ﰡ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله: (الم (١)(الم) تفسيرها أنَا اللَّه أعلم. وقد فسرنا كل شيء قيل في هذا في
أول سورة البقرة.
وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)
اللفظ لفظ استخبار والمعنى معنى تقرير وتوبيخ، ومعناه أَحَسِبُوا
أَنْ نَقْنَع منهم أن يقولوا " إنَّا مؤمنون " فقط ولا يمتحنون بما يَتَبَينُ به
حقيقة إيمانهم.
وجاء في التفسير في قوله - جلَّ وعزَّ -: (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، لا
يختبرون بِمَا يُعْلَمُ بِهِ صدقُ إيمانهم من كذبه.
وقيل: (لَا يُفْتَنُونَ) لَا يُبتَلَوْنَ فِي أَنْفُسِهم وأموالهم، فيعلَمُ بالصبر عَلى البَلاءِ الصادِق - الإيمان مِنْ غَيْرِه.
وموضع " أن " الأولى نصب اسمُ حَسِبَ وخبره.
وموضع " أن " الثانية نصب من جهتين:
أجْوَدُهُمَا أنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِـ (يُتْرَكُوا) فيكون المعنى أحسب الناس أن يتركوا لأنْ يقولوا، وبأن يقولوا.
فلما حذف حرف الخَفْضِ وصل بِـ (يُتْرَكُوا) إلى أن فَنَصبَ، ويَجُوزُ أن تكون الثانية
النَاسُ أَنْ يَقولُوا آمَنَا وهم لا يُفْتَنونَ.
والأولى أَجْوَد.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)
أي اخْتَبَرْنَا وابْتلينا.
وقوله: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
المعنى ولَيَعْلَمَنَّ صِدْقَ الصادِق بوقوع صِدْقِه منه، وكَذِبَ
الكَاذِبِ بوقوع كَذِبِه مِنْه، وهو الذي يُجَازِي عليه، واللَّه قد عَلِمَ
الصًادِق من الكاذِبِ قبل أَنْ يَخْلُقَهما ولكنَّ القَصْدَ قَصْد وقوع العلم
بما يُجَازَى عَلَيْه.
* * *
وقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤)
أي يَحْسَبُونَ أَنًهم يَفُوتُونَنا، أي ليس يُعْجِزُونَنَا.
(ساء ما يحكمون) على معنى ساء حكماً يحكمونَ، كما تقول
نعم رَجُلًا زَيْدٌ - ويجوز أن تكون رفعاً، على معنى ساء الحكم
حكمهم.
* * *
وقوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(٥)
معناه واللَّه أعلم من كان يَرْجُو ثوابَ لِقَاءَ اللَّهِ، ، فأمَّا من قال: إن
معناه الخوف، فالخوف ضِدُّ الرجَاءِ، وليس في الكلام ضِد.
وقد بيَّنَّا ذلك في كِتَابِ الأضْدَادِ.
وقوله: (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ).
الجزاء (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ).
* * *
وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
القراءة (حُسْناً)، وقد رويَتْ (إحْسَاناً).
و (حُسْناً) أَجْوَدُ لموافقة المصحف، فمن قال حُسْناً فهو مِثْلُ وَصَّيْنَا، إلا أن يفعل بوالديه ما يحْسُنُ.
ومن قرأ (إحْسَاناً) فمعنَاهُ ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه
إحساناً، وكأنَّ (حُسْناً) أعَمُّ في البر.
وقوله: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا).
معناه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ أيها الإنسان والداك لتشرك بي، وكذلك على
أَنْ تُشْرِكَ بي.
ويروى أن رَجُلًا خرج مِنْ مَكةَ مُهَاجِراً إلى النبي - ﷺ - إلى المدينة، فَحَلَفتْ أمه أَنْ لا يظلها بيت حتى يرجع، فأَعلم اللَّه أَن برَّ
الوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ، ونهى أَنْ يَتابَعَا على مَعْصِيَةٍ اللَّه والشرك به، وإن كان
ذلك عند الوالدين برًّا.
* * *
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠)
أي فإذا ناله أَذًى أَوْ عَذَابٌ بسبب إيمانه جَزِعَ من ذلك ما يجزع
من عذاب اللَّه.
وينبغي للمؤمن أَنْ يَصبرَ على الأذيَّةِ في اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢)
يقرأ (وَلْنَحْملْ) بسكون اللام وبكسرها. في قوله (ولنَحْمِلْ).
وهو أمر في تأويل الشرط والجزاء.
والمعنى إن تَتَبِعُوا سَبِيلَنَا حَمْلنا خطاياكم.
ومعنى " سبيلِنَا " الطريقَ في ديننا الذي نسلكه، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لا يحملون شيئاً من خطاياهم فقال:
(وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ).
معناه من شيء يُخففُ عن المحمولِ عنه العذابَ، ثم أعلم
أنهم يَحملُونَ أَثْقَأنَّهمْ وأثقالاً مع أَثْقَالِهم كما قال عزَّ وجلَّ: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
فقال في هذه السورة:
(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
وجاء في الحديث تفسير هذا أنه من سَنَّ سُنةً ظُلْم، أو من سَنَّ
سُنَّةً سَيئَةً فعليه إثمها وإثم من عملٍ بها، ولا ينتقصُ مِنْ أَوْزَارِ الَّذِين
عَمِلُوا بِهَا شَيء.
وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَة كان له أَجْرُهَا وأَجْرُ من عمل بها
إلى يوم القيامةِ وَلاَ يُنْتَقَصُ من أُجُورِهِمْ شيء.
وعلى قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، أي علمت ما قَدَّمَتْ من عَمَل، وما سَنَّتْ مِنْ سُنَةٍ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فإن ذلك مِما أَخَّرَتْ.
ويَجُوزُ أن يكون (مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)
مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَل وما أَخَّرَتْ مما كان يجب أن تُقَدِّمَهُ.
ثم أعلم اللَّه - عَز وَجَل - أَنَه يُوَبِّخُهُمْ فقال:
(وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
فذلك سُؤالُ تَوْبِيخ كما قال: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤).
فَأَمًا سُؤَالُ اسْتِعْلاَم فقد أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنَّهُ لا يَسْأَلً سُؤَالَ اسْتِعْلَام في
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤)
(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)
فالاستثناء مُسْتَعْمَل في كلام العَربِ، وتأويلُه عند النحْويينَ
توكيدُ العَدَدِ وتحصيلُه وكمالُه، لأنك قد تذكر الجملةَ ويكون الحاصلُ
أَكْثَرَهَا، فإذا أردت التوْكِيدَ في تمامها قُلْتَ كلها، وإذا أردت التوكيدَ
في نقصانِها أدْخَلت فيها الاسْتثناء، تقول: جاءني إخوتك يعني أَن
جَمِيعَهُم جاءك.
وجائز أَنْ تَعْنِيَ أَن أكثرهم جاءَك، فَإذَا قُلْتَ: جاءني
إخْوَتُكَ كُلُّهُمْ أَكَّدْتَ معنى الجَمَاعةِ، وأَعْلَمْتَ أنه لم يتَخَلَّفْ مِنْهُمْ
أَحَد.
وتقول أَيْضاً: جاءني إخْوَتُكَ إلا زيداً فتؤكد أن الجَمَاعَةَ تنقُصُ
زيداً.
وكذلك رُءُوس الأعْدَادِ مُشَبَّهَة بالجماعات، تقول: عندي
عَشَرة، فتكون ناقِصَةً، وجائز أن تكون تامَّةً، فإذا قُلْتَ: عَشَرَة إلا
نِصْفاً أو عشرة كَامِلة حَقَّقْتَ، وكذلك إذَا قُلْتَ: أَلْف إلَّا خَمْسِينَ فهو
كقولك عشرة إلا نِصْفاً لأنك إنَّما اسْتَعْمَلْتَ الاستثناء فيما كان أَمْلَكَ
بالعَشَرَةِ من التِسْعَةِ، لأن النِصْفَ قَدْ دَخَل في بابِ العَشرةِ، ولو قُلْتَ
عشرة إلا واحداً أو إلا اثنَيْن كان جائزاً وفيه قُبْح، لأن تِسْعةً وَثَمانيةً
يؤدي عَنْ ذَلِكَ العَدَدِ، ولكنه جائز من جهة التوْكِيدِ أَن هَذِه التَسْعَةَ لا
تَزيد ولا تنقُصُ، لأنَّ قَوْلَكَ عَشَرة إلاً واحداً قد أخبرت أفيه، بحقيقة
العَدد واسْتثنيت ما يكون نقصاناً من رأس العَددِ.
والاختيار في الاستثناء في الأعداد التي هي عُقُودُ الكسُور
والصحَاحِ جَائِز أن يستثنى.
فأما استثناء نصف الشيء فقبيح
العَشَرةُ بِالخَمْسَةِ لأنها لَيْسَتْ تَقْرُبُ منها، وإنما تتكلم بالاستِثْنَاء كما
تتكلم بِالنقْصَانِ، فتقول: عندي درهم ينقص قِيرَاطاً،..
ولو قلت عندي درهم ينقص خمسة دوانيق أو تنقُصُ نِصْفَه كان الأولى بذلك: عِنْدِي نصف دِرْهَمٌ. ولم يأت الاستثناء في كلام العَرَبِ إلا قليلٌ من كثير.
فهذه جملة كافيةٌ.
وقوله: (فَاَخَذهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).
الطوفَانُ مِن كُل شيءٍ ما كان كثيراً مُطِيفاً بالجماعة كلها كالْغَرَقِ
الذِي يَشْتمِلُ عَلَى المدُنِ الكَبِيرَةِ.
يقال فيه طوفان. وكذلك القتل الذرِيعُ والموت الجارف طوفان.
* * *
وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (١٥)
قد بَين في غير هذه الآية مَنْ أَصْحَابُ السفينةِ - في قوله:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).
* * *
وقوله: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦)
المعنى وَأُرْسَلْنَا إبراهِيمَ عَطْفاً على نوح.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧)
أَوْثاناً أَصْناماً.
وتخلقون إفْكاً فيه قَولانِ:
تخلقون كذِباً، وقيل تعملون الأصْنَامَ، ويكون التأويلُ على هذا
القول: إنما تعْبُدُونَ من دون الله أَوْثَاناً وأَنْتُم تصنعونَها.
* * *
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩)
وتقرأ تَرَوا بالتاءِ.
* * *
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
(ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ).
أي ثم إن الله يبعثهم ثانيةً بِنَشئِهِمْ نشأةً أخرى، كما قال:
(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧).
وأكثر القراءة (النَّشْأَةَ) بتسكين الشِين وتَرْكٌ لِمَدِّهِ.
وقرأ أَبُو عَمْرٍ والنشَاءَةَ الأخْرَى بِالمَدِّ.
* * *
وقوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٢٢)
أي ليس يعجز اللَّهَ خلْقٌ في السماء ولَا في الأرْضِ.
وفي هذا قولان:
أَحَدُهُما معناهُ ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء
مُعْجِزين في السَّمَاءِ، أي مَن في السَّمَاوَات ومَن في الأرض غير
مُعْجِزِينَ ويجوز - والله أعلم - وما أنتُمْ بمعجزين في الأرْضِ، ولا
لو كنتم في السماء، أي لا ملجأ من الله إلا إليهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
روي عن قَتَادَة أنه قال: إن اللهَ ذَمَّ قَوْماً هَانُوا عَلَيْه فقال:
(أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي)، وقال: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
وينبغي للمؤمن ألا ييئَسَ من روح الله، ولا من رَحْمَتِه، وَلاَ يأمَنُ مِنْ
عَذَابِه وعِقَابِه، وصِفَةُ المُؤمِنِ أَن يكون راجياً للَّهِ، خائفاً.
