في السورة كسابقاتها تقرير بتسبيح كل ما في السماوات والأرض لله وتنديد ببعض المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون. ودعوة للصدق والتضامن في القتال في سبيل الله وإيذان بحب الله لمن يفعلون ذلك. وتذكير تحذيري بما كان من بني إسرائيل إزاء موسى عليه السلام من إزعاج وأذى. وحكاية لقول عيسى عليه السلام لقومه بماهية رسالته وبشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعده. وإيذان بأن الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون الدين الظاهر على جميع الأديان. وبأن سيتم نوره ويحبط جهد الذين يريدون إطفاءه وبشارة دنيوية وأخروية للمجاهدين في سبيل الله وحث على الجهاد. ودعوة للتأسي بالحواريين في نصر دين الله.
وآيات السورة مترابطة ووحدة تامة وفيما جاء في صدد موسى وعيسى عليهما السلام تدعيم موقف النبي من الدعوة إلى الجهاد مما يحمل على الترجيح بنزولها دفعة واحدة أو متتابعة مع التنبيه إلى أن هناك حديثا يذكر أنها نزلت دفعة واحدة في مناسبة معينة على ما سوف يرد بعد١.
وقد قال الزمخشري : إن السورة مكية. وروى بعضهم هذا عن عطاء أيضا٢. وهذا عجيب وفيه مثال للاهتمام بالرواية أكثر من النص. فحث المؤمنين على الجهاد والقتال في السورة والتنديد بالمقصرين فيه يجعلان احتمال مكيتها مستحيلا ؛ لأن القتال إنما فرض وحرض عليه بعد الهجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن للمسلمين في مكة حتى ولا بمقابلة المشركين بأذى على آذاهم، وقد هدأهم القرآن وطلب منهم التسامح في آية سورة الجاثية هذه ﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ ( ١٤ ) على ما شرحناه في سياقها، وإلى هذا المعنى أشارت آية سورة النساء هذه ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ٧٧ ﴾.
وفي السورة آيات قد تكون قرينة على كوزنها نزلت قبيل صلح الحديبية ووقعة خيبر.
وهاتان الوقعتان قد أشير إليهما في سورة الفتح التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة ؛ حيث يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيبها. والله اعلم.
ولقد ذكر المفسر الطبرسي : إن السورة تسمى بسورة الحواريين وبسورة عيسى عليه السلام ولم يذكر لذلك سندا.
٢ الطبرسي البغوي.
ﰡ
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ( ٢ ) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ( ٣ ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( ٤ ) ﴾.
عبارة الآيات واضحة، والآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها.
والآيتان الثانية والثالثة احتوتا عتبا وتنديدا موجها إلى المسلمين الذين لا ينفذون بالفعل ما يقولونه ويعدون به باللسان، وتنبيها إلى ما فيه هذا من موجبات مقت الله الكبير وغضبه، أما الآية الرابعة فقد احتوت حثا على القتال في سبيل الله بعزم وتراص وتضامن وإيذانا بأن الله يحب الذين يفعلون ذلك.
وقد تلهم هذه الآية أن التنديد السابق هو للذين يعدون بالقتال، ولا يقاتلون وهذا ما روته الروايات كسبب من أسباب النزول على ما سوف نذكره بعد هذا.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيها من صور وتلقين :
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في سبب نزول الآيات وفي من عنته، منها أنها في المنافقين بسبب إخلافهم ما وعدوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاشتراك في القتال والتضامن مع سائر المسلمين فيه. ومنها أنها نزلت في جماعة كانوا يتبجحون بأنهم قاتلوا وجهدوا كذبا. ومنها أنها نزلت في شخص ادعى كذبا بأنه قتل شخصا كافرا في حين أن الذي قتله شخص آخر، ومنها أنها نزلت في جماعة من المسلمين لم يشهدوا وقعة بدر، فلما سمعوا ما أعد الله لشاهديها من أجر، وما كان من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وعدوا بالقتال مثلهم حتى يحرزوا درجتهم في أول حرب، ثم انهزموا في واقعة أحد ومنها ما روي في حديث عن عبد الله بن سلام الصحابي بطرق عديدة، مع اختلاف في الصيغة، وقد جاء في بعض هذه الصيغ التي أخرجها ابن أبي حاتم أن عبد الله ابن سلام قال :( إن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل، فلم يذهب إليه أحد منا، وهبنا أن نسأله عن ذلك، فدعا رسول الله أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة الصف، فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها٢ وهناك رواية عن مقاتل أوردها ابن كثير جاء فيها ( قال المؤمنون : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال :﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ﴾ فبين لهم فابتلوا بيوم أحد بذلك فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين فأنزل الله ﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ﴾.
