ﰡ
اختبار الناس
لا تستغني الحياة عن الامتحان والاختبار، ليعرف المحسن من المسيء، والعامل والمقصر أو غير العامل، والمستقيم والفاجر، وهكذا حياة البشر أمام الله عزّ وجلّ، لا بدّ لهم من الاختبار، ليتميز المؤمنون الصادقون والكاذبون، ويعرف المجاهدون والمتقاعسون، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. وهذا ما افتتحت به أوائل سورة العنكبوت المكّية:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤)مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
«١» «٢» «٣» [العنكبوت: ٢٩/ ١- ٧].
مطلع السورة بالحروف الأبجدية المقطعة لتنبيه المخاطب لما يأتي بعدها، وإظهار إعجاز القرآن المتكون من هذه الحروف، ومع ذلك لا يستطيع العرب الإتيان بمثله، تحدّيا لهم.
(٢) أن يعجزونا.
(٣) الوقت المعين للبعث والجزاء.
وسببها الخاص إيناس المؤمنين الأولين الذين تعرّضوا لإيذاء كفار قريش وتعذيبهم على الإسلام، فكانوا يتضايقون بذلك. لكنهم في هذا مطالبون بالصبر كمن أوذي ممن قبلهم.
وهذا ما أبانته الآية الآتية، فتالله لقد امتحنا واختبرنا المؤمنين السابقين، بل والأنبياء المتقدمين بألوان الأذى والشدة والضّرر، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف، بأن يظهر الله علمه فيهم، ويوجد ما علمه أزلا، لا علما يسبقه جهل، لأن الله عالم بكل شيء في الماضي والحاضر والمستقبل، ليعلم الذين وجد منهم الصدق، والقائمين على الكذب. والتعبير بقوله: الَّذِينَ صَدَقُوا في حقّ المؤمنين، وبقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ في حقّ الكافرين، للدلالة في هؤلاء الكفرة على الثبات والدوام. بل أظن الذين يقترفون المعاصي أن يسبقوا عقاب الله تعالى ثم يفوتونه، ويعجزونه؟! بئس الحكم حكمهم، بأن يعصوا ويخالفوا أمر الله، ثم يفلتون من العقاب، إنه حكم خطأ، يناقض مقتضى العقل والشرع والعدل.
ومن جاهد نفسه وهواه، فقام بالأوامر، واجتنب النواهي، فإن ثمرة جهاده عائدة له، ونفع عمله راجع لنفسه لا لغيره. وهذا إعلام بأن كل أحد مجازي بفعله الحسن، وأن نفع الطاعة للإنسان ذاته لا لله تعالى، لأن الله غني عن جميع العالمين من إنس وجنّ، لا تنفعه طاعة، ولا تضّره معصية.
ثم أخبر الله تعالى عن ثواب المؤمنين المجاهدين الذين هم في أعلى رتبة، وهو أحسن الجزاء: يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن ما عملوا، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب على الحسنة بعشرة أمثالها. والسيئة: الكفر وما اشتمل عليه، وكذلك معاصي المؤمنين مع الأعمال الصالحة واجتناب الكبائر. وقوله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ معناه على حذف مضاف تقديره: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. ويدخل في ذلك ثواب الحسن، بإخراج كلمة (أحسن) عن بابها من التفضيل، فليس المراد بها هنا كونها أفعل تفضيل، وإنما المراد أنهم يجزون ثواب الأحسن والحسن. فيكون الجزاء على حسن الأعمال، وأن الحسنة تمحو السيئة.
وصايا أهل الإيمان
في مجال الاختبار والامتحان يوصي الله تعالى المؤمنين بالإحسان إلى الوالدين، ويبشّرهم بالجنة إن هم أطاعوا، وصبروا على الأذى والفتنة، وفي الامتحان يتبين
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ١٣]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [العنكبوت: ٢٩/ ٨- ١٣].
هذه طائفة من وصايا أهل الإيمان، تشتمل على نواح ثلاث:
الأولى- الإحسان إلى الوالدين: فلقد أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه، ببرهما قولا وعملا، لأنهما سبب وجوده، إلا في محاولة الحمل على الشّرك، فإن جاهداك على أن تشرك أيها الولد بالله ما لا علم لك به، ولا وجود بالفعل، فلا تطعهما في ذلك، لأنه كما صحّ في الحديث الذي
أخرجه أحمد والحاكم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وذلك لأن سبب المخالفة في المعصية رجوعكم جميعا إلى الله يوم
(٢) برّا بهما وإحسانا.
(٣) ما يصيبه من أذاهم.
(٤) أوزاركم.
(٥) خطاياهم. [.....]
(٦) يختلقونه من الأباطيل.
نزلت هذه الآية كما روي عن قتادة في سعد بن أبي وقاص، حين هاجر، فحلفت أمه ألا تستظلّ بظلّ حتى يرجع إليها، ويكفر بمحمد- صلّى الله عليه وسلم- فلجّ «١» هو في هجرته، ونزلت الآية.
ثم كرّر الله تعالى التمثيل أو الشبيه بحالة المؤمنين ليحرّك النفوس إلى نيل المراتب العالية، فالذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال، لنجعلنهم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته ونحشرنهم مع أرفع الصالحين، وثمرة الصلاح تتحقق بعدئذ، وجزاؤه الجنة.
وقوله سبحانه: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرة الأنبياء، على سبيل المبالغة.
الناحية الثانية- افتضاح شأن المنافقين: فمن الناس فريق، هم قوم من المكذبين المنافقين، الذين يتظاهرون بألسنتهم بالإيمان بالله، والتصديق بوجوده، ووحدانيته، دون أن يثبت الإيمان في قلوبهم، بدليل أنهم إذا أصيبوا بأذى المشركين من أجل إيمانهم، اعتقدوا بأن هذا من نقمة الله عليهم، فارتدوا عن الإسلام، وصرفهم العذاب عن الإيمان، وإذا تحقق نصر قريب من الله للمؤمنين بالفتح والغلبة والغنيمة قالوا: إنا كنا معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين، أو ليس الله بأعلم بما في قلوب العالمين، وما تنطوي عليه من النفاق؟! وليختبرن الله الناس في السّر والعلن، ليتميز المؤمنون، ويعرف المنافقون، لأن المحنة محكّ الإيمان، فإن صبر المؤمن كان صادقا، وإن جزع وتبرم، كان كاذبا منافقا.
نزلت آية: وَمِنَ النَّاسِ في المنافقين الذين كفروا لما أوذوا، قال مجاهد: نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.
قال مجاهد: إن الآية نزلت في كفار قريش الذين قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتّبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا. روي أن قائل هذه المقالة الوليد ابن المغيرة. وقيل: بل كانت شائعة من كفار قريش.
إن هذه الوصايا واردة بصفة التحذير من عقوق الوالدين فيما هو حقّ وبرّ، وخير وطاعة، والتحذير من أعمال المنافقين فاقدي الإيمان الثابت، حينما أوذوا كفروا، ومن محاولات الكفار ثني المؤمنين عن إيمانهم وردهم إلى دائرة الشّرك والوثنية.
