ﰡ
وفي الحديث :« إياكم والظلم فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول : وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم ظلم ثم ينادي مناد فيقول : أين فلان بن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال، فيشخص الناس أبصارهم، حتى يقوم بين يدي الرحمن عزَّ وجلَّ، ثم يأمر المنادي، فينادي من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم، فيقبلون حتى يجتمعوا قياماً بين يدي الرحمن، فيقول الرحمن : اقضوا عن عبدي، فيقولون : كيف نقضي عنه؟ فيقول : خذوا لهم من حسناته فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة، وقد بقي من أصحاب الظلامات، فيقول : اقضوا عن عبدي، فيقولون : لم يبق له حسنة. فيقول : خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه » ثم نزع ﷺ بهذه الآية الكريمة :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه :« إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ».
وقوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾، كقوله :﴿ فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٩ ] أي لما فارق قومه أقر الله عينه بوجود ولد صالح نبي، وولد له ولد صالح نبي في حياة جده، وكذلك قال تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ﴾ [ الأنبياء : ٧٢ ] أي زيادة، كما قال تعالى :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] أي يولد لهذا الولد ولد في حياتكما تقر به أعينكما، فأما ما روي عن ابن عباس في قوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ قال : هما ولدا إبراهيم، فمعناه أن ولد الولد بمنزلة الولد، فإن هذا الأمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب ﴾ هذه خلعة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إياه خليلاً وجعله للناس إماماً أن جعل في ذريته النبوة والكتاب، فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلاّ وهو من سلالته، فجميع أنبياء إسرائيل من سلالة ( يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) حتى كان أخرهم عيسى ابن مريم، فقام مبشراً بالنبي العربي سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، الذي اصطفاه الله من صميم العرب العرباء، من سلالة ( إسماعيل بن إبراهيم ) عليهما السلام، ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه عليه أفضل الصلاة والسلام، وقوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين ﴾ أي جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصلة بسعادة الآخرة، فكان في الدنيا الرزق الواسع الهني والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الحسنة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن وكل أحد يبحه ويتولاه، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوده، كما قال تعالى :
( ذكر الآثار الواردة في ذلك )
روى ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال :« سئل النبي ﷺ عن قول الله ﴿ إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر ﴾ ؟ قال :» من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له « »، وعن ابن عباس، قال رسول الله ﷺ :« من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلاّ بعداً » وروى الحافظ أبو بكر البزار قال، « قال رجل للنبي ﷺ : إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، وقال :» إنه سينهاه ما تقول « »، وتشتمل الصلاة أيضاً على ذكر الله تعالى هو المطلوب الأكبر، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ﴾ أي أعظم من الأول ﴿ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم، وقال أبو العالية : إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة : الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله ( القرآن ) يأمره وينهاه، وقال ابن عون الأنصاري : إذا كنت في صلاة فأنت في معروف وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر، وعن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ﴾ يقول : ولذكر الله لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم أياه، وعن عبد الله بن ربيعة قال، قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى :﴿ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ﴾ ؟ قال، قلت : نعم، قال : فما هو؟ قلت : التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك، قال : لقد قلت قولاً عجيباً وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم أياه، وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس، واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى :﴿ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون ﴾ أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس، فيقول : إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء، وقد قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة، ﴿ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ]، قال الله تعالى :﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض ﴾ [ الفرقان : ٦ ] الآية، وقال هاهنا ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم ﴾ أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، يحفظه العلماء، يسره الله عليهم حفظاً وتلاوة وتفسيراً، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ [ القمر : ١٧ ] وقال رسول الله ﷺ :« ما من نبي إلاّ وقد أعطى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً »، وفي « صحيح مسلم » يقول الله تعالى :« إني مبتليك ومبتل بك، ومنزلٌ عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً »، أي لأنه محفوظ في الصدور، ميسر على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظاً ومعنى، ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة ( أناجيلهم في صدورهم )، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون ﴾ أي ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها ﴿ إِلاَّ الظالمون ﴾ أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ].
وفي الحديث :« إن في الجنة غرفاً يرى ظاهراً من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وتابع الصلاة والصيام، وقام بالليل والناس نيام » ﴿ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم، ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار، ولهذا قال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد، ﴿ الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ أي الله يقيّض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء، قال تعالى :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ هود : ٦ ]، وروى ابن أبي حاتم
روى ابن أبي حاتم يسنده عن الشعبي قال، قال عيسى ابن مريم عليه السلام : إنما الإِحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، والله أعلم.