تفسير سورة الصف

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الصف من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
أهداف سورة الصف
( سورة الصف مدنية، وآياتها ١٤ آية، نزلت بعد سورة التغابن )
وهي سورة تدعو إلى وحدة الصف، وتماسك الأمة، وتحث على الجهاد، وتنفّر من الرياء، وتبين أن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى الأرض، وأن رسالات السماء كانت دعوة هادفة لبناء الإنسان والدعوة إلى الخير والعدل، وقد أرسل الله موسى بالتوراة، فلما انحرف اليهود عن تعاليم السماء أرسل الله عيسى عليه السلام مجددا لناموس التوراة، ومبشرا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، متممة للرسالات السابقة، مشتملة على مبادئ الحق واليسر والعدل والمساواة، وقد كره المشركون انتصار النور والخير فحاولوا مقاومة هذه الدعوة وإطفاء نورها، ولكن الله أيد الإسلام حتى طوى ممالك الفرس والروم، وعمّ المشارق والمغارب.
وقد حاولت الصليبية الحاقدة اجتياح بلاد الإسلام في فترات متعددة، من بينها الحروب الصليبية التي انتهت بهزيمة المعتدين وانتصار المسلمين، ووجهت الصليبية ضرباتها للمسلمين في الأندلس، وحاولت تصفية الإسلام أيام الدولة العثمانية، وأطلقت على تركيا لقب : الرجل المريض، وعلى البلاد التي تحت يدها : تركة الرجل المريض، فلما قام كمال أتاتورك بإعلان إلغاء الخلافة الإسلامية كبر له الغرب وهلل، وتراجعت جيوشه من أمام تركيا، وجعلوا من أتاتورك بطلا عملاقا لقضائه على الخلافة الإسلامية.
وفي هذه الأيام تقوى الحركة الإسلامية في تركيا، وتمتلئ المساجد والمدارس الإسلامية بالباحثين وتشتد سواعد الحزب الإسلامي هناك، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
سبب نزول السورة
جمهور المفسرين على أن صدر هذه السورة نزل حين اشتاق المسلمون إلى معرفة أحب الأعمال إلى الله، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾. ( الصف : ٤ ).
فلما أخبرهم الله بأن أفضل الأعمال بعد الإيمان هو الجهاد في سبيل الله، كره قوم الجهاد، وشق عليهم أمره : فقال الله سبحانه وتعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾. ( الصف : ٢-٣ ).
هدفا السورة
لسورة الصف هدفان رئيسيان :
الهدف الأول : الدعوة إلى الجهاد والحثّ عليه، والتحذير من كراهيته والفرار منه، وبيان ثوابه وفضله، وأنه تجارة رابحة. وتبع ذلك ترسيخ العقيدة، ووجوب اتفاق الظاهر مع الباطن، ووجوب الطاعة للقائد، وتماسك الأمة، وترابط بنيانها حتى تصبح صفا واحدا، محكم الأساس، قوي الوشيجة والرباط، كأنه بنيان مرصوص.
فالآيات الأربع الأولى دعوة للجهاد، وتحذير من الخوف والجبن، وبيان أن العقيدة السليمة تستتبع التضحية والفداء، حتى يصبح جيش الإسلام قوي البناء متلاحم الصفوف.
والآيات ( ١٠-١٢ ) صورة رائعة لفضل الجهاد وثوابه فهو أربح تجارة، وأفضل سبيل للمغفرة ودخول الجنة، وهو باب النصر والفتح، والبشرى للمؤمنين بالسيادة والعزة.
والهدف الثاني : بيان وحدة الرسالات، فالرسالات الإلهية كلها دعوة إلى التوحيد، وثورة على الباطل، وإصلاح للضمير، وإرساء لمعالم الفضيلة، ومحاربة للرذيلة.
وقد دعا الرسل جميعا إلى توحيد الله، وتكفل كل رسول بإرشاد قومه وهدايتهم ونصحهم إلى ما فيه الخير، وتحذيرهم من الانحراف والشر.
وفي سورة الصف نجد الآية الخامسة تبين رسالة موسى لقومه، وتذكر عنت اليهود، وإيذاءهم لموسى وتجريحهم له، وانصرافهم عن روحانية الدعوة إلى مادية المال.
وفي الآية السادسة نجد عيسى عليه السلام يجدد أمر الناموس، ويصيح باليهود صيحات ضارعة، ويعظهم ويدعوهم للإيمان، ويحثهم على الصدقة، والعناية بالروح، وتقديم الخير لوجه الله.
والمسيح يبشر برسالة أحمد خاتم المرسلين، فالرسالات كلها حلقات متتابعة في تاريخ الهداية والإصلاح، والإسلام كان ختام هذه الرسالات وآخرها، والمهيمن عليها، فقد حفظ تاريخها في القرآن، ودعا إلى الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل.