رسالة نوح عليه السّلام
تكرّر إيراد قصة نوح عليه السّلام مع قومه في مناسبات مختلفة، وسور قرآنية متعددة، بعضها مطوّل مفصّل، وبعضها كما هنا موجز مختصر، وأتبعت هذه القصة في سورة العنكبوت بقصص أنبياء آخرين: وهم إبراهيم، ولوط، وهود، وشعيب، وصالح، لبيان عاقبة المكذبين رسلهم، وإيناس النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم فيما يلقاه من تعنّت
وهذه آيات توجز بيان مهمة نوح عليه السّلام أطول الأنبياء عمرا، وأول رسول للبشرية، وأبي البشر الثاني بعد آدم عليه السّلام، قال الله تعالى:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
[العنكبوت: ٢٩/ ١٤- ١٥].
إن إيراد قصص الأنبياء السابقين على هذا النحو من التأكيد والتشديد، ذو مغزى عميق ودلالة واضحة، فمغزاه العبرة والعظة، ودلالته الإنذار والتحذير لكفار قريش وأمثالهم، حين كذبوا رسولهم محمدا صلّى الله عليه وسلم بأنهم سيتعرّضون لعقاب مماثل لمن تقدّمهم من الأقوام الغابرة الذين كذّبوا رسلهم، فجاءهم عذاب الاستئصال. وتظهر صورة هذا التأكيد في العرض والبيان بقسم من الله تعالى على ما جاء في قصّة كل نبي.
وهنا يقول الله تعالى ما معناه: وتالله لقد أرسلنا نوحا عليه السّلام إلى قومه الكافرين العصاة، عبدة الأصنام، فبقي فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمن بدعوته إلا قليل من الناس كما قال تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: ١١/ ٤٠]، وكذبوه وآذوه، وأفحشوا له القول، فصبر نوح عليه السّلام على أذاهم، ومضى زمان طويل، وهو يدعوهم إلى أن يتركوا عبادة الأصنام، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد، وبيوم القيامة والحساب، فلم يفلح، ولم يستجيبوا لدعوته، وأمعنوا في الإعراض والاستكبار، كما جاء في آية أخرى: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [نوح: ٧١/ ٢١].
وجاء الأمر الإلهي بالإغراق بعد هذه المدة الطويلة من الصبر والإنذار، فأخذهم الطوفان، وهم ظالمون أنفسهم بالكفر، وأنجى الله نوحا ومن آمن معه في الفلك المشحون، التي مخرت عباب البحر، حتى استقرّت على جبل الجودي، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء، وجعل الله سفينة نوح آية وعبرة للعالمين، كما جاء في آية أخرى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) [الحاقّة: ٦٩/ ١١- ١٢].
وضمير الفعل: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ يعود على السفينة المذكورة. وأما الغرق ففي رأي فرقة مقصور على قوم نوح، وقال الجمهور: إنما غرقت المعمورة كلها، أي العالم القديم، والرأي الثاني هو الراجح بسبب إعراض الناس كلهم عنه، أي عن دعوة نوح. فليتّعظ كفار قريش وأمثالهم بهذه العقوبة الشديدة التي يمكن أن تصيبهم، إذا ظلّوا رافضين لدعوة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم، مكذّبين له، مفترين على دعوته وعلى القرآن وعلى المؤمنين، فإن العاقل من اتّعظ بغيره.
إن قصة السفينة عبرة وعلامة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه، وعقابه عتاة أهل الضلال والتمرد والعصيان، كما أنها نعمة خارقة، في وقت لم يعرف الناس ركوب البحر ولا وجود السّفن عابرة المياه، فقد نجى الله تعالى نوحا ومن آمن معه، حفاظا على النوع البشري من الانقراض العددي والنوعي، حيث تناسل الناس من ذرّية هؤلاء المؤمنين، وبدأت حياة جديدة تظهر فيها مآس وألوان أخرى من الفسوق والعصيان، والكفر والطغيان، فتجدد العقاب في أمم أخرى بعد إرسال رسل آخرين
دعوة إبراهيم الخليل عليه السّلام
من أعظم قصص القرآن الكريم: قصة نوح وإبراهيم عليهما السّلام، أما نوح عليه السّلام فهو أبو البشر الثاني الذي دعا إلى عبادة الله وحده، فكذّبه قومه، فأغرقهم الله بالطوفان، وأما إبراهيم عليه السّلام: فهو أبو الأنبياء، وإمام الحنفاء، الذي دعا أيضا كنوح إلى توحيد الله عزّ وجلّ، وهجر عبادة الأصنام، وشكر الله المنعم، وبيان قدرته على بدء الخلق وإعادته، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وهذا ما أبانته الآيات الآتية في قول الله سبحانه:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٦ الى ٢٣]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
«١» «٢» «٣»
(٢) تردّون وترجعون.
(٣) فائتين من عذابه بالهرب.
المعنى: واذكر أيها النّبي إبراهيم ودعوته، وهي كقصة نوح أيضا تمثيل وتشبيه لقريش، فلقد كان النمرود وأهل مدينته عبدة أصنام، فدعاهم إبراهيم عليه السّلام إلى توحيد الله تعالى وعبادته وتقواه، ثم نبّههم إلى ما هم عليه من الضّلال، فإن توحيد الله وترك الأصنام خير لكم في الدنيا والآخرة، إن كنتم من أهل الوعي والإدراك والعلم، تميزون به بين الخير والشّر.
وهذان دليلان على التوحيد:
الأول- إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام، ما هي إلا أوثان، وأشياء مصنوعة من الأحجار، فلا تضرّ ولا تنفع، وإنما اختلقتم لها أسماء، فسمّيتموها آلهة، وادّعيتم أن لها شفاعة لكم عند ربّكم، وإنما هي مخلوقة أمثالكم، فأنتم تختلقون الكذب بوصفها آلهة.
والدليل الثاني- إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله، لا تستطيع أن تجلب لكم رزقا، فكيف تعبدونها؟ فاطلبوا الرزق من عند الله تعالى، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها، واعبدوه وحده، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من الفضل والإنعام، فإنما إليه مرجعكم يوم القيامة، ليحاسبكم على أعمالكم.
ودليل صدق رسالة إبراهيم عليه السّلام في مخاطبة قومه: وإن تكذّبوني في رسالتي، فلا تضروني أبدا، فقد كذبت الرسل أمم سابقة، وقد بلغكم ما حلّ بهم، من العذاب والانتقام، ولا يكلّف الرسول إلا بتبليغ ما أمره الله تعالى به من الرسالة، تبليغا واضحا كاملا، فاحرصوا على إسعاد أنفسكم بالإيمان بالله تعالى.
وأما دليل الأصل الثالث في عقيدة الإيمان: وهو البعث والمعاد، فهو أن تنظروا
وعلى صعيد الواقع المشاهد، سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله خلق السماوات وما فيها من الكواكب الثوابت النّيرات، وكيف أوجد الأراضي وما فيها من الجبال الراسيات، ثم الله يعيدكم أحياء مرة أخرى، فإن من قدر على الخلق أول مرة، قادر على الإعادة وإنشاء النشأة الأخرى يوم القيامة، وإن الله قادر تامّ القدرة على كل شيء، ومنه البدء والإعادة.
