظهر موضع الضمير الراجع إلى ذي الحال، والجملة من تتمة الوصف. واللام في البيوت للاستغراق، والمعنى مثل المتخذين لهم من دون الله تعالى أولياء في اتخاذهم إياهم كمثل العنكبوت وذلك أنها اتخذت لها بيتا والحال أن أوهن كل البيوت وأضعفها بيتها، وهؤلاء اتخذوا لهم من دون الله تعالى أولياء والحال أن أوهن كل الأولياء وأضعفها أولياؤهم، وإن شئت فقل: إنها اتخذت بيتا في غاية الضعف وهؤلاء اتخذوا لها أو متكلا في غاية الضعف فهم وهي مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه، ويجوز أن تكون جملة اتخذت حالا من العنكبوت بتقدير قد أو بدونها أو صفة لها لأن أل فيها للجنس، وقد جوزوا الوجهين في الجمل الواقعة بعد المعرف بأل الجنسية نحو قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: ٥] وعن الفراء أن الجملة صلة لموصول محذوف وقع صفة الْعَنْكَبُوتِ أي التي اتخذت، وخرج الآية التي ذكرناها على هذا واختار حذف الموصول في مثله ابن درستويه، وعليه لا يوقف على العنكبوت، وأنت تعلم أن كون الجملة صفة أظهر. والمعنى حينئذ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس إلى الموحد الذي عبد الله تعالى كمثل عنكبوت اتخذت بيتا بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان، وهو وجه حسن ذكره الزمخشري في الآية، وقد اعتبر فيه تفريق التشبيه، والغرض إبراز تفاوت المتخذين والمتخذ مع تصوير توهين أمر أحدهما وإدماج توطيد الآخر، وعليه يجوز أن يكون قوله تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ جملة حالية لأنه من تتمة التشبيه، وإن يكون اعتراضية لأنه لو لم يؤت به لكان في ضمنه ما يرشد إلى هذا المعنى وإلى كونه جملة حالية ذهب الطيبي.
وقال صاحب الكشف: كلام الزمخشري إلى كونه اعتراضية أقرب لأن قوله: وكما أن أوهن البيوت إلخ ليس فيه إيماء إلى تقييد الأول، وقد تعقب أبو حيان هذا الوجه بأنه لا يدل عليه لفظ الآية، وإنما هو تحميل اللفظ ما لا يحتمله كعادته في كثير من تفسيره، وهذه مجازفة على صاحب الكشاف كما لا يخفى، ويجوز أن يكون المعنى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا في دينهم وتولوه من دون الله تعالى كمثل العنكبوت فيما نسجته واتخذته بيتا، والتشبيه على هذا من المركب فيعتبر في جانب المشبه اتخاذ ومتخذ واتكال عليه، وكذلك في
وجوز أن يكون المعنى والغرض من التشبيه ما سمعت إلا أنه يجعل التذييل استعارة تمثيلية ويكون ما تقدم كالتوطئة لها، فكأنه قيل: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبارة الأوثان، وهي تقرر الغرض من التشبيه بتبعية تقرير المشبه، وكأن التقرير في الوجه السابق بتبعية تقرير المشبه به، وهذا قريب من تجريد الاستعارة وترشيحها، ونظير ذلك قولك: زيد في الكرم بحر والبحر لا يخيب من أتاه إذا كان البحر الثاني مستعارا للكريم، وذكر الطرفين إنما يمنع من كونه استعارة لو كان في جملته، ورجح السابق لأن عادة البلغاء تقرير أمر المشبه به ليدل به على تقرير المشبه، ولأن هذا إنما يتميز عن الألغاز بعد سبق التشبيه.
وجوز أن يكون قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ إلخ كالمقدمة الأولى، وقوله سبحانه: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ كالثانية وما هو كالنتيجة محذوف مدلول عليه بما بعد كما في الكشف، والمجموع يدل على المراد من تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها على سبيل الكناية الإيمائية فتأمل، والظاهر أن المراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء ويصيد به الذباب لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج في الليل كسائر الهوام، وهي على ما ذكره غير واحد من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك، لا لما
أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى فمن وجدها فليقتلها»
فإنه كما ذكر الدميري ضعيف.
وقيل: لا يسن قتلها
فقد أخرج الخطيب عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن» ذكر هذا الخبر الجلال السيوطي في الدر المنثور،
والله تعالى أعلم بصحته وكونه مما يصلح للاحتجاج به، ونصوا على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها مع أن الأصل في الأشياء الطهارة، وذكر الدميري أن ذلك لا تخرجه من جوفها بل من خارج جلدها، وفي هذا بعد. وأنا لم أتحقق أمر ذلك ولم أعين كونه من فمها أو دبرها أو خارج جلدها لعدم الاعتناء بشأن ذلك لا لعدم إمكان الوقوف على الحقيقة، وذكر أنه يحسن إزالة بيتها من البيوت لما
أسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قال: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر»
وهذا إن صح عن الإمام علي كرّم الله تعالى وجهه فذاك، وإلا فحسن الإزالة لما فيها من النظافة ولا شك بندبها. والتاء في العنكبوت زائدة كتاء طالوت فوزنه فعللوت وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومن استعماله مذكرا قوله:
على هطالهم منهم بيوت | كأن العنكبوت هو ابتناها |
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله إلخ، وقيل: لا حاجة إلى إضماره لجواز أن يكون (تدعون) من باب الالتفات للإيذان بالغضب، وفيه بحث. وقرأ أبو عمرو وسلام «يعلم ما» بالإدغام. وأبو عمرو وعاصم بخلاف «يدعون» بياء الغيبة حملا على ما قبله، وما استفهامية منصوبة بتدعون ويَعْلَمُ معلقة عنها فالجملة في موضع نصب بها ومِنْ الأولى متعلقة بتدعون على ما هو الظاهر ومِنْ الثانية للتبيين وجوز كونها للتبعيض، ويجوز كون ما نافية ومن الثانية مزيدة وشيء مفعول تدعون، أي لستم تدعون من دونه تعالى شيئا، كأن ما يدعونه من دونه عز وجل لمزيد حقارته لا يصلح أن يسمى شيئا، وجوز كونها مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يعلم على أنها بمعنى يعرف ناصبة لمفعول واحد ومن تبعيضية، أي يعرف دعاءكم وعبادتكم بعض شيء من دونه وقيل: مِنْ للتبيين وشَيْءٍ بمعنى ذلك المصدر وتنوينه للتحقير، أي يعرف دعوتكم من دونه هي دعوة حقيرة، وجوز كونها موصولة مفعول يعلم بمعنى يعرف ومفعول تدعون عائدها المحذوف ومن إما بيان للموصول أو تبعيضية.
