ﰡ
في هذه الآيات الكريمة تصويرٌ رائع لما يحدثُ يومَ القيامة من أهوالٍ تُشيبُ الأطفالَ. فاذا طُويت الشمسُ واختفت، وتناثرت النجومُ - وزالت الجبالُ عن أماكنِها، وأُهملت النوقُ الحوامل (وقد خصّها الله بالذِكر لأنها أكرم الأموالِ عند العرب)، وجمعت الوحوش من أوكارِها ذاهلةً من شدّة الفزع. وإذا تأجّجت البحار وغدَتْ نيرانا ملتهبة (وتسجيرُ البحار يكون بتشقق الأرض وتفجر النيران من باطنها فيظهر ما فيه من نيران متأجّجة كما نشاهد من ثورات البراكين) - يذهب الماء عند ذلك بخارا، ولا يبقى في البحار الا النار. وهذا معنى قوله تعالى ﴿وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ﴾.
واذا قرنت الأنفس بأجسادها وعادت كل نفس الى الجسم الذي فارقتْه عند الموت، فَزُوِّدت النفوس بأبدانها، وهي النشأةُ الآخرة، (وفي الآية ما يشعر بان النفوس باقية لم تمت، وانما تزوَّج بالبَدَن بعد انفصالها عنه).
واذا أُتي بالموءودةِ وسُئِلت عن السبب الذي لأجْله قُتلت.. (وكانت هذه العادة عند العربِ من أسوأ العادات، وكانت فاشيةً عندهم في الجاهلية، فكان بعضهم يدفنون البناتِ وهن أحياء، وبعضُهم يقتلونهنّ بشتى الوسائل: إما للغِيرة والحميّة، وإما من الخوف من الفقر والإملاق). فجاء الاسلامُ وأبطلَ هذه العادةَ السيئة، وأكرم الأنثى، وأعطاها حقوقها واحترمَها غاية الاحترام، وحلّت الرحمةُ محلّ الفظاظة، والرأفةُ محل الغِلظة بفضل هذا الدين القويم. فما أعظمَ نعمةَ الإسلام على الانسانية بأسرها!
﴿وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾.
بعد أن تزول السماء، وتُنشَر الصحف، ويحاسَب كل انسان على عمله، وتُبرز الجحيمُ بنيرانها المتأججة، وتقرَّب الجنةُ للمؤمنين - عند ذلك تعلم كلُّ نفس ما قدّمت من أعمال، فيذهب أهلُ النار الى جهنم والمؤمنون إلى الجنةِ عند ربهم، ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ [القمر: ٥٥].
والذي يجب علينا أن تعتقدَه أن أعمال العباد تظهر لهم ثابتةً مبيَّنة لا يرتابون فيها يومَ القيامة. وبعد ان اخترع الانسان الكمبيوتر والآلات الحاسبة لم يعدْ هناك شيء مستغرَب في نشر الصحف يوم القيامة، وفيها حسابُ كل انسان على أدقِّ وجه ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: ٤٩].
قراءات:
قرأ الجمهور: سجّرتْ بتشديد الجيم المكسورة، وقرأ ابن كثير وابو عمرو: سجرت بتخفيف الجيم، وقرأ نافع وحفص عن عاصم وابن عامر وابو عمرو: نشرت بكسر الشين من غير تشديد، والباقون: نشرت بتشديد الشين. وقرأ الجمهور: سعرت بكسر العين المخففة، وقرأ نافع وحفص وابن ذكوان: سعّرت بتشديد العين.
بعد ان ذكر الله تعالى بعض اهوال يوم القيامة، وكلَّ ما سبق - أقسم هنا بأيمان مؤكدة بالنجوم الخُنّس، والكنَّس، وبالليلِ اذا أقبل ظلامُه، وبالصبحِ اذا أسفَرَ وظهر نورُه. وما أجملَ قوله تعالى ﴿والصبح إِذَا تَنَفَّسَ﴾ ! ولا يعرف هذه الحقيقة الا الذي يقوم مبكّرا، ويرى جمالَ إسفارِ الصباح ويشمُّ النسيم العليلَ الذي يُنعش النفوس.
لقد اقسم الله تعالى بهذه الأشياء العظيمة، أن القرآنَ الكريم ليس من كلام محمد ﷺ، وإنما هو كلامُ الله جاء به جبريلُ، وهو رسولٌ كريم وصاحبُ قوةٍ في أداءِ مهمته، ﴿عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ﴾ وذو جاهٍ ومنزلة عند ربه العليّ العظيم، كما أنه مطاع بين الملائكة المقربين.
ثم وصف الرسولَ الكريمَ مخاطباً قومه فقال ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ فهو محمد الذي عرفتموه وخبرتموه وكنتم تنعتونه «بالأمين» ! لماذا بعد ان جاءته الرسالة قلتم عنه انه مجنون؟
﴿وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين﴾
كيف تقولون هذه الأقوال الكاذبة عنه، وهو الذي رأى جبريلَ بالأفق المبين الواضح، كما جاء في سورة النجم: ﴿مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى﴾ [النجم: ١١-١٤].
﴿وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ﴾
ليس محمّد بالمتهَم على القرآن وما فيه، ولا ببخيلٍ يقصّر في تبليغه وتعليمه، بل هو ثقةٌ أمين.
﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾
ما هذا القرآن الذي يتكلم به النبيّ قولَ شيطانٍ مرجوم مطرودٍ من رحمة الله.
ثم بين لهم انهم قومٌ قد ضلّوا طريقَ الهدى، وجهِلوا سبيل الحكمة فقال:
﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ؟ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾.
أي طريقٍ أهدَى من هذا الطريق تسلكون!!
ليس هذا القرآن العظيم الا تذكرةً للناس جميعا، يأمرهم بالخير، ويزجرُهم عن الشر، وهو هدايةٌ وتذكِرة ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾. أما من يصرّ على الضلال فلا ينتفع بذِكر، ولا تؤثّر فيه موعظة ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين﴾ وكلٌّ اليه راجعون.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي: بظنين بالظاء، وقرأ الباقون بضنين، بالضاد.