والذي يكون بعد البعث والإعادة، إنما هو الحساب والجزاء، فإن الله يعذب من يشاء من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء، من المؤمنين فضلا منه ورحمة، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وإلى الله مصيركم ومردّكم يوم القيامة بعد الموت، مهما طالت المدة، فيحاسب كل إنسان على ما قدّم وأخّر، وحسابه قائم على الحقّ والعدل والإنصاف، لأنه المالك لكل شيء، فيسوي بين مخلوقاته.
ولستم أنتم أيها الجاحدون الكافرون، بمعجزي الله عن ملاحقتكم وتقديمكم للجزاء، سواء في الأرض والسماء، فإن الله لا يعجزه شيء، ولا يقدر أحد على الإفلات من قبضته، فقبضته السماوات والأرض وما بينهما، وهو القاهر فوق عباده، وليس لكم من غير الله ولي (نصير) يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم، ولا معين وناصر ينصركم، ويمنعكم من عذابه إن عذّبكم، فهل بعدئذ تظنّون أنكم بكفركم وعبادتكم غير الله من الأصنام ناجون وسالمون من الجزاء؟!
موقف قوم إبراهيم من دعوته
لا ينتظر بعد تقديم إبراهيم الخليل مختلف الأدلّة على أصول دعوته من توحيد الله، وإرسال الرّسل، وبعث العباد أن نجد جوابا مقنعا لدى القوم الذين استبدّوا واستكبروا، وبغوا وعاندوا، واعتمدوا على التهديد والوعيد، ولكن الله تعالى نجى إبراهيم من النار، فأعاد الكرة عليهم بتوبيخهم على سوء الاعتقاد وعبادة الأصنام، وتفرّق الصّف وتشتّت الأحوال يوم القيامة. ولما نجى إبراهيم من النار، آمن به ابن أخيه لوط عليه السّلام، وأنعم الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب، وبجعل النّبوة والكتب المنزلة في ذرّيّته، وإيتاء أجره في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى مبيّنا هذه المفاجئات.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
«١» «٢» [العنكبوت: ٢٩/ ٢٤- ٢٧].
(٢) مكان إيوائكم النّار.
واستأنف إبراهيم عليه السّلام دعوته لتوحيد الله وهجر عبادة الأصنام، حتى بعد إلقائه في النار، فقال لقومه موبّخا ومقرّعا: إنما اتّخذتم هذه الأصنام لتجتمعوا على عبادتها، وتقيموا تجمّعا وديّا فيما بينكم في دار الدنيا، كاتّفاق أهل الأهواء على الباطل والضلال، ثم يقع التنازع والتّباعد بينكم في الآخرة، فتنقلب صداقة الدنيا إلى عداوة وتباغض، فيتبرأ القادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة، ثم يكون مصير الفريقين إلى النار، ولن يجدوا في الآخرة ناصرا ينصرهم، ولا منقذا ينقذهم من عذاب الله تعالى، فالكل يستوون في استحقاق العقاب، لأن توادّ الكافرين كان مجافيا للحق والخير والتقوى، قال الله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزّخرف: ٤٣/ ٦٧].
هذا مع العلم بأن الوثن: ما اتّخذ من جصّ أو حجر، والصّنم: ما كان من معدن.
وفي الزاوية الأخرى في مواجهة الكفر، نجد أملا لا ينقطع، ونورا لا يخبو، فقد آمن بدعوة إبراهيم ابن أخيه لوط عليهما السّلام، وهاجر هو ولوط، إلى بلاد الشام من أرض بابل، وقال إبراهيم عليه السّلام: إني مهاجر من دياركم، متّجه إلى جهة أمرني بها ربّي، فهاجر من سواد العراق إلى حرّان، ثم اتّجه إلى ديار الشام، فأقام إبراهيم في فلسطين في بلدة الخليل، ونزل لوط بلدة سدوم.
وسبب هذه الهجرة: أن الله سينتقم من عبدة الأوثان، فهو القوي الغالب القاهر
ومكافاة لإبراهيم على جهاده في تبليغ دعوته، وإبطال الوثنية، أنعم الله عليه بعد ترك قومه الوثنيين بنعم ثلاث:
الأولى- أن الله تعالى وهب إبراهيم في حال الكبر إسحاق بعد إسماعيل الذّبيح، وكذا يعقوب بن إسحاق نافلة وفضلا، فقد بشّر الله إبراهيم بإسحاق، ثم بشّر بيعقوب من بعده، كما جاء في آية أخرى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: ٢١/ ٧٢].
والنعمة الثانية- هي جعل النبوة وكتب التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، في ذرّية إبراهيم الخليل عليه السّلام، فكانت الأنبياء كلهم بعد إبراهيم من ذرّيّته، ولم يوجد بعده نبي إلا من سلالته، وكان إنزال الكتب السماوية على هؤلاء الأنبياء الذين هم من ذرّية إبراهيم، وهم: موسى وعيسى وداود ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
والنعمة الثالثة- إيتاء إبراهيم عليه السّلام أجره في حياته الدنيوية بحيث أدرك ذلك وسرّ به، والأجر الذي آتاه الله تعالى: هو السّلامة من النار، ومن الملك الجائر، والعمل الصالح، والثناء الحسن، وأن كل أمة تحبّه وتتولاه، قال عكرمة:
أهل الملل كلها تدعيه وتقول: هو منّا.
ثم أخبر الله عنه: أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضوان الله تعالى، وفازوا برحمته وكرامته العليا. فإن إبراهيم عليه السّلام يحشر في الآخرة في زمرة الكاملين في الصلاح، الذين لهم الدرجات العليا، والمكانة الرفيعة الأسمى، وكان بهذا قد جمع الله له بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
اتّجه لوط عليه السّلام بعد إيمانه وهجرته مع إبراهيم من العراق إلى بلدة سدوم في غور الأردن، بأمر الله إياه، من أجل دعوة أهلها إلى توحيد الله، وترك الفواحش، ومحاربة الفساد، وقطع الطريق على المارّة، وإتيان المنكر، وكان في دعوته جريئا قويا، مجاهرا صامدا، لا يفتأ يحذّر وينذر، ويوجّه ويصلح، ولكن القوم الفاسقين غلب عليهم حبّ الفاحشة والمنكر، فلم يستجيبوا لدعوته، وقاوموه وحاولوا طرده، وإبعاده من ديارهم، علما بأن لوطا عليه السّلام ليس من هؤلاء القوم، قال الله تعالى واصفا دعوة لوط عليه السّلام:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
«١» «٢» «٣» »
«٥» [العنكبوت: ٢٩/ ٢٨- ٣٥].
المعنى: واذكر أيها النّبي لوطا وقصّته مع قومه، حين أرسله الله إلى أهل قرية
(٢) اعتراه الغمّ بمجيئهم خوفا عليهم.
(٣) ضعف عن تدبير خلاصهم.
(٤) الباقين في العذاب.
(٥) عذابا شديدا.
ثم أكّد لوط الإنكار على جميع أفعالهم القبيحة وهي:
- كيف تأتون الذكران بشهوة من دون النساء؟ فهذا شذوذ في الطبع ودمار لكم.