والرواية الأخيرة لأنها تجعل نزول الآية الثالثة مقدما على نزول الآية الثانية.
والتنديد الشديد في الآيات يدل كما هو ظاهر على أنها في صدد جماعة كانوا يعدون بالجهاد ثم يخلفون. وهذا متسق مع بعض الروايات، ولقد حكت آيات عديدة في سورة آل عمران والأحزاب والنساء والنور مثل ذلك عن المنافقين. وفي سورة الأحزاب آية صريحة في ذلك ﴿ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا ﴾ أن المقصود في الآيات منهم وفي سورة النور آية صريحة أخرى ﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ﴾.
وشدة التنديد تدل على أن موقف المندد بهم كان مثيرا للمقت والسخط، إما بتكرره وإما في ظروفه، وهذا لا يكون على الأرجح إلا من المنافقين ولعل الآيات تنطوي على تقرير كون هذا الموقف مما آلم النبي صلى الله عليه سلم وآذاه. وقد يكون في الآيات التالية التي تذكر بمواقف قوم موسى المؤذية من نبيهم رغم اعترافهم بنبوته وتندد بهم وتصفهم بالفسق والانحراف قرينة على ذلك، والله اعلم.
وأسلوب الآيات عام، وتلقينها مستمر المدى لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان وقوة الآيات تهز النفس هزا شديدا سواء بإيذانها بمحبة الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أم بشدة مقت الله الذين يقولون ما لا يفعلون، وفي القرآن آيات كثيرة جدا في الأمرين أي في التنديد بالمتثاقلين عن الجهاد المثبطين عنه المخلفين بوعودهم به والتنويه بالذين يقاتلون بصدق وإخلاص، وقد جاء كثير منها في سور سبق تفسيرها. ومنها ما جاء في سور نزلت بعد هذه السورة ؛ حيث يدل كل ذلك على ما أعاره القرآن الكريم من عناية عظمى لهذا الركن العظيم الذي كتب على المسلمين لما فيه من حياطة أمرهم وقوام وجودهم وكرامتهم وأمنهم وسلامتهم وعزة الإسلام وقوته.
وقد تكون جملة ﴿ يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص٤ ﴾ قد عنت أسلوبا من أساليب القتال في ذلك الزمن. ولكن المتبادر أن فيها تلقينا واسع المدى وشاملا، بحيث يتناول مقاتلة العدو وبكل أسلوب يضمن النصر عليه بكل وسيلة من وحدة القوى المادية والمعنوية وأساليب الحرب المتنوعة ومن التعاون التام بين المسلمين في كل ذلك ومن بذل كل ما يمكن من الاستعداد والأموال ومن إظهار كل ما يجب من عزيمة وتصميم دون ترك أي ثغرة في ذلك. وفي القرآن آيات فيها هذا التوجيه بصراحة ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات البقرة ( ١٩٥ ) والنساء ( ٧٥ و ٧٦ و ١٠٤ } والأنفال ( ٦٠ ) ومحمد ( ٣٨ ).
