ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (١- ٨) [سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)التفسير قوله تعالى:
«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».
أي يسجد لله- تعظيما، وولاء، وتمجيدا- كل من فى السموات والأرض، وإن أبى هؤلاء الكافرون والمشركون أن يكونوا فى الساجدين..
فإنهم- إن ظنوا أنهم يملكون من أنفسهم أن يخرجوا عن هذا المقام الذي ينتظم الوجود كله فى محراب التسبيح بحمد الله- فهم واهمون، لأنهم فى قبضة الله، وفى محيط سلطانه، وهم بهذا خاضعون لله كرها، وإن لم يخضعوا له طوعا..
«وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» (١٥: الرعد).
والملك: هو صاحب الملك، المتصرف فيه كيف يشاء.
والقدوس: الطاهر، المبرأ من كل نقص.
«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
هذا التسبيح الذي تسبح به السموات والأرض لله رب العالمين، هو وإن كان دائما لا ينقطع، إلا أنه هنا تسبيح خاص فى مواجهة هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على أهل الأرض، وهى بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق.
والأميون هم العرب، وسمّوا أميين، لأنه لم يكن لهم كتاب سماوى، وكان اليهود يطلقون على جميع الأمم لفظ الأميين بالإضافة إليهم هم.. يريدون بهذا أن يمتازوا على الناس، بأنهم هم الذين خاطبتهم السماء، وبعثت فيهم الرسل، وأنزلت عليهم الكتب.. أما غيرهم من سائر الأمم فلم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا من الله، وأن يتلقوا رسالاته.. وبهذا صحّ فى زعمهم أن يدّعوا هذه الدعوة الضالة، وهى أنهم شعب الله المختار.. فلقد كانت هذه الدعوى شؤما وبلاء عليهم، إذ عزلتهم عن المجتمع الإنسانى، وأقامتهم فى الحياة الإنسانية مقاما مضطربا، لا يلقاهم الناس، ولا يلقون هم الناس، إلّا على عداوة وجفاء.
ففى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» امتنان على الأمة العربية، بهذا الفضل الذي ساقه الله سبحانه وتعالى إليهم، وردّ على اليهود، وإبطال لدعواهم بأن الله اختارهم على العالمين.. واختصهم بفضله وإحسانه..
فالأمية التي وصف بها العرب هنا هى أمية من نوع خاص، وهى أمية من لا كتاب لهم من عند الله. وإن كان هذا لا يمنع من تفشّى الأمية فيهم، وهى أمية الجهل بالكتابة والقراءة. وذلك أن الدّين كان هو الباعث الأول على العلم، وعلى تعلم القراءة والكتابة، وأن أصحاب الكتب السماوية هم الذين كانوا
وفى قوله تعالى: «رَسُولًا مِنْهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الرسول الذي بعثه الله سبحانه وتعالى إلى العرب، كان واحدا منهم، أي من هؤلاء الأميين، وليس من أهل الكتاب.. وهذا يعنى أن هؤلاء الأميين هم أهل لأن تختار منهم رسل الله، كما هم أهل لأن يتلقوا رسالات الله، وتنزل إليهم كتب الله..
وقوله تعالى: «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ-» هو صفة للرسول صلوات الله وسلامه عليه، تبيّن محامل رسالته إلى العرب، ومنهج دعوته لهم.. فهو يتلو عليهم آيات الله، أي يسمعهم إياها، ويلقيها على أسماعهم مشافهة منه.. إنه هو الذي يتولى تبليغ رسالة ربه بنفسه، لا بوساطة كتب، أو رسل.. فما دام هو بين قومه، فهو الذي يلقى الناس برسالة ربه، وينقلها إليهم كما تلقاها وحيا من السماء، وهو بهذه التلاوة لآيات الله، إنما يريد أن يزكّى قومه، أي يطهرهم من الشرك، ومن ضلالات الجاهلية وأرجاسها.