- ولم تقطعون الطريق على المارّة، وتتعرّضون لهم بالقتل وأخذ المال والإكراه على الفاحشة؟
- ولماذا ترتكبون في ناديكم أو مجلسكم العام والخاص ما لا يليق بكم من الأقوال والأفعال، من صبغ الأصابع بالحناء، والصفير، وخذف الحصا، ولعب الحمام، والتّضارط، ونبذ الحياء في كل أموركم.
فلما صارحهم لوط ونبّههم على ترك هذه القبائح، رجعوا إلى التكذيب واللجاج والعناد، وقالوا: عجّل علينا العذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا فيما تهددنا به، فإن ذلك لا يكون، ولا تقدر عليه، وهم لم يقولوا هذا إلّا وهم مصمّمون على اعتقاد كذبه.
فقال لوط داعيا على هؤلاء القوم المفسدين مستنصرا بربّه: يا ربّ، انصرني على هؤلاء القوم المفسدين في الأرض، بابتداع الفاحشة. ولم يصدر منه هذا الدعاء إلا بعد يأسه من صلاحهم، فبعث الله عليهم ملائكة لعذابهم.
ولما جاءت الملائكة رسل العذاب، مرّوا على إبراهيم عليه السّلام في هيئة أضياف، فبشّروه بولد صالح من امرأته (سارّة) وهو إسحاق ومن ورائه يعقوب، أي حفيده، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط عليه السّلام، لأنهم قوم ظلموا
فلما أخبروا إبراهيم بإهلاك قرى قوم لوط على ظلمهم، أشفق إبراهيم عليه السّلام على لوط عليه السّلام، فسأل عن مصير لوط وهو رسول، وغير ظالم، فقالت الملائكة الرسل: نحن أعلم منك بمن في البلد من المؤمنين والكافرين، وإنا لننجي لوطا وأهله، وأتباعه المؤمنين به من الهلاك إلّا امرأته، فهي من الهالكين الباقين في العذاب.
ولما جاءت الملائكة إلى لوط عليه السّلام على صورة بشر حسان الوجوه، اغتم بأمرهم، وخاف عليهم من فساد قومه، وضاق ذرعا بهم، أي قصرت طاقته أو قدرته، حفاظا عليهم وحياء منهم، فقالوا له مطمئنين: لا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك الأخباث، وإنا منجّوك وأتباعك المؤمنين من العذاب إلّا امرأتك، فهي من الباقين في العذاب. وصفة هذا العذاب: أننا سننزل على أهل بلاد سدوم عذابا شديدا من السماء، بسبب فسقهم وعصيانهم، وكان العذاب زلزالا خسف بهم الأرض، وقلب ديارهم عاليها سافلها.
ولقد تركنا من البلدة بعض آثار منازلهم الخربة أو بعض أخبارهم آية: علامة ظاهرة واضحة، وعبرة لقوم يتدبرون الأمور بعقولهم الرشيدة، ويتبصرون بمصائر المجرمين الذين كذبوا رسولهم.
قصص أقوام مدين وعاد وثمود وفرعون
استبدّ الانحراف والفساد بأقوام سابقين، فانحرفوا عن عبادة الله تعالى وأنكروا الآخرة، وعاثوا في الأرض فسادا، وكذبوا رسلهم، وهم قبائل مدين وعاد وثمود، وأشخاص قارون وفرعون وهامان وأتباعهم، فاستحقوا بمقتضى قانون العدالة
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [العنكبوت: ٢٩/ ٣٦- ٤٠].
هذه لمحة سريعة من صواعق أو عناقيد الغضب الإلهي على أقوام عتاة، بلغوا الذروة في الكفر والفساد والظلم، فجوزوا بأشد العقاب. وهم قبيلة مدين شمال خليج العقبة، وأصحاب الأيكة غيرهم، أرسل الله إليهم النّبي شعيبا عليه السّلام، فأمرهم بعبادة الله تعالى، والإيمان بالبعث واليوم الآخر، والخوف من بأس الله وعذابه، ونهاهم عن الفساد في الأرض وعن إنقاص الكيل والميزان، فقابلوه بالهزء والتكذيب، والإصرار على الكفر والعصيان، فأهلكهم الله بالرّجفة: وهي الزّلزلة العظيمة، فأصبحوا جثثا هامدة، ودمّر الله ديارهم. وهذا نحو من الخسف.
(٢) الزلزلة الشديدة بالصيحة. [.....]
(٣) ميتين بلا حركة.
(٤) طالبين التّبصر والتّعقل والتّدبر.
(٥) فائتين عذاب الله.
(٦) ريحا شديدة ترميهم بالحصباء.
(٧) صوت مهلك من السماء.
وأما قبيلة ثمود: فكانوا يسكنون في الحجر قريبا من وادي القرى، بين الحجاز والشام، وما تزال مدائنهم ظاهرة إلى اليوم، أرسل الله إليهم النّبي صالحا عليه السّلام، فدعاهم مثل هود عليه السّلام إلى عبادة الله وحده، فلم يستجيبوا، وزيّن لهم الشيطان أعمالا سيئة، فكفروا بالله تعالى، واجترحوا السيئات، ومنعوا الناس عن الدّين الحقّ والطريق القويم، وكانوا أهل عقل وبصيرة، لكنهم لم يؤمنوا بربّهم، ولم ينتفعوا بطاقات فكرهم وقلوبهم، فعاقبهم الله، وأهلكهم بالطاغية أو الصيحة الشديدة، وبادوا، وبقيت آثار ديارهم عبرة لكل مارّ عليها.
وأهلك الله تعالى قارون بالخسف وتدمير دياره، وفرعون وهامان وزيره بالإغراق في البحر الأحمر، وقد أرسل الله لهم موسى عليه السّلام، فدعاهم إلى توحيد الله عزّ وجلّ وترك عبادة الأوثان، وأتاهم بالآيات الواضحات والمعجزات الظاهرة كالعصا التي تنقلب حيّة عظيمة، واليد التي يدخلها في فتحة قميصه، فتصير ذات إشعاع كالشمس أو القمر، فاستكبروا عن الطاعة لله وعبادته، ولم يكونوا مفلتين من العذاب والأخذ، ولا قادرين على الهرب من العقاب، بل أدركهم أمر الله تعالى وبطشه، وصاروا عبرة للمعتبر، وعظة لكل ناظر.
إن هؤلاء الأقوام جوزوا بما يناسبهم من ألوان العذاب، وكانت عقوباتهم إما بالريح العاصفة كقوم عاد التي دمرتهم، وإما بالصيحة أو الرّجفة كقوم ثمود وقوم لوط، وإما بالخسف كقارون الطاغية، وإما بالإغراق في البحر كفرعون المتألّه الجبّار، ووزيره هامان الماكر، كل عقوبة تطابق ألوان الظلم الصادرة من أصحابها،
إن هذا الجزاء والدّمار عبرة وعظة لأهل مكة وأمثالهم، ممن ولجوا في العصيان والكفر والشّرك، وتكذيب الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، وهي للتاريخ مثل مثير، وتذكير للمعتبرين.
