بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة التغابن وهي مدنية في قول الأكثرين. وقال الضحاك : مكية. وقال الكلبي : مكية ومدنية. ومعناه : أن بعضها مكية، وبعضها مدنية. والله أعلم.ﰡ
وروى سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن [أبي] الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَقُول: الشقي من شقي فِي بطن أمه، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ. فَقلت: ثكلت أم الشقي من قبل أَن يعْمل، فَلَقِيت حُذَيْفَة بن أسيد وكنيته أَبُو شريحة الْغِفَارِيّ فَذكرت لَهُ ذَلِك فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِأَعْجَب من هَذَا! سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِذا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَة فِي رحم الْمَرْأَة أَرْبَعِينَ لَيْلَة أَو قَالَ: خمْسا
وروى سُفْيَان أَيْضا عَن طَلْحَة بن يحيى، عَن عمته، عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة، عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ أَن النَّبِي أَتَى بصبي من الْأَنْصَار ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقلت: طوباه عُصْفُور من عصافير الْجنَّة. فَقَالَ: " أَو غير ذَلِك يَا عَائِشَة؛ إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم، وَخلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا الديبلي، أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.. الْخَبَر كَمَا ذكرنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن مَعْنَاهَا: فمنكم كَافِر بِأَن الله خلقه، ومنكم مُؤمن ومنكم فَاسق. وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول.
وَقَوله: ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ ظَاهر.
وَقَوله: ﴿وصوركم فَأحْسن صوركُمْ﴾ قَالَ مقَاتل: خلق آدم بِيَدِهِ، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿وصوركم فَأحْسن صوركُمْ﴾ وَعَن غَيره: أَنه فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم وَعَن بَعضهم قَالَ خلق الْإِنْسَان فِي أحسن
وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
وَقَوله: ﴿فذاقوا وبال أَمرهم﴾ أَي: فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿فَقَالُوا أبشر يهدوننا﴾ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا منع النَّاس أَن يُؤمنُوا إِذْ جَاءَهُم الْهدى إِلَّا أَن قَالُوا أبْعث الله بشرا رَسُولا﴾.
وَقَوله: ﴿فَكَفرُوا وتولوا﴾ أَي: جَحَدُوا وأعرضوا.
وَقَوله: ﴿وَاسْتغْنى الله﴾ يَعْنِي: أَن الله غَنِي عَن طاعتهم وعبادتهم وتوحيدهم.
وَقَوله: ﴿وَالله غَنِي حميد﴾ أَي: مستغني عَن أَفعَال الْعباد، مستحمد إِلَى خلقه بالإنعام عَلَيْهِم. وَيُقَال: حميد أَي: مُسْتَحقّ للحمد. وَيُقَال حميد أَي: يحب أَن يحمد. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من أحد [أغير] من الله وَمَا أحب أحد إِلَيْهِ
(أَلا زعمت بسباسة الْيَوْم أنني | كَبرت وَألا يحسن السِّرّ أمثالي) |
وَقَوله: ﴿قل بلَى وربي لتبعثن﴾ قَوْله: ﴿بلَى﴾ فِي هَذَا الْموضع لتكذيب الْقَوْم فِيمَا زَعَمُوا، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: وَقد أَمرتك بِكَذَا وَكَذَا، فَيَقُول الرجل: مَا سَمِعت وَمَا أَمرتنِي بِهِ، فَيَقُول: بلَى، أَي: وكذبت، قد سَمِعت وَقد أَمرتك.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لتنبؤن بِمَا عملتم وَذَلِكَ على الله يسير﴾ أَي: هَين.