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- «يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» أي أي يبين لهم ما فى كتاب الله من شرائع وأحكام، كما يقول الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» ويعلمهم كذلك «الحكمة» وهى السنّة التي يبين بها الرسول ما فى كتاب الله.. وسميت السّنة حكمة، لأنها مستفادة من كتاب الله، ومن النظر الملهم فى آياته وكلماته.. فليس كل ناظر فى كتاب الله قادرا على أن يتلقى الحكمة عنه.. وإنما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذي أخذ الحكمة كلّها من كتاب الله، بما أراه الله..
وفى هذا دعوة للعرب وللمؤمنين بهذا الدين، أن يتعلموا للكتاب والحكمة، وذلك بمدراسة كتاب الله، إذ كان هو الكتاب الجامع لكل ما فى الكتب، من سماوية وغير سماوية، فمن جعل همّه له، ووجه عقله وقلبه إليه، أصاب العلم
وقوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» - هو بيان لحال العرب، حين جاءهم الرسول الكريم، يعلمهم الكتاب والحكمة. فقد كانوا قبله فى ضلال غليظ، وفى عمى مطبق، ومع ذلك استطاع هذا النور السماوي الذي حمله الرسول إليهم- أن يفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأبصروا من عمّى، وسمعوا من صمم، وفقهوا من جهل، وأصبحوا علماء حكماء.. وهذا يعنى أن الاتصال بكتاب الله، من شأنه أن يفيد منه كل إنسان، ولو كان أبعد الناس عن العلم والحكمة، شأنه فى هذا شأن الغيث، يبعث الحياة حيث كان موقعه، فى خصب أو جدب.
قوله تعالى:
«وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
هو معطوف على «الْأُمِّيِّينَ» أي هو الذي بعث فى الأميين رسولا منهم، أي من العرب، وفى آخرين من الأميين، من غير العرب، وهم سائر الأمم الأخرى.
وهذا يعنى أن رسالة الرسول صلوات الله وسلامه عليه- وإن كانت للعرب أولا، فإن لغيرهم فيها نصيبهم منها، فهى رسالة عامة شاملة لكل الناس..
ثم إن هذا يشير من جهة أخرى إلى أن اليهود لا نصيب لهم فى هذه الرسالة لأنهم ليسوا من الأميين.. وهذا ما كشفت عنه الأيام، فقد دخل الناس الإسلام من كل أمة وجنس، وأما اليهود فلم يدخله منهم إلا نفر قليل.. على نفاق، وعلى كيد للإسلام.. فا آمن أحد منهم بالإسلام- مذ كان إلى اليوم- إيمانا خالصا من هوى، أو مبرّأ من غرض.
وقد روى أن بعض صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سألوه عن هؤلاء الآخرين، وكان فيهم سلمان الفارسىّ، فوضع صلوات الله وسلامه عليه، يده على سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء»..
والإشارة هنا هى للفرس، قوم سلمان الفارسي، والمراد بكون الإيمان عند الثريّا وتناول الفرس له، أن الإسلام سيدخل فيه من كان بعيدا عن موطن الدعوة بعد الثريّا، وهذا يعنى امتداد رقعة الإسلام، وامتداد سلطانه فى أطراف الدنيا..
وهذا من أنباء الغيب، التي أوحاها الله إلى النبي، فقد دخلت فى الإسلام طوائف وجماعات من جميع الأمم.
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. إشارة إلى سلطان الله الغالب، وأنه سينصر هذا الدين، ويعزّه، باجتماع الناس إليه من جميع الأمم والأجناس، وأن ذلك إنما يكون عن حكمة الحكيم العليم، فيدخل فى هذا الدين من شاء له الهدى والنجاة..
قوله تعالى:
«ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».
«ذلك» إشارة إلى بعث الرسول الكريم إلى الأميين من العرب، وهذا من فضل الله، الذي يؤتيه من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم، الذي يسع فضله الناس جميعا، وأنه إذا أصاب فضله قوما، فليس بالمحجوز عن غيرهم..