حال عبدة الأصنام
عجيب أمر عباد الأصنام، وغريب ما تفكر به عقولهم، ولا أجد مسوغا لهم في عبادتهم الأصنام إلّا محض التقليد الأعمى، فإنهم يبنون في فراغ، ويعملون في الهواء بدون ثبات، لذا شبّه القرآن حالهم في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك، بالعنكبوت التي تبني وتجتهد، فإن بناءها ضعيف، يتبدّد متى مسّته أدنى هامّة (وهي المخوف من الأحناش) أو دهمته نملة، وكذلك أمر هؤلاء وسعيهم مضمحل، لا قوة له ولا معتمد، وكرّر القرآن الكريم في مناسبات مختلفة أن هذه العبادة من الوثنيين لا تنفعهم شيئا، وإذا تركوها لا يصيبهم ضرر، فكيف يليق بهم ترك عبادة الله القادر، والتوجه نحو هذه الأحجار والأوثان؟! وتكون فائدة ضرب الأمثال في القرآن، لتقريب الأشياء إلى العقول والأفهام، كما ذكر الحقّ سبحانه في هذه الآيات الشريفة، قال الله تعالى:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)
«١»
المعنى: إن فعل المشركين أو صفتهم في تأليه الأصنام وعبادتها من دون الله، أملا في نصرتهم ونفعهم، ودفع الضّر عنهم، كصفة العنكبوت في ضعفها، تتخذ لنفسها بيتا لحمايتها من الأذى، ولكنه لا يفيدها شيئا، فإنه سرعان ما يتبدّد بالريح أو بالحشرات المداهمة. فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم الأصنام شيئا، ولا تدفع عنهم شرّا، وتضيع جهودهم لوضعها في غير موضعها، فهم في عملهم في غاية الضعف، مثل بيوت العناكب التي هي أضعف شيء وأوهاه، يخرّب بأدنى شيء ولا أثر له، فكذلك أعمالهم لا أثر لها، فلو كانوا يعلمون أدنى علم أن عبادة الأصنام لا تنفع، ما فعلوا ذلك، ولأقلعوا عما يعملون، لكنهم في الواقع جهلة أغبياء، لا يعلمون أن هذا مثلهم، وأن حالهم ونسبتهم للحق كهذه الحالة.
ثم توالى تأكيد الله تعالى انعدام فائدة تلك المعبودات، فذكر أن الله سبحانه يعلم أن الذي يعبده الوثنيون من الأصنام أو غيرها من الجنّ والإنس والكواكب ليس بشيء ولا فائدة فيه، وإنما المعبود بحق: هو الله القوي الغالب القاهر، الكبير المنتقم من الكفرة، المشركين مع عبادته إلها آخر، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه، يعلم ما هم عليه من الأعمال، وسيجزيهم وصفهم، فإنه سبحانه يعلم حالهم، وأنه لا قدر لعملهم، ولا قدر لما يعبدونه.
ثم ذكر الله تعالى الفائدة الملموسة من ضرب الأمثال والأشباه، وهي أن الأمثال القرآنية والتشبيهات الحسّية التي يعقدها ويصوّرها الله تعالى، إنما هي لتقريب الأشياء لأفهام الناس، وتوضيح ما التبس عليهم، ولكن لا يعقلها ويتدبّر معناها، ويدرك المراد منها إلّا أهل العلم والمعرفة، الذين يتجرّدون من العصبية والتقليد،
قال جابر، قال النّبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إِلَّا الْعالِمُونَ: «العاقل: من عقل عن الله تعالى، وعمل بطاعته، وانتهى عن معصيته».
ومما يؤسف حقّا أن ينزل مستوى الفكر الإنساني لهذه الدرجة من الدّنو، فإن عبادة الأصنام مجرد أسطورة أو خرافة، ومحض وهم وخطأ. ومما يزيد في الأسف أنه ما تزال هذه العبادة قائمة في زمننا في بعض البلاد الإفريقية كجنوب السودان وغيره، فإن هؤلاء البدائيين، قد يذهبون لنيل أعلى الشهادات العلمية من أوربا وأمريكا، ثم إذا عادوا لبلادهم، عادوا لتعظيم الأحجار والأصنام، وكأن العقل العلمي غير العقل الديني، وأن العلوم العصرية الحديثة لا تفيدهم شيئا في الإقلاع عن عادات وسطهم الديني، وبيئتهم الحياتية القائمة، كما حدثني بعض الأفارقة.
عظمة الخلق الإلهي والبيان التشريعي
إن أدنى تأمّل في هذا الكون الرّحب، من السماء والأرض والمخلوقات العجيبة فيهما، يرشد الإنسان الحائر إلى العقيدة الحقّة والإيمان الصائب، وإلى العبادة الصحيحة في أسلوبها وجوهرها وغايتها، وتزداد العقيدة تأصّلا وتألّقا وثباتا بتلاوة القرآن العظيم الدّال على أن رسل الله الكرام أقاموا الأدلة الكافية على الإيمان بالله تعالى، وعلى توحيده، ووجوب عبادته، وإن أعرض بعض أقوامهم عن دعواتهم، ولم يقلعوا عن عاداتهم الذميمة. وسبيل عقد الصلة بالله تعالى، وإدراك لذّة مناجاته، وحلاوة مناداته: إنما هو بأداء الصلاة التي تنهى صاحبها إن أدّاها بحق عن كل ألوان الفحشاء والمنكر، الذي ينكره الشّرع والعقل، ومن ذكر ربّه ذكره الله بإفاضة الهدى ونور العلم عليه. وهذا ما أبانته الآيات الكريمة الآتية، قال الله تعالى:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)[العنكبوت: ٢٩/ ٤٤- ٤٥].
الأسلوب القرآني الرائع يعتمد على ضرب الأمثال والتشبيهات بالأمور الحسّية المشاهدة، كما يعتمد على المقارنة أو الموازنة بين الأشياء ليظهر الحقّ، ويبطل الباطل، وتستقر المعلومات والمعارف في الذهن الإنساني، ومن هذه التشبيهات البليغة كما تقدم: تشبيه عبادة الأصنام ببناء بيوت العناكب، ومن هذه المقارنات اللطيفة: بيان كون خلق السماوات والأرض وما فيهما من كمال وجمال وعظمة، مما يرشد الذهن أو العقل إلى صغر قدر الأوثان وحقارتها، وصغر كل معبود من دون الله تعالى.
لقد أبدع الله السماوات والأرض بالحق، أي بالواجب النّيّر الثابت، لا للعبث واللعب، بل ليدلّ على قدرته العظيمة وسلطانه الشامل، ويثبّت شرائعه، ويضع الدلائل لأهلها، ويعمّ المنافع. إن في هذا الخلق والإبداع لدلالة واضحة على أن الله تعالى هو المتفرّد بالخلق والتدبير والألوهية، وعلى وجوب التوجّه بالعبادة إليه وحده لا شريك له، وعلى ضرورة إعزاز الإنسان وتكريمه، لئلا يعبد مثله أو من دونه، أو ما لا يفيده شيئا.
