تفسير سورة الصف

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الصف من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الصف١ وتسمى الحواريين.
مقصودها الحث٢ على الاجتهاد التام في٣ الاجتماع على قلب٤ واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم، بحملهم على الدين الحق، أو محقهم عن جديد الأرض أقصى المحق، تنزيها للملك٥ الأعلى عن الشرك، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم، فهي٦ نتيجة سورة التوبة، وأدل ما فيها على هذا المقصد الصف بتأمل آيته، وتدبر ما له٧ من جليل النفع في أوله وأثنائه [ وغايته-٨ ]، وكذا الحواريون ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي له الأمر كله لأنه لا كفوء له ( الرحمان ) الذي عم بنعمة٩ البيان عما يرضيه ممن شاقه، فقد شرك لكل أحد أن يرده أو يقبله ( الرحيم ) الذي خص١٠ بإتمام الإنعام الموصل إلى دار السلام من شاء من عباده فهيأه لذلك وأهله.
١ - الحادية والستون من سور القرآن الكريم، مدنية وعدد آيها ١٤..
٢ - زيد في الأصل: التام، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها..
٣ - من ظ وم، وفي الأصل: على..
٤ - زيد في الأصل: رجل، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها..
٥ - من ظ وم، وفي الأصل: الملك..
٦ - من ظ وم، وفي الأصل: فهو..
٧ - من ظ وم، وفي الأصل: فيه..
٨ - زيد من ظ وم..
٩ - من ظ وم، وفي الأصل: بنعمته..
١٠ - من م، وفي الأصل وظ: خلق..

لما ختمت الممتحنة بالأمر بتنزيهه سبحانه عن تولي من يخالف أمره بالتولي عنهم والبراءة منهم اتباعاً لأهل الصافات المتجردين عن كل ما سوى الله لا سيما عمن كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون، افتتحت الصف بما هو كالعلة لذلك فقال: ﴿سبح لله﴾ أي أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم الذي له ﴿ما في السموات﴾ من جميع الأشياء التي لا يغفل من أفلاكها ونجومها وغير ذلك من جواهرها وأعراضها في طلوعها وأفولها وسيرها في ذهابها ورجوعها وإنشاء السحاب وإنزال المياه وغير ذلك. ولما كان الخطاب مع غير الخلص أكده فقال: ﴿وما في الأرض﴾ أي بامتثال جميع ما يراد منه مما هو كالمأمور بالنسبة إلى أفعال العقلاء من نزول المياه وإخراج النبات من النجم والشجر وإنضاج الحبوب والثمار - وغير ذلك من الأمور الصغار والكبار.
ولما كان امتثال غير العاقل وعصيان العاقل ربما أوهم نقصاً قال: ﴿وهو﴾ أي وحده لا شريك له ﴿العزيز﴾ أي العظيم النفع الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، ويعسر الوصول إليه ﴿الحكيم *﴾ أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها، فما مكّن العاقل من المعصية إلا لإظهار صفات الكمال من العلم والقدرة والحلم والكرم والرحمة
2
والغضب وغير ذلك، وقد علم بهذا التنزيه وختم آيته بهاتين الصفتين أنه تعالى منزه عما تضمنه يأس الكفار المذكور من أنه لا بعث وعن أن يجعل سبحانه لهم حظاً في الآخرة لأن كلاًّ من عدم البعث والتسوية بين المسيء والمحسن نقص.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: افتتحت بالتسبيح لما ختمت به سورة الممتحنة من قوله ﴿لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم﴾ [الممتحنة: ١٣] وهم اليهود، وقد تقدم الإيماء إلى ما استوجبوا به هذا فأتبع بالتنزيه لما تقدم بيانه فإنه مما تعقب به ذكر جرائم المرتكبات ولا يرد في غير ذلك، ثم أتبع ذلك بأمر العباد بالوفاء وهو الذي حد لهم في الممتحنة ليتنزهوا عن حال مستوجبي الغضب بنقيض الوفاء والمخالفة بالقلوب والألسنة ﴿يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم﴾ [آل عمران: ١٦٧] ﴿لياً بألسنتهم وطعناً في الدين﴾ [النساء: ٤٦] ﴿من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم﴾ [المائدة: ٤١] ﴿ويقولون آمنا بالله والرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم﴾ [النور: ٤٧] وبمجموع هذا استجمعوا اللعنة والغضب فقيل للمؤمنين: ﴿يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون﴾ [الصف: ٢] احذروا أن تشبه أحوالكم حال من استحق المقت واللعنة والغضب، ثم أتبع بحسن الجزاء لمن وفى قولاً وعقداً ولساناً وضميراً، وثبت على ما أمر به فقال: {إن الله يحب الذي يقاتلون في سبيله
3
صفاً} [الصف: ٤] الآية ثم تناسج ما بعد. ولما كان الوارد من هذا الغرض في سورة الممتحنة قد جاء على طريق الوصية وسبيل النصح والإشفاق، أتبع في سورة الصف بصريح العتب في ذلك والإنكار ليكون بعد ما تمهد في السورة قبل أوقع في الزجر، وتأمل كم بين قوله سبحانه
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء﴾ [الممتحنة: ١] وما تضمنته من اللطف وبين قوله ﴿لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون﴾ [الصف: ٢] انتهى.
ولما تقدمت في الممتحنة قصة الفتح الأعظم في شأن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وجل منابذة الكفار بكل اعتبار علماً على صحة الهجرة وادعى التجرد لجهاد أعداء الله، وقصة الفتح السببي من تحريم المؤمنات على المشركين وتحريم المشركين على المؤمنات في غزوة الحديبية، وأبدى سبحانه في ذلك من الصنائع التي تعجز قوى الخلق عنها أن رتب ما في الفتح السببي على ما في الفتح الفعلي الحقيقي، فجعل الأول في الزمان آخر في الرتبة والآخر في الزمان أولاً في الرتبة مع شدة الإحكام في ترصيف النظام والبلوغ في الرشاقة والانسجام إلى حد لا يطيقه نوافذ الأفهام مع بداعة المعاني ومتانة المباني، وكان فعل من ناصح الكفار ممن أمن بلسانه وأذعن بجنانه وهاجر بأركانه نوع مناصحة
4
فعل من يقول مالا يفعل في منابذتهم والتجرد بعداوتهم، فذكر أول هذه السورة من تنزيهه بألسنة أحوال ما لا يعقل ما يخجل المسلم بشيء من ذلك تأديباً لأمثاله، وتدريباً لمن يلم بشيء من المخالفة بباله، وكان العاقل أولى من غيره بتنزيه جناب القدس بالطاعة، فكيف إذا كان ممن أقر بالإيمان وتقلد عهدة الإذعان، وكان من عصى منهم منادياً على نفسه بمخالفة قوله لفعله، ومن نزهه حق تنزيهه لم يقصر في حق من حقوقه بتضييع شيء من أوامره كما أن تنزيه ما لا يعقل بأن لا يخالف شيئاً من مراده، قال مرهباً بنداء البعد والتوبيخ الذي من مبادئ الغضب والإنكار بالاستفهام والتعبير بما يفهم أدنى مراتب الإيمان: ﴿يأيها الذين آمنوا﴾ أي ادعوا الإيمان ﴿لم﴾ قال في الكشاف: هي لام الإضافة داخلة على «ما» الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في بم وفيم ومم وعم وإلام وعلام، وإنما حذفت الألف لأن «ما» والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالها بزيادة هاء السكت أو الإسكان، ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثه أربعه بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة، وقال الرضي في الموصول: إنها حذفت لأن لها صدر الكلام ولم يمكن تأخير الجار عنها فقدم وركب
5
معها حتى يصير المجموع موضوعة للاستفهام، فلا يسقط الاستفهام عن مرتبة الصدر، وجعل حذف الألف دليل التركيب ﴿تقولون﴾ أي من دعوى الإيمان التي مقتضاها إلزام الإخلاص في جميع الأحوال ﴿ما لا تفعلون *﴾ أي ما لا تصدقونه بالفعل الذي يكون بغاية الرغبة والقوة فتتخذوا العدو ولياً بالإقبال عليه وإرسال التنصح إليه وقد تلفظتم بالإيمان الذي يستلزم المعاداة لكل من كفر، وخلف الوعد في نفسه قبيح ومع الخالق أقبح.
