تفسير سورة المائدة

اللباب
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة المائدة
مدنية كلها إلا قوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ [ الآية : ٣ ] فإنها نزلت ب " عرفات ".
قال القرطبي١ : روي أنها نزلت منصرف الرسول صلى لله عليه وسلم من " الحديبية ".
وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من " الحديبية " قال يا علي، أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة، ونعمت الفائدة٢.
قال ابن العربي : هذا حديث موضوع [ لا يحل لمسلم اعتقاده ]٣ أما إنا نقول : سورة المائدة، ونعمت الفائدة، فلا نؤثره عن أحد، ولكنه كلام حسن.
وقل ابن عطية : وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه صلى الله عليه وسلم [ أنه ]٤ قال :" سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب " ٥.
ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما أنزل عام الفتح، وهو قوله :﴿ ولا يجرمنكم شنئان قوم ﴾ [ الآية : ٢ ]، وكل ما أنزل من القرآن بعد الهجرة فهو مدني، سواء نزل ب " المدينة " أو في سفر.
والمكي [ هو ] ما نزل قبل الهجرة، وهي مائة وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربع كلمات، وإحدى عشر ألف وتسعمائة وثلاثون حرفا.
روي عن أبي ميسرة، قال : المائدة آخر ما نزل، ليس فيها منسوخ٦.
قال أبو ميسرة : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما، لم ينزلها في غيرها، [ وهي ]٧ قوله سبحانه :﴿ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ﴾، ﴿ وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ﴾، ﴿ وما علمتم من الجوارح مكلبين ﴾، ﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾، ﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾.
وتمام الطهر في قوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة ﴾، ﴿ والسارق والسارقة ﴾ و﴿ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ إلى قوله :﴿ عزيز ذو انتقام ﴾ الآية، و﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ [ وقوله تعالى :﴿ شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ قال القرطبي : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله عز وجل :]٨ ﴿ وإذا ناديتم إلى الصلاة ﴾٩ ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة.
أما ما جاء في سورة " الجمعة " مخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام في جميع الصلاة.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]١٠ قرأ [ سورة ]١١ المائدة في حجة الوداع، وقال :" يا أيها الناس، إن سورة المائدة من آخر ما نزل، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها " ١٢.
وقال الشعبي١٣ : لم ينسخ من هذه السورة غير قوله :﴿ ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ﴾ الآية.
وقال بعضهم : نسخ منها :" وآخران من غيركم ".
١ ينظر: القرطبي ٦/٢٢..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٦/٢٢)..
٣ في أ: لا عن المسلم اعتقادي..
٤ سقط في أ..
٥ ذكره أيضا القرطبي في "تفسيره" (٦/٢٢)..
٦ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/٤٤٧) عن ابن ميسرة عمرو بن شرحبيل وعزاه لأبي داود والنحاس كلاهما في "الناسخ والمنسوخ". وينظر القرطبي ٦/٢٢..
٧ سقط في أ..
٨ سقط في أ..
٩ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/٤٤٧) عن ابن ميسرة أيضا وعزاه للفريابي وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ..
١٠ سقط في أ..
١١ سقط في أ..
١٢ أخرجه أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس كما في "الدر المنثور" (٢/٤٤٦)، ينظر القرطبي ٦/٢٢..
١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٩/٤٧٥) عن عامر الشعبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/٤٤٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي داود في "ناسخه" وابن المنذر والنحاس في "الناسخ والمنسوخ"، وينظر القرطبي ٦/٢٣..

﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ بالعقود أي: بالعهود، ويقال: وَفَّى بالعهد، وأوفى به. قال الزَّجَّاج: هي أوكد العهود، ويقال: عاقدت فلاناً، وعقدت عليه، أي:
161
ألزمته ذلك باستيثاق، وأصله من عقد الشيء بغيره، ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل.
فالعهد إلزام، والعقد التزام على سبيل الإحكام، ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأحكامه، وكان من جملة أحكامه أنه يجب على الخَلْقِ إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه - أمر بالوفاء بالعقود، أي: أنكم التزمتم بإيمكانكم أنواع العقود والطاعة بتلك العقود.

فصل في الكلام على فصاحة الآية


قال القرطبي: هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها، لكل بصير بالكلام؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام:
الأول: الأمر بالوفاء بالعقود.
الثاني: تحليل بهيمة الأنعام.
الثالث: استثناء ما يلي بعد ذلك.
الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يُصَادُ.
الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وحكى النقاش أن أصحاب الكندي، قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة، ثم خرج، فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة «المائدة»، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين [ولا] يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.

فصل في الخطاب في الآية


واختلفوا في هذه العقود، فقال ابن جريج: هذا خطاب لأهل الكتاب، يعني: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود، التي عهدتها عليكم في شأن محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهو قوله: ﴿وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٨٧].
وقال آخرون: هو عام.
وقال قتادة: أراد بها الحِلْفَ الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية.
162
وقال ابن عباس: هي عهود الإيمان والقرآن.
قال ابن عباس: «أوفوا بالعقود» أي: بما أحل وبما حرم، وبما فرض، وبما حَدَّ في جميع الأشياء كذلك، قاله مجاهد وغيره.
وقال ابن شهاب [الدين] : قرأت كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي كتبه لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى «نجران»، وفي صدره: هذا بيان للناس من الله ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ الآية، فكتب الآيات فيها، إلى قوله: ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾، والمقصود أداء التكاليف فعلاً وتركاً.
وإنما [سميت التكاليف عقوداً لأنه - تعالى - ربطها بعبادته كما يربط الشيء بالشيء بالحبل] الموثق.
وقيل: هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم.

فصل في فقه الآية


قال الشافعي: إذا نذر صوم [يوم] العيد، أو نذر ذبح الولد لغى.
وقال أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: بل يصح، واحتج بقوله: «أوفوا بالعقود» وبقوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢]، وبقوله: ﴿يُوفُونَ بالنذر﴾ [الإنسان: ٧] ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ [البقرة: ١٧٧] ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أوفِ بنَذْرِكَ».
وقال الشافعي: هذا نذر معصية، فيكون لغواً؛ لقوله عليه السلام: «لا نذر في معصية الله».
وقال أبو حنيفة: خيار المجلس غير ثابت؛ لأن البيع والشراء قد انعقدا، فحرم الفسخ لقوله تعالى: ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾.
163
وقال الشافعي: يثبت؛ لأن هذا العموم [قد خص بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا».
وقال أبو حنيفة: الجمع بين الطلقات] حرام؛ لأن النكاح عقد، فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى: ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾ تُرك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع، فيبقى فيما عداها على الأصل.
وقال الشافعي: ليس بحرام لتخصيص هذا العموم بالقياس، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ، وقد نفذ فلا يحرم.
قوله سبحانه: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ لما قرر أولاً جميع التكاليف من حيث الجملة، شرع في ذكرها من حيث التفصيل.
والبهيمة كل ذات أربع في البر والبحر [وقيل: ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم.
قالوا وأصله: كل حي لا عقل له فهو بهيمة] من قولهم: استبهم الأمر على فلان إذا أشكل، وهذا البابُ مُبْهم، أي: مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بذوات الأربع، وكل ما كان على وزن «فعيل» أو «فعيلة» حلقي العين، جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه، نحو: بهيمة، وشعيرة، وصغيرة، وبحيرة.
والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى: ﴿والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾ [النحل: ٥] إلى قوله: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا﴾ [النحل: ٨] وقال تعالى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً﴾ [يس: ٧١] إلى قوله: ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٧٢] وقال: ﴿وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ [الأنعام: ١٤٢].
وقال الواحدي: لا يدخل في اسم الأنعام الحافر؛ لأنه مأخوذ من نعومة الوطء، وقد تقدم في «آل عمران».
فإن قيل: البهيمة اسم جنس، والأنعام اسم نوع، فقوله: «بَهِيمَةُ الأنعام» يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان، فالحيوان إن قلنا إن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، فإضافة البهيمة إلى الأنعام [إما للبيان] فهو كقولك: خاتم فضّة، أي: من فضّة، ومعناه [أنَّ] البهيمة من الأنعام، أو للتأكيد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه.
164
وإن قلنا: المراد بالبهيمة شيء، والأنعام شيء آخر، ففيه وجهان:
أحدهما: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام، ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار، فأضيف الاجترار إلى الأنعام لحصول المشابهة.
والثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام، روي عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -] أن بقرة ذبحت، فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبه، وقال: هذا من بهيمة الأنعام.
وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه، ومثله عن الشعبي.
وذهب أكثر اهل العلم إلى تحليله؛ لما روى أبو سعيد، «قال: قلنا: يا رسول الله:» نَنْحَرُ الناقة، ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله «؟ قال:» كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ، فإنَّ ذكاتَه ذكاة أمِّهِ «وشرط بعضهم الإشعار.
فإن قيل: لو قال: أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاماً؛ كقوله تعالى في آية أخرى: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام﴾ [الحج: ٣٠] فما فائدة زيادة لفظ»
البهيمة «هنا؟
[الجواب: إن قلنا: إن بهيمة الأنعام هي الأجنة] فالجواب: ما تقدم من الإضافة، أعني إضافة بهيمة الأنعام.
فإن قيل: لِمَ أفرد»
البهيمة «وجمع لفظ» الأنعام «؟
فالجواب: إرادة للجنس.

فصل في الرد على شبهة الثنوية


قالت الثنوية: ذبح الحيوان إيلامٌ، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله، وتحقيق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة على الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج به على من
165
قصد إيلامها، وإيلام من بلغ في العجز إلى هذا الحد أقبح.
وعند هذه الشبهة افترق المسملون فرقاً كثيرة:
فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لَعَلَّ تعالى يرفع عنها ألم الذبح، وهذا مكابرة للضروريات.
وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً، بل إنما يقبح إذا لم لم يكن مسبوقاً بجناية، ولا ملحوقاً بعوض.
وهاهنا الله تعالى عوض هذه الجنايات بأعواض شريفة، فخرج هذا الذبح عن كونه ظُلْماً.
ويدلُّ على صحة ما قلناه أن ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألَم الفَصْد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حَسُنَ تحمُّل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذا القول في الذبح.
وقال أهل السُّنة: إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة.

فصل


قال بعضهم: ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام﴾ مجمل؛ لأن الإحْلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات، فتعذر إجراؤه على ظاهره، فلا بُدَّ من إضمار فعل، وليس إضمار الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها، أو بعظمها، أو صوفها، أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، فصارت الآية مجملة، إلا أن قوله تعالى: ﴿والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: ٥] دل على أن المراد بقوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾ إباحة الانتفاع من كل هذه الوجوه، والله أعلم.
[قوله ﴿إلا ما يتلى عليكم﴾ هذا مستثنى من» بهيمة الأنعام «والمعنى: ما يتلى عليكم تحريمه] وذلك قوله تعالى:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ [المائدة: ٣] إلى قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣].
وفي هذا الاستثناء قولان:
166
أحدهما: أنه متصل.
والثاني: أنه منقطع حسب ما فُسر به المتلوُّ عليهم، كما سيأتي بيانه.
وعلى تقدير كونه [استثناء] متصلاً يجوز في محلّه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب؛ لأنه استثناء متصل من موجب، ويجوز أن يرفع على أنه نعت ل «بهيمة» على ما قرر في علم النحو.
ونقل ابن عطيَّة عن الكوفيين وجهين آخرين
أحدهما: أنه يجوز رفعه على البدل من «بهيمة».
والثاني: أن «لا» حرف عطف، وما بعدها عطف على ما قبلها، ثم قال: وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس، نحو: جاء الرجال إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد، وقوله: وذلك ظاهره أنه مُشارٌ به إلى الوجهين: البدل والعطف.
وقوله: إلا من نكرة غير ظاهرة؛ لأن البدل لا يجوز ألبتة من موجب عند أحد من الكوفيين [والبصريين.
ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً وأما العطف فذكره بعض الكوفيين].
وأما الذي اشترط البصريون فيه التنكير، أو ما قاربه، فإنما اشترطوه في النعت ب «إلاَّ» فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرط النعت، فجعله شرطاً في البدل، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمه في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ [المائدة: ٣] إلى آخره.
وإن أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمره، فيكون منقطعاً بمعنى «لكن» عند البصريين، وبمعنى «بل» عند الكوفيين.
وسيأتي بيان هذا المنقطع [بأكثر من هذا] في نصب «غير».
قوله: «غَيْرَ» في نصبه خمسة أوجه:
أحدها: أنه حال من الضمير المجرور في «لكم»، وهذا قول الجمهور، وإليه ذهب الزمخشري، وابن عطية وغيرهما.
وقد ضعف هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييدُ إحلال بهيمة الأنعام لهم بحال كونهم غَيْرَ محلِّي الصيد، وهم حرم؛ إذْ يصير معناه: ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام﴾ [في حال كون انتفاء كونكم تحلون الصيد، وأنتم حرم، والغرض أنهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام]
167
في هذه الحال وفي غيرها، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعام نفسها.
وأما إذا عني بها الظباء، وحُمُر الوحش، وبقره على ما فسَّره بعضهم، فيظهر للتقييد بهذه الحالة فائدة؛ إذ يصير المعنى «أحلّت لكم» هذه الأشياء حال انتفاء كونكم تحلُّون الصيد وأنتم حرم، فهذا معنى صحيح، ولكن التركيب [الذي قدرته لك] فيه قَلَقٌ ولو أريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه.
القول الثاني: وهو قول الأخفش وجماعة أنه حال من فاعل «أوفوا»، والتقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلِّين الصيد وأنتم حُرم، وقد ضعفوا هذا المذهب من وجهين:
الأول: أنه يلزم [منه] الفَصْلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية، ولا يجوز الفَصْل إلا بجمل الاعتراض، وهذه الجملة وهي قوله: ﴿أحلَّت لكم بهيمة الأنعام﴾ ليست اعتراضية، بل هي منشئة أحكاماً ومبينة لها.
وجملة الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسْديداً.
والثاني: أنه يلزم تقييد الأمر بإيفاء العقود بهذه الحالة، ويصير التقدير؛ كما تقدم، فإذا اعتبرنا مَفْهُومه يصير المعنى: فإذا انتفت هذه الحال فلا توفوا بالعقود، والأمر ليس كذلك فإنهم مأمورون بالإيفاء بالعقود على كل حال من إحرام وغيره.
الوجه الثاني: أنه منصوب على الحال من الضمير المجرور في «عليكم» [أي] : لا [ما] يتلى عليكم، حال انتفاء كونكم محلّين الصيد، وهو ضعيف أيضاً بما تقدم من أن المتلو عليهم لا يتقيد بهذا الحال دون غيرها، بل هو متلو عليهم في هذه الحال، وفي غيرها.
الوجه الرابع: أنه حال من الفاعل المقدر يعني الذي حُذِفَ، وأقيم المفعول مقامه في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾، فإن التقدير عنده: أحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محلي لكم الصيد وأنتم حرم، فحذف الفاعل، وأقام المفعول مقامه، وترك الحال من الفاعل باقية.
وهذا الوجه فيه ضعف من وجوه:
الأول: أن الفاعل المنوب عنه صار نَسْياً مَنْسياً غير ملتفت إليه، نَصُّوا على
168
ذلك، لو قلت: أنزل الغيث مجيباً لدعائهم، وتجعل مجيباً حال من الفاعل المنوب عنه؛ فإن التقدير: أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم، لم يجز، فكذلك هذا، ولا سيما إذا قيل: بأن بنية الفعل المبني للمفعول بنية مستقلة غير محلولة من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين، وجماعة من البصريين.
الثاني: أنه يلزم منه [التقييد بهذه الحال إذا عُني بالأنعام الثمانية الأزواج، وتقييد إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم والله تعالى قد أحل لهم هذه مطلقاً].
الثالث: أنه كتب «مُحلّي بصيغة الجمع، فكيف يكون حالاً من الله تعالى، وكأن هذا القائل زعم أن اللفظ» محل «من غير ياء، وسيأتي ما يشبه هذا القول.
الوجه الخامس: أنه منصوب على الاستثناء المكرر، يعني أنه هو وقوله:»
إِلاَّ مَا يتلى [عَلَيْكُمْ] «مستثنيان من شيء واحد، وهو بهيمة الأنعام.
نقل ذلك بعضهم عن البصريين، قال: والتقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد، وأنتم محرمون، بخلاف قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٢] على ما سيأتي بيانه.
قال هذا القائل: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذاً معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلِّي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد.
انتهى.
وقال أبو حيان: إنما عرض الإشكال من جعلهم غير محلّي الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود، أو من المحلّل وهو الله تعالى، أو من المتلو عليهم وغرَّهم في ذلك كونه كتب «مُحِلِّي»
بالياء، وقدروه هم أنه اسم [فاعل] من «أحَلَّ» وأنه مضاف إلى «الصيد» إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة، وأصله غير محلِّين الصيد، إلا في قول من جعله [حالاً] من الفعل المحذوف، فإنه لا يقدر حذف نون، بل حذف تنوين، وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله: «مُحِلِّي الصيد» من باب قولهم: حِسَان النِّسَاء، والمعنى: النساء الحسان، فكذلك [هذا] أصله غير الصيد المُحلّ، [والمحل] صفة للصيد لا للناس، ولا للفاعل المحذوف.
169
ووصف الصيد أنه «محل» على وجهين:
أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل، كما تقول: أحَلَّ الرجل إذا دخل في الحِلِّ، وأحرم إذا دخل في الحرمِ.
والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حلٍّ أي: حلالاً بتحليل الله تعالى، وذلك أن الصيد على قسمين: حلال وحرام.
ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال، لكنه يختصُّ به شرعاً، وقد تجوزت العرب، فأطلقت الصيد على ما لا يُوصَفُ بحلّ ولا حُرْمة.
كقوله: [البسيط]
١٩١٣ - لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إذَا مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرَانِهِ صَدَقَا
وقول الآخر: [الطويل]
١٩١٤ - وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ
وقول امرئ القيس: [المتقارب]
١٩١٥ - وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَأفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عمْرٍو حُجُرْ
ومجيءُ «أفْعَلَ» على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لِسَانِ العربِ، فَمِنْ مجيءِ «أفْعَلَ» لبلوغ المكان، ودخوله قولُهم: أحْرَم الرجلُ، وأعْرَقَ، وأشْأمَ، وأيْمَنَ، وأتهم، وأنْجَدَ، إذا بلغ هذه الأماكنَ، وحَلَّ بها.
ومن مَجِيء «أفْعَل» بمعنى صار ذا كذا قولُهُمْ: أعْشَبَتِ الأرضُ وأبْقَلَتْ، وأغَدَّ البعير وألْبَنَتِ الشاة، وغيرُها، وأجْرَتِ الكلبُ، وأصْرَمَ النخل، وأتْلَتِ الناقةُ، وأحْصَدَ الزرعُ وأجْرَبَ الرجلُ، وأنْجبتِ المرأةُ.
وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصيدَ بوَصْفٍ بكونه مُحلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حِلٍّ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ استثناءً ثانياً، ولا يكون استثناءً من استثناء؛ إذ لا يمكنُ ذلك لتناقضِ الحُكْم؛ لأنَّ المستثنى من المحلل مُحرَّمٌ، [والمستثنى من المحرم
170
محلل] بل إنْ كان المعني بقوله: بهيمةَ الأنعامِ الأنعام أنفسها، فيكون استثناءً منقطعاً وإنْ كان المرادُ الظِّبَاءَ، وبَقَر الوحْشِ وحُمُرَهُ، فيكون استثناءً متصلاً على أحد تَفْسِيري المحل، استثنى الصَّيدَ الذي بلغ الحلّ في حالِ كونِهِم، مُحْرِمينَ.
فإنْ قُلْتَ: ما فائدةُ هذا الاستثناء بَعْد بُلُوغِ الحل، والصيدُ الذي في الحرم لا يحلّ أيضاً؟
قُلْتُ: الصيدُ الذي في الحرمِ لا يَحِلُّ للمحرم ولا لِغَيْر المحْرِمِ، وإنَّما يحَلّ لِغَيْرِ المحرِمِ الصيدُ الذي في الحلّ، فنبَّهَ بأنَّهُ إذَا كَان الصيدُ [الذي] في الحّل يَحْرمُ على المُحْرم - وإنْ كان حَلالاً لِغَيْرِه - فأحْرَى أن يحرم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَمِ، وعلى هذا التفسير [يكون] قوله: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ إنْ كان المرادُ بِهِ ما جاء بعده مِنْ قوله:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ [المائدة: ٣] الآية استثناءً منقطعاً؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه، فيَصيرُ التقديرُ: لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي: تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ [الأنعام] والوحوش، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع على التَّفْصِيلِ، فيَرْجِع «مَا يتلى عَلَيْكُمْ» إلى «ثَمَانِيَة» الأزْوَاجِ، ويرجِعُ «غَيْرَ مُحِلِّي الصيد» إلى الوحوشِ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ، وإذا لم يمكنْ ذلك، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ إلى الأوّلِ بوجهٍ ما رجع إلى الأولِ.
وقد نَصَّ النحويونَ: أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل، نحو: قام القومُ إلا زيداً إلا عمْراً إلا بَكْراً، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف «محلّي» بالياء، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ «مُحِلّ» من غير ياءٍ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك.
قلتُ: لا يعكّر ذلك على هذا التخريج؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم: ﴿لأَاْذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢١]، ﴿وَلأَوْضَعُواْ﴾ [التوبة: ٤٧]، ألفاً بَعْد لامِ الألف [وكتابتهم ﴿بِأَيْيْدٍ﴾ [الذاريات: ٤٧] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم «أولئك» بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ، وكِتَابتِهِمْ: «الصَّالِحَاتِ» [ونحوه] بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك.
171
وأمَّا وقْفُهم عليه بالياء فلا يجُوزُ؛ إذْ لا يُوقَفُ على المضافِ دُونَ المضافِ إليه.
وإنْ وقف واقفٌ فإنَّما يكونُ بقَطْعِ نَفَسِ واختيار.
على أنَّه يمكنُ تَوْجِبهُ كتابتِهِ بالياء والوقفِ عَلَيْه بها، وهو أن لُغَةَ «الأزْد» يَقفونَ فيها على «بزيدٍ، بزيدي» بإبدال التَّنْوين ياءً، فَكُتِبَ «مُحِلّي» على الوقف على هذه اللُّغَةِ - بالياءِ، وهذا توجيه شُذُوذٍ رَسْمِيّ، ورسمُ المصحفِ ممّا لا يقاسُ عليه، انتهى.
قال شهابُ الدين: وهذا الذي ذَكَرَهُ، وأجازه، وغَلَّطَ النَّاسَ فيه لَيْسَ بشيء، وما ذكره من تَوجيه ثُبُوتِ الياءِ خَطّاً ووَقْفاً، فَخَطَأٌ محض؛ لأنه على تقدير تَسْلِيم ذلك في تلك اللُّغَةِ، فأيْنَ التنوينُ الذي في «مُحِلّ» ؟ وكيف يكونُ فيه تنوينٌ، وهو مضافٌ حَتّى يقول: إنَّه قد يُوجَّهُ بلُغَةِ «الأزْدِ» ؟
وما ذكره مِنْ كونه يَحْتَمِلُ مِمَّا يكونون قَدْ كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة، فَشَيءٌ لا يُعَوَّلُ عليه؛ لأنّ خَطّ المصحفِ سُنَّة متبعة لا يقاسُ عليها، فكيفَ يقول: يحتمل أن يقاسَ هذا على تلك الأشياء؟
وأيضاً فإنهم لم يُعْرِبُوا [غَيْر] إلاَّ حالاً، حتّى نقل بعضُهم الإجْماعَ على ذلك.
وإنما اختلفُوا في صاحِبِ الحالِ، فقوله: إنه استثناءٌ ثانٍ مع هذه الأوجه الضَّعيفةِ خَرْقٌ للإجماع إلا ما تقدَّم نقْلُهُ عن بعضهِم منْ أنَّه استثناءٌ ثانٍ، وعَزَاهُ للبصريين، لكِنْ لا على هذا المَدْرَكِ الذي ذكره الشيخ.
وقديماً وحديثاً اسْتَشْكَلَ النَّاسُ هذه الآية.
وقال ابن عَطِيَّة: وقد خلطَ الناسُ في هذا الموضع في نصب «غَيْرَ» وقدَّرُوا تَقْدِيماتٍ وتَأخِيراتٍ، وذلك كُلُّه غيرُ مُرضٍ؛ لأنَّ الكلام على اطّرادِهِ، فيمكنُ اسْتِثْناء بعد استثناءٍ.
وهذه الآيةُ مِمّا اتضحَ لِلْفُصَحاء والبُلغَاءِ فَصَاحَتُها وبلاغَتُها، حتى يُحكَى أنَّهُ قِيلَ لِلْكنديّ: أيّها الحكيمُ، اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هذا القرآنِ، فقال: نَعَمْ أعمل لَكُمْ مِثْلَ بعضه، فَاحْتَجَبَ أيَّاماً كثيرةً، ثُمّ خرج فقال: والله لا يَقْدِرُ أحدٌ على ذلك، إنّني فتحتُ [سورة] من المصحف فخرجتْ سورةُ «المائدة»، فإذا هو قَدْ نَطَقَ بالوَفَاءِ، ونَهَى عن النّكثِ، وحَلَّل تَحْلِيلاً عامّاً، ثم اسْتَثْنَى استثناءً بعد استثناءٍ، ثُمَّ أخبر عَنْ قُدْرتِهِ وحِكْمته في سَطْريْنِ.
172
والجمهورُ على نَصْبِ «غَيْرَ»، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ برفعه، وفيه وجهان:
أظهرُهُمَا: أنّه نعتٌ ل «بهيمة الأنعام» والمَوْصُوفُ ب «غير» لا يلزمُ فيه أنْ يكونَ مُمَاثِلاً لما بَعْدها [في جنسه] تقولُ: مررتُ بِرَجُلٍ غَيْرِ حِمَارٍ، هكذَا قالُوه، وفيه نظر، ولَكِنْ ظاهرُ هذه القراءةِ يَدُلُّ لهم.
والثاني: أنَّهُ نعتٌ للضمير في «يُتلَى».
قال ابنُ عَطِيَّة: لأنَّ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد﴾ في المَعْنَى بمنزلةِ غَيْرِ مُسْتَحَلٍّ إذَا كان صَيْداً، وفيه تكلُّفٌ، والصيدُ في الأصلِ مصدرُ: صَادَ يَصِيدُ ويُصَاد، ويُطْلَقُ على المَصِيدِ، كدِرْهَم ضَرْبِ الأميرِ.
وهو في الآية الكريمةِ يَحْتَملُ الأمرين أي من كونه بَاقِياً على مَصْدْرِيَّته، كأنَّهٌ قيل: أحِلّ لَكُمْ بهيمَةُ الأنْعَام، غَيْرَ مُحِلّينَ الاصْطِيادَ وَأنْتُم مُحْرِمُونَ، ومَنْ كونِهِ وَاقِعاً مَوْقِعَ المفعول أيْ: غَيْر مُحلِّينَ الشَّيْءَ [المصيد] وأنتم محرمون.
وقوله: «وَأنْتُمْ حُرُم» مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، وما هو صاحبُ هذه الحالِ؟
فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ حَال عَنْ «محلّي الصيد»، كأنه قِيلَ: أحْلَلْنَا لكم بعضَ الأنعامِ في حالِ امْتناعِكُم مِنَ الصيد، وأنْتُمُ مُحْرِمُونَ، لِئَلاّ نَتحرَّج عليكم.
قال أبو حَيّان: وقد بَيَّنَا فسادَ هذا القولِ بأنَّ الأنعامَ مُبَاحَةٌ، مُطْلقاً لا بالتَّقْييدِ بهذا الحالِ.
قال شهاب الدين: وهذا الرَّدُ لَيْسَ بشيءٍ؛ لأنَّه [إذا] أحَلَّ لهم بعضَ الأنعامِ في حالِ امتناعِهِمْ مِنَ الصيد، فأن يحلَّها لهم وهم غير مُحْرِمين بطريق الأوْلَى و «حُرُم» جمع «حَرَام» بمعنى مُحْرم.
قال: [الطويل]
١٩١٦ - فَقُلْتُ لَهَا:
فِيئي إليكِ فإنَّني حَرَامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أيْ: مُلَبٍّ، وأحْرَمَ إذا دَخَل في الحَرَمِ، أو في الإحْرَامِ.
173
وقال مَكيُ بنُ أبي طالب: هو في موضع نَصْبٍ على الحال [من] المضمر في «مُحِلّي»، وهذا هو الصحيحُ.
و [أما] ما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ، فلا يَظْهَرُ فيه مجيءُ الحالِ من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة.
وقرأ يَحْيَى بنُ وثَّاب، وإبراهيم والحسن «حُرْم» بسكون الراء.
وقال أبو الحسن البصريُّ: هي لغة «تَمِيم» يَعْنِي يُسَكِّنون ضمة «فُعُل» جمعاً، نحو: «رُسْل». قد تقدم كلامُ المعربين في الآية الكريمة.
قال المفسرون: معنى الآيةِ، أحِلَّتْ لَكُم الأنعامُ كُلُّها، إلا ما كان منها وَحْشِيًّا؛ [فإنه صَيْدٌ] لا يَحِلُّ لكم في حال الإحرامِ، وقوله: ﴿لأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ استثناءٌ مُجْمل، واستثناءُ المجمل من الكلام المفصل يجعلُ ما بقي بعد الاستثناء مُجْملاً، إلاَّ أن المفسرِينَ أجْمعوا على أنّ المرادَ من هذا الاستثناءِ هو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣] ووجهُ هذا أن قوله ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾ يقتضي إحْلاَلَها لهم على جميع الوجوهِ، ثُمَّ بيَّن أنّها إنْ كانت مَيْتةً أو موقُوذةً أو مُتردِّيةً أو نَطيحةً أو افترسها السبعُ أو ذُبِحت على غير اسم الله فهي مُحرمةٌ.
وقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد﴾ معناه: أنه لما أحلّ بهيمة الأنعام، ذكر الفرقَ بين صيدها وغيره، فبيَّن أنَّ كُلَّ ما كان صَيْداً، فإنّه حلالٌ في الإحلالِ دُونَ الإحرامِ، وما لم يكنْ صيداً فإنّه حلالٌ في الحاليْنِ جَمِيعاً.
174
وظاهرُ هذه الآيةِ يَقْتضِي أنّ الصيد مُطْلقاً حَرَامٌ على المُحْرم، [إلاَّ أنَّه تعالى أباح في آيةٍ أخْرَى أنّ الصيدَ المحرَّمَ على المحْرِم] إنَّما هو صيدُ البَرِّ لا صيدَ البحرِ، بقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ [المائدة: ٩٦] فبيَّن ذلك الإطلاق.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ أيْ أنَّ الله تعالى أباح الأنعامَ في جميع الأحوالِ، وأباح الصيد في بعضِ الأحوالِ دُون بعضٍ، فلو قال قائلٌ: ما السببُ في هذا التفصيل والتَّخْصيصِ، كان جوابهُ: أنَّه تعالى مالك الأشياءِ وخالقها فلا اعْتراضَ عليه في حُكْمه.
175
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ الآية لما حَرّم [الله] الصيد على المحرم نَهَى في هذه الآيةِ عن مخالفةِ تكاليفِ الله تعالى.
قال المُفسِّرون: نزلتْ في الحطم، واسمُه: شُرَيْحُ بنُ ضُبَيْعَةَ البَكْرِيّ، «أتى المدينة، وخَلَّفَ خَيْلهُ خارجَ المدينةِ، ودخل وَحْدَه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال [له:] إلام تدعُو الناس إليه؟، فقال:» إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاةِ «، فقال حسنٌ، إلاّ أنّ لي أمراء لا أقطعُ أمْراً دُونهم، ولَعَلِّي أسْلِمُ وَآتِي بهم، وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأصحابه:» يدخلُ عليكم رجلٌ مِنْ رَبيعَة يتكلم بلسانِ شَيْطان «ثم خرج شُرَيْحٌ منْ عنده، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِر، وخرج بِقَفَا غَادِرٍ، وما الرَّجُلُ بِمُسْلمٍ «، فمرّ بِسَرْحِ المدينة فاسْتاقَه وانْطلقَ، فتَبعُوه وَلَمْ يُدْرِكُوه، فلما كان العامُ المقبلُ خرج حَاجًّا في حُجاج بَكْر بن وائلٍ مِنْ اليمَامَةِ، ومعه تجارةٌ عظيمةٌ، وقد قَلَّدُوا الهَدْي، فقال المسلمونَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذا الحطم قد خرج حَاجًّا، فخلِّ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنّه قَدْ قَلَّد الهديَ «، فقالوا: يا رسول الله هذا
175
شيءٌ كنا نفعله في الجاهلية، فأبَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فأنزل الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ الآية.
قال ابن عباسٍ ومجاهدٌ: هي مناسِكُ الحج، وكان المشركون يَحُجُّونَ فيهدُونَ، فأراد المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم فناههم الله عن ذلك.
وقال أبُو عُبَيْدَة: «شَعَائِرَ الله» هي الهَدَايَا [المُشْعَرةُ لقوله تعالى: ﴿والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله﴾ [الحج: ٣٦]، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه تعالى ذكر ﴿شَعَآئِرَ الله﴾ ] ثم عطف عليها الهدايا، والمعطوفُ يجبُ أنْ يكون مُغَايِراً للمعطوف [عليه]، والإشعارُ من الشعار وهي العلامَةُ، وإشعارُهَا إعلامُهَا بما يُعْرَفُ أنَّها هَدْيٌ، والشَّعَائِرُ جَمْعٌ، والأكثرونَ على أنَّهُ جَمْعُ شَعيرَة.
وقال ابنُ فارسٍ: واحِدَتُهَا شِعَارةٌ، والشَّعِيرةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعنى مفعلة والمُشْعَرَةُ: المُعْلَمَةُ، والإشْعَارُ: الإعلامُ، وكُلُّ شَيْءٍ أشْعرَ فقد أعْلم، وهو هاهنا أنْ يُطْعَنَ في صَفحةِ سنَان البَعير بحديدةٍ حَتّى يَسِيلَ الدَّمُ، فيكونَ ذلك علامَةً أنها هَدْيٌ، وهي سنَّةٌ في الهدايا إذَا كانَتْ من الإبل.
وقاسَ الشَّافِعِيُّ البَقَرَ على الإبل في الإشْعارِ، وأمّا الغنمُ فلا تُشْعَرُ بالجرح، فإنها لا تَحْتَمِلُ الجُرْحَ لِضَعْفِهَا.
وعند أبي حَنِيفَةَ لا يُشْعَرُ الهَدْيُ.
وروى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عباس: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ في أنْ تَصِيد وأنْتَ مُحْرم لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾.
وقال السُّدِّيُّ: أراد حرمَ الله، وقيل المرادُ النَّهْيُ عَنِ القتلِ في الحرمِ.
وقال عطاءُ: «شَعَائِرَ اللَّهِ» حُرُمَاتِ اللَّهِ.
176
ثم قال: ﴿وَلاَ الشهر الحرام﴾ أي بالقتال فيه، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: ٣٦] فقيل هي: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحَجَّةِ ومُحَرَّمٌ ورَجَب، فقوله: ﴿وَلاَ الشهر الحرام﴾ يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ رجب، لأنَّه أكمل هذه الأشهرَ الأربعةَ في هذه الصفة.
وقال ابنُ زَيْدٍ: هي النَّسِيءُ؛ لأنَّهُم كَانُوا يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرِّمُونَه عَاماً.
قال: «وَلاَ الْهَدْي».
قال الواحدي: الهدي ما أهْدِيَ إلى بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ مِنْ نَاقَةٍ أو بَقَرَةٍ أوْ شَاةٍ، وَاحِدُهَا هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدَّالِ، ويُقالُ [أيضاً] : هَدِيِّةٌ، وجمعها هَديّ قال الشاعر: [الوافر]
١٩١٧ - حَلَفْتُ برَبِّ مكَّة والمُصَلَّى وأعْنَاقِ الهديِّ مُقَلَّداتِ
ونَظِيرُ هذِهِ الآيَةِ قولُهُ تعالى: ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: ٩٥]، وقولُهُ: ﴿والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥].
قَوْلُهُ سُبحانَهُ: ﴿وَلاَ القلاائد﴾ [أيْ: ولا ذَواتِ القَلاَئِد] عَطفٌ على الهَدْي مُبَالَغَةً في التوصية بها؛ لأنَّها أشَرَفُ الهَدْي، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] كأنَّهُ قِيلَ: وَذَواتِ القَلاَئِد] كأنَّهُ قِيلَ: وَذَواتِ القلائِدِ مِنْهَا خُصُوصاً.
قال القُرْطُبِيُّ: فَمَنْ قَالَ المرادُ بالشَّعَائِرِ المناسِكُ، قال: ذَكَرَ الهَدْي تَنْبيهاً عَلَى تَخْصيصه، ومَنْ قَالَ: الشَّعَائِرُ الْهَدْي قال: الشَّعَائِرُ مَا كَانَ مُشْعَراً، أيْ: مُعْلَماً بإسَالَةِ الدَّمِ من سنامه، والْهَدْي ما لم يُشعَر، [اكْتَفَى فِيهِ بالتَّقْلِيدِ، وقيل: الشعائرُ هي البُدنُ مِنَ الأنْعامِ، والْهَدْيُ البقر والغَنَمُ والثِّيَابُ وكُلُّ ما يُهدى].
وقال الجُمْهُور: الهَدْيُ عامٌّ في كُلِّ ما يُتقرّبُ به من الذَّبَائحِ والصَّدَقَاتِ، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المُبَكِّرُ للجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنة»، إلى أنْ قَالَ: «كالمُهْدِي بَيْضَة» فَسَمَّاهَا هَدْياً، وتسميةُ البَيْضَةِ هَدْياً إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ وكذلك قال العلماءُ: إذَا قالَ جعلتُ ثَوْبِي هَدْياً فَعَلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ إلاَّ أنَّ الإِطْلاَقَ يَنْصَرِفُ إلى أحَدِ الأصْنَافِ
177
الثَّلاثَةِ مِنَ الإبِلِ والْبَقَرِ والْغَنَمِ، وسَوْقُها إلى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ، وهَذَا إنَّما يُلَقَّى مِنْ عُرْف الشَّرع.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾ [البقرة: ١٩٦] وأراد به الشَّاةَ، وقال: ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: ٩٥]، وأقَلُّهُ شاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
وقال مَالِكٌ: «إذَا قَالَ: ثَوْبِي هَدْيٌ، يَجْعَلُ ثَمَنُهُ في هَدْيٍ».
ويجوز أنْ يكونَ المرادُ «والقَلاَئِدَ» حَقيقَةً، ويكونُ فِيهِ مبالغَةٌ في النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْي المَقلَّدِ بِهَا، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور: ٣١] ؛ لأنَّهُ نَهَى عَنْ إظْهارِ الزِّينةِ، فَمَا بالُكَ بِمَواضِعِهَا مِنَ الأعْضَاءِ، والقَلاَئِدُ: جَمْعُ قِلاَدَة وَهِيَ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى عُنُقِ البَعيرِ.
وقالَ عَطَاءٌ: أرَادَ أصْحَابَ القَلاَئِدِ، وذلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا في الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أرَادُوا الخُرُوج مِنَ الحرمِ قَلَّدُوا أنْفُسَهُم وإبلَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ، كَيْلاَ يُتعرَّض لَهُمْ، فَنَهى الشَّرْعُ عَنِ اسْتِحْلاَلِ شَيْءٍ مِنْهَا.
قوله تعالى: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾.
أيْ: وَلاَ تُحِلُّوا قوماً آمين، أيْ: قَاصِدِينَ، ويَجُوزُ أنْ يكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أيْ: لا تُحِلُّوا قِتَالَ قَوْم [أوْ أذَى] قَوْمٍ آمِّينَ.
وقَرَأ عَبْدُ الله وَمَنْ تبعَهُ: «ولا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ» بِحَذْفِ النّونِ، وإضَافَةِ اسْمِ الفَاعِلِ إلى مَعْمُولِهِ، والْبَيْتُ نُصِبَ على المفْعُولِ بِهِ ب «آمين» [أيْ:] قاصِدِينَ الْبَيْتَ، وَلَيْسَ ظَرْفاً.
وَقولُهُ: «يَبْتَغُونَ» حالٌ مِنَ الضَّميرِ في «آمِّينَ»، أيْ: حَالَ كَوْنِ «الآمِّينَ» مُبْتَغِينَ فَضْلاً، وَلاَ يَجُوزُ أنْ تكُونَ هَذِهِ الجملةُ صِفَةٌ ل «آمِّين» ؛ لأنَّ اسْمَ الفَاعِلِ مَتَى وُصِفَ بَطَلَ عَمَلُهُ على الصَّحيحِ. وخَالَف الكُوفيُّونَ فِي ذلِكَ.
وأعْرَبَ مَكي هذه الجملة صِفَةً ل «آمين»، ولَيْسَ بِجيِّدٍ لما تقدَّمَ، وكأنَّهُ تَبعَ في ذَلِكَ الكُوفِيِّين.
وهَاهُنَا سُؤالٌ، وهَوَ أنَّهُ لم لا قيل بجوازِ إعْمَالِهِ قَبْلَ وَصْفِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ قِيَاساً
178
على المصْدَرِ، فإنَّه يعملُ قَبْلَ أنْ يُوصَفَ، نَحْو: يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ زيداً شديدٌ.
والجُمْهُورُ عَلى «يَبْتَغُونَ» بيَاءِ الْغَيْبَةِ، وقَرَأ حُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ، والأعْرَجُ «تَبْتَغُونَ» بِتَاءِ الخِطَابِ، على أنَّه خطابٌ للمؤمنينَ، وهي قلقَةٌ، لقوله: «مِنْ ربِّهمْ» وَلَوْ أُريد خطَابُ المؤمنينَ، لكانَ تَمامُ المناسَبَةِ ﴿تَبْتَغُون فَضْلاً مِنْ ربِّكُم﴾ و «من ربِّهمْ»، يجُوزُ أن يتعلَّقَ بِنَفْسِ الْفَعْلِ، وأنْ يتعلَّقَ بمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل «فَضْلاً»، أيْ: فَضْلاً كَائِناً «مِنْ ربِّهِمْ».
وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ضَمِّ رَاءِ «رُضْوَان» في آلِ عمران.
وإذا عَلَّقْنَا «مِنْ ربِّهمْ» بِمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل «فَضْلاً»، فَيَكُون قَدْ حَذَفَ صِفَةَ «رِضْوَان» لِدلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أيْ: وَرِضْوَاناً مِنْ رَبِّهِم.
وَإذَا عَلَّقْنَاهُ بِنَفْسِ الفِعْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ.

