تفسير سورة الجمعة

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الجمعة١
مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام، وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية٢ الاجتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن ٣بعث للتزكية بالاجتماع عليه في الجهاد٤ و٥غيره في العسر واليسر والمنشط والمكره، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته الحاثة٦ على قوة التواصل والاجتماع، والحاملة على دوام الإقبال على المزكى والحب له والاتباع ( بسم الله ) الذي [ أحاط-٧ ]. علمه بكل معلوم فتم بيانه ( الرحمان ) الذي عمت٨ نعمة بيانه بعد شمول كرامة إيجاده فهو العظيم شأنه ( الرحيم ) الذي خص حزبه بالتوفيق لما يرضاه فثبت في سويداء كل منهم حبه له وإيمانه به.
١ - الثانية والستون من سورة القرآن الكريم، مدنية، وعدد آيها ١١..
٢ - من ظ وم، وفي الأصل: فريضة..
٣ - من ظ وم، وفي الأصل: عن..
٤ - من ظ وم، وفي الأصل: الاجتهاد..
٥ - من ظ وم، وفي الأصل: أو..
٦ - من ظ وم، وفي الأصل: الحادثة..
٧ - زيد من م..
٨ - من ظ وم، وفي الأصل: همت..

ولما ختمت الصف بالإقبال ببعض بني إسرائيل على جنابه الأقدس بعد أن زاغوا فأزاغ الله قلوبهم كلهم أو الشاذ منهم بما أفهمه إطلاق الضمير عليهم ثم تأييدهم على من استمر منهم على الزيغ، فثبت أن له
44
تمام القدرة المستلزم لشمول العلم اللازم منه التنزه عن كل شائبة نقص، وكان سبحانه قد ذكر التسبيح الذي هو الأعظم الأشهر للتنزيه بلفظ الماضي ثلاث مرات في افتتاح ثلاث سور، وذلك نهاية الإثبات المؤكد، فثبت بذلك أنه وقع تنزيهه من كل ناطق وصامت، أخبر أول هذه السورة أن ذلك التنزيه على وجه التجديد والاستمرار بالتعبير بالمضارع لاستمرار ملكه فقال: ﴿يسبح﴾ أي يوقع التنزيه الأعظم الأبهى الأكمل ﴿لله﴾ أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وأكد بذلك لما في التغابن ولم يحتج بعد الإقرار بالوقوع على هذا الوجه إلى التأكيد بأكثر من مرة وجعل بين كل مسبحتين سورة خالية من ذلك ليكون ذلك أدل على قصد التأكيد من حيث شدة الاعتناء بالذكر، وإن وقع فصل ويكون التأكيد أكثر تنبيهاً وأعظم صدعاً وتذكيراً.
ولما كان تقريع العاقل الناطق بطاعة الصامت أعظم، قال: ﴿ما في السماوات﴾ وإن كان العاقل يدخل في ذلك ما عليه فيكون تسبيحه تارة طوعاً موافقة للأمر، وتارة كرهاً بالانقياد مع الإرادة، وتسبيح الصامت طوعاً في كل حال. ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا، دعا ذلك إلى التأكيد لاحتياجهم إليه فقال: ﴿وما في الأرض﴾ كذلك.
45
ولما ثبت بالسور الثلاث الماضية أن الموجودات أوقعت له التسبيح، وأخبرت هذه باستمرار ذلك على سبيل التجديد، دل ذلك مع التنزيه عن النقائص على إثبات الكمال الذي لا يكون إلا لملك عظيم الشأن مطاع الأمر، وكان الاقتصار على الصامت بالتعبير بما هو ظاهر فيه ربما أوهم شيئاً، قال مصرحاً بما أفهمه السياق: ﴿الملك﴾ أي الذي ثبتت له جميع الكمالات فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلاً فيصبح ظاهراً ﴿القدوس﴾ الذي انتفت عنه جميع النقائص، فلا يكون شيء إلا بإذنه وتنزه عن إحاطة أحد من الخلق بعلمه أو إدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله، والتدبر لمفاهيم نعوته وجلاله، وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول ما لا يفعل أو يبني شيئاً من أموره على غير إحكام، وقد مضى شرح الاسمين الشريفين قريباً وذكر خلاصة شرحهما بما هو خاصة الملك وآية الطهارة للطاهر فقال: ﴿العزيز﴾ أي الذي يغلب كل شيء، لا يغلبه شيء، فلو أراد لجعل العقلاء كلهم أيضاً مع تسبيحهم بالجري تحت مراده طوعاً وكرهاً مسبحين بالموافقة لأمره طوعاً ﴿الحكيم *﴾ الذي يوقع كل ما أراده في أحكم
46
مواقعه وأتمها وأتقنها.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما ختمت سورة الصف بالثناء على الحواريين في حسن استجابتهم وجميل إيمانهم، وقد أمر المؤمنين بالتشبه بهم في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله﴾ [الصف: ١٤] كان ذلك مما يوهم فضل أتباع عيسى عليه السلام على أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتبع ذلك بذكر هذه الأمة، والثناء عليها، فافتتحت السورة بالتنزيه عما أشار إليه قوله: ﴿وكفرت طائفة﴾ [الصف: ١٤] فإنهم ارتكبوا العظيمة وقالوا بالنبوة، فنزه سبحانه نفسه عن ذلك ثم قال: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم﴾ [الجمعة: ٢] إلى قوله: ﴿ذو الفضل العظيم﴾ [الجمعة: ٤] ثم أعلم تعالى بحال طائفة لاح لهم نور الهدى ووضح لها سبيل الحق فعميت عن ذلك وارتبكت في ظلمات جهلها ولم تزدد بما حملت إلا حيرة وضلالة فقال تعالى: ﴿مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً﴾ [الجمعة: ٥] الآيات وهي في معرض التنبيه لمن تقدم الثناء عليه ورحمه الله إياه لئلا يكونوا فيما يتلو عليهم نبيهم من الآيات ويعلمهم من الكتاب والحكمة مثل أولئك الممتحنين، فإنهم مقتوا ولعنوا بعد حملهم التوراة، وزعموا أنهم التزموا حمله والوفاء به فوعظ هؤلاء بمثالهم لطفاً من الله
47
لهذه الأمة ﴿وما يذكر إلا أولوا الألباب﴾ انتهى.