وَقَوله: ﴿ذَلِك يَوْم التغابن﴾ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ اسْم ليَوْم الْقِيَامَة. وَفِي التغابن مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن أهل الْحق يغبنون أهل الْبَاطِل، وَأهل الْإِيمَان يغبنون أهل الْكفْر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى سمى لكل أحد من خلقه منزلا فِي النَّار ومنزلا فِي الْجنَّة، فَمن كَانَ مُؤمنا يَرث منزلَة الْكَافِر فِي الْجنَّة، وَمن كَانَ كَافِرًا يَرث منزل الْمُؤمن فِي النَّار، وَهُوَ معنى التغابن يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن بَعضهم: أَن الْغبن هُوَ أَخذ الشَّيْء بِدُونِ قِيمَته، فبالتفاوت الَّذِي يَقع بَين الْقيمَة وَمَا دونهَا يحصل التغابن، فالمؤمنون لما عمِلُوا للجنة وللنعيم الْبَاقِي فقد غبنوا أهل النَّار، وَالْكفَّار لما اخْتَارُوا النَّعيم الْمُنْقَطع على النَّعيم الْبَاقِي، وَالدَّار الَّتِي تفنى على الدَّار الَّتِي لَا تفنى؛ فقد غبنوا. قَالَ زيد بن عَليّ: غبنوا أنفسهم. والغبن هَاهُنَا يَعْنِي الخسران فِي (غير) هَذَا الْموضع.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يكفر عَنهُ سيئاته ويدخله جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه﴾ قَالَ عَلْقَمَة: وَمن يُؤمن بِاللَّه فِي الْمُصِيبَة أَي: يعلم أَنَّهَا من الله يهد قلبه للاسترجاع وَالتَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى. وَمثله عَن سعيد بن جُبَير. وَعَن بَعضهم: يهد قلبه أَي: للصبر إِذا ابْتُلِيَ، وللشكر إِذا انْعمْ عَلَيْهِ، وللعفو إِذا [ظلم] وَقَالَ عِكْرِمَة: يهد قلبه لليقين، فَيعلم أَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه، وَأَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه. وَذكر الْأَزْهَرِي فِي كِتَابه أَن معنى قَوْله: ﴿يهد قلبه﴾ أَي: يَجعله مهتديا، وَقد أيد هَذَا القَوْل مَا حُكيَ عَن ابْن جريج أَنه قَالَ: من عرف الله فَهُوَ مهتدي الْقلب.
وَقَوله: ﴿وَالله بِكُل شَيْء عليم﴾.
وَقَوله: ﴿وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: لما تخلف هَؤُلَاءِ بِسَبَب أَهْليهمْ ثمَّ هَاجرُوا من بعد فَرَأَوْا قوما قد أَسْلمُوا من قَومهمْ، وتقدموا فِي الْهِجْرَة وتفقهوا فِي الدّين، حزنوا لذَلِك حزنا شَدِيدا، وهموا أَن يعاقبوا أَهْليهمْ وبنيهم ويتركوا الْإِنْفَاق عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾.
وروى عبد الله بن بُرَيْدَة [عَن أَبِيه] " أَن النَّبِي كَانَ يخْطب فَدخل الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثرَانِ فِي ذَلِك، فَنزل النَّبِي عَن الْمِنْبَر وحملهما وَوَضعهمَا بَين يَدَيْهِ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة﴾ ثمَّ قَالَ: رَأَيْت هذَيْن الصَّبِيَّيْنِ يَعْثرَانِ فِي قميصهما، فَمَا ملكت نَفسِي حَتَّى نزلت وحملتهما ".
وأنشدوا فِي لفظ الْفِتْنَة لبَعْضهِم:
(قد فتن النَّاس فِي دينهم | وخلى ابْن عُثْمَان شرا طَويلا) |
وَقَوله: ﴿وَالله عِنْده أجر عَظِيم﴾ أَي: كثير.
وَقَوله: ﴿واسمعوا وَأَطيعُوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم﴾ نصب قَوْله: ﴿خيرا﴾ على تَقْدِير: اتَّقوا فِي الْإِنْفَاق خيرا. وَمثله قَوْله تَعَالَى: ﴿انْتَهوا خيرا لكم﴾.
وَقَوله: ﴿وَمن يُوقَ شح نَفسه﴾ أَي: بخل نَفسه، وَيُقَال: الشُّح هُوَ منع حُقُوق الله الْوَاجِبَة. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: الشُّح هَاهُنَا هُوَ الظُّلم دون الْبُخْل؛ لِأَن الله تَعَالَى قد قَالَ: ﴿وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه﴾.
وَقَوله: ﴿فَأُولَئِك هم المفلحون﴾ قد بَينا.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْإِقْرَاض هَاهُنَا هُوَ قَول الْقَائِل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. وَذكر الْقفال: أَن بعض السّلف كَانَ إِذا سمع سَائِلًا يَقُول: من يقْرض الله قرضا حسنا يَقُول: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. وَأما قَوْله: ﴿حسنا﴾ أَي: طيبَة بهَا أَنفسكُم. وَيُقَال: من خِيَار المَال لَا من رذاله.
وَقَوله: ﴿يضاعفه لكم﴾ أَي: يَجْعَل الْوَاحِد عشرا. وَيُقَال: يُضَاعف لَا إِلَى عدد مَعْلُوم.
وَقَوله: ﴿وَيغْفر لكم وَالله شكور حَلِيم﴾ الشُّكْر من الله هُوَ جَزَاؤُهُ الْمُحْسِنِينَ جَزَاء
وَقَوله: ﴿حَلِيم﴾ مَعْنَاهُ: إمهال الْعباد وَترك معالجتهم بالعقوبة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن﴾تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق
وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع