تفسير سورة الإنسان

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ الدَّهْرِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَالَ تَعَالَى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١)).
فِي «هَلْ» وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ بِمَعْنَى «قَدْ» وَالثَّانِي: هِيَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى بَابِهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ، أَوِ التَّوْبِيخِ.
وَ (لَمْ يَكُنْ شَيْئًا) : حَالٌ مِنَ الْإِنْسَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢)).
وَ (أَمْشَاجٍ) : بَدَلٌ، أَوْ صِفَةٌ، وَهُوَ جَمْعُ مَشِيجٍ. وَجَازَ وَصْفُ الْوَاحِدِ بِالْجَمْعِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ مُتَفَرِّقًا ثُمَّ جُمِعَ؛ أَيْ نُطْفَةٌ أَخْلَاطٌ.
وَ (نَبْتَلِيهِ) : حَالٌ مِنَ الْإِنْسَانِ؛ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِمَّا شَاكِرًا) :«إِمَّا» هَاهُنَا لِتَفْصِيلِ الْأَحْوَالِ، وَشَاكِرًا، وَكَفُورًا: حَالَانِ؛ أَيْ يَنَالُهُ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَلَاسِلَ) : الْقِرَاءَةُ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ، وَنَوَّنَهُ قَوْمٌ أَخْرَجُوهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَّبَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِتْبَاعُهُ مَا بَعْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي الشِّعْرِ مِثْلَ ذَلِكَ مُنَوَّنًا فِي الْفَوَاصِلِ، وَإِنَّ هَذَا الْجَمْعَ قَدْ جُمِعَ،
كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
قَدْ جَرَتِ الطَّيْرُ أَيَامِنِينَا
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ كَأْسٍ) : الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ خَمْرًا، أَوْ مَاءً مِنْ كأسٍ.
وَقِيلَ: «مِنْ» زَائِدَةٌ. وَ (كَانَ مِزَاجُهَا) : نَعْتٌ لِكَأْسٍ. وَأَمَّا «عَيْنًا» فَفِي نَصْبِهَا أَوْجُهٌ؛ أَحَدُهَا: هُوَ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ مِنْ كَأْسٍ. وَالثَّانِي: مِنْ كَافُورٍ؛ أَيْ مَاءَ عَيْنٍ، أَوْ خَمْرَ عَيْنٍ. وَالثَّالِثُ: بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ أَعْنِي. وَالرَّابِعُ: تَقْدِيرُهُ: أُعْطُوا عَيْنًا. وَالْخَامِسُ: يَشْرَبُونَ
عَيْنًا؛ وَقَدْ فَسَّرَهُ مَا بَعْدَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَشْرَبُ بِهَا) : قِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى «مِنْ» وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ؛ أَيْ يَشْرَبُ مَمْزُوجًا بِهَا.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى؛ وَالْمَعْنَى: يَلْتَذُّ بِهَا.
وَ (يُفَجِّرُونَهَا) : حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا... (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُوفُونَ) : هُوَ مُسْتَأْنَفٌ أَلْبَتَّةَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ فِي (جَزَاهُمْ) وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لَجَنَّةً.
و ﴿لَا يرَوْنَ﴾ يجوز أَن يكون حَالا من الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي ﴿متكئين﴾ وَأَن يكون حَالا أُخْرَى وَأَن يكون صفة لجنة
وَأَمَّا (وَدَانِيَةً) فَفِيهِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى «لَا يَرَوْنَ» أَوْ عَلَى (مُتَّكِئِينَ) فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ مَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَجَنَّةً دَانِيَةً.
وَقُرِئَ: وَدَانِيَةٌ - بِالرَّفْعِ - عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَالْمُبْتَدَأُ: «ظِلَالُهَا».
وَحُكِيَ بِالْجَرِّ؛ أَيْ فِي جَنَّةٍ دَانِيَةٍ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ. وَأَمَّا «ظِلَالُهَا» فَمُبْتَدَأٌ، وَ «عَلَيْهِمْ» الْخَبَرُ، عَلَى قَوْلِ مَنْ نَصَبَ دَانِيَةً أَوْ جَرَّهُ؛ لِأَنَّ دَنَا يَتَعَدَّى بِإِلَى؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِدَانِيَةً؛ لِأَنَّ دَنَا وَأَشْرَفَ بِمَعْنًى.
وَأَمَّا (وَذُلِّلَتْ) فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا؛ أَيْ وَقَدْ ذُلِّلَتْ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا) : يُقْرَآنِ بِالتَّنْوِينِ وَبِغَيْرِ التَّنْوِينِ. وَقَدْ ذُكِرَ،
وَالْأَكْثَرُونَ يَقِفُونَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ.
وَفِي نَصْبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ خَبَرُ كَانَ. وَالثَّانِي: حَالٌ؛ وَ «كَانَ» تَامَّةٌ: أَيْ كُوِّنَتْ، وَحَسُنَ التَّكْرِيرُ لِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ بَيَانِ أَصْلِهَا، وَلَوْلَا التَّكْرِيرُ لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ رَأْسَ آيَةٍ لِشِدَّةِ اتِّصَالِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ. وَ (قَدَّرُوهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِقَوَارِيرَ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨)).
وَ (عَيْنًا) : فِيهَا مِنَ الْوُجُوهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأُولَى.
وَ (السَّلْسَبِيلُ) : كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَوَزْنُهَا فَعْلَلِيلُ مِثْلُ دَرْدَبِيسُ.
قَالَ تَعَالَى: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ... (٢١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَالِيَهُمْ) : فِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: هُوَ فَاعِلٌ، وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي «عَلَيْهِمْ».
وَ (ثِيَابُ سُنْدُسٍ) : مَرْفُوعٌ بِهِ؛ أَيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ عُلُوِّ السُّنْدُسِ؛ وَلَمْ يُؤَنَّثْ «عَالِيًا» لِأَنَّ تَأْنِيثَ الثِّيَابِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ ظَرْفٌ؛ لِأَنَّ عَالِيَهُمْ: جُلُودُهُمْ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ ضَعْفٌ.
وَيُقْرَأُ بِسُكُونِ الْيَاءِ؛ إِمَّا عَلَى تَخْفِيفِ الْمَفْتُوحِ الْمَنْقُوصِ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ.
وَيُقْرَأُ «عَالِيَتُهُمْ» - بِالتَّاءِ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَ (خُضْرٌ) - بِالْجَرِّ: صِفَةٌ لِسُنْدُسٍ، وَبِالرَّفْعِ لِثِيَابُ.
(وَإِسْتَبْرَقٌ) - بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى سُنْدُسٍ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى ثِيَابُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ كَفُورًا) :«أَوْ» هُنَا عَلَى بَابِهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَتُفِيدُ فِي النَّهْيِ الْمَنْعُ مِنَ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ فِي الْإِبَاحَةِ جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ؛ كَانَ التَّقْدِيرُ: جَالِسْ أَحَدَهُمَا؛ فَإِذَا نَهَى قَالَ: لَا تُكَلِّمْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا؛ فَالتَّقْدِيرُ: لَا تُكَلِّمْ أَحَدَهُمَا، فَأَيَّهُمَا كَلَّمَهُ كَانَ أَحَدَهُمَا، فَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْهُ؛ فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ، وَيَؤُولُ الْمَنْعُ إِلَى تَقْدِيرِ: فَلَا تُطِعْ مِنْهُمَا آثِمًا وَلَا كَفُورًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... (٣٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) : أَيْ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ إِلَّا فِي حَالِ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ تَعَالَى: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٣١)).
وَ (الظَّالِمِينَ) : مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، وَفَسَّرَهُ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ؛ وَكَانَ النَّصْبُ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ قَدْ عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
Icon