ولما كانت القدرة على تزكية الجلف الجافي بحمله على التنزيه أدل على القدرة على غيره، وكان قد أسلف عن بني إسرائيل أنهم لم يقبلوا التزكية بل زاغوا، دل على قدرته في عزته وحكمته وملكه وقدسه على تزكية جميع العقلاء بقوله: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي بعث﴾ أي من حضرة غيب غيبه بشرع أوامره ونواهيه ﴿في الأميين﴾ أي العرب لأنهم كانوا معروفين من بين سائر الأمم لا يكتبون بل هم على الخلقة الأولى حين الخروج من بطن الأم، وذكر ظرف البعث وإهمال غايته دال على أنها كل من يتأتى البعث إليه وهم جميع الخلق، ويجوز أن تطلق الأمية على جميع أهل الأرض لأن بعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حين ذهب العلم من الناس، ولأن العرب أصل فجميع الباقين تبع لهم، فلا بدع أن يحمل عليهم وصفهم ﴿رسولاً﴾ ولما كان تقويم الشيء بمثله أعجب قال: ﴿منهم﴾ بل الأمية بمعنى عدم الكتابة والتجرد عن كل تكلف وصف لازم له دائماً وعلمه لما يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عند مندرسة، وأنوار الحقائق عليه لائحة، وذلك يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن منشأ
48
مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم، فيكون عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز، وذكر بعثه منهم إن خص الوصف بالعرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم ولا سيما مع ما ورد فيه من الصرائح وأثبته من الدلائل القواطع، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها: إلى عامة الخلق.
ولما كان كونه منهم مفهماً لأنه لا يزيد عليهم من حيث كونه منهم وإن زاد فبشيء يسير، عجب من أمره ونبه على معجزة عظيمة له بقوله مستأنفاً: ﴿يتلوا﴾ أي يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة ﴿عليهم﴾ مع كونه أمياً مثلهم ﴿آياته﴾ أي يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة آية بينة على صدقه لأنه أمي مثلهم بل فيهم الكاتب والعالم وإن كانوا معمورين في كثرتهم فما خصه عنهم بذلك إلا القادر على كل شيء.
ولما كان المقام للتنزيه ولتأديب من وقع في موادة الكفار ونحو ذلك، قدم التزكية فقال: ﴿ويزكيهم﴾ أي عن الأخلاق الرذيلة والعقائد الزائغة، فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم وتعليمه لهم وتلاوته عليهم، فربما نظر إلى الإنسان نظرة محبة فزكاه
49
الله بها، وربما سرت تلك النظرة إلى ثان فأشرقت أنوارها عليه على حسب القابليات كما وقع لعمير بن وهب ثم صفوان بن أمية وكذا ذو النور الطفيل بن عامر الدوسي رضي الله عنه ثم قومه، فأما عمير فكان من أعظم المؤذين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولمن آمن به فتذاكر مع صفوان وقعة بدر في الحجر ومن فقدوا من صناديدهم وأنه ليس في العيش بعدهم خير، ثم تمنوا رجلاً بقتال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عمير: لولا فقري وبنات لي وعيال أخشى عليهم الضيعة من بعدي لأتيته بغلة أسيري عندهم فقتلته، فاغتنمها صفوان فعاهده أن يكفي عياله إن مات وأن يواسيه إن عاش، فقال: اكتم عني ثلاثاً، ثم ذهب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهداه الله فحلف صفوان أن لا يكلمه أبداً، فلما فتحت مكة فر صفوان ليركب البحر من جدة، فاستأذن عمير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ذهب إليه فلحقه فلم يزل به حتى رجع ثم أسلم فكان من خيار الصحابة رضي الله عنه، وأما ذو النور فحين دعاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم سأل آية يعينه الله بها على قومه فآتاه الله نوراً حين أشرف على الحي الذي هو منه، ثم دعا أباه وأمه فأسلما، ثم صاحبته فكذلك ثم قومه، فما تخلف منهم أحد، وأما غير الصحابة رضي الله عنهم فتزكيته لهم بآثاره بحسب القابليات والأمور التي قضى الله أن يكون مهيأ، فمن كان له أعشق كان لاتباعه ألزم، فكان في كتاب الله وسنته أرسخ من
50
سيرة وغيرها علماً وعملاً فكان أشد زكاء.
