ﰡ
أيظن الناس أنهم يُتركون بمجرد قولهم آمنا بالله دون أن يُختبروا بما تتبيَّن به حقيقةُ إيمانهم. لا بدَّ من امتحانهم بذلك.
لقد اختبرنا الناسَ من الأمم السابقة بضروبٍ من البأساء والضراء فصبروا وتمسكوا بدِينهم، والله يعلم الذين صدقوا في إيمانهم، ويعلم الكاذبين.
روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خَبَّاب بن الأرتّ قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقينا من المشركين من شدةٍ، فقلنا : ألا تستنصرُ لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال :« قد كان من قبلِكم يؤخَذُ الرجل فيُحفَرُ له في الأرض فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضعُ على رأسه فيُجعل نصفَين، ويمشَط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه. والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاء الى حضرموتَ لا يخاف إلا الله، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون »
أم يظن المشركون والذين يرتكبون الأمورَ السيئة أننا لا نقدِر عليهم ! ! بئسَ هذا الحكم الذي يحكمونه بجهلهم وغرورهم.
أجَل الله : الوقت المضروب للقائه.
من كان يؤمن بالبعثِ، وبلقاء الله، فإن إيمانه حق، واليومُ الموعود الذي عيّنه الله آت لا محالة، وهو سميع لأقوال العباد عليم بأفعالهم.
ثم بين الله تعالى أن التكليفَ بجهاد النفس وغيرها ليس لنفعٍ يعود إليه بل لفائدة الناس.
ومن جاهدَ نفسه بالصبر على الطاعة، فإن ثواب جهاده لنفسه، والله سبحانه لا يحتاج الى شيء من أعمالنا، كما قال :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ﴾ [ فصّلت : ٤٦ ]، وقال :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ [ الإسراء : ٧ ].
لقد ظن بعض المفسّرين أن هذه الآية مدينة لأن فيها ﴿ وَمَن جَاهَدَ ﴾، والصوابُ أن الآية مكّية والمراد هنا بالجهاد جهادُ النفس والصبر على الأذى.
الناس في الدين ثلاثة أقسام : مؤمن حسن الاعتقاد والعمل، وكافر مجاهر بالكفر والعناد، ومذبذب بينهما يُظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر في قلبه، وقد بيّن الله تعالى القسمين الأولين بقوله :﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين ﴾. وهنا يبين القسم الثالث بقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ﴾ :
ومن الناس من يقول بلسانه آمنتُ بالله ويدعي الإيمانَ ظاهرا، فإذا أُصيب بأذىً بسبب إيمانه جزعَ وسوّى بين الناس وعذابِ الله في الآخرة، واعتقدَ أن هذا من نقمةِ الله تعالى، فيرتدّ عن الإسلام. وهذا كقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ ﴾ [ الحج : ١١ ].
﴿ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ : لئن فتحَ الله على المؤمنين وجاءهم بعضُ الخيرات يقول المنافقون إنا كنّا معكم فأشركونا فيها معكم.
وقد توعّدهم الله وذكر أنه عليمٌ بما في صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمرِهم فقال :﴿ أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين ﴾.
كان زعماء قريش من المشركين يقولون للذين دخلوا في الإسلام : ارجِعوا إلى ديننا واتّبعوا ما نحن عليه، وإذا كان هناك بعثٌ وحساب تخشونه فنحن نحمل عنكم ذنوبكم. فردّ الله عليهم قولهم بأنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة، ولن تحمل نفسٌ وِزرَ نفسٍ أخرى، وأن الكافرين لكاذبون في وعدهم
وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطِبيهم، بيّن ما يستتبعه ذلك القول من المضرة لأنفسهم، فقال :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ :
سوف يحمل أَولئك الكفار أوزارَ أنفسِهم الثقيلة، ويحملون معها مثل أوزار من أضلّوهم وصرفوهم عن الحق، وسيحاسَبون يوم القيامة على ما كانوا يختلقون في الدنيا من الأكاذيب.
وفي الصحيح :«من دعا الى هدىً كان له من الأجرِ مثلُ أجور من اتبعه الى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا الى ضلالٍ كان عليه من الإثمِ مثلُ آثام من اتبعه الى يوم القيامة من غيرِ أن ينقص من آثامهم شيئا »
إن نوحاً مكث في قومه تسعمائةٍ وخمسين سنة يدعوهم وهم
لا يستجيبون له، فأغرقهم الله بالطوفان وهم ظالمون لأنفسِهم.
وقد تقدّم ذكر نوح في آل عمران والنساء والأنعام والأعراف والتوبة ويونس وهود وإبراهيم والإسراء ومريم والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان والشعراء والعنكبوت، هذا وسيأتي في عدد من السور.