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة أشارت إلى الأميين الذين يتعالى عليهم اليهود، الّذين رأوا فيما أنزل الله عليهم من كتب، وبما بعث فيهم من رسل- أنهم قد اختصّوا بفضل الله، من دون الناس جميعا، وقد جاءت الآيات لتبطل زعمهم هذا، فقد بعث الله فى الأميين رسولا، وأنزل عليه كتابا يتلوه عليهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثم إنه سبحانه، لم يجعل هذا الفضل، وتلك الرحمة إلى العرب وحدهم، بل جعل ذلك للأميين جميعا من العرب وغير العرب- ثم جاء قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ
ونعم، إن الله قد ساق إليهم فضلا، وأنزل إليهم التوراة فيها هدى ونور.. ولكن ليس كلّ من كانت بين يديه نعمة، مستفيدا منها، بل إنه كثيرا ما تكون النعمة نقمه حين لا تجد من يحفظها، ويرعاها حقّ رعايتها..
إنها تكون حينئذ أشبه بالغيث يقع على الأرض السبخة فلا تستجيب له، ولا تتفاعل معه، وسرعان ما يفسد، ويتحول إلى ماء آسن، ينبث فى أحشائها الهوامّ والديدان..
وهؤلاء اليهود، قد حمّلوا التوراة، وكلّفوا العمل بها، ولكنهم لم يحسنوا العمل، بل اختلفوا فيها، وتأولوها تأويلا فاسدا.. فكان مثلهم فى هذا كمثل الحمار، يحمل كتبا، تثقل ظهره، وتصبح علة ملتصقة به، دون أن يفيد منها شيئا..
وفى تشبيه اليهود- حملة التوراة- بالحمار الذي يحمل أسفارا، ما يكشف عن طباع هؤلاء القوم، وعن بلادة حسّهم، وعن قبولهم الهوان والذلّة، وأنهم فى هذه الدنيا أشبه بالحمر، يسخرها الناس للحمل والركوب.. فالحمار من بين حيوانات الركوب جميعا، أكثرها هوانا على الناس، وأخسّها مطية للركوب..
لا يتخذه كرام الناس مركبا لهم.. وفى هذا يقول الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به | إلّا الأذلّان عير الحىّ والوتد |
هذا الخسف مربوط برمّته | وذا يشجّ فلا يرثى له أحد |
وإنه لو وضع أعلم اليهود، علمه تحت نظر فاحص دارس، لما رأى منه الناظر إليه إلّا غباء وجهلا، وإن هذا العلم مهما بلغ لا يعدو أن يكون ثوبا اختطفه، أو سرقه، أو ألقى به عليه غيره، ممن لا يريد أن يظهر فى الناس بهذا العلم، الذي كثيرا ما يكون منحرفا، مصادما للعقائد، والأخلاق.
وقوله تعالى: «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» - أي بئس هذا المثل، وهو الحمار، مثلا لهؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات الله.
وقد وقع الذّمّ على المثل، ولم يقع على المماثل، وفى هذا مبالغة فى الذمّ للماثل، لأن الذي وقع عليه الذم إنما استحق الذّم فى هذا المقام بسبب من مثل به.. فكأن هذا الشيء المذموم لم يكن مذموما حتى اقترن بهذا الممثّل به، فأصابه منه هذا البلاء الذي استوجب ذمّه.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» - إشارة إلى أن هؤلاء القوم إنما تخبطوا فى الضلال، وعموا عن الانتفاع بما فى التوراة التي يحملونها، لأنهم كانوا ظالمين، معتدّين حدود الله، فتركهم الله فى ظلمات يعمهون.
قوله تعالى:
«قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»..
الذين هادوا، هم اليهود، وأصله من الهود، وهو الرجوع برفق، وسمى
ثم لزمهم هذا الاسم، ولعنهم الله وهم معروفون به..
