ﰡ
١ - ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾؛ أي: نزه (١) الله سبحانه عن كل ما لا يليق بجنابه العلي العظيم ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ السبع؛ أي: جميع ما فيها من العلويات الفاعلة. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من السفليات القابلة آفاقًا وأنفسًا؛ أي: سبحه جميع الأشياء من غير فرق بين موجود وموجود، كما قال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾. وقد تقدم الكلام على وجه التعبير في بعض السور بلفظ الماضي كهذه السورة، وفي بعضها بلفظ المضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر، إرشادًا إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات، ماضيها ومستقبلها وحالها. وأعاد الموصول في قوله: ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هنا وفي الحشر وفي الجمعة والتغابن جريًا على الأصل، وأسقطه في الحديد موافقة لقوله فيها: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾. اهـ. من "المتشابه".
وفي "الخطيب": فإن قلت: هلَّا قيل: سبح لله السماوات والأرض وما فيهما، فيكون أكثر مبالغة؟
أجيب: بأن المراد بالسماء جهة العلو، فيشمل السماء وما وفيها، وبالأرض جهة السفل، فيشمل الأرض وما فيها.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب الذي لا يغالب، ولا يكون إلا ما يريد. ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله وأقواله، الذي لا يفعل إلا بالحكمة، فلا عزيز ولا حكيم على الإطلاق غيره تعالى، فلذا يجب تسبيحه.
والمعنى: أي شهد له تعالى بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرها من صفات الكمال جميع ما في السماوات والأرض وهو الغالب على أمره القاهر فوق عباده، الحكيم في تدبير خلقه وفق ما سنّه من السنن وأرشد إليه من ضروب الهداية.
٢ - وبعد أن وصف نفسه بصفات الكمال.. ذكر ما يلحق المخلوقين من صفات النقص، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمانًا رسميًا ﴿لِمَ تَقُولُونَ﴾ وتعدون ﴿مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ من الخير. روي: أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا؟ فلما نزل الجهاد.. كرهوه، فنزلت تعييرًا لهم بترك
قال الزمخشري: ﴿لِمَ﴾ لام الجر داخلة على ﴿مَا﴾ الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، فيم، ومم، وعم وإلام، وعلام، وحتام. وإنما حذفت الألف لأن ﴿مَا﴾ وحروف الجر كشيء واحد، ووقع استعمالها كثيرًا في كلام المستفهم محذوفة الألف، وجاء استعمال الأصل قليلًا. اهـ. "خطيب".
وعبارة "البيضاوي": و ﴿مَا﴾ مركبة من لام الجر و ﴿مَا﴾ الاستفهامية، والأكثر على حذف ألفها مع حرف الجر؛ لكثرة استعمالها معًا، فلذا استحقت التخفيف، ولاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه. اهـ.
والمعروف على أن مدار التعيير والتوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجهه إلى قولهم تنبيهًا على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد به أيضًا، وقد كانوا يحسبونه معروفًا. ولو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون.. لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود. فليس المراد من ﴿مَا﴾ حقيقة الاستفهام؛ لأن الاستفهام من الله محال؛ لأنه عالم بجميع الأشياء، بل المراد الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان من نفسه ما لا يفعله من الخير؛ لأنه إن أخبر أنه فعل في الماضي والحال، ولم يفعله.. كان كاذبًا، وإن وعد أن يفعله في المستقبل ولا يفعله.. كان خلفًا، وكلاهما مذموم. كما قال في "الكشاف": هذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الوعد، وهذا بخلاف ما إذا وعد فلم يفِ بميعاده لعذر من الأعذار، فإنه لا إثم عليه.
والمعنى (٢): أي لأي غرض تقولون: لوددنا أن نعمل كذا وكذا من أفعال الخير، حتى إذا طلب منكم ذلك كرهتم ولم تفعلوا؟ والتوبيخ والإنكار موجه إلى عدم فعلهم ما وعدوا به، وإنما وجه إلى القول لبيان أن معصيتهم مزدوجة إذ هم
(٢) المراغي.
٣ - ثم بيّن شدة قبح ذلك، وأنه بلغ الغاية في بغض الله له، فقال: ﴿كَبُرَ مَقْتًا﴾؛ أي: عظم جرمًا ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ ذاك أن الوفاء بالوعد دليل على كريم الشيم، وجميل الخصال، وبه تكون الثقة بين الجماعات، فترتبط برباط المودة والمحبة حين يتعامل بعض أفرادها مع بعض، ويكونون يدًا واحدة فيما انتووا من الأعمال، والعكس بالعكس، فإذا فشا في أمة خلف الوعد.. قلت الثقة بين أفرادها وانحلت عرا الروابط بينهم، وأصبحوا عقدًا متناثرًا لا ينتفع به ولا يخاف منهم عدوّ إذا اشتدت الأزمات وعظمت الخطوب؛ لما يكون بينهم من التواكل وعدم ائتمان بعضهم بعضًا.
و ﴿كَبُرَ﴾ من (١) باب نعم وبئس، فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، و ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ هو المخصوص بالذم، ويجيء الخلاف فيه، هل رفعه على الابتداء، وخبره الجملة المتقدمة عليه أو خبره محذوف، أو هو خبر مبتدأ محذوف؟ والمقت: البغض الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح، وكان يسمى تزوُّج امرأة الأب: نكاح المقت. و ﴿مَقْتًا﴾ منتصب على التمييز و ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف للفعل، بمعنى: في علمه وحكمته. والكلام بيان لغاية قبح ما فعلوه. أي: عظم بغضًا في علمه تعالى وحكمته هذا القول المجرد، فهو أشد ممقوتية ومبغوضية، فمن مقته الله.. فله النار، ومن أحبه الله.. فله الجنة. وقيل: إنه قصد بقوله: ﴿كَبُرَ﴾ التعجب، وقد عده ابن عصفور من أفعال التعجب. وقيل: إنه ليس من أفعال الذم ولا من أفعال التعجب بل هو مسند إلى ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾. و ﴿مَقْتًا﴾: تمييز محول عن الفاعل.
فائدة: وأوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم عليهما السلام: يا ابن مريم، عظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحيي مني.
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ | عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيْمُ |
٤ - وبعد أن ذمّ الذين وعدوا بالقتال ونحوه من أفعال الخير ولم يفعلوا.. مدح الذين قاتلوا في سبيله وبالغوا فيه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ﴾ أعداء الله ﴿فِي سَبِيلِهِ﴾؛ أي: في طريق مرضاته وإعلاء دينه؛ أي: يرضى عنهم ويثني عليهم. و ﴿صَفًّا﴾: مصدر وقع موقع الفاعل أو المفعول، ونصبه على الحالية من فاعل يقاتلون؛ أي: حال كونهم صافين أنفسهم أو مصفوفين، أو منصوب على المصدرية بعامل محذوف، والمفعول محذوف؛ أي: يصفون أنفسهم صفًا. والصفّ: أن يجعل الشيء على خط مستوٍ كالناس والأشجار. هذا بيان لما هو مرضي عنده تعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده، وهذا صريح في أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال. وقرأ الجمهور (١): ﴿يُقَاتِلُونَ﴾ على البناء للفاعل. وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول. وقرىء ﴿يقتلون﴾ بالتشديد.
وجملة ﴿كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ في محل النصب على الحال من فاعل ﴿يُقَاتِلُونَ﴾ أو من الضمير المستكن في الحال الأولى. قال الزمخشري: حالان متداخلان. وقال الحوفي: ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ في موضع النعت لـ ﴿صَفًّا﴾ انتهى؛ أي: كأنهم في تراصهم وتلاصقهم من غير فرجة ولا خلل بنيان رصّ بعضه إلى بعض. والظاهر: تشبيه الذوات في التحام بعضها ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل: المراد: استواء نياتهم في الثبات، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص.
والبنيان: الحائط، وهو واحد لا جمع، دل عليه تذكير ﴿مَرْصُوصٌ﴾. وقال بعضهم: بنيان جمع بنيانة، على حدّ نخل ونخلة، وهذا النحو من الجمع يصح تأنيثه
والمعنى: حال كونهم مشبهين في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ببنيان رصّ بعضه إلى بعض، ورصف حتى صار شيئًا واحدًا. وقال الراغب: بنيان مرصوص؛ أي: محكم كأنما بني بالرصاص، وهو قول الفراء. وتراصوا في الصلاة؛ أي: تضايقوا فيها، كما قال - ﷺ -: "تراصوا بينكم في الصلاة، لا يتخللكم الشيطان" فالزحمة في مثل هذا المقام رحمة، فلا بد من سدّ الخلل أو المحاذاة بالمناكب كالبنيان المرصوص.
ففي الآية زجر عن التباطؤ، وحث على التسارع، ودلالة على فضيلة الجهاد.
والمعنى: إن الله سبحانه يحب الذين يصفُّون أنفسهم حين القتال، ولا يكون بينهم فُرَجٌ فيه، كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء، كأنه قطعة واحدة قد صبت صبًا، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش في العصر الحاضر، وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك.. زادت قوتهم المعنوية، وتنافسوا في الطعان والنزال والكرّ والفرّ إلى ما في ذلك من إدخال الروع والفزع في نفوس العدوّ؛ إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل والدقة والإحكام، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف في الصلاة، وأن لا يجلس المصلي في صف خلفيّ إلا إذا اكتمل ما في الصف الأمامي، وهكذا تراعي الأمم في عصرنا الحاضر النظام في كل أعمالها، في أكلها ونومها، ورياضتها وتربية أولادها، بحيث لا يطغى عمل على عمل، فللجد وقت لا يعدوه، وللرياضة وقت آخر، وللنوم كذلك؛ ولهذا لا يوجد تواكل، ولا تراخ في الأعمال ولا تخاذل فيها، ومن ثم جاء الأثر: "أفضل الأعمال إلى الله: أدومها، وإن قل".
٥ - ولما ذكر سبحانه أنه يحب المقاتلين في سبيله أراد أن يبين أن موسى وعيسى عليهما السلام أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال. ﴿وَإِذْ﴾ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به - ﷺ - بطريق التلوين.
أي (١): اذكر لهؤلاء المؤمنين المتقاعدين عن القتال وقت قول موسى - عليه
يقول الفقير: لا شك أن قتل الأعداء من باب التسبيح؛ لأنهم الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا، وعبدوا معه الأصنام، فكان في مقابلتهم توسيع ساحة التنزيه، ولذا بدأ الله تعالى في عنوان السورة بالتسبيح، وأشار بلفظ ﴿الْحَكِيمُ﴾ إلى أن القتال من باب الحكمة، وأنه من باب دفع القضاء بالقضاء، على ما يُعرِّفه أهل المعرفة، وبلفظ ﴿الْعَزِيزُ﴾، إلى غلبة المؤمنين المقاتلين. ثم إنهم كرهوا ذلك كأنهم لم يثقوا بوعد الله بالغلبة، ووقعوا من حيث لم يحتسبوا في ورطة نسبة العجز إلى الله تعالى، ولذا تقاعدوا عن القتال، وبهذا التقاعد حصلت الأذية له عليه السلام، لأن مخالفة أولي الأمر أذية لهم، فأشار الحق سبحانه بقصة موسى إلى أن الرسول حق، وأن الخروج عن طاعته فسق، وأن الفاسق مغضوب لله تعالى؛ لأن الهداية من باب الرحمة وعدمها من باب السخط، والعياذ بالله تعالى من سخطه وغضبه وأليم عقابه وعذابه.
وجملة النداء مع ما بعدها مقول القول؛ أي (١): إذ قال موسى: يا قوم، لم تؤذونني بمخالفة ما أمرتكم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم؛ أو: لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، ومن ذلك رميه بالأُدرة، وقد تقدم بيان هذا في سورة الأحزاب. وجملة قوله: ﴿وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ جملة (٢) حالية مؤكدة
(٢) روح البيان.
وحاصل المعنى (١): واذكر - يا محمد - لقومك خبر عبده ورسوله موسى بن عمران كليم الله، حين قال لقومه: لم تؤذونني وتخالفون أمري، فتتركوا القتال وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من رسالة ربي؟ وفي هذا تسلية لرسوله - ﷺ - على ما أصابه من قومه الكافرين ومن غيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال - ﷺ -: "رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". كما أن فيه نهيًا للمؤمنين أن ينالوا من النبي - ﷺ - أو يوصلوا إليه أذى، كما جاء في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (٦٩)﴾. وذلك أنه - ﷺ - لما قسم غنائم الطائف.. قال بعض المنافقين: هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فتغير وجهه الشريف وقال ذلك.
ثم بيّن عاقبة عصيانهم ومخالفة أمره بقوله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾؛ أي: أصروا على الزيغ والميل عن الحق الذي جاء به موسى، واستمروا عليه ﴿أَزَاغَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿قُلُوبَهُمْ﴾؛ أي: صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب؛ لصرف اختيارهم نحو الغي والضلال. وقال الراكب في "المفردات"؛ أي: لما فارقوا الاستقامة عاملهم بذلك، وقال جعفر: لما تركوا أوامر الخدمة نزع الله من قلوبهم نور الإيمان، وجعل للشيطان إليهم طريقًا، فأزاغهم عن طريق الحق وأدخلهم في مسالك الباطل. وقال الواسطي: لما زاغوا عن القربة في العلم أزاغ الله قلوبهم في الخلقة. وقال بعضهم: لما زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة. يقول
والمعنى: أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، وأصروا على ذلك.. صرف الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الحيرة والشك، جزاء وفاقًا لما دسوا به أنفسهم من الذنوب والآثام ومخالفة أوامر رسوله وانهماكهم في الطغيان والمعاصي، فران على قلوبهم، وطمس على أعينهم فلم تنظر إلى ما تشاهد من دليل ولا تبصر ما ترى من برهان، كما قال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)﴾.
ثم أكد إزاغته لقلوبهم وبيّن علتها بقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾. هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها من الإزاغة، وتذييل مؤذن بعليته؛ أي (١): لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية، لا هداية موصلة إلى ما يوجب إليها، فإنها شاملة للكل. والمراد: جنس الفاسقين، وهم داخلون في حكمهم دخولًا أوليًا. ووصفهم بالفسق نظرًا إلى قوله تعالى: ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾. قال الإِمام: وهذه الآية تدل على عظم أذى الرسول، حتى إنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى، انتهى. ويتبعه أذى العالمين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، فأذاهم في حكم أذاهم.
والمعنى: أي والله لا يوفق لإصابة الحق من اختار الكفر ونبذ طاعة الله ورسوله بما يرين على قلبه من الضلالة، فيحرمه النظر إلى الأدلة التي نصبت في الكون، وجعلت منارًا للعقول، وشفاء للصدور.