وجوز زيادتها على هذا الوجه وما بعده، ولا يخفى ما فيه. والكلام على الوجهين الأولين في ما تجهيل للكفرة المتخذين من دون الله تعالى أولياء لما فيهما من نفي الشيئية عما اتخذوه وليا والاستفهام عنه الذي هو في معنى النفي لأنه إنكار، وفيه توكيد للمثل لأن كون معبودهم ليس بشيء يعبأ به مناسب ولذا لم يعطف، وعلى الوجهين الأخيرين فيها وعيد لهم لأن العلم بدعوتهم وعبادتهم عبارة عن مجازاتهم عليها وكذا العلم بما يدعونه عبارة عن مجازاتهم على دعائهم إياه، وترك العطف فيه لأنه استئناف، ويجوز إرادة التجهيل والوعيد في الوجوه كلها، وقوله
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ أي هذا المثل ونظائره من الأمثال المذكورة في الكتاب العزيز. نَضْرِبُها لِلنَّاسِ تقريبا لما بعد من أفهامهم وَما يَعْقِلُها على ما هي عليه من الحسن واستتباع الفوائد إِلَّا الْعالِمُونَ الراسخون في العلم المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي.
وروى محيي السنة بسنده عن جابر «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الآية فقال العالم من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته واجتنب سخطه»
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي محقا مراعيا للحكم والمصالح على أنه حال من فاعل خلق أو ملتبسة بالحق الذي لا محيد عنه مستتبعة للمنافع الدينية والدنيوية على أنها حال من مفعوله، فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على شؤونه تعالى المتعلقة بذاته سبحانه وصفاته كما يفصح عنه قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ دالة لهم على ما ذكر من شؤونه عز وجل، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية والإرشاد في خلقهما للكل لأنهم المنتفعون بذلك اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي دم على تلاوة ذلك تقربا إلى الله تعالى بتلاوته وتذكرا لما في تضاعيفه من المعاني وتذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي داوم على إقامتها. وحيث كانت الصلاة منتظمة للصلوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بإقامتها متضمنا لأمر الأمة بها علل بقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ كأنه قيل: وصل بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، ومعنى نهيها إياهم عن ذلك أنها لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي الله عز وجل والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم كأنها تقول لمن يأتي بها لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص ربا هو أهل لما أتيت به، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عز وجل وقد أتيت مما يدل على عظمته تعالى وكبريائه سبحانه من الأقوال والأفعال بما تكون به إن عصيت وفعلت الفحشاء أو المنكر كالمتناقض في أفعاله، وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو أنا نرى كثيرا من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك، فإن نهيها إياهم عن الفحشاء والمنكر بهذا المعنى لا يستلزم انتهاءهم. ألا ترى أن الله تعالى ينهى عن ذلك أيضا كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: ٩٠] والناس لا ينتهون وليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه سبحانه وتعالى، فإذا لم يكن هناك استلزام فكيف يكون هنا. وما أرى هذا الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء، وهو توهم باطل وتخيل عاطل لا يشهد له عقل ولا يؤيده نقل. ونقل أبو حيان عن ابن عباس والكلبي وابن جريج وحماد بن أبي سليمان أن الصلاة تنهى عن ذلك ما دام المصلي فيها، وكأنهم أرادوا أنها كالناهية للمصلي القائلة له لا تفعل ذلك ما دام فيها لأنه إذا فرغ منها فقد انقطعت الأقوال والأفعال التي كان النهي بما تدل عليه من العظمة والكبرياء. ونقل عن القطب أنه قال في جواب الإشكال: إن الصلاة تقام لذكر الله تعالى كما قال عز من قائل:
أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] ومن كان ذاكرا لله عز وجل منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه منه تعالى مما قل أو كثر وكل من تراه يصلي ويأتي الفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يكن يصلي لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره، وهو كما ترى، وقيل: إن المراد أن الصلاة سبب للانتهاء عن ذلك، وليس هذا كليا لما أن الصلاة في حكم النكرة وهي في الإثبات لا يجب أن تعم فينحل الإشكال، وعلى ما قلنا لا يضر دعوى الكلية. نعم
وقد يجعل الانتهاء علامة القبول. روى بعض الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منه،
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الحسن قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»
وفي لفظ: «لم يزدد بها من الله تعالى إلا بعدا» وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: إن فلانا يطيل الصلاة فقال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها ثم قرأ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وقد يتفق لمن يكثر الصلاة أن تقع بعض صلاته على الوجه اللائق فتقبل لطفا من الله تعالى وكرما، ويظهر أثر ذلك بالانتهاء عن المعاصي، ويشير إلى هذا ما
أخرج أحمد وابن حيان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال سينهاه ما تقول»
وأصرح منه فيما ذكرنا ما
روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الصلاة ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه فوصف له، فقال عليه الصلاة والسلام: إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب
، إلا أن ابن حجر ذكر فيه أنه لم يجده في كتب الحديث. ثم إن حمل الصلاة في الآية على الصلاة المعروفة هو الظاهر المؤيد بالآثار والأخبار الصحيحة، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها هنا القرآن، وقال ابن بحر: إن المراد بها الدعاء أي أقم الدعاء إلى أمر الله تعالى إن الدعاء إلى أمره سبحانه ينهى عن الفحشاء والمنكر، وكل منهما عدول عن الظاهر من غير داع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس أنه كان يقرأ «إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر» وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.