فصل


قِيلَ: المرادُ ب «الفَضْل» الرِّزْقُ بالتِّجارَةِ و «الرِّضْوَانُ»، أيْ: عَلَى زَعْمِهِمْ؛ لأنَّ الكَافِرَ لا نَصِيبَ لَهُ فِي الرِّضْوَانِ.
قال الْعُلَمَاءُ: المشركون كَانُوا يَقْصدُونَ بِحَجِّهِمْ رضْوَان اللَّهِ، وَإنْ كانُوا لا يَنَالُونَ ذَلِكَ فَلا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بسَبَبِ ذَلِكَ القصدِ نَوْعٌ مِنَ الْحُرْمَةِ.
وَقِيلَ: المرادُ بِفَضْلِ اللَّهِ الثَّوابُ، وبالرِّضْوانِ أنْ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهم؛ وذَلِكَ لأنَّ الْكَافِرَ وإنْ كان لا ينَالُ الفضْل والرِّضْوَان لَكِنَّهُ يَظُنُّ [أنَّهُ بِفِعْلِهِ طَالبٌ لهما] فَوُصِفَ بذلِكَ بِنَاءً على ظَنهِ، كقوله: ﴿وانظر إلى إلهك﴾ [طه: ٩٧]، وقوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].

فصل


قال قَوْمٌ: هذه الآيةُ مَنْسُوخَةٌ؛ لأنَّ قوله تعالى: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام﴾ يَقْتَضي حُرْمَةَ القِتَالِ [في] الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ يقُولُ اللَّهُ تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وقوله: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ يَقْتَضِي حُرْمَة مَنْعِ
179
المُشْرِكِينَ عن المسْجِدِ الحرامِ، وذلك مَنْسُوخٌ بقوْلهِ: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام﴾
[التوبة: ٢٨] وهوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وُمجَاهِدٍ والحسَن وقتادَةَ.
وقال الشَّعْبيُّ: لم يُنْسخْ مِنْ سورةِ المائدةِ إلاَّ هذهِ الآية، وقال آخرُون: هذه الآيةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وهؤلاء لَهُم طَريقَانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الله تعالى أمَر في هذه الآية ألاَّ نُخيفَ مَنْ يَقْصُدُ بَيْتَهُ من المُسْلِمينَ، وحَرَّمَ عَلَيْنَا أخْذَ الْهَدْي مِنَ المُهْدين إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ لقوله أوّلِ الآية: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ وهذا إنَّما يَلِيقُ بنُسُكِ المسلمينَ لا بنُسُكِ الكُفَّار، وقولُهُ آخِرِ الآية: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ وهذا إنَّمَا يَلِيقُ بالمسلمِ لاَ بالْكافِرِ.
والثاني: قال أبُو مُسْلِم: المرادُ بالآيةِ الكفارُ الذين كَانُوا في عَهْد النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَمَّا زَالَ [الْعَهْدُ زَالَ] الحَظْرُ، وَلَزِمَ المُرَادُ بقوله: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨].
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ وقُرِئ «أحْلَلْتُم» وهي لُغَةٌ في «حَلَّ»، يُقَالُ: أحلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، كما يُقَالُ: حَلَّ.
وَقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ عِمْران وأبُو وَاقِدٍ والجَرَّاح بِكَسْرِ الْفَاءِ العَاطِفَةِ وهِيَ قَراءَةٌ ضَعِيفَةٌ مُشْكِلَةٌ.
وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أنَّ الكَسْرَ فِي الْفَاءِ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ [في] الابْتِدَاءِ.
وقال ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ قِرَاءةٌ مُشْكِلَةٌ، وَمنْ توجيهها أنْ يكُونَ راعَى كَسْرَ ألف الوَصْلِ إذَا ابْتَدَأ فَكَسَر الْفَاءَ مُرَاعَاةً، وتَذَكُّراً لِكَسْرِ ألِفِ الْوَصْلِ.
وقال أبُو حَيَّان: وليس هُو عِنْدي كَسْراً مَحْضاً، بَلْ هو إمالةٌ مَحْضَةٌ لتوهُّمِ وُجُودِ كَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، كَمَا أمَالُوا «فإذَا» لِوُجُودِ كَسْرِ الهَمْزَة.

فصل


هَذَا أمْرُ إبَاحَةٍ، أبَاحَ لِلْحُلاَّلِ أخْذَ الصَّيْدِ، وظَاهِرُ الأمْرِ وإنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فهو هنا للإبَاحَةِ، كقوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض﴾ [الجمعة: ١٠]، وهو كقول القائِلَ: «لا تَدخُلَنَّ هذِهِ الدَّارَ حَتّى تُؤدِّيَ ثَمَنَها، فإذَا أدَّيْتَ فادْخُلْهَا» أيْ: فإذا أدَّيْتَ فقد
180
أبيحَ لك دُخُولُهَا، وحاصِلُ الكلام أنَّا إنَّما عَرَفْنَا أنَّ الأمرَ هُنَا لَمْ يُفد الوُجوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وهذه الآيةُ مُتَعلِّقَةٌ بقوله ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١] يعني [إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِن] حل الاصطِيَادِ هُوَ الإحْرَامُ، فإذَا زَالَ الإحْرَامُ وَجَبَ أنْ يَزُول المنْعُ.
قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ قرأ الجمهور: «يَجْرمنكم» بفتحِ اليَاءِ مِنْ «جَرَمَ» ثُلاثياً، وَمَعْنَى «جَرَمَ» عِنْدَ الكِسَائِيِّ وثَعْلَبٍ «حَمَلَ»، يقال: جَرَمَهُ على كَذا، أيْ: حَمَلَهُ علَيْهِ.
قال الشاعر: [الكامل]
١٩١٨ - وَلَقَدْ طَعَنْت أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَة [جَرَمَتْ فَزَارَة] بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا
فَعَلى هذا التَّفْسِير يتعدَّى «جَرَم» لِوَاحدٍ، وهو الكافُ والميمُ، ويكونُ قولُهُ: «أَن تَعْتَدُواْ» عَلَى إسْقَاطِ حَرْفِ الخَفْضِ، وهو «عَلَى» أيْ: وَلاَ يَحْمِلنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ على اعْتِدَائِكُم عليْهِم، فَيَجِيءُ في مَحَلِّ «أنْ» الخلافُ المشْهُورُ، وإلى هذا المعْنَى ذَهَب ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادَةُ.
ومَعْنَاهُ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرَّاءِ: كسب، وَمِنْهُ فُلانٌ جَريمةُ أهْلِهِ أيْ: كَاسِبُهُم.
وعَنِ الكِسَائيّ - أيضاً - أنَّ جَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنَى: كَسَبَ غَيْرَهُ فَالْجَرِيمَةُ والجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ، وأجْرَمَ فُلانٌ أيْ: اكْتَسَبَ الإثْمَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الوافر]
١٩١٩ - جرِيمَةُ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ تَرَى العِظَام ما جَمَعتْ صَلِيبا
أيْ: كَاسِبٌ قُوَّةً، والصَّلِيبُ الوَدَكُ.
قال ابنُ فَارِسٍ: يُقَالُ جَرَمَ وأجْرَمَ، ولا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: لا بُدَّ وَلاَ مَحَالَةَ [وأصْلُه] مِنْ جَرَمَ أيْ: كَسَبَ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أحدهُمَا: أنَّهُ مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ.
181
والثاني: [أنَّهُ] مُتَعَدٍّ لاثْنَيْنِ، [كما أنَّ «كَسَبَ» كَذلِكَ، وأمَّا في الآية الكريمة فلا يكون إلاَّ مُتَعَدِّياً لاثْنَيْن:] أوَّلُهمَا: ضَمِيرُ الْخطَابِ، والثَّانِي: «أنْ تَعْتَدُوا» أيْ: لا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُكَمْ لقوم الاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ.
وَقَرَأ عَبْدُ الله «يُجْرِمَنَّكُمْ» بِضَمِّ الياءِ مِنْ «أجْرَمَ» رُبَاعِيّاً.
وقيل: هو بمعنى «جَرَم» كما تقدم عن الكِسَائِي.
وقيل: «أجْرَمَ» مَنْقُولٌ مِنْ «جَرَم» بهمزة التَّعْدِية.
قال الزَّمَخْشَرِيّ: «جَرَمَ» ؛ يجري مَجْرَى «كَسَبَ» في تعْدِيَتهِ إلى مَفْعُولِ وَاحِدٍ وإلى اثْنَيْن، تقولُ: جَرَمَ ذَنْباً أيْ كَسَبَهُ، وجرَمْتَهُ ذَنْباً، أيْ كَسَبْتَهُ إيَّاهُ، ويقال أجْرَمْتُه ذَنْباً على نقل المُتَعَدِّي إلى مفعولٍ بالهمزةِ إلى مَفْعُولَيِْنِ كقولك: أكْسَبْتُهُ ذَنْباً، وعليه قراءةُ عبْدِ الله «وَلاَ يُجْرمَنَّكُمْ» وأوَّلُ المفعوليْنِ على القراءتين ضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ. وثانيهما: «أَنْ تَعْتَدُوا» اه.
وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابنُ عيسَى الرُّمَّانِي - القطعُ، فَجَرَمَ حُمِلَ عَلَى الشَّيءِ لِقَطْعِهِ عَنْ غيره، وجَرَمَ كَسَبَ لانْقِطَاعِهِ إلى الكَسْبِ، وجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ؛ لأنَّ الحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ.
قَالَ الخَلِيلُ: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾ [النحل: ٦٢] أيْ: لقد حَقَّ [هكذا] قاله الرُّمانيُّ، فجعل بين هذه الألفاظ قَدْراً مُشْتركاً، وليس عنده مِنْ باب الاشْتِراكِ اللَّفْظِيّ.
و «شَنآن» [معناه] : بُغْض، وهو مَصْدَرُ شَنىءَ، أيْ: أبْغَضَ.
وقرأ ابْنُ عَامِرٍ وأبُو بَكرٍ عَنْ عَاصِمٍ «شَنْآنُ» بسُكونِ النُّونِ، والباقون بِفَتْحِهَا، وجَوَّزُوا فِي كُلٍّ منهما أنْ يكونَ مَصْدراً، وأنْ يكُونَ وَصْفاً حَتَّى يُحْكى عَن أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قال: مَنْ زَعَمَ أنَّ «فَعلاَن» إذَا سُكِّنَتْ عَيْنُهُ لَم يكُنْ مَصْدَراً فَقَدْ أخْطَأ، لأنَّ «فَعْلان» بِسُكُونِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ في المصَادِرِ، نحو: لَوْيتُه دَيْنَه لَيَّاناً، بَلْ هُوَ كَثير في الصِّفَاتِ نَحْوُ: سَكْرَان وَبَابُهُ و «فَعَلاَن» بالْفَتْحِ قليلٌ في الصفاتِ، قالُوا: حِمَارٌ قَطَوَان، أي: عَسِرُ السير، وتَيْسٌ عَدَوَان.
182
قال: [الطويل]
١٩٢٠ -.............................. كَتَيْس ظِبَاءِ الْحُلَّبِ العَدَوَانِ
ومِثْلُهُ قولُ الآخَرِ، أنْشَدَهُ أبُو زَيْدٍ: [الطويل]
١٩٢١ - وقَبْلَكَ مَا هَابَ الرِّجَالُ ظُلاَمَتي وَفَقَّأتُ عَيْنَ الأشْوَسٍ الأبَيَانِ
بِفَتْحِ الباء واليَاء، بل الكثيرُ أنْ يكُونَ مَصْدَراً، نحو: الغَلَيَان والنَّزَوَان، فإن أريد ب «الشَّنْأنَ» السَّاكِن الْعَيْنِ الوصْفُ، فالمعْنَى: وَلاَ يَجرمنكُمْ بَغيضُ قَوْمٍ، وَبَغيضٌ بِمَعْنَى: مُبْغِضٍ، اسمُ فاعِلٍ من «أبْغَضَ»، وهو مُتعدٍّ، فَفَعِيلٌ بمعنى الفاعِلِ كقَدِير ونَصِير، وإضافَتُه ل «قوْمٍ» على هذا إضَافَةُ بيانٍ، أيْ: إنَّ البغيض مِنْ بَيْنِهم، وليس مَضَافاً لفاعِل ولا مَفْعولٍ، بخلاف ما إذَا قَدَّرْتَهُ مَصْدراً فإنه يكون مُضَافاً إلى مَفْعُولِهِ أوْ فَاعِلِه كما سيأتي.
وقال صاحبُ هذا القول: يُقَالُ: رَجُلٌ شَنْآنُ، وآمْرأةٌ شَنْآنَةٌ، كنَدْمَانَ، ونَدْمَانَةٍ، وقياسُ هذا أنْ يكونَ مِنْ فِعْلٍ متعد [وحكي: رجل شَنْآن، وامرأة شَنْأى ك «سكران وسكرى» وقياس هذا أن يكون من فعل لازم]، ولا بُعْدَ في ذلك، فإنَّهم قد يشتقُّون من مادَّةٍ واحدةٍ القَاصِرَ والمتعدِّي، قالُوا: فَغَرْتُ فاه، وفَغَرَ فوه أيْ: فَتَحته فانفتح، [وإنْ] أُرِيدَ بِه المصدَرُ فَوَاضِحٌ، ويَكُونُ مُضَافاً إلى مفعُولِه، أيْ: بُغضكم لِقَوْم، فحذف الفاعل، ويجوزُ أنْ يكونَ مُضَافاً إلى فاعلِهِ، أيْ بُغْضُ قَوْمٍ إيَّاكُمْ، فحذف مَفْعُولَهُ.
والأوَّلُ أظْهَرُ في المعنى، وحُكْمُ شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونَ مَصْدَراً وَصِفَةُ حُكْم إسْكَانِهَا، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ومِنْ مَجِيءِ شَنْآن السَّاكِنِ الْعَيْنِ مَصْدَراً قَوْلُ الأحوصِ: [الطويل]
١٩٢٢ - وَمَا الْحُبُّ إلاَّ مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي وإنْ لاَمَ فيه الشَّنَانِ وَفَنَّدَا
أرَادَ الشَّنْآنَ بِسُكُونِ النُّونِ فنقل حركة الهمزة إلى النُّونِ السَّاكنة، وحذف الهمزة [ولَوْلاَ سُكُونُ النُّونِ لما جَازَ النَّقْلُ ولو قال قَائِلٌ: إنَّ الأصْلَ الشَّنَآنُ بفتح النون] وخَفَضَ الهَمْزَةَ بحَذْفِهَا رَأساً، كما قُرِئ ﴿إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر﴾ [المدثر: ٣٥] بحذفِ
183
همزة «إحْدَى» لكانَ قَوْلاً يَسْقُطُ به الدليلُ لاحتماله، و «الشَّنآن» بالفتح عَمَّا شذَّ عن القاعدةِ الكُلِّيَّةِ.
قال سِبَوَيْه: كُلُّ بِنَاءٍ مِنَ المصادِرِ على وَزْنِ «فَعَلاَن» بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَم يتعدَّ فِعْلُهُ إلاَّ أنْ يَشذَّ شيءٌ كالشَّنَآنِ، يَعْنِي أنَّه مصدرٌ على «فَعَلاَن» بالفتح، ومع ذلك فعْلُهُ مُتَعِدّ، وفعلهُ أكثرُ الأفعالِ مَصَادِر سُمِعَ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدراً، قالُوا: شَنِئَ يَشْنَأُ [شَنْئاً] وشَنآناً مُثَلَّثي الشِّين، فهي سِتُّ لُغَاتٍ.
وَقَرَأ ابْنُ وُثَّابٍ، والحسنُ، والوليدُ عَنْ يَعْقُوبَ «يَجْرِمَنْكُمْ» بِسُكُونِ النُّون جعلوها نون التوكيد الخَفِيفةِ، والنَّهيُ في اللَّفْظِ للشَّنْآنِ، وهو في المعنى للمُخَاطبينَ نحو: «لا أريَنَّكَ هاهُنَا» و ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قالَهُ مَكِّيٌّ.

فصل


قال القَفَّالُ: هذا معطوفٌ على قوله: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ إلى قوله: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ يعني: لا يَحْمِلَنكمْ عَدَاؤُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عن المسْجِد الحَرَامِ أنْ [تَعْتَدوا فَتَمْنَعُوهُمْ] عَنِ المسْجِد الحرامِ، فإنَّ البَاطِل لا يَجُوز أنْ يعتدَى به.
قال محمدُ بنُ جَرِير: هذه السورةَ نزلتْ بعد قِصَّةِ «الحُدَيْبِيَةِ»، فكان الصَّدُّ قد تقدّمَ، وليس للناس أنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً على العُدْوانِ، حتى إذا تَعَدَّى واحدٌ منهم على الآخر [تَعَدَّى ذلك الآخرُ] عليه، لكنَّ الواجبَ أنْ يُعِينَ بَعْضُهُم بَعْضاً على ما فيه البِرُّ والتَّقْوَى.
قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَن صَدُّوكُمْ﴾.
قرأ أبُو عَمرو، وابْنُ كَثِيرٍ، بِكَسْرِ «إنْ»، والباقُون بِفَتْحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أنَّها شَرْطِيَّةٌ، والْفَتْحُ على أنها عِلَّةٌ للشنآنِ، أيْ لا يَكْسبَنَّكُمْ أوْ لا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْم لأجْلِ صَدِّهِمْ إيَّاكُم عن المسْجِد الحرامِ، وَهِيَ قِراءةٌ واضِحَةٌ، وقد اسْتَشْكَلَ [الناسُ] قراءةَ الأخَويْن مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي أنَّ الأمْرَ المشروطَ لَمْ يَقَعْ والغَرضُ أن صَدَّهُمْ
184
عنِ البيت الحَرَامِ كان قَدْ وَقَعَ، ونزولُ هذه الآيةِ مُتَأخرٌ عنه بمدّةٍ، فإنَّ الصَّدَّ وقع عَامَ «الحُدَيْبِيَة» وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ، والآيةُ نزلَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وأيضاً، فإنَّ «مَكَّةَ» كانت عامَ الفتحِ في أيْدِيهم، فكيف يُصَدُّونَ عَنْها.
قال ابنُ جُرَيْج والنَّحاسُ وغيرُهما: هذه القراءةُ مُنْكَرَةٌ، واحْتَجُّوا بما تقدَّمَ مِنَ الإشْكَالِ.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا إشْكَالَ في ذَلِكَ، والجوابُ عَمَّا قَالُوه مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: ألاَّ نُسَلم أن الصَّدَّ كان قبلَ نُزولِ الآية؛ فإنَّ نُزُولَهَا عامَ الفتح ليس مُجْمَعاً عليه.
وذكر اليزيدِيُّ أنَّها نزلتْ قبل الصَّدِّ، فصاد الصدُّ أمراً مُنْتَظَراً.
والثاني: أنَّهُ وَإنْ سَلَّمْنَا أنَّ الصَّدَّ [كان مُتقَدِّماً على نُزُولِها، فيكون المَعْنَى: إنْ وقع صَدٌّ مِثْلُ ذلك الصدِّ] الذي وقع زمن «الحديبية» «فَلاَ يَجْرِمَنكُم».
قال مَكِّي: ومثلُه عند سيبويْهِ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: [الطويل]
١٩٢٣ - أتَغْضَبُ إنْ أذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا........................
[وذلك شَيْء قد كان وقع، وإنما معناهُ:] إنْ وقع مِثْلُ ذلِكَ الغَضَبِ، وجوابُ الشَّرْطِ ما قَبْلَهُ، يَعْنِي: وجوابُ الشرطِ ما دَلَّ عليه ما قَبْلَهُ؛ لأنَّ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ تَقْدِيمَ الْجَواب إلاَّ أبَا زَيْدٍ.
وقال مَكِّي - أيضاً -: ونظيرُ ذلك أنْ يقولَ الرجلُ لامْرأتِهِ: أنْتِ طَالقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، بِكَسْر «إنْ» لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِهَا الأوَّلِ؛ لأنَّه أمْرٌ يُنْتَظَرُ، وَلَوْ فَتَحَ لَطُلِّقَتْ عَلَيْه؛ لأنَّه أمرٌ كَانَ وَوقَعَ، فَفَتْحُ «أنْ» لما هو عِلّةٌ لما كان ووقع، وكسرُهَا إنَّما هو لأمرٍ مُنتظر، والوَجْهَانِ حَسَنانِ على معنييهما وهذا الذي قاله مَكِّي فَصَّل فيه الفقهاءُ بين مَنْ يعرفُ النحوَ، وبين مَنْ لا يعرِفُهُ، وَيُؤيِّدُ هذه القراءةَ قراءةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «إنْ يَصُدُّوكُمْ».
185
قال أبُو عُبَيْدَة: حدثنا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ، قَالَ: قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ فذكرها قال: وهذا لا يَكُونُ إلاَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الصَّدِّ، يعني إنْ وقع صَدٍّ آخر، مِثْلُ ما تَقَدَّمَ في عام «الحُدَيْبِيَة».
ونَظْمُ هذه الآياتِ على ما هِيَ عَلَيْهِ مِنْ أبْلَغِ مَا يَكُونُ وأفْصَحه، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخيرٌ كما زعم بعضُهم، فقال: أصلُ تركيب الآية الأولى ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١] فإذا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا.
وأصلُ تركيب الثَّانِيَة: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾.
ونَظَّرَه بآيةِ البقرةِ يَعْنِي: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧]، وهذا لا حاجة إليه مع أنَّ التقديمَ والتَّأخيرَ عند الجمهورِ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ، فَيَجِبُ تَنْزيهُ القرآنِ عَنْه، ولَيْست الجملةُ - أيضاً - مِنْ قوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ مُعْتَرِضَةً بَيْن قوله: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ وبَيْنَ قوله: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾، بَلْ هي مؤسِّسةٌ ومُنْشِئَةٌ حُكْماً، وهو حِلُّ الاصْطيادِ عند التَّحَلُّلِ مِنَ الإحْرَامِ، والجملة المُعْتَرِضَةٌ إنَّما تُفِيدُ تَوْكيداً وتَسْديداً، وهذه مفيدةٌ حُكْماً جَدِيداً كما تقدم.
وقوله: «أنْ تَعْتَدُوا» قَدْ تقدم أنَّه مِنْ مُتعلقاتِ ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ على أنَّه مَفْعُولٌ ثانٍ، أوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجر، فمَنْ كَسَرَ ﴿إنْ صَدُّوكُمْ﴾ يكُون الشرطُ وجوابُه المقدَّرُ في مَحَلِّ جرٍّ صِفَةً ل «قَوْم»، أيْ: شَنَآنُ قَوْمٍ هذه صِفَتُهُم ومَنْ فتحها فمحلُّها الجَرُّ والنَّصْبُ، لأنَّها على حَذْفِ لامِ الْعِلَّةِ كما تقدم.
قال الزَّمخْشَرِيُّ: والمعنى: ولا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغضُ قَوْمٍ؛ لأنَّ صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه.
قال أبو حيّان: وهذا تفسيرُ مَعْنًى لا تفسير إعْراب؛ لأنّه يمتنعُ أنْ يكون مدلولُ «جرم» حمل وكسب في استعمالٍ واحدٍ لاختلاف مُقتضاهما، فَيَمْتَنِعُ أنْ يكُون [أنْ تَعْتَدوُا] في مَحَلِّ مفعول به، ومحلُّ مفعولٍ على إسْقاطِ حَرْف الجر.
قال شهابُ الدِّين: هذا الذي قاله لا يتصَوَّرُ أنْ يتوهمه من له أدْنَى بَصَرٍ بالصِّنَاعةِ حتى ينبِّهَ عليه.
وقد تقدم قراءةُ البَزِّي في نحو: «ولا تَعاوَنُوا» وأنَّ الأصَل: [ «تتعاونوا»
186
فأدغم] وحذف الباقون إحْدَى التاءيَنْ عند قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ [البقرة: ٢٦٧].
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى﴾ أيْ: ليعن بعضُكم بَعْضاً على البر والتقوى.
قِيلَ: البِرُّ: متابعةُ الأمْرِ، والتَّقْوَى مُجانَبَةُ النَّهْيِ.
وقيل: البرُّ: الإسلامُ، والتقوى: السُّنةُ.
﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾.
قيل الإثُم: الكفرُ، والعُدْوانُ: الظلمُ. وقيل: الإثمُ: المعصيةُ والعُدوان: البِدْعَةُ.
وقال النَّواسُ بْنُ سَمْعان الأنْصَارِيّ: «سُئِلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن البر والإثْمِ، فقال:» البرُّ حُسْنُ الخلقِ، والإثمُ ما حَاكَ في [صَدْرِك]، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه الناسُ «، ثم قال تعالى: ﴿واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ﴾، والمرادُ منه التهديدُ والوعيدُ.
187
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير﴾ الآية.
وهذا هو المُسْتَثْنَى مِنَ الإبَاحَةِ في قوله: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١] وهو أحَدَ عَشَرَ نَوْعاً، وقد تقدم إعرابُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ وأصْلُهَا.
واعلمْ أنَّ تحريمَ الميتةِ موافقٌ للمعقولِ؛ لأنَّ الدمَ جوهرٌ لَطِيفٌ جِداً فإذا ماتَ الحيوانُ حَتْفَ أنْفِهِ احْتَبَسَ الدمُ في عُرُوقِهِ وتعفَّن وفَسَدَ؛ وحصل من أكْلِهِ مَضَرَةٌ.
وأمَّا الدمُ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: كانوا يَمْلَؤُونَ المِعَى مِنَ الدَّمِ وَيَشْوونَهُ ويُطْعمُونَه للضيفِ، فحرّم الله ذلك عليهم.
187
وأما الخنزيرُ فقال العلماءُ: الغذاءُ يصيرُ جُزْءاً من جوهرِ المتغذِّي ولا بُدَّ أنْ يَحْصُلَ لِلْمُتغذِي أخلاقٌ وصفاتٌ مِنْ جِنْسِ ما كان حَاصِلاً في الغذاء، والخنزيرُ مَطْبوعٌ على حِرْصٍ عَظيمٍ ورغبة شديدةٍ في المُشْتهياتِ، فحرَّمَ اللَّهُ أكلهُ على الإنسانِ لِئلاَّ يَتَكيّفَ بِتلْكَ الكيفيّةِ؛ وذلك لأنَّ الفرنج لما وَاظَبُوا على أكْلِ لَحْمِ الخنزيرِ أوْرَثَهُمُ الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المُشْتهياتِ، وأورثهم عدم الغيرةِ، [فإنّ الخِنْزِيرَ يَرَى الذّكرَ من الخنزيرِ يَنْزُو على الأنْثَى التي لَهُ لا يتعرض إليه؛ لعدم الغَيْرةِ، وقد] تقدمَ الكلام على الخنزيرِ واشتقاقِهِ في سورة البقرة.
وأمَّا الشاةُ فإنها حيوانٌ في غَايَةِ السَّلاَمَةِ، وكأنَّها ذَاتُ عَارِيَةٍ عَنْ جَمِيعِ الأخْلاقِ، فلذلك لا يَحْصُلُ للإنسانِ بِسَبَبِ أكْلِها كَيْفِيَّةٌ أجْنَبِيَّةٌ عن أحوالِ الإنسانِ.
وأمَّا ما ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾، والإهلالُ رَفْع الصوتِ، ومنه يقالُ: فلانٌ أهَلَّ بالحجِّ إذَا لَبَّى، ومِنْهُ استهلالُ الصَّبِي وهو صراخُهُ إذا وُلِد، وكانوا يقولُونَ عند الذَّبْح باسم اللاَّتِ والعُزَّى، فحرم الله ذلك، وقدِّمَ هنا لَفْظُ الجلالةِ في قوله: ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ وأخِّرتْ في البقرة [آية ١٧٣] ؛ لأنَّها هناك فاصلةٌ، أو تُشْبِهُ الفاصِلَةَ بخلاف هاهنا، فإنَّ بَعْدَها مَعْطُوفاتٍ.
والمنخنِقَةُ وهي التي تموتُ خَنْقاً، وهو حَبْسُ النَّفَسِ سَواءٌ فعل بها ذلك [آدمِيٌّ أو] اتفق لها ذلك في حَبْلٍ أوْ بين عُودَيْنِ أو نحوه.
وذكر قتادةُ أنَّ أهل الجاهليةِ كانوا يَخْنُقُونَ الشاةَ وغيرَها، فإذا ماتَتْ أكَلُوها، وذكر نحوه ابنُ عباسٍ.
والمَوْقُوذَةُ: وهي التي وُقذَتْ أي: ضُربَتْ حتى ماتت من وَقَذَه أيْ ضَرَبَهُ حتى اسْتَرْخَى، ومنه وَقَذََهُ النُّعَاسُ أيْ: غلبه ووقذه الحُلُم: أيْ: سكنه وكأنَّ المادة دالَّةٌ على سُكُونٍ واسْتِرخاءٍ، ويدل في الموقوذةِ ما رُمِيَ بالبندقِ فماتَ، وهي - أيضاً - في مَعْنى الميتةِ وفي معنى المنخنقةِ، فإنها ماتَتْ ولم يَسِلْ دَمُهَا.
والمتردِّيَةُ: من تَرَدَّى، أي: سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ فَهَلَكَ، ويُقالُ: ما يُدْرَى أين «ردَى» ؟ أيْ: ذَهَبَ، ورَدَى وتَرَدَّى بمعنى هَلكَ.
قال تعالى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى﴾ [الليل: ١١]، والمتردِّي أنْوَاعٌ: فالمترديةُ هي التي تسقطُ مِنْ جَبَلٍ أو مَوْضِعٍ مُشْرِفٍ أو في بِئْر فتموت، فهذه مَيْتَةٌ، لأنَّها ماتَتْ وما سَال
188
منها الدمُ، ويدخل فيه إذا أصابه سَهْمٌ وهو في الجبل فَسَقَطَ على الأرض؛ فإنه يُحَرَّمُ أكْلُه؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ ماتَ بالتَّرَدِّي أوْ بالسَّهْم.
ودخلتِ الهاءُ في هذه الكلمةِ؛ لأنّ المنخنقةَ هي الشاةُ المنخنقةُ، كأنه قِيلَ: حُرِّمَتْ عليكم الشاةُ المنخنقةُ والموْقوذَةُ والمترديةُ، وخَصَّ الشاة؛ لأنَّها من أعَمِّ [ما يَأكُلُ] الناسُ، والكلامُ يُخَرَّجُ على الأعَمِّ الأغْلَبِ، ويكُونُ المرادُ هو الكُلَّ.
و «النَّطِيحَةُ» «فَعيلَة» بمعنى «مَفْعُولة»، وكان مِنْ حَقِّها ألاَّ تَدْخُلَها تاءُ التأنيثِ كقَتِيل وجَريح، إلاَّ أنَّها جَرَتْ مَجْرَى الأسماءِ، أوْ لأنَّها لم يُذْكَرْ مَوصُوفُها؛ لأنك إنْ لَمْ تُدْخِل الهاءَ لَمْ يُعرَفْ أرَجُلٌ هُوَ أمِ امْرَأةٌ، ومثلُهُ: الذَّبِيحَةُ والنَّسيكَةُ. كذا قاله أبُو البَقاءِ، وفيه نظر؛ لأنَّهُم [إنَّما] يلحقون التاءَ إذا لم يذكر الموصوفُ لأجل اللَّبْسِ، نَحْوَ: مررت بِقَتيلةِ بَنِي فُلانٍ، لئلا يلتبس بالمؤنثِ وهنا اللَّبْسُ مُنْتفٍ، وأيضاً فحكم الذكرِ والأنْثَى في هذا سَوَاءٌ.
والنَّطِيحَةُ هي التي تَنْطَحُها الأخْرَى فتموت، وهذه - أيضاً - لأنها ماتت من غير سَيَلانِ الدَّم.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ «مَا» الأولى بمعنى «الَّذِي»، وعائِدُهُ محذُوفٌ، أيْ: وما أكلَهُ السّبُعُ، ومحلُّ هذا الموصولِ الرفعُ عَطْفاً على مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُه، وهذا غيرُ ماشٍ على ظاهره؛ لأنَّ ما أكله السبعُ وفرغ منه لا يُذَكَّى، فلا بُدَّ من حذف. ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وما أكَلَ بَعْضَهُ السبعُ.
وقرأ الحسنُ والفياض وأبو حَيْوة: «السَّبْعُ» بسكون الباءِ، وهو تسكين المضموم، ونقل فتح السين والباء معاً.
والسَّبُعُ: كُلُّ ذِي نَابٍ ومخْلب كالأسدِ والنَّمرِ، ويطلقُ على ذِي المِخْلب من الطيور قال: [الخفيف]
189