ولما كانوا بعد التزكية التي هي تخلية عن الرذائل أحوج ما يكون إلى تحلية بالفضائل قال: ﴿ويعلمهم الكتاب﴾ أي المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى ﴿والحكمة﴾ وهي غاية الكتاب في قوة فهمه والعمل به، فهي العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم معقوله ومنقوله ليضعوا كل شيء منه في أحكم مواضعه فلا يزيغوا عن الكتاب كما زاغ بنو إسرائيل، فيكون مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً ولو لم يكن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجزة إلا هذه لكانت غاية.
ولما كان الوصف بالأمية مفهماً للضلال، وكان كثير منهم حال إنزال هذه السورة يعتقد أنهم على دين متين وحال جليل مبين، وكانوا بعد هدايته لهم بعد الأمية سيضلون لأن الإرسال من حضرة غيب الغيب في العلوم المنافية للأمية إلى ما لم تصل إليه أمة من الأمم قبلهم، وكان ذلك موجباً للتوقف في كونهم كانوا أميين، أكد هذا المفهوم بقوله:
51
﴿وإن﴾ أي والحال أنهم ﴿كانوا﴾ أي كوناً هو كالجبلة لهم. ولما كان كونهم ذلك في بعض الزمن الماضي، أدخل الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي قبل إرساله إليهم من حين غيروا دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام وعبدوا الأصنام ﴿لفي ضلال﴾ أي بعد عن المقصود ﴿مبين *﴾ أي ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة وظنهم أنهم على شيء وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختيارهم له وعيبهم من يميل إلى التعلم وينحو نحو التبصر كما وقع لهم مع زيد بن عمرو بن نفيل وغيره، فوصفهم بهذا غاية في نفي التعلم من مخلوق عن نبيهم إعظاماً لما جاء به من الإعجاز وتقريراً لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم إلى الهدى، وينقذهم مما كانوا فيه من العمى والردى.
ولما كانت تزكيته لهم مع أميتهم وغباوتهم لوصف الأمية في الجهل أمراً باهراً في دلالته على تمام القدرة، زاد في الدلالة على ذلك بإلحاق كثير ممن في غيرهم من الأمم مثلهم في الأمية بهم
52
فقال: ﴿وآخرين﴾ أي وبعثه في آخرين ﴿منهم﴾ في الأمية لا في العربية ﴿لما يلحقوا بهم﴾ أي في وقت من الأوقات الماضية في صفة من الصفات، بل هم أجلف الناس كعوام المجوس واليهود والنصارى والبرابر ونحوهم من طوائف العجم الذين هم ألكن الناس لساناً وأجمدهم أذهاناً وأكثفهم طبعاً وشأناً، وسيلحقهم الله بهم في العلم والتزكية.
ولما كان عدم إلحاقهم بهم في الماضي ربما أوهم شيئاً في القدرة، وإلحاقهم بهم في المستقبل في غاية الدلالة على القدرة، قال: ﴿وهو﴾ أي والحال أنه وحده ﴿العزيز﴾ الذي يقدر على كل شيء ولا يغلبه شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أيّ طائفة كان، ولو كان أجمد أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده ﴿الحكيم *﴾ فهو إذا أراد شيئاً موافقاً لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها فلا يستطاع نقضه، ومهما أراده كيف كان فلا بد من إنفاذه فلا يطلق رده بوجه، ويكون المراد بالآخرين العجم، وأن الله تعالى سيلحقهم بالعرب، قال ابن عمر رضي الله عنهما وسعيد بن جبير أيضاً رضي الله عنه وهو رواية ليث عن مجاهد ويؤيده ما:
«روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل عنهم لما نزلت سورة
53
الجمعة فوضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على سلمان رضي الله عنه وقال:» لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء «».
ولما كان هذا أمراً باهراً، عظمه بقوله على وجه الاستثمار من قدرته: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعاً لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف ﴿فضل الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال، والفضل ما لم يكن مستحقاً بخلاف الفرض ﴿يؤتيه من يشاء﴾ بحوله وقوته بأن يهيئه له ولو كان أبعد الناس منه ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿ذو الفضل﴾ ولما كانت «آل» دالة على الكمال دل على ذلك بقوله: ﴿العظيم *﴾ أي الذي يحقر دونه كل عطاء من غيره.