وقرأ الحسنُ فما كان جَوَابُ قَوْمِهِ - بالرفع - فمن نصب جَعَل " أَنْ
قَالُوا " اسم كَانَ، ومن رفع الجَوَابَ جَعَلَه اسمَ كان وجَعَلَ الخَبَرَ " أَنْ
قَالُوا " وَمَا عَمِلَتْ فيه، ويكون المَعْنَى ما كان الجوابُ إلا مَقالَتَهُم:
اقْتُلوه، لما أَنْ دَعَاهُم إبراهيم إلى توحيد اللَّه عزَّ وجلًَّ، واحتَجَّ عليْهم
بأنهم يعبدون ما لا يضرهم ولا ينفعُهُمْ، جعلوا الجواب اقتلوه أو
حَِّقُوهُ.
وقوله: (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ).
المعنى فحرقوه فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ.
ويُرْوَى أن إبراهيم - ﷺ - لم تعمل النارُ في شيء منه إلا في وَثَاقِهِ الذي شُدَّ بِهِ.
ويروى أن جميع الدواب والهَوَام كانت تطفئ عن إبراهيم إلا الوزغ، فإنها كانت تنفخ النار، فأمِرَ بِقَتْلِهَا ويرد أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بِالنارِ، أعني يَوْمَ أخذوا إبراهيم عليه السلام.
وجميع ما ذكرناه في هذه القِصةِ مِما رواه عبد اللَّه بن أحمد بن
حَنْبَل عَنْ أَبيه، وكذلك أكثر ما رَوَيْتُ في هذا الكتاب من التفسير.
فهو من كتاب التفسير عن أحمد بن حنبل.
* * *
وقال عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥)
أي قال إبراهيم لقوْمِهِ إنما اتخذتم هذه الأوثان لِتَتَوادُّوا بها في
الحياة الدنْيَا.
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا).
وفيها في القراءَةِ أَرْبعَةُ أَوْجُهُ.
مِنْهَا: (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ)، بفتح (مَوَدَّةَ)
وبالإضافة إلى بَيْنٍ، وبنصْب مَوَدَّةً والتنوين، ونصب بَيْنَ.
(مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ) ويجوز (مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ) - بالرفع والِإضَافَةِ إلى بين.
ويجوز (مَوَدَّةٌ بَيْنَكُمْ) - بالرفع والتنوين ونصبُ بَيْن.
فالنصْبُ في (مَوَدَّةَ) من أجل أنها مفعول لها، أي اتخذتم هذا للمودةِ بينكم. ومن رفع فمن جهتين:
إحْدَاهُمَا أن يكون " ما " في معنى " الذي " ويكون المعنى: إن ما
اتخذتموه من دون الله أوثاناً مَوَدةُ بينكم، فيكون (مَوَدَّة) خبرَ إن، ويكون
برفع (مَوَدَّة) على إضْمارِ هيَ، كَأنهُ قال: تِلْكَ مودةٌ بَيْنَكُمْ في الحياة
الدنيا، أي أُلْفَتُكُمْ واجتماعكم على الأصنَامِ مَوَدَّةٌ بينكم في الحياة
الدنيا (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦)
صَدَّق لُوطٌ إبراهيمَ عليه السلام، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي.
إبْرَاهِيمُ هاجَرَ من كُوثَى (٢) إلى الشام.
* * *
وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
(وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا).
قيل الذكر الحسن، وكذلك (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).
وقيل (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) أنه ليس مِنْ أمةٍ من المُسْلمين واليهودِ
والمجوسِ والنصارى إلا وهم يعظمون إبراهيم.
وقيل (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا)
قوله: ﴿إِنَّمَا اتخذتم﴾: في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، وهو المفعولُ الأول. و «أَوْثاناً» مفعولٌ ثانٍ. والخبرُ «مَوَدَّةُ» في قراءةِ مَنْ رفع كما سيأتي. والتقدير: إنَّ الذي اتَّخذتموه أوثاناً مودةُ، أي: ذو مودةٍ، أو جُعلِ نفسَ المودةِ، ومحذوفٌ على قراءةِ مَنْ نَصَبَ «مَوَدَّةَ» أي: إنَّ الذي اتخذتموه أوثاناً لأجلِ المودةِ لا يَنْفَعُكم، أو «يكونُ عليكم»، لدلالةِ قولِه: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾.