ولقد قال غير واحد من المفسرين٣ : إن الآيتين الثانية والثالثة عامة الشمول لكل إخلاف بوعد أو نكول عن عهد ونذرا أو قول يكذبه الفعل. وقد يكون في هذا وجاهة بسبب الأسلوب المطلق الذي جاءت عليه الآيتان. مع التنبيه على أن الآية الثالثة التي هي منسجمة معها تلهم أن الآيات تهدف بالدرجة الأولى إلى التنديد بالذين يخلفون وعودهم بالقتال في سبيل الله والصدق فيه. وقد قال ابن كثير : إن الجمهور قد حملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فرض الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم. مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه، ومع ذلك فإن القول بالنسبة للآيتين بخاصة يظل يحتفظ بوجاهته البديهية، من حيث استحقاق الذين يكذبون في أقوالهم ولا ينفذون عهودهم ووعودهم ويخلفون فيها التنديد الرباني المنطوي في الآيتين. فالقرآن قد حظر وشجب الكذب والنكث والإخلاف ولعن الكاذبين وندد بالناكثين والمخلفين. في آيات كثيرة مكية ومدنية في سور عديدة سبق تفسيرها. والأحاديث النبوية المتساوقة مع ذلك كثيرة أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة. وهناك حديثان مهمان رواهما الأربعة البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود يحسن أن نعيد إيرادهما واحد رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ) وواحد رواه عبد الله ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب. وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر ) حيث يفيدان أن الأخلاق التي نددت بها الآيتان وقررت استحقاق صاحبها لمقت الله الشديد هي صفات المنافقين دون المؤمنين الصادقين المخلصين.
٢ هذا النص من ابن كثير وقد أورد هذا المفسر نصا آخر أخرجه الإمام أحمد بطريق آخر مقارب لهذا النص، وقد روى الترمذي نصا آخر ليس فيه إشارة تفيد أن السورة جميعها نزلت في هذه المناسبة كما ليس فيه ما ينفي ذلك؛ حيث جاء فيه عن عبد الله ابن سلام (قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله (سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ١ يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون ٢} التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢٣٣.
٣ انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي والقاسمي.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ﴾ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين وما في بشارة عيسى بنبوة النبي ومن وعد الله بإظهار دين الإسلام على الدين كله.
لم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد. ففي الآيات السابقة تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون وإيذان لما في ذلك من موجبات غضب الله ومقته الشديدين.
فجاءت هذه الآيات :
( ١ ) لتذكر على سبيل العظة والزجر والتمثيل بما كان من قوم موسى إزاء موسى عليه السلام من مواقف مؤذية محكية عن لسانه، مع تأكدهم بأنه رسول الله إليهم، وبما كان من انتقام الله منهم حينما انحرفوا عن جادة الحق ؛ حيث أزاغ الله قلوبهم لأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد الفاسقين المتمردين عليه.
( ٢ ) ولتستطرد بهدف توكيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقوة ما فيها من الحق والنور الإلهي، وحمل المؤمنين بها على الثبات عليها وتأييدها والاستجابة إلى ما يدعوهم النبي إليه من جهاد وغير جهاد إلى ما كان من بشارة عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ حيث حكت قوله لبني إسرائيل إنه رسول الله إليهم مصدقا بالتوراة التي أنزلت قبله ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد بسبيل تدعيم موقف النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ودعوته.
( ٣ ) ولتندد بما كان من موقف الكفار من النبي محمد المبشر به حينما جاءهم وقولهم عن رسالته إنها سحر.
( ٤ ) ولتؤكد انتصار دينه وانتشار نور الله وتمامه نتيجة لذلك حتى يغلبا ما عداهما برغم كل المحاولات المعطلة من الكفار والمشركين وبعبارة قوية داوية ؛ حيث تقرر أولا : إنه ليس من أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب فيقول عن آياته : إنها سحر بينما هي تدعو إلى الإيمان بالله والإسلام إليه. وثانيا : إن المعطلين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ومواقفهم وأقوالهم، ولكن الله تعالى سوف يتم نوره وينشره حتى يملأ الكون على الرغم من الكافرين. وثالثا : إن الله قد أرسل رسوله بالهدى والدين الحق الواضح وإنه لجاعل له السيادة والغلبة والظهور على جميع الأديان حتى يصبح دين العالم كله على الرغم من المشركين، ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الفاعل المستتر في جملة ﴿ جاءهم ﴾ إلى عيسى وصرفها بعضهم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الطبري وقد رجحناه وأخذنا به في شرحنا الآنف استلهاما من الآيات الثلاث الأخيرة. والله اعلم.