54
ولما أدب عباده المؤمنين في الممتحنة عما يؤذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتمه في الصف بما حذر من إزاغة القلوب لمن آذى نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، وأعلم أنه سبحانه جمع الآداب كلها في هذا الكتاب الذي أنزله على نبيهم الذي جعله خاتم الأنبياء وأشرف الأصفياء، ودل على فضله العظيم بتعليم الجاهل، دل على عقابه الأليم تتميماً للدلالة على باهر قدرته بتجهيل العالم بإزاغة قلبه وإذهاب لبه بيأسه من الآخرة لغضبه عليه تحذيراً من الوقوع بما يوجب الإضلال بعد العلم، فقال جواباً لمن كأنه قال: هذا فضله علىلجاهل فكيف
54
فعله بالعالم؟ فقال تحذيراً من يزكي فلا يتزكى بأن يقول ما لا يعمل، ويحمل الكتاب فيحمله غير عالم به من أن يفعل به ما فعل باليهود من الذل في الدنيا والخزي والعذاب في الآخرة بإزاغة القلوب وإحاطة الذنوب فيكون أقبح مما قيل فيه.
من فاته العلم وأخطأ الغنى فذاك والكلب على حد سوا
﴿مثل الذين﴾ ولما كان العلم ولا سيما الرباني يجب أن يفرح به ويرغب فيه من أيّ موصل كان، بني للمجهول قوله وصيانة لاسمه الشريف عن أن يذكر عن العصيان: ﴿حملوا التوراة﴾ أي كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع.
ولما كان تركهم لحملها وهي من عند الله وعلى لسان رجل منهم هو أعظم في أنفسهم وأجلهم إحساناً إليهم في غاية البعد ولا سيما مع طول الزمان المسهل لحفظها الميسر لتدبرها وتعرف مقدارها، عبر بأداة البعد فقال: ﴿ثم لم يحملوها﴾ بأن حفظوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم ثم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاء، فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم قاذفة لهم في النار
55
من غير نفع أصلاً ﴿كمثل﴾ أي مِثَّل مَثَل ﴿الحمار﴾ الذي هو أبله الحيوان، فهو مثل في الغباوة، حال كونه ﴿يحمل أسفاراً﴾ أي كتباً من العلم كاشفة للأمور تنفع الألباء، جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه.
ولما كان المثل الجامع لهما - وهو وجه الشبه - شخصاً مثقلاً متعباً جداً بشيء لا نفع له به أصلاً فهو ضرر عليه صرف لا يدرك ما هو حامله غير أنه متعب ولا يدري أصخر هو أم كتب، أنتج قوله معبراً بالأداة التي هي لجامع الذم ترهيباً للآدميين من أن يتهاونوا بشيء من أحكام القرآن فيكونوا أسوأ مثلاً من أهل الكتاب فيكونوا دون الحمار لأن رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم وكتابهم أعلى وأفخم فقال: ﴿بئس مثل القوم﴾ أي الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدونه فلم يؤتوا من عجز يعذرون به ﴿الذين كذبوا﴾ أي عمدوا على علم عناداً منهم وكفراً ﴿بآيات الله﴾ أي دلالات الملك الأعظم على رسله ولا سيما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميع ما يرضيه مثلهم فإن مثلهم قد تكفل بتعريف أنهم قد اجتمعوا مع الحمار في وصف هو الروح الباطني، وهو الضرر الصرف الذي لا نفع فيه بوجه بأنفع الأشياء، وهو ما دل على الله فضمن سعادة الدارين، وهذا المثل وإن كان نصاً
56
في اليهود فهو لجميع قراء السوء من كل ملة لاشتراكهم معهم في وجه الشبه كما أن مثل الكلب في الأعراف على هذا النحو، وكأنه لم يدخل سبحانه هذه الأمة في ذلك صريحاً إشارة إلى حفظها من غير أن يكلها إلى نفسها كما أنه آتاها العلم مع الأمية منها ومن رسولها من غير أن يكلهم إلى كتابة ولا تقدم علم ما ولا تكلف لشيء.
ولما كان التقدير: فاستحقوا الوصف بجميع المذام لأنهم ظلموا أشد الظلم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال لا يهديهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: ﴿لا يهدي القوم﴾ أي لا يخلق الهداية في قلوب الأقوياء الذين تعمدوا الزيغ: ﴿الظالمين *﴾ أي الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة.
ولما كان قولهم أنهم أولياء الله وأحباؤه في غاية البعد من هذا المثل، استأنف ما يدل على صحة المثل قطعاً، فقال معرضاً عنهم آمراً لمن كذبوه بتبكيتهم: ﴿قل﴾ أي يا أيها الرسول الذي هم قاطعون بأنه رسوله الله: ﴿يا أيها الذين هادوا﴾ أي تدينوا باليهودية. ولما كان الحق
57
يصدع من له أدنى مسكة، فكانوا جديرين بالرجوع عن العناد، عبر بأداة الشك فقال: ﴿إن زعمتم﴾ أي قلتم قولاً هو معرض للتكذيب ولذلك أكدتموه ﴿أنكم أولياء الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، خصكم بذلك خصوصية مبتدأة ﴿من دون﴾ أي أدنى رتبة من رتب ﴿الناس﴾ فلم تتعد الولاية تلك الرتبة الدنيا إلى أحد منكم غيركم، بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لا سيما الأميين ﴿فتمنوا الموت﴾ وأخبروا عن أنفسكم بذلك للقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء ﴿إن كنتم﴾ أي كوناً راسخاً ﴿صادقين *﴾ أي عريقين عند أنفسكم في الصدق فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن التطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر أنه يتمنى النقلة إلى وليه، روي أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم «والذي نفسي بيده لا يقولها منكم أحد إلا غص بريقه» فلم يقلها أحد منهم علماً منهم بمصدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يقولوا ولم يؤمنوا عناداً منهم.