الثاني: أن تُجْعَلَ «ما» كافةً، و «أوثاناً» مفعولٌ به. والاتِّخاذ هنا متعدٍ لواحدٍ، أو لاثنين، والثاني، هو ﴿مِّن دُونِ الله﴾ فَمَنْ رفع «مودةُ» كانَتْ خبرَ مبتدأ مضمرٍ. أي: هي مودة، أي: ذاتُ مودة، أو جُعِلت نفسَ المودةِ مبالغةً. والجملةُ حينئذٍ صفةٌ ل «أَوْثاناً» أو مستأنفةٌ. ومَنْ نصبَ كانَتْ مفعولاً له، أو بإضمار أَعْني.
الثالث: أَنْ تُجْعَلَ «ما» مصدريةً، وحينئذٍ يجوز أن يُقَدَّر مضافاً من الأول أي: إنَّ سببَ اتَّخاذِكم أوثاناً مودةُ، فيمَنْ رفَعَ «مودةُ». ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ، بل يُجْعَلُ نفسُ الاتخاذِ هو المودةَ مبالغةً. وفي قراءةِ مَنْ نَصَبَ يكونُ الخبرُ محذوفاً، على ما مَرَّ في الوجه الأول.
وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائيُّ برفع «مودةُ» غيرَ منونة وجَرِّ «بَيْنِكم». ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب «مودةً» منونةً ونصبِ «بينَكم». وحمزةُ وحفص بنصب «مودةَ» غيرَ منونةٍ وجرِّ «بَيْنِكم». فالرفعُ قد تقدَّم. والنصبُ أيضاً تقدَّم فيه وجهان، ويجوز وجهٌ ثالثٌ، وهو أن تُجْعَلَ مفعولاً ثانياً على المبالغةِ، والإِضافةُ للاتِّساعِ في الظرف كقولِهم:
يا سارِقَ الليلةِ أهلَ الدارِ... ومَنْ نصبَه فعلى أصلِه. ونُقِل عن عاصمٍ أنه رَفَع «مودةُ» غيرَ منونةٍ ونَصَبَ «بينَكم». وخُرِّجَتْ على إضافة «مودةُ» للظرف، وإنما بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كقراءةِ ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] بالفتح إذا جعلنا «بينَكم» فاعلاً.
وأمَّا «في الحياة» ففيه [أوجهٌ] أحدها: أنه هو و «بينَكم» متعلقان ب «مودَّة» إذا نُوِّنَتْ. وجازَ تعلُّقُهما بعاملٍ واحدٍ لاختلافِهما. الثاني: أَنْ يتعلَّقا بمحذوفٍ على أنهما صفتان ل «مودَّة». الثالث: أن يتعلَّق «بَيْنَكم» بموَدَّة. و «في الحياة» صفةٌ ل «مودة». ولا يجوز العكسُ لئلا يلْزَم إعمالُ المصدرِ الموصوفِ. والفرقُ بينَه وبين الأول أنَّ الأولَ عَمِلَ فيه المصدرُ قبل أَنْ يُوْصَفَ، وهذا عَمِلَ فيه بعد أَنْ وُصِفَ.
على أنَّ ابنَ عطية جَوَّز ذلك هو وغيرُه وكأنهم اتَّسَعوا في الظرف. فهذا وجهٌ رابعٌ.
الخامس: أَنْ يتعلَّقَ «في الحياة» بنفس «بينَكم» لأنه بمعنى الفعل، إذ التقديرُ: اجتماعُكم ووَصْلُكم. السادس: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ نفسِ «بينَكم». السابع: أن يكونَ «بينَكم» صفةً ل «مودة». و «في الحياة» حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه. الثامن: أَنْ يتعلَّقَ «في الحياة» ب «اتَّخذتُمْ» على أَنْ تكون «ما» كافةً و «مودة» منصوبةً. قال أبو البقاء: «لئلا يؤدِّي إلى الفصلِ/ بين الموصولِ وما في الصلة بالخبر». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) كُوثى العِراق وهي سُرَّةُ السَّوادِ التي ولد بها إِبراهيم عليه السلام.
(انظر اللسان. ٢/ ١٨١).