ولما كان ذلك مهلكاً، رحم المخاطبين بتعظيمه لينجوا أنفسهم بالكف عنه فقال: ﴿كبر﴾ فقصد به التعجيب وهو تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا في أمر خارج عن نظائره وأشكاله، وفسر ما قصد منه للدلالة على خلوصه في المقت بقوله: ﴿مقتاً﴾ أي عظم جداً وما أعظمه من بغض هو أشد البغض، وزاد في تبشيعه زيادة في التنفير منه بقوله: ﴿عند الله﴾ أي الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم. ولما أبلغ في تبشيعه تشوفت النفس إلى المسند إليه ذلك قال: ﴿أن تقولوا﴾ أي عظم من تلك الجهة
6
أن يقع في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال قولكم ﴿ما لا تفعلون *﴾ وقال القشيري: ويقال: لم يتوعد الله على زلة بمثل ما توعد على هذا - انتهى. وكل ما ذكروه في سببها صالح للسببية قول بعضهم لو ندري أحب الأعمال إلى الله لاجتهدنا فيه ثم ولّوا يوم أحد، وتوانى بعضهم في الجهاد، وكون «صهيب رضي الله عنه قتل يوم بدر رجلاً آذى المسلمين وأنكى فيهم وادعى غيره أنه قتله فأعجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عمر وعبد الرحمن بن عوف لصهيب رضي الله عنهم: أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنك قتلته، فقال صهيب رضي الله عنه:» إنما قتلته لله ولرسوله، فأخبر عمر وعبد الرحمن رضي الله عنهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أكذلك أبا يحيى، فقال: نعم يا رسول الله «والتزام المنافقين أحكام الإسلام، وتخلفهم إخلافاً في الأمور العظام، وكذا قصة حاطب رضي الله عنه.
ولما عظم ما يكرهه بعد ما ألهب به من تنزيه غير العاقل، فكان العاقل جديراً بأن يسأل عما يحبه لينزهه به، قال ذاكراً الغاية التي هي أم جامعة لكل ما قبلها من المحاسن، مؤكداً لأن الخطاب مع من قصر أو هو في حكمه: ﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات
7
الكمال ﴿يحب﴾ أي يفعل فعل المحب مع ﴿الذين يقاتلون﴾ أي يوقعون القتال ﴿في سبيله﴾ أي بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه إيقاعاً مظروفاً للسبيل، لا يكون شيء منه كشيء خارج عنه، فيقاتلون أعداء الدين من الشيطان بالذكر القلبي واللسان، والإنسان بالسيف والسنان ﴿صفاً﴾ أي مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد.
ولما كان الاصطفاف يصدق مع التقدم والتأخر اليسير نفى ذلك بقوله حالاً بعد حال: ﴿كأنهم﴾ أي من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المراكز ﴿بنيان﴾ وزاد في التأكيد بقوله: ﴿مرصوص *﴾ أي عظيم الاتصال شديد الاستحكام كأنما رص بالرصاص فلا فرجة فيه ولا خلل، فإن من كان هكذا كان جديراً بأن لا يخالف شيء من أفعاله شيئاً من أقواله، فالرص إشارة إلى اتحاد القلوب والنيات في موالاة الله ومعاداة من عاداه المنتج لتسوية الصفوف في الصلاة التي هي محاربة الشيطان، والحرب التي هي مقارعة حزبه أولى الطغيان، والأفعال التي هي ثمرات الأبدان.
8
ولما كان التخلف عن أمر الله تعالى والغفلة عن شيء يؤدي تركه إلى التهاون به والإخلال بأدب من آدابه موجباً للكون في صف الشيطان ومفارقة حزب الرحمن، فيكون أذى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيوجب ذلك الشقاء كله لأنه جدير بأن يجر إلى أكبر منه إلى أن تحيط الخطايا فتبيح الرزايا، وكان للتذكير بالمشاهدات والأمور الواقعات ما ليس لغيره في التأديب ومرجع الترهيب، ذكر بما كان لبني إسرائيل ترهيباً من مثل حالهم، لئلا يوقع في نكالهم، حين تقاعسوا عما أمروا به من فتح بيت المقدس من الله تعالى غضب من فعلهم ذلك فسماهم فاسقين وضربهم بالتيه أربعين سنة، وأمات في تلك الأربعين كل من توانى منهم في ذلك، فلم يدخل إلى بيت المقدس منهم أحد، فحرموا البلاد التي تقاعدوا عن فتحها، وهي بعد مكة والمدينة خير بلاد الله تعالى ومهاجر أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومواطن أبويهما إسحاق ويعقوب عليهما الصلاة والسلام وأنزه الأرض، وأكثرها خيراً وأبركها، مع ما كانوا فيه من الضيق والنكد من التيه الذي هو طرد عن جناب الله بما أراد - بما أشار إليه التعبير عن زمنه بالسنين - إلى ما أبقوا بعدهم نم سوء الذكر وشناعة القالة إلى آخر الدهر فقال تعالى: ﴿وإذ﴾ عطفاً على ما تقديره: اذكروا ما فعل بعضكم - بما أشرت إليه أول هذه الآيات
9
من الآداب من تنبيه الكفار بما قد يمنع من الفتح أو يكون سبباً في عسره أو في إهلاك خلق كثير من عبادي الذين خلقتهم في أحسن تقويم من المؤمنين وغيرهم، أو من الفرار من الكفار عند المقارعة، أو التقاعس عن اللقاء عند البعث عليه، فآذى ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أذاه من أذى الله فحلم عنكم، وقبل بما له من بليغ الرحمة بكم والشفقة عليكم منكم، وكان أنهى ما عاتبكم به مرسله سبحانه النداء بما هو أدنى الأسنان في الإيمان في نظير إطلاقه على بني إسرائيل الفسق بالوصف المؤذن بالرسوخ: واذكروا حين ﴿قال موسى لقومه﴾ وهم - مع كونه منهم - ممن له قوة على ما يحاولونه: ﴿يا قوم﴾ استعطافاً لهم واستنهاضاً إلى رضى ربهم ﴿لم تؤذونني﴾ أي تجددون إذائي مع الاستمرار بالتواني في أمر الله والتقاعد عن فتح بيت المقدس مع قولي عن الله أنكم فاتحوها إن أطعمتموه وأن الله أقسم لآبائكم أنه ما نحكموها لا محالة.
ولما كان هذا الاستفهام الإنكار موجباً لتوقع ما يأتي بعده من موجب التعظيم بدل الأذى، والتبجيل والانقياد موضع التوقف والإباء، قال محققاً بحرف التحقيق مضمون الكلام: ﴿وقد﴾ أي والحال أنكم ﴿تعلمون﴾ أي علمتم قطعياً مع تجدده لكم في كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات وبالكتاب الحافظ لكم من الزيغ
10
﴿أني رسول الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ورسوله أيضاً يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم ﴿إليكم﴾ لا أقول لكم شيئاً إلا عنه، ولا أنطق عن الهوى، فعصياني عصيانه مع أني ما قلت لكم شيئاً إلا تم، وإن كنتم قاطعين بخلافه فهي معصيته لا حامل عليها أصلاً إلا رداءة الجبلات.
