تفسير سورة العنكبوت

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ العَنْكَبُوتِ
مكية، إلا الصدر منها العشر الآيات، فإنها مدنية، نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة، وآيها: تسع وستون آية، وحروفها: أربعة آلاف ومئة وخمسة وتسعون حرفًا، وكلمها: تسع مئة وثمانون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الم (١)﴾.
[١] ﴿الم﴾ تقدم الكلام عليه أول سورة البقرة، وملخصه: أن معناه: أنا الله أعلم، وتقدم الخلاف في الحروف التي في أوائل السور أول سورة مريم. قرأ أبو جعفر: بتقطيع الحروف، يسكت على كل حرف سكتة يسيرة كما تقدم التنبيه عليه غير مرة.
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)﴾.
[٢] ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ قرأ ورش: (المَ احَسِبَ النَّاسُ) بفتح الميم وحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الميم تخفيفًا، ويجوز بالمد والقصر في (ميم) كما تقدم عن الجمهور حالة الوصل في أول سورة آل عمران،
لكن الوصل هنا مختص بمذهب ورش، وقرأ الباقون: بإسكان الميم وفتح الهمزة (١).
﴿أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ استفهام تقريع وتوبيخ، والمعنى: أظنوا تركهم غيرَ مفتونين؛ لقولهم: آمنا؟! والفتنة: الامتحان بالشدائد، تلخيصه: لا بد من امتحانهم، وإذا أحب الله عبدًا، جعله للبلاء غرضًا.
نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك (٢)، فنزلت الآية تسلية ومعلمة أن هذه سيرة الله في عباده اختبارًا للمؤمنين؛ ليعلم الصادق، ويرى ثواب الله له، ويعلم الكاذب، ويرى عقاب الله إياه.
قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب في هذه الجماعة، فهي في معناها باقية في أمة محمد - ﷺ - موجود حكمها بقية الدهر (٣).
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ كالأنبياء والأولياء، فمنهم من نُشر
(١) انظر: "المحتسب" لابن جني (٢/ ١٥٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٣٩).
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٩٥ - ١٩٦).
(٣) "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٣٠٥).
بالمنشار، وعذب بأنواع العذاب، فلم ينصرف عن دينه.
﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ بالامتحان ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في الإيمان.
﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ أي: فليظهرن الصادق من الكاذب.
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ (أم) معادلة للألف في قوله: (أَحَسِبَ)، المعنى: أظن المسيئون، وهم الكفار.
﴿أَنْ يَسْبِقُونَا أي: يفوتونا، فلا نقدر على الانتقام منهم؟!
{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
بئس حكمًا يحكمون لأنفسهم بهذا الظن.
﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥)﴾.
[٥] ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ﴾ يأمل ثوابه، ويخشى البعث والحساب.
﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾ هو الأمد المضروب للثواب والعقاب ﴿لَآتٍ﴾ لكائن.
روي عن يعقوب، وقنبل: الوقف بالياء على (لآتِي).
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فلا يفوته شيء.
﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَمَنْ جَاهَدَ﴾ جهاد حرب، أو جهاد نفس، بالصبر على مضض الطاعة.
﴿فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ لأن ثوابه لها.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ فلا حاجة به إلى جهادهم.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ لنبطلنها بسترها وترك العقوبة عليها.
﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: نضاعف لهم الحسنات.
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)﴾.
[٨] ونزل في سعد بن أبي وقاص، وهو من السابقين الأولين لما أسلم، فحلفت أمه ألَّا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بمحمد، فقال: والله! لو كان لك مئة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما كفرت: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ (١) نصب بـ (وصينا)؛ أي: وصيناه أن يفعل بهما ما يحسن.
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أنه لي شريك.
﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ في ذلك، وجاء في الحديث: "لا طاعة للمخلوق في
(١) انظر: "صحيح مسلم" (٤/ ١٨٧٧)، و"أسباب نزول" للواحدي (ص: ١٩٦)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ٥٢١).
معصية الخالق" (١)، ثم أوعد بالمصير إليه، فقال:
﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من صالح أعمالكم وسيئها، وأجازيكم عليها.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي﴾ زمرة.
﴿الصَّالِحِينَ﴾ وهم الأنبياء والأولياء، وهي الجنة.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ أي: طاعته والإسلام.
