ﰡ
(وهي مكية حروفها مائة وثلاثة كلمها تسع وعشرون آيها ثمان)
[سورة التين (٩٥) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)
الوقوف:
وَالزَّيْتُونِ هـ لا سِينِينَ هـ لا الْأَمِينِ هـ لا تَقْوِيمٍ هـ ز للعطف سافِلِينَ هـ ط بناء على أن المراد بالرد هو الخذلان إلى الكفر، ولو حمل إلى الرد إلى أرذل العمر لأن الاستثناء منقطع جاز الوقف عند قوم مَمْنُونٍ هـ ط بِالدِّينِ هـ ط الْحاكِمِينَ هـ.
التفسير:
إن التين والزيتون كيف أقسم الله بهما من بين سائر المخلوقات الشريفة؟
للمفسرين فيه قولان: فعن ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذان من خواص التين أنه غذاء فاكهة ودواء لأنه طعام لطيف سريع الهضم ما بين الطبع، ويخرج بطريق الرشح ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال.
وروي أنه أهدي لرسول الله ﷺ طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس.»
وعن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه: التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج.
ومن خواصه أن ظاهره كباطنه ماله قشر ولا نواة له وأنها شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى تأتي بالثمرة ثم بالنور خلاف المشمس واللوز ونحوهما، وسائر الأشجار كأرباب المعاملات
في قوله ﷺ «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» «١»
ويروى أن آدم عليه السلام تستر بورقها حين نزع عنه ثيابه فلما نزل وكان مستورا بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين فرزقها الله الجمال والملاحة صورة، والمسك وطيبه معنى، وحين تفرقت الظباء ورأى غيرهن منها ما أعجبها جاءت من الغد على أثرهن فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال والملاحة دون طيب المسك،
وذلك أن الطائفة الأولى جاءت إلى آدم لا لأجل الطمع، والطائفة الثانية جاءت للطمع سرا وإلى آدم ظاهرا، فلا جرم غير ظاهرها دون باطنها. وأما الزيتون فإنه من الشجرة المباركة وهو فاكهة من وجه ودواء من وجه كما تقدم وصفه في سورة النّور. قال مريض لابن سيرين: رأيت في المنام كأنه قيل لي كل اللاءين تشفى فقال: كل الزيتون فإنه لا شرقية ولا غربية. وقيل: من أخذ ورق الزيتون في النوم استمسك بالعروة الوثقى. فهذه المصالح والمنافع هي التي جوزت الإقسام بهما. القول الثاني: إنه ليس المراد بهما هذه الثمرة ثم اختلفوا. فعن ابن عباس في رواية: هما جبلان في الأرض المقدسة يقال لهما طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا التين والزيتون. وهما منشأ عيسى ومبعثه ومبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل، كما أن طور سينين مبعث موسى، والبلد الأمين مبعث محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد:
التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس. وقيل: التين مسجد الكهف، والزيتون مسجد إيليا. وعن ابن عباس أيضا: التين مسجد نوح على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس، وعن كعب: أن التين دمشق، والزيتون بيت المقدس. وعن شهر بن حوشب: التين الكوفة والزيتون الشام. وعن الربيع: هما جبلان من بين همذان وحلوان، وأما طور سينين فالطور جبل موسى عليه السلام وسينين الحسن بلغة الحبشة. وقال مجاهد: المبارك. وقال الكلبي ومقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط. قال الواحدي: الأولى أن يكون سينين اسما للمكان الذي فيه الطور سمي بذلك لحسنه أو لبركته، ثم أضيف إليه الطور للبيان.
لإضافته إليه وسميت مكة أمينا لأنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين وما يؤتمن عليه، ويجوز أن يكون «فعيلا» بمعنى «مفعولا» لأنه مأمون الغوائل كما جعله آمنا لكونه ذا أمن أقول:
من المعلوم أن الإقسام ينبغي في باب البلاغة أن يكون مناسبا وكذا القسم والمقسم عليه، وكان الله سبحانه أقسم بالمراتب الأربع التي للنفس الإنسانية من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد إن الإنسان خلق في أحسن تقويم وهو كونه مستعدا
والأولون قالوا: لو حلف إنسان أن زوجته أحسن من القمر لم يحنث لأنه تعالى أعلم بخلقه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وكان بعض الصالحين يقول: إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال وهو العفو عن الذنوب والتجاوز عن العيوب. ومعنى أَسْفَلَ سافِلِينَ قال ابن عباس: أرذل العمر ومثله قول ابن قتيبة:
السافلون هم الضعفاء والزمنى ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلا. قال الفراء: لو قيل «أسفل سافل» حملا على لفظ الإنسان كان صوابا أيضا. وقال مجاهد والحسن: هو النار ومثله ما
قال علي رضي الله عنه: أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض ويبدأ بالأسفل فيملأ.
وعلى هذا القول تقدير الكلام رددناه إلى أسفل سافلين أي في أسفل سافلين إِلَّا الَّذِينَ الآية. أي الذين استكملوا بحسب القوتين النظرية والعلمية فلهم ثواب دائم غير منقطع. إما بسبب صبرهم على ما ابتلوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان مع ضعف البنية وفتور الآلات. أو بواسطة حصول الكمالات لهم. فهذا الاستثناء على القول الأول منقطع بمعنى لكن. وعلى الثاني متصل. ولا يبعد أن يكون أيضا متصلا والمعنى. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال الاستطاعة فلهم ثواب جزيل في حالة الشيخوخة والضعف وإن لم يقدروا على مثل تلك الأعمال. فكأنهم لم يردوا إلى أسفل من سفل. ثم خاطب الإنسان بقوله فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يعني فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيب الجزاء، لأن كل مكذب بالحق فهو كاذب، ولا ريب أن خلق الإنسان من نطفة إلى أن يصير كاملا في الخلق والخلق، ثم تنكيسه إلى حال تخاذل القوى وتقويس الظهر وابيضاض الشعر وتناثره أوضح دليل على قدرة الصانع وحده، ومن قدر على هذا كله لم يعجز عن إعادة مخلوقه بعد تفرق أجزائه. هذا بالنظر إلى القدرة، وأما
قوله فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ دليل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يفعل أفعال العباد في ما فيها من السفه والظلم، ولو خلق ذلك لكان هو أولى بأن يدعى سفيها وظالما. وأجيب بأن خلق السفه لا يلزم منه الاتصاف بالسفه كما أن إيجاد الحركة لا يلزم منه الاتصاف بالحركة. ويمكن أن يقال: نحن لا ندعي لزوم الاتصاف به ولكن ندعي أن خلق السفه نفسه نوع سفه. والجواب الصحيح بعد المعارضة بالعلم والداعي أن يعارض بقوله ثُمَّ رَدَدْناهُ فإنه دليل على أنه أضاف الشيء إلى ذاته.
عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا قرأ السورة قال: بلى وأنا بذلك من الشاهدين.