ولما تحنن إليهم واستعطفهم وذكرهم ما يعلمون من رسليته وصلته بالله بما شاهدوا من الآيات التي هي أعظم الإحسان إليهم، أعلم أنهم أوشكوا العصيان، فقال معبراً عن ذلك بالفاء تسبيباً عن هذا القول الذي هو أهل لأن يسبب الثبات وتعقيباً وتقريباً: ﴿فلما زاغوا﴾ أي تحقق زيغهم عن قرب عن أوامر الله في الكتاب الآتي إليهم بما أبوا من قبول أمره في الإقدام على الفتح ﴿أزاغ الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿قلوبهم﴾ من الاستواء، وجمع الكثرة يدل على أنه لم يثبت منهم إلا القليل فهزمهم بين يدي أعدائهم وضربهم بالتيه لأنهم فسقوا عن أمر الله ﴿فالله﴾ - لا يهديهم، فأسند الذنب إليهم والعقوبة إليه وإن كان الكل فعله تعليماً لعباده الأدب وإعلاماً بأن أفعالهم الاختيارية ينسب إليهم كسبها ويقوم به الحجة عليهم لعدم علمهم بالعاقبة ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال
11
﴿لا يهدي﴾ أي بالتوفيق بعد هداية البيان ﴿القوم الفاسقين *﴾ أي العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة فلم يحملهم على الفسق ضعف، فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم - انتهى.
ولما كان أذى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمخالفة أمره تارة يكون مع العلم برسالته والإقرار بها وتارة مع الإنكار، وقدم العتاب على ما كان منه على تقدير التصديق، وذكر فيه بقصة موسى عليه الصلاة والسلام الذي كانوا يؤذونه مع العلم برسالته، وهدد بما اتفق لهم من زيغ القلوب التي هي عماد الأبدان وصلاح الإنسان، أتبعه ما يكون منه عند فرض الإنكار. ولما كان رد المنكر تارة بالعقل وتارة بالنقل، وكان الذي بالعقل يكون بنظر المعجزات ولا سيما إخراج الخبأ وقد كان منه في قصة حاطب رضي الله تعالى عنه في إخراج كتابه الذي اجتهد في إخفائه واجتهدت الظعينة الحاملة له في كتمانه ما فيه مقنع في العلم بالرسالة وتحقق الجلالة، أتبع ذلك دليلاً نقلياً تأييداً للعقل مع كونه دليلاً على صحة الإخبار بإزاغة قلوب بني إسرائيل جزاء على زيغهم عن الحق فقال: ﴿وإذ﴾ أي واذكروا حين ﴿قال عيسى﴾ ووصفه
12
بما حقق من هو فقال: ﴿ابن مريم﴾ أي لقوم موسى عليهما الصلاة والسلام الذين أرسل إليهم وثبتت نبوته لديهم بالمعجزات مع إخلاص الدعوة لله وتصديق من كان قبله من أهل الله: ﴿يا بني إسرائيل﴾ وذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما وصى به نبيه من التمسك بالإسلام، ولم يعبر بالقوم كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم، فإن النسب إنما هو من جهة الأب، وأكد لإنكار بعضهم فقال: ﴿إني رسول الله﴾ أي الملك الأعظم الذي أحاط علمه بكل شيء ﴿إليكم﴾ أي لا إلى غيركم، حال كوني ﴿مصدقاً﴾ نصبه بما في الرسول من رائحة الفعل ولا ينصب ب «إليكم» لأنه صفة للرسول، وحروف الجر لا تعمل بأنفسها بل بما فيها من معنى الفعل، فإذا كانت صلات لم تكن متضمنة لمعنى فعل فلا تعمل، وهو الحرف الذي يسمى في غير «الكتاب العزيز» لغواً ﴿لما بين يدي﴾ أي تقدمني وكان من قبلي ﴿من التوراة﴾ التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه الصلاة والسلام وهي أول الكتب
13
التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون، فتصديقي لها مع تأييدي لها مؤيد لأن ما أقمته من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منه كما يستدل الإنسان بما قدامه من الأعلام ويراعيه ببصره.
ولما ذكر أول الكتب ذكر أيضاً أول الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً وهو آخر الرسل ليكون في ذلك إشارة إلى أن البشارة به في التوراة والإنجيل فقال: ﴿ومبشراً﴾ أي في حال تصديقي للتوراة.
ولما كانت رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامة لجميع الخلق لم يذكر في رسالته حرف الغاية كما ذكر في الرسالتين المذكورتين قبل فقال: ﴿برسول﴾ أي إلى كل من شملته المربوبية ﴿يأتي﴾ ولما كان إتيانه بعده بمدة طويلة أدخل الجار فقال: ﴿من بعدي﴾ ولما كان الإتيان بغاية البيان وإزاحة اللبس بكل اعتبار أقعد في العتاب لمن هفا بعده والأخذ لمن جفا فنقض عهده، أتى بالاسم الذي ما شارك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه أحد في زمانه ولا قبله أصلاً، ووزنه دال على المبالغة في معناه فقال: ﴿اسمه أحمد﴾ أي دال على أنه أبلغ الخلق حامداً ومحموداً وهو اسمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السماء التي سيصير إليها هذا المبشر، وفي تخصيصه بالذكر احتراز عن أن يتوهم أن البعدية في الرتبة لأنه يليح بتصديره
14
بالهمزة التي هي أول الحروف مخرجاً وأشد حروف الحلق الذي هو أول المخارج وتضمينه الميم إلى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أنه خاتم بما أشار إليه أشهر أسمائه وأعظمها «محمد» لابتدائه بالميم التي هي أمكن حروف الشفة التي هي خاتمة للحروف لأن مخرجها آخر المخارج، لا نبي بعده فهو فاتح مقدم باعتبار الذكر والشرف والحكم بالوصف الشريف لا نبي قبله في الخلق وجبت له النبوة وإن آدم لمنجدل في طينه وبين الروح والجسد كما في الحديث الذي أخرجه أحمد عن ميسرة الفجر رضي الله عنه والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في أول دلائل النبوة وقال: إن معناه أنه كذلك في قضاء الله وتقديره، وكأنه يريد قضاء مكتوباً في أم الكتاب ومذكوراً لمن أراد من الملائكة قبل إتمام خلق آدم عليه الصلاة والسلام فإنه يحتمل أنه سبحانه وتعالى لما صور آدم عليه الصلاة والسلام جعل طينته شفافة تشف عن ذريته وجعل لصالحيهم نوراً يرى دون غيره، فلما رأوا أعظمهم نوراً سألوا عنه فأخبرهم سبحانه وتعالى به وأثبت ما أراد من أوصافه في أم الكتاب كما أنه كان نبياً بالإخبار في دعوة أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام
15
وببشارة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وبأمارات النور الذي خرج من أمه كما في الحديث الذي رواه البيهقي في الدلائل وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه
«إني عبد الله وخاتم النبيين» وفي رواية «إني عبد الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم عن ذلك؛ دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين» وأن أم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام، فتأويل ذلك بذكره سبحانه له لملائكته مثل تأويله بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى حكاية عنه ﴿ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ [البقرة: ١٢٩] وبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام في مثل حكايته عنه في هذه الآية، وتأويله بالنور الذي رأت أمه مثل تأويله بالنور الذي يحتمل أن يكون الملائكة عليهم السلام «رأوا في شفاف طينة آدم عليه السلام والله سبحانه وتعالى أعلم. وكانت سورة القتال أحق باسمه الدال على الختم لأن الختام محتاج إلى علاج في لأم ما كان من صدع الافتراق، وكذا سورة الفتح لما يلزمه من محاولة المنغلق وإزالة الأغلاق، وختام السورتين بالميم عظيم المناسبة لذلك
16
لأن الميم اسم لتمام الظاهر المقام بالألف، وإلى ذلك إشارة رسم ألف التنوين في الفتح بعد الميم مع أنه لا يخلو من إشارة إلى أنه الفاتح مع كونه الخاتم، ويؤيد ذلك افتتاح السورة بأول حروف الاسم المليح إلى الفتح، وكانت هذه السورة أحق به لأنه أدل دال على الاتفاق واجتماع الكلمة دون اختلاف وافتراق، كما كان عند نزول آدم عليه الصلاة والسلام وبعده بمدة، وإلى ذلك أشار ختمها وختم نظيرتها الصافات بالنون الذي هو مظهر مبين محيط بما أظهره، فهو مبشر لهذه الأمة بالاجتماع والظهور على الاسم الذي يحيط آخره بجميع أهل الأرض على زمن المبشر عيسى عليه السلام المؤيد للمبشر به بتجديد أمره وإقامة دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآخر هذه نتيجة آخر الصافات بالحمد الذي هو الإحاطة بأوصاف الكمال - والله تعالى أعلم بالصواب».