58
ولما كان التقدير: فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتثالاً لأمرنا ذلك، فلم يتمنوه في الوقت الحاضر، تصديقاً منا لنبوته وتعجيزاً وتحقيقاً لمعجزات رسالته، دل على هذا المقدر بما عطف عليه من قوله
58
الدال قطعاً على صدقه بتصديقهم له بالكف عما أخبر أنهم لا يفعلونه: ﴿ولا يتمنونه﴾ أي في المستقبل، واكتفى بهذا في التعبير بلا لأن المذكور من دعواهم هنا أنهم أولياء لا كل الأولياء فهي دون دعوى الاختصاص بالآخرة، وأيضاً الولاية للتوسل إلى الجنة، ولا يلزم منها الاختصاص بالنعمة بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية، بل البر والفاجر مشتركون فيها. ولما أخبر بعدم تمنيهم، وسع لهم المجال تحقيقاً للمراد فقال: ﴿أبداً﴾ وعرف أن سببه معرفتهم بأنهم أعداء الله فقال: ﴿بما قدمت﴾ ولما كان أكثر الأفعال باليد، نسب الكل إليها لأنها صارت عبارة عن القدرة فقال: ﴿أيديهم﴾ أي من المعاصي التي أحاطت بهم فلم تدع لهم حظاً في الآخرة بعلمهم.
ولما كان التقدير تسبباً عن هذا: لئلا يقولوا: سلمنا جميع ما قيل في الظالمين لكنا لسنا منهم فالله عليم بهم في أفعالهم ونياتهم، عطف عليه قوله معلقاً بالوصف تعميماً وإعلاماً بأن وصف ما قدموا من الظلم ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم محيط بهم - هكذا كان الأصل، ولكنه قال:
59
﴿بالظالمين *﴾ تعميماً وتعليقاً بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم فهو يجازيهم على ظلمهم وهم يعلمون ذلك، وأعظم مصدق الله - ومن أصدق من الله قيلاً - في هذا أنهم ما قوتلوا قط إلا أرزوا إلى حصونهم وقراهم كما مر في سورة الحشر، فدل ذلك على أنهم أحرص على الحياة الدنيا من الذين أشركوا كما مر في سورة البقرة فإنهم عالمون بأنهم يصيرون إلى النار، والعرب يظنون أنهم لا يبعثون فهم لا يخافون ما بعد الموت وهم شجعان يقدمون على الموت كما قال عنترة بن شداد العبسي:
بكرت تخوفني المنون كأنني أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل
فأجبتها أن المنية منهل لا بد أن أسقى بذاك المنهل
فافني حياك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
ولما كان عدم تمنيهم علم من أعلام نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لموافقته ما أخبر به، وكان ذلك فعل من يعتقد أن التمني يقدمه عن أجله وعدمه يؤخره، فصاروا بين التكذيب بما عندهم ونهاية البلادة، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتنبيههم على بلادتهم تبكيتاً لهم فقال: ﴿قل﴾ وأكد إعلاماً لهم بأنه يلزم من فعلهم هذا إنكار الموت الذي لا ينكره
60
أحد فقال: ﴿إن الموت﴾ وزاد في التقريع والتوبيخ بقوله: ﴿الذي تفرون منه﴾ أي بالكف عن التمني الذي هو أيسر ما يكون مع أنه يوصلكم إلى تكذيب من أنتم جاهدون في تكذيبه، وأكد وقوعه بهم لأن عملهم عمل من هو منكر له، وربطه بالفاء جعلاً لفرارهم كالسبب له، فإن الجبن من أسباب الموت مع ما يكسب من العار كما قال: «إن الجبان حتفه من فوقه» أي هو غالب عليه غلبة العالي على السافل فقال: ﴿فإنه ملاقيكم﴾ أي مدرككم في كل وجه سلكتموه بالظاهر أو الباطن.
ولما كان الحبس في البرزخ أمراً - مع أنه لا بد منه - مهولاً، نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال: ﴿ثم تردون﴾ ونبه بالبناء للمفعول على القهر منه سبحانه والصغار منهم وأنه عنده في غاية السهولة ﴿إلى عالم الغيب﴾ وهو كل ما غاب عن العباد فهو مخبر عن أخلاقكم عن علم. ولما كان بعض الفلاسفة يقر بعلمه تعالى بالكليات، وينكر علمه بالجزئيات قال: ﴿والشهادة﴾ وهي كل ما ظهر وتشخص ولو لواحد من الخلق قبل كونه وبعد كونه. ولما كان التوقيف على الأعمال فظيعاً مرجفاً، قال مسبباً عن الرد: ﴿فينبئكم﴾ أي يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى ﴿بما كنتم﴾ أي بما هو لكم كالجبلة
61
﴿تعملون *﴾ أي بكل جزء منه مما برز إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم ولو لقيتم لعلمتموه ليجازيكم عليه.
ولما قبح سبحانه المخالقة بين القول والفعل وصور صاحبها بصورة الحمار على الهيئة السابقة، وحذر من ذلك بما هيأ به العاقل للإجابة إلى دوام الطاعة بعد أن بين أن جميع الكائنات مقرة بشمول ملكه بما لها من التسبيح بألسنة الأحوال، والقيام في مراداته بغاية الامتثال، فكان العاقل جديراً بالمبادرة إلى غاية التسبيح بلسان المقال، وختم بالتحذير من الإخبار يوم الجمع الأعظم بجميع الأعمال، قال على طريق الاستنتاج مما مضى من الترغيب والترهيب، نادباً لهم - ليكونوا أولياء الله - إلى التزكية المذكورة التي هي ثمرة الرسالة بما حاصله الإقبال بالكلية على الله والإعراض بالكلية عن الدنيا ليجمع المكلف بين التحلي بالمزايا والتخلي عن الدنايا، فخص من المزايا أعظم تسبيح يفعله العاقل في أيام الأسبوع وهو الإسراع بالاجتماع العظيم في يوم الجمعة الذي يناظر الاجتماع لإجابة المنادي في يوم الجمع الأكبر، ثم الإقبال الأعظم بفعل صلاة الجمعة التي هي سر اليوم الذي ضيعه اليهود واستبدلوا به ما كان سبب تعذيبهم بعذاب لم يعذب به أحد من العالمين كما جعل نتيجة
62
السورة الماضية النداء بالإرشاد إلى الإيمان والجهاد الموجب للأمان: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بألسنتهم بالإيمان وألهبهم بأداة البعد - المشيرة إلى احتياجهم إلى التزكية - إلى المبادرة إلى الإقبال على ما يتعقب ذلك من الأوامر ﴿إذا نودي﴾ أي من أي مناد كان من أهل النداء ﴿للصلاة﴾ أي لأجل الحضور إليها وإليه عند قعود الإمام على المنبر للخطبة.
ولما كانت الإجابة يكفي في إيجابها النداء في الوقت المعروف للنداء ولا يشترط لها استغراق النداء لجميع اليوم أتى بالجار فقال: ﴿من يوم الجمعة﴾ أي اليوم الذي عرض على من قبلنا فأبوه فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً وادخره الله لنا ووفقنا لقبوله، فكانوا لنا تبعاً مع تأخرنا عنهم في الزمان، سمي بذلك لوجوب الاجتماع فيه للصلاة، فعلة بالسكون ويضم اسم للمفعول كالضحكة للمضحوك منه، فإن فتح ميمه كان بمعنى الوقت الجامع كالضحكة للكثير الضحك، ومن جمعه أن فيه اجتمع خلق آدم عليه الصلاة والسلام فاجتمع بخلقه جميع الخلق، وهو مذكر بيوم البعث والجمع الذي يقع فيه الإنباء بالأعمال، وتظهر فيه ظهوراً بيناً تاماً الجلال والجمال ﴿يوم يناد المناد من مكان قريب﴾ [ق: ٤١] وفيه تقوم الساعة، روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
63
خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيحة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس مشفقاً من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه» وفي آخر الحديث أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إنها آخر ساعة يوم الجمعة، وأول الصلاة بما هو أعم من فعلها وانتظارها لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها» وكان النداء في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند باب المسجد إذا صعد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة، وكذا في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس وتباعدت المنازل وقلت الهمم زاد مؤذناً آخر على داره التي تسمى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن ثانياً الأذان الذي كان على زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة، ولم يعب أحد على عثمان زيادة الأذان الأول لعلمهم أنه من السنة بما جعل إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».
64
ولما كان المراد إيجاب المعنى جزماً من غير تردد مع قطع كل علاقة بلا التفات إلى شيء من غير ما عذر الشارع به، عبر عنه بالسعي، وهو معنى قول الحسن أنه السعي بالنية لا بالقدم، فقال: ﴿فاسعوا﴾ أي لتكونوا أولياء الله ولا تهاونوا في ذلك لتكونوا أعداءه كاليهود ﴿إلى ذكر الله﴾ أي الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك، هذا المراد بالسعي لا حقيقة بل هي منهي عنها كما قال صلى الله عليه وسلم:
«إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا».