ولكن لا ينتفع بهذه الأدلة والبراهين، ولا يدرك أسرار الخلق والإبداع الإلهي إلا المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله، لأنهم يستدلّون بآثار الخلق على وجود الخالق المؤثر فيها، وأنه يستحيل على غير الإله المعبود بحقّ أن يكون له إسهام فيها، أو تطلّع إلى ادّعاء شيء من خصائصها وميزاتها الباهرة، فذلك ما لا يستطيعه.
وإذا كان الإله هو خالق السماوات والأرض فإنه تجب العبادة له، وحده،
أولهما- تلاوة القرآن الكريم وحي الله عزّ وجلّ لنبيّه وأمّته، فإن القرآن إمام ونور، وهدى ورحمة، وشفاء لما في الصدور، ونجاة لمن اتّبعه، وحصن لمن اعتصم به، وعلاج للمحن والأزمات، وتعليم لشؤون الحياة كلها.
والأمر الثاني- إقامة الصلاة بأدائها تامة الأركان والشرائط، وإدامتها في قلب خاشع، وعقل متدبر، ولسان ذاكر، وإشراقة نفس، واستحضار عظمة المعبود، وللصلاة فوائد شخصية واجتماعية كثيرة، فهي تنهى عن ارتكاب الفواحش والمنكرات، وفيها ذكر الله المهيمن على كل شيء في السّرّ والعلن، وإدامة الذّكر وترطيب اللسان به يشعر المصلي بكمال عظمة الله، وذكر الله أكبر من كل شيء في هذا العالم على الإطلاق، فالله هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، وجزء الذكر الذي في الصلاة: إنما هو الذي ينهى بالفعل، لأن الانتهاء لا يكون إلّا من ذاكر لله مراقب له، وثواب هذا الذكر: أن يذكر الله تعالى عبده المصلي، كما
جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه: «من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم».
والذكر النافع: إنما هو مع العلم بالله تعالى، وإقبال القلب وتفرّغه إلّا من الله تعالى. وذكر الله تعالى للعبد: هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه. والله عليم بما تصنعون من خير أو شرّ، يعلم بكل قول وفعل، وذلك نوع من التّوعّد على ترك الصلاة وذكر الله، وحثّ على مراقبة الله على الدوام.
إن تحقيق الأغراض أو الأهداف المنشودة يتطلب حكمة معينة ومهارة فائقة، وذكاء وحصافة، وتخطيطا ودراسة، وإن دعوة غير المسلمين للإسلام ومحاولة إدخالهم في دين الله، من أدقّ الأشياء وأعسرها، لأن توارث العصبيات والأحقاد القديمة، يحجب غالبا رؤية الحقيقة الناصعة، ولأن دوام العقيدة أو غرسها، يتطلب قناعة راسخة، وبرهانا واضحا ينسجم مع العقل والمنطق، ومقتضى العلم والمعرفة، لذا كان توجيه القرآن الكريم في شأن جدال أهل الكتاب يتفق مع هذه المسلّمات، ويأمر باستعمال الكلمة الحسنى، والخصلة الخلقية التي هي أحسن، قال الله تعالى مبيّنا منهاجه في الدعوة إلى الإسلام:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)
[العنكبوت: ٢٩/ ٤٦- ٤٩].
هذه هي طريقة إرشاد الكتابيين إلى الإسلام، تلتزم أصول المنهج التالي:
أولا- الجدال بالتي هي أحسن: ينهانا القرآن الكريم أن نجادل أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلّا بالطريقة الحسنة، وبالأسلوب الأحسن، فإنهم قوم يؤمنون بوجود الله واليوم الآخر، ويصدّقون بما أنزل على موسى وعيسى عليهما السّلام من الكتب السماوية، فكانوا أولى الناس بالالتقاء على هدي الإسلام الذي ضمّ الأديان كلها، والإيمان بخاتم الأنبياء.
ثانيا- الإيمان بأصول الأديان: يأمرنا القرآن المجيد أيضا أن نعلن إيماننا برسالة الإسلام الشاملة التي تعني الخضوع لله تعالى، وبأن الإله إله الجميع، إلهنا وإلهكم واحد، لا شريك له، وإيماننا بما أنزل إلينا من القرآن، وإليكم من التوراة والإنجيل في أصلهما المنزّلين، ونحن عابدون خاضعون لله، مطيعون أوامره، مجتنبين نواهيه.
ثالثا- إنزال الكتب على الجميع: مثل إنزال الله الكتب على من قبلك من الرسل أيها الرسول النّبي، إنزال القرآن إليك، فالذين جاءهم الكتاب السابق من اليهود والنصارى إذا نظروا وتأمّلوا بحق يؤمنون بالقرآن الكريم، ومنهم من آمن به بالفعل، كعبد الله بن سلام اليهودي الأصل، وسلمان الفارسي المتنصر المعروف بسلمان الخير، ونحوهما، وما يكذّب بآيات الله ويجحد بمضمونها إلّا الذين أوغلوا في قيعان الكفر وركنوا إليه.
رابعا- أمّية النّبي: ولم تكن أيها النّبي قبل النّبوة تقرأ شيئا من الكتب، ولا تعرف الكتابة ولا القراءة، ولا تستطيع أن تخطّ سطرا من الكتاب بيمينك، فأنت خالي الذهن، لم تتشرب بشيء سابق، ولو كنت قارئا وكاتبا، لشكّ المشركون الجهلة فيما نزّل إليك، وادّعوا أنه مأخوذ من كتب سابقة، وإذ لم تكن كاتبا ولا قارئا ولا سبيل لك إلى التّعلم، فلا وجه لارتياب كل من عاداك، فأهل الباطل هم المتمسكون بالضلالات الموروثة، والانحرافات الشائعة.
خامسا- القرآن منزل من عند الله تعالى: بل إن هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحقّ، وذلك أمر مستقر في قلوب العلماء من أهل الكتاب وغيرهم،
المطالب التعجيزية للمشركين وأشياعهم
آثر المشركون في صدر الدعوة الإسلامية وحين نزول الوحي الإلهي أن يظلّوا على شركهم وعنادهم، فلم يصغوا لنداء المنطق، ولم يستجيبوا بإمعان لدعوة الحق ورسالة الإنقاذ، وآزرهم في هذا الموقف بعض اليهود الذين كانوا يعلّمون قريشا هذه الحجة وهي: لم يأتكم محمد صلّى الله عليه وسلم بمثل ما جاء به موسى من العصا وغيرها، فطالبوا بمعجزات مادّية محسوسة، ولم يكتفوا بإنزال القرآن الكريم المعجزة الأبدية الخالدة، وزادوا في غيّهم، فاستعجلوا العذاب الذي أوعدهم به القرآن والنّبي عليه الصّلاة والسّلام، ولم يدروا أن العذاب الأكبر في نار جهنم سيحيط بهم إحاطة تامّة، قال الله تعالى واصفا هذا الموقف الوثني ومن يؤيّده:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٥]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤)
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)
قالت قريش وبعض اليهود تعنّتا وتعجيزا: هلا أنزل على محمد آية حسّية مادّية، كآيات الأنبياء المتقدّمين، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى عليهم السّلام، لإثبات صدقه وأنه رسول الله؟! فأجابهم القرآن الكريم في قوله تعالى آمرا نبيّه عليه الصّلاة والسّلام أن يعلمهم أن هذا الأمر بيد الله تعالى، لا يستنزله الاقتراح والتّمنّي، وأن النّبي بعث نذيرا، ولم يؤمر بغير ذلك، فليقفوا عند حدود الأدب والطاقة.
