تفسير سورة الزلزلة

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ

﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها ﴾ المراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ﴾ [ الحج : ١، ٢ ]. وقوله :﴿ زلزالها ﴾ يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط، ولهذا يقول الله عز وجل :﴿ ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ﴾ يعني من شدة ذهولهم وما أصابهم تجدهم كأنهم سكارى، وما هم بسكارى ؛ بل هم صحاة، لكن لشدة الهول صار الإنسان كأنه سكران لا يدري كيف يتصرف، ولا كيف يفعل.
﴿ وأخرجت الأرض أثقالها ﴾ المراد بهم : أصحاب القبور، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، يخرجون من قبورهم لرب العالمين عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ يوم يقوم الناس لرب العالمين ﴾ [ المطففين : ٦ ].
﴿ وقال الإنسان مالها ﴾ الإنسان المراد به الجنس، يعني أن الإنسان البشر يقول : ما لها ؟ أي شيء لها هذا الزلزال ؟ ولأنه يخرج وكأنه كما قال الله تعالى :﴿ سكارى ﴾ [ الحج : ٢ ]. فيقول : ما الذي حدث لها وما شأنها ؟ لشدة الهول.
﴿ يومئذ ﴾ أي في ذلك اليوم إذا زلزلت ﴿ تحدث أخبارها ﴾ أي تخبر عما فعل الناس عليها من خير أو شر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤذن إذا أذن فإنه لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صنع عليها من خير أو شر، وهذه الشهادة من أجل بيان عدل الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس إلا بما عملوه، وإلا فإن الله تعالى بكل شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جل وعلا : عملتم كذا وعملتم كذا.. لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم ؛ لأن المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين، قال الله تعالى :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] ؛ لأنهم إذا رأوا أهل التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشرك لعلهم ينجون، ولكنهم يختم على أفواههم، وتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل والجلود والألسن كلها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستطيع أن يبقى على إنكاره ؛ بل يقر ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت. وقوله :﴿ يومئذ تحدث أخبارها ﴾ هو جواب الشرط في قوله تعالى :﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها ﴾.
قوله :﴿ بأن ربك أوحى لها ﴾ أي بسبب أن الله أوحى لها، يعني أذن لها في أن تحدث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، إذا أمر شيئاً بأمر فإنه لابد أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلم الجماد كما قال الله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ﴾ [ فصلت : ١١ ]. وقال الله تعالى للقلم اكتب، قال : ربِّ وماذا أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقال الله تعالى :﴿ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴾ [ يس : ٦٥ ]، فالله عز وجل إذا وجه الكلام إلى شيء -ولو جماداً - فإنه يخاطب الله ويتكلم، ولهذا قال :﴿ يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ﴾.
قوله :﴿ يومئذ ﴾ يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها. ﴿ يصدر الناس أشتاتاً ﴾ أي جماعات متفرقين، يصدرون كل يتجه إلى مأواه، فأهل الجنة جعلنا الله منهم يتجهون إليها، وأهل النار والعياذ بالله يساقون إليها ﴿ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً. ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً. لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً ﴾ [ مريم : ٨٥ ٨٧ ]. فيصدر الناس جماعات وزمراً على أصناف متباينة تختلف اختلافاً كبيراً كما قال الله تعالى :﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ﴾ [ الإسراء : ٢١ ]. ﴿ ليروا أعمالهم ﴾ يعني يصدرون أشتاتاً فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيراً فخير، وإن شًّرا فشر، وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إما بيمينه، وإما بشماله، ثم يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل، أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول : فعلت كذا، وفعلت كذا وكذا، وفعلت كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا رأى أنه هلك، قال الله عز وجل :«إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم »، وأما الكافر والعياذ بالله فإنه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ [ هود : ١٨ ]. وقوله :﴿ ليروا أعمالهم ﴾ هذا مضاف، والمضاف يقتضي العموم، وظاهره أنهم يرون الأعمال الصغير والكبير وهو كذلك، إلا ما غفره الله من قبل بحسنات، أو دعاء أو ما أشبه ذلك فهذا يمحى كما قال الله تعالى ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ﴾ [ هود : ١١٤ ]. فيرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبين له الأمر جليًّا ويعطى كتابه ويقال :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ﴾ [ الإسراء : ٦٤ ]. ولهذا يجب على الإنسان أن لا يقدم على شيء لا يرضي الله عز وجل ؛ لأنه يعلم أنه مكتوب عليه، وأنه سوف يحاسب عليه.
﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره ﴾ ﴿ من ﴾ شرطية تفيد العموم، يعني : أي إنسان يعمل مثقال ذرة فإنه سيراه، سواء من الخير، أو من الشر ﴿ مثقال ذرة ﴾ يعني وزن ذرة، والمراد بالذرة : صغار النمل كما هو معروف، وليس المراد بالذرة : الذرة المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم، لأن هذه الذرة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون، وإنما ذكر الذرة لأنها مضرب المثل في القلة، كما قال الله تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ﴾ [ النساء : ٤٠ ]. ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة فإنه سوف يجده، لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ﴾.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ مثقال ذرة ﴾ يفيد أن الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم :
فمن العلماء من قال : إن الذي يوزن العمل.
ومنهم من قال : إن الذي يوزن صحائف الأعمال.
ومنهم من قال : إن الذي يوزن هو العامل نفسه.
ولكل دليل :
أما من قال : إن الذي يوزن هو العمل فاستدل بهذه الاية ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة ﴾ ؛ لأن تقدير الآية فمن يعمل عملاً مثقال ذرة. واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ».
لكن يشكل على هذا أن العمل ليس جسماً يمكن أن يوضع في الميزان ؛ بل العمل عمل انتهى وانقضى.
ويجاب عن هذا بأن يقال :
أولاً : على المرء أن يصدق بما أخبر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلّم من أمور الغيب، وإن كان عقله قد يحار فيه، ويتعجب ويقول كيف يكون هذا ؟ فعليه التصديق ؛ لأن قدرة الله تعالى فوق ما نتصور، فالواجب على المسلم أن يسلم ويستسلم، ولا يقول كيف ؟ لأن أمور الغيب فوق ما يتصور.
ثانياً : إن الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً توضع في الميزان وتثقل وتخف، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنوية أجساماً، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم في أن الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة، فيشرئبون ويطلعون، ويقال : يا أهل النار، فيشرئبون ويطلعون، فيقال لهم : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم، هذا الموت، مع أنه في صورة كبش، والموت ( معنى ) ليس جسماً، ولكن الله تعالى يجعله جسماً يوم القيامة، فيقولون : هذا الموت فيذبح أمامهم، ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول.
أما من قال : إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال : انظر إلى عملك، فتمد له سجلات مكتوب فيها العمل السيء، سجلات عظيمة، فإذا رأى أنه قد هلك أتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال له : إنك لا تظلم شيئاً، ثم توزن البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجح بهن البطاقة، وهي لا إله إلا الله. قالوا : فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال.
وأما الذين قالوا : إن الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان ذات يوم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهبت ريح شديدة، فقام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فجعلت الريح تكفئه ؛ لأنه نحيف القدمين والساقين، فجعل الناس يضحكون، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :«مما تضحكون ؟ أو مما تعجبون ؟ والذي نفسي بيده إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد » وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل.
فيقال : نأخذ بالقول الأول : أن الذي يوزن العمل، ولكن ربما يكون بعض الناس توزن صحائف أعماله، وبعض الناس يوزن هو بنفسه.
فإن قال قائل : على هذا القول : إن الذي يوزن هو العامل، هل ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا، وأن صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة ؟
فالجواب : لا ينبني على أجسام الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :«إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة »، وقال : اقرؤوا ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ﴾[ الكهف : ١٠٥ ]. وهذا عبدالله بن مسعود يقول النبي عليه الصلاة والسلام :«إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد »، فالعبرة بثقل الجسم أو عدمه ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة. يقول عز وجل :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره ﴾.
Icon