قال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو قرة ومجاهد وعطية: المعنى لذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه سبحانه، وفي لفظ لذكر الله تعالى العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى، وعن ابن عباس أنه قال ذلك ثم قرأ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: ١٥٢].
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي مالك أنه قال ذكر الله تعالى العبد في الصلاة أكبر من الصلاة، فذكر مصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف وكذا المفضل عليه وهو خاص على ما سمعت، وجوز أن يكون عاما أي أكبر من كل شيء، وقيل: المعنى ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من ذكره إياه سبحانه خارج الصلاة، وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى أكبر من سائر أعماله، وروي عن جماعة من السلف ما يقتضيه.
أخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال: «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله تعالى قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع لأن الله تعالى يقول في كتابه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
. وأخرج ابن جرير عن سلمان أنه سئل أي العمل أفضل؟
قال: أما تقرأ القرآن؟ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ لا شيء أفضل من ذكر الله، ونسب في البحر إلى أبي الدرداء. وسلمان رضي الله تعالى عنهما القول الذي ذكرناه أولا عمن سمعت، ولعل ذلك إحدى روايتين عنهما، وجاء عن ابن عباس أيضا رواية تشعر بأن المراد بذكر الله تعالى ذكر العبد له سبحانه.
أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عنترة قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر وما قعد قوم في بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم إلا سهل الله تعالى له طريقا إلى الجنة.
وقيل: المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: ٩] أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للإيذان بأن ما فيها من ذكر الله تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات، وقيل: المعنى ولذكر الله تعالى عند الفحشاء والمنكر، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر في الزجر من الصلاة، (فذكر) على هذه الأقوال مصدر مضاف للمفعول والمفضل عليه محذوف، وجوز أن لا يكون أفعل للتفضيل سواء كانت إضافة المصدر للفاعل أم للمفعول كما في الله أكبر وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة فيجازيكم بذلك أحسن المجازاة، وقال أبو حيان: يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والشر فيجازيكم بحسبه ففيه وعد ووعيد وحث على المراقبة.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ من اليهود والنصارى، وقيل: من نصارى نجران إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالخصلة التي هي أحسن كمقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، والسورة بالأناة كما قال سبحانه: ادفع بالتي هي أحسن [المؤمنون: ٩٦، فصلت: ٣٤] إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإفراد في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ما يقرب منه، وتعقب بأن السورة مكية والحرب والجزية مما شرع بالمدينة، وكون الآية بيانا لحكم آت بعد بعيد وأيضا لا قرينة على التخصيص.
وقيل: يجوز أن يكون القائل بذلك ذاهبا إلى أن الآية مدنية ومكية السورة باعتبار أغلب آياتها أو ممن يقول:
بأن الحرب شرع بمكة في آخر الأمر، والسورة آخر ما نزل بها إلا أنه لم يقع وعدم الوقوع لا يدل على عدم المشروعية.
وعن ابن زيد أن المراد بأهل الكتاب مؤمنوا أهل الكتاب وبالتي هي أحسن موافقتهم فيما حدثوا به من أخبار أوائلهم وبالذين ظلموا من بقي منهم على كفره وهو كما ترى، واختلف في نسخ الآية. فأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة أنه قال: نهى في هذه الآية عن مجادلة أهل الكتاب، ثم نسخ ذلك فقال سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: ٢٩] الآية ولا مجادلة أشد من السيف، وقال في مجمع البيان: الصحيح أنها غير منسوخة لأن المراد بالجدال المناظرة وذلك على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره.
وقال بعض الأجلة: إن المجادلة بالحسنى في أوائل الدعوة لأنها تتقدم القتال فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية، وأما كون النهي يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكر فيدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل، وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال بمكة ليس بصحيح لأنه مسكوت عنه فتأمل.
وقرأ ابن عباس «ألا بالتي» إلخ، على أن «الا» حرف تنبيه واستفتاح، والتقدير، ألا جادلوهم التي هي أحسن وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَالذي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي وبالذي أنزل إليكم من التوراة والإنجيل، وهذا القول نوع من المجادلة بالتي هي أحسن، وعن سفيان بن حسين أنه قال: هذه مجادلتهم بالتي هي أحسن،
وأخرج البخاري، والنسائي، وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون الكتاب بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» الآية
، والتصديق والتكذيب ليسا نقيضين فيجوز ارتفاعهما.
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له في الألوهية وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مطيعون خاصة كما يؤذن بذلك تقديم لَهُ، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ تجريد للخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه في الفضل أي مثل ذلك الإنزال البديع الشأن الموافق لإنزال سائر الكتب أنزلنا إليك القرآن الذي من جملته هذه الآية الناطقة بما ذكر من المجادلة بالتي هي أحسن، وقيل: الإشارة إلى ما تقدم لذكر الكتاب وأهله أي وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب.