أو ليس يكفيهم دليلا على صدق نبوّتك يا محمد إنزال القرآن المجيد عليك، والذي هو أعظم الآيات، وهو المعجز للجنّ والإنس، ويتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، وفيه أخبار الماضين، وعظة اللاحقين، وإنذار الآتين في المستقبل، وفي ذلك الكتاب من الرحمة والذكرى الكافية للمؤمنين.
حكى الطبري وغيره: أن هذه الآية: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ.. نزلت بسبب قوم من المؤمنين أتوا النّبي صلّى الله عليه وسلم بكتب، قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود الذين أخبروهم بشيء من التوراة، فأنكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك،
قال: «كفى بهذا ضلالة، قوم رغبوا عما أتاهم به نبيّهم، إلى ما أتى به غيره».
ونزلت الآية بسببه. قال ابن عطية:
والتأويل الأول أجرى مع نسق الآيات، أي إنهم طلبوا آية بحسب مزاجهم، فأجابهم الله بأن القرآن أعظم الآيات.
(٢) يحيط بهم.
إنه تعالى لا تخفى عليه خافية، يعلم جميع ما هو كائن ويكون في السماوات والأرض، ويعلم الذين آمنوا بالباطل: وهو عبادة الأوثان والأصنام من دون الله، وجحدوا بوجود الله أو توحيده، مع توافر الأدلة على الإيمان به، أولئك لا غيرهم هم الخاسرون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر بالإيمان، وسيجازيهم الله تعالى في القيامة على ما فعلوا.
ثم أخبر الله تعالى عن لون آخر من جهل المشركين وحماقتهم، وهم كفار قريش الذين يتعجلون نزول العذاب بهم، على جهة التعجيز والتكذيب، وهو العذاب الذي توعدهم به محمد صلّى الله عليه وسلم، ولولا كون العذاب محددا بوقت معلوم، لأتاهم من حيث لا يشعرون، ولسوف يأتيهم فجأة، وهم لا يحسّون بمجيئه، بل يكونون في غفلة عنه.
إنهم يتعجلون العذاب، والعذاب الأكبر واقع بهم حتما، وهو عذاب جهنم الذي يحيط بهم وبأمثالهم من كل جانب، وهذا توعّد بعذاب الآخرة.
وصفة تعميم العذاب: أنه يحيط بهم من كل جانب، ويغطّيهم من كل جهة من جهاتهم، ويقول الله تعالى على سبيل التوبيخ والتقريع: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي. ويشبّه العذاب بالذوق تهكّما وتبكيتا، كما في قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدّخان: ٤٤/ ٤٩].
الهجرة عند تعطيل الشعائر
يريد الله تعالى أن يستمرّ تدفّق ذكره ومناجاته وعبادته وإعلان توحيده والالتزام بشريعة القرآن الكريم والنّبي العدنان، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، ليتصل
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
«١» «٢» «٣» [العنكبوت: ٢٩/ ٥٦- ٦٠].
الآية الأولى: يا عِبادِيَ
نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها.
وهي تحرّض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه، وأن البقاء في أرض فيها أذى الكفار ليس بصواب، بل الصواب أن تلتمس عبادة الله تعالى في أرضه. فيا أيها العباد المصدّقون بالله ورسوله، إن أرض الله واسعة غير ضيّقة، يمكنكم الإقامة في أي موضع منها، فإذا تعذّرت عليكم إقامة شعائر الدين، بسبب أذى الكفار، فهاجروا إلى مكان آخر، تتوافر لكم فيه الحرية والطمأنينة في إقامة شعائر الله، وما عليكم إلّا متابعة عبادة الله وحده دون غيره،
(٢) منازل رفيعة.
(٣) كثير من الدّوابّ.
إياي: منصوب بفعل مقدر يدلّ عليه الظاهر، تقديره: فإياي اعبدوا فاعبدون، على الاهتمام أيضا في التقدير.
ولا خوف من الهجرة والانتقال في البلاد، فإن الموت كائن لا محالة لكل نفس، في كل مكان، ثم إلى الله المرجع والمآب، أي إن المكروه لا بد من وقوعه، في داخل الوطن أو خارجه. وهذه الآية كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ.. تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها، من أجل أن بعض المؤمنين تخوّف في حال خروجه من وطنه أن يموت أو يجوع ونحو هذا، فحقّر الله تعالى شأن الدنيا، والمراد: أنتم لا محالة ميتون، ومحشورون إلى الله تبارك وتعالى، فالبدار إلى طاعة الله تعالى والهجرة إليه أولى بالامتثال.
ثم وعد الله المؤمنين العاملين بسكنى الجنة، تحريضا منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه، فالذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا صالح الأعمال بالتزام أوامر الله واجتناب نواهيه، لينزلنّهم الله منازل عالية في جنات، تجري الأنهار من تحت أشجارها، على اختلاف أصنافها من ماء وخمر غير مسكرة، وعسل مصفى، ولبن، ماكثين فيها أبدا على الدوام، جزاء لهم على أعمالهم الطيّبة، نعم هذا الجزاء جزاء العاملين المخلصين.
ثم وصف الله تعالى العاملين بالصبر على أداء الطاعات وعن الشهوات، والتوكّل على الله وتفويض الأمور إليه في جميع أحوالهم الدنيوية والأخروية، والصبر والتوكّل يجمعان الخير كله.
والذي يعين على الهجرة ويحرّض عليها ضمان الله أرزاق العباد، لأن بعض المؤمنين فكّر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة، فأبان الله تعالى أن الرزق مكفول بيد الله لكل مخلوق، فكم من دابّة (كل ما يدبّ على الأرض) لا تطيق حمل
نزلت هذه الآية: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ كما
روى ابن عباس: أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكّة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوزوا الظلمة، قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا ولا من يسقينا، فنزلت الآية: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ.. الآية.
إقرار المشركين بالخالق
مهما استبدّ العناد بأهل الشّرك والوثنية لا يجدون مناصا من الاعتراف بربوبية الله وكونه خالق الكون: سمائه وأرضه، كواكبه وشمسه وقمره، برّه وبحره، وأنه منزل المطر من السماء لإحياء الأرض بعد موتها وجفافها، وأنه الرازق المتصرّف بكل شيء، فإذا كان هذا مستقرّا في عقيدتهم، مترسّخا في أذهانهم، فلم يبق إلا إكمال هذه العقيدة بالإقرار بوحدانية الله تعالى، وأنه لا سواه الأحقّ بالعبادة، والأولى بالتوجّه إليه في السّر والعلن، لاستمداد الخير منه، ودفع الشّر والضّرر به، قال الله تعالى مبيّنا هذه الحال السائدة بين المشركين:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣)
«١» «٢» [العنكبوت: ٢٩/ ٦١- ٦٣].
(٢) يضيفه على يشاء.
