ﰡ
(حروفها ألف وخمسمائة وثمانية عشر كلماتها ثلاثمائة وثمانون آياتها ثلاثون مكية إلا قوله أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى ثلاث آيات)
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١ الى ٣٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
خَلَقَهُ بفتح اللام: عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وسهل. الآخرون:
بالسكون على البدل من كل شيء. وعلى الأول يكون وصفا له أَإِذا أَإِنَّا كما في «الرعد» ما أُخْفِيَ بسكون الياء على أنه فعل مضارع متكلم: حمزة. الباقون: بفتحها على أنه فعل ماض مجهول لَمَّا صَبَرُوا بكسر اللام وتخفيف الميم: حمزة وعلي ورويس. الباقون: بفتح اللام وتشديد الميم أولم نهد بالنون: يزيد عن يعقوب.
الوقوف:
الم هـ كوفي الْعالَمِينَ هـ ط لأن «أم» استفهام تقريع غير عاطفة بل هي منقطعة افْتَراهُ ج لعطف الجملتين المختلفتين يَهْتَدُونَ هـ الْعَرْشِ ط شَفِيعٍ هـ تَتَذَكَّرُونَ هـ ط تَعُدُّونَ هـ الرَّحِيمُ ط مِنْ طِينٍ هـ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مَهِينٍ هـ ج لذلك وَالْأَفْئِدَةَ ط تَشْكُرُونَ هـ جَدِيدٍ هـ كافِرُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ عِنْدَ رَبِّهِمْ ط لحق القول المحذوف مُوقِنُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ هذا ج للابتداء بان مع تكرار وَذُوقُوا تَعْمَلُونَ هـ لا يَسْتَكْبِرُونَ هـ وَطَمَعاً ز لانقطاع النظم بتقديم المفعول يُنْفِقُونَ هـ أَعْيُنٍ ج لأن جَزاءً يحتمل أن يكون مفعولا له وأن يكون مصدرا لفعل محذوف يَعْمَلُونَ هـ فاسِقاً ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار لا يَسْتَوُونَ هـ الْمَأْوى ز لمثل ما مر في جَزاءً يَعْمَلُونَ هـ النَّارُ ط تُكَذِّبُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ عَنْها ط مُنْتَقِمُونَ هـ إِسْرائِيلَ هـ ج وإن اتفقت الجملتان للعدول عن ضمير المفعول الأول وهو واحد إلى ضمير الجمع في الثانية صَبَرُوا ط لمن شدد
التفسير:
لما ذكر في السورة المتقدمة دلائل الوحدانية ودلائل الحشر وهما الطرفان، بدأ في هذه السورة ببيان الأمر الأوسط وهو الرسالة المصححة ببرهان القرآن. وإعرابه قريب من قوله الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: ١- ٢] وميل جار الله إلى قوله تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ خبره مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ولا ريب فيه اعتراض لا محل له والضمير في فِيهِ راجع إلى مضمون الجملة أي لا ريب في كونه منزلا من عنده. ويمكن أن يقال: في وجه النظم لما عرّف في أول السورة المتقدمة أن القرآن هدى ورحمة قال هاهنا: إنه من رب العالمين، وذلك أن من عثر على كتاب سأل أولا أنه في أي علم. فإذا قيل: إنه في الفقه أو التفسير.