والجحد كما قال الراغب: نفي ما في القلب ثباته وإثبات ما في القلب نفيه، وفسر هنا بالإنكار عن علم فكأن قيل: وما ينكر آياتنا مع العلم بها إِلَّا الْكافِرُونَ أي المتوغلون في الكفر المصممون عليه فإن ذلك يمنعهم عن الإقرار والتسليم، وقيل: يجوز أن يفسر بمطلق الإنكار، ويراد بالكافرين المتوغلون في الكفر أيضا لدلالة فحوى الكلام، والتعبير بآياتنا على ذلك أي وما ينكر آياتنا مع ظهورها وارتفاع شأنها إلا المتوغلون في الكفر لأن ذلك يصدهم عن الاعتناء بها والالتفات إليها والتأمل فيها يؤديهم إلى معرفة حقيقتها، والمراد بهم من اتصف بتلك الصفة من غير قصد إلى معين، وقيل: هم كعب بن الأشرف، وأصحابه.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ أي وما كنت من قبل أنزلنا إليك الكتاب تقدر على أن تتلو مِنْ كِتابٍ أي كتابا على أن مِنْ صلة وَلا تَخُطُّهُ ولا تقدر على أن تخطه بِيَمِينِكَ أو ما كانت عادتك أن تتلوه ولا تخطه، وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من الخط فهو مثل العين في قولك: نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله التقطه من كتب الأوائل، وحيث لم تكن كذلك لم يكن لارتيابهم وجه، وكأن احتمال التعلم مما لم يلتفت إليه لظهور أن مثله من الكتاب المفصل الطويل لا يتلقى ويتعلم إلا في زمان طويل بمدارسة لا يخفى مثلها، ووصف مشركي مكة بالإبطال باعتبار ارتيابهم وكفرهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي فكأنه قيل: إذن لارتاب هؤلاء المبطلون الآن وكان إذ لارتيابهم وجه، وقيل: وصفهم بذلك باعتبار ارتيابهم، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم أمي وباعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام ليس بأميّ أما كونهم مبطلين
والأول أظهر، وكون المراد بالمبطلين مشركي مكة هو المروي عن مجاهد، وقال قتادة: هم أهل الكتاب أي لو كنت تتلو من قبل أو تخط لارتاب أهل الكتاب لأن نعتك في كتابهم أمي، ووصفهم بالإبطال قيل: باعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي كما هو الواقع، وإلا فهم ليسوا بمبطلين في ارتيابهم على فرض عدم كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أميا، وفي الكشف هذا فرض وتمثيل دلالة على أن مدار الأمر على المعجز، وأن كونه عليه الصلاة والسلام أميا لا يخط ليس مما لا يتم دعواه به، وتلك الدلالة لا تختلف والمنكر مبطل اهـ فتأمل.
هذا واختلف في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب وقال: إنه الأصح، وادعى بعضهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية. فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ،
وروى ابن أبي شيبة، وغيره: «ما مات صلى الله تعالى عليه وسلم حتى كتب وقرأ».
ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال: سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه،
وروى ابن ماجة عن أنس قال:
«قال صلى الله تعالى عليه وسلم: رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر»
والقدرة على القراءة فرع الكتابة ورد باحتمال إقدار الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام عليها بدونها معجزة أو فيه مقدر وهو فسألت عن المكتوب فقيل: إلخ، ويشهد للكتابة أحاديث
في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث
، وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمناني، وصنف فيه كتابا، وسبقه إليه ابن منية، ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاة وكتب به إلى علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد أميته صلّى الله عليه وسلم لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم، وردّ بعض الأجلة كتاب الباجي لما
في الحديث الصحيح- إنا أمية لا نكتب ولا نحسب.
، وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب فمعناه أمر بالكتابة كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان، وتقديم قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ على قوله سبحانه: وَلا تَخُطُّهُ كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد، وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده فقال: يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة، وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيته، ولا يخفى أن
قوله عليه الصلاة والسلام: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب»
ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو كذا وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد، وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالكتابة فخلاف الظاهر، وفي شرح صحيح مسلم للنواوي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب
ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يقرأ ما يكتب لكن إذا نظر إلى المكتوب عرف ما فيه بإخبار الحروف إياه عليه الصلاة والسلام عن أسمائها فكل حرف يخبره عن نفسه أنه حرف كذا وذلك نظير إخبار الذراع إياه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنها مسمومة.
وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل بدون خبر صحيح ولم أظفر به بَلْ هُوَ أي القرآن، وهذا إضراب عن ارتيابهم، أي ليس القرآن مما يرتاب فيه لوضوح أمره بل هو آياتٌ بَيِّناتٌ واضحات ثابتة راسخة فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب، وجاء في وصف هذه الأمة صدورهم أناجيلهم، وكون ضمير هو للقرآن هو الظاهر، ويؤيده قراءة عبد الله «بل هي آيات بينات»، وقال قتادة: الضمير للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقرأ «بل هو آية بينة» على التوحيد، وجعله بعضهم له عليه الصلاة والسلام على قراءة الجمع على معنى بل النبي وأموره آيات، وقيل: الضمير لما يفهم من النفي السابق أي كونه لا يقرأ لا يخط آيات بينات في صدور العلماء من أهل الكتاب لأن ذلك نعت النبي عليه الصلاة والسلام في كتابهم، والكل كما ترى، وفي الأخير حمل الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على علماء أهل الكتاب وهو مروي عن الضحاك والأكثرون على أنهم علماء الصحابة أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلماء أصحابه، وروي هذا عن الحسن
وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنهم الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وسلم
وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع كونها كما ذكر إِلَّا الظَّالِمُونَ المتجاوزون للحد في الشر والمكابرة والفساد وَقالُوا أي كفار قريش بتعليم بعض أهل الكتاب.
وقيل: الضمير لأهل الكتاب لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ مثل ناقة صالح وعصا موسى، وقرأ أكثر أهل الكوفة «آية» على التوحيد قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزلها حسبما يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات لا الإتيان بما اقترحتموه فالقصر قصر قلب أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ كلام مستأنف وارد من جهته تعالى ردا على اقتراحهم وبيانا لبطلانه والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقصر ولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الناطق بالحق المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية وأنت بمعزل من مدارستها وممارستها يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها، وقيل: يُتْلى عَلَيْهِمْ أي أهل الكتاب بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك، وله وجه إن كان ضمير قالوا فيما تقدم لأهل الكتاب وأما إذا كان لكفار قريش فلا يخفى ما فيه.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي الكتاب العظيم الشأن الباقي على ممر الدهور، وقيل: الذي هو حجة بينة لَرَحْمَةً أي نعمة عظيمة وَذِكْرى أي تذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي همهم الإيمان لا التعنت فالجار والمجرور متعلق بذكرى والفعل مراد به الاستقبال، ويجوز أن يكون رحمة وَذِكْرى مما تنازعا في الجار والمجرور فيجوز أن يكون الفعل للحال،
وأخرج الفريابي، والدارمي، وأبو داود في مراسيله، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن يحيى بن جعدة قال: «جاء ناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم فنزلت أَوَلَمْ
الآية»
. وأخرج الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه عن يحيى هذا ما هو قريب مما ذكر مرويا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ويُؤْمِنُونَ على هذا على ظاهره لا غير، وتعقب بأن السياق والسباق مع الكفرة وإن الظاهر كون أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الآية جوابا لقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ إلخ، وفي جعل سبب النزول ما ذكر خروج عن ذلك فتأمل.