فو الله يا محمد إن سألت المشركين بالله إلها آخر: من الذي أوجد أو خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر المسخّرين المذلّلين بأمر الله في مدار معين وبنظام دقيق ينشأ عنهما تعاقب الليل والنهار، وما في السماوات أيضا من كواكب ونجوم ثوابت وشهب منقضة، وما في الأرض من كنوز ومعادن وجبال وأنهار وبحار ومخلوقات أرضية متعدّدة، وما تدلّ عليه من عظمة وقدرة إلهية، لو سألتهم أيها الرسول عن ذلك، لأجابوك بأن الموجد المبدع الخالق هو الله تعالى، فكيف يصرفون عن توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له؟! فإن المعترف بأن الله هو الخالق، ينبغي أن يعترف بوحدانية هذا الإله الذي لا يشاركه في خلقه وتدبيره أحد، والمعنى المراد:
أن المقرّ بتوحيد الرّبوبية لله، يجب عليه الإقرار بتوحيد الألوهية، فلا إله غيره، سواء من الأصنام والأوثان، أو من الملائكة، أو الكواكب أو غيرها.
والدليل الآخر بعد الاعتراف لله بالخلق والتدبير: هو أن الله تعالى من أجل دوام المخلوقات، تكفّل برزقها، ويسّره لها، لكن بحكمة إلهية معينة هي لمصلحة المخلوق، فالله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده امتحانا واختبارا له، ويضيق الرزق على من يريد ابتلاء ومحنة، على وفق مقتضى الحكمة وبحسب المصلحة المستقرة، لأن الله تامّ العلم بكل شيء، من المفاسد والمصالح، فيمنح ويمنع ويوسع ويقتر، بما يراه الأصلح للعباد، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) [الشّورى: ٤٢/ ٢٧].
واستمرارا لمدد الرزق، وتقريرا لحقيقة ثابتة يعترف بها المشركون: أنك أيها الرسول لو سألتهم أيضا عمن ينزل المطر من السماء أو السحاب، فيحيي به الأرض
أحوال الدنيا والكافرين فيها
الإنسان فيما يتعلق بقضايا الدين والدنيا قد يكون قصير النظر، لا ينظر إلى ما وراء هذا العالم، وتقلّبات الدنيا سريعة وشؤونها لاهية، حتى إذا ما وقع في المحنة الخانقة، تراه يبذل كل ألوان الرجاء والإستغاثة، لاستنقاذ نفسه، وما تعرّض له من مخاوف الغرق أو الإعصار أو الزلزال، ولا يقدّر المشرك المقيم في مكة نعمة الأمن الكبرى في البلد الحرام الآمن، مع أن البلاد المجاورة وغيرها لا أمان فيها ولا اطمئنان. إن الكافر بالله هو الظالم الحقيقي لنفسه، ولا ظلم أشدّ طغيانا من افتراء الكذب على الله أو تكذيبه بالحقّ الثابت الساطع. أما المؤمن المجاهد نفسه وهواه، فإن الله يوفّقه للخير وسبيل النجاة، ويؤيّده ويؤازره لإحسانه العمل، واستقامته في الحياة، قال الله تعالى مبيّنا أحوال الدنيا والناس فيها.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٩]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
«١»
وصف الله تعالى واقع الدنيا في هذه الآية بأنها لهو ولعب، أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى، فإن ما كان لله تعالى فهو من الآخرة، ذلك أن كل ما كان من أمور الدنيا الزائدة على الضروري الذي به قوام العيش والحياة، والتّقوي على الطاعات، فإنما هو لهو يتلهّى به، ولعب يتسلّى به. وأما الآخرة فهي الحيوان، أي دار الحياة الباقية الخالدة. وهذا الوصف مفيد القوم الذين يعلمون الحقائق، ويدركون المصائر، ومن علم بذلك آثر الباقي على الفاني. والفرق بين اللهو واللعب: أن اللعب إقبال على الباطل، واللهو: إعراض عن الحق. ثم وصف الله المشركين في وقت المحنة:
فإنهم إذا ركبوا في السفينة مثلا، وتعرّضوا لخطر الغرق، دعوا الله وحده ناسين كل صنم وغيره، مخلصين النّية والرغبة إلى الله تعالى، صادقين في توجّههم، فإذا أمنوا ونجوا من الخطر أو الهلاك، عادوا لشركهم، ونادوا أصنامهم وأوثانهم، كافرين بنعمة النجاة. فقوله تعالى: إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ معناه يرجعون إلى ذكر أصنامهم وتعظيمها.
إنهم في بقائهم على الشّرك يؤول أمرهم إلى الكفر بما آتاهم الله من نعم، والتمتع بعبادة الأصنام، فتكون لام لِيَكْفُرُوا ووَ لِيَتَمَتَّعُوا لام العاقبة أو الصيرورة، أو
(٢) اللام في: ليكفروا، وليتمتعوا: لام التعليل، والمعنى يشركون ليكونوا كافرين، متمتعين بعبادة الأصنام، أو أنها لام الصيرورة.
(٣) يؤخذون قتلا أو أسرا.
(٤) مكان الإقامة.
ثم عدّد الله تعالى على كفرة قريش نعمته، ومنها أمانهم في مكة البلد الآمن الحرام، من غير تعرّض لقتل ونهب وسلب، فجدير بهم شكر هذه النعمة، مع أن الناس كانوا يتخطّفون من كل مكان حولهم، ثم قرّرهم الله على حالهم على جهة التوبيخ، وهي إيمانهم بالباطل وهو الأوثان، وكفرهم بالله ونعمته، إنه تقرير لواقع ووصف له، لا على سبيل الرّضا به، وإنما التّنديد به.
ثم إنهم أظلم الناس، وقد أعلمهم الله أنه لا أحد أظلم منهم، وفي ذلك وعيد شديد، فهم أحقّ الناس بالعقاب، إذ لا أحد أشد عقوبة ممن كذّب على الله بالشّرك، ولزم تكذيب كتابه ورسوله، أليس لهم مقر عقاب؟! أليست جهنم هي مثوى ومأوى جميع الكافرين؟! إن هذا التهديد والوعيد بهذه الألفاظ الموجزة الجامعة للمعاني الكثيرة لا نظير له في عالم التحذير والإنذار، والفحوى بيان عاقبة المشركين الكافرين.
أما عاقبة المؤمنين: فهي الظفر بجنان الخلد والرضوان، فالذين جاهدوا أنفسهم وأطاعوا ربّهم، ونصروا دين الله وكتابه ورسوله، وقاتلوا المعتدين المكذبين بالحق، إنهم هم الذين هداهم الله ووفّقهم إلى طريق الجنة، وسبيل السعادة والخير، في الدنيا والآخرة، والله دائما مع المحسنين أعمالهم بالنصرة والتأييد، والحفظ والرعاية.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي من أجل إرضائنا وعلى هدي قرآننا. إن هذه المقارنة بين أحوال العصاة والكافرين، وأحوال الأتقياء والطائعين، تبيّن تباين الحالين، وفرق المصيرين، إنه فرق شاسع، ووضع متباين، أهل الشّرك والكفر في نيران تتلظّى بهم، وأهل الإيمان والطاعة في جنان ونعم يتمتعون بها وينعمون في ظلالها، فما أنعم حال السعداء، وما أشقى حال الأشقياء؟!