هذا، ويصح أن يكون المقصودون في جملة ﴿ فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ٦ ﴾ كفار العرب كما يصح أن يكونوا الذين كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، ونحن نرجح الاحتمال الثاني ؛ لأن الكلام في صدد بني إسرائيل وفي القرآن آيات عديدة ذكرت كفر بني إسرائيل بهذه الرسالة مر إيرادها وتفسيرها في سورة البقرة وآل عمران والنساء. وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث التي جاءت بعدها قد قصدت كفار بني إسرائيل أيضا. وقد جاءت مع ذلك بأسلوب عام لتكون شاملة لجميع الكفار والمشركين من جهة، وليكون ما فيها أعم مدى من موقف جحود الإسرائيليين من الرسالة المحمدية من جهة أخرى. وهذا أسلوب من أساليب القرآن. والله تعالى أعلم.
ولقد حكت آيات كثيرة جدا مواقف الجحود التي وقفها أكثرية الإسرائيليين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مر تفسيرها، وفي سور أخرى سيأتي تفسيرها أيضا، وفيها تنديد شديد بهم لأنهم وقفوا هذه المواقف وهم يعرفون صدق رسالة النبي ويعترفون بها ويبشرون بذلك، ويستفتحون أي يزهون به على مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أعلن تصديقه وإيمانه على ما شرحناه في سياق تلك السور شرحا يغني عن التكرار.
ولقد قال المفسرون : إن الأذى الذي كان يقع على موسى من قومه هو تعجيزهم به بالمطالب كقولهم ﴿ لن نصبر على طعام واحد ﴾ وهذا حكته آية البقرة ( ٦١ ) وقولهم ﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ وهذا حكته آية البقرة ( ٥٥ ) وكقولهم ﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا ﴾ أو رميهم إياه بالبرص أو تآمر قارون عليه أو رميه بالزنا الخ. ولقد ورد في الآية ( ٦٩ ) من سورة الأحزاب إشارة إلى ما كان يقع على موسى من أذى من قومه. والراجح أن الأذى المحكي هنا عن لسان موسى هو من نوع ما عنته آية الأحزاب وقد أوردنا ما ورد في ذلك من أقوال وروايات وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.
وآية الأحزاب نهت المسلمين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى. وقد جاءت بعد آيات فيها إنذار رهيب للذين يؤذون الله ورسوله خاصة والمؤمنين والمؤمنات عامة حيث ربطت بين الموقفين على سبيل المقارنة والإنذار على ما شرحناه في سياقها، والمتبادر من موقف الذين يقولون ما لا يفعلون الذي حكته الآية الثانية من السورة، ونددت به الآية الثالثة والذي هو على ما رجحنا بصدد عدم تصديق أقوالهم ووعودهم بالقتال بالفعل قد كان مما آذى رسول الله واستوجب شدة مقت الله فاقتضت حكمة التنزيل أن يعاد التذكير والمقارنة والتنديد في هذا المقام وإن اختلف الأسلوب ؛ حيث نهت آية الأحزاب المؤمنين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى، وحيث جاء ذلك حكاية عن لسان موسى.
ولقد كانت الدعوة إلى الجهاد ضد الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين والحركة التي انبثقت من ذلك قد شغلتا جزءا عظيما من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجهده في العهد المدني وفي القرآن المدني. ولقد حكت آيات في سورتي آل عمران والنساء التي سبق تفسيرها مواقف بعض المسلمين، وبخاصة مرضى القلوب والمنافقين من الدعوة إلى القتال في سبيل الله لدفع عدوان المعتدين ولنصرة المستضعفين الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد المشركين مما كان يثير في نفس النبي مرارة شديدة، وحملت عليهم حملات قارعة. فالمتبادر أن الموقف الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة موقف جديد أثار المرارة من جديد في نفس النبي فاقتضت حكمة التنزيل مقابلته بما جاء في الآيات الأولى ثم بالتذكر بما كان من مواقف قوم موسى المؤذية وما كان من نكال الله لهم وبالتأكد بأن الله ناصر دينه وناشر نوره رغم كل المواقف والأسلوب الذي جاء به هذا التأكيد في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها قوي بعث أشد اليقين في النفس، وهو ما قصدته حكمة التنزيل على ما هو المتبادر.
ولقد تكرر وعد الله بتمكين دينه ونصر رسوله والمؤمنين في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سبق تفسيرها، غير أن التوكيد بإظهار هذا الدين على الدين كله أتى هنا لأول مرة، وقد تكرر بعد هذا مرتين واحدة في سورة الفتح التي يقع ترتيبها بعد هذه السورة وأخرى في سورة التوبة بنص قريب لنص آيات الصف.