وعليه تكون الآية دليلا لمن منع تتبع التوراة ونحوها. وروي هذا المنع عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
أخرج ابن عساكر عن أبي مليكة قال: أهدى عبد الله بن عامر بن ركن إلى عائشة رضي الله تعالى عنها هدية فظنت أنه عبد الله بن عمرو فردتها وقالت: يتتبع الكتب وقد قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ فقيل لها: «إنه عبد الله بن عامر فقبلتها» وجاء في عدة أخبار ما يقتضي المنع،
أخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان، عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرأه عليه والنبي عليه الصلاة والسلام يتلون وجهه فقال: «والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني ضللتم أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم».
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة «أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل: اكتب لي من هذا الكتاب قال: نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل يقرأه عليه وجعل وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتلون فضرب رجل من الأنصار الكتاب وقال: «ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند ذلك: إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون»
أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة، وقيل: المتحيرون إلى ذلك من الأخبار، وحقق بعضهم أن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين وذلك مما لا شبهة فيه في صدر الإسلام، وعليه تحمل الأخبار، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي عالما بما صدر عني من التبليغ والإنذار وبما صدر عنكم من مقابلتي بالتكذيب والإنكار فيجازي سبحانه كلا بما يليق به يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم فهو تقرير لما قبله من كفايته تعالى شهيدا، وجوز أن يكون المعنى كفى به عزّ وجلّ شاهدا بصدقي أي مصدقا لي فيما ادعيته بالمعجزات تصديق الشاهد لدعوى المدعي، وجملة يَعْلَمُ إما صفة شَهِيداً أو حال أو استئناف لتعليل كفايته، وقيل عليه: إن هذا الوجه لا يلائمه قوله تعالى: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ سواء تعلق بكفى أو بشهيدا ولا قوله سبحانه: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ إلخ، وفيه تأمل.
وقد يؤيد ذلك بما
روي أن كعب بن الأشرف، وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد بأنك رسول الله فنزلت قُلْ كَفى الآية
إلا أن في القلب من صحة هذه الرواية شيئا لما أن السياق والسباق مع كفرة قريش فلا تغفل.
وأيّا ما كان فلا منافاة بين هذه الآية، وقوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة: ٢٣] بناء على أن المعنى لا تستشهدوا بالله تعالى ولا تقولوا الله تعالى يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة إما لأن الشهيد هاهنا بمعنى العالم والكلام وعد ووعيد، وإما بمعنى المصدق بالمعجزات وليست الشهادة بأحد المعنيين هناك، والباء في بِاللَّهِ زائدة والاسم الجليل فاعل كَفى، وقال الزجاج: «إن الباء دخلت لتضمن كفى معنى اكتف فالباء كما قال اللقاني معدية لا زائدة، قال ابن هشام في المغني: وهو من الحسن بمكان ويصححه قولهم: اتقى
وتعقب ذلك الشيخ يس الحمصي في حواشيه على التصريح فقال: «أقول تفسير كَفى على هذا القول باكتف غير صحيح إذ فاعل كَفى حينئذ ضمير المخاطب، وكَفى ماض وهو لا يرفع ضمير المخاطب المستتر اهـ وفيه بعد بحث لا يخفى على المتأمل».
وظن بعض الناس أن كَفى على هذا القول اسم فعل أمر يخاطب به المفرد المذكر وغيره نحو حي في حي على الصلاة فالمعنى هنا اكتفوا بالله، وأنت تعلم أن هذا بعيد الإرادة من كلام الزجاج ويأباه كلام ابن هشام، وقال ابن السراج: الفاعل ضمير الاكتفاء، قال ابن هشام: وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر وهو قول الفارسي، والرماني أجازوا مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح، وأجاز الكوفيون أعماله في الظرف وغيره، ومنع جمهور البصريين أعماله مطلقا اهـ.
وتعقب ذلك ابن الصائغ فقال: لا نسلم توقف الصحة على ذلك لجواز أن تكون الباء للحال، وعليه يكون المعنى كَفى هو أي الاكتفاء حال كونه ملتبسا بالله تعالى، ولا يخفى أنه ما لم يبطل هذا القول لا يتم ما ادعاه ابن هشام من أن ترك التاء في كفى بهند يوجب كون كفى مضمنا معنى اكتف فتدبر وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي بغير الله عزّ وجلّ وهو شامل لنحو عيسى والملائكة عليهم السلام.