قال تعالى :﴿ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾. ( البقرة : ٢٨٥ ).
وروى البخاري في صححيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يقولون : لو وُضعت هذه اللبنة، فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم الرسل " i
وقال تعالى :﴿ قُولُوا آمنّا بِاللّهِ وما أُنْزِل إِليْنا وما أُنْزِل إِلى إِبْراهِيم وإِسْماعِيل وإِسْحاق ويعْقُوب والْأسْباطِ وما أُوتِي مُوسى وعِيسى وما أُوتِي النّبِيُّون مِنْ ربِّهِمْ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْهُمْ ونحْنُ لهُ مُسْلِمُون ﴾. ( البقرة : ١٣٦ ).
وفي آخر آية في السورة دعوة للمسلمين أن ينصروا دين الله، كما نصر الحواريون دين عيسى، أيام كان دينه توحيدا خالصا، والعاقبة دائما للمتقين.
والعبرة المستفادة من هذه الدعوة هي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير، الأمناء على منهج الله في الأرض، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية، المختارين لهذه المهمة الكبرى.
استنهاض همتهم لنصرة الله، ونصرة دينه ورسالته وشريعته :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ... ﴾( الصف : ١٤ ).
المقصد الإجمالي للسورة
قال الفيروزبادي :
معظم مقصود سور الصف هو : عتاب الذين يقولون أقوالا لا يعلمون بمقتضاها، وتشريف الغزاة والمصلين، والتنبيه على جفاء بني إسرائيل، وإظهار دين المصطفى صلى الله عليه وسلم على سائر الأديان، وبيان التجارة الرابحة مع الرحمن الرحيم، والبشارة بنصر أهل الإيمان على الكفر والخذلان.

وحدة الصف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ( ٢ ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ( ٣ ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( ٤ ) ﴾
المفردات :
سبح لله : نزهه عما لا يليق ومجّده، ودلّ عليه.
سبب النزول :
تلتقي كتب الحديث والتفسير على أن سبب نزول الآيات الأولى من سورة الصف، أنه كان ناس من المؤمنين يقولون : لوددنا أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فلما نزل الجهاد كرهوه، فأنزل الله الآيات تحثهم على الوفاء بالعهد، وتناسق الأقوال مع الأفعال.
١- ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
جميع ما في السماوات، من ملائكة وأجرام وكواكب، وشموس وأقمار، وجميع ما في الأرض من الحيوانات والنباتات وغيرهما، يسبّح لله بلسان الحال، فوجود هذا النظام البديع، من سماء مرفوعة، وأرض مبسوطة وجبال راسية، وبحار جارية، وهواء وفضاء ونبات، وليل ونهار، وشمس وقمر، وظلام ونور، كل ذلك يدل على وجود قدرة عالية تمسك بنظام هذا الكون وتحفظ توازنه.
وقد يكون التسبيح بلسان المقال، بمعنى أن يخلق الله في هذه الكائنات وسائل للتسبيح والتعظيم لله، كما قال تعالى :﴿ وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لاّ تفقهون تسبيحهم... ﴾( الإسراء : ٤٤ ).
سبب النزول :
تلتقي كتب الحديث والتفسير على أن سبب نزول الآيات الأولى من سورة الصف، أنه كان ناس من المؤمنين يقولون : لوددنا أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فلما نزل الجهاد كرهوه، فأنزل الله الآيات تحثهم على الوفاء بالعهد، وتناسق الأقوال مع الأفعال.
المفردات :
لم : لأي شيء تقولون : قد فعلنا كذا وكذا، وأنتم لو تفعلوا، والمراد بذلك : التأنيب والتوبيخ، لمن صدر منهم الكذب.
التفسير :
٢- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾.
يا أيها الذين صدقوا وآمنوا بالله ربا، لم تقولون قولا ولا تلزمون أنفسكم بالوفاء بهذا القول، وتخرجونه من حيز القول إلى حيز العمل ؟.
حيث قال بعضهم : لوددنا معرفة أحب الأعمال إلى الله حتى نفعلها، فلما بيّن الله أن أحب الأعمال إليه هو الجهاد في سبيله، كرهوا ذلك، أو تخاذلوا في غزوة أحد، والآية وسيلة ربانية للسمو، والالتزام بتنفيذ الأقوال والأعمال.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " ii.
وفي رواية : " وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ".
وقد ذهب الجمهور إلى أن الآية زلت حين تمنوا فرض الجهاد عليهم، فلما فُرض عليهم نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ( ٧٧ ) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ... ﴾( النساء : ٧٧-٧٨ ).
قال ابن كثير : وهذه الآية إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا ثم لا يفي به.