وبالإضافة إلى ما في الآيات من قصد تدعيم موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى الجهاد والتنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون، وهو القصد القريب المباشر والله أعلم، وبالإضافة إلى ما فيها من تحد مطلق للكافرين والمشركين وإيذان بوعد الله تعالى بإظهار الدين الذي أرسل به محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله، فإن جملة ﴿ بالهدى ودين الحق ﴾ تنطوي على تقرير ما في الرسالة المحمدية من هدى وحق يتمثلان في ما احتواه القرآن الكريم والسنن النبوية الشريفة من مبادئ وقواعد وتشريعات ووصايا وتنبهات وتلقينات وتوجيهات ومعالجات وأوامر ونواه إيمانية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأسرية ( الأسرة ) وسلوكية وشخصية وتبشيرية وروحية من شأنها ضمان السعادة العظمى للبشرية في الدنيا والآخرة على أهم وجه وأوسعه وأفضله. ولقد دعا هذا الدين إلى الله وحده المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن كل نقص ومماثلة. وقرر ربوبيته للعالمين جميعا دون اختصاص واستغناء وتنزهه عن الشريك والمساعد والولد بأي معنى كان وسواء أكان ذلك تأويلا أم وسيلة أم شفاعة. وحارب بكل قوته ودونما هوادة كل أنواع ومظاهر الشرك التي تمثل انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق وممثلة لنظام جاهلي فيه تقاليد وعادات منكرة وعصبيات ممقوتة. وهدف إلى القضاء إلى ما طرأ على الديانات السماوية، وبخاصة على الديانتين المعروفة يقينا مصدريتهما من الله الممارستين أي اليهودية والنصرانية من سوء تأويل وانحراف وانقسام واختلاف وتهاتر، وإلى تحرير الإنسانية من الخضوع لأية قوة خفية وظاهرة غير الله. وفتح آفاق الحياة للمؤمنين بهذا الدين على مصراعيها في نطاق أسمى المبادئ وأكرم الأخلاق وأفضل المناهج والخطط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفردية والإنسانية وأشدها مرونة للنهوض إلى ذرى الكمال في كل مجال من مجالات الحياة وتوجيهها نحو أحسن السبل وأشرفها وأنزهها وأعدلها وأتمها صفاء وسناء شاملة للناس جميعهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وفئاتهم ؛ ليكونوا تحت راية متساوين في الحقوق والواجبات على اختلاف مفاهيمها. وليقوم في ظله عالم واحد ونظام واحد ودين واحد ولغة واحدة وبكلمة واحدة مجتمع إنساني واحد. يتولى الأمر فيه الصالحون خلقا ودينا والأكفاء الحريصون على المصلحة العامة. لا طاعة فيه لسلطان بمعصية وضرر ولا سند لحاكم فيه إلا كتاب الله وسنة رسوله ومصلحة العباد والبلاد المتسقة معهما. و مكان فيه لظالم جبار وطاغية مسيطر. والشورى فيه صفة أساسية لأهله وواجب ملزم لحكامه. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الأمر بكل ما فيه خير وصلاح ونفع والنهي عن كل ما فيه شر وفساد وضرر وبغي وظلم والدعوة إلى الخير والسلام والتواد والتراحم والتواصي بالصبر والحق والمرحمة من واجبات كل فئة منه حاكمة أو محكومة. وصفة أساسية وخصائص ذاتية لأهله، نتيجة لإسلامهم. لا يسمح فيه باستقطاب الثروة في جانب والفقر في جانب وللدولة حق التوجيه، ويؤخذ فيه من الغني للفقير بالإضافة إلى ما أوجب على الدولة من مساعدة الفقير العاجز. ويمنع في
تعليق على الآية :
﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ١٠ ﴾، والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين ورد على زعم المستشرقين بأن الغنائم كانت هدف الجهاد.
عبارة الآيات واضحة، ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها متصلة بمطلع السورة. وفيها عود على بدء الحث على الجهاد، وهذا يؤيد ما قلناه إن الآيات التي جاءت بعد ذلك المطلع قد جاءت على سبيل التعقيب والاستطراد والتدعيم، ويسوغ ترجيح نزول هذه الآيات وما قبلها معا.