سأل: إنه تصنيف أي شخص؟ ففي تخصيص رب العالمين بالمقام إشارة إلى أن كتاب رب العالمين لا بد أن يكون فيه عجائب للعالمين فترغب النفس في مطالعته. ثم أضرب عما ذكر قائلا أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ وهو تعجيب من قولهم لظهور أمر القرآن في تعجيز بلغائهم عن مثل سورة الكوثر. ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ومعنى لِتُنْذِرَ قَوْماً قد مر في «القصص» ويندرج فيهم أهل الكتاب إذ يصدق عليهم أنه لم يأتهم نذير بعد ضلالهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولو لم يندرجوا لم يضرّ فإن تخصيص قوم بالذكر لا يدل على نفي من عداهم كقوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: ٢١٤] وحين بين الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد فقال اللَّهُ مبتدأ خبره ما يتلوه وقد مر نظائره. وقوله ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ إثبات للولاية والشفاعة أي النصرة من عنده ونفي لهما من غيره، وفيه تجهيل لعبدة الأصنام الزاعمين أنها شفعاؤهم بعد اعترافهم بأن خالق الكل هو الله سبحانه. ولما بين الخلق شرع في الأمر فقال يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ذلك العمل في يوم طويل، وهو كناية عن قلة الإخلاص لأنه لا يوصف بالصعود ولا يقوى على العروج إلا العمل الخالص، يؤيد هذا التفسير قوله فيما بعد قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة، ثم يصعد إليه مكتوبا في الصحف في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم إلخ. ثم يدبر الأمر ليوم آخر مثله وهلم جرا. أو ينزل الوحي مع جبرائيل ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي. ورده مع جبرائيل أيضا وتقدير الزمان بألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وأن الملك يقطعها في يوم واحد من أيامنا. وقيل: إنه إشارة إلى نفوذ الأمر، فإن نفاذ الأمر كلما
وبالجملة فالآية المتقدمة تدل على عظمة عالم الخلق وسعة مكانه، والآية الثانية تدل على عظمة عالم الأمر وامتداد زمانه. ثم بين أنه مع غاية عظمة ملكه وملكوته عليم بأمر العالمين فقال ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وفي قوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إشارة إلى صفتي القهر واللطف اللتين ينبغي أن تكونا لكل ملك، وإنما أخر الرَّحِيمُ مع أن رحمته سبقت غضبه ليوصله بقوله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ نظيره الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه:
٥٠] وقد مر في «طه». وعطف عليه تخصيصا بعد تعميم خلق الإنسان وهو آدم بدليل قوله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته لأنها تنسل أي تنفصل، والسلالة الخلاصة كما ذكرنا في أول «المؤمنين»، وقوله مِنْ ماءٍ بدل من سلالة والمهين الحقير. ومعنى سَوَّاهُ قوّمه وأداره في الأطوار إلى حيث صلح لنفخ الروح فيه، ثم عدل من الغيبة إلى الخطاب في قوله وَجَعَلَ لَكُمُ تنبيها على جسامة نعم هذه الجوارح وتوبيخا على قلة الشكر عليها. ثم بين عدم شكرهم بإنكارهم المعاد بعد مشاهدة الفطرة الأولى وليست الثانية بأصعب منها.
والواو للعطف على ما سبق كأنهم قالوا: إن محمدا مفتر وقالوا: الله ليس بواحد وَقالُوا أَإِذا يعني أنهم وأسلافهم زعموا أن الحشر غير ممكن.
ومعنى ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ غبنا فيها إما بالدفن أو بتفرق الأجزاء وتلاشيها. والعامل في أَإِذا ما يدل عليه قوله أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو يجدد خلقنا. ثم صرح بإثبات كفرهم على الإطلاق واللقاء لقاء الجزاء الشامل لجميع أحوال الآخرة. ثم رد عليهم قولهم بالفوت بأنه يتوفاهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح ثم يرجعون إلى حكم الله وحده. ثم بين ما يكون من حالهم عند الرجوع بقوله وَلَوْ تَرى أنت يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ خجلا وندامة قائلين رَبَّنا أَبْصَرْنا ما كنا شاكين في وقوعه وَسَمِعْنا منك تصديق رسلك وجواب «لو» محذوف
وفسره رسول الله ﷺ بقيام الليل وهو التهجد. قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع ينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس.» »
عن علي رضي الله عنه: جنبي تجافى عن الوساد خوفا من النار والمعاد من خاف من سكرة المنايا لم يدر ما لذة الرقاد قد بلغ الزرع منتهاه لا بد للزرع من حصاد
عن أنس بن مالك: كان أناس من أصحاب النبي ﷺ يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فنزلت فيهم. وقيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها.
