ﰡ
قال الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)
ثبت في السنن والمسانيد «١»
أنّ أوس بن الصامت قال لزوجته خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه: أنت عليّ كظهر أمّي وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك حرمت عليه، فندم من ساعته، فدعاها، فأبت، وقالت: والذي نفس خولة بيده، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سنّي، ونثرت بطني، جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها، فقال عليه الصلاة والسلام:
«ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية: «ما أراك إلا قد حرمت عليه».
قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرارا، ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك فاقتي، وشدّة حالي، وروي أنها قالت: إنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا خولة أبشري» قالت: خيرا، فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.
قال النحاة: إنّ قد الداخلة على الماضي لا بدّ فيها من معنى التوقع، يعنون أنه لا يقال: قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل، أو يسأل عنه، ولذلك قال سيبويه: وأما قد فجواب هل فعل، لأنّ السائل ينتظر الجواب، وقال الخليل: هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر، يريد أنّ الإنسان إذا سئل عن فعل، أو علم أنّ المحدّث يتوقع أن يخبر به قال: قد فعل. وإذا كان المخبر مبتدئا قال: فعل كذا وكذا.
و (قد) هنا فيها معنى التوقع، فإنّ السماع في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أي تراجعك الكلام في شأن زوجها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ الشكوى أن تخبر عن مكروه أصابك، وهي من الشكو، وأصله فتح الشكوة، وإظهار ما فيها، والشكوة وعاء كالدلو، أو القربة الصغيرة، يتخذ للماء واللبن ونقع الزبيب والتمر، ثم شاع استعمال الشكوى في إظهار البثّ، وما انطوت عليه النفس من المكروه.
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما السمع هنا على حقيقته المعروفة، وهي أنّه صفة يدرك بها الأصوات، غير صفة العلم، أو أنه نوع من الإدراك يرجع إلى صفة العلم. والتحاور:
المرادّة في الكلام، وهو قريب من معنى المجادلة.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات، ويبصر كل المبصرات، على أتم وجه وأكمله، ومن لازم ذلك أن يسمع تحاورهما، ويبصر هيئة المجادلة حين رفعت رأسها إلى السماء مبتهلة ضارعة.
قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا في كسر البيت يخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) أخرجه البخاري والنسائي «١».
قال الله تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) الظهار لغة مصدر ظاهر، مفاعلة. يقال: ظاهر زيد عمرا، إذا قابل ظهره بظهره حقيقة، وظاهره غايظه، وإن لم يكن هناك تقابل حقيقة، باعتبار أنّ المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهره: ناصره باعتبار أنّه يقال قوّى ظهره إذا نصره، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر، باعتبار ما يلي به كل منهما الآخر ظهر الثوب. وظاهر من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان ذلك طلاقا في الجاهلية كما تقدم، وقال بعض العلماء: وكان طلاقا أيضا في أوّل الإسلام،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الرواية السابقة: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»
. وحكى بعضهم أنّه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه. وقيل: لم يكن طلاقا من كل وجه، بل كانت الزوجة تبقى معلقة، لا ذات زوج،
وقوله تعالى: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ليس خبر المبتدأ، إنما هو دليله، والخبر محذوف، والتقدير: الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون، لسن أمهاتهم، ما أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدنهم، فلا يشبّه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن.
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وصف الله الظهار بأنه منكر وزور، باعتبار أنّ قول الرجل لامرأته (أنت عليّ كظهر أمي) يتضمّن إخبارا وإنشاء، فالأول من جهة إخباره بأنها تشبه أمه، والثاني من جهة أنه أنشأ طلاقها وتحريمها، فهو خبر زور، وإنشاء منكر، ينكره الشرع، ولا يعرفه.
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ كثير العفو والمغفرة، فيغفر لهم ما سلف من الظهار، ويعفو عمن ارتكبه إذا تاب.
تمسّك المالكية بظاهر قوله تعالى: مِنْكُمْ في أنّ الذمي إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي لم يعتبر ذلك ظهارا، ولم تترتب عليه أحكام. وهذا هو المنقول عن الحنابلة، وهو المعول عليه عند الحنفية، إلا أنّ الحنفية لم يستدلوا عليه بمفهوم قوله تعالى: مِنْكُمْ، بل حجتهم في ذلك أنّ الذمي ليس من أهل الكفّارة.
وقال الشافعية كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، يصحّ ظهار الذمي وتترتب عليه أحكامه، وقوله تعالى: مِنْكُمْ إنّما ذكر للتصوير والتهجين، لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب، فليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة الظهار من الذمي.
واعترض قول الشافعية بصحة ظهار الذمي مع اشتراطهم النية في الكفارة بخصالها الثلاث والإيمان في الرقبة. والذمي ليس من أهل النية، ويتعذّر ملكه للرقبة المؤمنة.
وأجابوا عن ذلك بأنّ خصال الكفارة منها ما هو عبادة بدنية وهو الصوم، ومنها ما هو من قبيل الغرامات وهو العتق والإطعام، والنية فيما كان من قبيل الغرامات إنّما هي للتمييز، فلا يشترط فيها الإسلام، كما في قضاء الديون. فالذمي يكفّر بالإعتاق والإطعام، ولا يكفّر بالصوم، لأنه لا يصح منه، كما أنّ العبد المظاهر لا يكفّر بغير الصوم، لأنه لا يملك. ويتصور ملك الذمي للعبد المسلم بإسلام قنّه، أو بقوله لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي فيجيبه، فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو موسر، منع الوطء لقدرته على ملك الرقبة المسلمة، بأن يسلم فيشتريها، وكذلك لا ينتقل من الصوم إلى الإطعام لقدرته عليه بالإسلام. فإن عجز عن الصوم لكبر ونحوه انتقل إلى الإطعام، ونوى للتمييز أيضا.
الموطوءة، أو غير الموطوءة: أنت عليّ كظهر أمي، لم يعتبر ذلك ظهارا، ولم تترتب عليه أحكام الظهار، وهو منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وإليه ذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
وقد نقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا.
وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الأمة الموطوءة، ذهبوا إلى التعميم في قوله تعالى: مِنْ نِسائِهِمْ كما عمّ قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ [النساء: ٢٣] الزوجات والإماء، فحرّم بنت الأمة كما حرّم بنت الزوجة.
واقتضى قوله تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شيء، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وقال أبو بكر بن العربي: وهو صحيح معنى، لأنّ الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال، ليس بيد المرأة منه شيء.
ونقل أبو حيان عن الحسن بن زياد أنّها تكون مظاهرة، ويلزمها التكفير قبل التماس.
وعن الأوزاعي وعطاء وإسحاق أنّ عليها كفارة يمين، وعن الزهري: أنها تكفّر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها.
وكذلك اقتضى عموم الموصول في قوله تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ صحة ظهار العبد من زوجته، لأنّ أحكام النكاح في حقه ثابتة. وإن تعذّر عليه العتق والإطعام، فإنه قادر على الصيام. وحكى الثعلبي عن مالك أنّه لا يصح ظهار العبد.
ولكنّ الذي عليه المعوّل عند المالكية هو صحة ظهاره.
ويؤخذ من قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أنّ الظهار حرام، بل اعتمد فقهاء الشافعية القول بأنه كبيرة، لأنّ فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله دون إذنه سبحانه. ولأنّ من أقدم على الظهار بعد أن أخبر الله بأنه منكر من القول وزور يعتبر كاذبا معاندا للشرع، فمن ثمّ كان كبيرة.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
رتب الله الكفارة على الظهار الذي يعقبه العود، وقد اختلف أهل التأويل في العود ما هو؟
فحكى عن مجاهد أنّ الظهار في الإسلام عود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية، ومعنى الآية عنده: والذين كان من عادتهم أن يظاهروا من نسائهم، فقطعوا ذلك بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فعلى من عاد منهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.. إلخ فالكفارة تجب بنفس الظهار في الإسلام. وقد روي مثل ذلك عن طاوس والثوري وعثمان البتّي.
وقال أبو العالية وأهل الظاهر: العود تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار.
واختلفت الروايات عن الأئمة الأربعة، فأصحّ الروايات عن أبي حنيفة أنّ العود هو العزم على الوطء.
وروى ابن الجلّاب عن مالك روايتين: أولاهما: أنه العزم على الوطء. وثانيتهما: أنه العزم على الإمساك. وابن العربي ينقل عن «الموطأ» أنه العزم عليهما معا.
وقال الإمام أحمد في قوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قال: هو الغشيان إذا أراد أن يغشى كفّر. اه.
وقال الشافعي: الذي عقلت مما سمعت في يَعُودُونَ لِما قالُوا أنّ المظاهر حرم مس امرأته بالظهار، فإذا أتت على المظاهر مدة بعد القول بالظهار ولم يحرّمها بالطلاق الذي يحرّم به، ولا شيء يكون له مخرج من أن تحرم عليه به، فقد وجب عليه كفارة الظهار، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرّم على نفسه عاد لما قال فخالفه، فأحل ما حرّم، ولا أعلم له معنى أولى به من هذا.
فأمّا مجاهد ومن يرى رأيه، فلم يخف عليهم أنّ العود شرط في الكفارة، ولكنّ العود عندهم هو العود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من المظاهرة من الزوجات، وهكذا استعملوا العود في معناه الحقيقي، كما قال الله تعالى في جزاء الصيد: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: ٩٥] أي ومن عاد للاصطياد بعد نزول تحريمه، وكما قال تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء: ٨] أي وإن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وقد أخبر الله عن الظهار أنه منكر وزور، فهو معصية منهيّ عنه، والعود إلى المنهي عنه فعله بعد النهي عنه.
ومعلوم أنّ مساق الآية لبيان حكم المظاهر في الإسلام، وعليه ينطبق سبب النزول، وأيضا فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أوس بن الصامت بالكفّارة، ولم يسأله أظاهر في الجاهلية أم لا؟
وأما أبو العالية وأهل الظاهر فقد استدلوا على رأيهم بأنّ الذي يعقل من لغة العرب في العود إلى الشيء إنما هو فعل مثله مرّة ثانية، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: ٢٨] والفعل معدّى باللام كآية الظهار سواء بسواء، واتفق أهل التأويل على أن عودهم لما نهوا عنه هو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أول مرة.
وكذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وهو في سورة المجادلة بعد ذكر الظهار بآيات، والعهد قريب.
وقالوا أيضا: أصحّ خبر في الظهار حديث عائشة رضي الله عنها أنّ أوس بن الصامت كان به لمم، فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته، فأنزل الله فيه كفّارة الظهار. فهذا الحديث يقتضي التكرار.
وقالوا أيضا: فما عدا تكرار اللفظ: إما إمساك وإما عزم وإنما فعل، وليس واحد منها عودا لما قال، فلا يكون الإتيان به عودا، لا لفظا ولا معنى.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ هذا الرأي يقتضي أنّ الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة، وقصة خولة تدفعه، لأنّه لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك لم يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سلمة بن صخر حين ظاهر من زوجته فألزمه الكفارة: أهذا ظهار مكرّر، أم هو أول ظهار؟
وأما حديث عائشة فما أصحّه، وما أبعد دلالته على ما قالوا، فإنّ غاية ما أفاده أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته مرات كثيرة، وأن زوجته جاءت آخر مرة تجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتشتكي إلى الله، فأنزل الله تحريم الظهار، ورتّب عليه وجوب الكفارة قبل التماس، فكان الذي أخذ هذا الحكم هو المرة الأخيرة، وأما ما قبلها من مرات المظاهرة فإنّها لغو لا حكم لها، أو أنها كما في بعض الآراء كانت طلاقا.
أما الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين فلم يخف عليهم أنّ الظاهر من قوله تعالى:
وقد قال أهل اللغة إذا قال قائل: (عاد لما فعل) جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى، وهذا ظاهر. وجاز أن يريد أنه نقض ما فعل وتداركه. لأنّ التصرف في الشيء بنقضه وتداركه لا يمكن إلا بالعود إليه، فلما منع من إجراء اللفظ على ظاهره ما تقدم، وجب المصير إلى المعنى الثاني وهو النقض والتدارك.