والباطل في الحقيقة عبادتهم وليس الباطل هنا مثله في قول حسان: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وقال مقاتل:
أي بعبادة الشيطان، وقيل: أي بالصنم وَكَفَرُوا بِاللَّهِ مع تعاضد موجبات الإيمان به عزّ وجلّ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان فاستوجبوا العقاب يوم الحساب، وفي الكلام على ما قيل: استعارة مكنية شبه استبدال الكفر بالإيمان المستلزم للعقاب باشتراء مستلزم للخسران، وفي الخسران استعارة تخييلية هي قرينتها لأن الخسران متعارف في التجارات، وهذا الكلام ورد مورد الإنصاف حيث لم يصرح بأنهم المؤمنون بالباطل الكافرون بالله عزّ وجلّ بل أبرزه في معرض العموم ليهجم به التأمل على المطلوب فهو كقوله تعالى:
إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] وكقول حسان:
فشركما لخيركما الفداء وهذا من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن وَيَسْتَعْجِلُونَكَ أي ويستعجلك كفار قريش بِالْعَذابِ على طريقة الاستهزاء والتعجيز والتكذيب به بقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ وقولهم: أمطر علينا حجارة أو ائتنا بعذاب ونحو ذلك وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى قد ضربه الله تعالى لعذابهم وسماه وأثبته في اللوح لَجاءَهُمُ الْعَذابُ المعين لهم حسبما استعجلوا به، وقال ابن جبير: المراد بالأجل يوم القيامة لما روي أنه تعالى وعد رسوله صلّى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه بعذاب الاستئصال وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، وقال ابن سلام: المراد به أجل ما بين النفختين، وقيل: يوم بدر، وقيل: وقت فنائهم بآجالهم، وفيه بعد ظاهر لما أنهم ما كانوا يوعدون بفنائهم الطبيعي ولا كانوا يستعجلون به وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ جملة مستأنفة مبنية لما أشير إليه في الجملة السابقة من مجيء العذاب عند حلول الأجل، أي وبالله تعالى لَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بإتيانه، ولعل المراد بإتيانه كذلك أنه لا يكون بطريق التعجيل عند استعجالهم والإجابة إلى مسؤولهم فإن ذلك إتيان برأيهم
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ استئناف مسوق لغاية تجهيلهم وركاكة رأيهم وهو ظاهر في أن ما استعجلوه عذاب الآخرة، وجملة إِنَّ جَهَنَّمَ إلخ في موضع الحال أي يستعجلونك بالعذاب والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه محيط بهم كأنه قيل: يستعجلونك بالعذاب وأن العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم على إرادة المستقبل من اسم الفاعل، أو كالمحيط بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي الموجبة إياه بهم على أن في الكلام تشبيها بليغا أو استعارة أو مجازا مرسلا أو تجوزا في الإسناد، وقيل: إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة لكنها ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة، والمراد بالكافرين المستعجلون، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف لمضمر قد طوي ذكره إيذانا بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل: يوم يأتيهم ويجللهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال، وقيل: ظرف لمحيطة على معنى وإن جهنم ستحيط بالكافرين يوم يغشاهم العذاب مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من جميع جهاتهم فما ذكر للتعميم كما في الغدو والآصال، قيل: وذكر الأرجل للدلالة على أنهم لا يقرون ولا يجلسون وذلك أشد العذاب وَيَقُولُ أي الله عزّ وجلّ، وقيل: الملك الموكل بهم.
وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريون «ونقول» بنون العظمة وهو ظاهر في أن القائل هو الله تعالى.
وقرأ أبو البرهسم «وتقول» بالتاء على أن القائل جهنم، ونسب القول إليها هنا كما نسب في قوله تعالى:
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: ٣٠] وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة «ويقال» مبنيا للمفعول ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات التي من جملتها الاستعجال بالعذاب.
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
نزلت على ما روي عن مقاتل والكلبي في المستضعفين من المؤمنين بمكة أمروا بالهجرة عنها وعلى هذا أكثر المفسرين، وعمم بعضهم الحكم في كل من لا يتمكن من إقامة أمور الدين كما ينبغي في أرض لممانعة من جهة الكفرة أو غيرهم فقال: تلزمه الهجرة إلى أرض يتمكن فيها من ذلك، وروي هذا عن ابن جبير وعطاء ومجاهد. ومالك بن أنس، وقال مطرف بن الشخير: إن الآية عدة منه تعالى بسعة الرزق في جميع الأرض، وعلى القولين فالمراد بالأرض الأرض المعروفة، وعن الجبائي أن الآية عدة منه عزّ وجلّ بإدخال الجنة لمن أخلص له سبحانه العبادة وفسر الأرض بأرض الجنة، والمعول عليه ما تقدم، والفاء في فَإِيَّايَ
فاء التسبب عن قوله تعالى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
كما تقول: إن زيدا أخوك فأكرمه وكذلك لو قلت:
إنه أخوك فإن أمكنك فأكرمه، و (إياي) معمول لفعل محذوف يفسره المذكور، ولا يجوز أن يكون معمولا له لاشتغاله بضميره وذلك المحذوف جزاء لشرط حذف وعوض عنه هذا المعمول، والفاء في فَاعْبُدُونِ
هي الفاء الواقعة في الجزاء إلا أنه لما وجب حذفه جعل المفسر المؤكد له قائما مقامه لفظا وأدخل الفاء عليه إذ لا بد منها للدلالة على الجزاء، ولا تدخل على معمول المحذوف أعني إياي وإن فرض خلوه عن فاء لتمحضه عوضا عن فعل الشرط فتعين الدخول على المفسر وأيضا ليطابق المذكور المحذوف من كل وجه، ولزم أن يقدر الفعل المحذوف
وقرأ أبو حيوة «ذائقة» بالتنوين «الموت» بالنصب،
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ترجعون» مبنيا للفاعل
، وروى عاصم «يرجعون» بياء الغيبة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي لننزلنهم على وجه الإقامة، وجملة القسم وجوابه خبر المبتدأ أعني الَّذِينَ ورد به وبأمثاله على ثعلب المانع من وقوع جملة القسم والمقسم عليه خبرا للمبتدأ، وقوله تعالى: مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي علالي وقصورا جليلة لا قصور فيها، وهي على ما روي عن ابن عباس من الدر والزبرجد والياقوت، مفعول ثان للتبوئة.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وعبد الله، والربيع بن خيثم، وابن وثاب، وطلحة، وزيد بن علي، وحمزة، والكسائي «لنثوينهم» بالثاء المثلثة الساكنة بعد النون وإبدال الهمزة ياء من الثواء بمعنى الإقامة فانتصاب غُرَفاً حينئذ إما بإجرائه مجرى لننزلنهم فهو مفعول به له أو بنزع الخافض على أن أصله بغرف فلما حذف الجار انتصب أو على أنه ظرف والظرف المكاني إذا كان محدودا كالدار والغرفة لا يجوز نصبه على الظرفية إلا أنه أجري هنا مجرى المبهم توسعا كما في قوله تعالى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: ١٦] على ما فصل في النحو.