وأسلوب الحث والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين اللذين وجه إليهم الخطاب : أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر ؛ لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه، وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسره الله لهم.
وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة.
وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح.
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من بشارة دنيوية، وما احتوته آيات أخرى من إشارة إلى الغنائم التي تدخل في يد المسلمين نتيجة للحركات الجهادية التي يقومون بها وسيلة لغمز الأغيار وقولهم : إن القرآن كان يثير في نفوس المسلمين مطامع الغنائم والفتح ليحملهم على القتال حتى لقد قال بعضهم : إن بعض الوقائع الحربية مثل وقعة خيبر لم تكن إلا وسيلة إلى ملء أيدي المسلمين بالمغانم ومكافأة لهم على الإسلام.
وننبه أولا : على أن حث المسلمين على القتال لم يقتصر في أي موضع قرآني على الإغراء بنتائجه الدنيوية، بل كان الترغيب في ذلك يأتي على الهامش كما يظهر من هذه الآيات وآيات كثيرة أخرى منها ما مر ومنها ما سوف يأتي، بل إن أكثر الآيات التي حثت المسلمين على الجهاد قد اقتصرت على الترغيب برضاء الله وجزائه الأخروي، وعلى بيان ما في الجهاد من واجب عظيم وضرورة مبرمة لإعلاء كلمة الله ومقابلة العدوان، وضمان حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين وأمنهم. ومن دليل على صحة إيمان المؤمنين، بل وكان الخطر والقتل والأذى والجهد هو الأكثر توقعا وورودا، والذي نبه إليه القرآن في آيات كثيرة١.
وثانيا : على أننا لسنا نرى شذوذا أو محلا للغمز في القرآن حتى فيما يحتويه من بشرى الفتح والغنائم والترغيب فيهما ؛ لأن ذلك متسق كل الاتساق مع طبيعة الحياة، وهذا هو أسلوب القرآن عامة في معالجة الأمور كما نبهنا على ذلك في مناسبات عديدة سابقة ونوهنا بما في هذا من حكمة سامية ترشح الشريعة الإسلامية للخلود.
تعليق على الآية :
﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ١٠ ﴾، والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين ورد على زعم المستشرقين بأن الغنائم كانت هدف الجهاد.
عبارة الآيات واضحة، ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها متصلة بمطلع السورة. وفيها عود على بدء الحث على الجهاد، وهذا يؤيد ما قلناه إن الآيات التي جاءت بعد ذلك المطلع قد جاءت على سبيل التعقيب والاستطراد والتدعيم، ويسوغ ترجيح نزول هذه الآيات وما قبلها معا.
وأسلوب الحث والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين اللذين وجه إليهم الخطاب : أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر ؛ لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه، وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسره الله لهم.
وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة.
وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح.
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من بشارة دنيوية، وما احتوته آيات أخرى من إشارة إلى الغنائم التي تدخل في يد المسلمين نتيجة للحركات الجهادية التي يقومون بها وسيلة لغمز الأغيار وقولهم : إن القرآن كان يثير في نفوس المسلمين مطامع الغنائم والفتح ليحملهم على القتال حتى لقد قال بعضهم : إن بعض الوقائع الحربية مثل وقعة خيبر لم تكن إلا وسيلة إلى ملء أيدي المسلمين بالمغانم ومكافأة لهم على الإسلام.
وننبه أولا : على أن حث المسلمين على القتال لم يقتصر في أي موضع قرآني على الإغراء بنتائجه الدنيوية، بل كان الترغيب في ذلك يأتي على الهامش كما يظهر من هذه الآيات وآيات كثيرة أخرى منها ما مر ومنها ما سوف يأتي، بل إن أكثر الآيات التي حثت المسلمين على الجهاد قد اقتصرت على الترغيب برضاء الله وجزائه الأخروي، وعلى بيان ما في الجهاد من واجب عظيم وضرورة مبرمة لإعلاء كلمة الله ومقابلة العدوان، وضمان حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين وأمنهم. ومن دليل على صحة إيمان المؤمنين، بل وكان الخطر والقتل والأذى والجهد هو الأكثر توقعا وورودا، والذي نبه إليه القرآن في آيات كثيرة١.