إلا أنّ الأئمة مختلفون في العمل الذي ينقضه المظاهر ويتداركه، فيرى غير الشافعي أنّ الظهار يوجب تحريما للزوجة لا يرفعه إلا الكفارة، فالذي يريد المظاهر نقضه وتداركه هو تحريمها عليه، ونقض ذلك التحريم وتداركه إنما يكون بوطئها، أو بالعزم على وطئها، أو باستباحة وطئها، على خلاف بينهم تقدم بيانه.
ويرى الشافعي أنّ كلمة الظهار فيها تشبيه الزوجة بالأم، وهذا التشبيه يقتضي فراقها، فالذي يريد المظاهر نقضه والرجوع عنه هو فراقها، فإن مضت مدة تتسع للفراق الشرعي ولم يفارق صار ناقضا لمقتضى ما قال راجعا عنه. وإن اتصل بلفظ الظهار فرقة فليس بعائد.
واعترض القول بأن العود هو الوطء بأنّ الآية ناصّة على وجوب الكفارة قبل الوطء، فيكون العود سابقا عليه، فكيف يكون هو الوطء؟
وأجاب بعض من يرى هذا الرأي بأنّ المراد من قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من قبل أن يباح التماس شرعا، والوطء أولا حرام، موجب للتكفير، وهذا الجواب خروج باللفظ عن مقتضى ظاهره، من غير أن يقوم عليه دليل سوى التزام هذا المذهب.
وأجاب آخرون: بأنّ قوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا معناه ثم يريدون العود، كما قال تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨] وكما قال: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: ٦] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها، وهذا معنى قول الإمام أحمد وقد تقدّم: إذا أراد أن يغشى كفّر.
واعترض القول بأنّ العود هو العزم على الوطء بأنّ الآية لما نزلت، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المظاهر بالكفارة، لم يسأله هل عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك، والوقائع القولية كهذه يعمّها الاحتمال، فتكون الكفارة واجبة، سواء أعزم على الوطء أم لم يعزم.
والجواب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترك السؤال عن ذلك، لعلمه به من خولة، فقد أخرج
حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله تعالى صدر سورة المجادلة، كنت عنده شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل عليّ يوما، فراجعته بشيء، فغضب، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع، فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خولة بيده، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت، حتّى يحكم الله ورسوله فينا. ثم جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت له ذلك، فما برحت حتّى نزل القرآن... الخبر. فإنّ ظاهر قولها: فذكرت له ذلك أنّها ذكرت كلّ ما وقع. ومنه طلب أوس وطأها، المكنّى عنه ب: يريدني عن نفسي. وذكرها ذلك له عليه الصلاة والسلام أهمّ لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام.
واعترض القول بأنّ العود هو إمساكها زمنا يتّسع للفراق الشرعي ولم يفارق، بأن الله تعالى قال: ثُمَّ يَعُودُونَ وكلمة (ثم) تقتضي التراخي الزماني، والإمساك المذكور معقب لا متراخ، فلا يعطف بثم، بل بالفاء.
والجواب أن زمن الإمساك ممتدّ، ومثله يجوز فيه العطف بثم، والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه.
وقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مبتدأ ثان، خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة، والجملة خبر الموصول، ولتضمنه معنى الشرط زيدت الفاء في خبره، والمراد بالرقبة المملوك من تسمية الكل باسم الجزء فتحرير الرقبة إعتاق المملوك، وجعله حرّا.
وقد أطلق الله الرقبة هنا، ولم يقيّدها بالإيمان، فاقتضى ذلك إجزاء عتق الرقبة في الكفارة، وبهذا الظاهر قال الحنفية وأهل الظاهر، وقالوا: لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحان، كما بينه في كفارة القتل، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله، ويقيد ما قيده، فيعمل بكلّ منهما في موضعه، وزاد الحنفية أنّ اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ إلّا بالقرآن أو الخبر المشهور، ولا يحمل المطلق على المقيّد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة، ولا يلزم من التقييد في كفارة القتل الذي هو أعظم، ثبوت مثله في كفارة الظهار الذي هو أخف، فلا يصحّ أن تكون آية القتل بيانا لآية الظهار.
وذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه إلى اشتراط الإيمان في كفارة غير القتل، كما هو شرط في كفارة القتل، قالوا في بيان ذلك واللفظ للشافعي: شرط الله سبحانه في الرقبة في القتل أن تكون مؤمنة، وأطلق هنا، كما شرط العدالة في
على أنّه سبحانه إنما ردّ زكاة المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الله الصدقات، فلم تجز إلا لمؤمن، وكذلك ما فرض من الرقاب، لا يجوز إلا لمؤمن.
قال الشافعي: وإنّ لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه، فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم. قال: ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة، وهذا بناء على هذا الأصل، وأن النذر محمول على واجب الشرع، وواجب العتق لا يتأدّى إلا بعتق المسلم. ومما يدلّ على هذا
أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لمن استفتى في عتق رقبة منذورة: «ائتني بها»، فسألها: «أين الله» ؟ فقالت: في السماء.
فقال: «من أنا» ؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال: «أعتقها فإنّها مؤمنة» «١»
قال الشافعي: فلما وصفت بالإيمان أمر بعتقها اه.
والضمير في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا للمظاهر والمظاهر منها معلومين من السياق، والتماسّ كناية عن الجماع، فدلّت الآية على حرمة الجماع قبل التكفير.
وألحق الحنفية بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه، لأنّ الأصل أنه إذا حرّم الشيء حرّم بدواعيه، إذ طريق المحرم محرم، وأظهر القولين عند الشافعية الجواز، لأن حرمة الجماع ليست لمعنى يخل بالنكاح، فلا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه، فإنّ الحائض يحرم جماعها دون دواعيه، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه، والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه.
أوجبت الآية الكفارة قبل المسيس، وقد يذهب من يتمسّك بالظواهر إلى أنّه إذا وطئ قبل أن يكفّر أثم، وسقطت عنه الكفارة، لأنه قد فات وقتها، ولم يبق له سبيل إخراجها قبل التماس، وهذا الحكم منقول عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف.
ولكنّك تعلم أنّ الآية مع أنّها وقتت للكفارة ميقاتا هو ما قبل المسيس، فإنّها مع ذلك حرّمت على المظاهر العائد المسيس حتى يكفر، فما لم يكفر لا يحل له وطؤها، ولو وطئها مئة مرة، وفوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة، كالصلاة والصيام وسائر العبادات. فلا يزال المظاهر مطالبا بالكفّارة.
وقد دلت على ذلك السنة الصحيحة
أخرج أبو داود والترمذي «٢» وغيرهما أنّ سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته، فوقع عليها قبل أن يكفّر، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٥٠٣)، كتاب الطلاق، باب كفارة الظهار حديث رقم (١٢٠٠)، وأبو داود (٢/ ٢٤٠)، كتاب الطلاق، باب الظهار حديث رقم (٢٢١٣)، وابن ماجه في السنن (١/ ٦٦٥)، ١٠- كتاب الطلاق، ٢٥- باب الظهار حديث رقم (٢٠٦٢).
«فاعتزلها حتى تكفّر»
فحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوجوب الكفارة على من وطئ قبل أن يكفّر، وإلى ذلك ذهب الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين.
ويروى عن مجاهد في الرجل يطأ قبل أن يكفّر أنّ عليه كفارتين، وصحّ مثله عن ابن عمر وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، ووجه قولهم: أنّ إحدى الكفارتين للظهار الذي اقترن به العود. والثانية للوطء المحرم، كالوطء في نهار رمضان، وكوطء المحرم. وعن الحسن وإبراهيم أنّ عليه ثلاث كفارات، ولا يعلم لذلك وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام، وحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدلّ على خلاف هذه الأقوال.
ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أي الحكم بالكفارة، تزجرون به عن مباشرة ما يوجبه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بجميع أعمالكم، ظواهرها وبواطنها، ومجازيكم عليها كلها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم، ولا تخلّوا بشيء منه.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤).
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا.
والمراد بمن لم يجد الرقبة من لم يملك الرقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته، واختلفت مذاهب الفقهاء في بيان قدر الكفاية، ومحلّ ذلك كتب الفروع، وكذلك اختلفوا في اعتبار وقت اليسار والإعسار. فذهب مالك والشافعي في أظهر أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء، لأنّ الكفّارة عبادة لها بدل من غير جنسها، كالوضوء والتيمم، والقيام من الصلاة والقعود فيها، فاعتبر وقت أدائها.
وذهب أحمد والشافعي في أحد أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب، تغليبا لشائبة العقوبة، كما لو زنى قنّ ثم عتق، فإنّه يحدّ حدّ القنّ.
وقد جرى عرف الشارع على اعتبار الشهور بالأهلة، فلا فرق بين التام والناقص، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر كمّل الشهرين بالهلال، ولو اتفق أنهما ناقصان أجزأه ذلك إجماعا. ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر- فقد اختلفوا فيه، فقال الشافعية: بحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه، ويتم الأول من الثالث ثلاثين يوما، لتعذّر الهلال فيه. وقال الحنفية: لا بدّ من ستين يوما.
أوجبت الآية التتابع في صيام الشهرين، فلو أفطر يوما منهما ولو الأخير من غير عذر، انقطع التتابع، ولزمه الاستئناف اتفاقا. ومن صور الفطر بغير عذر أن
أما الإفطار بعذر فقد اختلفت مذاهب الفقهاء فيه، فذهب الحنفية إلى وجوب الاستئناف لزوال التتابع المشروط، وهو قادر عليه عادة.
وذهب مالك والشافعي في أحد قوليه إلى أنه لا يقطع التتابع، لأنّ التتابع لا يزيد على أصل وجوب رمضان، وهو يسقط بالعذر.
وفرّق بعض العلماء بين العذر الذي يمكن معه الصوم: كالسفر والمرض، والعذر الذي لا يمكن معه الصوم: كالجنون والإغماء جميع النهار، فجعل الأول قاطعا للتتابع، والثاني غير قاطع له.
وأوجبت الآية أن يكون صوم الشهرين المتتابعين قبل المسيس، وقد رأى بعض الظاهرية أنّ من وطئ قبل أن يصوم شهرين متتابعين أثم بالوطء، وسقطت عنه الكفارة لفوات وقتها وعدم التمكن من إيقاع الصيام المتتابع قبل المسيس. كما قالوا ذلك فيمن وطئ قبل العتق، وقد تقدم. والجواب هنا هو الجواب هناك.
واختلف الفقهاء فيمن وطئ التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا متعمدا ونهارا ناسيا.
فذهب أبو حنيفة ومحمد ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه إلى وجوب استئناف الصوم عملا بظاهر الآية، فإنها أمر بصيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما. فإذا جامعها في خلال الشهرين لم يأت بالمأمور به.
وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه إلى عدم وجوب الاستئناف، لأنّ هذا الوطء لم يفسد الصوم، فلم يتخلّل الشهرين إفطار، فلم ينقطع التتابع، وليس من شرط التتابع ألا يتخلل الشهرين جماع.
وكما أنّ ظاهر الآية وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس فيهما، كذلك ظاهرها وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس قبلهما، فلو كان الواطئ في خلالهما غير آت بالمأمور به، لكان الوطئ قبلهما غير آت بالمأمور به، ولفات الامتثال بالوطء قبلهما، ولا قائل به غير أهل الظاهر، فوجب حينئذ حمل قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا على تحريم المسيس قبل أن يتمّ صيام الشهرين المتتابعين، لا على أنّ عدم المسيس شرط في الاعتداد بالصوم.
أطلقت الآية إطعام المساكين، ولم تقيده بقدر ولا تتابع، فاقتضى ذلك أنّه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك جاز، وكان ممتثلا لأمر الله تعالى، وهذا قول الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين، وليس معنى هذا [أن] تمليك المساكين لا يجزئ، بل المراد أنّ الآية أمرت بالإطعام الذي هو حقيقة في إعطاء الطعام، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة، فأيهما وقع من المكفر أجزأه.
وأوجب الشافعية تمليكهم، قالوا: نحن لا ننكر أنّ الآية تحتمل التمليك والإباحة، إلا أنّ السنة وردت بالتمليك، وجرى عرف الشرع في الصدقة الواجبة أنّها مقدرة مشروط فيها التمليك، فكما أنّ الزكاة وصدقة الفطر لا بدّ فيهما من التمليك، كذلك الكفارة لا بدّ فيها من التمليك، ولا تجزئ فيها الإباحة. وذلك لأن التمليك أدفع للحاجة، فلا تقوم مقامه الإباحة.
ثم اختلفت المذاهب في المقدار الذي يملّك لكل مسكين. فقال الحنفية: يعطى لكل مسكين نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير أو تمر، ومستندهم في ذلك أخبار ذكرها صاحب «فتح القدير».
وقال الشافعية: لكل مسكين مدّ من غالب قوت محل المكفّر، لأنّه صحّ في رواية عنه صلّى الله عليه وسلّم تقدير الكفارة بستين مدا، وصحّ في رواية أخرى تقديرها بستين صاعا، والنسخ هنا متعذّر للجهل بالتاريخ، ولإمكان الجمع بين الروايتين، فكان ذلك الجمع متعينا، فحملت رواية الستين صاعا على بيان الجواز الصادق بالندب.
ومذهب مالك فيما روى عنه ابن وهب مدان، وقيل: مد وثلثا مد، وقيل: ما يشبع من غير تحديد.
وظاهر قوله تعالى: فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أنّه لا بدّ من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد. هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، والثانية إن وجد غيره لم يجزئه، وإن لم يجد غيره أجزأه. وهو ظاهر مذهبه. والثالثة: أنّ الواجب إطعام طعام ستين مسكينا، ولو لواحد في ستين يوما، وهو مذهب أبي حنيفة «١» رحمه الله، قالوا: لأنّ المقصود سدّ خلة
ألا ترى الحنفية حين قالوا: لا يجزئ الدفع لمسكين واحد طعام ستين دفعة واحدة، علّلوا ذلك بأنّ التفريق واجب بالنص، مع أنّ تفريق الدفع غير مصرّح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين، فالنص على العدد أولى بالاعتبار، لأنّه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنّه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما، فكان تعدّدا حكما. وحينئذ يلزم أنّ يكون المراد بالستين مسكينا في الآية مسكينا حقيقة أو حكما، من باب عموم المجاز الذي يشمل تعدد المساكين حقيقة، وتعددهم حكما، فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين مسكينا، أو حاجات واحد في ستين يوما. ولا يخفى أنّه لا مقتضى للعدول عن الحقيقة إلى هذا المجاز، وأن ظاهر الآية إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين، وتعدد الذوات مما يصح أن يكون مقصودا معقول المعنى لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة، وشمول المنفعة، واجتماع القلوب على المحبة والدعاء.
وظاهر الاقتصار في الآية على المساكين أنّه لا يجزئ دفع الكفارة إلّا إلى المساكين، ويدخل فيهم الفقراء، كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق.
وقد قالوا: كما علمت المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، هذا مذهب الجمهور.
وعمّم أصحاب أحمد وغيرهم الحكم في كلّ من يأخذ من الزكاة لحاجته، وهم الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب، ولكنّ ظاهر القرآن اختصاصها بالمساكين على ما علمت.
وقد أطلقت الآية المسكين هنا، ولكنّ الفقهاء شرطوا فيه اعتبارا بمسكين الزكاة ألّا يكون ممن تلزم المكفر نفقته، وألا يكون هاشميا ولا مطلبيا ولا كافرا على خلاف في ذلك بين الفقهاء، منشؤه اختلاف أقوالهم في مسكين الزكاة.
واستنبط بعض الشافعية من التعبير في جانب تحرير الرقبة بعدم الوجود، وفي جانب الصيام بعدم الاستطاعة، أنّه لو كان له مال غائب ينتظره ليعتق منه ولا يصوم، ولو كان مريضا يرجى برؤه، ولكنه يدوم في ظنه مدة شهرين يطعم، ولا ينتظر البرء ليصوم، ووافقهم الحنفية في عدم الصوم لا في الإطعام.
ثمّ إنّ الله سبحانه قيّد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام، وأطلقه في
أما عدم استئناف الإطعام فوجهه ظاهر، وأما حرمة الوطء فدليل الفقهاء عليها مختلف بحسب اختلافهم في قواعد الأصول، فمن يرى حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة يقول: استفيد حكم ما أطلقه الله مما قيّده، إما بيانا، وإما قياسا قد ألغي فيه الفارق بين الصورتين، فإنّ المعروف عن الشرع في الأعم الأغلب ألا يفرّق بين المتماثلين، وقد ذكر الله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا مرتين، ونبّه بذلك على تكرّر حكمه في الكفارات الثلاث، ولو ذكره في آخر الكلام مرة واحدة لأوهم اختصاصه بالإطعام، ولو ذكره في أول مرة فقط لأوهم اختصاصه بالعتق، وإعادته في كل مرة تطويل، فكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما جاء به النظم الجليل.
وأيضا فإنّه نبه بوجوب التكفير قبل المسيس في الصوم مع تطاول زمنه وشدة الحاجة إلى المسيس فيه، على أن اشتراط تقدم الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى.
على أنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم في الخبر الحسن. وقد تقدّم
«اعتزلها حتّى تكفّر عنك» «١»
يشمل التكفير بالإطعام.
وأما الحنفية الذين لا يرون حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة، فلهم على حرمة الوطء قبل الإطعام دليلان.
الأول: أنّ إباحة الوطء قبل الإطعام قد تفضي إلى الممتنع، والمفضي إلى الممتنع ممتنع، بيان ذلك: أنّه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه، فلو أبيح للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام ثم اتفق أنّه قدر على العتق فوجب التكفير به، لزم أن يقع العتق بعد التماس، وهو ممتنع.
واعترض على هذا الدليل بأنّ القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم، والأمور الموهومة لا تراعى في إثبات الأحكام ابتداء، بل غايتها أن تراعى في ثبوت الاستحباب ورعا.