﴿جَعَلَ فِتْنَةَ﴾ أي: عذاب ﴿النَّاسِ﴾ إياه هنا ﴿كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ فساوى بين العذابين، فخاف العاجل، وأهمل الآجل، وهم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا مسهم أذى من الكفار، صرفهم عن الإيمان.
﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ دولة للمؤمنين ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ أي: المرتدون.
(١) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٦٦)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (٦٠٢)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (٨٧٣)، وغيرهم عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-.
﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ على دينكم، ولكنا أُكرهنا على الكفر، فقال تعالى: تكذيبًا لهم:
﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ من الإيمان والكفر؟!
﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١)﴾.
[١١] ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ حقيقةَّ، فثبتوا على الإيمان عند البلاء.
﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ في إيمانهم؛ بترك الإسلام عند البلاء. وهذه الآيات العشر من أول السورة إلى هنا مدنية، وباقي السورة مكية.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾ الطريق الذي نسلكه في ديننا ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ أوزاركم؛ أي. إن كان فيها إثم، فنحتمله، فأخبر الله عز وجل أن ذلك باطل، وأنهم لو فعلوه، لم يتحمل عن أحد من هؤلاء المغترين بهم شيء من خطاياهم التي تختص بهم بقوله تعالى:
﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما يزعمون؛ لأنهم لو يعلمون أنهم لا يقدرون على ذلك، وهذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم.
﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾ أوزار أعمالهم التي عملوها.
﴿وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ هي أثقال الذين أضلوهم.
﴿وَلَيُسْأَلُنَّ﴾ سؤال توبيخ.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ على الله من الكذب.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ﴾ بقي ﴿فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ ينذرهم فلا يلتفتون إليه، وفسر العدد بسنة، ثم بعام؛ استثقالًا لتكرير لفظ واحد بلا فائدة، ولما جاء بقصة نوح تهويلًا لما جرى عليه من قومه، ذكر الألف أولًا؛ ليكون أفخم في أذن السامع، ثم أخرج منها الخمسين؛ إيضاحًا لمجموع العدد.
وقد وقع في كلام المؤرخين أن نوحًا عاش العدد المذكور فقط، وظاهر الآية الشريفة يخالفه؛ لأنه يدل على أنه لبث العدد المذكور في قومه بعد إرساله إليهم ينذرهم، وأن الطوفان وقع بعد ذلك، وقد روي أنه عاش ألفًا وأربع مئة وخمسين سنة، وهو يوافق الآية الشريفة؛ لأن ظاهرها يدل على أنه عاش أكثر مما ذكره المؤرخون، وتقدم ذكر نسبه وتاريخ مولده ومحل قبره في سورة آل عمران عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾
[الآية: ٣٣]، وتقدم ذكر الاختلاف عمره حين بعثه الله إلى قومه في سورة الأعراف عند تفسير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٥٩] وتقدم ذكر تاريخ ركوبه في السفينة، وخروجه منها، وما بين الطوفان والهجرة الشريفة النبوية المحمدية في سورة هود عند آخر القصة.
فلما أنذرهم هذه المدة، وهي تسع مئة وخمسون سنة، فلم يؤمنوا، أذن له في الدعاء، فدعا عليهم.
﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ ما أطاف وأحاط بغلبة؛ كالسيل، فغرقوا.
﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ مشركون.
﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ من الغرق.
﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ أي: السفينة، أو العقوبة.
﴿آيَةً﴾ علامة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ وقوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ يقتضي أنه أخذ قومه فقط، وقد اختلف في ذلك، فقالت فرقة: إنما غرق في الطوفان طائفة من الأرض، وهي المختصة بقوم نوح، وقالت فرقة هي الجمهور: وإنما غرقت المعمورة كلها، وهذا هو ظاهر الأمر؛ لاتخاذه السفينة، وغير ذلك من الدلائل.
فإن قيل: كيف غرق الجميع، والرسالة إلى البعض؟ فالوجه في ذلك أن يقال: إن اختصت شيء بأمة ليس هو بألَّا يهدي غيرها ولا يدعوها إلى توحيد الله تعالى، وإنما هو بألَّا تؤخذ بفعال غيرها، ولا يبث العبادات
فيهم، لكن إذا كانت نبوة قائمة هذه المدة الطويلة، والناس حولها يعبدون الأوثان فلا محال أن دعاءه إلى توحيد الله قد كان بلغ الكل، فنالهم الغرق؛ لإعراضهم وتماديهم.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ عطف على نوح؛ أي: وأرسلنا إبراهيم.
﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ أطيعوا الله وخافوه، وهذه القصة تمثيل لقريش، وكان نمرود وأهل مدينته عَبَدَةَ أصنام، فدعاهم إبراهيم -عليه السلام- إلى عبادة الله، ثم فرد لهم ما هم عليه من الضلال.
﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من الكفر ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الخير والشر.
﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ (١) أصنامًا.
﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ تخلقون كذبًا.
(١) من قوله: "بخيط في الخرزة... " (ص: ١٣٦) من سورة النمل الآية (٣٦) إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ من سورة العنكبوت سقط من "ت" وذلك بمقدار إحدى عشرة لوحة من النسخ الخطية.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ لا يستطيعون أن يرزقوكم.
﴿فَابْتَغُوا﴾ فاطلبوا ﴿عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ فإنه المالك له.
﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ على نعمه.
﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بالمعاد والحشر. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (١).
﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ رسلَهم، فأهلكوا.
﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ وكل أحد بعد ذلك مأخوذ بعمله.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ بالدلائل والنظر. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (تَرَوْا) بالخطاب، والباقون: بالغيب على الحكاية (٢).
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤١).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٣)، =
﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ يخلقه ابتداءً نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم شخصًا سويًّا، ثم يميته ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ حيًّا وقتَ البعث.
﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ لا يفتقر في فعله إلى شيء.
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾ إلى ديارهم وآثارهم.
﴿كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ أي: خلقه ابتداء على غير مثال.
﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ وهي نشأة القيام من القبور، المعنى: إذا قَدَر على بدء الخلق أولًا، فهو على إنشائه وإحيائه بعد الموت أقدرُ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (النَّشَاءَةَ) بفتح الشين والمد حيث وقع، والباقون: بسكون الشين مقصورة، وهما لغتان (١)؛ كالرأفة والرآفة، ووقف حمزة على وجهين في ذلك: أحدهما: أن يلقي حركة الهمزة على الشين، ثم يسقطها طردًا للقياس، والثاني: أن يفتح الشين، ويبدل الهمزة ألفًا إتباعًا للخط، ومثله قد سمع من العرب (٢).
= و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٢).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٤٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٣).
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على الأولى.
﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ بتيسيره لأعمال من حق عليه العذاب.
﴿وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ بتيسيره لأعمال من سبقت عليه (١) الرحمة، لا معترض عليه.
﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ ترجعون.
﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ الله، وإن هربتم.
﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا﴾ تعجزونه.
﴿فِي السَّمَاءِ﴾ لو كنتم فيها، المعنى: لا مخلَصَ لكم من الله.
﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ﴾ يمنعكم منه (٢).
﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ ينصركم من عذابه، والوليُّ أخصُّ من النصير.
(١) في "ت": "له".
(٢) في "ت": "فيه".
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ بدلائل وحدانيته ﴿وَلِقَائِهِ﴾ بالبعث ﴿أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ أي: ييئسون منها يوم القيامة، فعبر عنها بالماضي؛ للتحقيق والمبالغة.
﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بكفرهم، فهذه الآيات في تذكير أهل مكة، وتحذيرهم، وهي معترضة في قصة إبراهيم عليه السلام.
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ثم عاد إلى قصة إبراهيم، فقال تعالى:
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ حين دعاهم إلى الإيمان.
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ وجعلها عليه بردًا وسلامًا.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يصدقون.
﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَقَالَ﴾ إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ
بَيْنِكُمْ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس: (مَوَدَّةُ) رفعًا بلا تنوين (بَيْنِكُمْ) خفضًا بالإضافة على معنى: إن الذين اتخذوا من دون الله هي مودة بينكم في الحياة الدنيا، ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة، وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم، وروح عن يعقوب: (مَوَدَّةَ) نصبًا من غير تنوين على الإضافة بوقوع الاتخاذ عليها، وقرأ الباقون: (مَوَدَّةً) بالنصب والتنوين (بَيْنَكُمْ) بالنصب (١)، معناه: إنما اتخذتم هذه الأوثان مودةً بينكم.
﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تتوادُّون على عبادتها، وتتواصلوْن عليها في الدنيا.
﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ أي: يتبرأ القادة من الأتباع.
﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ المعنى: يلعن الأتباعُ القادةَ.
﴿وَمَأْوَاكُمُ﴾ جميعًا، العابدون والمعبودون، والتابعون والمتبعون.
﴿النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يُخلصونكم منها.
﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿فَآمَنَ لَهُ﴾ أي: لإبراهيم ﴿لُوطٌ﴾ لما رأى النار لا تحرقه، وهو أول من آمن به.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٦٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٤ - ٤٥).
﴿وَقَالَ﴾ إبراهيم ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى﴾ حيث أمرني.
﴿رَبِّي﴾ بالهجرة إليه، فهاجر من كوثا سواد الكوفة إلى حران، ثم إلى فلسطين، وهو أول من هاجر، ومعه لوط وسارة، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل غير ذلك، ومنه قيل: لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ﴾ الذي يمنعني من أعدائي.
﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يأمرني بما فيه صلاحي.
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ﴾ فلم يبعث الله نبيًّا بعد إبراهيم إلا من نسله ﴿وَالْكِتَابَ﴾ يريد به: الجنس؛ ليتناول التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ هو الثناء الحسن.
﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: في زمرتهم، وهم الأنبياء وأتباعهم صلوات الله عليهم أجمعين.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٦).
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ وهي إتيان الرجال.
﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (إِنَّكُمْ) بالإخبار، وقرأ الباقون، وهم: أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (أَئِنَّكمْ) بالاستفهام، فأبو عمرو يحقق الهمزة الأولى، ويسهل الثانية، وهو على أصله في إدخال ألف بينهما، والباقون: يحققون الهمزتين (١).
* * *
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ طريق المارة، كانوا يجلسون عليها، فمن مر بهم، أخذوه، فأخبثوا به. اتفق القراء على الاستفهام في هذا الحرف، وهم على أصولهم، فنافع، وابن كثير،
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٠ و ٥٠٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٢ - ١٧٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٦٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٧٢ - ٣٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٦ - ٤٧).
243
وأبو جعفر، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب: يحققون الهمزة الأولى، ويسهلون الثانية بين الهمزة والياء، ويفصل بين الهمزتين بألف: أبو جعفر، وأبو عمرو، وقالون، واختلف عن هشام، والباقون، وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: يحققون الهمزتين (١).
﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ﴾ أي: مجلسكم ومتحدَّثكم، والنادي والندِيُّ: مجلس القوم ما داموا فيه، فإذا خرجوا منه، فليس بنادي ﴿الْمُنْكَرَ﴾ هو إتيان الرجالِ بعضهم بعضًا في المجالس، روي أنهم كانوا يجلسون على الطريق، وعند كل واحد منهم (٢) قصعة فيها حصًا، فمن مر بهم، حذفوه، فمن أصابه منهم، فهو أحق به، فيأخذ ما معه، وينكحه، ويغرمه ثلاثة دراهم، ولهم قاض يقضي بينهم بذلك، ومنه: هو أجورُ من قاضي سدوم، وكان من أخلاقهم مضغ العلك، وتطريف الأصابع بالحناء، وفرقعتها، وحل الأزرار، والسباب والفحش، ورمي البندق، واللعب بالحمام.
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ لما أنكر عليهم.
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ له استهزاءً:
﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فيما تعدنا من نزول العذاب.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٦٣ و ٣٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٧).
(٢) "منهم" ساقطة في "ت".
244
﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠)﴾.
[٣٠] فعند ذلك ﴿قَالَ﴾ لوط: ﴿رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ بتصديق قولي.
﴿عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ لحملهم الناس على ما لا يجوز.
* * *
﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾ من الله بإسحاق ويعقوب.
قرأ هشام: (أَبْرَاهَامَ) بالألف.
﴿قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ هي سدوم.
﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ بالكفر والمعاصي.
* * *
﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿قَالَ﴾ إبراهيم للرسل؛ إشفاقًا على المؤمنين، ومجادلة عنهم: أرأيتم إن كان فيهم مئة بيت من المؤمنين، أتتركونهم؟ قالوا: ليس فيهم ذلك، فجعل يتحدر حتى انتهى إلى عشرة أبيات، فقالت الملائكة: ليس فيها عشرة، ولا خمسة، ولا ثلاثة، ولا اثنان، فحينئذ قال إبراهيم:
﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا﴾ سُمِّيَ بذلك؛ لأن حبه لِيطَ بقلب عمّه إبراهيم؛ أي: تعلق ولصق، وكان إبراهيم يحبه حبًّا شديدًا، فراجعوه حينئذ، و ﴿قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا﴾ لا تخف أن يقع حَيْف على مؤمن.
﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: بإسكان النون الثانية، وتخفيف الجيم، والباقون: بفتح النون وتشديد الجيم (١).
﴿وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي: الباقين في العذاب.
* * *
﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾ ظن أنهم من الإنس.
﴿سِيءَ بِهِمْ﴾ فأجأته المساءة والغم خيفة عليهم من قومه. قرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (سِيءَ) بإشمام السين الضم (٢).
﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ أصله أن الرجل إذا طالت ذراعه، أدرك ما لم يدرك القصير، فجعل ضيق الذراع عبارة عن تحمل ما لا يطاق، والمعنى: اغتم غمًّا شديدًا؛ خوفًا أن يخبث قومه بهم.
﴿وَقَالُوا﴾ يعني: الملائكة ﴿لَا تَخَف﴾ علينا ﴿وَلَا تَحْزَنْ﴾ بإهلاكنا إياهم.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٨).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٩).
﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (مُنْجُوكَ) بإسكان النون وتخفيف الجيم، والباقون: بفتح النون وتشديد الجيم (١).
* * *
﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ﴾ قرأ ابن عامر: بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون: بإسكان النون (٢) وتخفيف الزاي.
﴿عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا﴾ عذابًا.
﴿مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ بسبب فسقهم.
* * *
﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا﴾ أي: من القرية (٣).
﴿آيَةً بَيِّنَةً﴾ آثار منازلهم الخربة.
﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يتدبرون الآيات تدبُّرَ ذوي العقول.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٣)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٤٧٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٤٩).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٧٠)، و "معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٠).
(٣) "أي: من القرية" زيادة من "ت".
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ نصب بأرسلنا مقدرة.
﴿فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ افعلوا ما ترجون به العاقبة.
﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
* * *
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلة.
﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ باركين على الركب ميتين.
* * *
﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ﴾ نصب بمضمر؛ أي: أهلكناهما. قرأ حمزة، ويعقوب، وحفص: (وَثَمُودَ) بغير تنوين على تأويل القبيلة، والباقون: بالتنوين، فمن نون، وقف بالألف، ومن لم ينون، وقف بغير ألف، وإن كانت مرسومة، فبذلك جاءت الرواية عنهم منصوصة (١).
﴿وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ﴾ يا أهل مكة.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٩ - ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٠).
﴿مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي: منازلهم بالحِجْر واليمن ما وصف من إهلاكهم.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ من الكفر والمعاصي.
﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ الطريق السوي.
﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ عقلاء متمكنين من النظر.
* * *
﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ أي: وأهلكناهم.
﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ والدلالات.
﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ فائتين عذابنا.
* * *
﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿فَكُلًّا﴾ منهم ﴿أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ عاقبناه به.
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ وهم قوم لوط، والحاصب: الريح التي تحمل الحصباء، وهي الحصا الصغار.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾ يعني: ثمود.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ يعني: قارون وأصحابه.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ يعني: قوم نوح، وفرعون وقومه.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ فيعاقبهم بغير جرم.
﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالتعريض للعذاب.
* * *
﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)﴾.
[٤١] ولما كانت العنكبوت أضعف الحيوان، وبيته أضعف البيوت، ضرب مثلًا للأصنام وعابديها، فقيل: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ يعني: الأصنام، يرجون نفعها ونصرها.
﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ تأوي إليه، وهو في غاية الضعف، لا يدفع عنها حرًّا ولا بردًا، وكذلك الأوثان لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًّا.
﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أن نفعهم بمعبوديهم كنفع العنكبوت ببيتها، لما عبدوهم.
وروي عن علي -رضي الله عنه-: أنه قال: "طهروا بيوتكم من نسيج العنكبوت؛ فإن تركه يورث الفقر" (١).
* * *
(١) رواه الثعلبي في "تفسيره" (٧/ ٢٨٠).
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ أي: قل للكفرة: إن الله يعلم ﴿مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ قرأ أبو عمرو: (يَعْلَم مَّا) بإدغام الميم في الميم، والباقون: بالفك (١)، وقرأ أبو عمرو، وعاصم، ويعقوب: (يَدْعُونَ) بالغيب؛ لذكر الأمم، وقرأ الباقون: بالخطاب (٢)، فأما موضع (ما) من الإعراب، فقيل: معناه: أن الله يعلم الذين تدعون من دون الله من جميع الأشياء: أن حالهم هذه، وأنهم أمر لا قدرة له، و (من) تبيين، المعنى: الله مطلع عليكم وعلى أعمالكم، فيجازيكم.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ القاهر على كل شيء ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يفعل شيئًا إلا بحكمة وتدبير.