17
ذكر ما يصدق هذه الآية من الإنجيل من تصديقه للتوارة
وبشارته بأحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: وكان رجل مريض اسمه العازر من بيت عنيا وهو أخو مريم ومرتا، فأرسلت الأختان إلى يسوع أن الذي تحبه مريض، فأقام في الموضع الذي هو فيه يومين ثم قال لتلاميذه: امضوا بنا إلى اليهودية، فقال له تلاميذه: الآن يا معلم أراد اليهود رجمك وأنت تريد المضي إليهم، فقال: إن العازر حبيبنا قد نام، فأنا انطلق فاوقظه، فقال: يا سيدنا، إن كان نائماً فهو يستيقظ، فقال العازر مات، فأقبلوا إلى بيت عنيا، فإذا له أربعة أيام في القبر وكانت بيت عنيا من يروشليم على نحو خمس عشرة غلوة، وكان كثير من اليهود قد جاؤوا إلى مرتا ومريم يعزوهما، فلما سمعت مرتا بقدوم يسوع خرجت لتلقاه فقالت له: يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي وأنا أعلم أن الله يعطيك كل ما سألته، قال: سيقوم أخوك، قالت: أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة، ثم جاءت مريم
18
للقائه، فظن اليهود الذين كانوا يعزونها أنها تذهب إلى القبر فتبعوها، فلما انتهت إلى المكان الذي كان فيه يسوع خرت على قدميه ساجدة، فلما رآها تبكي ورأى اليهود الذين كانوا معها قال: أين وضعتموه؟ فقالوا له: يا سيد، تعالى وانظر، فدمع يسوع فقال اليهود: انظروا كيف كان يحبه، فقال ناس منهم: أما كان هذا الذي فتح عيني الأعمى يقدر أن يجعل هذا لا يموت، فجاء إلى القبر وكان مغارة وعليه حجر موضوع فقال: ارفعوا الصخرة، فقالت له مرتا أخت الميت: يا سيد، إنه قد أنتن لأن له أربعة أيام، قال لها يسوع: ألم أقل لك إن آمنت رأيت مجد الله، فرفعوا الصخرة فرفع يسوع بصره إلى فوق وقال: أشكرك، لأنك تسمع لي، أقول هذا من أجل هذا الجمع ليؤمنوا أنك أرسلتني، قال هذا القول ونادى بصوت عظيم وصاح: عازر اخرج، فخرج الميت ويداه ورجلاه ملفوفة باللفائف ووجهه ملفوف بعمامة، فقال يسوع: حلوه ودعوه يمضي، وإن كثيراً من اليهود الذين جاؤوا إلى مريم لما رأوا ما صنع يسوع آمنوا، ومضى قوم منهم إلى الفريسيين فأخبروهم، فجمع عظماء الكهنة والفريسيون محفلاً فقالوا: ماذا نصنع إذ كان هذا الرجل يعمل آيات كثيرة وإن تركناه فيؤمن به جميع الناس وتأتي الروم فتنقلب
19
على أمتنا وموضعنا، وإن واحداً منهم اسمه قيافاً كان أعظم الكهنة في تلك السنة قال لهم: إنه خير لنا أن يموت واحد من الشعب من أن تهلك الأمة كلها - إلى آخر ما مضى في النساء عند قوله تعالى:
﴿وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم﴾ [النساء: ١٥٧] الآيات، نرجع إلى متى قال: حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا ليصطادوه بكلمة فأرسلوا إليه تلاميذهم والهردوسيين قائلين: يا معلم، قد علمنا أنك محق وطريق الله بالحق تعلم ولا تبالي بأحد ولا تنظر لوجه إنسان فقل لنا ما عندك، أيجوز لنا أن نعطي الجزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع شرهم فقال: لماذا تجربوني يا مراؤون أروني دينار الجزية، فأتوه بدينار فقال لهم يسوع: لمن هذه الصورة والكتابة؟ فقالوا: لقيصر، حينئذ قال لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا، وقال يوحنا: فقال يسوع: أنا ماكث فيكم زماناً يسيراً، ثم انطلق إلى من أرسلني وتطلبوني فلا تجدوني، وحيث أكون أنا لستم تقدرون على المجيء إلي
20
فقال اليهود فيما بينهم: إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده، لعله مزمع أن يذهب إلى منفى اليونانيين، وقال متى: وفي اليوم جاء إليه الزنادقة القائلون: ليس قيامة، وسألوه - فذكر سؤالهم وجوابه لهم إلى أن قال في آخر جوابه: أما قرأتم ما قيل لكم من الله، وقال مرقس: في سفر موسى قول الله على العوسج إذ قال: أنا هو إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب وأنتم تضلون كثيراً، وعبارة لوقا: فقد نبأ بذلك موسى في العليقة كما قال الرب: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، وقال متى: فلما سمع الجمع بهتوا من تعليمه، فلما سمع ذلك الفريسيون أنه قد أبكم الزنادقة اجتمعوا عليه جميعاً وسأله كاتب منهم ليجربه قائلاً، يا معلم! أي الوصايا أعظم في الناموس؟ قال له يسوع: تحب الرب إلهك من كل قلبك، وقال: اسمع، يا إسرائيل، الرب إلهك واحد هو، تحب إلهك من كل قلبك - انتهى، ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه الوصية الأولى العظيمة، والثانية التي تشبهها أن تحب قريب مثل نفسك، قال مرقس: ليس وصية أعظم من هاتين - انتهى، في الوصيتين سائر الناموس والأنبياء يتعلق، قال مرقس: فقال له الكاتب: فحينئذ يا معلم الحق قلت أنه واحد ليس آخر غيره، وأن تحبه من كل القلب
21
ومن كل النية ومن كل النفس ومن كل القوة، وتحب القريب مثلك، هذه أفضل من جميع الذبائح والمحترقات، فلما رأى يسوع عقله أجابه قائلاً: لست بعيدا من ملكوت الله، وقال لوقا: فقال ليسوع: ومن هو قريبي؟ قال يسوع: كان رجل نازلاً من يروشليم إلى أريحا، فوقع بين اللصوص فسلبوه وجرحوه ومضوا وتركوه مثخناً قريب الموت، واتفق أن كاهناً نزل في تلك الطريق فأبصره وجاز، وكذلك لاوي جاء إلى المكان فأبصره وجاز، وإن سامرياً جاز به، فلما رآه تحنن ودنا منه وضمد جراحاته وحمله على دابته وجاء به إلى الفندق وعني بأمره، وفي الغد أخرج بدينارين أعطاهما لصاحب الفندق وقال: اهتم به فإن أنفقت عليه أكثر من هذين دفعت لك عند عودتي، فمن من هؤلاء الثلاثة تظن أنه قد صار قريباً للذي وقع بين اللصوص، فقال له: الذي صنع معه رحمة، فقال له يسوع: اذهب أنت وافعل هكذا، وقال مرقس: فلم يتجرأ أحد أن يسأله ثم قال: وكانت جماعة كثيرة يسمعون منه بشهوة، وقال يوحنا: وآمن باسمه عند كونه بإيروشليم في عيد الفسح كثير لأنهم عاينوا الآيات التي عمل، ثم قال: وكان رجل من الفريسيين اسمه نيقوديميس رئيساً لليهود أتى إلى يسوع ليلاً وقال له: يا معلم
22