سبب النزول :
تلتقي كتب الحديث والتفسير على أن سبب نزول الآيات الأولى من سورة الصف، أنه كان ناس من المؤمنين يقولون : لوددنا أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فلما نزل الجهاد كرهوه، فأنزل الله الآيات تحثهم على الوفاء بالعهد، وتناسق الأقوال مع الأفعال.
المفردات :
كبر : عظم.
المقت : أشد البغض وأعظمه، ورجل مقيت وممقوت، إذا كان يبغضه كل أحد.
التفسير :
٣- ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾.
عظُم جرما عند الله أ تقولوا قولا ولا تعملون به، مثل أن تأمروا الناس بالمعروف ولا تفعلونه، أو تنهوا الناس عن المنكر وتفعلونه.
قال تعالى :﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم... ﴾( البقرة : ٤٤ ).
ويمكن أن تنطبق الآية على خلف الوعد، فإن خلف الوعد مذمة ومفسدة، وفيه إخلال بالثقة بين الأفراد والجماعات، وما أسوأ أخلف الوعد، وأقبح بصاحبه، لذا كان مبغوضا عند الله أشد البغض، ومعاقبا عليه، كما هو مبغوض مستنكر عند الناس جميعا.
وفي مقابل ذلك مدح الله صدق الوعد، فقال تعالى :﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ﴾. ( مريم : ٤٥ ).
سبب النزول :
تلتقي كتب الحديث والتفسير على أن سبب نزول الآيات الأولى من سورة الصف، أنه كان ناس من المؤمنين يقولون : لوددنا أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فلما نزل الجهاد كرهوه، فأنزل الله الآيات تحثهم على الوفاء بالعهد، وتناسق الأقوال مع الأفعال.
المفردات :
صفّا : صافّين أنفسهم، أو مصفوفين.
بنيان مرصوص : بنيان متلاصق محكم لا فرجة فيه، قال المبرد : تقول : رصصت البناء، إذ لاءمت بين أجزائه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة.
التفسير :
٤- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾.
إن الله تعالى يحب المقاتلين في سبيله أفرادا وجماعات في حالة ائتلاف واتحاد وتوافق، متراصّين متحدين، هدف واحد، وصف واحد، كأنهم بناء واحد أحكم وضع حلقاته، حتى كأن البناء قطعة واحدة مترابطة، وهذه الوحدة تبعث الهمة في النفوس، والشجاعة في الأفراد والجماعة.
ونلمح عناية الإسلام بتكوين الأفراد ليكونوا لبنة صالحة في مجتمع صالح، وتكريم القرآن للجهاد والشهادة والتضحية في سبيل الله، وكذلك السنة المطهرة، مع الحث على لزوم الجماعة ووحدة الصف.
روى الإمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يضحك الله إليهم، رجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفّوا للصلاة، والقوم إذا صفّوا للقتال ". iii
والبنيان المرصوص : هو البنيان المحكم المتماسك.
قال الفرّاء : المعقود بالرصاص.
وقال المبرد : رصصت البناء : لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة وحدة، ومنه : الرصيص، وهو انضمام الأسنان.
وحدة الرسالات
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٥ ) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( ٦ ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٧ ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٨ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٩ ) ﴾
المفردات :
تؤذونني : تخالفون أمري بترك القتال.
زاغوا : مالوا عن الحق وأصروا على الزيغ والانحراف عن الحق، الذي جاء به موسى عليه السلام.
أزاغ الله قلوبهم : صرفها عن قبول الهداية.
الفاسقين : الخارجين عن الطاعة ومنهاج الصدق، المصرّين على الغواية.
التفسير :
٥- ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
تسجل الآية جهاد موسى كليم الله مع قومه، فقد صبر صابر، واحتمل أذاهم، فقد اتهموه بأنه آدر كبير الخصية، فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها. ( الأحزاب : ٦٩ ). وأغروا امرأة زانية أن تتهم موسى بأنه والد طفلها، فأنطق الله الصبيّ ببراءة موسى.
ونجى الله موسى وقومه من فرعون، وعبر بهم موسى البحر، ﴿ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( ١٣٨ ) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾. ( الأعراف : ١٣٨-١٣٩ ).
وما كاد موسى يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح، حتى أضلهم السامريّ : فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي. ( طه : ٨٨ ).
وطلبوا من موسى أن يحكم بينهم في قتيل وجد بين قريتين، وكل قرية تتهم الأخرى، فطلب موسى من قومه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها، فأخذوا يتشددون على أنفسهم، ويسألون عن صفة البقرة، ثم عن لون البقرة، ثم عن عمر البقرة، وبعد لَأْي ذبحوها، وما كادوا يفعلون. ( البقرة : ٧١ ).