فصل


معنى الكلام ما يُريدُ ما بَقِيَ مما أكل السبعُ. قال قتادةُ: كان أهْلُ الجاهلية إذا جَرَحَ السبعُ شَيْئاً فقتله وأكل بعضَه أكلُوا ما بَقِيَ، فحرمه الله.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنه استثناءٌ متصلٌ، والقائلون بهذا اختلَفُوا، فقال عَلِيٌّ، وابنُ عباسٍ، والحسنُ وقتادةُ: هو مُسْتَثْنَى من قوله: «والمُنْخَنِقَة» إلى قوله: ﴿وَمَآ أَكَلَ السبع﴾ وعلى هذا إن أدْرَكْتَ ذكَاتَهُ بأنْ وَجَدْتَ عَيْناً تَطْرِفُ، أوْ ذَنَباً يَتَحرَّكُ، أوْ رجلاً تَرْكُضُ فاذْبَحْ فإنَّهُ حلالٌ، فإنَّ هذه الحالَ تدلُ على بقاءِ الحياةِ فيه بتمامها.
وقال أبُو البَقاءِ: والاستثناءُ راجعٌ على المتردِّيةِ، والنَّطِيحَةِ وأكيلة السبُع، وليس إخراجُه المُنْخَنِقَة [منه بجَيِّدٍ].
ومنهم من قال: هو مستثنى مما أكل السبعُ خاصَّة.
والقولُ الثاني: أنَّه منقطعٌ، أيْ: ولكنْ ما ذَكيْتم مِنْ غيرها فحلالٌ، أو فكُلُوه، كأنَّ هذا القائِلَ رأى أنَّها وَصَلَتْ بهذه الأسبابِ إلى الموتِ، أو إلى حالةٍ قَرِيبةٍ فلم تُفِدْ تَزْكِيتَها عِنْدَه شيئاً.
والتَّذْكِيَةُ: الذَّبْحُ، وذَكَتِ النَّارُ: ارتفعتْ، وأصلُ الذَّكاةِ تمامُ الشيء ومنه الذَّكاءُ في الفهمِ، وهو تمامُهُ [والذكاء] في السِّن، وهو النهايةُ في الشباب، ذَكَى الرجُل أيْ: أسَنَّ، قال: [الوافر]
١٩٢٤ - وسبَاعُ الطَّيْر تَغْدُو بِطَاناً [تَتَخَطَّاهُمُ فَمَا تَسْتقلُّ]
١٩٢٥ - عَلَى أعْرَاقِهِ تَجْرِي الْمَذَاكِي وَلَيْسَ عَلَى تَقَلُّبِهِ وجُهْدِهْ
وقيل: الاستثناءُ من التحريم لا مِنَ المحرماتِ، يَعْنِي، حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ما مَضَى إلاَّ مَا ذَكَّيْتُم فإنه لكم حلالٌ، فيكون الاستثناءُ منقطعاً - أيضاً -.
وإذا قيل: أصلُ التذكيةِ الإتمامُ، فالمرادُ ههنا إتمامُ فَرْي الأوَداجِ وإنْهارِ الدَّم.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَا أنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّه عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ».
190
قال القُرْطُبِيُّ: جمهورُ العلماءِ على أنَّ كلَّ ما أفرى الأوْدَاجَ فأنْهَر الدمَ فهو مِنْ آلاتِ الذَّكاةِ ما خلَى السِّنَّ والظُّفُرَ والعَظْمَ، وعلى هذا تَوَاترتِ الأخبارُ.
وقال به فقهاءُ الأمصارِ، والسنُّ والظُّفُرُ المنهيُّ عنهما في التذكية هما غَيْرُ المنزوعَيْنِ؛ لأنَّ ذلك يَصيرُ خَنْقاً، ولذلك قال ابنُ عباسٍ: ذلك الخنقُ.
فأمّا المنزُوعانِ إذا فَرَيا الأوْدَاجَ فالذكاةُ جائِزَةٌ بِهِمَا عِنْدَهُمْ.
وكره قومٌ السنَّ والظفرَ والعظمَ على كُلِّ حالٍ مَنْزُوعانِ كانا أو غَيْر منزُوعَيْنِ، منهم إبراهيمُ والحسنُ واللّيْثُ بنُ سَعْدٍ، وهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعي.
وأقلُّ الذَّكاةِ في الحيوانِ المقدُورِ عليه قطعُ الحُلْقُومِ والمري، وكمالهُ أن يقطعَ الودجيْنِ معهما، ويجوزُ بكل محدَّدٍ يجرح من حَديدٍ أو قصبٍ أو زجاجٍ أو حجرٍ أو غيره إلاَّ السِّنَّ والظفرَ للحديث المتقدم.
وإنَّما يحلُّ ما ذكيته بعدما جرحه السبعُ فأكل منه شيئاً إذا أدْرَكْتَهُ والحياةُ فيه مستقرةٌ فذبحتَهُ، فأمَّا ما يجرحُ السبعُ فيخرجه إلى حالةِ المذبوحِ فهو في حُكمِ الميتَةِ فلا يكونُ حَلاَلاً، والمُترديةُ والنَّطيحةُ إذا أدركتهما حيَّةً، قَبْلَ أنْ تصيدَ إلى حالة المذبُوحِ فذبحتها تكونُ حلالاً، ولو رُمِي صيدٌ في الهواءِ فأصابَهُ فسقَطَ على الأرضِ [وماتَ كانَ حلالاً؛ لأنَّ الوقوعَ على الأرضِ ضرورتُهُ، فإنْ سقَطَ على شجرٍ أو جَبَلٍ فتردَّى منه] فمات فلا يَحِلُّ؛ لأنَّه من المتردية، إلاَّ أنْ يكونَ السهمُ ذَبَحَهُ في الهواءِ فيَحِلّ كيفما وقع؛ لأنَّ الذبحَ قد حصل قبل التردِيَةِ.

فصل


واختلفُوا [فيمنْ رَفَعَ] [يَدَهُ] قبل تمامِ الذَّكاةِ ثُم رجع [على الفور] وأكْمَلَ الذَّكَاة فقيل: يُجْزِئُهُ، وقيل: لا يُجْزِئه.
فالأولُ أصَحُّ؛ لأنَّه جَرَحَهُ ثُم ذَكَّاهُ بعدُ وحياته مُسْتَجْمعةٌ فيه.
191
قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ رَفْعٌ - أيضاً - عطفاً على «الميتةِ».
واختلفُوا في النُّصُبِ، فَقِيل: هي حجارةٌ، كانوا يَذْبَحُون عليها، ف «على» هنا وَاضِحَةُ.
وقيل: هي الأصنَامُ؛ لأنَّها تُنْصَبُ لتُعْبَد، فعلى هذا في «على» وَجْهانِ:
أحدُهما: أنها بمعنى اللام، أيْ: وما ذُبِحَ لأجْلِ الأصنامِ، كذا ذكره أبُو البقاءِ وفيه نَظَرٌ، وهو كونُه قَدَّرَ المتعلَّق شيئاً خاصاً.
والجمهورُ على «النُّصب» بضَمتين، فقيل: هو جمعُ «نِصاب».
وقيل: هو مُفْردٌ ويدل له قَوْلُ الأعْشَى: [الطويل]
١٩٢٦ - وَذَا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَقْربَنَّهُ ولا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ واللَّهَ فاعْبُدَا
وفيه احتمالٌ.
وقرأ طلحةُ بنُ مُصَرِّفٍ بضم النُّونِ وإسْكَانِ الصَّادِ، وهو تخفيفُ القراءة الأولى.
وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ: «النَّصَب» بِفَتْحتين.
قال أبُو البقاء: وهو اسمٌ بمعنى: المنصُوبِ، كالقَبْضِ والنَّقَصِ، بمعنى: المقبُوض والمنقُوصِ.
والحسنُ النَّصْب بفتح النون وسكُون الصادِ، وهو مَصْدَرٌ واقعٌ مَوْقِع المفعولِ به، ولا يجوزُ أنْ تكونَ تخفيفاً كقراءة عِيسَى بنِ عُمر؛ لأنَّ الفتحةَ لا تُخَفَّفُ.

فصل


«النُّصُب» يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ جَمْعاً وأنْ يكونَ واحداً، فإنْ كان جَمْعاً ففي واحدِه وُجُوهٌ:
أحدها: أنَّ واحدَهُ نصابٌ ونُصُبٌ، كحِمار وحُمُر.
وثانيها: أنَّ وَاحِدَهُ نَصْبٌ فقولُكَ: نَصْبٌ ونُصُب كسَقْفٍ وسُقُف، وهو قولٌ لابْن الأنْبَارِي.
192
وثالثها: أنَّ واحدهُ النَّصْبَةُ. قال اللَّيْثُ: [النَّصْبُ] جمعُ النَّصْبَةِ، وهي علامةٌ تُنْصَبُ للقومِ، وإنْ قُلْنا: النصبُ وَاحِدٌ، فجمعُهُ أنْصَابٌ، مثل عُنُق وأعْنَاق.
قال الأزْهَرِيُّ: وقد جعل الأعْشَى النُّصُبَ واحداً، وذكر البيتَ المُتَقَدِّم لَكِنْ رَوَاهُ عَلَى وَجْهٍ آخر، قال: [الطويل]
١٩٢٧ - وَلاَ النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَعْبُدَنَّهُ لِعَافِيَةٍ واللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا

فصل


قال بَعْضُهمْ: النُّصُبُ الأوْثانُ، واسْتَبْعَدَهُ قَوْمٌ؛ لأنَّ هذا مَعْطُوفٌ على قولِهِ: ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ وذلك هو الذَّبْحُ على اسمِ الأوْثانِ، والمعطوفُ يَجِبُ أنْ يكُونَ مُغَايِراً للمعطوفِ عَلَيْهِ.
وقال ابنُ زَيْدٍ: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾، ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ هُمَا وَاحِدٌ.
وقال مُجاهدٌ وقتادةُ وابن جُرَيح: كانَتْ حولَ البيتِ ثلاثمائة وستُّونَ [حَجَراً مَنْصُوبَة] كان أهلُ الجاهِليّةِ يَعْبُدُونَها وَيُعَظِّمُونها ويَذْبَحُونَ لها وليست هي بأصْنامٍ، وإنَّما الأصنامُ هي المصَوَّرةُ المنقوشَةُ، وكانوا يُلَطِّخُونَها بتلك الدماءِ، ويضعُون اللحومَ عليها. فقال المسلمون يا رسول الله: كان أهلُ [الجاهلية] يُعظمون البيتَ بالدَّمِ، فنحنُ أحَقُّ أنْ نُعَظِّمَهُ، وكأن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يكَره ذلك، فأنزل اله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا﴾ [الحج: ٣٧].
وقوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾.
[فيه وجهان:
أحدهما: وما ذبح على الاعتِقادِ وتَعْظِيم النُّصب].
والثاني: ومَا ذُبِح لِلنُّصبِ، و «اللاَّمُ» و «عَلَى» يتعاقَبَانِ. قال تعالى: ﴿فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين﴾ [الواقعة: ٩١] [أي: فَسَلامٌ عَلَيْكَ]، وقال: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] أي فعليها.
193
قولُه سبحانَهُ: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام﴾ «أنْ» وما في حَيِّزهَا في مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفاً على «الميْتَةِ».
والأزْلامُ: القِدَاحُ، واحدُها: زَلْم، وزُلْم بِفَتْح الزَّاي وضَمِّها ذكره الأخْفَشُ.
وإنَّما سُمِّيتِ القِدَاحُ بالأزلامِ؛ لأنَّها زُلِمَتْ أي: سُوِّيَتْ، ويقال: رجلٌ مُزْلِمٌ، وأمرأةٌ مُزْلِمَةٌ إذَا كان خَفِيفاً قَلِيلَ العلائِقِ، ويقال: قَدَحٌ مُزْلَمٌ وزَلْم إذا حُرِّرَ وأُجِيدَ قَدُّهُ وَصِفَتُهُ، ومَا أحْسَنَ ما زلم سهمه، أيْ: سَوَّاهُ، ويقالُ لِقَوائمِ البَقَرِ: أزْلاَمٌ شُبِّهَتْ بالقِدَاحِ لِلَطَافَتِهَا.
وَفِي الاسْتِقْسامِ بالأزلامِ قولانِ:
الأوَّلُ: كان أحدُهُم إذا أراد سَفَراً أو غَزْواً أو تِجَارَةً [أو نِكَاحاً] أو أمْراً آخَرَ ضرب بالقِدَاحِ، وكانوا قد كتبوا على بعضها أمَرَنِي رَبِّي، وعلى بعضها نَهَانِي رَبِّي، وتركوا بَعْضَهَا خَالِياً عن الكِتَابَةِ، فإنْ خرجَ الأمرُ أقدْمَ على العملِ، وإنْ خرجَ النَّهْيُ أمْسَكَ وأعادَ، وإنْ خرج الغَفْل أعاد العملَ مَرَّةً أخْرَى.
وذكر البَغَوِيُّ أنَّ أزلامَهم كانت سبعةَ أقْدَاحٍ مُسْتَوِيةً مِنْ شوحط يكونُ عند [سادن] الكعبة، مكتوب على واحدٍ منها: نَعمْ، وعلى واحد: لاَ، وعلى واحدٍ منها: مِنْكم، وعلى واحدٍ مِنْ غَيْرِكم، وعلى واحد: مُلْصَق، وعلى واحد: العَقْل، وواحد غفل ليس عليه شيءٌ، وكانوا إذا أرادُوا أمْراً أو تداوَرُوا في نَسَبٍ أو اختلفوا في تَحَمُّلِ عَقْلٍ جاءوا إلى هُبَل، وهو أعظمُ أصْنامِ قُرَيشٍ، وجاءوا بِمائَةِ دِرْهَمٍ وجَزُورٍ فأعطَوْها صاحبَ القِداح حتى يُجيلَ القومُ ويقولُون: يا إلَهنَا إنَّا أرَدْنَا كذا وكذا، فإنْ خرج نَعَمْ فعلُوا، وإنْ خرج: لا، لمْ يَفْعَلُوا ذلك، ثُم عادُوا إلى القِدَاح ثانيةً، وإذا أجالُوا على نسبٍ، فإنْ خرج منكُم [كان وسيطاً منهم، وإن خرج من غيركم كان حليفاً، وإن خرج مُلْصقٌ كان على منزلته لا] نسب له ولا حِلْفَ، وإذا اختلفُوا في عَقْلٍ فمن خرج عليه قَدَحُ العَقْلِ حَمَلَهُ، وإنْ خَرَجَ الغَفْل أجَالُوا ثانياً حتى يخرج المكتوبُ فنهى اللهُ تعالى عن ذلك وحرَّمهُ.
قال القُرطبيُّ: وإنّما قِيل لهذا الفعلِ اسْتِقْسام؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْتَقْسِمُون به [الرِّزْقَ] فِيما يُريدون، كما يُقال: الاستقسامُ في الاستدعاءِ للسقي، ونظيرُ هذا الذي
194
حرَّمه [اللَّهُ] قولُ المنَجِّم: لا يخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل نَجْم كذا.
وقال المؤرِّجُ وكثيرٌ مِنْ أهْلِ اللُّغَةِ: الاستقسامُ هاهنا هو المَيْسِرُ والقمارُ، ووجهُ ذِكْرِها مع هذه المطاعِمِ أنَّها كانت تقعُ عند البيتَ مَعَها.
وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: الأزلامُ حَصًى بيضٌ يَضْرِبُونَ بها، وقال مُجاهِدٌ هي كعابُ فارسٍ والرُّومِ التي يَتَقَامَرُونَ بها.
وقال الشَّعْبِيُّ: الأزلامُ للعرب والكعابُ للعَجَمِ.
وقال سُفيانُ بنُ وكِيع: هي الشَّطَرَنج، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ تَكَهَّنَ أو اسْتَقْسَمَ أو تَطَيَّرَ طيرةً تردّه عن سَفَرِهِ لَنْ يَلِجَ الدرجاتِ العُلَى مِنَ الجنَّةِ».
قوله: «ذَلِكُمْ فِسْقٌ» مُبْتَدأ وخَبَرٌ، واسمُ الإشارَةِ راجعٌ إلى الاستقسام بالأزلامِ خاصّةً، وهو مَرْوِيٌّ عن ابْنِ عبَّاسٍ؛ لأنَّ معناه: حَرَّمَ عليكم تَناوُلَ الميْتَة [وكذا]، فرجع اسمُ الإشارةِ إلى هذا المُقَدَّرِ، فإنْ قيل: لم صار الاستقسامُ بالأزلامِ فِسْقاً والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُحِبُّ الفَألَ [الحَسَن] ؟
فالجوابُ: قال الواحِدِي: إنَّما حرّم ذلك؛ لأنَّه طلبٌ لمعرفةَ الغَيْبِ، وذلك حرام لِقَوْلِه تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾ [لقمان: ٣٤] وقوله تعالى: ﴿لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله﴾ [النمل: ٦٥]، والحديث المتقدم.
قوله تعالى: ﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ «اليَوْمَ» ظرف مَنْصُوبٌ ب «يَئِسَ»، والألفُ واللامُ فيه للْعَهْدِ.
قيل: أراد به يَوْمَ «عَرَفَة» وهو يَوْمُ «الجُمُعَةِ» عام حَجَّةِ الوَدَاعِ نزلت هذه الآيةُ فيه بَعْد العَصْرِ.
[وقيل: هو يوم] دخوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَكَّةَ» سنةَ تِسْعٍ.
وقِيل: [سنة] ثَمَانٍ.
195
وقال الزَّجَّاجُ - وتبعه الزَّمَخْشَرِيُّ -: إنَّها لَيْسَتْ للْعَهْدِ، ولم يُرِدْ ب «اليوم» [يوماً] مُعَيَّناً، وإنَّما أراد به الزمانَ الحاضِرَ وما يُدانيه من الأزْمِنَةِ الماضِيَةِ والآتِيَةِ كقولك: كُنْتَ بالأمْس شابًّا، وأنْتَ اليومَ أشْيَب، لا تُرِيدُ بالأمسِ الذي قَبْلَ يَوْمِك، و [لا] باليومِ الزَّمَن الحاضِر فَقَطْ، ونحوه «الآن» في قَوْلِ الشَّاعِرِ: [الكامل]
١٩٢٨ - الآنَ لَمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِي وعَضَضْتُ مِنْ نَابِي عَلَى جذْم
ومثله أيضاً قوله زهير: [الطويل]
١٩٢٩ - وأعْلَمُ مَا في اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ وَلكنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غدٍ عَمِ
لم يُرِدْ بهذه حقائقها.
والجمهورُ على «يَئسَ» بالهمزة، وقرأ يَزِيدُ بنُ القَعْقَاع «يَئسَ» بِيَاءيْنِ مِنْ غَيْرِ همزة.
ورُوِيَتْ - أيضاً - عَنْ أبِي عَمْرو، ويقال: يَئِسَ يَيْئَسُ ويَئْيِسُ بفتح عَيْنِ المضارعِ وكسرها، فهو شاذّ.
ويقال: أيس [أيضاً] مقلوبٌ من «يَئِسَ» فوزنُهُ «عَفِل» ويدلُ على القَلْبِ كَوْنُهُ لم يُعَلَّ، إذ لو لم يقدر ذلك لَلَزِمَ إلغاءُ المقتضى، وهو تَحَرُّكُ حَرْفِ العَلّة، وانفتاحُ ما قبله، لكنَّه لما كان في مَعْنَى ما لم يُعَلَّ صَحَّ.
واليَأسُ: انقطاعُ الرَّّجاءِ، وهو ضدُّ الطَّمَعِ.
«مِن دِينِكُمْ» مُتَعلقٌ ب «يئس»، ومعناها ابتداءُ الغَايَةِ، وهو على حَذْفِ مُضَاف، أي: منْ إبْطَالِ أمْرِ دِينكم.

فصل


لَمَّا حَرَّم وحَلَّلَ فِيما تقدم، وخَتَمَ الكلام بقوله: «ذَلِكُمْ فِسْقٌ» ثُمَّ حَرَّضَهُم على التمسُّكِ بما شَرَع لهم، فقال: ﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون﴾ أي: فلا تخافُوا المُشْرِكين في خلافكم لهم في الشَّرائعِ والأدْيَانِ، فإنِّي أنْعَمْتُ عليكم
196
بالدولةِ القاهِرَةِ، وصارُوا مَقْهُورِينَ لكم ذَلِيلينَ عندكم، وحصل لهم اليأسُ مِنْ أنْ يَصِيروا قاهِرين لكم مُسْتَوْلِين عليكم، وإذا صار الأمرُ كذلك فيجبُ عليكم أنْ لا تَلْتَفِتُوا إليهم وأنْ تُقْبِلُوا على طاعَةِ اللَّهِ تعالى، والعملِ بشرائعِهِ.
وفي قوله: ﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ قولان:
الأولُ: يَئِسُوا مِنْ أنْ يُحَلِّلُوا الخبائِثَ بعد أنْ جعلها الله محرمةً.
والثاني: يَئسُوا مِنْ أنْ يَغْلِبُوكم على دينكُم؛ لأنَّ الله تعالى قد وعد بإعلاء هذا الدين على كُلِّ الأديانِ بقوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] فَحَقَّقَ ذلك النَّصْرَ، وأزالَ الخوفَ.
واسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ التقيَّةَ جائِزةٌ عِنْد الخوفِ؛ لأنَّ اللَّه تعالى أمرهم بإظهارِ الشَّرائعِ عند زوال الخَوْفِ مِنَ الكفَّارِ، فدلَّ على جوازِ تركِهَا عند الخوف.
قوله سبحانه وتعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ في قوله: «الْيَوْمَ» [كالكلام في «اليوم» ] قبلَهُ.
نزلت هذه الآيةُ يَوْمَ الجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ بعد العصر فِي حجَّةِ الوداع، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وشرف وكرم ومجد وعظم] وَاقِف بِعَرَفات على ناقَتِهِ العَضْبَاءِ فكاد عَضُدُ الناقةِ يَنْقَدُّ من ثِقلها، فَبَرَكَتْ.
عن عُمَر بن الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَجُلاً من اليهودِ قال له: يا أميرَ المؤمِنينَ آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، لو علينا مَعْشَرَ يَهُودٍ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذلِكَ اليومَ عِيداً، قال: أيُّ آيةٍ؟ قال: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾ قال عُمَرُ: قَدْ عرفْنَا ذلك اليوم والمكانَ الذي أنْزِلَتْ فيه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قائِمٌ بِعَرَفَةَ يوم جمعة.
أشار عُمَرُ إلى أن ذلك اليومَ كان لنا عِيداً.
قال ابنُ عباسٍ: كان ذلك اليوم خمسةَ أعْيادٍ، جُمْعَةً وعَرفَةَ وعِيدَ اليَهُودِ والنَّصارَى والمَجُوسِ، ولم يَجْتَمِعْ أعيادُ أهْلِ المِلَلِ في يوم قبله ولا بعده.
وروى هارونُ بنُ عنترةَ عن أبيه قال: «لما نزلت هذه الآيةُ بَكَى عُمَرُ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» ما يُبْكِيكَ يا عُمَرُ؟ «فقال: أبْكانِي أنا كنا في زيادَةٍ مِنْ ديننَا، [فأما إذْ] كمُلَ فإنَّهُ لم يكمل شيءٌ إلا نَقَصَ، قال:» صَدَقْتَ «، فكانت هذه الآيةُ نَعْيَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
197
وعاش بعدها إحْدَى وثمانِينَ يَوْماً، ومات يَوْم الاثنَيْنِ بعدما زَاغَتِ الشمسُ لليلتين خَلَتَا من شهرِ ربيع الأوَّلِ سَنَة إحْدَى عَشَر مِنَ الْهِجْرَةِ، وقيل: يومَ الاثنين يَوْمَ الثاني عشر مِنْ ربيع الأولِ، وكانت هجرتُه في الثاني عشر مِنه.
فقوله: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ يَعْنِي يوم نُزولِ هذه الآيةِ أكملتُ لكُمْ دينكمْ الفَرائِضَ والسُّنَنَ، والحدُودَ والجهادَ، والحلالَ والحرامَ، فلم ينزل بعد هذه الآيةِ حلالٌ ولا حرامٌ ولا شيءٌ من الفرائِضِ، وهذا [معنى] قولِ ابْنِ عباسٍ.
ورُوي عنه أنَّ آيةَ الرِّبَا نزلت بعدها، وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْر وقتادةُ: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ فلم يَحُجَّ معكم مشْرِكٌ، وقيل: أظهرت دينَكُمْ وأمَّنْتكم من العدُوِّ، وقوله تعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ يَقْتَضِي أن الدين كان نَاقِصاً قَبْلَ ذلك، وذلك يُوجِب أنَّ الدينَ الذي كان عليه محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُواظِباً عليه أكْثَرَ عُمُرِه كان ناقصاً، وإنما وُجِدَ الدينُ الكامل في آخر عمرِهِ مُدَّةً قليلةً.
وأجَابُوا عنه بوجُوهٍ:
أحدها: أنَّ المرادَ ما تقدم من إزالةِ الخوفِ عنهم، كما يقولُ الملِكُ إذا اسْتَوْلى على عدوه وقَهَرَهُ قَهْراً كُلِّياً: كَمُلَ ملكُنَا، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ مُلْكَ ذلك المَلِك كان قبل قَهْرِ العدو ناقصاً فينبغي على هذا أن يُقال: إنَّ دينَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ناقصاً قبل ذلك اليوم.
ثانيها: [أنَّ] المراد أكملتُ لكُم ما تَحْتَاجُون إليه في تكاليفكم من تعاليم الحلالِ والحرامِ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه لو لم يُبَيّن قبل هذا اليوم ما كانوا مُحْتاجين إليه من الشرائعِ، كان ذلك تأخيراً للبيانِ عن وقت الحاجة، وأنه لا يَجُوزُ.
وثالثها: وهو المختارُ ما ذكره القفَّالُ وهو أن الدينَ ما كان ناقصاً ألْبَتَّةَ، بل كان كامِلاً أبداً، وكانت الشرائِعُ النازِلةُ من عند الله تعالى في كل وقت كافية في ذلك إلا أنه تعالى كان عالماً في أوّل وقتِ المبعثِ في أن هذا اليوم ليس بكاملٍ في الغَدِ، ولا مَصْلَحَةَ فيه، فلا جَرَمَ كان يُنْسَخ بعد الثبوت، وكان ينزل بعد العدم، وأما في آخر زمانِ المبْعَثِ فأنزل الله شريعةً كامِلَةً، وحكم ببقائها إلى يوم الدِّين.
198
فالشرعُ أبداً [كَانَ] كامِلاً، إلاَّ أنَّ الأوّلَ كمال إلى زمان مَخْصُوصٍ والثاني: كمالٌ إلى يوم القيامة، فلهذا قال: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾.
وأجاب القُرْطبي: يقال: لِمَ قُلتَ إن كل نقص فهو عَيْبٌ، أرَأيْتَ نُقْصانَ الشَّهْرِ عَيْباً؟ ونُقْصان صلاةِ المسافرِ أهُوَ عَيْبٌ ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ [فاطر: ١١] أهو عيب؟ وكذلك نُقصَانُ أيّامِ الحَيْضِ عن المعهود؟ ونقصان أيام الحمل؟ ونقصان المال بسرقَةٍ أو حَرِيقٍ أو غَرَقٍ إذا لم يَفْتقر صاحبه؟ فنقصان الدين في الشرع قَبْلَ أن يلحق الله الأجزاء الباقية في عِلْمِ الله تعالى لَيْسَ بعَيْبٍ، فمعنى قوله: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ يخرج على وجهين:
أحدهما: أن المراد بلَّغْتُه أقْصَى الحد الذي كان له عندي فيما قضيتُهُ وقدَّرْتُهُ، وذلك لا يُوجِبُ أنْ يكونَ ما قَبْلَ ذلك ناقصاً عما كان عند الله تعالى لكنه يُوصَفُ بنُقصان مُقَيّد، فيقال: أكمل الله ناقِصاً عما كان عند الله تعالى أنه مُلحِقه به وضامه إليه كالرجل يُبلغه الله تعالى مائةَ سَنَةٍ، فيُقالُ: أكمل الله عُمُرَهُ [فلا يلزم من ذلك أنْ يكون عُمُره] ناقصاً حِين كان ابْن ستِّين سنة نَقْصَ قُصُورٍ وخللٍ، فإن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُولُ: «مَنْ عمَّره الله سِتين سَنَةً فقد أعْذَرَ إليه في العُمُر» وقد بلغ الله بالظُّهر والعصر والعشاء أربع ركعات، فلو قيل: أكملها كان الكلامُ صحيحاً، ولا يَلْزَمُ من ذلك أنَّها حينَ كانت ركعتين كانت ناقصةً نَقْصَ قُصُورٍ وخللٍ، ولو قيل: كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامَّه إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحاً، فهكذا هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئاً فشيئاً إلى أنْ أنْهى الله الدِّين مُنْتَهَاهُ الذي كان له عنده.
الثاني: أنَّ المراد بقوله: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ أنَّهُ وفَّقَهُمْ إلى الحجِّ الذي لم يكن بقي عليهم مِنْ أرْكان دينهم غَيْرُه، فحَجُّوا فاستجمع لهم الدِّين أداء لأرْكَانِه، ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «بُنِيَ الإسلامُ على خَمْسٍ» الحديثَ، وقد كانُوا تشَهَّدُوا وصَلُّوا وزكوا وصامُوا وجاهَدُوا واعْتَمرُوا ولم يكونوا حجُّوا، فلما حجُّوا ذلك اليوم أنزل الله تعالى وهم بالموقف هذه الآية.