نحن نعلم أنك من الله أتيت معلماً لأنه ليس بقدر أحد أن يعمل هذه الآيات التي تعمل أنت إلا من كان الله معه، قال متى: وحينئذ كلم يسوع الجمع وتلاميذه وقال: على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون وكل ما قالوه لكم احفظوه أنتم وافعلوه، ومثل أعمالهم لا تصنعوا لأنهم يقولون ولا يفعلون، لأنهم يربطون أحمالاً ثقالاً صعبة الحمل ويحملونها على أعناق الناس ولا يريدون أن يحركوها بإصبعهم، وكل أعمالهم يصنعونها لكي يراؤوا الناس، يعرضون أرديتهم ويعظمون أطراف ثيابهم، ويحبون أول الجماعات في الولائم وصدور المجالس في المجامع والسلام في الأسواق، وأن يدعوهم الناس معلمين، فأما أنتم فلا تدعوا لكم معلماً على الأرض ولا مدبراً فإن مدبركم واحد هو المسيح، وأنتم جميعاً إخوة، ولا تدعوا لكم أباً على الأرض فإن أباكم واحد، هو الذي في السماوات، والكبير الذي فيكم يكون لكم خادماً، فمن رفع نفسه اتضع، ومن وضع نفسه ارتفع، الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون، لأكلكم بيوت الأرامل والأيتام، لعلة تطويل صلاتكم، ومن أجل هذا تأخذون أعظم دينونة، الويل لكم أنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس فلا أنتم تدخلون ولا تتركون الداخلين يدخلون، الويل لكم أنكم تطوفون البر والبحر لتصطفوا غريباً واحداً، فإذا صار صيرتموه لجهنم ابناً مضعفاً، لكم الويل يا أيها الهداة العميان الذين يقولون: من حلف بالهيكل فليس عليه شيء، ومن حلف بذهب الهيكل يخطىء، أيها الجهال العمي أيما أعظم؟ الذهب أن الهيكل الذي يقدس الذهب، ومن حلف بالمذبح فلا شيء، ومن حلف بالقربان الذي فوقه فهو يخطىء يا جهال وعميان، أيما أعظم؟ القربان أم المذبح الذي يقدس القربان؟ ومن حلف بالمذبح فقد حلف به وبكل ما فوقه، ومن حلف بالهيكل
23
فهو يحلف به وبالساكن فيه، ومن حلف بالسماء فهو يحلف بكرسي الله وبالجالس عليه، الويل لكم أنكم تعشرون الشبث والنعنع والكمون وتتركون أثقل الناموس الحكم والرحمة والإيمان، وقال لوقا: تعشرون النعنع والسداب وكل البقول، وترفضون حكم الله ومحبته، قد كان ينبغي أن تعقلوا هذا ولا تغفلوا عن تلك - انتهى، يا هداة عيمان الذين يتركون البعوضة ويبلعون الجمل، الويل لكم أنكم تنقون خارج الكأس والسكرجة وداخلهما مملوء اختطافاً وظلماً، أيها الأعمى، نق أولاً داخل الكأس والسكرجة لكيما يتطهر خارجهما، وقال لوقا: اعطو الرحمة فكل شيء يتطهر لكم - الويل لكم لأنكم لا تشبهون القبور المكلسة التي ترى من
24
خارجها حسنة وداخلها مملوء عظام الأموات وكل نجس، وقال لوقا: لأنكم مثل القبور المخفية والناس يمشون عليها ولا يعلمون - انتهى.
وكذلك أنتم ترون الناس ظواهركم مثل الصديقين، ومن داخل ممتلئون إثماً ورياء، قال لوقا: وأنتم أيها الكتبة الويل لكم لأنكم تحملون أوساقاً وأثقالاً وأنتم لا تدنون منها بإحدى أصابعكم، الويل لكم لأنكم أخذتم مفاتيح الغرفة فما دخلتم، ومنعتم الذين يريدون الدخول - انتهى، الويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء، قال لوقا: الذين قتلهم آباؤكم - انتهى، وتزينون مدافن الصديقين وتقولون: لو كنا في أيام آبائنا لم نشاركهم في دم الأنبياء، فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء إنكم تكملون مكيلة آبائكم، أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم، من أجل هذا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فتقتلون منهم وتصلبون وتجلدون منهم في مجامعكم وتطردونهم من مدينة إلى مدينة لكي يأتي عليكم دم الصديقين المسفوك على الأرض، وقال لوقا: وأنتم تشهدون
25
وتسرون بأعمال آبائكم لأنهم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم، ولهذا قالت حكمة الله: هوذا أرسل إليهم أنبياء ورسلاً فيقتلون منهم ويطردونهم لينتقم عن دم جميع الأنبياء الذي أهريق من أول العالم إلى هذا الجيل. وقال متى: من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن براشيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح، الحق أقول لكم إن هذا كله يأتي على هذا الجيل، يا أروشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم من مرة أردت أن أجمع بنيك فيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا، هوذا يترك بينكم لكم خراباً، أنا أقول لكم: إني لا تروني من الآن حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب، وقال مرقس: ثم جاء يسوع عند باب الخزانة ينظر الجمع يلقي نحاساً في الخزانة وأغنياء كثير ألقوا كثيراً، فجاءت امرأة أرملة مسكينة، فألقت فلسين فاستدعى تلاميذه وقال لهم: الحق أقول لكم، إن هذه الأرملة المسكينة ألقت أكثر من الكل الذين ألقوا في الخزانة، لأن الكل القوا من فضل ما عنده، وهذه ألقت مع مسكنتها كل ما لها، ثم خرج من الهيكل - انتهى. هذا ما فيه الدلالة على الرسالة وتصديق التوراة، وأما البشارة بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد تقدم في هذا الكتاب مفرقاً في السور
26
كالأعراف والنساء وغيرهما، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة النبوية جمع ابن إسحاق، قال ابن إسحاق: وقد كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام فيما جاءه من الله تعالى في الانجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أثبت يحنس الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى ابن مريم في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزونني وأيضاً للرب ولكن لا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجاناً أي باطلاً فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس هذا الذي من عند الرب خرج فهو شهيد عليّ وأنتم أيضاً لأنكم قديماً كنتم معي في هذا قلت لكم لكي لا تشكوا.
فالمنحمنا بالسريانية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بالرومية
27
البارقليطس - انتهى.