* * *
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣)﴾.
[٤٣] وكان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون: إن ربَّ محمد يضرب
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥١).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٤)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٤٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٤/ ٣٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥١).
المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فنزل: ﴿وَتِلْكَ﴾ أي: وهذه.
﴿الْأَمْثَالُ﴾ الأشباه، والمثل: كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول، يريد: أمثال القرآن التي شبه ما أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة.
﴿نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ لكفار مكة.
﴿وَمَا يَعْقِلُهَا﴾ يعلم (١) فائدة ضربها.
﴿إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ الذين يعقلون عن الله، فيعملون بطاعته، ويجتنبون سخطه.
* * *
﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أي: بالغرض الصحيح الذي هو حق لا باطل، وهو أن تكون مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين منهم.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ لدلالة ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ على عظم قدرته وتوحيده.
* * *
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: القرآن.
(١) في "ت": "يفهم".
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ﴾ المعروفة.
﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ ما قَبُحَ من الأعمال ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ ما لا يُعرف في الشرع، قال - ﷺ -: "من لم تَنْهَهُ صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعدًا" (١).
﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أي: أفضل الطاعات؛ لأن ثواب الذكر الذكر، قال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢]، وسئل - ﷺ -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "أن تفارقَ الدنيا ولسانُك رَطْبٌ من ذكر الله" (٢).
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ لا يخفى عليه شيء.
* * *
﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَلَا تُجَادِلُوا﴾ تخاصموا ﴿أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: باللين إذا بذلوا الجزية ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ بالمعاندة، استثناء من الجنس؛ أي: إلا الذين أبوا أن يعطوا الجزية، ونصبوا الحرب، فأولئك
(١) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١١٠٢٥)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (٥٠٩)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٩/ ٣٠٦٦)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٣/ ٤٤).
(٢) رواه ابن حبان في "صحيحه" (٨١٨)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٠/ ٩٣)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٥١٦)، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-.
انتصِرُوا منهم، وجادلوهم بالسيف حتى يؤمنوا (١)، أو يُقِرُّوا بالجزية.
﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ المعنى: أخبروهم أنكم مؤمنون بالله، وجميع كتبه.
روي أن رسول الله - ﷺ - جاءه رجل من اليهود، ومُرَّ بجنازة، فقال: يا محمد! هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "الله أعلم"، فقال اليهودي: إنها تتكلم، فقال - ﷺ -: "ما حدثكم أهلُ الكتاب، فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلًا، لم تصدِّقوه، وإن كان حقًّا، لم تكذِّبوه" (٢).
* * *
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: وكإنزالنا التوراة ﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ التوراة؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه.
﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ﴾ وهم من أسلم من كفار مكة ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ وذلك أن اليهود عرفوا أن محمدًا نبي، والقرآن حق، فجحدوا.
* * *
(١) في "ت": "يسلموا".
(٢) رواه أبو داود (٣٦٤٤)، كتاب: العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (٢١٢١)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٥٢٠٦)، عن ابن أبي نملة الأنصاري، عن أبيه.
﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ﴾ من قبل القرآن.
﴿مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ﴾ تكتبه ﴿بِيَمِينِكَ﴾ وقوله: بيمينك؛ لأن الكتابة غالبًا تكون باليمين، المعنى: لم تكن قارئًا ولا كاتبًا، ولو كنت تعرف شيئًا من ذلك.
﴿إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ في نبوتك، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ، وإنما أخذه من كتب من تقدمه.
* * *
﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿بَلْ هُوَ﴾ أي: محمد - ﷺ - ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ أي: ذو آيات واضحات.
﴿فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ لأنهم يجدونه في كتبهم كذلك لا يكتب ولا يقرأ، وقيل: المعنى: بل القرآن آيات بينات في صدور المؤمنين الذين حفظوه؛ لأن من خصائص القرآن كونه معجزًا، وهو محفوظ في الصدور، بخلاف سائر الكتب؛ لأن من تقدم كانوا لا يقرؤون كتبهم إلا نظرًا، فإذا أطبقوه، لم يعرفوا منه شيئًا، سوى الأنبياء، وما نقل عن قارون.
﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ اليهود.