فصل رد شبه الاستدلال بهذه الآية على بطلان القياس


استَدلُّوا بهذه الآيةِ على بُطْلان القياسِ، لأنَّ الآيةَ دلت على أنه تعالى قد نَصَّ على
199
الحُكْمِ في جميع الوقائعِ، [إذْ لَوْ بَقِيَ بَعْضُهَا غَيْرَ مُبَيَّنِ الحكم لم يكن الدينُ كامِلاً، وإذا حصلَ النص في جميع الوقائعِ] فالقياسُ إنْ كان [على] وفْقِ النصِّ كان عَبَثاً، وإنْ كان خلافَهُ كان باطِلاً.
وأجيبُ بأن المرادَ بإكْمالِ الدينِ أنَّهُ تعالى بيَّن حُكْمَ جَميعِ الوَقَائِعِ بعضها بالنص، وبعضُها بيَّن طريقَ الحكمِ فيها بالقياسِ فإنَّهُ تعالى لما جَعَل الوقائع قِسْمَيْن:
أحدهما: التي نَصَّ على أحكامهما.
والثاني: أنواعٌ يمكنُ استنباطُ الحكمِ فيها بواسطةِ قياسِها على القسم الأولِ، ثم إنَّه تعالى أمَرَ بالقياسِ، وتعبَّد المُكَلفِين به فكان ذلك في الحقيقة بياناً لِكُل الأحْكامِ.
قال نُفاةُ القياسِ: الطريقُ المقتضيةُ لإلحاقِ غَيْرِ المنصُوصِ بالمنصُوصِ، إمَّا أنْ تكونَ قَطْعِيَّةً أو غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ.
فإنْ كانت قطعيّةً فلا نِزاعَ في صحته، فإنَّا نسلم أن القياسَ المبنيّ على المقدمات اليَقِينيَّةِ حُجةٌ، وهذا القياسُ يكون المصِيبُ فيه واحداً، ومخالِفهُ يَسْتَحِقُّ العقاب وينْقَصُ به قضاءُ القاضِي، وأنتم لا تقولون بذلك، وإنْ كانت طريقة ظنية كان كل واحدٍ يُمْكِنُه أنْ يَحْكُمَ بما غلب على ظَنِّه مِنْ غَيْرِ أنْ يَعْلَم [هل] هو دين اللَّهِ أمْ لا؟ وهل هو الحكمُ الذي حكم [به الله] أم لا؟ ومثل هذا لا يكون إكْمالاً للدّين، بل يكون ذلك إلقاءً للخلقِ في وَرطَة الظُّنونِ، وأجيب بأنه إذَا كان كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُكَلَّفاً بالعمل بمقتضى ظَنِّه [كان] ذلك إكْمَالاً ويكون كُلُّ مكلفٍ قاطعاً بأنَّه عامل بحكم الله تعالى.
قوله سبحانه: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ «عليكم» متعلقٌ ب «أتممت»، فلا يجوزُ [تعلُّقهُ] ب «نعمتي»، وإن كان فعلها يتعدَّى ب «على» نحو: ﴿للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧] ؛ لأن المصدر لا يتقدَّمُ عليه معمولُه، إلا أن ينُوبَ مَنَابَهُ.
قال أبُو البقاءِ: فإنْ جعلتهُ على التَّبِيين أيْ: «أتْمَمْتُ» أعْنِي «عَلَيْكُمْ» جاز ولا حاجة إلى ما ادّعَاهُ.
ومعنى ﴿أتممت عليكم نعمتي﴾ أيْ: أنجزتُ وَعْدِي في قوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي
200
عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٥٠]، وكان مِنْ تَمَامِ نعمته أنْ دَخَلُوا مكةَ آمنينَ، وعليها ظَاهِرِينَ، وحَجُّوا آمنين مُطْمَئِنِينَ لمْ يخالِطْهُمْ أحَدٌ من المشركين.
قال ابنُ الخطيبِ: وهذا المعنى قد عُرِفَ بقوله: ﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ فَحَمْلُهُ على هذا تَكْرِيرٌ، وإنما معنى قوله: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾ أي: بسبب ذلك الإكمالِ؛ لأنه لا نِعْمَةَ أتم مِنْ نعمة الإسلام.
قوله سبحانه: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾ في «رَضِيَ» وجهان:
أحدهما: أنه مُتعد لِواحدٍ، وهو «الإسلامَ»، و «دِيناً» على هذا حال.
وقيل: هو مُضَمَّنٌ معنى صَيَّرَ وجعل، فيتعدَّى لاثْنَيْن؛ أولهما: «الإسْلاَمَ» والثاني: «دِيناً».
«لكم» يجُوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «رَضَيَ».
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الإسلامِ، ولكنَّه قُدِّمَ عليه.
ومعنى الكلام أنَّ هذا هو الدينُ المرضِيُّ عند الله، ويُؤكِّدُهُ قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ﴾ قد تقدم الكلامُ عليها في البقرة [آية: ١٧٣].
و «فِي مَخْمَصَةٍ» متعلقٌ ب «اضْطُرَّ»، [ومعنى: «اضْطُرَّ» ] أُصِيبَ بالضر الذي لا يمكنه الامتناعُ معه من الميتةِ.
و «المخمصةُ» : المَجَاعَةُ؛ لأنها تَخْمُصُ [لها] البطونُ: أيْ: تَضْمُرُ.
قال أهل اللُّغَةِ: الخَمْصُ والمَخْمَصَةُ: خَلاَءُ البطن من الطعام، وأصْلُهُ مِنَ الخَمْصِ الذي هو ضُمُور البَطْنِ. يقال: رجل خميصٌ وخُمْصَان، وامرأة خَمِيصَةٌ وخُمْصَانة، والجمع خَمَائِصُ وخُمْصَانَاتٌ، وهي صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ في النساء.
ويقال: رجل خُمْصَان وامرأة خُمْصَانة، ومنه أخْمَصُ القدمِ لدِقَّتِهَا، ويستعمل في الجوع والغَرْث.
قال: [الطويل]
201
١٩٣٠ - تَبِيتُونَ في المَشْتَى مِلاءً بُطُونكُمْ وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا
وقال آخر: [الوافر]
١٩٣١ - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا فإنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصٌ
وُصِفَ الزمانُ بذلك مبالغةً كقولهم: نَهَارُهُ صَائِمٌ، ولَيْلُهُ قائم. و «غَيْرَ» نُصبَ على الحال.
قال بعضُهم: يَنْتَصِبُ بمحذوفٍ مُقَدَّرٍ على معنى: فيتناول غَيْر مُتجانِفٍ، ويجوز أن يَنْتَصِبَ بقوله: «اضْطُرَّ» ويكونُ المقدرُ متأخراً.
والجمهور على «مُتجَانِفٍ» بألف وتخفيف النون من «تَجَانَفَ».
وقرأ أبُو عبدِ الرحمن والنَّخَعِيُّ «مُتَجنِّفٍ» بتشديدِ النُّونِ دُونَ ألفٍ.
قال أبو مُحمدِ بن عَطِية: وهي أبْلَغُ من «متجانف» في المعنى؛ لأنَّ شِدّةَ العينِ تدلُ على مُبالغةٍ وتوغُّلٍ في المعنى.
و «لإثم» متعلّق ب «متجانف»، واللام على بابها.
وقيل: هي بمعنى «إلى» أي غَيْرَ مائِلٍ إلى إثْمٍ ولا حاجة إليه.
وقد تقدم معنى هذا واشتقاقها عند قوله: ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً﴾ [البقرة: ١٨٢].
قال القُرْطبي: هو معنى قوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ [البقرة: ١٧٣]، ومعنى «الإثم» هاهنا أنْ تأكُلَ فوق الشِّبَع تلذُّذاً في قولِ أهل «العراق».
وفي قولِ أهْلِ «الحجازِ» : أنْ تكُون عَاصِياً.
قال قتادةُ: غَيْرَ مُتَعرِّضٍ لمعْصِية في مقصده.
وقوله: ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ﴾ جُمْلةٌ، إمَّا في محلِ جَزْمٍ، أو رفعٍ على حَسَبِ ما قيل في «مَنْ»، وكذلك القول في الفاء إما واجبةٌ أو جائزةٌ، والعائدُ على كِلاَ التقديرين محذوفٌ، أيْ: «فَإِنَّ الله غَفُورٌ» له، [يعني] : يَغْفِرُ له أكْلَ المُحَرَّمِ عند الاضطرارِ «رَحِيمٌ» بعباده،
202
حَيْثُ أحَلَّ لهم ذلك المحرمَ عند احتياجهم إلى أكْلِهِ، وهذا مِنْ تَمام ما تقدم ذكره في المطاعِمِ التي حَرَّمَها الله تعالى، يَعْنِي: إنها وإنْ كانت مُحرمةً إلا أنها تحل في حالِ الاضطرارِ، ومن قوله: «فِسْق» إلى هاهنا - اعتراضٌ وقع في النَّسَقِ، والغَرَضُ منه تأكيدُ ما ذُكِر مِنْ مَعْنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائثِ من جملةِ الدِّينِ الكاملِ والنعْمةِ الثابتةِ والإسلامِ الذي هو الدينُ المرضيُّ عند الله تعالى.
203
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ الآية.
وهذا أيضاً مُتَّصِلٌ بما قَبْلَهُ من ذِكْرِ المطعُومَاتِ، وقد تقدم الكلامُ على «مَاذَا» [وما قيل فيها فليلتفت إليه].
وقوله: «لَهُمْ» بلفظ الغَيْبَةِ لتقدمِ ضَميرِ الغَيْبةِ في قوله تعالى: «يَسْألُونَكَ».
ولو قيل في الكلام: ماذا أحِلَّ لنا؟ لكان جائزاً على حكايةِ الجملةِ، كقولك: أقْسَمَ زَيْدٌ ليَضرْبَنَّ ولأضربَنَّ، بلفظ الغيبة والتكلمِ، إلا أن ضمير المتكلّمِ يَقْتَضي حكايةَ ما قالوا: كما أن «لأضربن» يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها، و «ماذا أحِلّ؟» هذا الاستفهامُ معلّق للسؤال، وإن لم يكن السؤالُ من أفعالِ القُلُوبِ إلاَّ أنَّهُ كان سبب العلم، والعلم يعلق، فكذلك سببهُ، وقد تقدم تحريره في «البقرة».
وقال الزمخشري هنا: في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم، كأنه قيل: يقولون: ماذا أحل لهم، ولا حاجة إلى تضمين السؤال معنى القول؛ لما تقدم من أن السؤال يعلق بالاستفهام كمسببه.
وقال ابن الخطيب: لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا: ماذا أحلَّ لهم، ومعلوم أن ذلك باطل لا يقولونه، وإنما يقولون ماذا أحِلَّ لنا، بل الصحيح أنه ليس حكاية لكلامهم، بل هو بيان كيفية الواقعة.
قال القُرْطُبي: «مَا» فِي مَوْضِعِ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ «أُحِلَّ لَهُمْ»، و «ذَا» زَائِدَةٌ وإنْ شِئْتَ كانت بمعنى «الذي»، ويكون الخبر {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات «.
203

فصل في سبب نزولها


قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: نزلت هذه الآيةُ في عديّ بْنِ حَاتِم، وَزَيْدِ بْنِ المُهَلْهِلِ [الطائيين وهو] زَيْدُ الخيل الذي سمَّاه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زيد الخيْرِ، فقال:» يا رسول الله، إنّا قَوْمٌ نَصِيدُ بالكِلاَبِ، والبزاةِ، فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا منها؟ «. فنزلت هذه الآية.
وقيل: سببُ نزولِها أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أمر بقتل الكلابِ، قالوا: يا رسول اللَّهِ، ماذا يحلُّ لنا من هذه الأمَّةِ التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، فلما نزلت أذِنَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في اقتناءِ الكِلابِ التي يُنْتَفَعُ بها، وَنَهَى عن إمْسَاكِ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بها.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ يعني: الذَّبَائح على اسم الله عزَّ وجلَّ.
وقيل: كلُّ ما تستطيبه العرب وتستلذُّه من غير أن يراد بتحريمه نصٌّ من كتاب أو سنة، وكانت العرب في الجاهليةَ يحرمون أشياء [من الطيبات] كالبحيرَة والسَّائِبَةِ والوَصِيلَةِ، والحامِ، فهم كانوا يستطيبونها إلا أنَّهُم كانوا يحرِّمُونَ أكلها لِشُبُهَاتٍ ضعيفة، فذكر تعالى أن كلَّ ما يُسْتَطَابُ فهو حلال، وأكَّدَهُ بقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾
[الأعراف: ٣٢] وبقوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾ [الأعراف: ١٥٧]، والطَّيب في لغةِ العرب هو المستلذُّ والحلالُ المأذُونُ، يصير - أيضاً - طَيّباً تشبيهاً بما هو مستلذ؛ لأنَّهُما اجتمعا في انتفاء الضَّرورة، ولا يمكن أن يكونَ المرادُ بالطيِّبَاتِ هنا المحللات وإلا لصار تقديرُ الآية: قل [أحِلَّ] لكم المحللات، وهذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذِّ المشتهى.
واعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة؛ فإنَّ أهل البادية يستطيبون أكلَ جميع الحيوانات، واعلمْ أنَّ قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ [البقرة: ٢٩] يقتضي التَّمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنَّهُ ورد تخصيصه بقوله: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾ [الأعراف: ١٥٧]، ونص في هذه الآية على إبَاحَةِ المستلذات والطيبات، وهذا أصل كبير في معرفة ما يحلُّ وما يحرمُ من الاطعمة.
قوله سبحانه: ﴿لطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ﴾ في «ما»
هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها موصولة بمعنى «الذي»، والعائد محذوف، أي [ما] علمتموه،
204
ومحلها الرفع عطفاً على مرفوع ما لم يُسَمَّ فاعله أي: وأحل لكم صَيْدُ أو أخذ ما علمتم، فلا بد من حذف هذا المضاف.
والثاني: أنَّهَا شرطيّة فمحلها رفع بالابتداء، والجوابُ قوله: «فَكُلُوا».
قال أبو حيان: وهذا أظهرُ؛ لأنَّه لا إضمار فيه.
والثالث: أنَّهَا موصولة - أيضاً - ومحلُّها الرفع بالابتداء، والخبر قوله: «فَكُلُوا» وإنَّمَا دخلت الفاء تَشَبُّهاً للموصول باسْمِ الشَّرْطِ، وقوله: من الجَوَارِحِ في محَلِّ نصب، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنَّهُ الموصول وهو «ما».
والثاني: أنَّهُ الهاء العائدة على الموصول، وهو في المعنى كالأوَّل.
والجوارح: جمع جارحة، والهاء للمبالغة سميت بذلك؛ لأنَّهَا تجرح الصيد غالباً، أو لأنَّهَا تكسب والجرح الكَسْب.
ومنه: ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار﴾ [الأنعام: ٦٠] والجارحة صفة جارية مجرى الأسماء؛ لأنَّهَا لم تذكر موصوفها غالباً.
وقرأ عبد الله بن عبَّاس، وابن الحنفية «عُلِّمْتُمْ» مبنياً للمفعول، وتخريجها: أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف، أي: وما علّمكم الله من أمر الجوارح [ «مكلبين» : حال من فاعل «علمتم» ومعنى مكلبين: مؤدبين ومضرين ومعوِّدين، أي: حال تكليبكم] هذه الجوارح، أي: إغرائكم إياها على الصَّيد.
قال أبو حيَّان: وفائدة هذه الحال، وإن كانت مؤكدة لقوله: «عَلَّمتم» - فكان يستغنى عنها - أن يكون المعلم ماهراً بالتعليم، حاذقاً فيه موصوفاً به اه.
وفي جعله هذه الحال مؤكدةً نظر، بل هي مؤسسة.
واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ «الْكَلْب» هذا الحيوان المعروف، وإن كانَتِ الجوارحُ يندرج فيها غيره حتى سِبَاعُ الطيور تغليباً له؛ لأنَّ الصَّيْدَ أكثر ما يكون به عند العَرَبِ.
أو اشتقت من «الكَلَب»، وهو الضَّراوة، ويقال: هو كَلِبٌ بكذا أي: حريص، وبه كَلَبٌ أي حِرْصٌ، وكأنه - أيضاً - مشتقّ من الكَلْبِ هذا الحيوان لحرصه أو اشتقت من الكَلْبِ، والكَلْبُ: يطلق على السَّبُع - أيضاً -.
205
ومنه الحديث: «اللهُمَّ سَلِّطْ عليهِ كَلْباً مِنْ كِلابِكَ» فأكله الأسَدُ.
قال أبو حيَّان: وهذا الاشتقاق لا يَصِحُّ؛ لأنَّ كونَ الأسَدِ كَلْباً هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلّم، والجوارح هي سِباعٌ بنفسها، وكلاب بنفسها لا بجعل المُعَلِمِّ، ولا طَائِلَ تحت هذا الرَّدِّ.
وقرئ «مُكْلِبين» بتخفيف اللام، وفَعَّل وأفعل قد يشتركانِ في معنى واحد، إلا أنَّ «كَلَّب» بالتَّشْدِيدِ معناه: عَلَّمها وضَرَّاها، وأكْلب معناه صار ذا كِلاَب.
على أن الزجاج قال: يقال: رجلُ مُكلِّب يعني بالتشديد، ومُكْلِب يعني [من] أكلب وكلاّب يعني بتضعيف اللام أي: صاحب كِلاَبٍ.
وجاءت جملة الجواب هنا فعلية، وجملة السؤال هنا اسمية، وهي ماذا أحل؟ فهي جواب لها من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ؛ إذ لم يتطابقا في الجِنْس.
والكلاَّب والمكلِّب هو الذي يعلم الكلاب الصيد.
فمكلِّب صَاحِب الكلابِ كمعلِّم: صاحبِ التَّعليم، ومؤدِّب: صاحب التّأديب.

فصل


معنى الآيةِ وأحِلَّ لكم صَيْدُ ما علمتم من الجوارحِ. واختلفُوا في هذه الجَوَارحِ، فقال الضَّحاكُ والسُّدِّيُّ: [هي] الكلاب دون غَيْرِها، ولا يحلُّ ما صاده غير الكلب إلا أن يُدرِكَ ذكاته، ولا عملَ على هذا، بل عامَّةُ أهلِ العلمِ على أنَّ المرادَ من الجَوَارِحِ الكواسب من سباع البَهَائِمِ كالفهد، والنمر، والكلب، ومن سباعِ الطَّيْر كالبازي والعُقابِ والصَّقْرِ ونحوها مما يقبل التعليم فيحلُّ صيد جميعها.
206
قوله سبحانه وتعالى: «تُعَلِّمُونَهُنَّ» فيه أربعةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّهَا جُملةٌ مستأنَفَةٌ.
الثاني: أنَّهَا جملة في محلِّ نصبٍ على أنَّها حال ثانية من فاعل «عَلَّمتُم».
ومنع أبُو البقاء ذلك؛ لأنَّه لا يجيز للعامل أنْ يعمل في حالين، وتقدَّم الكلامُ في ذلك.
الثالث: أنَّها حال من الضَّميرِ المستكنِّ في «مكلِّبين» فتكونُ حالاً من حالٍ، وتُسمَّى المتداخلة وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكِّدة؛ لأن معناها مفهوم من «علمتم»، ومِنْ «مُكَلِّبين».
الرابعُ: أن تكون جملةً اعتراضيةً، وهذا على جَعْلِ ما شرطيّة أو موصولة خبرها «فَكُلُوا» فيكونُ قد اعترض بين الشَّرْط وجوابه، أو بين المبتدأ وخبره.
فإن قيل: هَلْ يجوز وجهٌ خَامِسٌ، وهو أن تكون هذه الجملة حالاً من «الجَوَارِحِ»، أو من الجوارح حال كوْنِهَا تُعلمُونَهُنَّ؛ لأنَّ في الجملة ضمير ذِي الحلالِ؟
فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنه يؤدِّي إلى الفَصْلِ بين هذه الحال وبين صاحبها بأجنبِيٍّ، وهو مُكَلِّبينَ الذي هو حال من فاعل «علمتم».
وأنث [الضمير في «تُعَلِّمُونَهُنَّ» ] مراعاة للفظِ الجوارحِ؛ إذْ هو جمع جارحةٍ، ومعنى «تُعَلِّمُونَهُنَّ» تؤدبونهن أدبَ أخذ الصَّيد، ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله﴾ أي من العلم الذي «عَلَّمَكُمُ اللَّهُ».
وقال السدي: أي كما علمكم الله، " من " بمعنى الكاف، والمقصود منه المبالغة في التعظيم.
قوله تعالى: ﴿فكلوا مما أمسكن عليكم﴾ في " من " وجهان:
أظهرهما: أنها تبعيضية؛ لأن الدم والريش لا يؤكل، كقوله: ﴿كلوا من ثمره إذا أثمر﴾ [الأنعام: ١٤١] وهي صفة لموصوف محذوف هو مفعول الأكل، أي: فكلوا شيئا مما أمسكن عليكم.
والثاني: أنها زائدة لا تزاد في الإثبات، وإنما تزاد في النفي والاستفهام، وهو قياس قول الأخفش.
قال القرطبي: وخطأه البصريون فقالوا: " من " لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في
207
النفي والاستفهام فعلى الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني لا تتعلق لها، و" ما " موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف، على كلا التقديرين، أي: أمسكنه كما تقدم، والنون في " أمسكن " للجوارح، و" عليكم " متعلق ب " أمسكن "، والاستعلاء هنا مجاز.
(فصل)
معنى الكلام أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته حل، والتعليم هو أن يوجد فيه ثلاثة أشياء إذا أشليت استشلت، وإذا زجرت انزجرت، وإذا أخذت الصيد [أمسكت] ولم تأكل، فإذا وجد منها ذلك مرارا وأقله ثلاث مرات كانت معلمة، يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها لما روي عن عدي بن حاتم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، فإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليه فأمسكته وقتلته فلا تأكل، فإنك لا تدري أيها قتل وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم، أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإذا وقع في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله، أو سهمك ".
واختلفوا فيما أخذت الصيد، وأكلت منه شيئا، فذهب أكثر العلماء إلى تحريمه.
وروي [ذلك عن] ابن عباس، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي، واصح قولي الشافعي - رضي الله عنه - لقوله عليه الصلاة والسلام " فإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه " ورخص بعضهم في أكله، روي ذلك عن ابن عمر وسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص، وقال ماك: لما روي عن [أبي] ثعلبة [الخشني] قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه ".
وروي أن أبا ثعلبة الخشني قال: قلت يا نبي الله: إنا بأرض قوم من أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم
208
فما يصلح لي؟ قال: " أما ما ذكرت من آنية [أهل الكتاب] فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها، وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ".
قوله تعالى: ﴿واذكروا اسم الله عليه﴾ في هذه الهاء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها عائدة على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل، كأنه قيل: واذكروا اسم الله على الأكل، ويؤيده قوله عليه السلام: " سم الله وكل مما يليك ".
والثاني: أنه يعود على " ما علمتم "، أي: اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد، وقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله عليه ".
والثالث: أنها تعود على " ما أمسكن " أي: اذكروا اسم الله على ما أدركتم [ذكاته مما أمسكته] عليكم الجوارح، وحتى على هذا الإعراب وجوب اشتراط التسمية في هذه المواضع.
ثم قال: ﴿واتقوا الله إن الله سريع الحساب﴾.
أي: واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما حلله وتحريم ما حرمه.
(فصل)
قال القرطبي: دلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السنة، وزادت الحرث والماشية، وقد كان [في] أول الإسلام أمر بقتل الكلاب، وقال: " من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية، أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراطان ".
209
قال القرطبي: وهذا المنع إما لترويعه المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه.
أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته على مذهب من يرى ذلك، وإما لاقتحام النهي على اتخاذ ما لا منفعة فيه.
(فصل)
قال القرطبي: وفي الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل، لأن الكلب الملعم له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له علم أولى.
210
قوله تعالى: [ ﴿اليوم] أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ الآية.
الكلامُ فيه كالكلام فيما قَبْلَهُ، وزعم قوم أنَّ المراد بالثلاثة أيام المذكورة هنا وقت واحد، وإنَّما كرره توكيداً، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حَسُنَ تكريره، وليس بشيء.
وادَّعَى بعضهم أنَّ في الكلام تَقْدِيماً وتأخيراً، وأنَّ الأصْلَ ﴿فاذْكُرُوا اسم الله عليه﴾ ﴿وكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ وهذا يشبه [قول] من يعيد الضمير على الجوارح المرسلة.
قوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ فيه وجهان:
أصحهما: أنَّهُ مبتدأ، وخبره «حِلٌّ لَّكُمْ» وأبرز الإخبار بذلك في جملة اسمية اعتناءً بالسؤال عنه.
وأجاز أبُو البقاء أنْ يكون مرفوعاً عَطْفاً على مرفوع ما لم يسم فاعله وهو «الطيِّبَات»، وجعل قوله: «حِلّ لَّكُم» خبر مبتدأ محذوف، وهذا ينبغي ألا يجوز البتة لتقدير ما لا يحتاج إليه مع ذهاب بلاغة الكلامِ.
وقوله: ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ مبتدأ وخبر، وقياس قول أبي البقاءِ أن يكون «طَعَام» عَطْفاً على ما قبله، «وحلّ» خبر مبتدأ محذوف، ولم يذكره، كأنه استشعر الثواب.
210

فصل


ومعنى ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ يعني الذّبائح على اسم الله عزَّ وجلَّ، وفي المراد ب ﴿طعام الذين أوتُوا الكتاب﴾ ثلاثة أقوال:
الأوَّلُ: الذَّبائِحُ، يريد ذبائح اليهود والنّصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمَمِ قبل مبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فأمَّا من دَخَلَ في دينهم بعد المبعث فلا تَحِلُّ ذبيحته، فلو ذبح يهوديٌّ أو نصرانيّ على اسم غير الله، كالنَّصراني يذبح على اسم المسيح، فاختلفوا فيه: فقال ابنُ عُمَرَ: لا يحلُّ، وهو قول ربيعةَ. وذهب أكثرُ العلماء إلى أنه يَحِلُّ، وهو قول الشَّعْبِيُّ وعطاء والزهريِّ ومكحولٍ.
وسُئِلَ الشعبيُّ وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا: يحلُّ، فإن الله تعالى قد أحلَّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولُونَ.
وقال الحسنُ: إذا ذبح اليهوديُّ والنصرانيُّ فذكر اسم غير الله وأنْتَ تسمع فلا تأكله، وإذا غَابَ عنك فَكُلْ، فقد أحَلَّ الله ذلك.
وأما المجوسُ فقد سنَّ فيهم سنةَ أهلِ الكِتابِ في أخذ الجزيَةِ منهم دون أكْلِ ذبائحهم ونكاح نِسَائِهِم.
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ استثنى نصارى بني تغلب، وقالوا: ليسوا على النَّصرانيَّة، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخَذَ الشافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّه سُئل عن ذبائح نصارى العَرَبِ، فقال: لا بأسَ به، وبه أخذ أبو حنيفة.
والقول الثاني: أنَّ المرادَ بطعامهم الخبزُ والفاكِهَةُ، وما لا يحتاج فيه إلى الزكاة، وهو منقولٌ عن بعض أئمَّةِ الزَّيديَّةِ.
القول الثالثُ: أنَّ المراد جميع المطعومات.
وحجَّةُ القول الأوَّلِ: أنَّ ما سوى الذبائح حلال قبل أن كانت لأهل الكتاب، فلا يبقى للتَّخصيص بأهل الكتاب فائدةٌ، ولأن ما قبل هذه الآية في بيان الصيْدِ والذّبائح [
211
فحمل الآية على الذبائح أوْلَى] وهي التي تصير طعاماً بفعل الذّبائح [فحملُ الآية عليه أولى] وقوله: «وَطَعَامُكمْ» فإنْ قيل: كيف شُرِعَ لهم حلُّ طعامنا وهم كفَّارٌ ليسوا من أهل الشَّرْعِ؟
قال الزَّجَّاجُ: معناه حلالٌ لكم أنْ تطعموهم، فيكون خطاب الحلِّ مع المسلمين؛ وقيل: لأنَّه ذكر عقيبه حكم النِّسَاءِ، ولم يذكر حلَّ المسلمات لهم، فكأنه قال: حلالٌ لكم أنْ تطعموهم حرامٌ عليكم أن تزوّجوهم.

فصل


قوله: ﴿والمحصنات مِنَ المؤمنات﴾ في رفع «المُحْصَنَات» وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مبتدأ خبره محذوف، أي: والمحصنات حِلٌّ لكم أيضاً وهذا هو الظاهر.
واختار أبُو البقاءِ أن يكون معطوفاً على «الطِّيبَاتِ»، فإنَّهُ [قال:] «مِنَ المُؤمِنَاتِ» حال من الضَّميرِ في «المُحْصَنَات» أو من نفس «المُحْصَنَات» إذا عطفتها على «الطَّيِّبَاتِ» و «حلّ» مصدر بمعنى الحلال؛ فلذلك لم يؤنَّث ولم يُثنَّ، [ولم يجمع] لأنه أحسن الاستعمالين في المصادر الواقعة صفة للأعيان، ويقال في الإتباع، حِلٌّ بلٌّ وهو كقولهم: حَسَنٌ بَسَنٌ، وعَطْشَان نَطْشَان.
و «مِنَ المُؤمِنَاتِ» حال كما تقدَّمَ، إما من الضمير في «المُحْصَنَات»، أو من «المُحْصَنَات»، وقد تقدَّم [الكلام في] اشتقاق هذه اللفْظَة، واختلاف القراء فيها في سورة النساء.

فصل في معنى المحصنات


هذا منقطع عن قوله: ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ وراجع إلى الأوَّلِ.
واختلفوا في معنى «المُحْصَنَات»، فذهب أكثر العلماء إلى أنَّ المراد الحَرَائِرُ، وأجازوا [نكاح] كل حَرَّة مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة، وهو قول مجاهد. وقال هؤلاء: لا يجُوزُ للمسلم نكاح الأمة الكتابيّة لقوله: ﴿فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ﴾ [النساء: ٢٥] جَوَّز نكاح الأمة بشرط أنْ تكون مؤمنة ولقوله: ﴿إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيِّدها، وجوَّزَ أكثرهُم نِكَاحَ الأمة الكتابيّة الحربيّة لقوله: ﴿فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم﴾ [النساء: ٢٥].
212
وقال ابن عباس: لا يجوز، وقرأ: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ [التوبة: ٢٩] إلى قوله: ﴿حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] فمن أعطى الجزية حَلّ لنا نساؤهم، ومن لم يعط لم يحلّ لنا نساؤه.
وذهب قومٌ إلى أنّ المراد من «المُحْصَنَات» في الآية العفائفُ من الفريقين حرائر كُنّ، أو إماءً.
وأجازُوا نكاح الأمة الكتابيّة وحرّموا البَغَايا من المُؤمِنَاتِ والكتابيّات وهو قول الحسن، وقال الشعبيُّ: إحصان الكتابية أنْ تستعفَّ عن الزّنا، وتغتسل من الجنابة.
وذهب ابْنُ عُمَرَ إلى أنَّهُ لا يجوز نكاح الذميّة لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١] ويقول: لا أعلم شِرْكاً أعظم من قولها: إنَّ [ربَّها] عيسى، وأجاب من قال بهذا القول عن التّمسك بقوله: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ بوجوه:
أحدُها: أنَّ المراد الذين آمنوا منهم، فإنَّهُ كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أنَّ الكتابية إذا آمنت هل يجوزُ للمسلم التزويج بها أم لا؟ فبين اللَّهُ تعالى بهذه الآية جواز ذلك.
وثانيها: ما روي [عن عطاء] قال: «إنَّما رخّص اللَّهُ - تعالى - في التزويج بالكتابيَّةِ في ذلك الوقت؛ لأنَّه كان في المسلمات قلّة، والآن ففيهن كثرة عظيمةٌ فزالت الحاجة، فلا جَرَمَ زالت الرُّخصة».
وثالثها: الآياتُ الدّالة على وُجوب مباينة الكفَّارِ، كقوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الممتحنة: ١] وقوله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٨]، ولأنَّ عند حصول الزَّوجيّة ربما قويت المحبَّة فيصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها.
قوله سبحانه: ﴿إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ظرف العامل فيه أحد شيئين، إمَّا «أحَلَّ» وإما «حِلّ» المحذوف على حسب ما قُرِّر، والجملة بعده في محلّ خفض بإضافته إليها، وهي - هنا - لمجرَّد الظرفيَّة.
213
ويجوز أن تكون شرطيةً، وجوابها محذوف، أي: ﴿إذا أتيتموهن [أجورهن] ﴾ حللن لكم.
والأوَّلُ أظهرُ.
و «مُحْصِنينَ» حال، وعاملها أحد ثلاثة أشياء: إما «آتيتمُوهُنَّ»، وصاحب الحال الضمير المرفوع.
وأما «أحِلّ» المبني للمفعول.
وأما «حل» المحذوف كما تقدَّم.
و «غَيْر» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن ينتصب على أنَّهُ نعت ل «محصنين».
والثاني: أن ينصب على الحال، وصاحب الحال الضمير المستتر في «مُحْصنِينَ».
والثالث: أنهُ حال من فاعل «آتيْتُمُوهُنَّ» على أنَّهَا حال ثانية منه، وذلك عند من يجوز ذلك.

فصل


تقييد التحليل بإيتاء الأجور يدلّ على تأكيد وجوهاً، وأن من تزوَّج [امرأة] وعزَمَ أن لا يعطي الزوجة صداقها كان في صورة الزّاني، فتسمية المهر بالأجرة يدلُّ على أنَّ الصّداق لا يتقدر كما أنَّ أقل الأجل في الإجارات لا يتقدَّرُ.
وقوله: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ أي غير معالنين بالزِّنَا ﴿وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ﴾.
قال الشعبِيُّ: الزِّنَا ضربان:
السفاح [وهو الزِّنَا على سبيل الإعلان، واتَّخاذ الخدن] وهو الزّنا في السرِّ واللَّهُ تعالى حرّمهما في هذه الآية، وأباحَ التمتُّعَ بالمرأة على جهة الإحصان.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ﴾ يجوز فيه الجَرُّ على أنه [عطف] على «مُسَافحينَ»، وزيدت [ «لا» ] [تأكيداً للنَّفي] المفهوم من «غَيْر»، والنَّصب على أنَّهُ عطف على «غير» باعتبار أوجهها الثلاثة، ولا يجُوز عطفها على «محصنين» ؛ لأنَّهُ [مقترن ب «لا» ] المؤكدة للنفي المتقدم، ولا نفي مع «مُحْصِنينَ»، وتقدَّمَ معاني هذه الألفاظ.
214
وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان﴾ تقدَّم له نظائر.
وقيل: المراد بالإيمان المؤمن به، فهو مصدر واقع موقع المفعول به كدرْهم ضَرْب الأمير.
وقيل: ثَمَّ مضاف محذوف، أي بموجب الإيمان، وهو الباري - تبارك وتعالى -.
واعلم أنَّ الكَافِرَ إنَّمَا يكفر بالله ورسوله. وأمَّا الكفر بالإيمانِ فهو مُحَالٌ، فلذلك اختلف المفسرون، فقال ابن عباس ومجاهد قوله: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان﴾ أي باللَّهِ الذي يجب الإيمان به، وإنَّما حَسُنَ هذا المجاز؛ لأنَّه يقال: رب الإيمان ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز.
وقال الكلبيُّ: «بالإيْمان» بكلمة التَّوحيد، وهي شهادة أنْ لا إله إلاّ الله؛ لأن الإيمان من لوازمها، وإطلاق الشَّيء على لازمه مجازٌ مشهور.
وقال قتادةُ: إنَّ ناساً من المسلمين، قالوا: كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا، فأنزل الله هذه الآية: ﴿وَمَن يَكْفُرْ﴾ أي بما [نزل] في القرآن، فهو كذا وكذا، فسمّى القرآن إيماناً؛ لأنَّهُ مشتملٌ على [بيان] كلِّ ما لا بُدَّ منه في الإيمان. وقيل: ومن «يَكْفُرْ بالإيمَانِ» أن يستحلَّ الحرامَ ويحرّم الحلالَ «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ».

فصل


القائِلَونَ بالإحْبَاطِ، قالوا: المراد بقوله: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ فقد حبط، أي: عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثوابِ إيمانِهِ، والذين ينكرون القول بالإحباط قالوا: معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هَلَكَ وضاع، فإنَّهُ إنَّما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان فإذا لم يكن الأمر كذلك، بل كان ضائعاً باطلاً كانت تلك الأعمال باطلة في نفسها.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾ الظَّاهر أن الخبر قوله: «مِنَ الخَاسِرينَ»، فيتعلَّق قوله: «فِي الآخرة» بما تعلَّق به هذا الخبر.
وقال مَكِّيٌّ: العاملُ في الظَّرْفِ محذوفٌ تقديره: هو خاسر في الآخرة، ودَلَّ على المحذوف قوله: «مِنَ الخَاسِرِينَ» فإنْ جعلت الألف واللام في «الخَاسِرِينَ» ليستا
215
بمعنى «الذين» جاز أن يكون العامل في الظَّرْفِ «مِنَ الخَاسِرِينَ» بمعنى أنَّه لو كانت موصولةً لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ لأنَّ الموصول لا يتقدم عليه ما في حَيِّزِهِ، وهذا كما قالوا في قوله: ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين﴾ [الشعراء: ١٦٨]، ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ [يوسف: ٢٠].
وتقدير مكيٍّ متعلّق هذا الظرف وهو خاسر، وإنَّما هو بناء على كون «أل» موصولة بدليل قوله: فإن جعلت الألف واللاَّم ليستا بمعنى «الذين» وبالجملة فلا حاجة إلى هذا التقديرِ، بل العامل فيه كما تقدَّمَ العامل في الظرف الواقع خبراً، وهو الكون المطلق، ولا يجوزُ أن يكون «في الإخِرَةِ» هو [الخبر و «من الخاسرين» متعلق بما تعلق به، لأنه لا فائدة في ذلك، فإن جعل] «من الخاسرين» حالاً من ضمير الخبر، ويكون حالاً لازمة جاز، وهو ضعيف في الإعْرابِ، وقد تقدَّم نظير هذه الآية في «البقرة» عند قوله:
﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ [البقرة: ١٣٠].

فصل


قوله: ﴿وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾ مشروطٌ بشرط غير مذكور في الآية، وهو أنْ يموت على ذلك الكفر إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين، ويدل على أنَّهُ لا بدَّ من هذا الشّرط قوله: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة﴾ [البقرة: ٢١٧].
216
قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ الآية اعلم أنَّ الله تعالى افتتح السورة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ [المائدة: ١]. فطلب الوَفَاءَ بعهد العبوديَّة، فكأنَّ العبد قال: يا إلهي، العهد نوعان: عهد الرُّبوبيّة منك، وعهد العبوديّة منا، فأنتَ أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الرُّبوبية والكرم، [نعم أنا أوفي بعهد الربوبية والكرم] ومعلوم أنَّ منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح،
216
فبيَّن تعالى ما يحلُّ وما يحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحَاجَةُ [إلى] المطعوم فوق الحاجة إلى المَنْكُوحِ قدم بيان المطعوم على المنكوح، فلما تم هذا البيان فكأنه قال: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب من منافع الدُّنيا، فاشتغل أنت في الدُّنيا بالوفاء بعهد العبودية، فلما كان أعظم الطَّاعات بعد الإيمان الصَّلاة، ولا يمكن إقامتها إلا بالطَّهارة لا جَرَمَ بدأ اللَّهُ تعالى بذكر شرائط الوضوء.
قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾.
قالوا: تقديره: إذا أردتم القيامَ كقوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ﴾ [النحل: ٩٨].
وهذا من إقامَةِ المُسَبَّب مقام السبب، وذلك أنَّ القيام متسبِّبٌ عن الإرادة، والإرادة سَبَبُهُ.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأنَّ الفعل يوجد بقدرة الفاعِلِ عليه، وإرادته له، وهي قصده إليه وميله، وخلوص داعيته، فكما عبر عن القدرة على الفعل [بالفعل] في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطَّيران والإبصار؛ ومنه قوله تعالى: ﴿نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] أي: قادرين على الإعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأنَّ [الفعل] مُسَبَّب عن القدرة، فأقيم [المسبب] مقام السبب للمُلاَبَسَةِ بينهما، ولإيجاز الكلام.
وقيل: تقديره: إذا قصدتم الصلاة؛ لأنَّ من تَوَجَّه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له، فعَبَّر بالقيام عن القصد.
والجمهورُ قدروا حالاً محذوفة من فاعل «قُمْتُمْ»، أي: إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين؛ إذ لا وضوء على غير المحدث، وإن كان قال به جماعةٌ قالوا: وَيَدُلُّ على هذه الحال المحذوفة مقابلتها بقوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا﴾، فكأنه قيل: إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا كذا، وامْسَحُوا كذا، وإن كنتم محدثين [الحدث الأكبر] فاغْسِلُوا الجسد كُلَّهُ.
قال شهابُ الدِّين: فيه نظر.

فصل هل الأمر بالوضوء تكليف مستقل؟


قال قوم: الأمر بالوضوء ليس تكليفاً مستقلاً بنفسه، لأنَّ قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
217
الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ} جملة شرطية، الشَّرط فيها القيام إلى الصلاة، والجزاء الأمر بالغسل، والمعلَّق على الشيء بحرف الشرط [يعدم عند] عدم الشَّرط، فاقتضى أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصَّلاة.
وقال آخرون: المقصُودُ من الوضوء الطَّهارة، والطَّهارة مقصودة بذاتها لقوله تعالى في آخر الآية: ﴿ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
« [بُنِيَ] الدِّينُ على النَّظَافَةِ»، وقال: «أمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أثَرِ الوُضُوء يَوْمَ القِيَامَةِ».
والأخبار الواردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب كثيرة.

فصل


قال دَاوُد: يجبُ الوضوء لكلِّ صلاة لظاهر الآية لأن قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ يقتضي العموم، [وقال أكثر الفقهاء: لا يجب].
قال الفقهاء كلمة «إذَا» لا تفيد العموم؛ لأنَّهُ لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرة طُلِّقَتْ، فلو دخلت ثانية لم تطلق [ثانياً] وإذا قال السيِّد لعبده: إذا دَخَلْتَ السُّوقَ فادْخُلْ على فلان، وقل له كذا وكذا، فهذا لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة.
ويمكن أن يجاب بأنَّ التَّكاليف الواردة في القرآن مبناها على التَّكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبنى الأمر فيها على التكرير، وأما الفقهاء فاستدلوا على صحة قولهم بأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الفتح صلّى صلوات كلّها بوضوء واحد، وجمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد.
وأجابَ داودُ بأنَّ خبر الواحد لا يَنْسَخُ القرآن، وقال قومٌ: هو أمر على طريق
218
النّدب، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدِّدَ الطَّهَارَة وإن كان على طهرٍ لما روى عبد الله بن حنظلة بن عامر أنَّ رسُولَ الله - صلّى الله عليه وعلى آله وسلم - أمر بالوضوء عند كلِّ صلاة طاهراً، أو غير طاهر، فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسّواك عند كل صلاة، وقال قوم: هو إعْلام من الله تعالى ورسوله أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصَّلاة دون غيرها من الأعمال، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بدا لَهُ من الأفعال غير الصلاة، كما روى ابن عبّاسِ «قال: كنا عند النّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرجع من الغائط، فأتي بطعام فقيل:» ألا تتوضأ، فقال: لَم أصَلِّ فأتَوضَّأ «.
قوله سبحانه: ﴿فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾.
وحدُّ الوجه من [منابت الشَّعر] إلى منتهى الذقنِ طولاً، وما بين الأذنين عرضاً يجب غسل جميعه في الوُضوء، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين، وأهداب العينين، والشّارب، والعذارِ، والعَنْفَقَةِ وإن كان كثيفه.
وأما العَارِضُ واللِّحية وإن كانت كثيفة لا ترى البَشْرَة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوُضُوءِ، بل يجبُ غسل ظاهرها، وهل يجبُ إمرار الماء لما على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذَّقْنِ؟.
فقال أبُو حنيفة: لا يجب؛ لأنَّ الشَّعر النازل عن حدِّ الرَّأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المَسْحِ؛ كذلك النازِل عن حدِّ الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله، وقال غيره: يجب إمرار الماء على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى أمَرَ بغسل الوَجْهِ، والوجهُ ما يقع به المواجهة، قال ابنُ عباسٍ: يجبُ غسل داخل العينين؛ لأنَّهُ من الوجه، وقال غيره: لا يجبُ للحرج.
والمضمضة والاستنشاق يجبان في الوضوء.
والغسلُ عند أحمد وإسحاق وعند الشَّافِعِيِّ لا يجبان بناء على أنهما من الباطِنِ، ولو نبت للمرأة لحية؟ وجب إيصال الماء إلى جلدَةِ الوجه، وإن كانت كثيفة.
قوله [سبحانه] :﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق﴾.
219
في «إلى» هذه وجهان:
أحدهما: أنَّها على بابها من انتهاء [الغاية]، وفيها حينئذٍ خلاف.
فقائل: إن ما بعدها لا يدخُلُ فيما قبلها.
وقائل بعكس ذلك.
وقائلٌ: لا تعرض لها في دخول ولا عدمه، وإنَّما [يدور] الدخول والخروج مع الدَّليل وعدمه.
وقائل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها [دخل] في الحكم، وإلاَّ فلا، ويُعْزَى لأبي العبَّاس.
وقائل: إن كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل، وإن كان من جنسه، فيحتمل الدخول وعدمه.
وأوَّلُ هذه الأقوال هو الأصَحُّ عند النُّحاة.
قال بعضهم: وذلك أنَّا حيث وجدنا قرينة مع «إلى»، فإن تلك القرينة تقتضي الإخراج مما قبلها، فإذا ورد كلام مجرد عن القرائن، فينبغي أن يحمل على الأمر الفاشي الكثير، وهو الإخراج، وفرق هذا القائل بين «إلى» و «حتّى» فجعل «حتى» تقتضي الإدخال، و «إلى» تقتضي الإخراج بما تقدَّم من الدَّليل.
[وهذه الأقوال دلائلها في غير هذا الكتاب، وقد أوضحتها في كتابي «شرح التسهيل» ].
والوجه الثاني: أنَّهَا بمعنى «مع» أي: مع المرافِقِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في ذلك عند قوله: «إلى أمْوالِكُمْ».
و «المرافِق» جمع «مَرْفِق» بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة، وهو مِفْصَلٌ بين العَضُدِ والمِعْصَمِ.

فصل


ذهب أكثرُ العلماء إلى وجوب غسلِ اليديْنِ مع المرفقين والرجلين مع الكعبين. وقال مالكٌ والشعبيُّ ومُحمَّد بنُ جرير وزفَرُ: لا يجب غسلُ المرفقين والكعبين في اليد والرجّل؛ لأن حرف «إلى» للغاية، والحدّ لا يدخل في المحدود، وما يكون غاية للحكم يكون خارجاً عنه كقوله: ﴿أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ [البقرة: ١٨٧].
والجوابُ: أنَّ حدَّ الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس، فها هنا
220
يكون الحد خارجاً عن المحدود كقوله: ﴿أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ [البقرة: ١٨٧] فإنَّ النَّهار مُنفَصِلٌ عن الليل انفصالاً محسوساً، وقد لا يكون منفصلاً كقولك: «بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف»، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس فإذا كان كذلك فامتياز المرفق عن السَّاعد ليس له مفصل معين؛ فوجب غسله.
وثانياً: سلّمنا أنّ المرفق لا يجب غسله، إلاَّ أنَّ المرفقَ اسم لما جاوز طرف العظم؛ لأنَّهُ هو الذي يرتفق به أي يتَّكِئ عليه، ولا نِزَاع أنَّ ما وراء طرف العظم لا يجب غسله، قاله الزجاج.

فصل في غسل ما أمكن مما هو دون المرفق


فإن قطع ما دون المرفق؛ وجب غسل ما بقي؛ لأنَّ محل التكليف باقٍ وإن كان قطع مما فوق المرفق لم يجب؛ لأنَّ محلّ التّكليف زال، وإن كان قطع من المرفق؛ فقال الشافعي: يجب إمساسُ [الماء عند ملتقى العظمين؛ وجب مساس] لطرف العظم؛ لأنَّ غسل المرفق كان واجباً، وهو عبارة عن ملتقى العَظْميْنِ، فوجب إمساسُ الماء عند ملتقى العَظْمَيْنِ، وجب إمْسَاس لطرف العظم الباقي لا محالة.
قوله عزَّ وعلا: ﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾.
في هذه «الباء» ثلاثةُ أوْجُه:
أحدها: أنَّها للإلصاق، أي: ألصقوا المسح برؤوسكم.
قال الزمخشريُّ: المرادُ إلصاق المَسْحِ بالرَّأسِ، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما مُلْصق المسح برأسه.
قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر، يعني أنَّهُ لا يطلق على [الماسح] بعض رأسه، أنَّهُ ملصق المسح برأسه، وهذا مُشَاحَّةٌ لا طَائِلَ تحتها.
والثاني: أنها زائدة كقوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥].
وقوله: [البسيط]
١٩٣٢ -............................ لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ
وهو ظاهرُ كلام سيبويْهِ، فإنَّهُ حكى: خشَّنت صدره وبصدره، ومسحت رأسه وبرأسه، والمعنى واحد.
221
وقال الفرَّاءُ: تقول العربُ: خذ الخِطَامَ، و [خذ] بالخطام. وَهزَّ به، وخذ برأسه ورأسه.
والثالث: أنَّها للتبعيضِ، كقوله: [الطويل]
١٩٣٣ - شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ.....................
وهذا قول ضعيفٌ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك في أول البسملة.

فصل في ذكر الخلاف في القدر الواجب من مسح الرأس


اختلف العلماء في قدر الواجب من مَسح الرَّأسِ، فقال مالكٌ وأحْمَدُ: يجب مسح جميع [الرأس كما يجب مسح جميع] الوجه في التيمم وقال أبو حنيفة: يجب مسح ربع الرَّأس.
وقال الشافعيُّ: قدر ما يطلق عليه اسم المسح، واحتج الشافعيُّ بأنَّهُ لو قال مسحت بالمنديلِ، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بكلِّه، ولو قال: مسحتُ يدي بالمنديلِ، فهذا يكفي في صدقه مسح اليَدِ بجزء من أجْزَاءِ ذلك المنديل.
فقوله [سبحانه] :﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾ يكفي في العملِ به مَسْحُ اليد بجزء من أجْزَاء الرَّأسِ وذلك الجزء غير مقدّر في الآية، فإن قدَّرْناهُ بمقدار معين لم يتعين ذلك المقدار إلا بدليل غير الآية، فيلْزَمُ صيرورة الآية مجملة، وهو خلاف الأصل، وعلى ما قلناه تكونُ الآية مبينةٌ مفيدة، فهو أولى، ويؤيِّده ما روي عن المغيرة بن شُعْبَةَ «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخُفَّيْه».
وأجاز أحمد المسح على العمامَةِ، ووافقه الأوزاعيُّ [والنوويُّ] والثوريُّ، ومنعه غيره.
وحمل الحديث على أنَّ فرض المسح سقط عنه بِمَسْحِ النَّاصية.

فصل


قال القرطُبِيُّ: لو غسل المتوضِّئ رَأسَهُ بدل المسح، قال ابن العربيِّ: لا نعلم
222
خلافاً في أن ذلك يجزئه إلا ما نُقِلَ عن بعضهم أنَّ ذلك لا يجزئ.
وهذا مَذهَبُ أهل الظَّاهر.
فإن قيل: هذه زيادة خرجت عن اللَّفظ المتعبَّد به.
قلنا: ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحلّ، وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح.
قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾.
قرأ نافعٌ، وابن عامرٍ، والكسائيُّ، وحفص عن عاصم «أرْجُلَكُمْ» نَصْباً، وباقي السبعة «وَأرْجُلِكُمْ» جَرًّا.
والحسن بن أبي الحسن «وَأرْجُلُكُمْ» رفعاً.
فأمَّا قراءة النَّصْبِ ففيها تخريجان:
أحدهما: أنها معطوفة على «أيْدِيكُم»، فإن حكمها الغُسْل كالأوجه والأيدي. كأنه قيل: واغسلوا أرجلكم، إلا أن هذا التَّخريج أفسده بعضهم؛ بأنَّهُ يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجملة [غير] اعتراضية؛ لأنها منشئة حكماً جديداً، فليس [فيها] تأكيد للأول.
وقال ابنُ عُصْفُورٍ - وقد ذكر الفصل بين المتعاطفين -: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدل [قوله] على أنه لا يجوز تخريج الآية على ذلك.
وقال أبو البقاء عكس هذا، فقال: هو مَعْطُوفٌ على الوجوه، ثم قال: وذلك جائز في العربيّة بلا خلاف.
وجعل السنّة الواردة بغسل الرِّجلين مقوية لهذا التخريج، فليس بشيء.
فإنَّ لقائلٍ أن يقول: يجوز أن يكون النَّصب على محل المجرور [وكان حكمها المسح، ولكنه نسخ ذلك بالسُّنَّة، وهو قول مشهور العلماء.
والثاني: أنه منصوب عطفاً على قبله] كما تقدم تقريره قبل ذلك.
وأمَّا قراءة الجرِّ ففيها أربعة تخاريج:
223
أحدها: أنها منصوب في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة، وإنَّمَا خفض على الجوار، كقولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ، بجر «خَربٍ»، وكان حقه الرفع؛ لأنَّهُ صفة في المعنى ل «الجحر» لِصحة اتصافه به، والضَّب لا يوصف به، وإنما جره على الجوارِ.
وهذه المسألة عند النَّحويين لها شرط، وهو أن يُؤمَنَ اللَّبْسُ كما تقدم تمثيله، بخلاف: قام غلامُ زَيْدٍ العاقِلُ، إذا جعلت العاقل نعتاً للغلام، امتنع جره على الجوارِ لأجل اللَّبْسِ.
وأنشدوا - أيضاً - قول الشاعر: [البسيط]
١٩٣٤ - كأنَّمَا ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعْيُنِهَا... قُطْناً بِمُسْتَحْصِدِ الأوْتَارِ مَحْلُوج
وقول الآخر: [الوافر]
١٩٣٥ - فإيَّاكُمْ وَحَيَّةَ بطنِ وَادٍ... هَمُوزِ النَّابِ لَيْسَ لَكُمْ بِسِيِّ
وقول الآخر: [الطويل]
١٩٣٦ - كَأنَّ ثَبِيراً فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ... كَبِيرُ أنَاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ
وقول الآخر: [الرجز]
١٩٣٧ - كَأنَّ نَسْجَ العُنْكَبُوتِ المُرْمَلِ... بجر «مَحْلُوج» وهو صفة ل «قطناً» المنصوب وبجر «هموز»، وهو صفة ل «حية» المنصوب، وبجر «المُزَمِّل» وهو صفة «كبير» ؛ لأنَّه بمعنى المُلْتَف، وبجر «المُرْمَل» وهو صفة «نسج»، وإنما جرت هذه لأجل المُجَاورة.
وقرأ الأعمش: ﴿إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين﴾ [الذاريات: ٥٨] بجر «المتين» مجاورة ل «
224
القوة» وهو صفة ل «الرزاق»، وهذا وإن كان وارداً إلا أن التخريج عليه ضعيفٌ لضعف الجوار من حيثُ الجملة.
وأيضاً فإن الخفض على الجوار إنَّما وَرَدَ في النعت لا في العطف، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشِّعْر.
قال: [البسيط]
١٩٣٨ - يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كلِّهم أنْ لَيْسَ وَصْلٌ إذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَب
بجر «كلهم» وهو توكيدٌ ل «ذوي» المنصوب، وإذا لم يردا إلاَّ في النَّعت، وما شذَّ من غيره، فلا ينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله [تعالى، وهذا المسألة قد أوضحتها وذكرت شواهدها في «شرح التسهيل» ]، وممن نص على ضعف تخريج الآية على الجوار مكي ابن أبي طالب وغيره.
قال مكي، وقال الأخفشُ، وأبو عُبيدةَ: الخفضُ فيه على الجوارِ، والمعنى للغُسْلِ، وهو بعيد لا يُحْمَلُ القرآن عليه.
وقال أبُو البقَاءِ: وهو الإعراب الذي يقال: هو على الجوار، وليس بممتنع أنْ يقع في القرآن لكثرته، فقد جاء في القرآن والشعر.
فمن القرآن قوله تعالى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] على قراءة من جَرَّ وهو معطوف على قوله: ﴿بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ﴾ [الواقعة: ١٨] وهو مختلف المعنى؛ إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مُخَلَّدون بحور عين.
وقال النَّابِغَةُ: [البسيط]
١٩٣٩ - لَمْ يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ أوْ مُوثقٍ في حِبَالِ الْقَوْم مَجْنُوبِ
والقوافي مجرورة، والجِوَارُ مشهور عندهم في الإعراب [ثم ذكر أشياء كثيرة زعم أنها مقوية لمدّعاه منها قلب الإعراب] في الصفات كقوله تعالى: ﴿عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ [
225
هود: ٨٤]، واليوم ليس بمحيطٍ، وإنَّما المحيط هو العذابُ.
ومثله قوله تعالى: ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ [إبراهيم: ١٨]، وعاصف ليس من صفة اليوم بل من صفة الريح.
ومنها قلب بعض الحُرُوفِ إلى بعض كقوله عليه السلام: «ارْجعْنَ مأزُورَاتٍ غَيْرَ مأجُورَاتٍ»، والأصل: مَوْزُورات، ولكن أريد التَّوَاخي.
وكذلك قولهم: [إنَّهُ] ليأتينا بالغدايا والعَشَايا، يعني أن الأصل بالغَدَاوى؛ لأنَّها من الغُدْوَة، ولكن لأجل ياء العشايا جاءت بالياء دون الواو.
ومنها تأنِيثُ المذكَّرِ كقوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠]، فحذف التاء من «عشر»، وهي مضافة إلى «الأمْثَالِ»، وهي مذكرة، ولكن لما جاورت الأمثال ضمير المؤنَّثِ أجري عليها حكمه، وكذلك قوله: [الكامل]
١٩٤٠ - لمَّا أتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تواضَعت سُورُ المدينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقولهم: ذهبت بَعْضُ أصابعه يعني أن «سور» مذكرة، «وبعض» - أيضاً - كذلك، ولكن لما جَاوَرَوا المؤنث أعْطِيَا حكمه.
ومنها: قامت هندُ لما لم يفصلوا، أتَوْا بالتَّاءِ، ولمَّا فصلوا لم يأتوا بها، ولا فَرْقَ إلا المجاورة وعدمها.
[ومنها:] استحسانهم النَّصْبَ في الاشتغال بعد جملة فعليَّةٍ، في قولهم: قام زيد وعمراً كلمته لمجاورة الفعل.
ومنها: قلبهم الواو المجاورة للظّرف همزة نحو: أوائل بخلاف طواويس لبعدها من مجاورة الظرف.
قال: وهذا مَوضِعٌ يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد، قد بوّب له النحويون له [باباً] ورتَّبُوا عليه مسائل، وأصَّلُوه بقولهم: هذا جُحْر ضبٍّ خَرِبٍ.
[حتى] اختلفوا في جواز جرِّ التثنية والجمع، فأجاز الإتباع فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المُفْرد المَسْمُوعِ، ولو كان لا وجه له بحال لاقتصروا فيه على
226
المسموع فقطْ، ويتأيَّدُ ما ذكرناه أن الجرَّ في الآية قد أجيز غيره وهو الرّفع والنّصب، والرّفع والنّصب غير قاطعين ولا ظاهرين، على أن حكم الرِّجْلين المسح، فكذلك الجرّ يجب أن يكون كالنَّصْبِ والرفع في الحكم دون الإعراب. انتهى.
قال شهاب الدين: أمَّا قوله: إنّ ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] من هذا الباب فليس بشيء؛ لأنَّهُ إمَّا أنْ يُقَدَّرَ عطفهما على ما [تقدَّم بتأويل] ذكره الناس كما سيأتي، أو بغير تأويل.
وإما ألاَّ يعطفهما، [فإن عطفهما على ما تقدم، وجب الجر، وإن لم يعطفهما لم يجب الجر، وأمّا جرهما على ما ذكره الناس فقيل: لعطفهما] على المجرور بالياء قبلهما على تضمين الفعل المتقدم «يتلذّذون وينعمون بأكواب وكذا وكذا».
أو لا يُضَمَّن الفعل شيئاً، ويكون لطواف الولدان بالحور العين على أهل الجنَّةِ لَذَاذَةٌ لهم بذلك، والجوَارُ إنَّمَا يكون حيث يستحقُّ الاسم غير الجر، فيجر لمجاورة ما قبله، وهذا كما ترى قد صَرَّح هو أنَّهُ معطوف على «بأكواب».
غاية ما في الباب أنَّه جعله مختلف المعنى، يعني أن عنده لا يجوز عطفهما على «بأكْوَابٍ» إلا بمعنى آخر، وهو تضمين الفعل، وهذا لا يقدحُ في العطفية.
وأمَّا البيتُ فجَرُّ «موثّق» ليس لجواره ل «منفلت» وإنَّما هو مراعاة للمجرور ب «غير» ؛ لأنَّهم نصوا على أنَّك إذا جئت بعد «غير» ومخفوضها يتابع جاز أن يتبع لفظ «غير»، وأن يتبع المضاف إليه، وأنشدوا البيت، ويروى: [البسيط]
١٩٤١ - لَمْ يَبْقَ [فيها طَرِيدٌ] غَيْرُ مُنْفَلِتٍ أوْ موثقٍ في حِبَالِ الْقَوْمِ مَجْنُوبِ
وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليس من المجاورة التي تؤثر في التغيير، أي تغيير الإعراب، وقد تقدَّم أنَّ النَّحويين خصَّصوا ذلك بالنَّعت، وأنَّهُ قد جاء في التوكيد ضرورة.
والتَّخْرِيج الثاني: أنَّهُ معطوف على «بِرءُوسِكُم» لفظاً ومعنى، ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل، وهو حكم باقٍ، وبه قال جماعة، أو يحمل مسح الأرْجُلِ على بعض الأحوال، وهو لُبْسُ الخُفِّ، ويُعْزَى للشافعيِّ.
التخريج الثالث: أنَّها جُرَّتْ مَنْبَهَةً على عدم الإسراف باستعمال الماء؛ لأنَّها مظنَّةٌ لصبِّ الماء [كثيراً]، فعطفت على الممسوح، والمرادُ غسلها كما تقدّم.
227
وإليه ذهب الزمخشريُّ، قال: «وقيل: إِلَى الكعبين» فجيء بالغاية إمَاطَةً لظن ظَانٍّ يحسبهما مَمْسُوحَةً؛ لأنَّ المسح لم تُضْرَبْ له غاية في الشريعة.
وكأنَّهُ لم يَرْتَض هذا القول الدافع لهذا الوَهْمِ، وهو كما قال.
التخريج الرابع: أنها مجرورة بحرف جر مقدر، دَلَّ عليه المعنى، ويتعلّق هذا الحرف بفعل محذوفٍ أيضاً يليق بالمحلّ، فيُدَّعى حذف جملةٍ فعليةٍ وحَذْفُ حرف جر، قالوا: وتقديره: «وافعلوا بأرْجُلِكُم غَسْلاً».
قال أبُو البَقَاء: وحَذْفُ حرف الجَرِّ، وإبقاء الجرّ جائزٌ؛ كقوله: [الطويل]
١٩٤٢ - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وقال الآخر: [الطويل]
١٩٤٣ - بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا
فجر بتقدير الباء، وليس بموضع ضرورة.
قوله: وإبقاء [الجرّ] ليس على إطلاقه، وإنَّما يطردُ منه مواضع نصَّ عليها أهل اللِّسَانِ ليس هذا منها.
وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النُّحَاةِ يسمَّى العطف على التوهُّم يعني كأنَّهُ توهم وجود الباء زائدة في خبر «لَيْسَ»، لأنها يكثر زيادتها، ونظَّروا ذلك بقوله تعالى: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين﴾ [المنافقون: ١٠] بجزْمِ «أكن» عَطْفاً على «فأصَّدقَ» على توهُّم سقوط الفاء من «فأصَدَّق» نص عليه سيبويه وغيره، فظهر فسادُ هذا التخريج.
وأما قراءة الرَّفْع فعلى الابتداء، والخبرُ محذوفٌ، أي: وأرْجُلكم مغسولة، أو ممسوحة على ما تقدَّم في حكمها [والكلام] في قوله «إلى الكَعْبَيْنِ» كالكلام في «إلى المرفقين».
«والكَعْبَان» فيهما قولان [مشهوران].
أشهرهما: أنَّهُما العظمان الناتئان عند مفصل السَّاق والقَدمِ في كل رجل كعبان.
228
والثاني: أنَّهُ العظم النّاتئ في وجه القَدَمِ، حيث يجتمع شراك النَّعْلِ، ومراد الآية هو الأوَّل.
والكَعْبَةُ، كُلُّ بيت مُرَبَّع، وسيأتي [بيانه] في موضعه إن شاء الله - تعالى -.

فصل


قد تقدَّم كلام النُّحاة في الآية.
وقال المُفَسِّرون: من قرأ بالنصْب على تقدير: «فاغْسِلُوا وجوهكم، وأيديكم، واغسلوا أرجلكم» ومن قرأ بالجرِّ فذهب بعضهم إلى أنَّه يمسح على الرجلين.
روي عن ابن عباس أنَّه قال: «الوُضُوء غَسْلتَانِ وَمَسْحَتَانِ»، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادةَ.
قال الشَّعبيُّ: نزل جبريل بالمسحِ، وقال: ألا ترى التيمُّمَ ما كان غسلاً، ويلقى ما كان مسحاً.
وقال مُحَمَّدُ بْنُ جرير: يتخيرُ المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين، وذهب جماعةُ من أهل العلم من الصحابَةِ والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين، وقالوا: خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم كقوله: ﴿عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ [هود: ٢٦]، فالأليم صفة العذاب، ولكنَّه جرّ للمجاورة كقولهم: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِب». ويدلُّ على وجوب غسل الرِّجلين ما روى عبد الله بن عمرو، قال: «تخلفَ عنا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سفر سافرناهُ، فأدركناه وقد راهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضّأ، فجعلنا نمسحُ على أرْجُلِنَا، فَنَادَانَا بأعلى صوته:» وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّار «.
والأحاديثُ الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كثيرة، وكلهم وصفوا غسل الرجلين.
229
وقال بعضهم: أراد بقوله «وأرْجلكُم» : المسح على الخفين، كما رُوي أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - «كَانَ إذا رَكَع وضَعَ يَدَهُ على رُكْبَتَيْهِ»، وليس المرادُ منه أنَّهُ لم يكن بينهما حائل، ويقالُ: قبَّلَ فلان رأس الأمير ويده، وإنْ كانت العمامة على رأسِهِ ويده في كمه فالواجب في غسل أعضاء الوضوء هذه الأربعة.

فصل: حكم النيّة في الوضوء


اختلفوا في وجوب النية فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العباداتِ، ولقوله عليه السلام: «إنَّما الأعْمَالُ بالنيَّات» وذهب النووي وأصحاب الرّأي إلى عدم وجوبها.

فصل [حكم الترتيب]


واختلَفُوا في وجوب الترتيب وهو أن يغسل أعضاءه على التَّرْتيب المذكور في الآية فذهب مالكٌ والشافعيُّ، وأحمد وإسحاق إلى وجوبه، ويروى ذلك عن أبي هريرة، واحتجُّوا بقول الله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾ فاقتضى وجوب الابتداء بغسل الوجه؛ لأنَّ الفاء للتّعقيب، وإذا أوجب الترتيب في هذا العضو؛ وجب في غيره، إذ لا قائل بالفرق.
[قالوا: فاء التعقيب إنما دخلت] في جملة هذه الأعمال، فجرى [الكلام] مجرى قوله: إذا قُمتمْ إلى الصلاةِ، فأتوا بمجموع هذه الأفعال.
قلنا: فاء التّعقيب إنّما دخلت على الوجه لالتصاقها بذكر الوجه، وبواسطة دخولها على الوجْهِ، دخلت على سائر الأفعالِ، فكان دخولها على الوجه أصل، ودخولها على المجموع تبع لدخولها على غسل الوجه، فنحنُ اعتبرنا دلالة الفاء في الأصْلِ، واعتبرتموها في التبع، فكان قولنا أولى.
وأيضاً فقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ابْدَءوا بما بَدَأ اللَّهُ بِه» يقتضي العموم، وأيضاً فإهمال الترتيب في الكلام مستقبح فيجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وكونه تعالى أدرجَ ممسوحاً بين مغسولَيْن، وقطع النّظير عن النظير، يدلُّ على أنَّ التَّرتيب مراد.
وأيضاً فإن وجوبَ الوضُوءِ غير معقول المعنى؛ لأنَّ الحدث يخرج من موضع
230
والغسل يجب في موضع آخر، وأعضاء المحدث طَاهِرَةٌ، لأنَّ الميت لا ينجس حيّاً ولا ميتاً، وتطهير الطَّاهر محالٌ.
وأقيم التيمم مقام الوضوء وهو ضدّ النظافة والوضاءة، وأقيم المَسْح على الخفين مقام الغسل، وذلك لا يفيدُ في نفس العُضْوِ نظافة ألْبَتَّةَ.
والماء [العَفِن] الكَدِرُ يفيد الطَّهارة، وماء الورد لا يفيدها، وإذا كان غير معقول المعنى وجب الاعتماد فيه على مورد النَّصِّ لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور إما لمحض التعبد، أو لحكمة خفية لا نعرفها، ولهذا السّبب أوجبنا الترتيب في أركان الصلاة، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة إلى أن الترتيب ليس بواجب، قالوا: لأنَّ ذلك زيادة على النَّصِّ فلا يجوز؛ لأنَّه نَسخٌ. والواوات المذكورة [في الآية للجمع] لا للترتيب كالواوات في قوله:
﴿إِنَّمَا الصدقات﴾ الآية [التوبة: ٦٠].
واتفقوا على أنه لا يجب الترتيب في صَرْفِ الصَّدقاتِ، فكذلك هنا.
وأجيبوا بأن قولهم: الزيادة على النّص نسخٌ، ممنوع على قيد في علم الأصول.
وأمَّا الصَّدقات: فلم يرو عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ راعى التّرتيب فيها.
وفي الوُضُوءِ لم ينقل أنَّهُ توضَّأ إلا مرتباً، وبيان الكتاب يؤخذ من السُّنَّةِ، قال تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] وقال [الله] تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا﴾ [الحج: ٧٧]، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قدم السُّجود على الرُّكوع، بل راعى الترتيب، فكذلك هاهنا.

فصل حكم المولاة


الموالاة أوجبها مالكٌ وأحْمَدُ، وقال أبو حنيفة والشَّافِعيُّ [في الجديد] ليست شرطاً لصحة الوُضُوء.

فصل


لو كان على وجهه أو بدنه نجاسة فغسلها أو نوى الطَّهارة عن الحدث بذلك الغُسْلِ، فقال بعض العلماء: يكفي لأنَّه أمر بالغسل، وقد أتى به، فيخرج عن العهدة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فيجب أن يحصل له المنوي.
231

فصل


لو وَقَفَ تحت ميزاب حتى سال عليه الماء، ونَوَى رفْع الحدثِ، فقيل: لا يَصِحُّ؛ لأنه أمر بالغسلِ، والغَسْلُ عملٌ وهو لم يَأتِ بالعَملِ، وقيل: يَصِحُّ؛ لأنَّ الغَسْلَ عِبارَةٌ عن الفِعْلِ المُفْضِي [إلى الانغسال] وُوُقُوفُهُ تَحْتَ الميزَابِ فعلٌ مُفْضٍ إلى الاغتسال، فكان غُسْلاً.

فصل


إذا غَسَلَ هذه الأعْضَاء ثم بعد ذلك تَقَشَّرَت الجلْدَة عنها، فَمَا ظَهَر من تحت الجلْدَة غير مَغْسُولٍ، فالأظْهَرُ وجُوب غَسْلِهِ؛ لأنَّه تعالى أمَرَ بِغَسْلِ هذه الأعْضَاءِ، وذلك الموْضِعُ غير مَغْسُول، إنَّما المغْسُول هو الجِلْدَة التي زَالَت.

فصل


لو أخَذَ الثَّلْج وأمَرَّه على هذه الأعْضَاءِ، فإن كان الهَوَاءُ حَارًّا يُذيبُ الثَّلْجَ ويُسِيلُهُ جاز وإلا فلا، خِلافاً للأوْزَاعِي.
لنا: أنَّ هذَا لا يُسَمَّى غُسْلاً، فأُمِرَ بالغسْلِ.

فصل في التسمية في الغسل


التَّسْمِيَةُ في أوَّل الغسل والوُضُوءِ: قال أحْمَد وإسْحَاق: واجِبَةٌ.
وقال غَيْرُهُما: هي سُنَّةٌ؛ لأنَّهَا لَيْسَت مَذْكُورة في الآيَةِ، واسْتَدلُّوا عليه بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا صَلاَة إلاَّ بِوُضُوءٍ، ولا وُضُوءَ لِمَن لم يَذْكُرِ اسْمَ الله عليْه».
قوله - سبحانه -: ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا﴾.
قال الزَّجَّاج: مَعْنَاهُ تَطَهَّرُوا؛ لأن «التَّاء» تُدْغَمُ في «الطَّاءِ» ؛ لأنَّهُمَا من مَكَانٍ
232
واحِدٍ، فإذا أدْغِمت «التَّاء» في «الطَّاء» سُكِّنَ أوَّلُ الكَلِمَة فَزيدَ ألِفُ وصْلٍ ليُبْتَدَأ بها، فَقِيل: «اطَّهَّرُوا».
ولمَّا ذَكَر تعالى كَيْفِيَّة الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، ذكر بعدَهَا الطَّهارة الكُبْرَى، وهي الغُسْلُ من الجَنَابَةِ. ولمَّا كانت الطَّهَارَةُ الصُّغْرى مَخْصُوصَة ببعض الأعْضَاءِ، لا جَرَم ذكر تِلْكَ الأعْضَاء على التَّعْيين، ولما كانت الطَّهَارَةُ الكُبْرَى في كُلِّ البَدَنِ أُمِرَ بها على الإطْلاَقِ.
رَوتْ عَائِشَةُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان إذا اغْتَسَل من الجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَل يَدَيْهِ، ثم تَوَضَّأ كما يتوَضَّأ للصَّلاة، ثم يُدْخِلُ أصَابِعَهُ في الماءِ فَيُخَلِّل بها أصُولَ شَعْرِهِ، ثم يَصُبُّ المَاءَ على رَأسِهِ ثلاثَ غَرْفَاتٍ بيدهِ، ثم يَفيضُ الماءَ عَلى جِلْدِهِ كُلِّهِ.

فصل


قال القُرْطُبِي: قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا﴾ أمر بالاغْتِسَالِ بالمَاءِ، وكذلك رأى عُمَرُ وابْنُ مَسْعُودٍ: أنَّ الجُنُبَ لا يَتَيَّممُ ألْبَتَّةَ، بل يَدَعُ الصَّلاة حتى يَجِد المَاءَ، وهذا يَرُدُّهُ قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «وجُعِلَ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وتُرَابُها طهُوراً» وقوله: «التُّرَابُ طهُورُ المُسْلِمِ، ما لم يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنين»، وحديثُ عُبَادة، وحديثُ عمرَان بن الحصين أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - رأى رَجُلاً معهُ ماء لم يصلّ في القومِ الحديث.

فصل


ولِحُصُولِ الجَنَابَةِ سَبَبَانِ:
الأوَّلُ: نُزُول المَنِيِّ، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّما الماءُ من المَاءِ».
والثاني: في التِقَاءِ الختانَيْنِ، وقال زَيْدُ بن ثابتٍ، ومُعاذ [وأبو سعيد الخُدْرِي:] لا يَجِبُ الغُسْلُ إلاَّ عِنْد نُزُولِ المَاءِ.
لنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إذا الْتَقَى الخِتَانَان وجَبَ الغُسْلُ وإنْ لَمْ يُنْزِلْ»، وختانُ الرَّجُلِ: هو المَوْضِعُ الذي يقطع منه جِلْدَة القلفَةِ، وأما خِتَانُ المرْأةِ
233
فَشَفْرَان مُحِيطَانِ بِثَلاثَةِ أشْيَاء: ثُقْبَةٌ في أسْفَلِ الفَرْجِ وهو مَدْخَلُ الذَّكَرِ ومَخْرَجُ الحَيْضِ والولدِ، وثُقْبَةُ [أخْرَى] فَوْقَ [هذه] مثل إحْلِيلِ الذَّكَرِ وهي مَخْرجُ البَوْلِ لا غير، [وفوق] ثُقْبَة البَوْل مَوْضِعُ خِتَانِهَا، وهُنَاكَ جِلْدَةٌ رَقيقَةٌ قَائِمَةٌ مِثْل عُرْف الدِّيك، وقَطْعُ هذه الجِلْدةِ هُو خِتَانُها، فإذا غَابَتِ الحَشْفَةُ حتى حَاذَى خِتَانُهُ خِتَانها، فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ.

فصل في حكم الدلك


الدَّلْكُ غير واجبٍ؛ لأنَّه لم يُذْكَر في الآيةِ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما سُئِلَ عن الاغْتِسَالِ من الجنابَةِ - قال: «أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ فأنَا قد طَهُرْت» ولم يَذْكُر الدَّلْك.
قال مالكٌ: هُوَ وَاجِبٌ.

فصل


والمَضْمَضَةُ والاسْتِنْشَاقُ واجبانِ في الغُسْلِ عِنْد أبِي حَنِيفَة وأحْمد، وقال الشَّافِعِيُّ: لا يَجِبَانِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ» ولمْ يَذْكُرْهُمَا، واحتَجَّ الأوَّلُون بقوله: «فاطَّهَّرُوا» فأمر بِتَطهِير جَمِيع الأجْزَاءِ وترك العَمَل به في الأجْزَاء البَاطِنَة لتعذُّرِ تَطْهِيرها، وداخِلِ الأنْفِ والفَمِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُها فدخَلا تَحْتَ النَّصِّ، وبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «بلُّوا الشَّعْرَ وانْتِفُوا البَشَرة، فإنَّ تَحْتَ كلِّ شَعْرةٍ جَنَابَة»، فيدخل الأنْفُ؛ لأنَّ في داخِلِهِ شَعْرٌ، وقوله: «وانتفِوا البَشَرة» يَدْخُلُ فيه جِلْدَة داخل الفَمِ؛ لأنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ بحيث لَوْ وُضِعَ في فَمهِ لم يفطر، ولوْ وضع فيه خَمْراً لم يُحَدَّ.
والأكثَرُون على عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتيبِ في الغُسْلِ، وقال إسحاق: يَجِبُ البَدَاءَةُ على البَدَنِ.
234
قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾.
قال مَكِّي: من جعل الصَّعيد: الأرْضَ، أو وَجهَ الأرْضِ نصب «صعيداً» على الظَّرْف، ومنْ جَعَل الصَّعيد: التُّرَاب نَصَبَ على أنَّهُ مَفْعُولٌ به، حذف مِنْهُ حرف الجَرِّ: بِصَعِيدٍ، و «طَيِّباً» نَعْتُهُ، أي: نَظِيف.
وقيل: طيِّباً مَعْنَاهُ: حَلالاً، فَيَكُون نَصْبُهُ على المَصْدَرِ، أو على الحَالِ.

فصل


وهذا يَدُلُّ على جَوَازِ التَّيَمُّم للمَرِيضِ، ولا يُقَال: إنَّه شَرَط فيه عَدَمَ المَاءِ؛ لأنَّ عدم المَاءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ بِغَيْرِ مَرَضٍ، وإنَّما يَرْجِع قوله: ﴿فَلَمْ [تَجِدُواْ] مَآءً فَتَيَمَّمُواْ﴾ إلى المُسَافِر.
والمَرضُ ثلاثةُ أقْسَامٍ:
أحدها: أن يَخَافَ الضَّرَر والتَّلَفَ باسْتِعْمَال الماءِ، فهذا يجُوزُ له التَّيَمُّم بالاتِّفَاقِ.
والثاني: ألاَّ يخافَ الضَّرَرَ [ولا] التَّلَفَ، فقال الشَّافِعِيُّ: لا يجُوزُ له التَّيَمُّمُ، وقال مالِكٌ وأبُو حَنِيفَة: يجُوزُ لِقَوْلِهِ: ﴿وَإِن كُنتُم مرضى﴾.
الثَّالِثُ: أنْ يَخَافَ الزِّيَادَةَ في العِلَّةِ، وبُطْءَ البرءِ، فيجوزُ لَهُ التَّيَمُمُ عند أحْمد، وفي أصَحِّ القَوْلَيْن للشَّافِعِيِّ، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة، فإن خَافَ بقاء شين في العُضْوِ، فقال بَعْضُهُم: لا يَتَيممُ، وقال آخَرُون: يتَيممُ وهو الصَّحِيحُ.

فصل


يجوز التيمم في السَّفَرِ القَصِيرِ، للآيَة، وقال بَعْضُهُم: لا يجوزُ؛ إذا كان مَعَهُ مَاءٌ وحيوانٌ مُشْرِفٌ على الهَلاك جَازَ له التَّيَمُّمُ، ووَجَب صَرْفُ المَاء إلى [ذَلِكَ] الحَيَوان.

فصل


فإن لَمْ يكنْ مَعَهُ ماءٌ، وكان مع غيره، ولا يُمْكِنه أن يشْتَرِيَهُ إلاَّ بالغَبْنِ الفَاحِشِ جَازَ لَهُ التَيمُّم، لقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، فإن وَهَبَ منه ذلك الماء، فقيل: لا يَجِبُ قُبُولُه لِمَا فِيهِ مِن المنَّة، فإن أُعِير [منه] الدَّلْو والرشاء، فقال الأكْثَرُون: لا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِقِلَّةِ المِنَّة في هَذِه العَادَةِ.
235

فصل


إذا جَاءَ من الغَائِط وَجَب عَلَيْه الاستنْجَاءُ، إمَّا بالحَجَارَةِ، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «فليَسْتَنْجِ بِثَلاثَةِ أحْجَارٍ».
وقال أبُو حَنِيفَة: لا يَجِبُ؛ لأنَّهُ تعالى أوْجَبَ عِندَ المَجِيءِ مِن الغَائِطِ الوُضُوءَ والتَّيَمُّمَ؛ ولم يُوجِبْ غُسْلَ مَوْضِعِ الحَدَثِ.
[فصل انتقاض وضوء اللامس والملموس
ظاهِرُ قوله ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء﴾ يَدلُّ على انتقاضِ وضوء اللاَّمس، وأمَّا انتقاض وضوء الملمُوس فَغَيْرُ مَأخُوذٍ من الآيَة، وإنَّما أُخِذَ من الخَبَرِ أو مِن القياسِ الجَليِّ].

فصل


يَجُوزُ الوُضُوءُ بِمَاء البَحْرِ، وقال عَبْدُ الله بن عَمْرو بن العاصِ: «لا يَجُوزُ بل يَتَيممُ».
ولنَا: أنَّ التَيَمُّمَ شَرْطُهُ عدم المَاءِ، ومن وَجَدَ مَاءَ البَحْرِ فإنَّهُ واجِدٌ لِلمَاءِ.

فصل


قال أكثرُ العُلَمَاء: لا بُدَّ في التَّيَمُّمِ من النِّيَّةِ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ عِبَارَةٌ عن القَصْدِ، وقال زفر: لا تَجِبُ.

فصل في الخلاف في حد تيمم المرفقين


قال الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة: [التيمُّمُ] في اليَدَيْن إلى المِرْفَقَيْنِ، وعن عَلِيٍّ وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إلى الرُّسْغَيْنِ، وعن مَالِكٍ وغيرِهِ إلى الكُوعَيْن، [وعن] الزُّهرِي إلى الآبَاطِ.

فصل في وجوب استيعاب العضو بالتراب


يجب اسْتِيعَابُ العُضْوين في التَّيَمُّمِ، ونَقَل الحسنُ بنُ زِيادٍ عن أبِي حنيفة: إذا
236
يَمَّمَ الأكْثَر جَازَ؛ لأن «البَاء» في قوله: «بِرُؤوسِكُمْ» يَقْتَضِي مَسْحَ البَعْضِ، فكذا هَاهُنَا.

فصل في صفة التراب


إذا لَمْ يَكُن لِلتُّرابِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بالْيَدِ لم يَجُزِ التَّيَممُ به وهو قَوْل الشَّافِعِيِّ وأبي يُوسُف، وقال أبُو حَنيفَة ومالِكٌ: [يجزئه، وقال الشافعي: لا يجُوزُ التِّيَمُّمُ إلا بالتُّرَابِ الخَالِصِ، وقال أبو حنيفَة] : يَجُوزُ بالتُّرَاب وبالرَّمْلِ وبالخَزَفِ المَدْقُوقِ والجَصِّ والمدر والزَّرنِيخ.
لنا: ما روى ابْنُ عبَّاسٍ أنه قال: «الصَّعِيدُ هُو التُّرَابُ».

فصل


لو وَقَفَ في مَهَبِّ الرِّيَاحِ، فَسَفَتْ عليه التُّرابَ وأمَرَّ يَدَهُ [عليه] أوْ لَمْ يُمِرَّهَا، فظَاهِرُ مَذْهَب الشَّافِعِيّ أنَّهُ لا يَكْفي. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقين: إنَّهُ لا يَكْفِي؛ لأنَّهُ قَصَدَ اسْتِعْمال الصَّعيدِ في أعْضَائِهِ.

فصل


قال الشَّافِعِيُّ وأحمَد: لا يجُوز التَيَمُّمُ إلا بَعْدَ دُخُول الوَقْتِ، لقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ [والقِيَامُ إلى الصلاة] لا يكُونُ إلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وقتها.

فصل


إذَا ضَرَب ثَوْباً فارْتَفَع مِنْهُ غُبَارٌ، فقال أبُو حنيفة: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، وقال أبُو يُوسف: لا يَجُوزُ.

فصل


لا يُجُوزُ التَّيَمُّمُ بتُرَابٍ نَجِسٍ، لقوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾ والنَّجِسُ لا يكُونُ طيِّباً.
وفُرُوع [التَّيَمُّم] كثيرة مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ.
قوله - سبحانه - «مِنْهُ» في مَحَلِّ نَصْبٍ مُتَعَلِّقاً ب «امْسَحُوا»، و «مِنْ» فيها وجهان:
أظْهَرُهُمَا: أنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ.
237
والثاني: أنَّها لابْتِدَاء الغَايَةِ، ولهذا لا يُشْتَرَطُ عند هؤلاءِ أنْ يتعلَّقَ [باليَدِ] غُبَارٌ.
وقوله تعالى: «لِيَجْعَلَ» : الكلام في هذه «اللاَّم» كالكلام عَلَيْهَا في قوله ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]، إلا أنَّ مَنْ جَعَل مَفْعُولَ الإرَادَةِ مَحْذوفاً، وعلَّق به «اللاَّم» من «لِيَجْعَلَ» زاد «من» في الإيجَابِ في قوله: «مِنْ حَرَجٍ»، وسَاغَ ذَلِكَ؛ لأنَّهُ في حَيِّزِ النَّفْي، وإنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْي واقعاً على فِعل الحَرَجِ، و «مِنْ حَرَجٍ» مَفْعُولٌ «لِيَجْعَلَ».
و «الجَعْلُ» : يحتمل أنَّهُ بمعنى الإيجَادِ والخَلْقِ، فَيَتَعَدَّى لواحد وهو «مِنْ حَرَجٍ» و «من» مزيدة فيه كما تقدَّم، ويتعَلّق «عَلَيْكُم» حينئذٍ بالجَعْلِ، ويجُوزُ أن يتعلَّق ب «حَرَجٍ».
فإن قِيلَ: هُو مَصْدَرٌ، والمَصْدَرُ لا يَتَقَدَّم معمولُه عليه، قيل: ذلك في المَصَدرِ المُؤوَّلِ بحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وفعل، لأنه بِمَعْنَى المَوْصُول، وهذا لَيْسَ مُؤوَّلاً بِحَرْف مَصْدَرِيٍّ، [ويجُوز أن يكون الجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيير]، فَيَكُون «عَلَيْكُم» هُوَ المَفْعُول الثَّانِي.

فصل في معنى الآية


المَعْنَى ﴿مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم﴾ : بما فَرَضَ من الوُضُوء والغُسْلِ والتَّيَمُّمِ، «من حَرَجٍ» : من ضِيق، «ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» : من الأحْدَاثِ والجَنَابَات والذُّنُوبِ.

فصل


قالت المعتزِلَةُ: دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الأصْلَ في المضارِّ ألاَّ تكون مَشْرُوعَةً، فإنَّه تعالى ما جعل عَلَيْنَا في الدِّين مِنْ حَرَجٍ، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ في الإسلام» وأيْضاً فَدَفْع الضَّررِ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُول، فوجَبَ أن يَكُونَ كَذَلِكَ في الشَّرع.
قوله - سبحانه -: ﴿ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾.
اخْتَلَفُوا في تَفْسِير هذا التَّطْهِير، قال جُمْهُور الحَنفيَّةِ: إنَّ عند خُرُوجِ الحَدَثِ تنجس الأعْضَاءُ نَجاسَةً حُكْمِيَّةً، والمَقْصُود من هذا التَّطْهِير إزَالَةُ [تلك] النجاسَةِ الحُكْمِيَّةِ، وهذا بَعِيدٌ لِوُجُوه:
إحداها: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨]، وكَلِمَةُ «إنَّما» للِحَصْر، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُؤمن لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه.
238
وثانيها: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «المُؤمِنُ لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه لا حَيَّا ولا مَيِّتاً».
وثالثها: أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّ بَدَن المُحْدِثِ لو كَانَ رَطْباً، فأصَابَهُ ثَوْبٌ لَمْ يَنْجس الثَّوْب، ولَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وصَلَّى به لم تفسد صلاتُه.
ورابعها: لو كان الحدثُ يُوجِبُ نجاسَةُ الأعْضَاءِ، ثم كَانَ تَطْهِيرُ الأعْضَاءِ الأرْبَعَة يُوجِبُ طَهَارة كُل الأعْضَاء، لوَجَبَ ألاَّ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ باخْتِلاَف الشَّرَائِعِ، والأمْرُ لَيْس كذلِكَ.
وخامسها: أنَّ خُروج النَّجَاسَةِ من مَوْضِع، كيف يُوجِبُ تَنَجُّسَ مَوضِعٍ آخَر؟.
وسادسها: أنَّ المَسْح على الخُفَّيْنِ قَائِمٌ مقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْن، ومَعْلُومٌ أنَّ هذا لا يُزِيلُ شَيْئاً ألْبَتَّةَ عن الرِّجْلَين.
وسابعها: أنَّ الذي يُرَاد زوالُهُ إنْ كانَ جِسْماً، فالحسّ يَشْهَدُ ببُطْلاَن ذلك، وإنْ كان عَرَضاً فَهُوَ مُحَالٌ، لأنَّ انتِقَالَ الأعْرَاضِ مُحَالٌ.
القولُ الثاني: أنَّ المُرَادَ به التَّطْهِير من المَعَاصِي والذُّنُوب، وهو المُرَادُ بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إذَا تَوَضَّأ العَبْدُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ من وَجْهِهِ وكذا يَدَيْهِ ورَأسِهِ ورِجْلَيْه».
وقوله تعالى: ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾.
قال مُحَمَّد بن كَعْبٍ: إتمَامُ النِّعْمةِ تَكْفِيرُ الخَطَايَا بالوُضُوءِ، وهَذَا الكَلاَمُ مُتَعَلِّق بما ذَكَرَهُ أوَّل السّورةِ من إبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ من المَطَاعِم والمَنَاكِح، ثُمَّ بَيَّن بَعْدَه كَيْفِيَّة فَرْضِ الوُضُوءِ، كأنَّهُ قال: إنَّما ذَكَرْت ذلِكَ لتتمَّ النَّعْمَة المَذْكُورَةُ أوَّلاً، وهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وهذه النِّعْمَةُ المَذْكُورة الثَّانِيَةُ وهي نِعْمَة الدِّين.
وقيل: المُرادُ ﴿لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالرخص بالتِّيَمُم، والتَّخْفِيفِ في حالِ المَرَضِ والسَّفَر، فاسْتَدَلُّوا بذلك على أنَّه تعالى يُخَفِّفْ عَنْكُمْ يَوْمَ القيامةِ، بأنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ. ويَتَجَاوَز عَن سَيِّئَاتِكُمْ.
قوله - جلا وعلا -: «عَلَيْكُم» فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ:
أظهرُهَا: أنَّهُ مُتَعلِّقٌ ب «يُتِمّ».
والثاني: أنَّهُ مُتعلِّق ب «نِعْمَتِهِ».
239
والثالث: أنَّهُ مُتَعلِّقٌ بمحذُوفٍ على أنَّهُ حالٌ من «نِعْمَتِهِ».
ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْن أبُو البَقَاءِ، وهَذِه الآيَةُ بِخِلاف التي قَبْلَها [في قوله] :﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣]، حَيْثُ امْتَنَعَ تَعَلُّقُ الجَارِّ بالنِّعْمَةِ؛ لتَقَدُّم مَعْمُول المصْدَر [عليه] كما تَقَدَّم بَيَانُهُ.
قال الزَّمَخشَرِيُّ: وقُرِئَ «فأطْهِرُوا» أي: أطْهِرُوا [أبْدَانَكُمْ]، وكَذِلِكَ «لِيُطْهِرَكُمْ»، يعني: أنَّهُ قُرِئَ «أطْهِرُوا» أمْرٌ من «أطْهِرْ» رُبَاعِيّاً ك «أكْرِمْ»، ونسب النَّاسُ القِرَاءَةَ الثَّانِية، أعني قوله: «لِيُطْهِرَكُم» لسَعِيدِ بن المُسَيِّب.
ثم قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، والكَلاَمُ في لَعَلَّ مَذْكُور في البقرة عند قوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣].
240
قوله - سبحانه -: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
لما ذَكَر التَّكَالِيفُ أرْدَفَهُ بما يُوجِبُ عَلَيْهِمْ القبُول والانْقِيَاد، وذلك مِن وَجْهَيْن:
الأوَّلُ: كَثْرَةُ نِعَم اللَّهِ عَلَيْهِم؛ لأنَّ كَثْرَة النِّعَمِ تُوجِبُ على المُنْعِمِ عَلَيْه الاشْتِغَالَ بِخِدْمَةِ المُنْعمِ، والانْقِيَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيه.
وقال: «نِعْمَةَ اللَّه» ولمْ يَقُلْ «نِعَم اللَّهِ» ؛ لأنَّ هذا الجِنْسَ لا يَقْدِرُ عَلَيْه غير اللَّه؛ لأنَّ نِعْمَة الحَيَاةِ، والصِّحَّة، والعَقْل، والهِدَايَةِ، والصَّوْن من الآفَاتِ، وإيصَال الخَيْرَاتِ في الدُّنْيَا والآخِرَة شيء لا يَعْلَمُهُ إلاَّ الله تعالى، وإنَّما المُرادُ [التَّأمُّل] في هذا النَّوْع مِن حَيْثُ إنَّهُ مُمْتَازٌ عن نِعْمَةِ غَيْرِهِ.
والوجه الثاني في السببِ المُوجبِ للانْقِيَادِ للتَّكَالِيفِ: هُوَ المِيثَاقُ الذي واثَقَكُمْ بِهِ.
فإن قِيلَ: [قوله] ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ مشعِرٌ بسَبْقِ النِّسْيَان: وكَيْفَ يُمْكِن نِسْيَانُها [مع أنها] مُتَوَاتِرَةٌ متَوالِيَةٌ [علينا] في جَميعِ السَّاعَاتِ والأوْقَاتِ؟ فالجَوابُ: أنَّها لِكَثْرتها وتعاقُبها صارتْ كالأمْرِ المُعْتَاد، فصارت غَلَبَةُ ظُهُورِهَا وكَثْرتها سَبباً لِوُقوعِهَا مَحَلَّ النِّسْيَان.
240

فصل في تفسير الميثاق


اختَلَفُوا في تَفْسِير هذا الميثاقِ، فقال أكْثَرُ المُفَسِّرين: هو العَهْدُ الذي عَاهَدَ اللَّه عَلَيْه المُؤمنين حين بَايَعُوا رَسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرَّف وكرم - تَحْتَ الشَّجَرَةِ وغَيْرها على أن يكُونُوا على السَّمْعِ والطاعَةِ في [المَحْبُوبُ والمكروه] ؛ وأضَافَ الميثاقَ الصَّادِر عن الرَّسُول إلى نَفْسِهِ، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠]، وأكَّدَ ذَلِكَ بأنَّهم التزمُوا وقالُوا: «سَمِعْنَا وأطَعْنَا»، ثم حذَّرَهم عن نَقْضِ تِلْك العُهُود فلا تَعْزِمُوا بقلوبكم على نَقْضِهَا، فاللَّهُ يَعْلَم ذلك، وكَفَى به مُجَازِياً.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: هو المِيثاقُ الذي أخذه اللَّه على بَنِي إسْرائِيل حين قالُوا: آمَنَّا بالتَّوْرَاة وبكُلِّ ما فيها، وكان من جُمْلة ما في التَّوْرَاةِ البِشَارَةُ بمقدم مُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وقال مُجَاهِدٌ والكَلْبِي ومقاتلٌ: هو المِيثَاقُ الذي أخَذَهُ منهم حِين أخْرَجَهم من ظَهْر آدَم، وأشْهَدَهُمْ على أنْفسِهم ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا: ْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢].
وقال السّديّ: المُرَاد بالمِيثاقِ: الدَّلائل العَقْلِيَّة والشَّرْعِية التي نَصَبَها اللَّهُ على التَّوْحِيدِ والشَّرائعِ.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قُلْتُمْ [سَمِعْنَا] ﴾، في «إذْ» ثلاثةُ أوْجُه:
أظهرها: أنَّهُ مَنْصوب ب «وَاثَقَكُمْ».
الثاني: أنَّهُ مَنْصَوبٌ على الحَالِ من الهَاءِ في «بِهِ».
الثالث: أنَّهُ حال من [ «ميثاقِهِ» ]، وعلى هذَيْن الوَجْهَيْن الأخيريْن يتعلَّقُ بمحذُوفٍ على القاعِدَة المُقَرَّرَةِ.
و «قُلْتُم» في محلّ خَفْضٍ بالظَّرْف، و «سَمِعْنَا» في محلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ.
241
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط﴾ الآية.
لما حثَّهُم على الانْقِيَاد للتَّكَالِيف، وهي مع كثرتها مَحْصُورَةٌ في نَوْعين: التَّعْظِيم لأمر اللَّه، والشَّفقة على خَلْقِ اللَّه.
قوله: ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ﴾ إشارةٌ على التَّعْظيم لأمر اللَّه، ومعنى القيام للَّه: هو أن يَقُومَ للَّه بالحقِّ في كلِّ ما يَلْزَمه، وقوله: «شُهَدَاء بالقسطِ» إشارةٌ إلى الشَّفقة على خَلْقِ اللَّه، فيه قولان:
الأوَّل: قال عطاءُ: لا تُحاب من شهادتِكَ أهْل وُدِّك وقَرابتِك، ولا تمنع شهادتك أعداءَك وأضْدَادَك.
الثاني: أمرهم بالصِّدْق في أفْعالهم وأقوالهم، وتقدَّم نَظِيرُها في «النِّسَاء»، إلاَّ أنَّ هناك قدَّم لَفْظَة «القِسْط» وهنا أخِّرَت، وكأنَّ الغَرَضَ في ذلك - والله أعلم - أنَّ آية «النِّسَاء» جِيء بها في مَعْرِض الإقْرَارِ على نَفْسِهِ ووالِدَيْه وأقَارِبِه، فَبُدِئ فيها بالقِسْطِ الذي هو العَدْلُ من غير مُحَابَاة نَفْسٍ، ولا والِدٍ، ولا قَرَابَةٍ، والَّتِي هنا جِيءَ بها في [مَعْرِض] ترك العداوة، فبُدِئ فيها [بالأمْر] بالقِيام لِلَّه، لأنَّهُ أرْدَعُ لِلْمُؤمنين، ثم ثُنِّي بالشَّهادة بالعَدْلِ، فَجِيءَ في كُلِّ مَعْرضٍ بما يُنَاسِبُه.
وقوله: «وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ» تقدَّم مثله، وكذلك «شَنَآنُ قَوْمٍ».
قوله تعالى: ﴿على أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾.
أي لا يحملَنَّكُم بُغْضُ قومٍ على أن لا تَعْدلُوا، وأراد: لا تَعْدِلوا فيهم فَحُذِفَ لِلْعِلْم به، وظُهُور حرف الجرِّ هنا يرجحُ تَقْدِيرهُ.
قيل: والمعنى: ولا يَحْمِلَنَّكُم [بُغْضُ] قوم على أن تجُورُوا عَلَيْهم، وتتَجاوزُوا الحدَّ، بل اعْدِلُوا فيهم، وإن أسَاءُوا إلَيْكم، وهذا خِطَابٌ عامٌّ، وقيل: إنَّها مُخْتَصَّةٌ بالكُفَّار، فإنَّها نزلت في قُرَيْشٍ لما صَدُّوا المُسْلِمين عن المَسْجِد الحَرَام.
قوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
نهاهم أوَّلاً عن أن يَحْمِلَهُم البَغْضَاءُ على ترك العدلِ، ثم اسْتَأنَفَ فصرَّح لهم بالأمْر
242
بالعدْل تأكِيداً، ثم ذكر عِلَّة الأمْر بالعَدْل وهو قوله: ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، والمَعْنَى: أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من مَعَاصِي اللَّه، وقيل: أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من عَذَابِ اللَّه.
و «هُوَ» ضمير المَصْدرِ المَفْهُوم من الفِعْلِ أي: العدل، وفيه تَنْبِيهٌ على أنَّ وجوب العَدْلِ إذا كان مع الكُفَّار الذين هُمْ أعداءُ اللَّه بهَذِه الصِّفَة من القُوَّة، فَكَيْفَ بوجُوبِهِ مع المُؤمنين الذين هم أوْلِيَاؤُه وأحِبَّاؤُه، ثم ذكر كلاماً كالوعد للمُطِعين والوعيد للمُذْنِبِين، وهو قوله: ﴿اواتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، يعني: [أنَّه] عالم بجميع المَعْلُومَات، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِكُمْ.
ثم ذَكَرَ وعْدَ المُؤمنين فقال: «وَعْدَ اللَّه..» الآية.
واعلم أن «وَعْد» يتعدَّى لاثْنَيْن:
أوَّلهما: الموْصُولُ.
والثاني: [مَحْذُوف] أي الجنَّة.
وقد صرَّح بهذا المَفْعُول في غير هذا المَوْضِع، وعلى هذا فالجُمْلَةُ من قوله: «لَهُم مَغْفِرَةٌ» لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرة لذلك المَحْذُوف تَفْسِير السَّبَب للمُسَبّبِ، فإن الجَنَّة مسببة عن المَغْفِرَة، وحُصُول الأجْرِ العَظِيم، والكلام قبلها تَامٌّ بِنَفْسه.
وذكرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الآيَة احْتِمالاتٌ [أخَر].
أحدها: أنَّ الجملة من قوله «لَهُم مَّغْفِرَةٌ» [بيان للوعد]، كأنَّه قال: قدم لهم وَعْداً، فَقِيلَ: أيُّ شيء وَعَدَهُ؟ فقال: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها أيضاً، وهذا أوْلَى من الأوَّل؛ لأنَّ تفسير المَلْفُوظِ به أوْلَى من ادِّعاء تَفْسِير شَيْءٍ مَحْذُوف.
الثاني: أنَّ الجملة مَنْصُوبةٌ بقول محذوف، كأنَّه قيل: وعدهُم، وقال لهم: «مَغْفِرَة».
الثالث: إجراء الوَعْدِ مجرى القَوْل؛ لأنَّه ضَرْبٌ منه، ويَجْعَل «وَعَدَ» واقعاً على الجُمْلَةِ الَّتِي هي قوله: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ»، كما وقع «تَرَكْنَا» على قوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ﴾ [الصافات: ٧٩] كأنه قيل: وعدهَمُ هذا القَوْل، وإذا وَعَدَهُمْ من لا يَخْلِفُ المِيعاد فَقَدْ وعدهم مَضْمُونَهُ من المَغْفِرَة والأجْرِ العَظِيم، أي: وعدهُم بهذَا المَجْمُوع، وإجراء الوَعْدِ مَجْرى القَوْل مذهب كُوفِيٌّ.
ثم ذكر وَعِيدَ الكُفَّار فقال: ﴿والذين كَفَرُواْ﴾ الآية.
243
«الذين كفروا» مبتدأ، و «أولَئِكَ» مُبْتَدأ ثانٍ، و «أصْحَابُ» خبره، والجُمْلَة خَبَرُ الأوَّل، وهذه الجُمْلَة مُسْتَأنَفَةٌ، آُتِي بها اسمية دلالة على الثُّبُوتِ والاسْتِقْرَارِ، ولم يُؤتَ بِها في سِيَاقِ الوعيد، كما أتى بالجُمْلَةِ قَبْلَها في سِيَاقِ الوَعْدِ حَسْماً لرَجَائهم، وأجاز بَعْضُهُمْ أن تكون هذه الجُمْلَة داخِلَةً في حَيِّز الوَعْد على ما تقدم تقريره في الجُمْلَةِ قبلها.
قال: لأنَّ الوعيدَ اللاَّحِقَ بأعْدائِهم ممَّا يَشْفِي صُدورهُمْ، ويُذْهِب ما كانوا يَجِدُونَهُ من أذَاهُمْ، ولا شَكَّ أن الأذى اللاَّحقِ للعَدُوِّ، مما يَسُرُّ، ويفرح ما عند عَدُوِّهِ، وفيه نظر، فإن الاسْتِئنَاف وافٍ بهذا المَعْنَى، فإن الإنْسَان إذا سَمِعَ خبراً يَسُوء عَدُوَّهُ سُرَّ بذلك، وإن لم يُوعد به، وقد يتقوى [صاحب] هذا القول المُتقدِّم بأن الزَّمَخْشَرِيَّ قد نحَا إلى هذا المَعْنَى في سورة ﴿سُبْحَانَ﴾ [الإسراء: ٩، ١٠].
قال: فإن قُلْتَ، علام عَطَف ﴿وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الإسراء: ١٠].
قلت: على ﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٩] على أنه بُشرى للمؤمنين ببشارتيْن بثوابِهِم، وبعقَابِ أعْدَائهم، فجعل عِقاب أعدائِهِم داخِلاً في حَيِّز البشارَة فالبشارة هناك كالوَعْدِ هُنَا.
وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخُلود في النَّار لَيْس إلا للكُفَّار؛ لأنَّ قوله: ﴿أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾ يفيدُ الحَصْر، والمُصَاحَبَةُ تَقْتَضِي المُلازَمَةَ، كما يقال: أصْحَاب الصَّحراء، أي: المُلازِمُون لها.
244
ثم ذَكَرَ وعْدَ المُؤمنين فقال :" وَعدَ اللَّه. . " الآية.
واعلم أن " وَعد " يتعدَّى لاثْنَيْن :
أوَّلهما : الموْصُولُ.
والثاني :[ مَحْذُوف ]٧ أي الجنَّة.
وقد صرَّح بهذا المَفْعُول في غير هذا المَوْضِع، وعلى هذا فالجُمْلَةُ من قوله :" لَهُم مَغْفِرَةٌ " لا مَحَلَّ لها ؛ لأنَّها مُفَسِّرة لذلك المَحْذُوف تَفْسِير السَّبَب للمُسَبّبِ، فإن الجَنَّة مسببة عن المَغْفِرَة، وحُصُول الأجْرِ العَظِيم، والكلام قبلها تَامٌّ بِنَفْسه.
وذكرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الآيَة احْتِمالاتٌ [ أخَر ]٨.
أحدها : أنَّ الجملة من قوله " لَهُم مَغْفِرَةٌ " [ بيان للوعد ]٩، كأنَّه قال : قدم لهم وَعْداً، فَقِيلَ : أيُّ شيء وَعَدَهُ ؟ فقال :﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها أيضاً، وهذا أوْلَى من الأوَّل ؛ لأنَّ تفسير المَلْفُوظِ به أوْلَى من ادِّعاء تَفْسِير شَيْءٍ مَحْذُوف.
الثاني : أنَّ الجملة مَنْصُوبةٌ بقول محذوف، كأنَّه قيل : وعدهُم، وقال لهم :" مَغْفِرَة ".
الثالث : إجراء الوَعْدِ مجرى القَوْل ؛ لأنَّه ضَرْبٌ منه، ويَجْعَل " وَعَدَ " واقعاً على الجُمْلَةِ الَّتِي هي قوله :" لَهُمْ مَغْفِرَةٌ "، كما وقع " تَرَكْنَا " على قوله تعالى :﴿ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ ﴾ [ الصافات : ٧٩ ] كأنه قيل : وعدهَمُ هذا القَوْل، وإذا وَعَدَهُمْ من لا يَخْلِفُ المِيعاد فَقَدْ وعدهم مَضْمُونَهُ من المَغْفِرَة والأجْرِ العَظِيم، أي : وعدهُم بهذَا المَجْمُوع، وإجراء الوَعْدِ مَجْرى القَوْل مذهب كُوفِيٌّ.
ثم ذكر وَعِيدَ الكُفَّار فقال :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية.
" الذين كفروا " مبتدأ، و " أولَئِكَ " مُبْتَدأ ثانٍ، و " أصْحَابُ " خبره، والجُمْلَة خَبَرُ الأوَّل، وهذه الجُمْلَة مُسْتَأنَفَةٌ، آُتِي بها اسمية دلالة١٠ على الثُّبُوتِ والاسْتِقْرَارِ، ولم يُؤتَ بِها في سِيَاقِ الوعيد، كما أتى بالجُمْلَةِ قَبْلَها في سِيَاقِ الوَعْدِ حَسْماً لرَجَائهم، وأجاز بَعْضُهُمْ أن تكون هذه الجُمْلَة داخِلَةً في حَيِّز الوَعْد١١ على ما تقدم تقريره في الجُمْلَةِ قبلها.
قال : لأنَّ الوعيدَ اللاَّحِقَ بأعْدائِهم ممَّا يَشْفِي صُدورهُمْ، ويُذْهِب ما كانوا يَجِدُونَهُ من أذَاهُمْ، ولا شَكَّ أن الأذى اللاَّحقِ للعَدُوِّ، مما يَسُرُّ، ويفرح ما عند عَدُوِّهِ، وفيه نظر، فإن الاسْتِئنَاف وافٍ بهذا المَعْنَى، فإن الإنْسَان إذا سَمِعَ خبراً يَسُوء عَدُوَّهُ سُرَّ بذلك، وإن لم يُوعد به، وقد يتقوى١٢ [ صاحب ]١٣ هذا القول المُتقدِّم بأن الزَّمَخْشَرِيَّ قد نحَا إلى هذا المَعْنَى في سورة ﴿ سُبْحَانَ ﴾ [ الإسراء : ٩، ١٠ ].
قال : فإن قُلْتَ، علام عَطَف ﴿ وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الإسراء : ١٠ ].
قلت : على ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾ [ الإسراء : ٩ ] على أنه بُشرى للمؤمنين ببشارتيْن بثوابِهِم، وبعقَابِ أعْدَائهم، فجعل عِقاب أعدائِهِم داخِلاً في حَيِّز البشارَة فالبشارة هناك كالوَعْدِ هُنَا.
وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخُلود في النَّار لَيْس إلا للكُفَّار ؛ لأنَّ قوله :﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ يفيدُ الحَصْر، والمُصَاحَبَةُ تَقْتَضِي المُلازَمَةَ، كما يقال : أصْحَاب الصَّحراء، أي : المُلازِمُون لها.
قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
قتال قتادة: نزلت هذه الآية ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببطن نخل فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك، وأنزل الله صلاة الخوف، وقال الحسن: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محاصراً غطفان بنخل، فقال رجل من المشركين: هل لكم في أن أقتل محمداً؟ قالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، قالوا: وددنا أنك قد فعلت ذلك، فأتى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إيّاه فجعل الرجل يهزّ السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،
244
وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله فتهدده أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشام السيف ومضى، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار عن رجاله: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر واقتتلوا فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم عمرو بن أمية الضمري فلم يرعهم إلا الطير يحوم في السماء يسقط من بين خراطيمها علق الدم فقال أحد النفر: قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال الله أكبر الجنة وربِّ العالمين، فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدما قومهما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما، وكانوا قد عاهدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات، قالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلسْ حتى نعطمك ونعطيك الذي سألته، فجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمر بن جحاش: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره، فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً فقال: لا تبرح مكانك فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل: توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حتى تناهوا إليه ثم تبعوه»
، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال: ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ [المائدة: ١١].
قوله تعالى: «عَلَيْكُم» يجُوزُ أن يَتعَلَّقَ ب «نِعْمَة»، وأن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنَّه حَالٌ مِنْها.
و «إذْ [هَمَّ] » ظرف ناصبه «النِّعْمة» أيضاً، أي: اذْكُروا نِعمتَهُ عليْكم في وقت هَمِّهم [عليكم].
ويجُوزُ أن يتعلَّق هذا الظَّرف بما يتعلَّق به «عَلَيْكُم»، إذا جَعَلته حالاً من «نِعْمَة»، ولا يجُوز أن يكُون مَنْصُوباً ب «اذْكُرُوا» لتَّنافي زَمَنيهما، فإن «إذْ» للمُضيّ، و «اذْكُرُوا» مُستقبل، و «أن يَبْسُطُوا» على إسْقَاطِ البَاءِ أي هَمُّوا بأنْ يَبْسطوا، ففي موضع «أنْ» الخلاف المشهور.
245
ومعنى بسط اليَد مدَّها إلى المَبْطُوش به كقولِهِم: فلان بَسِيطُ البَاعِ، ومديدُ البَاعِ بمعنًى واحد، يُقال: بَسَط إليه لِسَانه إذا شَتَمَهُ، وبَسَطَ إليه يَدَهُ إذا بَطَشَ به، ﴿فكف أيديهم عنكم﴾ أي: مَنعَها أن تَصِل إليْكم.
ثم قال: ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ أي: كُونُوا مواظبين على طاعة الله، ولا تخافوا أحداً في إقامة طاعَةِ اللَّه.
246
قوله جلا وعلا: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ الآية في اتِّصال هذه الآية بما قَبْلَها وجُوه:
أحدُهَا: أنه لما ذكر في الآية الأولى، وهو قوله: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [المائدة: ٧]، ذكر بَعْدَهُ أخذ الميثاق من بَنِي إسرائيل لكنَّهُم نَقَضُوه، وتَركُوا الوَفَاء به، أي فلا تكُونُوا مثل أولَئِك من اليَهُود في هذا الخُلُق الذَّمِيم، فَتَصِيروا مِثْلَهُم فيما نزل بهم.
وثانيها: لما قال تعالى: ﴿اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾ [المائدة: ١١]، وقد تقدَّم في بعض رواياتِ أسْبَاب النُّزُول أنَّها نزلت في اليَهُود، وأنَّهم أرادوا إيقاع الشَّرِّ برسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلما ذكر اللَّه تعالى [ذلك] أتْبَعَهُ بِذِكْرِ فَضَائِحِهمْ، وبيان أنَّهُم [أبداً] كانوا مُواظبِين على نَقْضِ الموَاثيق.
ثالثها: أنَّ الغَرض من الآيات المُتقدِّمة ترغِيبُ المكلَّفِين في قُبُول التكاليف وترك العصيان، فذكر تعالى أنَّه كلَّفَ من كان قَبْلَكُم كما كلَّفكم؛ لِتَعْلَموا أنَّ عادة الله في عِبَادِه أن يُكَلِّفَهُم، فليس التَّكْليف مَخْصوصاً بكم أيُّهَا المُؤمِنُون، بل هي عَادَةٌ جَارِيَةٌ له مع جَمِيع عِبَادِه.
قوله سبحانه: ﴿وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً﴾.
[ «منهم» ] يجُوزُ أن يتعلَّق ب «بَعَثْنَا»، ويجُوزُ أن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّهُ حال من «
246
اثْنَيْ عَشَرَ»، لأنه في الأصْلِ صفةٌ لَهُ فلما [قُدِّم نصب] حالاً، وقد تقدَّم الكلامُ في تركيبِ «اثني عَشَرَ» وبنائه، وحَذْفِ نُونهِ في «البَقَرة» [البقرة ٦٠].
[ «وميثاقٌ» يجُوز أن يكُونَ مُضافاً إلى المَفْعُول - وهو ظاهر - أي: إنَّ الله - تعالى - واثَقَهُم، وأن يكونَ مُضَافاً إلى فاعله، أي: إنِّهم واثَقُوه تعالى.
والمُفَاعَلَة: يجوز نِسْبَة الفَعْل فيها إلى كلٍّ من المَذْكَورين].
«والنَّقِيب» فعيلٌ، قيل: بمعْنَى فاعل مُشْتَقّاً من النَّقْب وهو التَّفْتِيش، ومنه: ﴿فَنَقَّبُواْ فِي البلاد﴾ [ق: ٣٦]، وسُمِّي بذلك؛ لأنَّهُ يُفَتِّشُ عن أحْوَال القَوْمِ وأسْرارِهِم.
قال الزَّجَّاج: أصْلُهُ النَّقبُ، وهو الثُّقْبُ الواسِعُ، ومنه المَناقِبُ، وهي الفضَائِل؛ لأنَّها لا تظهر إلا بالتَّنْقِيب عنها، ونَقَبْتُ الحَائِطَ أي: بلغت في النَّقب إلى آخره، ومنه: النَّقْبَةُ من الجرب؛ لأنه داءٌ شديد الدُّخُول؛ لأن البَعِير يطلى بالهناء فهو حَدُّ طعم القطران في لَحْمِه، والنَّقبَة في السَّراويل بغير رِجْلَيْن؛ لأنَّه قد يُولَع في فتحها، ونقبها ويقال: كَلْبٌ نَقِيبٌ، وهو كَلْبٌ ينقب حنجرته لِئلاَّ يرتفع صوت نُبَاحه، يفعله البُخَلاءُ من العرب لِئلاَّ يظفر بهم ضيْفٌ.
وقيل: هو بمعنى مَفْعُول، كأنَّ القَوْمَ اختاروه على عِلْمٍ منهم، وتَفْتِيشٍ على أحْواله.
وقيل: هو للمبالغة كَعَليم وخبير.
وقال الأصَمّ: هو المَنْظُور إليه المُسْنَدُ إليه أمُور القوم وتَدْبير مَصَالِحهم.