* * *
ْوقوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٨)
المعنى أنه لم يَنْزُ ذَكرٌ على ذَكَرٍ قبل قَوْمِ لُوطٍ.
* * *
وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩)
اللفظ لفظ استفهام، والمعنى معنى التقرير والتوبيخ.
(وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ).
جاء في التفسير ويقْطَعونَ سبيلَ الوَلَدِ، وقيل: يعترضون الناسَ.
في الطرُقِ لِطلَب الفَاحِشة.
(وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ).
أي تأتون في مجالسكم المنَكَرَ، قيل إنهم كانوا يَخْذِفونَ الناسَ في
مجالِسهِمْ ويسخرون مِنْهم، فأَعلم اللَّه جلَّ وعزَّ. أن هذا من المنكر، وأنه لا
ينبغِي أن تتعاشر الناس عليه، ولا يجتمعوا إلا فيما قَرَّب إلى اللَّه وباعَدَ مِنْ
سَخَطِهِ، وألَّا يجتمعوا على الهزء والتلَهِّي.
وقيل (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أنهُمْ كانوا يَفْسُقَونَْ في مَجَالِسِهِم.
* * *
وقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)
المعنى وأهلكنا عاداً وثموداً، لأن قبل هذا قَارُونَ وأصْحَابَهُ، فأخذتهم
الرجفة.
* * *
وقوله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
وهم قومُ. لوطٍ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم قوم ثمودَ وَمَدْين.
(وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ) وهم قارون وأَصْحابُه..
(وَمنهم من أغْرَقْنَا) وهم قوم نوح وفرْعَوْنَ.
فأَعلم اللَّه أن الذي فُعِلَ بهم عَدْلٌ، وأنه لم يَظْلمْهُمْ، وأنهم
ظلموا أَنْفُسَهمْ. لأنه قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ، وذلك قوله: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).
أتوا ما أَتَوْه وَقَدْ بَيَّن لهم أن عاقبته عَذَابُهُمْ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
(لَوْ) مُتصِلة بقوله (اتَّخَذُوا) أي لو علموا أن اتخاذهم الأولياء
كاتِخَاذِ العنكبوتِ، ليس أنهم لا يَعْلَمُونَ أن بيت العنكبوت ضعيف.
وذلك أن بيت العنكبوت لا بَيْتَ أضعفُ منه، فيما يَتَّخِذُه الهَوَام في
البيوت، ولا أقل وقايةً منه من حَرٍّ أَو بَرْدٍ.
والمعنى أن أولياءَهُمْ لَا يَنْقُصُونَهُمْ، ولا يرزقونهم ولا يدفعون عنهم ضرَراً، كما أن بيت العَنكَبُوتِ غير مُوقٍ للعنكبوت.
* * *
وقوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٥)
قال الحسن وَقَتَادَةُ: من لم تنهه صَلاَتُه عن الفحشاء والمنكر
فليست صَلَاتُه بِصَلاة، وهي وَبَال عَلَيه.
فيها أوجه: فمنها أن أكبر في معنى كبير، وجَاَءَ في التفسير: ولذكر
اللَّه إِياكم إذَا ذَكَرْتموهُ أكبر من ذكركم.
ووجه آخر معناه (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)
النهى عن الفحشاء والمنكر، أكبر من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، لأن اللَّه
قد نهى عنها.
* * *
وقوله: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)
أي: أهلَ الحربِ، فالمعنى: لا تجادلوا أهل الجزيَةِ إلاَّ بالتي
هي أحَسَن، وقاتلوا الذين ظلموا.
وقيل إن الآية منسوخة بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩).
فكان الصَّغَارُ خارجاً مِنَ التي هي أَحْسَن، فالأشْبَه أَن تكون مَنْسوخَة.
وجائز أن يكون الصغار أخذَ الجزية مِنهم وَإن كرهوا، فالذين تؤْخَذ منهم الجزية بنص الكتاب إليهود والنصَارَى، لأنهم أصحاب التوراة والإنجيل، فأمَّا المجوس فأخذت منهم الجِزْيَةُ لقول رسول الله - ﷺ -:
" سنُّوا بِهِم سئة أهل الكتاب ".
واختلف الناسُ فيمن سِوى هؤلاء من الكفار مثل عبدَة
الأوثان ومن أشْبَهُهمْ فهم عند مالك بَن أنس يجرون هذَا المجرى.
تؤخذ منهم الجزية كانوا عَجَماً أو عَرَباً، وأما أهل العِراقِ فقالوا نَقْبَلُ الجزية من العَجَم غير العَرَبِ إِذا كانوا كفاراً، وإن خرجوا من هذه الأصْنافِ أعني إليهود
خرجوا من هذه الثلاثة الأصناف لم تُقْبَلْ منهم جِزْيَة، وكان القتل في أمرهم
إن أقاموا على مِلَّةٍ غير اليَهُوديةِ والنصرانية والمجوسيةِ.
وبعض الفقهاء لا يرى إلا القَتْلَ في عبدة الأووثان والأصنام ومن أشَبَهَهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)
أي ما كنت قرأت الكتُبَ وَلَا كُنْتَ كاتباً، وكذلك صفة النبي - ﷺ - عندهم في التوراة والإنجيل.
وقوله: (إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) قيل إنهم كُفار قرَيْشِ.
* * *
وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩)
قيل فيه ثلاثة أوجُهٍ:
منها بل القرآن آيات بينات، ومنها بل النبي - ﷺ - وأموره آيات بينات، ومِنْها (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) أي بل إنه لا يقرأ
ولا يكتب، آيات بَينَات، لأنه إذا لم يكن قرأ كتاباً، ولا هو كاتب ثم
أخبر بأقاصيص الأولين والأنبياء فذلك آيات بينَّات في صدور الذين
أوتوا العلم.
* * *
وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٣)
هذه نزلت في قوم جهلة قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، فأعلمَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أنَّ
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً).
مَعناه فُجَاءَةً، و (بَغْتَةً) اسم مَنْصُوبٌ في موضع الحال، ومعناه
وَلَيأتينَّهُمْ مفاجأةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ).
كان قوم من المسلمين كتبوا شيئاً عن اليهود فأتوا به النبي - ﷺ -.
فقال عليه السلام: كَفَى بها حَماقةَ قَوْم، أو ضَلَالَة قَوْم أَنْ رَغبوا عما
أَتَى بِهِ نَبيُّهُمْ إلى ما أتى به غير نبيِّهِمْ إلى غير قومهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)
تفسيرها: قيل إنهُمْ أُمِرُوا بالهجرة من الموضع الذي لا تمكنهم
فيه عبادة اللَّه - عزَّ وجلَّ - وأداء فرائضِه، وأصل هذا فيمن كان يمكنه
مِمنْ آمن وكان لا يمكنه إظهار إيمانه، وكذلك يجب على كل من كان
في بلد يُعمل فيه بالمَعَاصِي ولا يمكنه بغير ذلك أن يُهَاجِرَ وينتقِلَ إلى
حيث يَتَهيُأ له أن يعبُدَ الله حق عِبَادَتِهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ).
" إِيَّايَ" منصوب بفعل مضمر، الذي ظهر يفسِّرُهُ.
المعنى فاعبدوا إياي - فاعبدوني، فاستغنى بأحد الفعلين، أعني الثاني - عن إظهار الأول، فإذا قلت: فإياي فاعبدوا، فإياي منصوب بما بعد الفاء،
بامْرُرْ، والمعنى: إنَّ أرضي واسِعَة فَاعْبُدونِ، فالفاء إذا قُلْتَ زيداً
فاضرب لا يصلح إلا أَنْ تكون جواباً للشرطِ، كان قائلًا قال: أنا لا
أَضربُ عَمْراً، ولكني أضرب زيداً، فقُلتَ أنت مُجيباً له: فاضرب
زيداً، ثم قلت زيداً فاضرب، فجعلت تقديم الاسم بدلاً من الشرط.
كأنك قلت إن كان الأمر على ما تصف فاضرب زيداً، وهذا مذهب
جميع النحويين البصريين.
* * *
وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
كل حيوان على الأرض مما يعقل، وما لا يَعْقِل فهو دابة، وإنما
هو من دَبَّتْ علَى الأرض فهي دَابَّة، والمعنى نفسٍ دابَّة.
ومعنى (وَكَأَيِّنْ): وكم من دَابَّةٍ.
وقوله: (لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا).
أي لا تدَّخر رزقها، إنما تصبح فَيَرْزُقُها اللَّه.
وعلى هذا أكثر الحيوان والدَّبِيبِ وليس في الحيوان الذي هو دبيب ما يدخِرُ فيما تبيَّن غيرُ النَّمْلِ، فإن ادِّخَارَه بيِّنٌ.
* * *
وقوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
معناه هي دار الحياة الدائمة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا).
وقرئت (لَنُثَوِيَنَّهُمْ) - بالثاء - يقال ثوى الرجل إذا أقام بالمكان
وَأَثْوَيْتُه أنزلته منزلاً يقيم فيه (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ﴾: يجوز فيه الوجهان المشهوران: الابتداءُ والاشتغال. والأخَوان قرآ بثاءٍ مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النونِ، وياءٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من الثَّواء وهو الإِقامةُ. والباقونَ بباءٍ مُوَحَّدة مفتوحةٍ بعد النونِ وهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من المَباءة وهي الإِنزالُ. و «غُرفاً» على القراءةِ الأولى: إمَّا مفعولٌ به على تضمين «أَثْوَى» أنزل، فيتعدَّى لاثنين، لأنَّ ثوى قاصرٌ، وأكسبته الهمزةُ التعدِّيَ لواحدٍ، وإمَّا على تشبيهِ الظرف المختصِّ بالمبهمِ كقولِه: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ﴾ [الأعراف: ١٦] وإمَّا على إسقاطِ الخافضِ اتِّساعاً أي: في غُرَف.
وأمَّا في القراءةِ الثانيةِ فمفعولٌ ثانٍ، لأنَّ «بَوَّأ» يتعدَّى لاثنين، قال تعالى: ﴿تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ﴾ [آل عمران: ١٢١] ويتعدَّى باللامِ قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: ٢٦]. وقد قُرِئ «لَنُثَوِّيَنَّهم» بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة. و «تَجْرِي» صفةٌ ل «غُرَفاً». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
قرئ بكَسْر اللام وتسكينها، والكسر أَجْوَدُ على معنى لكي
يكفروا وكي يتمتعُوا (١).
* * *
وقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)
أي لم يدعوا أن تُنْجِيَهُمْ أَصنامُهُم وما يعبدونه مع اللَّه.
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).
أي يعبدون مع اللَّه غيره.
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
أعلم اللَّه أنه يَزِيدُ المجاهدين هدايةً كما أَنهُ يُضِل الفاسقين.
ويَزِيد الكافرين بِكفْرِهِمْ ضَلَالَةً، كذلك يَزِيدُ المُجَاهِدِين هِدايةً - كذا
قال عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (١٧).
فالمعنى أَنهُ آتاهم ثواب تقواهم وَزَادَهم هُدى عَلَى هِدَايتِهِم.
وقوله: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
تأويله إن الله نَاصِرُهم، لأن قوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا).
اللَّه معهم. يدل على نصرهم، والنصرة تكون في عُلُوِّهِمْ على عَدُوِّهِمْ
بالْغَلَبَةِ بالحِجةِ والغَلَبة بالقَهْرِ والقدرة.
قوله: ﴿لِيَكْفُرُواْ﴾: يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ كي، وهو الظاهرُ، وأن تكون لامَ أمرٍ.
قوله: «ولِيَتَمَتَّعوا» قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسرها وهي محتملةٌ للأمرين المتقدمين. والباقون بسكونها. وهي ظاهرةٌ في الأمر. فإنْ كان يُعتقد أن اللامَ الأولى للأمر فقد عطفَ أمراً على مثله، وإن كان يُعتقد أنها للعلةِ، فيكون قد عطف كلاماً على كلام.
وقرأ عبد الله ﴿فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعلَمُونَ﴾ وأبو العالية «فيُمَتَّعوا» بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول. اهـ (الدُّرُّ المصُون).