عن النبي ﷺ «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» «١»
وعن الحسن: أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. قال المحققون: إنه يصدر من العبد أعمال صالحة وقد صدر عن الرب أشياء سابقة من الخلق والتربية وغيرهما، وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام، فلله تعالى أن يقول: أنا أحسنت أولا، والعبد أحسن في مقابلته، فالثواب تفضل من غير عوض. وله أن يقول: الذي فعلته أولا تفضل فإذا أتى العبد بالعمل الصالح جزيته خيرا لأن جزاء الإحسان إحسان، وهذا الاعتبار الثاني أليق بالكرم ليذيق العبد لذة الأجر والكسب، والاعتبار الأول أليق بالعبودية حتى يرى الفضل لله في جانب الأبد فإذن لا تنقطع المعاملة بين الله وبين العبد أبدا، وتكون العبادة لهم في الآخرة بمنزلة التنفس للملائكة.
يروى أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام فقال له الوليد: اسكت فإنك صبي. فقال له علي: اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى فيهما خاصة
وفي أمثالهما من الفريقين عامة أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى آخر ثلاث آيات أو أربع. ومن أول الآية محمول على اللفظ وفي قوله لا يَسْتَوُونَ محمول على المعنى. ثم فصل عدم استوائهما بقوله أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وجَنَّاتُ الْمَأْوى نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء على قول ابن عباس. وقال بعضهم: هي عن يمين العرش. وفي لام التمليك في فَلَهُمْ مزيد تشريف وإيذان بأنهم لا يخرجون منها كما لا يخرج المالك من ملكه ولهذا لو قيل: هذه الدار لزيد يفهم منه الملكية بخلاف ما لو قيل: اسكن هذه الدار. فإنه يحمل على الإعارة وإنه تعالى قال لأبينا آدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: ٣٥] لأنه كان في علمه أنه يخرج منها. وإنما قيل هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ وفي «سبأ» عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها [الآية: ٤٢] لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها، الكنايات لا توصف فوصف العذاب. وفي «سبأ» لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار.
وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة الأكبر، أو الأبعد الأقصى في مقابلة الأدنى، لأن الغرض هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر والكبر ولا بالبعد. ومعنى قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ والترجي على الله محال لنذيقهم إذاقة الراجين رجوعهم عن الكفر والمعاصي كقوله إِنَّا نَسِيناكُمْ أي تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا أي نذيقهم على الوجه الذي يفعل الراجي من التدريج، أو نذيقهم إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه. قال في التفسير الكبير: إن الرجاء في أكثر الأمر يستعمل فيما لا تكون عاقبته معلومة، فتوهم الأكثرون أنه لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى وليس كذلك، فإن الجزم بالعاقبة إنما يحصل في حقه بدليل منفصل لا من نفس الفعل فإن التعذيب لا يلزم منه الرجوع لزوما بينا. قلت: هذا يرجع إلى التأويل الأول، فإن الكلام في تعذيب الله هل هو يستدعي الرجوع على سبيل الرجاء أم لا، وكون مطلق التعذيب مستدعيا لذلك لا يكفي للسائل. وقالت المعتزلة: لعل من الله إرادة وإرادة الله فعل المختار لا تقدح في اقتدار الله إذا لم يختر المختار مراد الله كما أنهم لم يختاروا التوبة والرجوع عن الكفر وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. وإنما يقدح في اقتداره إذا تعلقت في إرادته بفعل نفسه أو بفعل المضطر المقسور ثم لا يوجد ذلك الفعل. وجوّز في الكشاف أن يراد: لعلهم يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه كقوله فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً سميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٦] ثم بين أنهم إذا ذكروا بالدلائل من النعم أولا والنقم ثانيا وهو العذاب الأدنى ثم لم يؤمنوا فلا أحد أظلم منهم.
ومعنى ثُمَّ أنه ذكر مرات ثم بالآخرة أَعْرَضَ عَنْها والفاء في سورة الكهف تدل على
اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان. والضمير في لِقائِهِ للكتاب أي آتينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله. واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل: ٦] وقيل: الضمير في لِقائِهِ لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول. والضمير في جَعَلْنا للكتاب على أنه منزل على موسى.
واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من أئمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به. وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضا سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر. ومثله
إخبار النبي ﷺ «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»
ولا يخفى أن «من» التبعيضية في قوله وَجَعَلْنا مِنْهُمْ كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ الآية. وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل. ثم أعاد أصل التوحيد مقرونا بالوعيد قائلا أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقد مر نظيره في آخر «طه» وإنما قال في آخر الآية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ على الجمع ليناسب القرون والمساكن. وإنما قال أَفَلا يَسْمَعُونَ لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع. وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة. ومعنى نَسُوقُ الْماءَ نسوق السحاب وفيه المطر إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل. قال جار الله: ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً وعن ابن عباس أنها أرض اليمن،
٥٤] لأن الأزواج من النبات أعم من الزرع وكثير منه يصلح للإنسان في أول ظهوره مع أن الخطاب لهم فناسب أن يقدموا وإنما ختم الآية بقوله أَفَلا يُبْصِرُونَ تأكيدا لقوله في أول الآية أَوَلَمْ يَرَوْا ثم حكى نوع جهالة أخرى عنهم وهو استعجالهم العذاب. قال المفسرون: كان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أي ينصرنا عليهم ويفتح بيننا وبينهم أي يفصل، فاستعجل المشركون ذلك. ويوم الفتح يوم القيامة فحينئذ تنفتح أبواب الأمور المبهمة أو يوم بدر أو يوم فتح مكة قاله مجاهد والحسن. فإن قلت: كيف ينطبق قوله قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ إلخ جوابا عن سؤالهم عن وقت الفتح؟ فالجواب أنهم سألوا ذلك على وجه التكذيب والاستهزاء فقيل لهم: لا تستهزؤا فكأنا بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم فلم تنظروا. ومن فسر يوم الفتح بيوم بدر أو بيوم فتح مكة فالمراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل وإلا فقد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر. ثم أمر نبيه ﷺ بالإعراض عنهم وانتظار النصرة عليهم حين علم أنه لا طريق معهم إلا القتال نظيره قوله قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور: ٣١].
التأويل:
الألف المحبون لقربي والعارفون بتمجيدي فلا يصبرون عني ولا يستأنسون بغيري. اللام الأحباء لي مدخر لقائي فلا أبالي أقاموا على وثاقي أم قصروا في وفائي. الميم ترك أوليائي مرادهم لمرادي فلذلك اخترتهم على جميع عبادي تَنْزِيلُ الْكِتابِ أعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب أنزله رَبِّ الْعالَمِينَ لأهل الظاهر على ظاهرهم ولأهل الباطن في باطنهم فاستناروا بنوره وتكلموا بالحق عن الحق للحق فلم يفهمه أهل الغرة والغفلة فقالوا افْتَراهُ. خلق سموات الأرواح وأرض الأشباح وما بينهما من النفس والقلب والسر في ستة أجناس هي: الجماد والمعدن والنبات والحيوان والشيطان والملك ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الخفي وهو لطيفة ربانية قابلة للفيض الرباني بلا واسطة فَلا تَتَذَكَّرُونَ كيف خلقكم في أطوار مختلفة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ من سماء الروح إلى أرض النفس البدن ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ النفس المخاطبة بخطاب ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] في يوم طلعت فيه شمس صدق الطلب، وأشرقت الأرض بنور جذبات الحق كانَ مِقْدارُهُ في العروج بالجذبة كألف سنة مما تعدون من أيامكم في السير من غير جذبة كما
قال ﷺ «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين»
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ وخمره بيده في أربعين