فصل


قال المُفَسِّرون: إن بَنِي إسرائيل كانوا اثْنَيْ عشر سِبْطاً، واختار الله من كل سِبْط رجلاً يكون نَقِيباً لهم وحَاكِماً فيهم.
وقال مجاهد: إن النقبَاء بعثوا إلى مدينة الجَبَّارين الذين أمر مُوسى بالقتال مَعَهُمْ ليقفُوا على أحْوَالِهِمْ، ويرجعوا بذلك إلى نَبيّهم.
قال القُرْطُبِي: ذكر مُحمَّدُ بن حَبيبٍ في «المحبر» أسماء نُقَبَاءِ بني إسرائيل،
247
فقال: من سبط روبيل: شموع بن رَكُوب، ومن سِبْط شَمْعون: شوقوط بن حوري، ومن سِبْط يَهُوذا: كالب بن يوقنا، ومن سِبْط السَّاحر: يُوغول بن يُوسُف، ومن سِبْط أفرائيم ابن يوسف: يوشَع بن النون، ومن سِبْط بِنيَامِين: يلظى بن روقو، ومن سِبْطِ ربالون: كرابيل بن سودا، ومن سِبْط منشا بن يوسف كدى بن سوشا، ومن سِبْط دَان: عمائيل بن كسل، ومن سِبْط كاذ كوال بن موخى، ومن سِبْط نَفْتَال: يُوحنَّا بن قوشا، ومن سِبْط شير ستور بن ميخائيل، فلَّما ذهبُوا إليهم رأوا أجراماً عظيمة وقوَّة وشَوْكةً فَهَابُوهم ورجعوا، وحدَّثُوا قومهم وقد نَهَاهُم موسى - عليه السلام - أن يحدِّثُوهم، فنكثوا الميثاقِ إلا كَالب ابن يوقنا من سِبْطِ يَهُوذا، ويوشَع بن نون من سبط أفرائيم بن يوسف، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ﴾ [المائدة: ٢٣].

فصل


قال القُرْطُبِي: دلَّت هذه الآيةُ على قُبُول خبَرِ الواحِدِ فيما يَفْتَقِرُ إليه المَرْءُ، ويحتاج إلى اطِّلاعه من حاجاته الدينِيَّة والدُّنْيَويَّة، فترتب عليه الأحْكَام، ويربط به الحلال والحرام، وفيها - أيضاً - دليلٌ على اتِّخاذ الجَاسُوس، وقد بَعَثَ رسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بَسْبَسَة عيناً، أخرجه مسلم. وسيأتي حُكْمُ معاني الجَاسُوس في المُمْتَحنة إن شاء الله تعالى.
قوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة﴾ في الكلام حذف، والتقدير: وقال الله لهم إنِّي مَعَكُم؛ إلاَّ أنَّه [حذف] ذلك لاتِّصال [الكلام] بِذكْرِهِم
248
وقوله: «إنِّي مَعَكُمْ» قيل: هذا خِطَابٌ للنُّقَبَاء، وقيل: [خطاب] لكلِّ بَنِي إسْرائيل، والأوَّل أوْلَى؛ لأنَّه أقْرَبُ إلى الضمير.
قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة﴾ هذه هي اللاَّم الموطِّئة للقَسَم، والقسم معها مَحْذُوف، وقد تقدَّم أنَّه إذا اجْتَمَع قَسمٌ وشرط أجيب سابقُهمَا، إلا أن يتقدَّم ذُو خبر، فيُجَابُ الشَّرْط مُطْلقاً.
واعلم أنَّ الكلام قد تَمَّ عند قوله: ﴿وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أي: بالعلم والقُدْرة، فأسمع كلاَمَكم، وأرى أفْعَالَكم، وأعْلَمُ ضَمَائِرَكم، وهذه مقدِّمة مُعْتَبرة في التَّرْغيب والتَّرهيب، ثم ابْتَدأ بعدها جُمْلَة شَرْطية، والشَّرْط مركَّبٌ من خمسة أمور، وهي قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾.
قوله عز وعلا: «لأكَفِّرَنَّ» هذه «اللاَّم» هي جوابُ القسم لسبقه، وجواب الشَّرْط محذوفٌ لدلالةِ جواب [القسم] عليه، وهذا معنى قول الزَّمَخْشَرِيِّ: أن [معنى] قوله: «لأكَفِّرَنَّ» سادٌّ مَسَدّ جوابَي القَسَم والشَّرط، لا كَما فَهِمَهُ بَعْضُهم وردّ عليه ذلك.
ويجُوزُ أن يكون «لأكَفِّرَنَّ» جواباً لقوله تعالى قبل ذلك: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ لما تضمَّنه الميثاق [من] معنى القَسَمِ، وعلى هذا فتكُون الجُمْلتان، أعني قوله: «وَبعثْنَا» «وقال اللَّهُ» فيهما وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ نَصْب على الحال.
الثاني: أن تكونا جملتي اعتراضٍ، والظَّاهر أنَّ قوله: «لَئِن أقَمْتُم» جوابه «لأكَفِّرَنَّ» كما تقدَّم، وجملة هذا القسم المَشْروط وجوابه مُفسرة لذلِكَ المِيثَاق المتقدم.
والتَّعْزِيرُ التَّعْظيم.
قال: [الوافر]
١٩٤٤ - وَكَمْ مِنْ ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ وَمِنْ لَيْثٍ يُعزَّرُ في النَّدِيِّ
وقيل: هو الثَّناء بخير قاله يونس، وهو قريب من الأوَّل.
وقال الفرَّاء: هو الردَّ عن الظُّلْم.
وقال الزَّجَّاج: هو الرَّدْعُ والمَنْعُ، فعلى القَوْلَين الأوَّليْن يكون المعنى:
249
وعظَّمْتُموهم [وأثنيت] عليهم خيراً، وعلى الثَّالث والرابع يكون المعنى: وَرَدَدْتُمْ وَرَدعْتُمْ عنهم سُفَاءَهُم.
قال الزَّجَّاج: عَزَّرْت فُلاناً فعلتُ به ما يردعه عن القَبِيح [مثل نكلت]، فعلى هذا يكون «عزَّرْتُمُوهُمْ» رددتم عنهم أعْدَاءَهُم.
وقرأ الحَسَنُ البَصْرِي «بِرُسْلِي» بسُكُونِ السِّين حيث وَقَع.
وقرأ الجَحْدَرِيُّ: «وَعَزَرْتُمُوهم» خفيفَةَ الزَّاي، وهي لغة.
وقرأ في [الفتح: ٩] [ «وَتَعْزُرُوه» ] بفتح عين المضارعةِ، وسكون العين، وضم الزَّاي، وهي موافقة لقراءته هنا، وتقدَّم الكلام في نَصْب «قَرْضاً» في [البقرة: ٢٤٥].
فإن قيل: لم أخَّر الإيمان بالرُّسُل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة، مع أنه مُقدَّم عليهما؟.
فالجواب: أنَّ اليهود كانوا مُقرِّين بأنَّه لا بد في حُصُول النَّجاة من إقَامَةِ الصلاةِ، وإيتاء الزَّكاة، إلاَّ أنَّهم كانوا مُصرِّين على تكذيب بعض الرُّسلِ، فذكر بعد إقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة أنَّه لا بد من الإيمان بجميع الرُّسل حتى يحصُلَ المَقْصُود، وإلاَّ لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة تأثير في حُصول النَّجاة بدون الإيمان بجميع الرُّسُل.
فإن قيل: قوله: ﴿وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ دخل تحت إيتاء الزَّكاة، فما فائدة الإعَادة؟.
فالجواب: أنَّ المراد بالزَّكاة الواجبة، وبالقرض الصَّدقة المندوبة، وخصَّها بالذِّكر تنبيهاً على شَرَفها.
قال الفرَّاء: ولو قال: وأقرضتم الله إقراضاً حسناً، لكان صَوَاباً، إلا أنَّه قد يقام الاسْمُ مقام المَصْدَر، ومثله ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ [آل عمران: ٣٧]، ولم يقل: يتَقَبَّل، وقوله: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ [آل عمران: ٣٧] ولم يقل إنباتاً.
قوله سبحانه: ﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾.
أي: أخطأ الطَّرِيق المسْتَقِيم الذي هو الدِّين المَشْرُوع لهم، وقد تقدَّم الكلامُ على سَوَاءِ السَّبِيل.
250
فإن قيل: من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضَلَّ سواء السَّبيل؟ فالجوابُ: نعم، ولكن الضَّلال بعده أظْهر وأعْظَم؛ لأنَّ الكُفْرَ إنما عَظُم قُبْحُه لعظم النِّعْمَة المَكْفُورة، فإذا زادت النِّعْمة زاد قُبْحُ الكُفْرِ.
251
قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ الآية.
قد تقدَّم الكلامُ على نَظِيره.
قال القُرْطُبِي: والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، و «مَا» زائدة للتَّوْكيد.
قال قتادةُ وغيرُه: وذلك أنَّها تؤكِّد الكلام بمعنى تمكنه في النَّفْس من جهة حسن النَّظْم، ومن جهة تَكْثِيرِه [للتَّوْكِيد]، كقوله [الوافر]
١٩٤٥ -.................... لِشَيْءٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وقيل: نَقْضُ الميثاق تكْذيبُ الرُّسل، وقيل: الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: كِتْمَانهم صفة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقيل: المَجْمُوع.
وقال عطاء: «لَعَنَّاهم» أبعدناهم من رحمتنا، وقال الحسن ومُقاتل: مسَخْنَاهم قِرَدة وخنازير. وقال ابن عبَّاس: ضربنا الجِزْية عَلَيْهِم.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾.
قرأ الجمهور «قَاسِيَة» اسم فاعل من قَسَا يَقْسُو.
وقرأ الأخوان وهي قراءة عَبْد الله «قَسِيَّة» بفتح القاف وكَسْرِ السِّين وتشديد اليَاء، واختلف الناس في هذه القراءة.
فقال الفَارِسي: لَيْسَت من ألْفَاظِ العرب [في الأصل]، وإنَّما هي كَلِمَةٌ أعْجَمِيَّةٌ معرَّبة، يعني أنها مأخوذَةٌ من قولهم: درهم قَسِيّ، أي: مَغْشُوش، شبَّه قلوبهم في كونها غير صَافِية من الكَدَرِ بالدَّراهم المَغْشوشة غير الخَالِصَة، وأنْشَدُوا قول أبي زُبَيْد: [البسيط]
251
١٩٤٦ - لها صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا صَاحَ القَسِيَّاتُ في أيْدِي الصَّيَارِيفِ
وقول الآخر: [الطويل]
١٩٤٧ - وَمَا زَوَّدُونِي غَيْرَ سَحْقِ عمَامَةٍ وَخَمْسِ مِىءٍ مِنْهَا قَسِيٌّ وَزَائِفُ
وقال الزَّمَخْشَرِي، وقرأ عبد الله «قسيَّة»، أي: رديئة مغشوشة من قولهم: «درهم قَسيّ»، وهو من القَسْوة؛ لأن الذَّهَبَ والفضَّةَ الخالِصَيْن فيهما لين، والمغشوش فيه صلابةٌ ويُبْسٌ والقَاسِي والقاسِح بالحاء المهملة أخوان في الدَّلالة على اليُبْس.
وهذا القول سبقه إليه «المُبَرِّد»، فإنه قال: «يسمى الدِّرْهم المَغْشُوش قَسِيًّا لصلابته وشدَّتهِ للغِشِّ الذي فيه»، وهو يرجعُ للمعنى الأوَّل، والقاسِي والقَاسِح بمعنى واحد.
وعلى هذين القَولَيْن تكون اللَّفظة عَرَبيَّةً.
وقيل: بل هذه القِرَاءَةُ توافق قِراءَة الجَمَاعَة في المعنى والاشْتِقَاق؛ لأنَّه «فَعِيل» للمُبَالغة ك «شاهد»، و «شهيد»، فكذلك قاسٍ وقَسِيّ، وإنما أنِّث على معنى الجماعةِ في المعنى والاشْتِقَاق.
وقرأ الهَيْصَم بن شداخ: «قُسِيَّة» بضم القَافِ وتشديد اليَاء.
وقرئ «قِسِيَّة» بكسر القاف إتْبَاعاً، وأصْلُ القراءَتَيْن: «قاسِوَة»، و «قَسِيوة» لأن الاشْتِقَاق من القَسْوة.

فصل


والمعنى أنَّ قلوبهم ليست بخالصة الإيمان، بل إيمانُهُم مشوبٌ بالكُفْرِ والنِّفَاق، وقيل: نائيةٌ عن قُبُول الحقِّ، مُنْصَرِفة عن الانقيادِ للدَّلائل.
وقالت المُعْتَزِلَة: أخْبِرْنا عنها بأنَّها صارت قَاسِيَة، كما يُقَال: فلانٌ جعل فُلاناً قاسِياً وعدْلاً. ثم إنَّه تعالى ذكر بَعْضَ نتائج تلك القَسْوَة، فقال: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ وهذا التَّحْرِيفُ هو تَبْدِيلُهم نعت النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -، وقيل: التَّأويل البَاطل.
والجملة من قوله: «يُحَرِّفُونَ» فيها أرْبَعَةُ أوْجُه:
252
أحدها: أنَّها مستأنَفَةٌ بيان لِقَسْوة قُلُوبهم؛ لأنَّه لا قَسْوَةَ أعظم من الافتراء على اللَّه تعالى.
والثاني: أنَّها حَالٌ من مَفْعُول «لَعَنَّاهُمْ» أي: لَعَنَّاهم حال اتِّصافهم بالتَّحْريف.
والثالث: قال أبو البقاء: أنَّها حال من الضَّمِير المسْتَتِر في «قَاسِيَة».
وقال: ولا يجُوزُ أن يكون حَالاً من «القُلُوب» ؛ لأنَّ الضَّمير في «يُحَرِّفُون» لا يرجع إلى «القُلُوب»، وفي هذا نَظَرٌ من حيث جواز أن يكون حَالاً من الضَّمِير في «قَاسِيَة»، يَلزَمُهُ أن يُجوِّزَ أن يكون حَالاً من «القُلُوبِ»، لأنَّ الضَّمير المستتر في «قَاسِيَة» يعود على «القُلُوبِ»، فكما يمتَنِعُ أن يكون حالاً من ظاهره [يمتنع أن يكون حالاً من ضميره]، وكأنَّ المانع الذي توهمه كون الضَّمير وهو الواو في «يُحَرِّفُون» إنَّما يعُود على اليَهُودِ بِجُمْلَتِهِم لا على قُلُوبهم خاصَّةً، فإن القُلُوب لا تحرَّف، إنما يُحرَّف أصْحَابُ القُلوب، وهذا لازِمٌ له في تجويزه الحالِيَّة من الضَّمِير في «قَاسِيَة».
ولقائِل أن يَقُول: المراد ب «القُلُوب» نفس الأشْخَاص، وإنما عبَّر عنهم بالقُلُوب؛ لأن هذه الأعضاء هي محلُّ التَّحْريف، أي: إنَّه صَادِرٌ عَنْها بتَفَكُّرِها فيه، فيجُوزُعلى هذا أن يكُون حَالاً من «القُلُوب».
والرابع: أن يكون حالاً من «هم» في «قُلُوبِهم».
قال أبو البَقَاء: وهو ضعيف يعني: لأنَّ الحال من المُضَاف إليه لا تَجُوزُ، وغيره يجوِّزُ ذلك في مثل هذا الموضع؛ لأن المُضافَ بَعْضُ المُضَافِ إليه.
وقرأ الجمهور بفتح الكاف وكَسْرِ اللاَّم، وهو جمع «كَلِمَة».
وقرأ أبو رجاء «الكِلْم» بكَسْرِ الكَافِ وسُكُون اللاَّم، وهو تَخْفيفُ قِرَاءة الجَمَاعَة، وأصْلُها أنَّه كَسَرَ الكاف إتْبَاعاً، ثم سكن العَيْنَ تَخْفِيفاً.
وقرأ السُّلمي والنَّخْعي: «الكَلاَم» بالألف، و «عَنْ مَوَاضِعهِ» وتقدَّم مثله في «النِّسَاء» [النساء: ٤٦].
قوله تعالى: ﴿وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾.
قال ابن عباسٍ: تركوا نَصِيباً ممَّا أمِرُوا بِهِ من الإيمَان بِمُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
253
قوله - سبحانه -: ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾.
في «خَائِنَةٍ» [ثَلاثةُ أوْجُه] :
أحدها: أنَّها اسم فاعل، والهاء لِلْمُبَالغة ك «راوية وعلاَّمة [ونسَّابة] »، أي: على شخص خائن.
قال الشَّاعر: [الكامل]
١٩٤٨ - حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ
الثاني: أن التَّاء للتَّأنيث، وأنِّث على معنى: طائفة أو فرقة أو نفس أو فَعْلة خائنة.
قال ابن عبَّاسٍ: «على خَائِنَةٍ»، أي: على مَعْصِية، وكانت خِيَانَتُهُم نقض العَهْدِ، ومظاهرتُهمْ المُشْرِكين على حَرْبِ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهَمّهم بِقَتْلِهِ وسمه ونحوها من الخِيَانَاتِ الَّتي ظَهَرَتْ منهم.
الثالث: أنها بمعنى المَصْدَرِ ك «العافِيَة والعَاقِبَة والكاذِبَة واللاغية والواقِيَة»، قال تعالى: ﴿فَأُهْلِكُواْ بالطاغية﴾ [الحاقة: ٥] أي: بالطُّغيان، وقال: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ [الواقعة: ٢] أي كذب، وقال: ﴿لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً﴾ [الغاشية: ١١] أي: لغواً.
وتقول العرب: سمعت رَاغِيَة الإبل، وثاغية الشاء، يعنون رُغَاءَها وثُغَاءَها.
قال الزَّجَّاج: [ويقال] عافاه اللَّهُ عافِيَةً، ويؤيِّد هذا الوجْهُ قراءة الأعمش «على خِيَانَة» وأصل «خَائِنة» خاوِنَة وخِيَانة وخوانة [لقولهم: تَخوَّنَ، وخَوَّان] وهو [أخْوَن، وإنما أُعِلاَّ إعلال «قائمة»، و «قيام» ].
و «مِنْهُم» صفة ل «خَائِنة» إن أُرِيد بها الصِّفَة، وإن أُرِيد بها المَصْدر قُدِّر مضَاف، أي: من بَعْض خيَانَاتِهِم.
قوله تعالى: «إلاَّ قَلِيلاً» منصُوب على الاسْتِثْنَاء، وفي المُسْتَثْنَى منه أربَعَةُ أقْوال:
أظهرُهَا، أنَّه لفظ «خَائِنة»، وهُمَ الأشخاص المَذْكورُون في الجُمْلَةِ قَبْلَه، أي: لا تَزالُ تطَّلِع على مَنْ يَخُون منهم إلاَّ القليل، فإنَّه لا يَخُون فلا تَطلعْ عليه، وهم الذين أسْلَمُوا من أهْلِ الكِتَاب كعَبْدِ الله بن سلام وأصْحَابه.
254
قال أبُو البَقَاء: «ولو قُرئ بالجَرِّ على البَدَلِ لكان مُسْتَقِيماً»، يعني على البَدَل من «خَائِنَة»، فإنَّهُ في حيز كلامٍ غير مُوجب.
والثاني ذكره ابْنُ عطيَّة: أنَّهُ الفعل أي: لا تَزَالُ تَطَّلِعُ على فِعْلِ الخيانة إلا فَعْلاً قَلِيلاً، وهذا واضِحٌ إن أُريد بالخِيَانَة أنَّها صِفَةٌ لِلْفَعْلَةِ المقدَّرَة كما تقدَّم، ولكن يبْعد ما قاله ابنُ عطيَّة قوله بعده: «مِنْهُم»، وقد تقدَّم لَنَا نَظِيرُ ذلك في قوله: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦] من حَيْث جَوَّز الزَّمَخْشَرِيّ فيه أنْ يكون صِفَةً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ.
الثالث: أنَّه «قُلُوبهُم» في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾، قال صاحب هذا القول: والمُرادُ بِهِمْ: «المُؤمِنُون؛ لأنَّ القَسْوَة زالت عن قُلُوبِهِم»، وهذا بَعِيدٌ جدًّا؛ لقوله: «لَعَنَّاهُمْ».
الرابع: أنَّهُ الضَّمِير في «مِنْهُم» من قوله: ﴿على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾ قال مَكيّ.
قوله [تعالى] :﴿فاعف عَنْهُمْ واصفح﴾.
قيل: «العَفْوُ» نُسِخَ بآية السَّيْف، وقيل: لَمْ يُنْسَخُ، وعلى هذا فيه وجهان:
أحدهما: معناه: فاعْفُ عن مُؤمنيهم، ولا تُؤاخِذْهُم بما سلَفَ منهم.
الثاني: أنَّا إن حملنا القَلِيل على الكُفَّار [منهم الذين بَقُوا على الكُفْر]، فالمعنى: أنَّ الله تعالى أمر رسوله بالعَفْوِ عنهم في صَغَائِر زَلاَّتِهِم ما داموا بَاقِين على العهد، وهو قَوْل أبِي مُسْلِم.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾.
قال ابنُ عبَّاسٍ: إذا عَفَوْت فأنْتَ مُحْسِنٌ، وإذا كنْتَ مُحْسناً فقد أحبَّك اللَّه.
وقيل: المراد بهؤلاء المُحْسنين: هم المَعْنيّون بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ﴾ وهمْ الذين ما نَقَضُوا الْعَهْد.
255
قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى﴾ الآية.
في قوله: ﴿وَمِنَ الذين قَالُواْ﴾ خمسَة أوْجه:
255
أظهرها: [أنَّ «مِنَ» ] مُتعلِّق بقوله: «أخَذْنَا»، والتَّقدير الصَّحيح فيه أنْ يُقال: تقديره: وأخْذَنا مِن الذين قالُوا: إنَّا نَصَارى ميثاقَهُمْ، فَتُوقعُ «الَّذِين» بعد «أخَذْنَا» وتُؤخر عنهم «ميثاقَهُمْ»، ولا يجُوز أن تُقدِّر: «وأخَذْنَا مِيثاقَهُمْ» مِن «الَّذين» فيتقدَّم «ميثاقُهم» على «الذيِن قَالُوا».
وإن كان ذَلِكَ جَائِزاً من حيث كَوْنِهمَا مَفْعُولَيْنِ، كلٌّ منهما جَائِز التَّقْديم والتَّأخير؛ لأنَّه يلزم عَوْدُ الضَّمير على مُتَأخِّر لَفْظاً ورتْبة وهو لا يجُوز إلا في مَوَاضِع مَحْصُورة، نصَّ على ذَلِك جماعة منهم مَكِّي وأبُو البَقَاء.
والثاني: أنَّهُ متعلِّق بمَحْذُوف على أنَّهُ خبر لمُبْتَدأ مَحْذُوف، قامت صِفَتُهُ مقامَهُ، والتَّقْدِير: ﴿وَمِنَ الَّذِين قالوا إِنَّا نَصَارى قَوْمٌ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾، فالضَّمير في «مِيثَاقَهُم» يعودُ على ذلك المَحْذُوف.
والثالث: خَبرٌ مقدَّم - أيضاً - ولكن قَدَّرُوا المُبْتدأ مَوْصُولاً حُذِف، وبقيت [صِلَتُه] والتقدير: ومِن الَّذِين قالوا: إنَّا نَصَارَى مَنْ أخذْنَا ميثَاقَهُم فالضمير في «مِيَثاقَهُم» عائد على «مِنْ»، والكوفِيُّون يُجِيزُونَ حذفَ الموصول، وقد تقدم لنا معهم البَحْثُ في ذلك، ونقل مَكِّي مذهب الكُوفيِّين هذا، [وقدَّره عندهم: «ومن الذين قالوا إنَّا نصارى من أخذنا» ]، وهذا التَّقدير لا يُؤخَذُ مِنْه أنَّ المحذوف مَوْصُولٌ فقط، بل يَجُوز أن تكون «مِنْ» المُقَدَّرة نكرةٌ موصُوفَةٌ حذفت وَبقِيَت صِفَتُها، فيكون كالمَذْهَبِ الأوَّل.
الرابع: أن تتعلَّق «من» ب «أخذنا» كالوجه الأوَّل، إلا أنَّه لا يلْزَمُ فيه ذلك التَّقْدير، وهو أن توقع «من الَّذين» بعد «أخذنا» وقبل: «مِيثَاقَهُم»، بل يجُوزُ أن يكون التَّقْدير على العَكْسِ، بمعنى: أنَّ الضَّمير في «مِيثاقَهُم» يعود على بَني إسْرائيل، ويكون المَصْدَرُ من قوله: «مِيثَاقَهُم» مصدراً تشبيهيًّا، والتَّقْدير: أخذنا من النَّصَارى مِيثَاقاً مثل مِيثاق بَنِي إسْرَائيل، كقَوْلك: أخَذْتُ من زيد ميثاقَ عَمْرو، أي [ميثاقاً مثل ميثاق عمرو]، وبهذا الوَجْه بدأ الزَّمَخْشَري، فإنَّه قال: أخَذْنَا من النَّصَارى مِيثَاق من ذكر قَبْلَهم من قَوْم مُوسَى، أي: مِثْل مِيثَاقِهم بالإيمَان باللَّه والرُّسُل.
والخامس: أن «مِن الَّذين» معطوفٌ على «مِنْهُم» في قوله: ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾ [المائدة: ١٣] أي: من اليَهُود [والمعنى: ولا تزال تَطَّلِع على خَائِنَةٍ من اليَهُودِ]، ومن
256
الذين قالوا إنَّا نَصَارَى، ويكون قوله: «أخَذْنَا مِيثَاقَهُم» على هذا مُسْتأنفاً، وهذا يَنْبَغِي ألاَّ يَجُوز لِوَجْهَيْن:
أحدهما: الفَصْلُ غير المُغْتَفَر.
والثاني: أنَّه تهيئَةٌ للعامِل في شيء، وقَطْعه عنه، وهو لا يَجُوز.