٦ - وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ إما معطوف على ﴿إذ﴾ الأولى معمول لعاملها، وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها. ولفظ ﴿ابْنُ﴾ هنا وفي ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ بإثبات الألف خطًا لندرة وقوعه بين رب وعبد وذكر وأنثى. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: ناداهم بذلك استمالة لقلوبهم إلى تصديقه في قوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾. فإن تصديقه عليه السلام إياها من أقوى الدواعي إلى
وقال أبو الليث: يعني أقرأ عليكم الإنجيل موافقًا للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع. قال القاضي في "تفسيره": ولعله لم يقل: يا قوم، كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم. إذ النسب إلى الآباء، وإلا فمريم من بني إسرائيل؛ لأن إسرائيل لَقَبُ يعقوب ومريم من نسله، ثم إن هذا يدل على أن تصديق المتقدم من الأنبياء والكتب من شعائر أهل الصدق، ففيه مدح لأمة محمد - ﷺ - حيث صدقوا الكل. وانتصاب ﴿مُصَدِّقًا﴾ على الحال.
﴿و﴾ كذا ﴿مُبَشِّرًا﴾ والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال.
والمعنى: إني أرسلت إليكم حال كوني مصدقًا لما بين يدي من التوراة، ومبشرًا ﴿بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي﴾ وهذا أيضًا داع إلى تصديقه عليه السلام من حيث إن البشارة به واقعة في التوراة. أي: وحالة كوني مبشرًا بمن يأتي من بعدي من رسول، وكان بين مولده وبين الهجرة ست مئة وثلاثون سنة. وقال: بشرهم به ليؤمنوا به عند مجيئه، أو ليكون معجزة لعيسى عند ظهوره. والتبشير به تبشير بالقرآن أيضًا، وتصديق له كالتوراة.
﴿اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾؛ أي: محمد - ﷺ - يريد عيسى عليه السلام: أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعًا ممن تقدم وتأخر، فذكر أول الكتب المشهورة الذي يحكم به النبيون والشعبي الذي هو خاتم النبيين. وقال القشيري: بشر كل نبي قومه بنبينا محمد - ﷺ -، والله أفرد عيسى بالذِّكر في هذا الموضع؛ لأنه آخر نبي قبل نبينا - ﷺ -، فبيّن أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحدًا بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام.
وقال بعضهم (١): كان بين رفع المسيح ومولد النبي - ﷺ - خمس مئة وخمس وأربعون سنة تقريبًا. وعاش المسيح إلى أن رفع ثلاثًا وثلاثين سنة، وبين رفعه والهجرة الشريفة خمس مئة وثمان وتسعون سنة، وأمته النصارى على اختلافهم،
وأحمد اسم نبينا - ﷺ -، ويحتمل أن يكون منقولًا من المضارع المبدوء بالهمزة، وأن يكون منقولًا من صفة. وهي أفعل التفضيل، وهو الظاهر. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
صَلَّى الإِلهُ وَمَنْ يَحُفُّ بِعَرْشِهِ | وَالطَّيبُونَ عَلَى الْمُبَارَكِ أَحْمَدِ |
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والسلمي، وزر بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم (١): ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ بفتح الياء. وقرأ الباقون بإسكانها.
قال في "فتح الرحمن": لم بسم بأحمد أحد غيره - ﷺ - ولا دعي به مدعو
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي (١): الرسول المبشر به الذي اسمه أحمد، كما تدل عليه الآيات اللاحقة. وأما إرجاعه إلى عيسى كما فعله بعض المفسرين، كـ "الشوكاني" و"البيضاوي" و"الخازن" وغيرهم.. فبعيد جدًا، وكون ضمير الجمع راجعًا إلى بني إسرائيل لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن نبينا - ﷺ - مبعوث إلى الناس كافة. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الظاهرة كالقرآن، ونحوه، والباء للتعدية، ويجوز أن تكون للملابسة. ﴿قَالُوا هَذَا﴾ مشيرين إلى ما جاء به، أو إليه - ﷺ - ﴿سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر سحريته بلا مرية، وتسميته - ﷺ - سحرًا للمبالغة، ويؤيده قراءة من قرأ: ﴿هذا ساحر﴾.
والمعنى: أي فحين جاءهم أحمد المبشر به بالأدلة الواضحة والمعجزات الباهرة.. فاجؤوه بالتكذيب والإعراض عنه استكبارًا وعنادًا، وقالوا: إن ما جئت به ما هو إلا ترهات وأباطيل وسحر واضح لا شك. ونحو الآية: قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ...﴾ الآية.
وقرأ الجمهور: ﴿سِحْرٌ﴾؛ أي: ما جاء به من البينات سحر. وقرأ (٢) عبد الله، وطلحة، والأعمش، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: ﴿ساحر﴾؛ أي: هذا الجائي ساحر.
(٢) البحر المحيط.
والاستفهام فيه للإنكار؛ أي: وأي الناس من المفترين أشد ظلمًا وأكثر جرمًا ممن اختلق على الله الكذب بنسبة الشريك والولد والصاحبة إليه؟ ﴿وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ﴾؛ أي: والحال أنه يدعى إلى الإِسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين، فيضع موضع الإجابة الافتراء على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق: هذا سحر. فاللام في ﴿الْكَذِبَ﴾ للعهد؛ أي: لا أحد من المفترين أظلم منه؛ أي: وهو أظلم من كل ظالم، وإن لم يتعرض ظاهر الكلام لنفي المساوىء. ومن الافتراء على الله: الكذب في دعوى النسب، والكذب في الرؤيا، والكذب في الإخبار عن رسول الله - ﷺ -.
واعلم: أن الداعي في الحقيقة هو الله سبحانه، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ بأمره الرسول - ﷺ -، كما قال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾.
قرأ الجمهور (٢): وهو ﴿يُدْعَى﴾ مبنيًا للمفعول، من الدعاء. وقرأ طلحة بن مصرف: ﴿يدعي﴾ مبنيًا للفاعل، بفتح الياء وتشديد الدال، من الادعاء، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب.. عدي بإلى.
أي: ومن (٣) أشد ظلمًا وعدوانًا ممن اختلق على الله الكذب، وجعل له أندادًا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص.
وتلخيص المعنى: أو الناس أشد ظلمًا ممن يُدعى إلى الإِسلام والخضوع فلا يجيب الداعي، بل يفتري على الله الكذب بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرًا. والمراد: أنه أظلم من كل ظالم؛ لأنه قد أهدر عقله، وركب هواه، وألقى الأدلة
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
ثم بين سبب ظلمهم وفساد عقائدهم، فقال: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها؛ أي: والله لا يرشد الظالمين لأنفسهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم؛ لعدم توجههم إليه؛ لأنهم دسوها باجتراح السيئات وارتكاب الموبقات، فختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة فلا تفهم الأدلة المنصوبة في الكون وتهتدي بهدى العقل، بل تسير في عماية وتمشي في ظلام دامس لا تلوي على شيء.
٨ - ثم ذكر جدهم واجتهادهم في إبطال الدين، واستهزأ بما اتخذوه من الوسائل، فقال: ﴿يُرِيدُونَ﴾؛ أي: يريد المفترون ﴿لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ ودينه ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ وأقوالهم الباطلة. والإطفاء: الإخماد، وأصله في النار، واستعير لما يجري مجراها من الظهور والضياء؛ أي: يريدون أن يطفئوا دينه، أو كتابه، أو حجته النيرة. و ﴿اللام﴾ (١): مزيدة لما فيها من معنى الإرادة، تأكيدًا لها، كما زيدت لما فيها من معنى الإضافة تأكيدًا لها في: (لا أبا لك). أو لام علة، والمفعول محذوف.
والمعنى: يريدون الافتراء ليطفئوا نور الله. وقيل: إنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة بنفسها. قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع أن.. في أراد وأمر، وإليه ذهب الكسائي. ومثل هذا قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾. قال الراغب في "المفردات": الفرق بين زيادة اللام وعدمها: أن المعنى في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾: يقصدون إخفاء نور الله، وفي قوله: ﴿لِيُطْفِئُوا﴾: يقصدون أمرًا يتوصلون به إلى إطفاء نور الله. وقال الشوكاني: والمراد بنور الله: القرآن؛ أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول، أو الإِسلام، أو محمدًا - ﷺ -، أو الحجج والدلائل، أو جميع ما ذكر. ومعنى ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾: بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن. مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس ليطفئه.