فالخطاب فى الآية الكريمة موجّه من النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى اليهود، بأمر ربه، ليقول لهم: إن صحّ ما زعمتموه، من أنكم أولياء لله من دون الناس، وأن الله سبحانه وتعالى قد اختصكم بالفضل والإحسان، حتى لقد قلتم إنكم أبناء الله وأحباؤه- إن صحّ زعمكم هذا، فتمنّوا الموت واطلبوه، إن كنتم صادقين فيما تزعمون.. فإن هذا الموت سيصير بكم إلى الله الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأبناؤه وأحباؤه.. والولىّ إنما يشتاق إلى لقاء وليّه، والابن إنما يسعى إلى لقاء أبيه، والحبيب إنما يشوقه لقاء من أحب.. فلم لا تتمنون الموت، ولا تطلبونه، وهو السبب الذي يصلكم اتصالا مباشرا بالله، الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأحباؤه من دون الناس! إن هذا ادعاء كاذب منكم، ونفاق تنافقون به أنفسكم، إذ لو كنتم مؤمنين بما تزعمون، لما فزعتم من الموت، ولما حرصتم على الحياة هذا الحرص الذي جعل منكم أجبن الناس، وأشدهم فرارا من لقاء العدو..
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» (٩٦: البقرة)..
وهذا لا يكون إلا من إنسان يرى الموت نهاية لوجوده، أو يرى أن وراء الموت أهوالا تنتظره، بما قدمت يداه من آثام..
«وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».
هو بيان للعلّة التي من أجلها يحرص اليهود على الحياة، ويفزعون من الموت، وأنهم لا يتمنون الموت أبدا، لما يعلمون من أنفسهم أنهم على ضلال، وأنهم لن يجدوا فى الآخرة إلا البلاء والهوان.. شأنهم فى هذا شأن إبليس الذي يعلم أن مصيره إلى عذاب الله، وأنه إنما سأل الله أن ينظره، وأن يؤخر عنه العذاب الذي توعده به، فرارا من هذا العذاب، ودفعا له من يومه إلى غده.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
أي أن هذا الموت الذي تحذرونه، وتفرون من ملاقاته، هو ملاقيكم حتما، ولن تفروا منه أبدا.. ثم إنّ وراء هذا الموت رجعة إلى الله، وحسابا، وعقابا، وسترون أعمالكم المنكرة حاضرة بين أيديكم، وسينزل بكم العذاب الذي أنتم أهل له..
الآيات: (٩- ١١) [سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».
مناسبة هذة الآية لما قبلها، هى أن السورة قد بدأت بذكر هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آيات الله، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وهذه النعمة العظيمة لا تثمر الثمر الطيب الذي تحمله إلا إذا صادفت من يرعاها، ويعرف قدرها، وإلّا انقلبت هذه النعمة نقمة على أهلها، فحوسبوا على تضييعها، ووقعوا تحت طائلة العقاب الأليم، كما وقع ذلك لليهود الذي حمّلوا التوراة، ثم لم يحملوها، فكان مثلهم مثل الحمار يحمل أسفارا، وقد أوعدهم الله سبحانه بما توّعد به الظالمين- فناسب أن يجىء بعد هذا، أن ينبّه المسلمون إلى ما ينبغى أن يكون منهم لرعاية هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم، وكان أول ما نبهوا إليه، هو الصّلاة، إذ كانت الصلاة عماد الدين، وكانت الركن الأول من أركانه، بعد الإيمان بالله.. وإذ كانت صلاة الجمعة أظهر صلاة فى أيام الأسبوع، لأنها الصلاة الجامعة، التي لا تصحّ إلا فى جماعة- فقد كان الإلفات إليها إلفاتا إلى الصلوات المفروضة كلّها.
وقوله تعالى: «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ» أي إذا جاء وقتها، وأذّن المؤذن بها.
وقوله تعالى: «وَذَرُوا الْبَيْعَ» أي اتركوا البيع، والشراء، وكلّ ما يشغلكم من عمل.. حتى تفرغوا للصلاة، جسدا، وروحا.
وقوله تعالى: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» الإشارة إلى السعى للصلاة، وترك كل ما بين يدى الإنسان من عمل.. فذلك السعى خير من كلّ ما كان يحصّله الإنسان من عمله الذي بين يديه، وذلك مما لا يعلمه، ويعلم قدره إلا أهل العلم، من المؤمنين، المستيقنين من واسع الفضل، وعظيم الإحسان، عند الله..
قوله تعالى.
«فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
هو دعوة إلى العمل، وإلى السعى إليه، كما سعى المؤمنون إلى الصلاة..