* * *
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَقَالُوا لَوْلَا﴾ أي: هَلَّا ﴿أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (آيَةٌ) على التوحيد إرادة الجنس، وقرأ الباقون: (آيَاتٌ) على الجمع؛ كالناقة، والعصا، والمائدة (١).
﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ في قدرته، ينزلها إذا شاء، وليس إلي من ذلك شيء.
﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ كُلِّفت الإنذارَ وإبانتَه بالدلائل الواضحة.
* * *
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن.
﴿يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ بصدقك، وهو أعظم الآيات، لأنه ثابت على مرور الأيام؛ بخلاف سائر الآيات، فإنها انعدمت.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ القرآن الذي هو آية مستمرة.
﴿لَرَحْمَةً وَذِكْرَى﴾ تذكيرًا ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٢).
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ولما لم يصدقوا بالقرآن، نزل: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا﴾ لي بالبلاغ، وعليكم بالتكذيب؛ لأنه ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فلا يخفى عليه حالي وحالكم.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ أي: بغير الله.
﴿وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ والمغبونون؛ لاشترائهم الكفر بالإيمان.
* * *
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ونزل فيمن استعجل العذاب استهزاءً: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ بقولهم: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الأنفال: ٣٢].
﴿وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ في اللوح المحفوظ؛ أنهم يعذبون فيه، وهو يوم القيامة.
﴿لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ﴾ عاجلًا.
﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ فجأة في الدنيا، كيوم بدر، والآخرة عند نزول الموت بهم.
﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانه.
﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ أعاده تأكيدًا.
﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ جامعة لهم.
* * *
﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ﴾ يُصيبهم ﴿الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ أي: من جميع جوانبهم، المعنى: إذا غشيهم العذاب، أحاطت بهم جهنم.
﴿وَيَقُولُ ذُوقُوا﴾ جزاء ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من المعاصي. قرأ نافع، والكوفيون: (وَيَقُولُ) بالياء؛ أي: ويقول لهم الموكَّلُ بعذابهم، وقرأ الباقون: بالنون (١)، وهي إما نون العظمة، أو نون جماعة الملائكة.
* * *
﴿يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)﴾.
[٥٦] ونزل فيمن كان يؤذى بمكة من ضعفاء المسلمين، ويخشى الجوع إن خرج ﴿يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ فاخرجوا، فأنا رازقكم حيث كنتم.
﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ والفاء في (فَإِيَّايَ) جواب شرط محذوف، تقديره: إن
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٣).
لم تتمكنوا من العبادة بأرض؛ لكثرة المعاصي، فاعبدون بغيرها، في الحديث: "من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرًا من الأرض، استوجبَ الجنةَ، وكان رفيقَ إبراهيمَ ومحمدٍ" (١). قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم: (يَا عِبَادِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢)، وقرأ ابن عامر: (أَرْضِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٣)، وقرأ يعقوب: (فَاعْبُدُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (٤).
* * *
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ثم شجَّع المهاجرين بقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ أي: مرارته؛ كما يجد الذائق طعم المذوق، المعنى: كل أحد ميت أينما كان، فلا تقيموا بدار الشرك خوفًا من الموت.
﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ فنجازيكم بأعمالكم. قرأ أبو بكر عن عاصم:
(١) رواه الثعلبي في "تفسيره" (٧/ ٢٨٨) عن الحسن مرسلًا، وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٣٥١).
(٢) انظر "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٤).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٢ - ٥٠٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٤).
(٤) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٤).
(يُرْجَعُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب، ويعقوب: على أصله في فتح التاء وكسر الجيم (١).
* * *
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (لَنُثْوِيَنَّهُمْ) بالثاء المثلثة ساكنة بعد النون، وإبدال الهمزة ياء؛ من الثواء، وهي الإقامة، يقال: ثوى الرجل: إذا أقام، وأثويته: إذا أنزلته منزلًا يقيم فيه، وقرأ الباقون: بالباء الموحدة وفتحها وتشديد الواو وهمز بعدها (٢)، وأبو جعفر: على أصله في إبدال الهمزة ياء مفتوحة (٣)؛ من التبوء وهو المنزل، أي: لننزلنهم.
﴿مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا﴾ علالي ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٨٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٣/ ٣٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٥٤ - ٥٥).
(٢) المصادر السابقة.
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٥).
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على الشدائد ومفارقة الأوطان وأذى المشركين.
﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ يعتمدون.
* * *
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)﴾.
[٦٠] ولما قال النبي - ﷺ - للمؤمنين الذين كانوا بمكة، وقد آذاهم المشركون: "هاجروا إلى المدينة"، فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة، وليس لنا فيها دار ولا مال، فمن يطعمنا ما ويسقينا؟! فأنزل الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ (١) أي: وكم.
﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ هي كل نفس تدب على الأرض من الحيوان. وتقدم اختلاف القراء في (وَكَأَيِّنْ) في سورة الحج عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الآية: ٤٥].
﴿لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ لا تطيق حمله؛ ضعفًا عن حمله وكسبه.
﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ حيث كنتم.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالكم: لا نجد ما ننفق في المدينة.
﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في ضمائركم.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٢١).
قال - ﷺ -: "لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا، وتروح بطانًا" (١).
* * *
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يعني: كفارَ مكة.
﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود، وإن اعترفوا بذلك.
فقل: ﴿فَأَنَّى﴾ أي: فكيف ﴿يُؤْفَكُونَ﴾ يصرفون عن طاعته وتوحيده، مع اعترافهم أنه خالق الأشياء العظام التي هي دلائل القدرة؟! والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع.
* * *
﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ أي: يُضَيِّق ﴿لَهُ﴾ والضمير في قوله: (يَقْدِرُ لَهُ) لمن يشاء، فكأن بسط الرزق وقدره جُعلا لواحد، ويحتمل أن يكون تقديره: ويبسط لمن يشاء، ويقدر لمن يشاء، فحذف من يشاء، ووضع الضمير موضعه.
(١) تقدم تخريجه.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ما يصلح العباد، وما يفسدهم.
* * *
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها.
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على ثبوت الحجة عليكم.
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ما يقولون؛ لأنهم مع إقرارهم بذلك يشركون.
* * *
﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ﴾ واللهو: هو الاستمتاع بملذات الدنيا.
﴿وَلَعِبٌ﴾ أي: عبث، وسميت بذلك؛ لتشاغلهم بها، وسرعة فنائها.
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ أي: حياتها ﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ أي: حياة لا موت فيها، وسميت بالحيوان؛ لأن في الحيوان زيادة مبالغة على الحياة، وهو مصدر حَيِيَ، وقياسه حَيْيَان، قلبت الياء واوًا؛ لئلا تحذف إحدى الألفات، والحياة حركة، والموت سكون، والحيوان مقر الحياة، وهو ضربان: ماله الحاسة، والآخر ماله البقاء الدائم، تلخيصه: لهم البقاء السرمدي.
﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك، لم يؤثروا الدنيا على الآخرة.
* * *
﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿فَإِذَا رَكِبُوا﴾ أي: الكفار ومعهم أصنامهم.
﴿فِي الْفُلْكِ﴾ في البحر، وخافوا الغرق.
﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي: لم يشركوا أحدًا معه في الدعاء.
﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ عنادًا.
* * *
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ من النعم، لفظه أمر، ومعناه التهديد.
﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ بما بأيديهم من النعم. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، وقالون: (وَلْيَتَمَتَّعُوا) بإسكان اللام أمرًا تهديدًا، وقرأ الباقون: بكسرها (١)، جعلوها لام كي، تلخيصه: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع.
﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبةَ ذلك حين يُعاقبون.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٠٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٨٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٨).
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًاءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ أهلُ مكة.
﴿أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًاءَامِنًا﴾ يأمنون فيه.
﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون.
﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾ الأصنام والشياطين ﴿يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله﴾ محمد والإسلام ﴿يَكْفُرُونَ﴾ وهذا تذكير لأهل مكة.
* * *
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ بزعمه الشريكَ والولدَ لله تعالى.
﴿أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ﴾ محمدٍ والقرآن ﴿لَمَّا جَاءَهُ﴾ من غير توقف عنادًا.
﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ مقام للكافرين؟ استفهام بمعنى التقرير؛ لأن همزة الإنكار إذا أدخلت على النفي، صار إيجابًا، أي: ألا يستوجبون الثواء فيها، وقد افتروا هذا الكذب الشنيع؟!
* * *
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ أي: من أجلنا؛ لنصرة ديننا.
265
﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير. قرأ أبو عمرو: (سُبْلَنَا) بإسكان الباء، والباقون: بضمها (١)، وكذلك اختلافهم في (رسلنا) و (رسلهم) و (رسلكم) حيث وقع.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالنصر والمعونة، والله أعلم.
* * *
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣١٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٥٩).
266
Icon