وجملة قوله: ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ جملة حالية من مفعول ﴿لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾؛ أي: يريدون إطفاءه، والله متمه ومبلغه إلى غايته بنشره في الآفاق وإعلائه {وَلَوْ كَرِهَ
وقرأ العربيان (١) - أبو عمرو وابن عامر - ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن: ﴿متمٌ...﴾ بالتنوين، ﴿نُورَه﴾ بالنصب. وباقي السبعة والأعمش بالإضافة.
ومعنى الآية: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾... إلخ؛ أي (٢): إن مثلهم في مقاومتهم لدعوة الدين وجدهم في إخماد نوره مثل من ينفخ في الشمس بفيه ليطفىء نورها ويحجب ضياءها، وأنى له ذلك؟ فما هو إلا كمن يضرب في حديد بارد، أو كمن يريد أن يضرم النار في الرماد، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء:
أَرَى الْعَنْقَاءَ تُكْبُر أَنْ تُصَادَا | فَعَانِدْ مَنْ تُطِيْقُ لَهُ عِنَادَا |
٩ - ثم بيَّن العلة في إخماد دعوتهم، وأنه لا سبيل لقبولها لدى العقول، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه الإله ﴿الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ محمدًا - ﷺ -. وقرىء: ﴿نبيه﴾. ﴿بِالْهُدَى﴾؛ أي: بالقرآن أو بالمعجزة. فالهدى بمعنى: ما به الاهتداء إلى الصراط المستقيم. ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾؛ أي: وبالملة الحنيفية التي اختارها لرسوله ولأمته. وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، مثل: عذاب الحريق. ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ذلك الإظهار فيظهره. ولقد أنجز الله سبحانه، وعده؛ حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام، فليس المراد أنه لا يبقى دين آخر من الأديان، بل العلو والغلبة. والأديان (٣) خمسة: اليهودية والنصرانية والمجوسية والشرك، والإِسلام. كما في "عين المعاني" للسجاوندي.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وعبارة "الخطيب": أجيب عنه: بأنه تعالى أرسل رسوله وهو من نعم الله تعالى والكافرون كلهم في كفران النعم سواء؛ فلهذا قال، ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾. لأن لفظ الكافر أعمّ من المشرك. فالمراد بالكافرين هنا: اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به. وأما قوله: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ فذلك عند إنكارهم التوحيد وإصرارهم عليه؛ لأنه - ﷺ - في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله، فلم يقولوها، فلهذا قال: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾. انتهى.
وقيل (٢): إيراد الكافرين أولًا لما أن إتمام الله نوره يكون بنسخ غير الإِسلام، والكافرون كلهم يكرهون ذلك، وإيراد المشركين ثانيًا لما أن إظهار دين الحق يكون بإعلاء كلمة الله وإشاعة التوحيد المنبىء عن بطلان الآلهة الباطلة، وأشد الكارهين لذلك المشركون، والله أعلم بأسرار كلامه.
١٠ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾ سيأتي بيان معناها ﴿تُنْجِيكُمْ﴾؛ أي: تكون سببًا لإنجاء الله إياكم وتخليصه. وأفادت الصفة المقيدة أن من التجارة ما يكون على عكسها، كما أشار إليها قوله تعالى: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً﴾. فإن بوار التجارة وكسادها يكون لصاحبها عذابًا أليمًا، كجمع المال وحفظه ومنع حقوقه، فإنه وبال في الآخرة؛ فهي تجارة خاسرة. وكذا الأعمال التي لم تكن على وجه الشرع والسنة أو أريد بها غير الله، فجعل العمل الآتي بمنزلة التجارة؛ لأنهم يربحون فيه كما يربحون في التجارة. وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار. ﴿مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: مؤلم جسماني، وهو ظاهر وروحاني، وهو: التحسر والتضجر.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿تُنْجِيكُم﴾، من الإنجاء وقرأ الحسن، وابن أبي
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
١١ - ثم بيّن سبحانه هذه التجارة التي دل عليها، فقال: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾. وهذا (١) كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، فكأنهم قالوا: كيف نعمل، أو ماذا نصنع؛ فقيل: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ إلخ. وقدم الأموال على الأنفس لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد، أو لأن الإنسان ربما يضن بنفسه أو للترقي من الأدنى إلى الأعلى، أو لأنه إذا كان له مال فإنه يؤخذ به النفس لتغزو. وهذا خبر بمعنى الأمر، جيء به للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع فأخبر بوقوعه، كما تقول: غفر الله لهم، ويغفر الله لهم، جعلت المغفرة حاصلة لقوة الرجاء كأنها كانت ووجدت. وقس عليه نحو: سلمكم الله، وعافاكم الله، وأعاذكم الله.
وفي الحديث: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". ومعنى الجهاد بالألسنة: إسماعهم ما يكرهونه ويشق عليهم سماعه، من هجو وكلام غليظ ونحو ذلك. وأخَّرَ الجهاد بالألسنة لأنه أضعف الجهاد وأدناه. ويجوز أن يقال: إن اللسان أحد وأشد تأثيرًا من السيف والسنان. قال علي - رضي الله عنه -:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامُ | وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ |
قال ابن الشيخ: جعل ذلك تجارة تشبيهًا له في الاشتمال على معنى المبادلة والمعاوضة، طلبًا لنيل الفضل والزيادة، فإن التجارة هي معاوضة المال بالمال لطمع الربح، والإيمان والجهاد شبها بها من حيث إن فيهما بذل النفس والمال طمعًا لنيل رضي الله تعالى والنجاة من عذابه.
قُلْتُ لِبَوَّابٍ عَلَى بَابِهَا | تَأْذَنْ لِي إِنِّي مِنْ احْمَائِهَا |
واعلم (٢): أن الجهاد له ضروب شتى: جهاد للعدو في ميدان القتال لنصرة الدين، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها عن شهواتها التي ترديها، وجهاد بين النفس والخلق بترك الطمع في أموالهم والشفقة عليهم والرحمة بهم، وجهاد بين المرء والدنيا بأن لا يتكالب على جمع حطامها وأن لا ينفق المال إلا فيما تجيزه الشرائع وتقره العقول السليمة.
والمعنى (٣): يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله.. ألا أدلكم على صفقة رابحة وتجارة نافعة، تنالون بها الربح العظيم. والنجح الخالد الباقي؟ اثبتوا على إيمانكم، وأخلصوا لله العمل، وجاهدوا بالأنفس والأموال في سبيل الله بنشر دينه وإعلاء كلمته. وهذا أسلوب يفيد التشويق والاهتمام بما يأتي بعده، كما تقول: هل أدلك على عالم عظيم ذي خلق حسن وعلم فياض؟ هو فلان. فيكون ذلك أروع في الخطاب وأجلب لقَبوله.