وطلبوا يوم عطلة يكون مقدسا، فلما كُتب عليهم السبت اعتدوا فيه، ووقفوا أمام الأرض المقدسة متخاذلين، يقولون :﴿ يا موسى إنّ فيها قوما جبّارين وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها... ﴾( المائدة : ٢٢ ).
فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع، تبجّحوا وكفروا وقالوا :
﴿ يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ﴾. ( المائدة : ٢٤ ).
لهذا وغيره توجه إليهم موسى معاتبا في مودة، يقول :
﴿ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ... ﴾
فلما أعرضوا عن هدى التوراة، وروح الدين، واستجابة المؤمنين، طمس الله على قلوبهم.
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
إن من خرج على دين الله، وتكبّر وتجبّر على هدى السماء، يسلب الله عنه الهدى والتوفيق، لأنهم لا يصلحون لخلافة السماء وهم على هذا الزيغ والفسوق والخروج عن أمر الله.
المفردات :
مصدقا لما بين يدي من التوراة : مصدقا لما تقدمني وجاء قبلي من التوراة.
التفسير :
٦- ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾.
واذكر حين قال عيسى ابن مريم لبني إسرائيل : إني رسول الله إليكم، فهذه سلسلة الرسالات، كلها من عند الله، وعيسى يؤيد الشرع والناموس الذي سبقه، ويبشر بأحمد الذي يأتي بعده.
وقد بشّرت التوراة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإنجيل.
قال تعالى :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... ﴾
( الأعراف : ١٥٧ ).
وأقرّ بعض المخلصين من علمائهم الذين اسلموا بهذه الحقيقة، وأن اليهود كانوا يتواصون بكتمها. وأناجيل النصارى تذكر هذه البشارة، وكذلك التوراة، حيث جاء في الفصل العشرين منن السِّفر الخامس من التوراة :
( أقبل الله من سيناء، وتجلّى من ساعير، وظهر من جبال فاران، معه الربوات الأطهار عن يمينه ).
وسيناء مهبط الوحي على موسى، وساعير مهبط الوحي على عيسى، وفاران جبال مكة، مهبط الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء في إنجيل يوحنا، في الفصل الخامس عشر :
( قال يسوع المسيح : إنّ الفار قليط روح الحق، الذي يرسله أبي، يعلّمكم كل شيء ).
والفارقليط : لفظ يدل على الحمد، وهو إشارة إلى احمد ومحمد، اسمي النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين، أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال : " إن لي أسماء : أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي – أي بعدي – وأنا العاقب ". iv، أي : الآخر الآتي بعد الأنبياء.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفّى، ونبي الرحمة والتوبة والملحمة " v.
تلك بشارات الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، لكن حين ظهر أنكره المنكرون، وادعوا أن رسالته سحر وكذب.
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾.
فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الواضحات وبالقرآن المبين، قال اليهود قوم موسى، والنصارى قوم عيسى : هذا سحر واضح لا شك فيه.
وقيل : معنى الآية : فلما جاء عيسى قومه بالبينات والمعجزات قال المكذبون له : هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر.
بشارة الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم
كانت دعوة إبراهيم عليه السلام أن يرسل في العرب رسولا منهم، يقرأ عليهم آيات الله، ويطهرهم ويعلمهم القرآن والسنة المطهرة، وعلى لسان إبراهيم الخليل يأتي هذا الدعاء :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ﴾. ( البقرة : ١٢٩ ).
من تفسير ابن كثير
وقال محمد بن إسحاق، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا : يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال : " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام " vi.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين " vii.
وروى أحمد، عن أبي أمامة قال : قلت : يا رسول الله، ما كان بدء أمرك ؟ قال : " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام " viii
وقال عبد الله بن مسعود، بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا، منهم : عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن رواحة وعثمان بن مظعون وأبو موسى، فأتوا النجاشي، وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له : إن نفرا من بني عمّنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال : فأين هم ؟ قالا : هم في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم، فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه، فسلّم ولم يسجد، فقالوا له : مالك لا تسجد للملك ؟ قال : إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قال : وما ذاك ؟ قال : إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة. قال عمرو بن العاص : فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم، قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه ؟ قال : نقول كما قال الله عز وجل : هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يعترضها ولد، قال : فرفع عودا من الأرض، ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجده في الإنجيل، وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعيله، وأوضئه، وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما " ix.
والمقصد أ الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها من أممها وتأمرهم باتباعه ومؤازرته إذا بُعث، وكان أول ما اشتهر الأمر في الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا على لسان عيسى ابن مريم، ورؤيا أمي التي رأت ". أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك، والإرهاص، فذكره صلوات الله عليه.
وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾.
قال ابن جريج : فَلَمَّا جَاءَهُمْ. أحمد، أي : المبشر به في الأعصار المتقادمة، المنوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات، قال الكفرة والمخالفون. هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. x
المفردات :
ومن أظلم : لا أحد أشد ظلما.
افترى : اختلق بادّعاء الشركاء له.
الإسلام : الاستسلام والانقياد والخضوع لله عز وجل.
التفسير :
٧- ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
الإسلام دين الله إلى البشرية كلها، فالإسلام بمعنى الانقياد لحكم الله تعالى، يطلق على ملة إبراهيم، وديانة موسى، ورسالة عيسى، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن يكذّب برسالة عيسى فقد أعظم على الله الفرية، حين يدعوه رسول إلى الإيمان بالله تعالى، ويقدّم معجزات بينات، فيدّعي أن هذا سحر ظاهر بيّن.
هذا هو الرأي الأول في تفسير الآية، وخلاصته : لا أحد أشد ظلما للحقيقة، من هذا الذي يفتري الكذب على الله، فيُكذّب عيسى في رسالته، ويتهمه بأنه ساحر ظاهر السحر.
أما الرأي الثاني فتقريره كالآتي :
إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة في أعماق الكون، وقد لبى الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم، وبشارة موسى وعيسى، فلما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم كذّبه بنو إسرائيل، والحال أن محمدا صلى الله كان يدعوهم للإسلام : الدين الحق، والرسالة الأخيرة إلى البشرية، فكذب بنو إسرائيل برسالة محمد صلى الله عليه وسلم رغم أنهم، يعرفونه كم يعرفونه أبناءهم... ( البقرة : ١٤٦ ).
من تفسير الطبري
يقول تعالى في ذكره :
﴿ ومن أشد ظلما وعدوانا ممن اختلق على الله الكذب ﴾، وهو قول قائلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم : هو ساحر، وما جاء به سحر، فكذلك افتروه على الله الكذب وهو يدعي إلى الإسلام، يقول : إذ دُعي إلى الدخول في الإسلام، قال على الله الكذب، وافترى عليه الباطلxi.
وقال لمفسرون :
بشّر كل نبي قومه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أفرد الله تعالى ذكر عيسى بالبشارة في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فبين تعالى أن البشارة به عمّت جميع الأنبياء، واحدا بعد واحد، حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام، آخر أنبياء بني إسرائيل.
فلا يكون أحد أظلم ممن يدعوه ربه للإسلام على لسان نبيه، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله، بتسمية نبيه ساحرا، وتسمية آيات الله المنزلة سحراxii.
المفردات :
نور الله : الحق الذي جاء به الرسول، من مثل قولهم : هذا سحر مفترى.
متمّ نوره : متمّ الحق، ومبلّغه غايته.
سبب نزول الآية ( ٨ ) :
جاء في تفسير القرطبي : حكى الماوردي، عن عطاء، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود أبشروا، فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتمّ أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، واتصل الوحي بعدها.
التفسير :
٨- ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾.
يريد المشركون بمكة واليهود بالمدينة أن يطفئوا نور دين الله، وهو الإسلام، وأن يوقفوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنّى لهم ذلك، فهم كمن يحاول أن يطفئ نور الشمس بنفخة من فمه، أو من يريد أن يضرم النار في الرماد، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء، وهو مثل يضرب لمن يريد عمل المستحيل.
قال الشاعر :
أرى العنقاء تكبر أن تُصادا فعاند من تطيق له عنادا
﴿ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾.
تكفل الله تعالى بنصرة هذا الدين، وحفظ القرآن الكريم، ما دام أهله قائمين بأمر الله، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وقد انتصر الإسلام في مكة والمدينة والجزيرة العربية، وامتد إلى بلاد الفرس والروم، ومصر وشمال أفريقيا وآسيا، ودانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان.
" ثم زحف زحفا سلميا بعد ذلك إلى قلب آسيا وأفريقيا، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى " xiii.
لقد أكمل الله للمسلمين دينهم، وأتمّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا، يحبونه ويجاهدون في سبيله، لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين، فنشره الله في الآفاق، وأعلاه على الأديان.
روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ ملك أمتي ما زُوي لي منها " xiv
ومعنى : " زوى لي الأرض "، أي : جمعها حتى رآها النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى : أن هذا الدين سينتشر في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد كان سبب نزول الآية أن الوحي تأخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما، ففرح كعب بن الأشرف، وبشّر اليهود بانتهاء أمر محمد، فأنزل الله هذه الآية، واتصل الوحي بعدها، وانتصر الإسلام على اليهودية الحاقدة في غزوات بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير، ثم فتحت خيبر.
وحاولت اليهودية الحاقدة بأصابعها وكيدها النيل من دولة الخلافة، وزيّفت بطلا هو كمال أتاتورك، وتحاول الآن اتباع أجزاء كبيرة من فلسطين، لكن انتفاضة الشعب الفلسطيني مستمرة، وأكتب الآن هذه السطور في شوال ١٤٢١ه - يناير ٢٠٠١ والانتفاضة الفلسطينية مستمرة، تقدم الشهداء كل يوم أمام عنت الصهيونية وتجبّرها، واستخدامها الأسلحة المحرمة دوليا.
والأمل في الله أن يجمع شمل العرب والمسلمين، وأن يُثبّت أقدامهم، وأن ينزل عليهم نصره وفضله ومعونته، إنه سبحانه : نعم المولى ونعم النصير. ( الأنفال : ٤٠ ).
المفردات :
بالهدى : بالقرآن.
دين الحق : الملة السمحة :( الإسلام ).
ليظهروه : ليعليه ويرفعه.
على الدين كله : على سائر الأديان.
التفسير :
٩- ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾.
فالله هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، حاملا دين الهداية، ودين الحق والعدل، ليكون هذا الدين الإسلامي كلمة الله الأخيرة إلى خلقه.
فقد أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب والصحف، وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، وجعل الإسلام هو الرسالة الكاملة الأخيرة التي تتوافق مع العقل والنقل، وتُناسب كل زمان ومكان، لاتفاق الإسلام مع الفطرة.
قال أبو السعود : لقد أنجز الله وعده بإعزاز دين الإسلام، حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام، وقد ذكر القرطبي ذلك في تفسيره، وأفاض ( في ظلال القرآن ) في شرح الآيات.
التجارة الرابحة
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ١٠ ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( ١١ ) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٢ ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ( ١٤ ) ﴾
تمهيد :
لوّن القرآن في أساليب دعوته، ونوّع فيها، وصرّف في ألوان القول، وعدا بالجنة أو تخويفا من النار.
وهنا يعرض سلعة رابحة هي الجنة، في أسلوب من التشويق، فيبين أن مدة الدنيا محدودة، ومن يبيع ماله لله، ويقدّم نفسه للجهاد في سبيل الله، فإنه يقدّم رأس المال لصفقة متميزة.
يدفع العبد ماله ويقدم فسه للجهاد في سبيل الله ويشتري مغفرة من الله، وجنة متميزة بكلّ المتع وفوق ذلك يجد نصرا من الله وفتحا قريبا، وبشارة بالعزة والسيادة.
المفردات :
أدلكم : أرشدكم.
تجارة : التجارة هنا : العمل الصالح، وهي في الأصل : تداول البيع والشراء لأجل الكسب.
التفسير :
١٠- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
نزلت هذه السورة تُشوّق المسلمين إلى الجهاد، ونزلت هذه الآيات أيضا على أسلوب التشويق، فهي تُشوق المسلمين إلى تجارة رابحة، وتقول : يا أيها الذين آمنوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، هل أخبركم وأرشدكم إلى تجارة رابحة، تنقذكم من عذاب جهنم، وتقربكم إلى الجنة.
تمهيد :
لوّن القرآن في أساليب دعوته، ونوّع فيها، وصرّف في ألوان القول، وعدا بالجنة أو تخويفا من النار.
وهنا يعرض سلعة رابحة هي الجنة، في أسلوب من التشويق، فيبين أن مدة الدنيا محدودة، ومن يبيع ماله لله، ويقدّم نفسه للجهاد في سبيل الله، فإنه يقدّم رأس المال لصفقة متميزة.
يدفع العبد ماله ويقدم فسه للجهاد في سبيل الله ويشتري مغفرة من الله، وجنة متميزة بكلّ المتع وفوق ذلك يجد نصرا من الله وفتحا قريبا، وبشارة بالعزة والسيادة.
التفسير :
١١ -﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
وكأن سائلا سأل فقال : وما هي تلك التجارات ؟ فكان الجواب هو : الإيمان بالله ورسوله، أي شدة اليقين والتصديق، وتأكيد الإيمان وتعميقه، كم قال تعالى : يأيها الذين آمَنوا آمِنوا... ( النساء : ١٣٦ ).
ثم قال تعالى :﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ... ﴾
وقدم الجهاد بالمال هنا على الجهاد بالنفس، لأن الموضوع موضوع تجارة رابحة، فقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، فالمال عصبُ الجهاد، وبه تشترى الأسلحة والأطعمة للمجاهدين، وينفق به عليهم، وعلى الاستخبارات عن العدوّ، وعلى الاستحكامات الحربية.
وبعد الجهاد بالمال يأتي الجهاد بالنفس، ويشمل ذلك القتال والتطوع للفداء، وتفجير المجاهد نفسه في ممتلكات العدوّ وأفراده، وسائر أدوات نصر المسلمين، والنيل من أعدائهم.
﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
أي : هذا الأمر – وهو الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس – خير لكم على الإطلاق من أموالكم وأنفسكم.
وفي معنى الآية قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة... ( التوبة : ١١١ ).
لكنه قدّم النفس على المال في سورة التوبة، حيث الموضوع موضوع شراء فقدم النفس على المال، أما هنا في سورة الصف فقد كان للموضوع موضوع تجارة، والتجارة يقدم فيها المال على النفس هكذا يقول بعض المفسرين، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الموضوع موضوع تنويع وتشويق من القرآن الكريم، وأن القرآن لوّن في أساليب البيان، فأحيانا يقدم النفس على المال، وأحيانا يقدّم المال على النفس، من باب التنويع والتغيير، والله أعلم.
تمهيد :
لوّن القرآن في أساليب دعوته، ونوّع فيها، وصرّف في ألوان القول، وعدا بالجنة أو تخويفا من النار.
وهنا يعرض سلعة رابحة هي الجنة، في أسلوب من التشويق، فيبين أن مدة الدنيا محدودة، ومن يبيع ماله لله، ويقدّم نفسه للجهاد في سبيل الله، فإنه يقدّم رأس المال لصفقة متميزة.
يدفع العبد ماله ويقدم فسه للجهاد في سبيل الله ويشتري مغفرة من الله، وجنة متميزة بكلّ المتع وفوق ذلك يجد نصرا من الله وفتحا قريبا، وبشارة بالعزة والسيادة.
المفردات :
طيبة : طاهرة مستلذة.
جنات عدن : بساتين إقامة وخلود.
التفسير :
١٢-﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
تأتي هذه الآية في موقع الجزاء لما سبقها، أي : إن تؤمنوا وتجاهدوا كان جزاؤكم عند الله تعالى أن :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾. أي : يمحو عنكم سيئاتكم، ويسترها عليكم، ولا يحاسبكم عليها.
﴿ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ... ﴾
والفعل : يُدخلكم. مجزوم لأنه واقع في جزاء الشرط، أي : إن تؤمنوا وتجاهدوا :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ... ﴾
فنعم الجزاء مغفرة الذنوب، وستر العيوب، ومحو السيئات، ودخول جنات وبساتين مخضرة مثمرة ناضرة، تجري المياه من تحتها، ثم يصف سبحانه مساكن المؤمنين المجاهدين والمؤمنات المجاهدات حيث يقول :﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
وهنا نجد الجزاء رابحا مفيدا مضاعفا، فعم الجزاء الجنة، ونعم الجزاء مساكن المجاهدين الذين ضحّوا بمساكهم في الدنيا ابتغاء أن يعوضهم الله في الآخرة مساكن طيبة الريح، عظيمة النفع، في جنات عَدْنٍ. أي : إقامة خالدة لا يخرجون منها، ذلك هو الفوز العظيم، والربح الباهر، فقد باعوا دنياهم واشتروا آخرتهم، باعوا أنفسهم لله في الدنيا واشتروا خلودا أبديا سرمديا.
تمهيد :
لوّن القرآن في أساليب دعوته، ونوّع فيها، وصرّف في ألوان القول، وعدا بالجنة أو تخويفا من النار.
وهنا يعرض سلعة رابحة هي الجنة، في أسلوب من التشويق، فيبين أن مدة الدنيا محدودة، ومن يبيع ماله لله، ويقدّم نفسه للجهاد في سبيل الله، فإنه يقدّم رأس المال لصفقة متميزة.
يدفع العبد ماله ويقدم فسه للجهاد في سبيل الله ويشتري مغفرة من الله، وجنة متميزة بكلّ المتع وفوق ذلك يجد نصرا من الله وفتحا قريبا، وبشارة بالعزة والسيادة.
المفردات :
وفتح قريب : وفتح عاجل، وهو فتح مكة.
التفسير :
١٣- ﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
ونعمة أخرى، وفائدة أخرى تحبونها وتشتاقون إليها، لأنها عاجلة في الدنيا.
﴿ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ ﴾. نصر للإسلام وأهله على أعدائه.
وَفَتْحٌ قَرِيبٌ.
أي : فتح مكة، والأولى أن يقال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية عامة، خالدة باقية إلى يوم القيامة.
فكلما تعمق إيمان المؤمنين، وأخلصوا في الجهاد لله بالمال والنفس، كان جزاؤهم مغفرة للذنوب، ودخول الجنة والمساكن الطيبة، وكانت لهم فائدة أخرى في الدنيا، هي معونة الله لهم بالنصر منه سبحانه، وفتح البلاد والغلبة على العباد، أي كلما وفّى المؤمنون بوعدهم أخلصوا، وفّى الله لهم بوعده في المثوبة في الآخرة، والنصر في الدنيا.
﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
أي : وبشر أيها الرسول المؤمنين بالنصر في الدنيا، وعجّل لهم البشرى بالنصر والفتح، وقد وفّى المؤمنون لربهم، وصدقوا في جهادهم بالمال والنفس، فأنجز الله لهم ما وعدهم، وأمر رسوله صلى لله عليه وسلم أن يبشرهم بما وعدهم تعجيلا للمسرة.
تمهيد :
لوّن القرآن في أساليب دعوته، ونوّع فيها، وصرّف في ألوان القول، وعدا بالجنة أو تخويفا من النار.
وهنا يعرض سلعة رابحة هي الجنة، في أسلوب من التشويق، فيبين أن مدة الدنيا محدودة، ومن يبيع ماله لله، ويقدّم نفسه للجهاد في سبيل الله، فإنه يقدّم رأس المال لصفقة متميزة.
يدفع العبد ماله ويقدم فسه للجهاد في سبيل الله ويشتري مغفرة من الله، وجنة متميزة بكلّ المتع وفوق ذلك يجد نصرا من الله وفتحا قريبا، وبشارة بالعزة والسيادة.
المفردات :
أنصار الله : الناصرون لدينه.
الحواريون : أصفياء عيسى وخواصه.
أيّدنا : قوينا وساعدنا.
على عدوّهم : الكفار.
ظاهرين : غالبين.
التفسير :
١٤- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾.
نداء إلهي علويّ للمؤمنين المجاهدين، بأن يكونوا أنصارا لدين الله، وضرب لهم مثلا بعيسى ابن مريم، مع أتباعه المخلصين، حين قال عيسى :﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ... ﴾
وهو استفهام يراد به الحثّ والحضّ على الانضمام إلى قافلة التبشير بالدين، والجهاد في سبيل نشر هذا الدين.
قال المفسرون :
الحواريون هم أتباع عيسى وأصفياؤه، وأول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا، فرّقهم في البلاد، وبعثهم دعاة إلى الناس في البقاع المختلفة، واشتقاق الحواريين من الحَوَر وهو البياض، لأنه كان ملبسهمxv. وقيل : لنقاء ظاهرهم وباطنهم، وقيل : الحواريون هم المجاهدون.
﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ... ﴾
أي : قال الرجال المخلصون من أتباع عيسى له :﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ... ﴾
انتدبنا أنفسنا لتلبية الدعوة، والجهاد في سبيل توصيلها وتبليغها.
قال فخر الدين الرازي في التفسير الكبير :
والتشبيه في الآية محمول على المعنى، أي : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله. ١ه.
﴿ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ... ﴾
أي : فانقسم بنو إسرائيل إلى جماعتين :
جماعة آمنت بعيسى وصدّقت بأنه عبد الله ورسوله، وجماعة كفرتْ وكذبتْ برسالة عيسى، وقالت على مريم بهتان عظيما.
﴿ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ... ﴾
أي : قوّيناهم وأمددناهم بالهدى والتوفيق، والدليل والبرهان والحجة الظاهرة.
فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ. فأصبحوا عالين غالبين على أعدائهم، كما قال تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾. ( غافر : ٥١ ).
قال ابن كثير :
لما بلّغ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه، وآزره من آزره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلّت طائفة فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوّته، ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وغَلَتْ فيه طائفة ممن اتبعه، حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فرقا وشيعا، فمن قائل منهم، إنه ابن الله، وقائل : إنه ثالث ثلاثة ( الأب والابن وروح القدس )، ومن قائل : إنه الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
﴿ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾.
فنصر الله المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى، وقد أيّد الله المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء في ظلال القرآن ما يأتي :
وتأويل هذا النص يمكن أن يصرف إلى أحد معنيين :
إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام هم المسيحيون إطلاقا، من استقام، ومن دخلت في عقيدته الانحرافات، وقد أيدهم الله على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا كما حدث في التاريخ.
وإما أن الذين آمنوا هم الذين أصرّوا على التوحيد في وجه المؤلِّهين لعيسى، والمثلثين، وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد، ومعنى أنهم أصبحوا ظاهرين أي بالحجة والبرهان.
أو أن التوحيد الذي هم عليه هو الذي أظهره بهذا الدين الأخير، وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض كما وقع في التاريخ، وهذا المعنى الأخير هو الأقرب والأرجح في السياق.
والعبرة المستفادة من هذه الإشارة ومن هذا النداء، هي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير، الأمناء على منهج الله في الأرض، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية، المختارين لهذه المهمة الكبرى... استنهاض همتهم لنصرة الله ونصرة دينه :﴿ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ... ﴾
والنصر في النهاية لأنصار الله المؤمنين. xvi
Icon