وقوله تعالى :﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ﴾ : لم يقل ألف سنة إلا خمسين سنة، حتى لا يكرر كلمة سنة فلا يكون الكلام بليغا، والعرب تعبر عن الخِصب بالعام وعن الجَدْب بالسنة، ونوح لما استراح بقي في زمن حسن.
أذكُر أيها الرسول، قصة إبراهيم حين دعا قومه الى توحيد الله.
فابتغوا : فاطلبوا.
ثم أرشدهم الى فضلِ ما يدعوهم إليه وفسادِ ما هم عليه، بعبادتهم الأصنامَ التي يصنعونها بأيديهم، وقال لهم إن هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تضر، ولا تعطيكم رزقاً، فاطلبوا الرزق من الله وحده، واعبدوه واشكروه، فإليه مصيركم أجمعن.
ويعيده : في الآخرة يوم القيامة.
في هذه الآية تكملةٌ لقصة إبراهيم فإنه قال لهم : ألم تروا كيف بدأ الله الخلق ؟ إنه سيعيد الخلق يوم القيامة كما خلقه أول مرة. وذلك على الله يسير.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر :﴿ ألم تروا ﴾ بالتاء، والباقون :﴿ ألم يروا ﴾ بالياء.
النشأة : الخلق.
ثم أرشدهم الى الاعتبار بما في هذه الأرض من دلائلَ وما في الآفاق من شواهد، وقال لهم : سيروا في هذه الأرض، ابحثوا فيها كيف بدأ الله الخلق، فإنكم ستجدون الدلائلَ الكافية على كيفية تكوين الخلق كما بدأه الله، وهو سيعيد إنشاءه يوم القيامة.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ النشَاءة ﴾ بفتح الشين ومدها، والباقون :﴿ النشْأة ﴾ بسكون الشين.
وهو حسب حكمته يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء بعدله في حكمه، إليه مرجعُكم جميعا يوم الحساب والجزاء.
ولا نصير : ولا معين.
لستم أيها المكذِّبون بمعجزين أينما كنتم، ولا يستطيع أحدٌ نصركم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي :﴿ مودةُ بينِكم ﴾ برفع مودة وجر بينكم بالإضافة، وقرأ نافع وأبو بكر وابن عامر :﴿ مودةً بينكم ﴾ بنصب مودة منونا ونصب بينكم، وقرأ حفص عن عاصم وحمزة :﴿ مودةَ بينِكم ﴾ بنصب مودة وخفض بينكم بالإضافة وهي قراءة المصحف.
ذُكرت قصة لوط في عدد من السور باختلاف يسير، وبعضها يكمل بعضا، وقد مرت في كل من سورة الأعراف وهود والحِجر والشعراء والنمل.
وخلاصتها أن قوم لوط كانوا أشراراً يقطعون الطريق على السابلة، قد ذهب الحياء من وجوههم فلا يستقبحون قبيحا، ولا يرغبون في حسَن.
قراءات :
قرأ أهل الحجاز وابن عامر ويعقوب وحفص :﴿ إنكم لتأتون الفاحشة ﴾ بهمزة واحدة، وقرأ أهل الكوفة :﴿ أإنكم ﴾ بهمزتين على الاستفهام.
وكانوا يأتون الذكورَ من الناس، ويُعلنون ذلك ولا يرون فيه سوءا.
فكانوا يتربصون لكل داخلٍ مدينتَهم من التجّار ويجتمعون عليه ويمدون أيديهم الى بضاعته يأخذُ كل واحد منها شيئا حتى لا يبقى معه شيء. كما قال تعالى :﴿ وَتَقْطَعُونَ السبيل ﴾.
ولقد أنجى لله لوطاً وابنتَيه من القرية وبقيت امرأته فيها، لأنها كانت كافرة مع قومها.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب :﴿ لنُنَجينه ﴾ بفتح النون الثانية وتشديد الجيم المكسورة،
ضاق بهم ذرعا : عجز عن تدبير شئونهم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب :﴿ { وإنا مُنَجوك ﴾ بفتح النون وتشديد الجيم المضمومة.
فحل بهم العذاب، وأمطر الله عليهم حجارةً من سِجِّيل، قلبتْ ديارَهم عاليَها سافلها.
قراءات :
قرأ ابن عامر والكسائي :﴿ منزلون ﴾ بفتح النون وتشديد الزاي المكسورة، والباقون :﴿ منزلون ﴾ بإسكان النون وكسر الزاي دون تشديد.
وارجوا اليوم الآخر : توقعوا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال. لا تعثوا : لا تفسدوا.