﴿ذَلِكُمْ﴾ المذكور من الإيمان والجهاد بقسميه ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ على الإطلاق، أو من أموالكم وأنفسكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي (٤): إن كنتم من أهل العلم، فإن الجهلة لا يعتد بأفعالهم. أو إن كنتم تعلمون أنه خير لكم حينئذٍ؛ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه.. أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم،
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
أي: هذا الإيمان والجهاد خير لكم من كل شيء، من نفس ومال، وولد، إن كنتم من أهل الإدراك والعلم بوجوه المنافع وفهم المقاصد، فإن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها،
١٢ - ولهذه التجارة فوائد عاجلة وأخرى آجلة، وقد فصّل كلا الأمرين، وقدم الثانية فقال: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ في الدنيا، وهو جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخير، ويجوز أن يكون جوابًا لشرط أو لاستفهام دل عليه الكلام، تقديره: إن تؤمنوا وتجاهدوا.. يغفر لكم، أو هل تقبلون وتفعلون ما دللتكم عليه. وقال الفراء: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ جواب الاستفهام، فجعله مجزومًا لكونه جواب الاستفهام. وقد غلطه بعض أهل العلم؛ لأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة. وقال الرازي في توجيه قول الفراء: إن ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ في معنى الأمر عنده، يقال: هل أنت ساكت؛ أي: اسكت. وبيانه: أن ﴿هَلْ﴾ بمعنى الاستفهام، ثم يتدرج إلى أن يصير عرضًا وحثًا بمعنى: ألا، والحث كالإغراء، والإغراء أمر.
وقرأ بعضهم بالإدغام (١) في ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾. والأولى ترك الإدغام؛ لأن الراء حرف متكرر فلا يحسن إدغامه في اللام.
﴿وَيُدْخِلْكُمْ﴾ في الآخرة ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: كل واحد منكم جنّة. ولا بعد من لطفه تعالى أن يدخله جنات؛ بأن يجعلها خاصة له داخلة تحت تصرفه. والجنة في اللغة: البستان الذي فيه أشجار متكاثفة مظللة تستر ما تحتها. ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها. بمعنى (٢) تحت أغصان أشجارها في أصولها على عروقها، أو من تحت قصورها وغرفها. ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة في الجنة؛ من اللبن، والعسل، والخمر، والماء الصافي ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾؛ أي: ويدخلكم مساكن طيبة ومنازل نزهة كائنة ﴿في جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾؛ أي: إقامة وخلود، بحيث لا يخرج منها من دخلها بعارض من العوارض. وهذا ظرف صفة مختصة بـ ﴿مساكن﴾.
(٢) روح البيان.
﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنات المذكورة بما ذكر من الأوصاف الجميلة ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز وراءه، والظفر الذي لا ظفر يماثله.
والمعنى (١): إن فعلتم ذلك، فآمنتم بالله وصدقتم رسوله، وجاهدتم في سبيله.. ستر لكم ذنوبكم ومحاها، وأدخلكم فراديس جنانه، وأسكنكم مساكن تطيب لدى النفوس وتقرّ بها العيون في دار الخلد الأبدي، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الذي لا فوز بعده. قال (٢) بعض المفسرين: الفوز يكون بمعنى النجاة من المكروه، وبمعنى الظفر بالبغية، والأول يحصل بالمغفرة، والثاني بإدخال الجنة والتنعيم فيها، وعظمه باعتبار أنه نجاة لا ألم بعده، وظفر لا نقصان فيه، شأنًا وزمانًا ومكانًا؛ لأنه في غاية الكمال على الدوام في مقام النعيم.
واعلم: أن الآية الكريمة أفادت أن التجارة دنيوية وأخروية، فالدنيا موسم التجارة والعمر مدتها، والأعضاء والقوى رأس المال، والعبد هو المشتري من وجه والبائع من وجه، فمن صرف رأس ماله إلى المنافع الدنيوية التي تنقطع عند الموت.. فتجارته دنيوية كاسدة خاسرة، وإن كان تحصيل علم دين أو كسب علم صالح فضلًا عن غيرهما، فإن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى، ومن صرفه إلى المقاصد الأخروية التي لا تنقطع أبدًا.. فتجارته رائجة رابحة، حرية بأن يقال: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾. وذلك هو الفوز العظيم.
ولعل المراد من التجارة هنا (٣): بذل المال والنفس في سبيل الله، وذكر الإيمان لكونه أصلًا في الأعمال ووسيلة في قبول الآمال. وتوصيف التجارة بالإنجاء لأن النجاة يتوقف عليها الانتفاع، فيكون قوله: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ببيان سبب الإنجاء، وقوله: ﴿وَيُدْخِلْكُمْ﴾ بما يتعلق به بيان المنفعة الحاصلة من التجارة، مع أن التجارة الدنيوية تكون سببًا للنجاة من الفقر المنقطع، والتجارة الأخروية تكون سببًا
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
١٣ - ثم ذكر الفوز العاجل في الدنيا، فقال: ﴿وَأُخْرَى﴾؛ أي: ولكم مع هذه النعمة العظيمة نعمة أخرى عاجلة. فـ ﴿أُخْرَى﴾ مبتدأ خبره محذوف، والجملة معطوفة على: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ على المعنى، أو في محل خفض معطوفة على ﴿تُحِبُّونَهَا﴾؛ أي: وهل أدلكم على خصلة أخرى ﴿تُحِبُّونَهَا﴾ وترغبون فيها في العاجل مع ثواب الآخرة. وقيل: في محل نصب؛ أي: ويعطيكم خصلة أخرى. وفي قوله: ﴿تُحِبُّونَهَا﴾ تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل، وتوبيخ على محبته، وهو صفة بعد صفة لذلك المحذوف.
ثم بيّن سبحانه هذه الأخرى، فقال: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: هي نصر من الله لكم على عدوكم قريش وغيرهم. وقيل: ﴿نَصْرٌ﴾ بدل، أو عطف بيان لتلك النعمة الأخرى على تقدير كونها في محل رفع؛ أي: ولكم نصر من الله. ﴿وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾؛ أي: عاجل. معطوف على ﴿نَصْرٌ﴾. قال الكلبي: يعني النصر على قريش، وفتح مكة. وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم. وقوله: ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا محمد ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوف على محذوف، تقديره: قل - يا محمد -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ...﴾؛ إلخ، وبشرهم بأنواع البشارة الدنيوية والأخروية، فلهم فضل من الله وإحسان في الدارين. أو معطوف على ﴿تُؤْمِنُونَ﴾؛ لأنه في معنى الأمر.
والمعنى (١): أي وبشر - يا محمد - المؤمنين بالنصر والفتح، أو: وبشرهم بالنصر في الدنيا والفتح وبالجنة في الآخرة، أو: وبشرهم بالجنة في الآخرة.
وفي هذا (٢): دلالة على صدق النبي - ﷺ -؛ لأنه أخبر عما يحصل ويقع في المستقبل من الأيام على ما أخبره.
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿نَصْرٌ﴾ بالرفع، وكذا، ﴿وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾. وقرأ ابن أبي عبلة (٢) بالنصب فيها ثلاثتها، ووصف أخرى بـ ﴿تُحِبُّونَهَا﴾؛ لأن النفس قد وكلت بحب العاجل.
١٤ - ثم أمرهم بأن يكونوا أنصار الله في كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتواكلوا، فيكتب لهم النصر على أعدائهم كما فعل حواريو عيسى، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿كُونُوا﴾ جميعًا ﴿أَنْصَارَ اللَّهِ﴾؛ أي: أنصار دِينه. جمع نصير، كشريف وأشراف.
وقرأ الحرميان (٣) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو والأعرج وعيسى ﴿أنصارًا لله﴾ بالتنوين وترك الإضافة. وقرأ الحسن، والجحدري، وباقي السبعة بالإضافة إلى الله وترك التنوين، والرسم يحتمل القراءتين معًا، واختار أبو عبيدة قراءة الإضافة؛ لقوله: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ بالإضافة؛ أي: دوموا على نصرة دين الله وإعلاء كلمته، وقولوا: نحن أنصار الله إذا قال لكم نبيكم محمد - ﷺ -: من أنصاري إلى الله ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾؛ أي: إذا قال لكم قولًا مثل قول عيسى ﴿لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: من جندي وأعواني متوجهًا إلى نصرة دين الله. فـ ﴿اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ سبحانه وأعوان دِينه. وفي "فتح الرحمن": ظاهره تشبيه كونهم أنصار الله بقول عيسى عليه السلام: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ وليس مرادًا.
قلت: التشبيه محمول على المعنى، تقديره: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارًا لعيسى حين قال لهم: من أنصاري إلى الله. وإنما قلنا في الحل: مَنْ جندي متوجهًا إلى نصرة الله كما يقتضيه قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وقصارى ذلك (٢): كونوا أنصار الله في جميع أعمالكم وأقوالكم وأنفسكم وأموالكم كما استجاب الحواريون لعيسى. والحواريون هم أنصار عيسى، وخلص أصحابه، وأول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلًا. قال بعض العلماء: إنما سموا حواريين لصفاء عقائدهم عن التردد والتلوين، أو لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدِّين والعلم المشار إليه بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ من الحَوَرِ، وهو البياض الخالص.
﴿فـ﴾ لمَّا بلَّغ عيسى عليه السلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من الحواريين من وازره ﴿آمَنَتْ﴾ واهتدت ﴿طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: جماعة منهم بما جاءهم به؛ أي: آمنوا بعيسى وأطاعوه فيما أمرهم به من نصرة الدين ﴿وَكَفَرَتْ﴾؛ أي: ضلت ﴿طَائِفَةٌ﴾ أخرى، وجحدوا به، وقاتلوه. وهم الذين أضلهم بولس. وذلك (٣) أنه لما رفع عيسى إلى السماء.. تفرق قومه ثلاث فرق:
فرقة تقول: كان عيسى هو الله، فارتفع.
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
وفرقة تقول: كان عبد الله ورسوله، فرفعه إليه. فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله محمدًا - ﷺ -، فظهرت الفرقة المؤمنة على الفرقة الكافرة. فذلك قوله تعالى: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: قوينا مؤمني قومه بالحجة، أو بالسيف ﴿عَلَى عَدُوِّهِمْ﴾؛ أي: على الذين كفروا، وهو الظاهر، فإيراد العدو إعلام منه أن الكافرين عدو للمؤمنين عداوة دينية. ﴿فَأَصْبَحُوا﴾؛ أي: فصار الذين آمنوا ﴿ظَاهِرِينَ﴾؛ أي (١): غالبين عليهم عالين، من قولهم: ظهرت على الحائط، علوته. وقال قتادة: فأصبحوا ظاهرين بالحجة والبرهان كما سبق؛ لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى عليه السلام كان ينام، والله تعالى لا ينام، وأنه يأكل ويشرب، والله منزه عن ذلك.
وقيل المعنى (٢): فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين جميعًا.
والمعنى (٣): أي فنصرنا المؤمنين على من عاداهم، وأمددناهم بروح من عندنا على مقتضى سنتنا. ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فغلبوا أعداءهم، وظهروا عليهم، كما قال: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
وعبارة "الخطيب" هنا: أي صاروا بعدما كانوا فيه من الذلّ ظاهرين، أي: غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم، لا يخافون أحدًا، ولا يستخفون منه.
الإعراب
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوالِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢)﴾.
﴿سَبَّحَ﴾: فعل ماض، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: اسم موصول فاعل، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلته، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف عليه. والجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية. ﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى، ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من المنادى، وجملة النداء مستأنفة.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (٤)﴾.
﴿كَبُرَ﴾: فعل ماض، ﴿مَقْتًا﴾: تمييز محول عن الفاعل، ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿مَقْتًا﴾ أو حال، و ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾: في تأويل مصدر مرفوع على أنه فاعل ﴿كَبُرَ﴾؛ أي: كبر قولكم مقتًا عند الله. أي: كبر مقت قولكم؛ أي: المقت المترتب على قولكم ما لا تفعلون. ويجوز أن يكون ﴿كَبُرَ﴾ من باب نعم وبئس، فيكون الفاعل ضميرًا مستترًا مفسرًا بالتمييز النكرة، و ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾: مبتدأ خبره الجملة قبله؛ لأنه المخصوص بالذم. ﴿مَا﴾: مفعول به، وجملة ﴿لَا تَفْعَلُونَ﴾ صلته. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يُحِبُّ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿يُقَاتِلُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي سَبِيلِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، ﴿صَفًّا﴾: حال من فاعل ﴿يُقَاتِلُونَ﴾، ﴿كَأَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿بُنْيَانٌ﴾: خبره، ﴿مَرْصُوصٌ﴾: صفة ﴿بُنْيَانٌ﴾، وجملة ﴿كأن﴾ حال ثانية من الضمير في ﴿صَفًّا﴾؛ لأنه بمعنى: صافين أنفسهم. فهي حال متداخلة.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥)﴾.
﴿وَإِذْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة ﴿إذ قال موسى لقومه﴾. والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية نبينا محمد - ﷺ -، وتوطينه على الصبر. ﴿قَالَ مُوسَى﴾: فعل وفاعل ﴿لِقَوْمِهِ﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر إذ قال عيسى، والجملة المحذوفة معطوفة على الجملة المحذوفة في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى﴾. ﴿قَالَ عِيسَى﴾: فعل وفاعل ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾: صفة لـ ﴿عِيسَى﴾ أو بدل، أو عطف بيان منه، والجملة في محل الخفض مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾: ناصب واسمهُ وخبره ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول قال على كونه جواب النداء. ﴿مُصَدِّقًا﴾: حال من الضمير المستكن في رسول؛ لأنه بمعنى: مرسل ﴿لِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُصَدِّقًا﴾، ﴿بَيْنَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾ ﴿بَيْنَ﴾ مضاف، ﴿يَدَيَّ﴾: مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنه مثنى. ﴿وَمُبَشِّرًا﴾: معطوف على ﴿مُصَدِّقًا﴾، ﴿بِرَسُولٍ﴾: متعلق بـ ﴿مبشرًا﴾، ﴿يَأْتِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتِي﴾. والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿رَسُولُ﴾. ﴿اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صفة ثانية لـ ﴿رسول﴾. ﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم، ﴿جَاءَهُمْ﴾: فعل
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧)﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿من﴾: اسم استفهام للإنكار في محل الرفع مبتدأ، ﴿أَظْلَمُ﴾: خبر، ﴿مِمَّنِ﴾: متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿افْتَرَى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعول به، والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة. ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾ حالية، ﴿هو﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُدْعَى﴾: خبر ﴿هو﴾. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿افْتَرَى﴾. ﴿إِلَى الْإِسْلَامِ﴾: متعلق بـ ﴿يُدْعَى﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الله﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾: خبر عن الجلالة. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿الْقَوْمَ﴾: مفعول به، ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾.
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨)﴾.
﴿يُرِيدُونَ﴾: فعل وفاعل مرفوع بثبوت النون، والجملة مستأنفة، ﴿لِيُطْفِئُوا﴾: ﴿اللام﴾: زائدة للتأكيد ﴿يُطْفِئُوا﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام الزائدة، وعلامة نصبه: حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿نُورَ اللَّهِ﴾: مفعول به، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريدون إطفاء نور الله ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يطفئوا﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿مُتِمُّ﴾: خبره. ﴿نُورِهِ﴾: مضاف إليه. والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يُرِيدُونَ﴾. أو ﴿يطفئوا﴾، أو من ﴿نُورَ اللَّهِ﴾، وهو الأوضح كما مر. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾، وجوابها محذوف تقديره: ولو كره الكافرون.. أتمه وأظهره. وجملة ﴿لو﴾ الشرطية في محل النصب حال من ﴿نُورِهِ﴾؛ أي: والله متم نوره حالة كون الكافرين كارهين
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿بِالْهُدَى﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلَ﴾ أو حال من ﴿رَسُولَهُ﴾، ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾: معطوف على ﴿الهدى﴾، ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يظهر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، ﴿عَلَى الدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿يظهر﴾، ﴿كَرِهَ﴾: تأكيد للدين، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام وتقديره: لإظهاره على الدين كله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلَ﴾. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾، وجوابها محذوف، تقديره: أظهره. وجملة ﴿لو﴾ الشرطية في محل النصب حال من مفعول يظهره.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿الَّذِينَ﴾: بدل منه، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، وجملة النداء مستأنفة. ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام بمعنى: ألا، فتكون للعرض، وهو الطلب برفق ولين. ﴿أَدُلُّكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول به، وجملة الاستفهام جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿عَلَى تِجَارَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَدُلُّكُمْ﴾، وجملة ﴿تُنْجِيكُمْ﴾ صفة ﴿تِجَارَةٍ﴾، ﴿مِنْ عَذَابٍ﴾: متعلق بـ ﴿تُنْجِيكُمْ﴾، ﴿أليم﴾: صفة ﴿عَذَابٍ﴾.
﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)﴾.
﴿تُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُؤْمِنُونَ﴾، ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي تؤمنون، أو مستأنفة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما هي التجارة؟. ﴿وَتُجَاهِدُونَ﴾: معطوف على ﴿تُؤْمِنُونَ﴾، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تجاهدون﴾، أو بمحذوف حال،
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)﴾.
﴿يَغْفِرْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بالطلب المفهوم من قوله: ﴿تُؤْمِنُونَ﴾؛ لأنه في تأويل آمنوا بالله ورسوله يغفر لكم ذنوبكم. أو جواب لشرط مقدر تقديره: إن تؤمنوا يغفر لكم. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَغْفِرْ﴾، ﴿ذُنُوبَكُمْ﴾: مفعول به، ﴿وَيُدْخِلْكُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿يَغْفِرْ﴾، ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول به ثان على السعة لـ ﴿يدخلكم﴾، ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾، ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿جَنَّاتِ﴾، ﴿وَمَسَاكِنَ﴾. معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾، ﴿طَيِّبَةً﴾: صفة لـ ﴿مساكن﴾، ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: صفة ثانية لـ ﴿مساكن﴾. ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿الْعَظِيمُ﴾: صفة للفوز. والجملة مستأنفة.
﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)﴾.
﴿وَأُخْرَى﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة، ﴿أخرى﴾: مبتدأ مؤخر لخبر مقدم محذوف، تقديره: ولكم نعمة أخرى أو مثوبة أخرى، وجملة ﴿تُحِبُّونَهَا﴾: صفة لأخرى، والجملة الاسمية مستأنفة أو معطوفة على ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ على المعنى. ﴿نَصْرٌ﴾: بدل من ﴿أخرى﴾، أو خبر لمحذوف؛ أي: وتلك الأخرى ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ﴾. و ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: صفة لنصر، ﴿وَفَتْحٌ﴾: معطوف على ﴿نَصْرٌ﴾، ﴿قَرِيبٌ﴾: صفة لـ ﴿فتح﴾، ﴿وَبَشِّرِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿بشر﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: وقيل يا محمد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ...﴾ إلخ. وبشرهم بأنواع البشارات.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه، ﴿الَّذِينَ﴾: بدل منه وجملة النداء مستأنفة، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، ﴿كُونُوا﴾: فعل أمر ناقص، مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: اسمها: ﴿أَنْصَارَ اللَّهِ﴾: خبرها، والجملة الطلبية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿كَمَا﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جر وتشبيه، ما مصدرية مدخولها محذوف، تقديره: كما كان الحواريون أنصار الله. وجملة كان المحذوفة صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: كونوا أنصار الله كونًا كائنًا ككون الحواريين أنصار الله. ﴿قَالَ عِيسَى﴾: فعل وفاعل، ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾: بدل من عيسى، ﴿لِلْحَوَارِيِّينَ﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾، وجملة ﴿قَالَ﴾ في محل الخفض بإضافة الظرف المقدر، تقديره: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله، حين قال لهم عيسى ابن مريم: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾، والظرف المقدر متعلق بكان المحذوفة. ﴿مَن﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿أَنْصَارِي﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول قال ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ياء المتكلم. أي: حالة كوني متوجهًا إلى الله. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿قَالَ عِيسَى﴾؛ أي: حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله وقال الحواريون: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ ﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ، ﴿أَنْصَارُ اللَّهِ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول قال. ﴿فَآمَنَتْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿آمنت طائفة﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: صفة لـ ﴿طَائِفَةٌ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾، أو معطوفة على محذوف، تقديره: فلما رفع عيسى إلى السماء.. افترق الناس فيه فرقتين ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ﴾، ﴿وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿فَآمَنَتْ﴾. ﴿فَأَيَّدْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف أيضًا، تقديره: فاقتتلت الطائفتان، ﴿أيدنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف، ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به، ﴿آمَنُوا﴾: صلته، ﴿عَلَى عَدُوِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أيدنا﴾، ﴿فَأَصْبَحُوا﴾: فعل ناقص،
التصريف ومفردات اللغة
﴿لِمَ تَقُولُونَ﴾ أصله: لما؛ لأن ما الاستفهامية إذا جرت.. حذفت ألفها فرقًا بينها وبين الموصولة، كما مر، وإن وقف عليها.. وقف بهاء السكت. قال ابن مالك:
وَمَا في الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ | أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ |
وَفِيْمَهْ وَمِمَّهْ قِفْ وَعَمَّهْ لِمَهْ بِمَهْ | بِخُلْفٍ عَنِ الْبَزِّيّ وَادْفَعْ مُجَهِّلًا |
﴿يَا قَوْمِ﴾ الأصل: يا قومي، حذفت ياء المتكلم منه، ومن أمثاله اجتزاء عنها بالكسرة. ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾؛ أي: لم تخالفون أمري بترك القتال مع الجبابرة، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾؛ أي: أصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام. أصله: زيغوا بوزن فَعَلُوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وكذلك القول في قوله: ﴿أَزَاغَ﴾ أصله: أَزْيَغُ، قلبت ياؤه ألفًا بعد نقل حركتها إلى الزاي لتحركها
﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ والفرق بين الكذب والافتراء: أن الافتراء افتعال الكذب واختلاقه من قبل نفسه، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه. ﴿وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ﴾ أصله: يدعي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد الفتح، والأصل في يائه الواو، قلبت ياء حملًا للفعل على اسم الفاعل. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ أصله: يرودون، بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى الراء، فسمكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مدّ. والإطفاء: الإخماد. ويستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور. ويفترق الإطفاء والإخماد من وجه، وهو: أن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج ولا يقال: أخمدت السراج. ﴿مُتِمُّ نُورِهِ﴾ أصله: متمم، بوزن مفعل: اسم فاعل من أتم الرباعي، نقلت حركة الميم الأولى إلى التاء فسكنت، فأدغمت في الميم الثانية. ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾؛ أصله: أدللكم بوزن أفعل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الدال فسكنت فأدغمت في الثانية. والتجارة: التصرف في رأس المال طلبًا للربح، والتاجر الذي يبيع ويشتري، وليس في كلام العرب تاء بعدها جيم إلا هذه اللفظة كما مرّ. ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي﴾ جمع جنة، والجنة في اللغة: البستان الذي فيه أشجار متكاثفة مظلة تستر ما تحتها. ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ جمع مسكن بمعنى المقام. والسكون: ثبوت الشيء بعد التحرك، ويستعمل في الاستيطان، يقال: سكن فلان في مكان كذا، استوطنه، واسم المكان مسكن، فمن الأول يقال: سكنت، ومن الثاني: سكنته. قال الراغب: أصل الطيب: ما يستلذه الحواس، وزنه: فيعلة، أدغمت ياء فيعل في ياء عين الكلمة.