ولما تم الدليل النقلي على نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى كونه أشرف الأنبياء فاتحاً لهم وخاتماً عليهم، دل على إلزام بني إسرائيل الزيغ فقال: ﴿فلما جاءهم﴾ أي عيسى أو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني إسرائيل وغيرهم ﴿بالبينات﴾ أي من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها ومن الكتاب المبين ﴿قالوا﴾ أي عند مجيئها سواء من غير نظرة لتأمل ولا غيره: ﴿هذا﴾ أي المأتي به من البينات أو الآتي بها على المبالغة كما دل عليه قراءة حمزة «ساحر» إشارة بالإشارة إلى القريب بعد الإشارة - بفاء التعقب إلى شدة اتصال الكفر بأول أوقات المجيء: ﴿سحر﴾ فكانوا أول كافر به، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك وهم بمفردهم أو منضماً إليهم غيرهم ﴿مبين *﴾ أي في البيان في سحريته حتى أن شدة ظهوره في نفسه لكل من رآه أنه سحر عناداً منهم ومكابرة للحق الذي لا لبس فيه.
28
ولما كان التقدير إعلاماً بأنهم أظلم الناس لتعمدهم للكذب: فمن أظلم منهم لتهتكهم في ذلك، عطف عليه قوله: ﴿ومن أظلم﴾ وعم
28
كل من اتصف بوصفهم فقال: ﴿ممن افترى﴾ أي تعمد ﴿على الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿الكذب﴾ الذي هو أقبح الأشياء ﴿وهو﴾ أي والحال أنه ﴿يدعى﴾ أي من أي داع كان ﴿إلى الإسلام﴾ الذي هو أحسن الأشياء فيكفي في الدعاء إليه أدنى تنبيه لأنه الاعتراف بالحق لمن هو له، فيجعل مكان الإجابة افتراء الكذب في تلك الحالة الحسنى.
ولما كان التقدير: فهو لا يهديه الله لأجل ظلمه، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ﴿لا يهدي القوم﴾ أي لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المحاولة للأمور الصعاب ﴿الظالمين *﴾ أي الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام.
ولما أخبر عن ردهم للرسالة، علله بقوله: ﴿يريدون﴾ أي يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم ﴿ليطفئوا﴾ أي لأجل أن يطفئوا ﴿نور الله﴾ أي الملك الذي لا شيء يكافيه ﴿بأفواههم﴾ أي بما يقولون من الكذب لا منشأ له غير الأفواه لأنه لا اعتقاد له في القلوب لكونه لا يتخيله عاقل، فهم في ذلك كالنافخين في الشمس إرادة أن يمحو نفخهم عينها وينقص شينهم زينها، فمثل إرادتهم لإخفاء القرآن بتكذيبهم وجميع كيدهم بمن
29
يريد إطفاء الشمس بنفخه فهو في أجهد وأضل الضلال:
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ويجهد أن يأتي لها بضريب
فأفاد قصر الفعل أن إرادتهم كلها مصروفة لهذا الغرض وأنه لا إرادة لهم غير ذلك وأنه لا ينبغي أن يكون لهم إرادة لأنهم عبيد، والإرادة لا ينبغي إلا للسيد ليكون إرادة العبد تابعة لها، فتكون امتثالاً لإرادته، فكأنه لا إرادة له، فهو أبلغ مما في براءة لأن هذه نتيجتها.
ولما أخبر بعلة إرادتهم وأشار إلى وهي أمرهم بعد أن أخبر بردهم للحق وجرأ عليهم بالإخبار بإضلالهم، زاد ذلك بقوله مظهرا غير مضمر تنبيهاً على جميع صفات الجلال والإكرام: ﴿والله﴾ أي الذي لا مدافع له لتمام عظمته. ولما كانت هذه السورة نتيجة سورة براءة التي أخبر فيها بأنه يأبى إلا إتمام نوره، أخبر في هذه بنتيجة ذلك وهي ثبات تمام النور ودوامه، لأن هذا شأن الملك الذي لا كفوء له إذا أراد شيئاً فكيف إذا أرسل رسولاً فقال: ﴿متم﴾ وهذا المعنى يؤيد قول الجمهور أنها مدينة بعد التأييد بذكر الجهاد، فإن فرضه كان بعد الهجرة من والظاهر من ترتيبها على الممتحنة التي نزلت في غزوة الفتح أنها بعد براءة في النزول أيضاً.
30
ولما كان النور لإظهار صور الأشياء بعد انطماسها سبباً لوضع الأشياء في أتقن مواضعها، وكان ما أتى من عند الله من العلم كذلك، جعل عينه فأطلق عليه اسمه فقال: ﴿نوره﴾ فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه، وزاد ذلك بقوله: ﴿ولو كره﴾ أي إتمامه له ﴿الكافرون *﴾ أي الراسخون في صفة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه.
ولما أخبر بذلك، علله بما هو شأن كل ملك فكيف بالواحد في ملكه فقال: ﴿هو﴾ أي الذي ثبت أنه جامع لصفات الجمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير ﴿الذي أرسل﴾ بما له من القوة والإرادة ﴿رسوله﴾ أي الحقيق بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى ﴿بالهدى﴾ أي البيان الشافي ﴿ودين الحق﴾ أي الملك الذي ثباته لا يدانيه ثبات، فلا ثبات لغيره، فثبات هذا الدين بثباته، ويجوز أن يكون المعنى: والدين الذي هو الحق الثابت في الحقية الكامل فيها كمالاً ليس لغيره، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته إشارة إلى شدة التباسه بها ﴿ليظهره﴾ أي يعليه
31
مع الشهرة وإذلال المنازع ﴿على الدين﴾ أي جنس الشريعة التي تجعل ليجازي من يسلكها ومن يزيغ عنها، بها يشرع فيها من الأحكام ﴿كله﴾ فلا يبقى دين إلا كان دونه وانمحق به وذل أهله له ذلاً لا يقاس به ذل ﴿ولو كره﴾ أي إظهاره ﴿المشركون *﴾ أي المعاندون في كفرهم الراسخون في تلك المعاندة، وأعظم مراد بهذا أهل العناد ببدعة الاتحاد، فإنهم ما تركوا شيئاً مما سواه حتى أشركوا به - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، - وهم مع بعد نحلتهم من العقول وفسادها من الأوهام ومصادمتها لجميع النقول في غاية الكثرة لمصير الناس إلى ما وعد الله ورسوله - وصدق الله ورسوله - من أن أكثرهم قد مرجت عهودهم وخفيت أماناتهم وصاروا حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم، لكنهم على كثرتهم بما تضمنته هذه الآية في أمثالها في غاية الذل ولله الحمد لا عز لهم إلا بإظهار الاتباع للكتاب والسنة وهم يعلمون أنهم يكذبون في هذه الدعوى لأنهم في غاية المخالفة لهما بحيث يعتقدون أنهما شرك لإثباتهما لله تعالى وجوداً يخالف وجود الخلق وهم يقولون مكابرة للضرورة أن الوجود واحد وأنه لا موجود ظاهراً وباطناً سواه، ولذلك سموا الوجود به ثم لا يردهم علمهم بذلهم وأنهم لا عز لهم إلا
32
بحمى الشريعة عن ضلالهم فأعجب لذلك وألجأ إلى الله تعالى بسؤال العافية، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وضربهم بالذل مع كثرتهم في غاية الدلالة على الله سبحانه لأن الملك الكامل القدرة لا يقر من يطعن في ملكه ويسعى فر رد رسالته وإهانة رسله ولقد أنجز سبحانه كثيراً من وعده بما دل - لكونه تغليباً على أقوى الملوك من الأكاسرة والقياصرة - على القدرة على الباقين، وذلك أنه لما تقاعد قومه عن نصرته وانتدبوا لتكذيبه وجحد ما شاهدوه من صدقه يسر الله له أنصاراً من أمته هم نزاع القبائل وأجاد الأفاضل وسادات الأماثل فبلغوا في تأييده أقصى الأمل.