والدليل الثاني: ما تقدم من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اعتزلها حتى تكفّر»
وقد يقال: إن هذا الحديث ليس نصا في الموضوع، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك للمظاهر قبل أن يتبين عجزه
بقي أن يقال: لم تذكر الآية حكم من عجز عن الخصال الثلاث، أتسقط الكفارة عنه أم تستقر في ذمته ويحرم عليه المسيس حتى يكفر؟
والذي استظهره العلماء أنّها لا تسقط، بل تستقر في ذمته، حتى يتمكن، قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات، كجزاء الصيد وغيره. ولأنّ أصحاب السنن رووا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعان أوس بن الصامت بعذق من تمر، وأعانته زوجته بمثله فكفّر، وأمر سلمة بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفّر بها عن نفسه، ولو سقطت بالعجز لما أمرهما بإخراجها.
وقد أطلنا هنا بذكر الفروع، لأننا نراها كلها متعلقة بتفسير الآية، والله الموفق.
ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الإشارة إلى ما سبق من البيان وتفصيل الأحكام، وتعليمهم إياها. أي ذلك الذي بيّنا فيما مرّ واقع وحاصل لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعملوا بما شرع لكم، وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي الأحكام المذكورة حدود الله فالزموها، وقفوا عندها لا تتعدوها وَلِلْكافِرِينَ الذين يتعدونها عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم. وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا، نظير قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: ٩٧].
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)
التناجي: التسار والمناجاة المسارّة. مأخوذ من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض، وسمّيت بذلك، لأن المتسارين يكونان بخلوة في نجوة من الأرض، بعيدا عن المتسمعين، أو سمّيت بذلك لأنّ السرّ يصان، فكأنه ارتفع عن الناس، ومن هذا قال الشاعر:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم | على سرّ بعض غير أني جماعها |
يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم | إلى صخرة أعيا الرّجال انصداعها |
والآية التي معنا خطاب المؤمنين، وأريد من النهي هنا التعريض بأولئك الذين كانوا يدورون في المجالس يشيعون السوء ويتناقلونه، حتى يؤثّر ذلك في أقارب
وكلّما مروا بهم يتغامزون، فلما كثر ذلك، شكا منهم المؤمنون إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهم عن ذلك، ولكن الضعيف دائما يجد في هذا التناجي سلوة يستر بها ضعفه، فلم ينتهوا، فأنزل الله فيهم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ.
وكانت هذه الحال حالا ذميمة مؤذية، فنهى المؤمنين أن يفعلوا هذا، فيكون فيهم هذا الصنف من الناس، فهم لم يكن منهم هذا التناجي المذموم حتى ينهوا عنه، إنما نهوا عنه تعريضا بأولئك الذين لا يعيشون إلّا في الظلام، ويصطادون في الماء العكر، أرأيت الآية التي سقنا لك فيهم، وهذا الآية كيف نهي المؤمنون فيها أن يتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الذي كان منهم، ثم هو تحذير للمؤمنين أن يفعلوا فعلهم، فيستحقوا ما استحق أولئك من العاقبة.
وقيل: بل الخطاب للمنافقين، وسمّاهم مؤمنين باعتبار ثوبهم الذي يظهرون فيه، والظاهر الأول، فإنّ الآية نهت المؤمنين أن يتناجوا بالإثم والعدوان، أي بما هو إثم في ذاته، ثم هو عدوان على منصب الرسالة، إذ يجعل الناس ينفضّون من حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم أمرتهم إذا كان لا بدّ لهم من التناجي أن يتناجوا بما هو برّ وخير، وبما هو وقاية لهم، وحفظ من عذاب الله، ثم أمرتهم بأن يتقوا الله الذي إليه يحشرون، فيحاسبهم على ما كان منهم بعد أن يطلعهم عليه، لا تخفى عليه منه خافية، ثم قال الله في تعليل ما تقدّم إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا.
وأسندت النجوى إلى الشيطان باعتبار أنّه الذي يوسوس بها ويزينها للناس فيرتكبونها، وغايته منه إدخاله الحزن على الذين آمنوا، ولكنّهم ما داموا مؤمنين فلن يضرّهم منه شيء وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ واسم ليس إمّا الشيطان، وإمّا التناجي، وما دام الأمر كلّه لله، فإن قدّر الله مكروها فهو لا بدّ كائن، وإن أراد خيرا فلا رادّ لفضله، يصيب به من يشاء.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا ما يكون من نجوى الشيطان، لأن الذي
والقصد من هذا إزالة ما عساه يدخل في نفوس المؤمنين بتأثير هذه المناجاة.
ثم إنّ التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه، روى البخاريّ ومسلم «١» وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، من أجل أنّ ذلك يحزنه».
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) كان المؤمنون يتنافسون في القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويتسابقون إلى ذلك، لا يكاد أحد يؤثر غيره بمجلسه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واتفق أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوم الجمعة في الصّفة، وفي المكان ضيق، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، منهم ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فردّ النبي عليهم. ثم سلّموا على القوم، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم، ينتظرون أن يوسع لهم، فشقّ ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لبعض من حوله: قم يا فلان ويا فلان، فأقام نفرا مقدار من قدم، فشقّ ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم.
واتخذ المنافقون من ذلك طريقا عسى أن يصلوا منه إلى قلوب المؤمنين، فقالوا: ما عدل رسول الله بإقامة من أخذ مجلسه وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور، فأنزل الله قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية.
أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
والتفسّح في المجلس: التوسع فيه، أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان:
توسعوا، فليفسح بعضكم عن بعض، ليأخذ القادم مكانه في المجلس، فإنّ ذلك سبب المودة والمحبة بينكم، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس.
ولئن كانت الآية نزلت في خصوص التوسع في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّها لمرسلة عامة في كل المجالس التي يكون فيها خير للناس، مجالس العلم، ومدارسة القرآن، ومجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، ومجالس الرأي والشورى، ومجالس الناس في مجتمعاتهم للأغراض الدينية.
وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا النشز: الارتفاع في مكان، والمراد هنا النهوض من المجلس، أي: وإذا قيل لكم انهضوا للتوسعة على المقبلين فانهضوا، ولا تباطؤوا.
وقال الحسن وقتادة والضحاك: إنّ المعنى: وإذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا.
وقيل: إذا دعيتم للقيام عن مجلس الرسول فقوموا، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أحيانا يؤثر الانفراد في أمر الإسلام أو لبعض شأنه، ولا مانع من تعميم الحكم في كل مجلس، فإذا دعت الحاجة إلى أن ينفرد صاحب المجلس في أمر، أو إلى أن يخلو ببعض الجالسين، فله أن يطلب في رفق إلى الجالسين أن يقوموا، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم ضررا من فوات المصلحة التي دعت إلى الانفراد.
وهذا مما لا نزاع لأحد في جوازه.
نعم لا يجوز للقادم أن يقيم أحدا ليجلس هو في مجلسه،
فقد روى مالك والبخاريّ ومسلم «١» وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ولكن تفسّحوا أو توسّعوا».
وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به، والمجالس من هذا المباح، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس، إلا أنّ مكارم الأخلاق تقضي على الجالسين بتقديم أولي الفضل وأهل الحجى والحلوم، بذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث.
ولقد كان هذا هو الشأن بين الصحابة في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا يقدّمون بالهجرة وبالعلم وبالسن.
روى أبو بكر بن العربي «٢» بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد وقد طاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب، فوقف وسلّم، ثم نظر مجلسا يشبهه، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجوه أصحابه أيهم يوسّع له، وكان أبو بكر جالسا على يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتزحزح له عن محله، وقال: هاهنا يا أبا الحسن، فجلس بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين أبي بكر، فقال: «يا أبا بكر! إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل».
(٢) انظر أحكام القرآن لابن العربي (٤/ ١٧٤٧).
وكان التقدم في مجلس الجمعة بالبكور، إلا ما يلي الإمام، فإنّه لذوي الأحلام والنّهى.
وكان التقدم في مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب لذوي النجدة والمراس من الناس، والتقدم في مجلس الرأي والشورى لمن له بصر بالشورى، وخبرة بالأمور.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ. اختلف المفسرون في المراد بالموصول هنا الَّذِينَ آمَنُوا ووَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فقال جماعة: المراد من (الذين آمنوا) كلّ المؤمنين، سواء من أوتوا العلم منهم، ومن لم يؤتوه. والمراد من (الذين أوتوا العلم) العلماء من المؤمنين خاصة، وعلى ذلك يكون العطف من عطف الخاص على العام، تعظيما للعلماء بحسبانهم، كأنهم جنس آخر.
وقال قوم: المراد بالذين آمنوا: المؤمنون الذين لم يؤتوا العلم، بدليل مقابلته بالذين أوتوا العلم، وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم، وعليه يكون العطف عطف متغايرين بالذات، ويكون الموصول الثاني معمولا لفعل محذوف دلّ عليه المذكور، ويكون معمول الفعل المذكور محذوفا، دلّ عليه المعمول المذكور، ويكون الكلام من عطف الجمل، والتقدير: يرفع الله الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات تليق بهم، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات.
وقال آخرون: المراد بالموصولين واحد، والعطف لتنزيل التغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات. والمعنى: يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات.
وعلى هذه الأوجه يكون رفع الدرجات جزاء لامتثالهم لأمر النهوض من المجالس، وفي هذا الجزاء مناسبة للعمل المأمور به، وهو ترك ما كانوا يتنافسون فيه من الجلوس في أرفع المجالس وأقربها من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه تواضعا لله، وامتثالا لأمره جوزي على تواضعه برفع الدرجات و «من تواضع لله رفعه» وذهب آخرون إلى أنّ جملة يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ كالتعليل للأمر السابق، أي إذا قيل لكم انهضوا للتوسعة على القادمين فانهضوا، لأنّ
ثم الآية بعد هذا دليل على فضل العلماء، ولا يقلّ ما روي من الآثار والأخبار في ذلك عن دلالة الآية في الظهور والوضوح،
فقد أخرج الترمذي وأبو داود «١» وغيرهما عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
وأخرج الدارمي «٢» عن عمر بن كثير عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة»
وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «بين العالم والعابد مئة درجة، بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعون سنة» «٣».
وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء» «٤».
وحسب العلماء أن يلوا الأنبياء، ويتقدّموا الشهداء.
والمراد بالعلم الذي أوتوه هو العلم النافع في الدنيا والدين، ولن يكون العلم نافعا يرفع صاحبه حتى يكون هو من العاملين، وإلا كان من الذين يقولون ما لا يفعلون، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣).
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) قد علمتم فيما سبق أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مجلسه، ويتسابقون عليه، وأنه صعب على بعضهم أن يقوم للمتأخر، وقد كان بعضهم يناجي الرسول صلّى الله عليه وسلّم في بعض شأنه، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة، فكان ذلك يشقّ على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد يستثقله الحاضرون، فأراد الله أن يحدّ من هذه المناجاة، وهي لا يمكن منعها، فقد يكون لبعض الناس شأن لا يحبّ الكلام فيه إلا مناجاة، وشؤون الناس لا يمكن ضبطها، ولا معرفة مقدار الأهمية فيها، إلا بعد
(٢) رواه الدارمي في السنن (١/ ١٠٠)، باب فضل العلم والعالم.
(٣) المرجع نفسه.
(٤) رواه ابن ماجه في السنن (٢/ ١٤٤٣)، ٣٧- كتاب الزهد ٣٧- باب ذكر الشفاعة حديث رقم (٤٣١٣).
أمر الله المؤمنين بذلك حدّا للمناجاة التي تكون لغير حاجة ومنعا منها، ونفعا للفقراء الذين يكونون في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد تدعو المناجاة إلى أن يقوموا من مجلسهم لهذا الذي يريد أن يناجي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كان هذا القيام سيعود بالفائدة على الفقراء اطمأنت قلوب القائمين، فقراء كانوا أو أغنياء، فإنّ الأغنياء يطيب خاطرهم لنفع الفقراء.
والتعبير بقوله تعالى: بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً يراد منه أن تكون الصدقة حاضرة عند النجوى، على طريق تمثيل النجوى بمن له يدان، أو هو استعارة مكنية تقوم على تشبيه النجوى بالإنسان، وإثبات اليدين تخييل.
ويقول المفسرون: إن هذا الأمر اشتمل على فوائد كثيرة:
منها: تعظيم أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإكبار شأن مناجاته، كأنها شيء لا ينال بسهولة.
ومنها: التخفيف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتقليل من المناجاة.
ومنها: تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم إذا علموا أنّ قرب الأغنياء من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومناجاتهم له تسبقها الصدقة لم يضجروا.
ومنها: عدم شغل الرسول صلّى الله عليه وسلّم بما لا يكون مهما من الأمور، فيتفرغ للرسالة فإنّ الناس وقد جبلوا على الشحّ بالمال يقتصدون في المناجاة التي تسبقها الصدقة.
ومنها: تمييز محبّ الدنيا من محبّ الآخرة، فإنّ المال محكّ الدواعي.
هذا وقد اختلف العلماء في مقتضى هذا الأمر، أهو الوجوب أم هو الندب.
فقال بعضهم بالوجوب، مستدلا بأنّ الآية فيها أمر بتقديم الصدقة عند النجوى، والأمر للوجوب، ثم قال الله في آخر الآية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومثل هذا لا يقال إلا في الواجبات التي لا تترك.
وقال بعضهم: إن الأمر هنا للندب والاستحباب، وذلك أنّ الله قال في الآية:
ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ومثل هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض.
وأيضا قال الله تعالى في الآية التي بعد هذه مباشرة: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ وهذا يزيل ما في الأمر الأوّل من احتمال الوجوب، انظر إلى قوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ.
وأما آية أَأَشْفَقْتُمْ فهي ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر، ولا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة اتصالهما في النزول.
وهؤلاء القائلون بالوجوب وبالنسخ اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقال بعضهم: ما بقي المنسوخ إلّا ساعة من نهار، وينسب ما روي عن تأخّر كبار الصحابة عن تقديم الصدقة إلى ضيق الوقت، وروي أنه بقي الأمر عشرة أيام ثم نسخ.
وقد روى عن علي بن أبي طالب أنه أول من عمل بهذا الأمر، وآخر من عمل به، وأنه كان عنده دينار فصرفه إلى عشرة دراهم، فكلما ناجى الرسول صلّى الله عليه وسلّم قدّم درهما.
ويرى أبو مسلم الأصفهاني عدم وقوع النسخ، ويقول في هذه الآية: إنّه كان يوجد بين المؤمنين جماعة من المنافقين، كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وإنّ فريقا منهم عدل عن نفاقه، وصار مؤمنا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا. فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين الذين لا يزالون على نفاقهم، فأمر بتقديم الصدقة، ليتميز هؤلاء من هؤلاء، وإذا كان هذا التكليف لهذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت، لا جرم يقدر التكليف بذلك الوقت.
قال الفخر الرازي: وحاصل قول أبي مسلم أنّ ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخا.
ثم قال: وهذا كلام حسن لا بأس به، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ ومنهم من قال: إنه منسوخ بوجوب الزكاة.
ونحن نرى مع الفخر الرازي أنّ كلام أبي مسلم كلام حسن، لكنّا نبحث عن أولئك الذين حسن إيمانهم، الذين أريد تمييزهم من المنافقين، فلا نجد أنّ أحدا تصدّق.
بل لقد روي أنّه لم يعمل بهذه الآية إلا الإمام علي بن أبي طالب، ولقد عجب الناس كيف لم يعمل كبار الصحابة بهذا التكليف، وصاروا يعتذرون عنه بأنه لم يبق إلا ساعة من نهار، ومنهم من قال: إنّه استمر عشرة أيام، ومنهم من قال: نسخ قبل أن يعمل به أحد.
ويعجبنا قول الفخر في الدفاع عن عدم عمل الصحابة: أنه على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت ولم يفعلوا فهذا لا يجر إليهم طعنا، وذلك أن الإقدام على هذا العمل مما يضيق به قلب الفقير، ويوحش قلب الغني، لأنه إن لم يفعل جرّ ذلك إلى الطعن فيه، فهذا العمل لما كان سببا لحزن الفقير، ووحشة الغني، لم يكن في تركه كبير مضرة، بل لقد بينا أنهم إنما كلّفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة. ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة، لم يكن تركها سببا للطعن.
وأما الصدقة فلم تطلب لأنّها صدقة، فالصدقات مطلوبة، ومرغب فيها من غير توقف على المناجاة، ولو أنّ الصحابة فهموا أن المقصود التوسل بالمناجاة لتكون بابا من أبواب الصدقة ما تأخروا، فمنهم من نزل عن جميع ماله، ومنهم من كان يريد أن يتصدّق بالثلثين، لأنه لا يرثه إلا ابنة واحدة. وما دام المقصود القصد من المناجاة التي تشغل الرسول صلّى الله عليه وسلّم فليحرصوا على القصد، على أنّهم وجدوا في قوله تعالى:
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فسحة. فمن ذا الذي كانت دراهمه ودنانيره حاضرة معه في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم حتى يتصدق بها، أو يقال: إنه لم يمتثل الأمر؟
ونظنّ أنّا بما قدمنا نجدك في غنى عن تفسير الآية الأولى، وأما قوله: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) فمعناه أخفتم تقديم الصدقات لما فيها من إنفاق المال، فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به، وتاب عليكم، ورخّص لكم في الترك، فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، ولا تفرّطوا فيها وفي سائر الطاعات.
وليس يشتمّ من هذه الآية أنه وقع منهم تقصير، فإنّ التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت مناجاة لم تصحبها الصدقة، والآية قالت: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من التصدق، وقد يكون عدم الفعل لأنهم لم يناجوا، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا.
وأما التعبير بالإشفاق من جانبهم فلا يدل على تقصيرهم، فقد يكون الله علم أنّ كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة في المستقبل لو دام الوجوب، فقال الله لهم: أَأَشْفَقْتُمْ.
وكذلك ليس في قوله: وَتابَ اللَّهُ ما يدل على أنهم قصّروا، فإنّه يحمل على أنّ المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبّر عنه بالتوبة، ولذلك عقب عليه بما يكون شكرا على هذا التخفيف فقال: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني أنّه إذا تاب عليكم، وكفاكم هذا التكليف، فاشكروه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومداومة الطاعة، لأنه المحيط بأعمالكم ونياتكم.