وثانيا : على أننا لسنا نرى شذوذا أو محلا للغمز في القرآن حتى فيما يحتويه من بشرى الفتح والغنائم والترغيب فيهما ؛ لأن ذلك متسق كل الاتساق مع طبيعة الحياة، وهذا هو أسلوب القرآن عامة في معالجة الأمور كما نبهنا على ذلك في مناسبات عديدة سابقة ونوهنا بما في هذا من حكمة سامية ترشح الشريعة الإسلامية للخلود.
تعليق على الآية :
﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ١٠ ﴾، والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين ورد على زعم المستشرقين بأن الغنائم كانت هدف الجهاد.
عبارة الآيات واضحة، ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها متصلة بمطلع السورة. وفيها عود على بدء الحث على الجهاد، وهذا يؤيد ما قلناه إن الآيات التي جاءت بعد ذلك المطلع قد جاءت على سبيل التعقيب والاستطراد والتدعيم، ويسوغ ترجيح نزول هذه الآيات وما قبلها معا.
وأسلوب الحث والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين اللذين وجه إليهم الخطاب : أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر ؛ لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه، وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسره الله لهم.
وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة.
وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح.
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من بشارة دنيوية، وما احتوته آيات أخرى من إشارة إلى الغنائم التي تدخل في يد المسلمين نتيجة للحركات الجهادية التي يقومون بها وسيلة لغمز الأغيار وقولهم : إن القرآن كان يثير في نفوس المسلمين مطامع الغنائم والفتح ليحملهم على القتال حتى لقد قال بعضهم : إن بعض الوقائع الحربية مثل وقعة خيبر لم تكن إلا وسيلة إلى ملء أيدي المسلمين بالمغانم ومكافأة لهم على الإسلام.
وننبه أولا : على أن حث المسلمين على القتال لم يقتصر في أي موضع قرآني على الإغراء بنتائجه الدنيوية، بل كان الترغيب في ذلك يأتي على الهامش كما يظهر من هذه الآيات وآيات كثيرة أخرى منها ما مر ومنها ما سوف يأتي، بل إن أكثر الآيات التي حثت المسلمين على الجهاد قد اقتصرت على الترغيب برضاء الله وجزائه الأخروي، وعلى بيان ما في الجهاد من واجب عظيم وضرورة مبرمة لإعلاء كلمة الله ومقابلة العدوان، وضمان حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين وأمنهم. ومن دليل على صحة إيمان المؤمنين، بل وكان الخطر والقتل والأذى والجهد هو الأكثر توقعا وورودا، والذي نبه إليه القرآن في آيات كثيرة١.
وثانيا : على أننا لسنا نرى شذوذا أو محلا للغمز في القرآن حتى فيما يحتويه من بشرى الفتح والغنائم والترغيب فيهما ؛ لأن ذلك متسق كل الاتساق مع طبيعة الحياة، وهذا هو أسلوب القرآن عامة في معالجة الأمور كما نبهنا على ذلك في مناسبات عديدة سابقة ونوهنا بما في هذا من حكمة سامية ترشح الشريعة الإسلامية للخلود.
تعليق على الآية :
﴿ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ١٠ ﴾، والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين ورد على زعم المستشرقين بأن الغنائم كانت هدف الجهاد.
عبارة الآيات واضحة، ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها متصلة بمطلع السورة. وفيها عود على بدء الحث على الجهاد، وهذا يؤيد ما قلناه إن الآيات التي جاءت بعد ذلك المطلع قد جاءت على سبيل التعقيب والاستطراد والتدعيم، ويسوغ ترجيح نزول هذه الآيات وما قبلها معا.
وأسلوب الحث والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين اللذين وجه إليهم الخطاب : أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر ؛ لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه، وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسره الله لهم.
وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة.
وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح.
ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من بشارة دنيوية، وما احتوته آيات أخرى من إشارة إلى الغنائم التي تدخل في يد المسلمين نتيجة للحركات الجهادية التي يقومون بها وسيلة لغمز الأغيار وقولهم : إن القرآن كان يثير في نفوس المسلمين مطامع الغنائم والفتح ليحملهم على القتال حتى لقد قال بعضهم : إن بعض الوقائع الحربية مثل وقعة خيبر لم تكن إلا وسيلة إلى ملء أيدي المسلمين بالمغانم ومكافأة لهم على الإسلام.