وروي عن ابن عامر انه قرأ «غرفا» بضم الراء تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لغرفا خالِدِينَ فِيها أي في الغرف، وقيل: في الجنة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي الأعمال الصالحة والمخصوص بالمدح محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه أي نعم أجرى العاملين الغرف أو أجرهم، ويجوز كون التمييز محذوفا أي نعم أجرا أجر العاملين، وقرأ ابن وثاب «فنعم» بفاء الترتيب الَّذِينَ صَبَرُوا صفة للعاملين أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على المدح أي صبروا على أذية المشركين وشدائد المهاجرة وغير ذلك من المحن والمشاق وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي ولم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى.
روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة المهاجرة إلى المدينة قالوا: كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت،
أي وكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها أو لا تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها. عن ابن عيينة ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة، وعن ابن عباس لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ويقال للعقعق مخابي إلا أنه ينساها، وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في حضنيه والظاهر عدم صحته، وذكر لي بعضهم أن أغلب الكوامن من الطير يدخر والله تعالى أعلم بصحته.
اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله تعالى لأن رزق الكل بأسباب هو عزّ وجلّ المسبب لها وحدة فلا تخافوا على معاشكم بالمهاجرة ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم من الهجرة على أبلغ وجه قيل: يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ دون يرزقكم وإياها وَهُوَ السَّمِيعُ البالغ في السمع فيسمع قولكم هذا الْعَلِيمُ البالغ في العلم فيعلم ما انطوت عليه ضمائركم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي أهل مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ إذ لا سبيل لهم إلى إنكاره ولا التردد فيه، والاسم الجليل مرفوع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة السؤال عليه أو على الفاعلية لفعل محذوف لذلك أيضا فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ إنكار واستبعاد من جهته تعالى لتركهم العمل بموجبه، والفاء للترتيب أو واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان الأمر كذلك فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده عزّ وجلّ في الألوهية مع إقرارهم بتفرده سبحانه فيما ذكر من الخلق والتسخير.
وقدر بعضهم الشرط فإن صرفهم الهوى والشيطان لمكان بناء يُؤْفَكُونَ للمفعول، ولعل ما ذكرناه أولى.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسطه له لا غيره مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي يضيق عليه، والضمير عائد على من يَشاءُ الذي يبسط له الرزق أي عائد عليه مع ملاحظة متعلقة فيكون المعنى أنه تعالى شأنه يوسع على شخص واحد رزقه تارة ويضيقه عليه أخرى، والواو لمطلق الجمع فقد يتقدم التضييق على التوسيع أو عائد على من
وقال صاحب الكشف قدس سره: اعترض ليفيد أن الخالق هو الرزاق وأن من أفاض ابتداء وأوجد أولى أن يقدر على الإبقاء وأكد به ما ضمن في قوله عزّ وجلّ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه عزّ وجلّ الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفرعها ثم إنهم يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلا قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إظهار الحجة واعترافهم بما يلزمهم، وقيل: حمده عليه الصلاة والسلام على العصمة مما هم عليه من الضلال حيث أشركوا مع اعترافهم بأن أصول النعم وفروعهما منه جلّ جلاله فيكون كالحمد عند رؤية المبتلى، وقيل: يجوز أن يكون حمدا على هذا وذاك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد أو لا يعقلون شيئا من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم هذا فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته، قيل: إضراب عن جهلهم الخاص في الإتيان بما هو حجة عليهم إلى أن ذلك لأنهم مسلوبو العقول فلا يبعد عنهم مثله، وقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ معترض وجعله الزمخشري في سورة لقمان إلزاما وتقريرا لاستحاقه تعالى العبادة، وقيل: لا يَعْقِلُونَ ما تريد بتحميدك عند مقالهم ذلك، ولم يرتضه بعض المحققين لخفائه وقلة جدواه وتكلف توجيه الإضراب فيه.
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة تحقير وكيف لا والدنيا لا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة،
فقد أخرج الترمذي عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».
وقال بعض العارفين: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب بيد مجذوم، ويعلم مما ذكر حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي إلّا كما يلهو ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون عنه، وهذا من التشبيه البليغ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لهي دار الحياة الحقيقية إذ لا يعرض الموت والفناء لمن فيها أو هي ذاتها حياة للمبالغة، والْحَيَوانُ مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير هذا المحل، وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واوا على خلاف القياس فلامه ياء وإلى ذلك ذهب سيبويه.
وقيل: إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى حياة علم رجل، ولا حجة على كونه ياء في حي لأن الواو في مثله تبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة، وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة للدار الآخرة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شرط جوابه محذوف أي لو كانوا يعلمون لما داروا عليها الدنيا التي
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا الظاهر أن اللام في الموضعين لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها فالشرك سبب لهذا الكفران، وأدخلت لام كي على مسببه لجعله كالغرض لهم منه فهي لام العاقبة في الحقيقة، وقيل: اللام فيهما لام الأمر والأمر بالكفران والتمتع مجاز في التخلية والخذلان والتهديد كما تقول عند الغضب على من يخالفك: افعل ما شئت، ويؤيده قراءة ابن كثير، والأعمش، وحمزة، والكسائي «وليتمتعوا» بسكون اللام فإن لام كي لا تسكن، وإذا كانت الثانية لذلك لام الأمر فالأولى مثلها ليتضح العطف، وتخالفهما محوج الى التكلف بأن يكون المراد كما قال أبو حيان عطف كلام على كلام لا عطف فعل على فعل، وقوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة ذلك حين يعاقبون عليه يوم القيامة مؤيد للتهديد أَوَلَمْ يَرَوْا ألم ينظروا ولم يشاهدوا أَنَّا جَعَلْنا أي بلدهم حَرَماً مكانا حرم فيه كثير مما ليس بمحرم في غيره من المواضع آمِناً أهله عما يسوءهم من السبي والقتل على أن أمنه كناية عن أمن أهله أو على أن الإسناد مجازي أو على أن في الكلام مضافا مقدرا، وتخصيص أهل مكة وأن أمن كل من فيه حتى الطيور والوحوش لأن المقصود الامتنان عليهم ولأن ذلك مستمر في حقهم.
وأخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنّا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكلنا أكلة رأس فأنزل الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
يختلسون من حولهم قتلا وسبيا إذا كانت العرب حوله في تغاور وتناهب. والظاهر أن الجملة حالية بتقدير مبتدأ أي وهم يتخطف إلخ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أن أبعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه أو أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها بالصنم، وقيل: بالشيطان يؤمنون وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ وهي المستوجبة للشكر حيث يشركون به تعالى غيره سبحانه، وتقديم الصلة في الموضعين للاهتمام بها لأنها مصب الإنكار أو للاختصاص على طريق المبالغة لأن الإيمان إذا لم يكن خاصا لا يعتد به ولأن كفران غير نعمته عزّ وجلّ بجنب كفرانها لا يعد كفرانا.
وقرأ السلمي، والحسن «تؤمنون» و «تكفرون» بتاء الخطاب فيهما وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له سبحانه شريكا وكونه كذبا على الله تعالى لأنه في حقه فهو كقولك: كذب على زيد إذا وصفه بما ليس فيه أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ يعني الرسول أو الكتاب لَمَّا جاءَهُ أي حين مجيئه إياه، وفيه تسفيه لهم حيث لم يتأملوا ولم يتوقفوا حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه.
ألستم خير من ركب المطايا | وأندى العالمين بطون راح |
ومن الناس من أول جاهَدُوا: بأرادوا الجهاد وأبقى لَنَهْدِيَنَّهُمْ على ظاهره، وقال السدي: المعنى والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبلنا إلى الجنة، وقيل: المعنى والذين جاهدوا في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة، وما ذكر أولا أولى، والموصول مبتدأ وجملة القسم وجوابه خبره نظير ما مر من قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً [العنكبوت: ٥٨].
وَإِنَّ اللَّهَ المتصف بجميع صفات الكمال الذي بلغت عظمته في القلوب ما بلغت لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج لهما قرينة قوية على إرادة ذلك، وقال العلامة الطيبي: إن قوله تعالى:
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ قد طابق قوله سبحانه: جاهَدُوا لفظا ومعنى، أما اللفظ فمن حيث الإطلاق في المجاهدة والمعية، وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى ناصر ومعين، ثم إن جملة قوله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ تذييل للآية مؤكد بكلمتي التوكيد محلى باسم الذات ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشره في ذاته جلّ وعلا تجلى له الرب عزّ اسمه الجامع في صفة النصرة والإعانة تجليا تاما، ثم إن هذه خاتمة شريفة للسورة لأنها مجاوبة لمفتتحها ناظرة الى فريدة قلادتها أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: ٢] لامحة الى واسطة عقدها يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
[العنكبوت: ٥٦] وهي في نفسها جامعة فاذة اهـ.
و (أل) في المحسنين يحتمل أن تكون للعهد فالمراد بالمحسنين الذين جاهدوا، ووجه إقامة الظاهر مقام الضمير ظاهر وإلى ذلك ذهب الجمهور، ويحتمل أن يكون للجنس فالمراد بهم مطلق جنس من أتى بالأفعال الحسنة ويدخل أولئك دخولا أوليا برهانيا. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الْمُحْسِنِينَ بالموحدين وفيه تأييد ما للاحتمال الثاني والله تعالى أعلم.
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم | علي بما يقضي الهوى لكم عدل |
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ فيه إشارة إلى أن دقائق المعارف لا يعرفها إلا أصحاب الأحوال العالمون به تعالى وبصفاته وسائر شؤونه سبحانه لأنهم علماء المنهج، وذكر أن العالم على الحقيقة من يحجزه علمه عن كل ما يبيحه العلم الظاهر، وهذا هو المؤيد عقله بأنوار العلم اللدني إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ذكر أن حقيقة الصلاة حضور القلب بنعت الذكر والمراقبة بنعت الفكر فالذكر في الصلاة يطرد الغفلة التي هي الفحشاء والفكر يطرد الخواطر المذمومة وهي المنكر، هذا في الصلاة وبعدها تنهى هي إذا كانت صلاة حقيقية وهي التي انكشف فيها لصاحبها جمال الجبروت وجلال الملكوت وقرت عيناه بمشاهدة أنوار الحق جلّ وعلا عن رؤية الأعمال والأعواض،
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: الصلاة إذا كانت مقبولة تنهى عن مطالعات الأعمال والأعواض
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عطاء: أي ذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم له سبحانه لأن ذكره تعالى بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني والسؤال، وأيضا ذكره تعالى صفته وذكركم صفتكم ولا نسبة بين صفة الخالق جل شأنه وبين صفة المخلوق وأين التراب من رب الأرباب بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فيه إشارة إلى أن عرائس حقائق القرآن لا تنكشف إلا لأرواح المقربين من العارفين والعلماء الربانيين لأنها أماكن أسرار الصفات وأوعية لطائف كشوف الذات،
قال الصادق على آبائه وعليه السلام: لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
قال سهل: إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين، وكأن هذا لئلا تنعكس ظلمة معاصي العاصين على قلوب الطائعين فيكسلوا عن الطاعة، وذكروا أن سفر المريد سبب للتخلية والتحلية، وإليه الإشارة بما
أخرجه الطبراني والقضاعي، والخطيب، والشيرازي في الألقاب، والخطيب وابن النجار، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قال ابن عطاء: أي الذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى محل الرضا، والمجاهدة كما قال: الافتقار الى الله تعالى بالانقطاع عن كل ما سواه، وقال بعضهم: أي الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف لنوصلن أسرارهم إلى اللطائف، وقيل: أي الذين جاهدوا نفوسهم لأجلنا وطلبا لنا لنهدينهم سبل المعرفة بنا والوصول إلينا، ومن عرف الله تعالى عرف كل شيء ومن وصل إليه هان عنده كل شيء، كان عبد الله بن المبارك يقول: من اعتاصت عليه مسألة فليسأل أهل الثغور عنها لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى والحفظ التام من كل شر بحرمة حبيبه سيد البشر صلى الله تعالى عليه وسلم.