﴿تُحِبُّونَهَا﴾ الأصل: تحببونها، بوزن تفعلون، نقلت حركة الباء الأولى إلى الحاء فسكنت فأدغمت في الباء الثانية. ﴿كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ﴾ جمع نصير، كأشراف وشريف. وأنصار الله هم الناصرون لدينه. ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ جمع حواري من الحور وهو البياض الخالص، وحواري الرجل: صفيه وخليله. ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ﴾؛ أي: جماعة، وهي أقل من الفرقة؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾. ﴿فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ من ظهرت على الحائط إذا عَلوت عليه.
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي التعييري في قوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.
ومنها: الإطناب بتكرار قوله: ﴿مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ وهو لفظ واحد في كلام واحد، ومن فوائد التكرار: التهويل والإعظام، وإلا فقد كان الكلام مستقلًا لو قيل: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ﴾ ذلك فما إعادته إلا لمكان هذه الفائدة.
ومنها: التشبيه المرسل المفصل في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾؛ أي: في المتانة والتراص.
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾ للدلالة على استمرار العلم.
ومنها: الإتيان بالجملة الاعتراضية التذييلية في قوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ لتقرير مضمون ما قبلها من الإزاغة، وإيذانًا بعليته.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾. مثل حالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئها، تهكمًا وسخرية بهم. وقيل: الاستعارة تصريحية، شبه شرع الله ودينه بالنور الحسين بجامع الإضاءة في كل. والإطفاء ترشيح.
ومنها: التورية في قوله: ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾؛ أي: بأقوالهم: إنه سحر، وشعر، وكهانة، والتورية: أن يكون للكلمة معنيان بعيد وقريب، ويراد البعيد دون القريب، وهو من المحسنات اللفظية.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾؛ أي: مظهر دينه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾.
ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ لغرض الإيضاح،
ومنها: الاستفهام للترغيب والتشويق في قوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿عَلَى تِجَارَةٍ﴾. حيث شبّه الإيمان والعمل الصالح بالتجارة بجامع الربح والخسران في كل، فاستعار له لفظ التجارة.
قال ابن الشيخ: جعل ذلك تجارة، تشبيهًا له في الاشتمال على معنى المبادلة والمعاوضة، طمعًا لنيل الفضل والزيادة، فإن التجارة هي معاوضة المال بالمال لطمع الربح. والإيمان والجهاد شبها بها من حيث إن فيهما بذل النفس والمال طمعًا لنيل رضي الله تعالى والنجاة من عذابه انتهى.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿تُحِبُّونَهَا﴾؛ لأن فيه تعريضًا بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل، وتوبيخًا على محبته.
ومنها: إضافة الوصف إلى مفعوله في ﴿كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ﴾؛ أي: أنصار دِينه.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ﴾، ﴿وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾.
ومنها: إيراد العدو في قوله: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ﴾ إعلامًا بأن الكافرين عدو للمؤمنين عداوة دينية أيًا كان.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل.
٢ - البشارة بمحمد - ﷺ - على لسان عيسى عليه السلام.
٣ - إرسال محمد - ﷺ - بالهدى ودين الحق.
٤ - التجارة الرابحة عند الله تعالى هي الإيمان والجهاد في سبيله.
٥ - الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الجمعة مدنية، قال القرطبي: في قول الجميع، نزلت بعد الصف. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (نزلت سورة الجمعة بالمدينة). وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله.
وآيها: إحدى عشرة آية. وكلماتها: مئة وثمانون كلمة. وحروفها: سبع مئة وثمانية (١) وأربعون حرفًا.
مناسبتها لما قبلها من وجوه (٢):
١ - أنه ذكر في السورة قبلها حال موسى مع قومه بإيذائهم له ناعيًا عليهم ذلك، وذكر في هذه حال الرسول - ﷺ - وفضل أمته تشريفًا لهم ليعلم الفرق بين الأمتين.
٢ - أنه حكى في السورة قبلها قول عيسى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ وذكر هنا ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ إشارة إلى أنه هو الذي بشر به عيسى عليه السلام.
٣ - أنه لما ختم السورة قبلها بالأمر بالجهاد وسماه تجارة.. ختم هذه السورة بالأمر بالجمعة، وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية.
وعبارة أبي حيان (٣): مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر تأييد من آمن على أعدائهم.. أتبعه بذكر التنزيه لله تعالى وسعة ملكه وتقديسه، وذكر ما أنعم به على أمة محمد - ﷺ - من بعثته إليهم وتلاوته عليهم كتابه وتزكيتهم، فصارت أمته غالبة على سائر الأمم قاهرة لها منتشرة الدعوة كما انتشرت دعوة الحواريين في زمانهم، انتهى.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
فضائلها: ومن فضائلها: ما أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال: (سمعت رسول الله - ﷺ - يقرأ في الجمعة سورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون). وأخرج مسلم وأهل السنن عن ابن عباس نحوه.
ومنها: ما أخرجه ابن حبان، والبيهقي في "سننه" عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله - ﷺ - يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾، و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون).
وأخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة: أن رسول الله - ﷺ - قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة". وعنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال: يوم الجمعة - فاليوم لنا وغدًا لليهود وبعد غدٍ للنصارى".
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)﴾.المناسبة
قد تقدم لك ذكر مناسبة هذه السورة لما قبلها آنفًا، وأما قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ...﴾ الآيات، مناسبته لما قبله: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) أثبت التوحيد والنبوة وذكر أنه بعث محمدًا - ﷺ - للأميين، وقال اليهود: إن الرسول لم يبعث لنا.. رد عليهم مقالهم بأنهم لو فهموا التوراة حق الفهم، وعملوا بما فيها لرأوا فيها نعت الرسول - ﷺ - والبشارة به، وأنه يجب عليهم اتّباعه، وما مثلهم في حملهم للتوراة وتركهم العمل بها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يجديه حملها نفعًا.
ثم رد عليهم مقالًا آخر، إذ قالوا: نحن أحباء الله وأولياؤه، وأنه لن يدخلنا
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نعى على اليهود فرارهم من الموت حبًا في الدنيا والتمتع بطيباتها.. ذكر هنا أن المؤمن لا يمنع من اجتناء ثمار الدنيا، وخيراتها مع السعي لما ينفعه في الآخرة؛ كالصلاة يوم الجمعة في المسجد مع الجماعة، فعليه أن يعمل للدنيا والآخرة معًا، فما الدنيا إلا مزرعة الآخرة، كما ورد في الأثر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
ثم نعى على المسلمين في عهد الرسول - ﷺ - تشاغلهم عن سماع عظاته - وهو يخطب على المنبر - بأمور الدنيا، من تجارة وضرب دف وغناء بالمزامير ونحو ذلك. وأبان لهم أن ما عند الله تعالى من الثواب والنعيم المقيم خير لهم من خيرات الدنيا والتمتع بلذاتها الفانية.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الشيخان عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - ﷺ - يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه - ﷺ - إلا اثنا عشر رجلًا، فأنزل ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾.
وفي "الدر المنثور" (٦/ ٢٢١): أن النبي - ﷺ - يخطب يوم الجمعة، فإذا كان نكاح.. لعب أهله وعزفوا ومروا باللهو على المسجد، وإذا نزلت بالبطحاء جلب - قال: وكانت البطحاء مجلسًا بفناء المسجد الذي يلي بقيع الغرقد، وكانت