تقدم ذكر قصة شعيب في سورة الأعراف وهود والشعراء بأطولَ مما هنا، وكذلك مرت قصة صالح مع قومه عادٍ في سورة الأعراف وهود وغيرها، وهم عربٌ مساكنهم في الأحقاف في شمال حضرموت. وموضع بلادهم اليوم رمال خالية على أطراف الرَّبع الخالي. وصالح وقومه ثمود عربٌ أيضا، ومساكنهم الحِجر في شمال الحجاز وتُعرف اليوم بمدائن صالح، وأسماؤهم عربية. وهذا نصّ وجده المنقبون على حجرٍ بالحرف النبطي وتاريخه قبل الميلاد :
« هذا القبرُ الذي بنته كمكم بنتُ وائلة بنت حرم وكليبة انتها لأنفسِهن وذريتهن، في أشهرٍ طيبةٍ من السنة التاسعة للحارث ملك النبطيين محب شعبه.... الخ ».
لقد أهلك الله قوم شعيب في « مدين ».
جاثمين : باركين على ركبكم، هالكين.
وقوم هود في « الأحقاف »، وقوم ثمود في « الحجر » ويخاطب قريشاً بقوله تعالى :﴿ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾ لأنهم يمرون عليها في ذهابهم الى اليمن والشام.
وأهلك الله فرعون وقارون وهامان الذين جاءهم موسى بالمعجزات الواضحة فاستكبروا وكفروا.
فما استطاعوا أن ينجوا من عذاب الله الأليم، بل أخذَهم الله بذنوبهم. فعادٌ أخذهم حاصبٌ، وهو الريحُ الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم. وثمود أخذتهم الرَّجفة والصيحة. وقارون خَسف به وبداره الأرض. وفرعون وهامان غرقا في اليمّ. وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
وإذا نظرنا الى أحوال الأمم الآن في معظم أقطار الأرض نجد الفتنَ والحروب والمشاكل التي لا تنتهي، وغلاء الأسعار المتزايدَ في جميع أقطار الأرض، أليسَ هذا كلّه من أنواع العذاب والبلاء ! لكن فرعون اليوم هو أمريكا وأوروبا من دول الاستعمار، وهامان هو بعض الحكّام الذين لا يخلصون لشعوبهم.
أما نحن المسلمين، فقد حِدنا عن جادة الصواب، وانحرفنا عن ديننا واتبعنا أهواءنا فضعُفنا وتخاذلنا وتأخرنا، وصرنا نهباً للأمم تنهب شركاتها خيراتنا حتى التي في باطن الأرض، وتغتصب أراضينا بتواطؤ بعضنا في ذلك. أليس هذا من العذاب ! !
فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويعبد سواه ! !
قراءات :
قرأ أبو عمرو ويعقوب وعاصم :﴿ إن الله يعلم ما يدعون من دونه ﴾ بالياء، والباقون :﴿ إن الله يعلم ما تدعون من دونه ﴾ بالتاء.
﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية وعجائب هذا الكون الكبير.
﴿ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ : فذِكر الله أكبر من كل شيء، وأكبر من كل تعبد وخشوع. والله يعلم ما تفعلون من خيرٍ وشر فيجازيكم عليه.
مسلمون : مطيعون، خاضعون.
يؤكد القرآن الكريم على الدعوة بالرِّفق واللين، ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، ومقابلة الغضب والعصبية بالهدوء وكظم الغيظ، فيقول :﴿ وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، ويقول :﴿ ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ]، ويقول :﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ المؤمنون : ٩٦ ].
هذه أوامر الله تعالى في القرآن الكريم، يأمرنا أن نتحلّى بالرفق واللين، وندعو ونجادل بالتي هي أحسن. لكننا مع الأسف نجد معظم الذين يرتدون في الظاهر زِيّ الدين ويدعون الى الله، لا يتحلّون بهذه الأخلاق، فتجدهم على المنابر متشنّجين متشدّدين، وقد لا نظلمهم إذا قلنا إن بعضهم يتشنّج في خدمة جيبه، لا خدمة ربّه.
﴿ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ : أما الذين ظلمونا وحاربونا وناصبونا العداء فإن الله تعالى أمرنا أن نقابلهم بالمثل، حيث لا ينفع معهم الرفق
ولا اللين. وفي مذابح لبنان وأفغانستان شاهدٌ على ذلك.
﴿ وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ : قولوا لهم : آمنّا بالقرآن الذي أُنزل إلينا والتوراةِ والإنجيل، معبودُنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له، ومنقادون لأمره.
ثم بين الله أنه لا عجبَ في إنزال القرآن على الرسول الكريم، فهو على مثال ما أُنزل من الكتب من قبل، فقال :﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الكافرون ﴾ :
كما أنزلنا الكتب على من قبلَك من الرسل أنزلنا إليك القرآن، فالذين آتيناهم الكتابَ قبل القرآن من اليهود والنصارى يؤمنون به، إذ كانوا مصدّقين بنزوله حسب ما ورد في كتبهم.