فالسعى إلى العمل، أداء لحقّ النفس، وحقّ الأهل والولد، كما أن السعى إلى الصلاة أداء لحق الله سبحانه وتعالى، وكلا الحقّين واجب الأداء، فمن قصّر فى أحدهما، حوسب عليه حساب المقصّرين.
وفى قوله تعالى: «فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» دعوة إلى أن يملأ المسلمون وجوه الأرض، سعيا وعملا، وأن يأخذوا بكلّ ما يمكّن لهم منها، ويقيم لهم فيها المقام الكريم، وألا يقصروا جهدهم على جانب منها،
وفى الدعوة إلى الانتشار فى الأرض بعد الاجتماع بين يدى الله فى الصلاة- فى هذا جمع بين العبادة والعمل، وبين ذكر الله والسعى فى الأرض.. فقد جاءت الدعوة من الله سبحانه لصلاة الجمعة، موجهة إلى من هم مشغولون بالعمل، ساعون لطلب الرزق، وإن كانت الدعوة عامة إلى كل من تجب عليه صلاة الجمعة.. ثم جاء الأمر إلى هؤلاء الذين حضروا الصلاة- أن ينتشروا فى الأرض، ويبتغوا من فضل الله، بعد أن تزودوا بهذا الزاد الطيب من ذكر الله، وبذلك يستقيم لهم الطريق، وتفتح لهم أبواب الرزق الطيب المبارك.
وفى قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» - إشارة إلى هؤلاء المنطلقين للعمل، الساعين إلى الابتغاء من فضل الله، أن يذكروا الله دائما، وأن يستحضروا جلاله وعظمته، فى كل حال، لا فى وقت الصلاة.. ففى ذلك فلاح أي فلاح، حيث يجد الذاكر لله سبحانه وتعالى، حارسا يحرسه من وساوس الشيطان، وأهواء النفس، فلا يتعثر، ولا ينحرف، ولا يزلّ.
قوله تعالى:
«وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».
اللهو: ما يشغل الإنسان من هزل الأمور عن جدّها.. والانفضاض:
التفرّق فى عجلة، وفى غير نظام.
نزولها: مدنية عدد آياتها: إحدى عشرة.. آية عدد كلماتها: مائة وثمانون.. كلمة عدد حروفها: سبعمائة وستة وسبعون.. حرفا
مناسبتها لما قبلها
كان ختام سورة «الجمعة» كاشفا عن وجه من وجوه المنافقين، الذين كانوا يشهدون صلاة الجمعة مع النبىّ، حتى إذا سمعوا لهوا، أو أحسّوا قدوم تجارة، أسرعوا إلى هذا اللهو، أو تلك التجارة، دون أن يشعروا بأنهم بين يدى النبىّ، وفى مقام ذكر الله.. لأن قلوبهم خالية من هذه المشاعر التي تصلهم بالله، وبرسول الله.. إنهم ما جاءوا رغبة فى مرضاة الله، ولا شهودا لذكر الله، وإنما جاءوا حتى يراهم المؤمنون أنهم على الإيمان بالله، مداراة لنفاقهم، وسترا لكفرهم.. ثم إنهم ما إن تهبّ عليهم سحابة ريح من أي اتجاه، حتى تعرّبهم من هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، ودخلوا به فى زمرة المؤمنين- وقد ناسب ذلك أن تجىء سورة المنافقين، فى أعقاب سورة الجمعة لتكشف عن أكثر من وجه من وجوه النفاق.. كما سترى ذلك، فيما حدّثت به السورة عن النفاق والمنافقين.
هذا، ويلاحظ أن ما جاء فى ختام سورة «الجمعة» عن المنافقين قد جاء تلميحا.. وأن ما جاءت به سورة «المنافقين» عنهم- كان تصريحا يكشف عن هذا التلميح.. وهذا من أروع وأعجب ما يرى من إعجاز القرآن، حيث يمسك ختام سورة «الجمعة»، وبدء سورة «المنافقين» بالصورة الكاملة للمنافقين، فى ظاهرهم وباطنهم جميعا.. فهم فى الظاهر مؤمنون، يشهدون مشاهد المؤمنين فى الصلاة وغيرها، وهم فى الباطن منافقون، كاذبون!