وننبه أولا : على أن حث المسلمين على القتال لم يقتصر في أي موضع قرآني على الإغراء بنتائجه الدنيوية، بل كان الترغيب في ذلك يأتي على الهامش كما يظهر من هذه الآيات وآيات كثيرة أخرى منها ما مر ومنها ما سوف يأتي، بل إن أكثر الآيات التي حثت المسلمين على الجهاد قد اقتصرت على الترغيب برضاء الله وجزائه الأخروي، وعلى بيان ما في الجهاد من واجب عظيم وضرورة مبرمة لإعلاء كلمة الله ومقابلة العدوان، وضمان حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين وأمنهم. ومن دليل على صحة إيمان المؤمنين، بل وكان الخطر والقتل والأذى والجهد هو الأكثر توقعا وورودا، والذي نبه إليه القرآن في آيات كثيرة١.
وثانيا : على أننا لسنا نرى شذوذا أو محلا للغمز في القرآن حتى فيما يحتويه من بشرى الفتح والغنائم والترغيب فيهما ؛ لأن ذلك متسق كل الاتساق مع طبيعة الحياة، وهذا هو أسلوب القرآن عامة في معالجة الأمور كما نبهنا على ذلك في مناسبات عديدة سابقة ونوهنا بما في هذا من حكمة سامية ترشح الشريعة الإسلامية للخلود.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾ وما فيها من تلقين، وهذه الآية متصلة بالموضوع نفسه بأسلوب آخر فيه تمثيل وتذكير وحث ودعوة إلى التأسي :
( ١ ) فالمؤمنون مدعوون إلى أن يكونوا أنصار الله.
( ٢ ) وعليهم أن يتأسوا بالحواريين الذين استجابوا إلى دعوة عيسى ابن مريم عليه السلام حينما هتف من أنصاري إلى الله فأعلنوا أنهم أنصار الله.
( ٣ ) وكان نتيجة لذلك أن آمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى ورسالته وكفرت طائفة فأيد الله المؤمنين على أعدائهم الكافرين فظهروا عليهم وانتصروا.
والفقرة الأخيرة من الآية تنطوي على بشارة ضمنية أخرى للمسلمين إذا ما استجابوا إلى دعوة الجهاد يكون الله مؤيدهم على الذين كفروا ومظهرهم عليهم.
والفقرة تنطوي كذلك على بيان أسباب ما سجله التاريخ قبل نزولها وإلى حين نزولها، وهي انتصار الذين آمنوا بعيسى عليه السلام على الذين كفروا به من بني إسرائيل.
والآية وثيقة الصلة بما قبلها، والمرجح أنها نزلت معها ومع ما قبلها معا.
والحواريون يذكرون هنا للمرة الثانية، وقد ذكروا في المرة الأولى في الآية ( ٥٢ ) من سورة آل عمران التي ذكر فيها ما ذكر في هذه الآية من أنهم قالوا : نحن أنصار الله حينما هتف عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله. ثم ذكروا للمرة الثالثة في أواخر سورة المائدة بأسلوب آخر حيث جاء في آية أنهم آمنوا نتيجة لوحي الله لهم بذلك، ثم طلبوا من عيسى استنزال مائدة من السماء كوسيلة إلى ازدياد إيمانهم بصدق عيسى ورسالته، فدعا عيسى ربه فاستجاب له وأنزل المائدة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وقد شرحنا ماذا تعني الكلمة في سياق آية آل عمران المذكورة وأوردنا أسماء الحواريين فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة. وواضح أن العبارة القرآنية لا تفيد أن الحواريين هم فقط الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام من بني إسرائيل في حياته، بل تفيد أن جماعة أخرى قد آمنوا أيضا، وهو ما كان حقا.
وجملة :﴿ فأصبحوا ظاهرين ﴾ قد تفيد أن الانتصار الذي تم للمؤمنين برسالة عيسى عليه السلام على الكافرين بها قد وقع بعد وقت ما. وهو ما كان حقا أيضا.