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة، وكان طلب الأرباح لكونها حاضرة أعظم مانع عن أمور الآخرة لكونها غايته، وكان البيع أجل ذلك لتعين الفائدة فيه ولكونه أكثر ما يشتغل به أهل الأسواق لكثرة الوافدين إلى الأمصار يوم الجمعة من الحواضر واجتماعهم للتجارة عند تعالي النهار، قال ناهياً عن تجارة الدنيا وكل ما يعوق عن الجمعة معبراً به عنها لأنه أعظمها: ﴿وذروا البيع﴾ أي اتركوه ولو على أقبح حالاته وأذلها وأحقرها، فأفاد النهي عن غيره من باب الأولى، ووقت التحريم من الزوال إلى فراغ الصلاة، فإن خالف وباع صح العقد مع عصيانه، فإن النهي ليس
65
لعينه ولا لما هو داخل فيه ولا لما هو خارج ولازم له بل لأمر مقارن بطريق الاتفاق، وهو ما هو فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب والوضوء بالماء المغصوب.
ولما أمر بما هو شاق على النفوس معبراً بالفعل المريض لفظاً ومعنى، رغب فيه بقوله: ﴿ذلكم﴾ أي الأمر العالي الرتبة من فعل السعي وترك الاشتغال بالدنيا ﴿خير لكم﴾ لأن الذي أمركم به له الأمر كله وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم، وألهب إلى ذلك وزاد في الحث عليه بقوله: ﴿إن كنتم﴾ أي بما هو لكم كالجبلة ﴿تعلمون *﴾ أي يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك لكم خيراً، وصلاة الجمعة فرض عين على كل من جمع البلوغ والعقل والحرية والذكورة والإقامة إذا لم يكن له عذر مما ذكره الفقهاء، وإنما عبر عنها بهذا إشارة إلى أن عاقلاً لا يسعه أن يترك ما يعلم أنه أعلى وجوه الخير، وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة فإذا حضر وصلى مع الإمام سقط عنه فرض من الظهر ولا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر، فإنه إذا حضر يكمل به العدد.
66
ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها، وأنه متى طلب فيه شيء من الدنيا محقت بركته مع ما اكتسب من الإثم، بين وقت المعاش فقال مبيحاً لهم ما كان حظر عليهم، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد: ﴿فإذا قضيت الصلاة﴾ أي وقع الفراغ منها على أي وجه كان ﴿فانتشروا﴾ أي فدبوا وتفرقوا مجتهدين في الأرض في ذلك ﴿في الأرض﴾ جميعها إن شئتم، لا حجر عليكم ولا حرج رخصة من الله لكم ﴿وابتغوا﴾ أي وتعمدوا وكلفوا أنفسكم مجتهدين بالسعي في طلب المعاش ﴿من فضل الله﴾ أي زفلة الملك الأعلى الذي له كل كمال ولا يجب لأحد عليه شيء بالبيع والشراء وغيرهما من مصالح الدين والدنيا التي كنتم نهيتم عنها.
ولما كان السعي في طلب الرزق ملهياً عن الذكر، بين أنه أعظم السعي في المعاش وأن من غفل عنه لم ينجح له مقصد وإن تحايل له بكل الحيل وغير ذلك فقال: ﴿واذكروا الله﴾ أي الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره فإنه لا رخصة في ترك ذكره أصلاً. ولما كان العبد مطلوباً بالعبادة في كل حال فإنه مجبول على النسيان. فمهما فتر عن نفسه
67
استولت عليها الغفلة فمرنت على البطالة فهلكت قال: ﴿كثيراً﴾ أي بحيث لا تغفلوا عنه بقلوبكم أصلاً ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع وعند الإنزال، واستثنى من اللساني وقت التلبس بالقذر كالكون في قضاء الحاجة.
ولما كان مراد الإنسان من جميع تصرفاته الفوز بمراداته قال معللاً لهذا الأمر: ﴿لعلكم تفلحون *﴾ أي لتكونوا عند الناظر لكم والمطلع عليكم من أمثالكم ممن يجهل العواقب على رجاء من أن تظفروا بجميع مطلوباتكم، فإن الأمور كلها بيد من تكثرون ذكره، وهو عالم بمن يستحق الفلاح فيسعفه به وبمن عمل رياء ونحوه فيخيبه، فإذا امتثلتم أمره كان جديراً بتنويلكم ما تريدون، وإن نسيتموه كنتم جديرين بأن يكلكم إلى أنفسكم فتهلكوا.
ولما كان التقدير مما ينطق به نص الخطاب: هذه أوامرنا الشريفة وتقديساتنا العظيمة وتفضلاتنا الكريمة العميمة، فما لهم إذا نودي لها توانى بعضهم في الإقبال إليها، وكان قلبه متوجهاً نحو البيع ونحوه من الأمور الدنيوية عاكفاً عليها ساعياً بجهده إليها فخالف قوله أنه أسلم لرب العالمين فعله هذا، عطف عليه قوله: ﴿وإذا رأوا﴾ أي بعد
68
الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح، والاشتغال بشأنها العالي ﴿تجارة﴾ أي حمولاً هي موضع للتجارة. ولما ذكر ما من شأنه إقامة المعاش أتبعه ما هو أنزل منه وهو ما أقل شؤونه البطالة التي لا يجنح إليها ذو قدر ولا يلقي لها باله فقال: ﴿أو لهواً﴾ أي ما يلهي عن كل نافع.