33
ولما أنتج هذا كله نصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل حال ودمار من يخالف أمره، أنتج قطعاً أن الجهاد معه متجر رابح لأن النصر مضمون، والموت منهل لا بد من وروده سواء خاض الإنسان الحتوف أو احترس في القصور المشيدة، فقال تعالى في أسلوب النداء والاستفهام لأنه أفخم وأشد تشويقاً بالأداة التي لا يكون ما بعدها إلا بالغاً في العظم إلى النهاية: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي قالوا
33
في إقرارهم بالإيمان ما عليهم أن يفعلوا بمقتضاه ﴿هل أدلكم﴾ وأنا المحيط علماً وقدرة، فهي إيجاب في المعنى ذكر بلفظ الاستفهام تشويقاً ليكون أوقع في النفس فتكون له أشد تقبلاً، والآية أيضاً نتيجة ما مضى باعتبار آخر لأنه لما وبخ على انحلال العزائم واخبر بما يجب من القتال، وبكت على أذى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمخالفة، وأخبر أن من خالفه لا يضر إلا نفسه، كان موضع الاستباق في طاعته فرتب عليه الاشتياق إلى ذكر ثمرته فذكرها، ولما كان فعل حاطب رضي الله عنه لأجل أنه لا نجاح أهله الذين كانوا بمكة في أنفسهم ولا في شيء من مالهم، وكان هذا في معنى التجارة قال: ﴿على تجارة﴾ وقراءة ابن عامر ﴿تنجيكم﴾ بالتشديد أنسب لهذا المقام من قراءة الجماعة بالتخفيف، وقراءة الجماعة أنسب لمقصود حاطب رضي الله عنه ﴿من عذاب أليم *﴾ بالإجاحة في النفس أو المال.
ولما كان الاتجار إجهاد النفس في تحصيل الربح النافع، وكان الإيمان والجهاد أعظم إجهاد النفس في تحصين - الجنة الباقية التي لا ريح توازيها، فاستعار لهما اسمها، وكان جواب النداء الإقبال
34
وجواب الاستفهام نعم، عدوا كأنهم أقبلوا وأنعموا تنبيهاً على ما هو الأليق بهم، فاستأنف لهم بيان التجارة بأنه الجمع بين الإيمان الذي هو أساس الأعمال كلها، والجهاد بنوعيه المكمل للنفس والمكمل للغير فقال: ﴿تؤمنون﴾ أي آمنوا بشرط تجديد الإيمان على سبيل الاستمرار ﴿بالله﴾ الذي له جميع صفات الكمال ﴿ورسوله﴾ الذي تصديقه آية الإذعان المعنوية والخضوع لكونه ملكاً ﴿وتجاهدون﴾ أي وجاهدوا بياناً لصحة إيمانكم على سبيل التجديد والاستمرار. ويدل على أنهما بمعنى الأمر ما أرشد إليه جزم ما أقيم في موضع الجواب مع قراءة عبد الله رضي الله عنه: آمنوا وجاهدوا - بصيغة الأمر ﴿في سبيل الله﴾ أي بسبب تسهيل طريق الملك الأعظم الموصل إليه الذي لا أمر لغيره بحيث يكون ظرفاً لكم في جميع هذا الفعل فلا شيء يكون منه خارجاً عنه ليكون خالصاً بفتح بلد الحج ليسهل الوصول إليه من كل من أراده وغير ذلك من شرائعه فتكونوا ممن يصدق فعله قوله، وهذا المعنى لا وقفة فيه لأنه فرق بين قولنا: فلان فعل كذا - الصادق بمرة، وبين قولنا بفعله الدال على أن فعله قد صار ديدناً له، فالمعنى: يا من فعل
35
الإيمان إن أردتم النجاة فكونوا عريقين في وصف الإيمان حقيقين به ثابتي الإقدام فيه وأديموا الجهاد دلالة على ذلك فإن الجهاد لما فيه من الخطر والمشقة والضرر أعظم دليل على صدق الإيمان، ويؤيد ذلك أن السياق لقصة حاطب رضي الله عنه المفهمة في الظاهر لعدم الثبات في الإيمان وإرادة الجهاد الدال على المصدق فيه، ولذلك قال عمر رضي الله عنه ما قال - والله الهادي.
ولما كان الجمع بين الروح وعديلها المال على وجه الرضى والرغبة أدل على صحة الإيمان، قال: ﴿بأموالكم﴾ وقدمها لعزتها في ذلك الزمان ولأنها قوام الأنفس والأبدان، فمن بذل ماله كله لم يبخل بنفسه لأن المال قوامها. ولما قدم القوام أتبعه القائم به فقال: ﴿وأنفسكم﴾ ولما أمر بهذا في صيغة الخبر اهتماماً به وتأييداً لشأنه، أشار إلى عظمته بمدحه قبل ذكر جزائه، فقال: ﴿ذلكم﴾ أي الأمر العظيم من الإيمان وتصديقه بالجهاد ﴿خير لكم﴾ أي خاصة مما تريدون من الذبذبة بمناصحة الكفار ﴿إن كنتم﴾ أي بالجبلات الصالحة ﴿تعلمون *﴾ أي إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت من الأوقات فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم، فإذا علمتم، أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر
36
عظيم، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمساً لا رجاء لصلاحها فصلوا على أنفسكم صلاة الموت.
37
ولما كان معنى «تؤمنون» : فالأمر كما تقدم، لكنه حول عن ذلك لما ذكر، وكان أهم ما إلى الإنسان خوفه مما هدد عليه، أمن سبحانه من ذلك دالاً على أصل الفعل بجزم ما هو في موضع الجواب فقال: ﴿يغفر لكم﴾ أي خاصة دون من لم يفعل ذلك ﴿ذنوبكم﴾ أي بمحو أعيانها وآثارها كلها.
ولما قرع القلوب من كدر العقاب والعتاب، لذذها بطيب الثواب فقال: ﴿ويدخلكم﴾ أي بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم ﴿جنات تجري﴾ ودل على قرب الجاري وتخلله الأراضي بالجار فقال: ﴿من تحتها﴾ أي تحت أشجارها وغرفها وكل متنزه فيها ﴿الأنهار﴾ فهي لا تزال غضة زهراء، ولم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لإغناء ما بعده عنه، دل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله بصيغة منتهى الجموع: ﴿ومساكن﴾ ولما كانت المساكن لا تروق إلا بما يقارنها من المعاني الحسنة قال: ﴿طيبة﴾ أي في الاتساع واختلاف
37
أنواع الملاذ وعلو الأبنية والأسرة مع سهولة الوصول إليها وفي بهجة المناظر وتيسر مجاري الريح بانفساح الأبنية مع طيب الغرف، لم يفسد الماء الجاري تحتها شيئاً من ريحها ولا في اعتدالها في شيء مما يراد منها. ولما كانت لا يرغب فيها إلا بدوام الإقامة، بين صلاحيتها لذلك بقوله: ﴿في جنات عدن﴾ أي بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له، ولا آخر لتلك الإقامة، قال حمزة الكرماني في كتابه جوامع التفسير: هي قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش.
ولما كان هذا أمراً شريفاً لا يوجد في غيرها قال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم جداً وحده ﴿الفوز العظيم *﴾. ولما ذكر ما أنعم عليه به في الأخرى لأنه أهم لدوامها، كان التقدير بما دل عليه العطف: هذا لكم، عطف عليه ما جعل لهم في الدنيا فقال: ﴿وأخرى﴾ أي ولكم نعمة، أو يعطيكم، أو يزيدكم نعمة أخرى. ولما كان الإنسان أحب في العاجل وأفرح بالناجز قال: ﴿تحبونها﴾ أي محبة كثيرة متجددة
38
متزايدة، ففي ظاهر هذه البشرى تشويق إلى الجهاد وتحبيب، وفي باطنها حث على حب الشهادة بما يشير إليه من التوبيخ أيضاً على حل العاجل والتقريع: ﴿نصر من الله﴾ أي الذي أحاطت عظمته بكل شيء لكم وعلى قدر إحاطته تكون نصرته ﴿وفتح قريب﴾ أي تدخلون منه إلى كل ما كان متعسراً عليكم من حصون أعدائكم وغيرها من أمورهم في حياة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظمه فتح مكة الذي كتب حاطب رضي الله عنه بسببه، وبعد مماته، وفيه شهادة لحاطب رضي الله عنه بأنه يحب نصرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والفتح عليه مكة وغيرها لصحة إيمانه كما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا ينطق عن الهوى.
ولما كان ما تقدم من المعاتبة إنذاراً لمن خالف فعله قوله من الذين آمنوا، وكان المقام قد أخذ حظه من الإنذار والتوبيخ، طوى ما تقديره: فأنذر من لم يكن راسخاً في الدين من المنافقين، ومن خالف فعله قوله من المؤمنين: عطف عليه دلالة عليه ليكون أوقع في النفس لمن يشير إليه طيه من الاستعطاف قوله: ﴿وبشر المؤمنين *﴾ أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً كحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بأن الله يفتح لك البلاد شرقاً وغرباً، وأول ذلك مكة المشرفة ولا يحوجهم
39
إلى أن يدرؤوا عن عشائرهم وأموالهم ولا أن يكون شيء من أفعالهم يخالف شيئاً من أقوالهم. ولما هز سبحانه إلى الجهاد وشوق إليه بأنه متجر رابح، ولوح إلى النذارة بالتنشيط بالبشارة، فتهيأت النفوس إلى الإقبال عليه وانبعثت أي انبعاث، حض عليه بالإيجاب المقتضي للثواب أو العقاب، فقال منادياً بأداة البعد والتعبير بما يدل على أدنى الأسنان تأنيباً على أنه لا يعدم الوصف بالإيمان إلا مقرون بالحرمان تشويقاً وتحبباً: ﴿يأيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بذلك فأذعنوا بهذا الوعظ غاية الإذعان أني أمرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لكم: ﴿كونوا﴾ أي بغاية جهدكم ﴿أنصار الله﴾ أي راسخين في وصف النصرة وفي الذروة العليا من ثبات الأقدام في تأييد الذي له الغنى المطلق لتكونوا - بما أشارت إليه قراءة الجماعة بالإضافة - بالاجتهاد في ذلك كأنكم جميع أنصاره، فإنكم أشرف من قوم عيسى عليه الصلاة والسلام، وما ندبكم سبحانه لنصرته إلا لتشريفكم بمصاحبة رسله الذين هم خلاصة خلقه عليهم الصلاة والسلام فقولوا سمعنا وأطعنا نحن أنصار الله وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين ولام الجر على معنى: كونوا بعض أنصاره، ويشبه أن يكون المأمور به في هذه القراءة الثبات على
40
الإيمان ولو في أدنى الدرجات، وفي قراءة الجمهور الرسوخ فيه.
ولما كان التقدير على صفة هي من الثبات والسرعة على صفة الحواريين، عبر عن ذلك بقوله: ﴿كما﴾ أي كونوا لأجل أني أنا ندبتكم بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين ﴿قال عيسى ابن مريم﴾ حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام ﴿للحواريين﴾ أي خلص أصحابه وخاصته منهم: ﴿من أنصاري﴾ حال كونهم سائرين في منازل السلوك والمعاملات ومراحل المجاهدات والمنازلات ﴿إلى الله﴾ أي المحيط بكل شيء فنحن إليه راجعون كما كنا به مبدوئين.
ولما اشتد تشوف السامع إلى جوابهم، أبان ذلك بقوله: ﴿قال الحواريون﴾ معلمين أنه جادون في ذلك جداً لا مزيد عليه عاملين فيما دعاهم إليه عمل الواصل لا السائر لعلمهم أنه إجابته إجابة الله لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله: ﴿نحن﴾ أي بأجمعنا ﴿أنصار الله﴾ أي الملك الأعلى الذي هو غني عنا وقادر على تمام نصرنا، ولو كان عدونا كل أهل الأرض ننصره الآن بالفعل، لا نحتاج إلى تدريب يسير ولا نظر إلى غير، لاستحضارنا لجميع ما يقدر عليه الآدمي من صفات جلاله وجماله وكماله، ولذلك أظهروا ولم يضمروا.
ولما كان التقدير: ثم دعوا من خالفهم من بني إسرائيل وبارزوهم،
41
سبب عنه قوله: ﴿فآمنت﴾ أي به ﴿طائفة﴾ أي ناس فيهم أهلية الاستدارة لما لهم من الكثرة ﴿من بني إسرائيل﴾ أي قومه ﴿وكفرت طائفة﴾ أي منهم، وأصل الطائفة: القطعة من الشيء ﴿فأيدنا﴾ أي قوينا بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿الذين آمنوا﴾ أي الذين أقروا بالإيمان المخلص منهم وغيره في القول والفعل وشددنا قلوبهم ﴿على عدوهم﴾ الذين عادوهم لأجل إيمانهم. ولما كان الظفر بالمحبوب أحب ما يكون إذا كان أول النهار، تسبب عن تأييده قوله: ﴿فأصبحوا﴾ أي صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل ﴿ظاهرين *﴾ أي عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً إلا الله ولا يستخفون منه، فالتأييد تارة يكون بالعلم وتارة بالفعل ﴿علمه شديد القوى﴾ [النجم: ٥] فصار علمه في غاية الإحكام وتبعته قوة هي في منتهى التمام، لأنه ناشىء عن علم مستفاد من قوة، وإلا لقال: علمه كثير العلم. ﴿قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك﴾ [النمل: ٤٠] قوة مستفادة من علم، والظاهر كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة﴾ [آل عمران: ٥٥] وغيرها أن تأييد المؤمنين به كان بعد رفعه بيسير حين ظهر
42
الحواريون وانبثوا في البلاد يدعون إلى الله بما آتاهم من الآيات، فاتبعهم الناس، فلما تمادى الزمان ومات الحواريون رضي الله عنهم افترق الناس ودب إليهم الفساد، فغلب أهل الباطل وضعف أهل الحق حتى كانوا عند بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدماً أو في حكم العدم، - كما دلت عليه قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد رجع آخر السورة كما ترى بما وقع من التنزه عما يوهمه علو الكفرة من النقص بنصر أوليائه وقسر أعدائه، ومن الأمر مما أخبر أولها أنه يحبه من القتال في سبيله حثاً عليه وتشويقاً إليه - على أولها، واتصل بما بشر به من آمن ولو على أدنى وجوه الإيمان من العز موصلها بمفصلها، بما أزيل من الأسباب الحاملة له على المداراة، والأمور التي أوقعته في المماشاة مع الكفار والمجاراة، فأوجب ذلك رسوخ الإيمان، وحصول الإتقان، المقتضي للتنزيه بالفعل عن كل شوب نقصان، والله الموفق للصواب وعليه التكلان.
43
سورة الجمعة
مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية الاحتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن بعث للتزكية بالاجتماعه عليه في الجهاد وغيره في العسر واليسر والمنشط والمكره، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته، الحاثة على قوة التواصل والاجتماع، والحاملة على دوام الإقبال على المزكي والحب له والاتباع) بسم الله (الذي أحاط علمه بكل معلوم فتم بيانه) الرحمن (الذي عمت نعمة بيانه بعد شمول كرامة إيجاده فهو العظيم شأنه) الرحيم (الذي خص حزبه بالتوفيق لما يرضاه فثبت فيي سويداء كل منهم حبه له وإيمانه به.
44
Icon