ومن هؤلاء العربِ من يؤمن به، وما يكذّب بآياتنا بعد ظهورها إلا المصرّون على الكفر.
ثم أكد الله إنزاله من عنده، وأزال الشبهة في افترائه، فقال :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون ﴾ :
ما كنتَ يا محمد تقرأ ولا تكتب من قبل أن ينزل إليك القرآن، وهذا أمرٌ يعلمه جميعُ أهل مكة، ولو كنتَ تقرأ وتكتب لشكّ أهل الباطل في أن هذا القرآن من عند الله.
﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون ﴾ :
إن هذا القرآن لا يمكن أن يكون موضعَ ارتياب، بل هو آياتٌ واضحات محفوظة في صدور الذين آتاهم الله العلم. ولا ينكر آياتنا إلا الظالمون للحقّ ولأنفسِهم، الذين لا يَعدلِون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور.
قل يا محمد : إن المعجزات عند الله ينزلها حين يشاء، وإنما أنا مكلف بالإنذار الواضح، وتبليغ الرسالة، وليس عليَّ هداكم.
ثم قال تعالى : كيف يطلبون الآياتِ مع نزول القرآن ! أليس فيه ما يكفي ويقنع !
قراءات :
قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم :﴿ لولا أنزل عليه آياتٌ من ربه ﴾ بالجمع، وقرأ الباقون :﴿ لولا أنزل عليه آيةٌ من ربه ﴾ بالإفراد.
لا تشعرون.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة ونافع :﴿ ويقول ذوقوا... ﴾ بالياء، والباقون :﴿ ونقول ﴾ بالنون.
بعد أن بيّن حال الجاحدين المكذّبين، وما يغشاهم من عذاب محيط بهم، لأنهم قد اشتد عنادهم وكثر أذاهم للمؤمنين، ومنعوهم من أداء عبادتهم، أمره الله بالهجرة الى دار أخرى حتى ينجوا بعقيدتهم.
قراءات :
قرأ أبو بكر :﴿ ثم إلينا يرجعون ﴾ بالياء، والباقون :﴿ ترجعون ﴾ بالتاء
وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت،
ولا خَطَرَ على قلب بشر، فهنالك الجنة ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين ﴾.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ لنثوينهم ﴾ بالثاء، يعني لنقيمنهم، من ثوى بالمكان : أقام، والباقون :﴿ لنبوئنّهم ﴾ بالباء.
ولا تقلقوا على توفّر الرزق ولا تخافوا بعد مغادرة الأوطان، إن الله هو الكافي أمرَ الرزق في الوطن والقرية.
ولا يدعهم وحدهم ﴿ وَهُوَ السميع العليم ﴾.
إنهم يعترفون بأن الله هو خالق السموات والأرض والمسخِّر للشمس والقمر، وهم مع ذلك يعبدون سواه، فلماذا هذا التناقض ؟ ! وكيف إذْن يُصرفون عن توحيد الله وعن عبادته، مع إقرارهم بهذا كله ؟
ما دام الخالقُ هو الله، فإنه يوسع الرزق على من يشاء، ويضيق على من يشاء، حسبما يقتضيه علمه بالمصالح، ﴿ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ ﴾.
إنهم مقرّون بأن الله هو الخالق، وهو الرازق، وهو مدبّر الكون، لكنهم انحرفوا وعبدوا غيره ولذلك يتعجب من أقوالهم ويقول :﴿ قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ :
قل يا محمد، الحمدُ لله على اعترافهم بالحق، ولكن أكثرهم
لا يَستعملون عقولهم ولا يفهمون ما يقعون فيه من تناقض.
لا يعلمون.
ما يرجعون بعد نجاتهم ويعودون سيرتهم الأولى.
ثم يذكّرهم بنعمة الله عليهم بإعطائهم هذا الحرمَ الآمن يعيشون فيه بأمن وسلام، فلا يذكرون نعمة الله ولا يشكرونها.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي :﴿ لْيكفروا ولْيتمتعوا ﴾ بسكون اللام، والباقون :﴿ لِيكفروا وليتمتعوا ﴾ بكسر اللام.
ثم بين أن العقل كان يقضي بأن يشكروا هذه النِعم، لكنهم كفروا بها فقال :﴿ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ ؟ ﴾.
ليس هناك أحدٌ أشدَّ ظلماً ممن نَسَب الى الله ما لم يشرعه، أو كذّب بالدين الحق، أن مثوى هؤلاء وأشباههم جَهنمُ وبئس المصير.
أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم ولن ينسى جهادهم، وإن الله لمعهم يعينهم ويؤيدهم بالنصر والتوفيق.