ولما كان مطلق الانفضاض قبيحاً لأنه لا يكون إلا تقرباً على حال سيئ، من الفض وهو الكسر بالتفرقة، والفضاض ما تفرق من الفم والطلع: كسرهما، فكيف إذا كانت علته قبيحة، قال تعالى معبراً به: ﴿انفضوا﴾ أي نفروا متفرقين من العجلة.
ولما كان سبب نزول الآية أنه كان أصاب الناس جوع وجهد، فقد دحية الكلبي رحمه الله تعالى بعير تحمل الميرة، وكان في عرفهم أن يدخلوا في مثل ذلك بالطبل والمعازف والصياح، وكان قصد بعض المنفضين العير، وبعضهم ما قارنها من اللهو، ولكن قاصد التجارة هو الكثر، أنث الضمير فقال معلماً بالاهتمام بها لأن اللهو مسبب عنها: ﴿إليها﴾ وللدلالة على أنه إذا ذم قاصدها مع ما فيها من النفع والإنسان لا بد له من إصلاح معاشه لقيام حاله
69
ولا سيما والحاجة إذ ذاك شديدة، كان الذم لقصد اللهو نم باب الأولى.
ولما كان ذلك حال الخطبة التي هي جديرة بشدة الإصغاء إليها والاتعاظ بها في صرف النفس عن الدنيا والإقبال على الآخرة قال: ﴿وتركوك﴾ أي تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً، قال جابر رضي الله عنه: أنا أحدهم، ودل على مشروعية القيام بقوله: ﴿قائماً﴾ فالواجب خطبتان: قائماً يفصل بينهما بجلوس، والواجب فيهما أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويوصي بتقوى الله تعالى، هذه الثلاثة واجبة في الخطبتين معاً، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن وفي الثانية أن يدعو للمؤمنين، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لم تصح الخطبة عند الشافعي رضي الله عنه، ولجواز الجمعة خمس شرائط: الوقت وهو وقت الظهر، والعدد وهو الأربعون، والإمام والخطبة ودار الإقامة، فإن فقد شرط وجبت الظهر، ولا تبتدأ الخطبة إلا بعد تمام، وبقاء هذا العدد شرط إلى آخر الصلاة، فإن انفض بعضهم ثم عاد ولم يفته شيء من الأركان صحت.
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم
70
للخطاب ولو بالعتاب قال: ﴿قل﴾ أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه: ﴿ما عند الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر، المفيد لتزكية الباطن وتقويم الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما لا يدخل تحت الوصف ﴿خير﴾ ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها، قدم هنا ما كانت سبباً له ليصير كل منهما مقصوداً بالنهي فقال: ﴿من اللهو﴾ ولما بدأ به لإقبال الإغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد: ﴿ومن التجارة﴾ أي وإن عظمت.
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال: ﴿والله﴾ أي ذو الجلال والإكرام وحده ﴿خير الرازقين *﴾ لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً، أقبل
71
على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قال يوم الجمعة» اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله تعالى «وأصل الحديث أخرجه أحمد والترمذي - وقال حسن - عن علي رضي الله عنه، وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما، فأقبلوا على متابعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وألزموا هدية واستمسكوا بغرزه تنالوا خيري الدارين بسهولة، فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو من شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولا سيما إذا كان قدوساً وتبكيت من أعرض عن خطبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي هو عين تنزيه الله وتسبيحه ﴿يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ [آل عمران: ١٦٤] يزكيهم ربهم ويرزقهم من فضله إنه كريم وهاب - والله أعلم بالصواب.
72
سورة المنافقون
مقصودها كمال التحذير مما يثلم الإيمان من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يقدح في الإسلام من الأحوال الظاهرة، بمخالفة الفعل للقول فإنه نفاق في الجملة فيوشك يجر إلى كمال النفاق فيخرج من الدين ويدخل الهاوية، ليكون هذا التحذير سببا في صدق الأقوال ثم صدق الأعمال ثم صدق الأخلاق ثم صدق الأحوال ثم قف الأنفاس، فصدق القول أن لا يقول القائل إلا عن برهان، وصدق العمل أن لا يكطون للبدعة عليه سلطان، وصدق الأخلاق أن لا يلاحظ ما يبدو منه من الإحسان بعد المبالغة فيه بعين النقصان، وصدق الأحوال أن يكون على كشف وبيان وصدق الأنفاس أن لا يتنفس إلا عن وجود كالعيان، وتسميتها بالمنافقين واضحة في ذلك) بسم الله (الذي له الإحاطة العظمى علما وقدرة فمن زاغ أراده) الرحمن (الذي ستر بعموم رحمته من أراد من عباده وفضح من
73
شاء وإن دقق مكره وأخفاه) الرحيم (الذي وفق أهل وده بإتمام نعمته لما يحبه ويرضاه.
74
Icon