فصل


إنما قال: ﴿وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى﴾ ولم يقل: «ومن النَّصارى» ؛ لأنَّهم سمُّوا أنْفُسَهم بهذا الاسْمِ ادَّعاءً لِنُصْرة الله، بِقَوْلهم لعيسى: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾ [آل عمران: ٥٢]، وليسوا مَوْصُوفِين بِهِ.
قال الحسن: فيه دَلِيلٌ على أنَّهُم نَصَارى بتَسْمِيَتِهِم لا بتَسْمِيَة اللَّه وقيل: أراد بِهِم اليَهُود والنَّصارى، فاكْتَفَى بذكر أحدهما، والصَّحيح الأوَّل، والمراد ب «مِيثَاقَهُم» أنَّه مكتُوب في الإنْجِيل أن يُؤمِنُوا بِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ وذلك الحَظُّ هو الإيمانُ بمحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتنكير «الحَظّ» يدلُّ على أنَّ المراد به حَظٌّ واحد، وهو الإيمانِ بِمُحَمَّد، وإنما خَصَّ هذا الواحد بالذِّكْر مع أنَّهُم تَرَكُوا كثيراً ممَّا أمرهم به، لأنَّ هذا هو المُهِمُّ الأعْظَم.
وقوله: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة﴾ بالأهواء المختلفة والجِدَال في الدِّين، فقيل: بَيْن اليَهُود والنَّصَارى، وقيل: بين فِرَقِ النَّصَارى، وأن بعضهم يُكَفِّر بَعْضاً إلى يوم القِيَامة.
وقوله: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ وعيد لهم.
قوله: «بَيْنَهُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه ظَرْف ل «أغْرَيْنَا».
والثاني: أنَّهُ حال من «العَدَاوَةِ»، فيتعلَّق بِمَحْذُوف، ولا يَجُوز أن يَكُون ظَرْفاً لِلْعَدَاوةَ؛ لأنَّ المصدر لا يتقدَّم مَعْمُولُه عليه.
و ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ أجاز فيه أبُو البَقَاء أن يتعلَّق ب «أغْرَيْنَا»، أو ب «العَدَاوة» أو ب «البَغْضَاء» أي: أغرينا إلى يَوْمِ القيامة [بينهم العداوة والبغضاء، أو أنهم يتعادون إلى يوم القيامة] أو يتباغضُون إلى يومِ القيامة.
257
وعلى ما أجَازَهُ أبو البَقَاء أن تكون المَسألَةُ من باب الإعْمَال، ويكون قد وجد التَّنَازع بين ثلاثةِ عوامِلٍ، ويكون من إعْمَال الثَّالِث للحَذْفِ من الأوَّل والثَّاني، وتقدَّم تَحْرِير ذلك.
و «أغْرَيْنَا» من أغْرَاه بكذا أي: ألزمه إياه، وأصْلُه من الغِرَاء الذي يُلْصَقُ به، ولامُهُ وَاوٌ [فالأصلُ] أغْرَوْنَا، وإنما قلبت الواوُ ياءً؛ لوقوعها رابعَةٌ [ك «أغْوَيْنَا»، ]، ومنه قولهم: سَهْمٌ مغروٌّ أي: معمول بالغِرَاء، يقال: غَرِيَ بكذا يغْرى غَرًى وغرَاء، فإذا أريد تَعْدِيته عُدِّي بالهمزة، فقيل: أغْرَيْتُه بكذا.
والضمير في «بَيْنَهُم» يحتمل أن يعُود على ﴿الذين قَالُواْ: إِنَّا نصارى﴾، وأن يعود على اليَهُود المتقدمين الذِكْر، وبكلٍّ قال جماعَةٌ كَمَا [قَدَّمْنَا] وهذا الكلامُ مَعْطُوفٌ على الكلام قَبْلَه من قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ [المائدة: ١٢] أي: ولقد أخَذَ الله ميثاقَ بني إسْرَائيل، وأخَذْنا من الَّذين قالوا.
258
لما حكى عن اليهود والنَّصارى نَقْضَ العَهْد، دَعَاهُم بعد ذلك إلى الإيمان بِمُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: ﴿يَا أَهْلَ الكتاب﴾ وأراد اليَهُود والنَّصَارى، وَوَحَّد «الكِتَاب» إرادة للْجِنْس.
ثم قال: ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ﴾.
قال ابن عباس: أخْفُوا آية الرَّجْمِ من التَّوْراة وبَيَّنَها الرَّسُول - عليه السلام - لهم، وهو لَمْ يَقْرأ [كتاباً] ولم يتعلَّم علماً من أحَد، وهذه مُعْجِزة، وأخفوا صِفَةَ مُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الإنْجِيلِ، وغير ذَلِك.
قوله: «يُبَيِّن» في محلِّ نَصْب على الحَال من «رَسُولُنَا»، أي: جَاءَكم رسولُنا في هذه الحالة، و «ممَّا يتعلَّق بَمْحذُوف؛ لأنَّه صِفَة ل» كَثيراً «، و» مَا «موصولةٌ اسميَّة، و» تُخْفُون «صلتُهَا، والعائد مَحْذُوفٌ، أي: من الذين كُنْتُم تُخْفُونَهُ، و» مِن الكِتَابِ «متعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حالٌ من العَائِد المَحْذُوف.
258
وقوله: ﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾، أي: لا يُظْهِر كثيراً مما كُنْتُم تُخْفُون من الكِتَاب، فلا يتعرَّض لكم، ولا يُؤاخذكم به؛ لأنَّه لا حاجةَ له إلى إظْهَارِهِ، والفَائِدةُ في ذلك: أنهم علموا كَوْنَ الرَّسُول عالماً بكُلِّ ما يُخْفُونَه، فيصير ذلك داعياً لهم إلى تَرْكِ الإخْفَاء، لئلا يفتضح أمرهم.
والضَّمِير في» يُبَيِّنُ «و» يَعْفُو «يعود على الرَّسُول.
وقد جوَّز قومٌ أن يعود على الله تعالى، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ:»
يُبَيِّنُ «من الإعراب، ويمتنعُ أن يكون حَالاً من» رَسُولُنَا «لعدم الرَّابِط، وصِفَةُ» كَثِير «محذوفة لِلْعِلْمِ بها، وتَقْدِيرُه: عن كثير من ذُنُوبِكُمْ، وحذف الصِّفَة قَلِيلٌ.
قوله: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ﴾ لا محلَّ له [من الإعراب] لاستئنَافِه، و»
من اللَّه «يَجُوز أن يتعلق ب» جاء «، وأن يتعلَّق بمحذُوف على أنَّه حَالٌ من» نُورٌ «، قدِّمت صفة النَّكرة عليها، فنُصِبَتْ حالاً.

فصل في معنى الآية


والمراد بالنُّور: محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وبالكتاب: القُرْآن، وقيل: المراد بالنُّور: الإسلام، وبالكِتَاب القُرْآن، وقيل: النُّور والكتاب والقُرْآن، وهذا ضعيفُ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجبُ التَّغَاير.
قوله تعالى:»
يَهْدِي «فيه خَمْسَة أوجه:
أظهرها: أنَّه في محلِّ رفْع؛ لأنَّهُ صفة ثَانِيَةٌ ل»
كِتَاب «، وصفَهُ بالمفرد ثم بالْجُمْلَة، وهو الأصْلُ.
الثاني: أن يكون صِفَةً أيضاً لكن ل»
نُورٌ «، وصَفَهُ بالمُفْرَد ثم بالجُمْلَة، ذكره أبو البقاء وفيه نظر، إذ القَاعِدَةُ أنَّه إذا اجْتَمَعَتِ التَّوابع قُدِّم النَّعْت على عَطْف النَّسَق، تقول جاء زَيْدٌ العَاقِل وعَمْرو، ولا تقُولُ: جاء زيْدٌ وعمرو العَاقِل؛ لأنَّ فيه إلباساً أيضاً.
الثالث: أن يكون حالاً من «كِتَاب»
، لأن النَّكرة لما تخصَّصَت بالوَصْف قَرُبت من المَعْرِفة.
وقياس قول أبي البقاء أنَّه يجوز أن يكون [حالاً من «نُورٌ»، كما جاز أن يكُون] صِفَة لَهُ.
259
الرابع: أنَّهُ حال من «رسُولُنا» بدلاً من الجُمْلَة الواقِعَة حالاً له، وهي قوله: «يُبَيِّنُ».
الخامس: أنَّهُ حالٌ من الضَّمير في «يُبَيِّن» ذكرهما أبُو البقاء، ولا يَخْفَى ما فيهما من الفَصْلِ؛ ولأن فيه ما يُشْبِهُ تَهْيِئَة العَامِل للعَمَلِ، وقَطْعه عنه، والضَّمِير في «بِهِ» يعُودُ على من جعل «يَهْدي» حالاً منه، أو صِفَة لَه.
قال أبو البقاء: فَلِذَلِكَ أفْرِدَ، أي: إن الضمير في «بِهِ» أُتِي به مُفْرداً، وقد تقدَّمه شيئان وهُمَا: «نُورٌ» و «كِتَابٌ»، ولكن لما قصد بالجُمْلَة من قوله: «يَهْدي» الحال، أو الوصف من أحدهما، أُفْرِد الضَّمير.
وقيل: الضمير في «بِهِ» يعود على الرَّسُول [وقيل: يَعُودَ على «السَّلام» ]، وعلى هذين القَوْلَيْن لا تكون الجُمْلَةُ من قوله: «يَهْدِي» حالاً ولا صِفَةً لعدم الرَّابط.
و «مَنْ» موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ، ورَاعَى لَفْظَها في قولِهِ: «اتَّبَع» فلذلك [أفرد الضَّمِير، ومَعْناها، فَلِذَلك] جمعه في قوله: «وَيُخْرِجُهُم».
وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر، ومُسْلِم بن جُنْدُب، والزُّهَري «بهُ» بضم الهاء حيث وقع، وقد تقدَّم أنَّه الأصْل.
وقرأ الحسن «سُبْلَ» بسكون الباء، وهو تخْفيفٌ قياسي به كقولهم في عُنُق: عُنْق، وهذا أوْلَى لِكَوْنه جمعاً، وهو مَفْعُول ثانٍ ل «يَهْدِي» على إسقاط حَرْفِ الجرِّ، أي إلى «سُبْل»، وتقدَّمَ تحقيق نظيره، ويجُوزُ أن يَنْتَصِبَ على أنَّهُ بدَل من «رِضْوَانَهُ» إما بَدَل كُل من كلّ لأن سبل السلام [هي رضوان الباري تعالى، وإما بدل اشتمال؛ لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام؛ أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى، وإما بدل] بعض من كل؛ لأن سبل السلام بعض الرضوان.

فصل


معنى ﴿يَهْدِي بِهِ الله﴾ أي: بالكِتَاب المُبِين ﴿مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ﴾ أي: كان مطلوبُهُ من طلب الدِّين اتِّباع الدِّين [الذي] يَرْتَضِيه اللَّه، «سُبُلَ السلام» [أي: طُرُق السَّلامَة] وقيل: السلام هو الله عزَّ وجلَّ، و «سُبُلَهُ» : دينَهُ الذي شرع لِعبَادِه، ويجُوزُ
260
أن يكون على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: سُبُل دار السلام، ونظيره قوله: ﴿والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ [محمد: ٤ - ٥] ومعلومٌ أنَّه ليس المُرادُ هِدَايَة الاسْتِدْلاَل، بل الهدايَةُ إلى طَرِيق الجَنَّة.
ثم قال: ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ﴾ أي: من ظُلمات الكُفْر إلى نورِ الإيمان «بإذْنِهِ» بتوفيقه و «بإذنِهِ» متعلِّق ب «يُخْرِجُهُم» أي: بتَيْسِيره أو بأمْره، و «البَاءُ» للحال أي: مُصَاحِبِين لِتَيْسِيرِه أو للسَّبَبِيَّة، أي: بسبب أمْرِه المُنَزَّل على رسوله.
وقيل: «الباء» تتعلق بالاتِّبَاع، أي: يتَّبع رِضْوَانه بإذْنِه.
قال ابنُ الخَطِيب: ولا يجُوزُ أن تتعلَّق بالهِدَاية، [ولا بالإخْرَاج؛ لأنَّه لا مَعْنَى له، فَدَلَّ ذلك على أنَّه لا يتبع رضوان الله إلا من أرَادَ اللَّه منه ذَلِكَ].
ثم قال: ﴿يَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وهو الدِّين الحقُّ.
261
قوله تعالى :" يَهْدِي " فيه خَمْسَة أوجه :
أظهرها : أنَّه في محلِّ رفْع ؛ لأنَّهُ صفة ثَانِيَةٌ٧ ل " كِتَاب "، وصفَهُ بالمفرد ثم بالْجُمْلَة، وهو الأصْلُ.
الثاني : أن يكون صِفَةً أيضاً لكن ل " نُورٌ "، وصَفَهُ بالمُفْرَد ثم بالجُمْلَة، ذكره أبو البقاء٨ وفيه نظر، إذ القَاعِدَةُ أنَّه إذا اجْتَمَعَتِ التَّوابع قُدِّم النَّعْت على عَطْف النَّسَق، تقول جاء زَيْدٌ العَاقِل وعَمْرو، ولا تقُولُ : جاء زيْدٌ وعمرو العَاقِل ؛ لأنَّ فيه إلباساً أيضاً.
الثالث : أن يكون حالاً من " كِتَاب "، لأن النَّكرة لما تخصَّصَت بالوَصْف قَرُبت من المَعْرِفة.
وقياس٩ قول أبي البقاء أنَّه يجوز أن يكون [ حالاً من " نُورٌ "، كما جاز أن يكُون ]١٠ صِفَة لَهُ١١.
الرابع : أنَّهُ حال من " رسُولُنا " بدلاً من الجُمْلَة الواقِعَة حالاً له، وهي قوله :" يُبَيِّنُ ".
الخامس : أنَّهُ حالٌ من الضَّمير في " يُبَيِّن " ذكرهما أبُو البقاء١٢، ولا يَخْفَى ما فيهما من الفَصْلِ ؛ ولأن فيه ما يُشْبِهُ تَهْيِئَة١٣ العَامِل للعَمَلِ، وقَطْعه عنه، والضَّمِير في " بِهِ " يعُودُ على من جعل " يَهْدي " حالاً منه، أو صِفَة لَه.
قال أبو البقاء١٤ : فَلِذَلِكَ أفْرِدَ، أي : إن الضمير في " بِهِ " أُتِي به مُفْرداً، وقد تقدَّمه شيئان وهُمَا :" نُورٌ " و " كِتَابٌ "، ولكن لما قصد بالجُمْلَة من قوله :" يَهْدي " الحال، أو الوصف من أحدهما، أُفْرِد الضَّمير.
وقيل : الضمير في " بِهِ " يعود على الرَّسُول [ وقيل : يَعُودَ على " السَّلام " ]١٥، وعلى هذين القَوْلَيْن لا تكون الجُمْلَةُ من قوله :" يَهْدِي " حالاً ولا صِفَةً لعدم الرَّابط.
و " مَنْ " موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ، ورَاعَى لَفْظَها في قولِهِ :" اتَّبَع " فلذلك [ أفرد الضَّمِير، ومَعْناها، فَلِذَلك ]١٦ جمعه في قوله :" وَيُخْرِجُهُم ".
وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر، ومُسْلِم بن جُنْدُب، والزُّهَري١٧ " بهُ " بضم الهاء حيث وقع، وقد تقدَّم أنَّه الأصْل.
وقرأ الحسن١٨ " سُبْلَ " بسكون الباء، وهو تخْفيفٌ قياسي به كقولهم في عُنُق : عُنْق، وهذا أوْلَى لِكَوْنه جمعاً، وهو مَفْعُول ثانٍ ل " يَهْدِي " على إسقاط حَرْفِ الجرِّ، أي إلى " سُبْل "، وتقدَّمَ تحقيق نظيره، ويجُوزُ أن يَنْتَصِبَ على أنَّهُ بدَل من " رِضْوَانَهُ " إما بَدَل كُل من كلّ لأن سبل السلام [ هي رضوان الباري تعالى، وإما بدل اشتمال ؛ لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام ؛ أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى، وإما بدل ]١٩ بعض من كل ؛ لأن سبل السلام بعض الرضوان.

فصل


معنى ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ ﴾ أي : بالكِتَابِ المُبِين ﴿ من اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ﴾ أي : كان مطلوبُهُ من طلب الدِّين٢٠ اتِّباع الدِّين [ الذي ]٢١ يَرْتَضِيه اللَّه، " سُبُلَ السلام " [ أي : طُرُق السَّلامَة ]٢٢ وقيل : السلام هو الله عزَّ وجلَّ، و " سُبُلَهُ " : دينَهُ الذي شرع لِعبَادِه، ويجُوزُ أن يكون على حَذْفِ مُضَافٍ، أي : سُبُل دار السلام، ونظيره قوله :﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ [ محمد : ٤ - ٥ ] ومعلومٌ أنَّه ليس المُرادُ هِدَايَة الاسْتِدْلاَل، بل الهدايَةُ إلى طَرِيق الجَنَّة.
ثم قال :﴿ ويخْرِجُهُم من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإذْنِهِ ﴾ أي : من ظُلمات الكُفْر إلى نورِ الإيمان " بإذْنِهِ " بتوفيقه و " بإذنِهِ " متعلِّق ب " يُخْرِجُهُم " أي : بتَيْسِيره أو بأمْره، و " البَاءُ " للحال أي : مُصَاحِبِين لِتَيْسِيرِه أو للسَّبَبِيَّة، أي : بسبب أمْرِه المُنَزَّل على رسوله.
وقيل :" الباء " تتعلق بالاتِّبَاع، أي : يتَّبع رِضْوَانه بإذْنِه.
قال ابنُ الخَطِيب٢٣ : ولا يجُوزُ أن تتعلَّق بالهِدَاية، [ ولا بالإخْرَاج ؛ لأنَّه لا مَعْنَى له، فَدَلَّ ذلك على أنَّه لا يتبع رضوان الله إلا من أرَادَ اللَّه منه ذَلِكَ ].
ثم قال :﴿ يَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيم ﴾ وهو الدِّين الحقُّ.
وهمُ اليَعْقُوبيَّة من النَّصارى، يقولون: المَسِيحُ هو الله، وهذا مذهب الحُلوليَّة، فإنَّهُم يَقُولُون: إنَّ الله تعالى قد يَحِلُّ في بدن إنْسَان معيَّن أو في رُوحِهِ، ثم إنَّه تعالى احَتَّج على فَسَادِ هذا المذْهَب بقوله تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً﴾.
قوله تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ﴾ [الفاء عاطِفةٌ هذه الجملة على جُمْلة مقدَّرة قبلها، والتقدير: قل كَذَبُوا، أو ليس الأمْر ذكلك فَمَن يَمْلِك؟] وقوله: «مِنَ الله» فيه احتمالان:
أظهرهما: أنَّه متعلِّقٌ بالفِعْلَ قَبْلَه.
والثاني: ذكره أبُو البقاء: أنَّه حالٌ من «شَيئاً»، يعني: من حَيْثُ إنَّه كان صِفَةً في الأصْلِ للنَّكرة، فقدَّم عليها [فانْتَصَب حالاً]، وفيه بُعْدٌ أو مَنْعٌ.
وقوله «فَمَنْ» استفهامُ تَوْبِيخٍ وتقرير وهو دالٌّ على جواب الشَّرْط بعدَهُ عند الجُمْهُور.
قوله: ﴿إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾
261
وهذه جُمْلَةٌ شرطيَّةٌ قُدِّم فيها الجزاءُ على الشَّرْط، والتَّقْدير: إن أرَاد أن يَهْلِكَ المسيحَ ابن مَرْيَم وأمَّهُ ومن في الأرض جميعاً فمن الذي يقدر أن يَدْفَعَهُ عن مُرَادِهِ ومَقْدُوره.
وقوله: ﴿فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً﴾ أي: فَمَنْ يَمْلِكُ من أفْعَال الله شَيْئاً، والمُلْكُ هو القُدْرة، أي: فمن الذي يَقْدِر على دَفْعِ شَيْءٍ من أفْعال الله.
وقوله ﴿وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾، يعني: أنَّ عيسى مُشَاكِلٌ من في الأرْض في القُدْرة والخِلْقَة والتَّركيب وتغْيِير الأحوال والصِّفات، فلما سلّمتم كَوْنَهُ تعالى خَالِقاً للكُلِّ، وَجَبَ أن يكون خَالِقاً لِعيسى.
قوله: ﴿وَمَن فِي الأرض﴾ من باب عَطْفِ التَّامِّ على الخاصِّ، حتى يبالغ في نفي الإلهيَّة عنهما، فكأنَّه نَصَّ عليهما مَرَّتَيْن؛ مرَّة بذِكْرِهما مُفْرَدَيْن، ومرَّة بانْدِرَاجِهما في العُمُوم.
و «جميعاً» : حالٌ من المسيحِ وأمّه ومَنْ في الأرض، أو مِنْ «مَنْ» وحدَهَا لعُمُومها.
ويجُوز أن تكون مَنْصُوبَةً على التَّوْكِيد مثل «كل»، وذكرهَا بعض النُّحاة من ألْفَاظ التوكيد.
ثم قال: ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ ثم قال: «ومَا بَيْنَهُمَا»، ولم يقل: بَيْنَهُنَّ؛ لأنَّه ذهب بذلك مذهب الصِّنْفَيْن والنَّوْعَيْن.
وقوله: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ جُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعْراب لاسِئْنَافِها، وفي مَعْنَاها وجْهان:
الأول: يَخْلُقُ ما يشاء، فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنْثَى كما هو مُعْتَاد، وتارة لا من الأب والأم كما في [حقِّ آدم]، وتارة من الأمِّ لا من الأب كما في حقِّ عيسى - عليه السلام -.
والثاني: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ يعني: أنَّ عيسى إذا قدر صور الطير من الطِّين، فالله يَخْلُق فيه الحَيَاة والقُدْرَة مُعْجِزةً لِعيسَى، وتارَةً يُحْيِي المَوْتَى، وتارة يُبْرِئ الأكْمَهَ والأبْرَص مُعْجِزةٌ لَهُ، [ولا اعتراض على الله] في شيء من أفْعْالِهِ، ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
262
واعلم: أنَّ اليَهُود والنَّصَارى لا يقُولُون ذلك؛ فَلِهَذا ذكر المُفَسِّرُون وُجُوهاً:
262
أحدها: أنَّ هذا من باب حَذْفِ المُضَاف، أي: نحن أبناءُ رُسُلِ الله، كقوله: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠].
الثاني: أن لَفْظَ الابْنِ كما يُطلَقُ على ابن الصَّلْب، قد يُطْلَق - أيضاً - على من يتَّخِذُ أبْنَاء، بمعنى تَخْصِيصه بِمَزيدِ الشَّفقة والمحبَّة، فالْقَوْم لما ادَّعَوْا عِنَاية الله بِهِم، ادَّعَوْا [أنَّهُمْ أبْنَاءُ لِلَّه].
الثالث: أنَّ اليهود زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ [ابْن اللَّه]، والنَّصَارى زَعَمُوا أنَّ المسيح ابن الله، ثم زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ والمسيحَ كانَا مِنهُم كأنَّهمُ قالوا: نَحْنُ أبْنَاء الله، ألا تَرَى أنَّ أقارِبَ المَلكِ إذا فاخَرُوا أحَداً يقولون: نَحْنُ مُلُوك الدُّنْيَا، والمُرادُ: كَوْنهُم مُخْتَصِّينَ بالشَّخْصِ الذي هو الملك، فكذا هَا هُنَا.
الرابع: قال ابن عبَّاسٍ: إن النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا جماعَةً من اليَهُودِ إلى دين الإسْلام، وخوَّفهم بِعِقَاب اللَّه تعالى، فقَالُوا كيف تُخَوِّفُنَا بِعِقَاب الله ونَحْنُ أبْنَاء الله وأحِبَّاؤُه، فهذه الرِّواية [إنما] وقعت عن تلك الطَّائِفَة.
وأما النَّصارى فإنَّهُم يتلون في الإنجيل أنَّ المسيح قال لَهُم: أذهب إلى أبِي وأبيكُمْ، وقيل: أرَادُوا أن اللَّه تعالى كالأبِ لنا في الحُنُوِّ والعَطْفِ، ونحن كالأبْنَاء [له] في القُرْبِ والمَنْزِلَة.
وقال إبْراهيم النَّخْعِي: إنَّ اليَهُود وجدوا في التَّوْرَاة، يا أبناء [أحْبَاري، فَبَدَّلوا يا أبناء] أبْكَارِي فمن ذلك قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وجملة الكلام أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يَرَوْنَ لأنْفُسِهِم فَضْلاً على سَائِر الخَلْقِ، بسبب أسْلافِهِم الأنْبِيَاء إلى أن ادَّعَوْا ذلك.
قوله تعالى: «فَلِمَ يُعَذِّبكُمْ» هذه الفاء جوابُ شرط مقدَّر، وهو ظاهرُ كلام الزَّمَخْشَرِي، فإنَّهُ قال: فإن صَحْ أنكم أبْنَاء اللَّه وأحِبَّاؤُه فلم تُذْنِبُون وتُعذَّبُون؟ ويجُوزُ أن يكُون الكلامُ كالفَاءِ قَبْلَها في كَوْنِها عَاطِفَة على جُمْلةٍ مُقَدَّرة، أي: كَذَبْتُم فلم يُعَذِّبكُم، و «الباءُ» في «بِذُنُوبِكُم» سببية، و «مِمَّنْ خَلَقَ» صِفَة ل «بَشَر» فهو في مَحَلِّ رفع مُتعلِّق بِمَحْذُوف.
فإن قيل: القَوْمَ إما أن يدعُوا أنَّ الله عَذَّبَهُم في الدُّنْيَا أو يدَّعُوا أنَّه سيُعَذِّبُهُم في
263
الآخِرَة، فإن كان مَوْضِع الإلْزَامِ عَذَاب الدُّنْيَا، فهذا لا يقْدَحُ في ادِّعَائِهِم كونهم أحِبَّاءُ الله؛ لأنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يدعى هو وأمَّتهُ أحِبَّاء الله، ثم إنَّهُم ما خَلَوْا عن مَحِنِ الدُّنْيَا كما في وَقْعَةِ أحُد وغَيْرها، وإن كان مَوْضِعُ الإلْزَام هو أنَّهُ تعالى سيُعَذِّبُهُم في الآخِرة، فالقَوْمُ يُنْكِرُون ذلك، ومجرد إخْبَارِ مُحَمَّد - عليه السلام - ليس بكافٍ في هذا البَابِ، فكان هذا اسْتِدْلالاً ضَائِعاً.
الجواب: من وُجُوه:
أحدُها: أنَّ موضع الإلْزَام هو عَذَابُ الدُّنْيَا، والمعارَضَةُ بِيَوم أُحُدٍ غير لازِمَة؛ لأنَّا نَقُول: لو كانوا أبْنَاء الله وأحِباءهُ، لِمَ عذَّبَهُم في الدُّنيا؟ ومَحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما ادَّعى أنَّه من أحِبَّاء الله ولم يَدَّع أنَّهُ من أبْنَاء اللَّه.
الثاني: أنَّ موضع الإلْزَام عذاب الآخِرَة، واليَهُود والنَّصَارى كانوا مُعْتَرِفِين بِعَذَاب الآخِرَة، كما أخْبَر اللَّه عَنْهُم أنَّهُم قالوا: ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠].
الثالث: أن قوله: «فَلِمَ يُعَذِّبُكُم» أي: لِمَ عَذَّبَ من قَبْلَكُمْ بذنوبهم فَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً وخَنَازِير، إلاَّ أنَّهُم لما كانوا من جِنْسِ أولَئِكَ المُتَقَدِّمِين، حسنت هذه الإضَافَةُ وهذا أوْلَى؛ لأنَّهُ تعالى لم يَكُنْ لِيَأمُر رسُوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يحتَجَّ عليهم بِشَيءٍ لم يَدْخُل بَعْدُ في الوُجُود.
قال تعالى: ﴿بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ كسائر بَنِي آدَم يُجْزَوْنَ بالإحْسَان والإسَاءَة، ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ : فضلاً، ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ : عدلاً، ليس لأحَد عليه [حقٌّ يوجبُ عليه] أن يغفر له، يَفْعَلُ ما يَشَاءُ، ويَحْكُم ما يُرِيدُ.
ومذهب المُعْتَزِلَة: أنَّ كُلَّ من أطَاعَ الله واحْتَرَز عن الكَبَائِرِ، فإنَّه يجب على الله عقلاً إيصال الرَّحْمة والنِّعْمة إليه أبدَ الآبَاد، ولو قطع عَنْه تلك النِّعْمة لحظةً واحِدَة لبَطَلَتِ الإلهيَّة، وهذا أعْظَمُ من قول اليَهُود والنَّصَارى نَحْنُ أبْنَاءُ الله وأحِبَّاؤُه.
كما أنَّ قوله: ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ إبطالاً لِقَوْلِ اليَهُود، فبأن يكون إبْطَالاً لِقَوْل المُعْتَزِلَة أوْلَى.
ثم قال تعالى: ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ يعني: من كان هكذا أو قُدْرَته هكذا، كيف يستحق البَشَرُ الضَّعِيفُ عليه حقاً واجباً؟ وكيف يَمْلِكُ عليه الجَاهِلُ بعبادته النَّاقِصَة دَيْناً لازِماً؟ ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾ [الكهف: ٥].
264
ثم قال: «وَإلَيْه المَصِيرُ» أي: وإليه يَؤُول أمْر الخَلْقِ؛ لأنَّه لا يملك الضَّرَّ والنَّفْع هُنَاك إلاَّ هو.
265
قوله: «يبيّنُ لكم» فيه وجهان:
أحدهما: إن المبين هو الدِّين والشَّرائع، وإنما حَسُن حَذْفُهُ؛ لأنَّ كل أحد يَعْلَم أنَّ الرَّسُول إنَّما أُرْسِل لبيان الشَّرَائع؛ لدلالة اللَّفْظِ عليه.
الثاني: أن يكون التَّقْدِير: يُبَيِّن لكم البَيَان، وحَذْفُ المَفْعُول أكمل؛ لأنَّهُ يصير أعمَّ فائدة، وتقدَّمَ الكلام في «يُبَيِّن».
قوله: «عَلَى فَتْرَة» فيه ثلاثةُ أوجه:
أظهرها: أنَّهُ متعلِّق [ب «جاءكم» ] أي: جاءكم على حين فُتور من إرسَالِ الرَّسُل، وانْقطِاع من الوَحْي ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ.
والثاني: أنَّه حال من فاعل «يُبَيِّن» أي يُبَيِّن في حَالِ كَوْنِهِ على فَتْرَة.
والثالث: أنَّهُ حال من الضَّمير المَجْرُور في «لَكُم»، فيعلَّق على هَذَيْن الوجْهَيْن بمحذوف، و «مِنَ الرُّسُل» صِفَة ل «فَتْرة»، على أن معنى «مِنْ» : ابتداءُ الغاية، أي: فَتْرَة صادرة من إرْسَالِ الرُّسُلِ.

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد على انْقِطَاعٍ من الأنْبِيَاء، يقال: فَتَر الشَّيْ يَفْتُر فُتُوراً إذا سَكَنَتْ حَرَكَتُه، فَصَارَ أقَلَّ ما كان عليه، وسمِّيَت المدَّة بين الأنْبِيَاء فَتْرة؛ لفُتُور الدَّوَاعي في العمل بِتَرْك الشَّرَائع.
واخْتَلَفُوا في مُدَّة الفَتْرَة بين عِيسَى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - قال أبُو عُُثْمان النهدي: ستمائة سَنَة، وقال قتادَة: خمسمائة سنة وسِتُّون سنة، وقال مَعْمَرُ والكَلْبِيُّ: خمسمائة سَنة وأرْبعُون سنة.
265
وعن الكَلْبِيِّ بين مُوسى وعيسى ألْفٌ وسبعمائة سنة وألفا نبيّ، وبَين عيسى ومحمد أربعةٌ من الأنبياء؛ ثلاثةٌ من بني إسرائيل، وواحدٌ من العرب وهو خالد بن سِنَان العَبْسي.
والفائدة في بَعْثَة مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على فَتْرَةٍ من الرُّسُلِ؛ لأنَّ التَّحْريف والتَّغْيِير قد تَطَرَّق إلى الشَّرَائِع المُتقدِّمة، لتقَادُم عَهْدِهَا وطول أزْمَانِها، ولهذا السَّبَب اخْتَلط الحقُّ بالبَاطِل، والصِّدق بالكَذِبِ، فصار عذْراً للخَلْقِ في إعْرَاضِهِم عن العِبَادَات.
وسُمِّيت فَتْرة؛ لأنَّ الرُّسل كانت تَتْرَى بعد مُوسى - عليه السلام - من غير انْقِطَاع إلى عيسى، ولم يَكُنْ بعد عيسى سِوى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا ما تقدَّم عن الكَلْبِي.
قوله: «أنْ تَقُولُوا» مَفْعُولٌ من أجْلِهِ، فَقَدَّره الزَّمَخْشَرِي «كَراهَة أن تَقُولُوا».
وأبُو البقاء «مخَافَة أن تَقُولُوا»، والأوَّل أوْلَى وقوله: «يُبَيِّن» يجوز ألاَّ يُرادَ له مفعولُ ألْبَتَّة، والمعنى: يبذل لكم البيان، ويجُوز أن يكُون مَحْذُوفاً إمَّا لدلالة اللَّفظ عليه، وهو ما تقدَّم من قوله: ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً﴾ [المائدة: ١٥] وإمَّا لدلالة الحَالِ أي: يُبَيِّن لكم ما كُنْتم تَخْتَلِفُون فيه.
و «مِنْ بَشيرٍ» فاعل زيدَت فيه «مِنْ» لوجود الشَّرْطين، و «لا نَذِيرٍ» عطف على لفظه، ولو قُرِئ برفعه مُراعَاةً لوضْعِه جَازَ.
وقوله: «فَقَدْ جَاءَكُمْ» عطف على جُمْلَةٍ مُقَدَّرة، أي: لا تعتذروا فقد جَاءَكُم، وما بعد هذا من الجُمَلِ واضِحُ الإعْرَاب لما تقدَّم من نَظَائِرِهِ.
ثم قال: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، والمعنى: [أنَّ] حصول الفَتْرَة يوجِبُ احْتِياجَ الخَلْقِ إلى بَعْثَة الرُّسُلِ عليهم السلام، والله قَادِرٌ على البَعْثَة؛ لأنَّهُ رحيمٌ كريمٌ قادرٌ على البَعْثَة، فوجَبَ في رَحْمَتِه وكَرَمه أن يَبْعَثَ إليهم الرُّسُل.
266
الواو في قوله: «وَإذْ قَالَ» واو عَطْفٍ، وهو مُتَّصِلٌ بقوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ [المائدة: ١٢]، كأنَّهُ قيل: أخَذَ عَليْهِم الميثاق، وذكر مُوسى نِعَم الله وأمَرَهُم بمحارَبةِ الجَبَّارين، فَخَالَفُوا المِيثَاقَ، وخالَفُوا في مُحَارَبَة الجَبَّارين.
واعلم: أنَّه تعالى مَنَّ عليهم بثلاثَةِ أمُورٍ:
أوَّلها: جعل فيهم أنْبيَاء؛ لأنَّه ما بَعَثَ في أمَّة ما بَعَث في بَنِي إسْرائيل من الأنْبِيَاء، فمنهم السَّبْعُون الذين اخْتَارَهُم مُوسَى من قَوْمِه فانْطَلَقُوا مَعَهُ إلى الجَبَلِ، وكانوا من أوْلاَدِ يَعْقُوبَ بن إسْحَاق بن إبراهيم، وهؤلاءِ الثَّلاثةُ من أكَابِر الأنْبِياء بالاتِّفَاق، وأوْلاَدُ يَعْقُوب - أيضاً - كانوا أنْبِيَاء على قَوْل الأكْثَرِين، والله تعالى أعلم مُوسَى أنَّهُ لا يَبْعَثُ من الأنْبِيَاء إلا من وَلَدِ يَعْقُوب ومن وَلَدِ إسْمَاعيل، [فهذا الشَّرَفُ] حَصَلَ بمن مَضَى من الأنْبِيَاء، وبالَّذِين كانوا حَاضِرِين مع مُوسَى، وبالَّذين أخْبر الله مُوسَى أنَّه يَبْعَثُهُم من وَلَدِ يَعْقُوب وإسْمَاعِيلَ بعد ذَلِك.
وثانيها: قوله «وَجَعلَكُمْ مُلُوكاً»، قال ابن عبَّاس: أصْحَاب خدم وحَشَمٍ.
قال قتادةُ: كانوا أوَّل من مَلَك الخدم، ولم يَكُنْ قَبْلَهم خَدَمٌ، وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحَدٍ خَادِمٌ وامْرَأةٌ ودَابَّة يُكْتَبُ مَلِكاً».
وقال أبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمي: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بْن عمرو بن العَاصِ، وسأله رَجُل فَقالَ: ألَسْنََا فُقَراء المُسْلمين المُهَاجِرِين؟ فقال لَهُ عَبْدُ الله: «ألَكَ امْرَأةٌ تَأوِي إلَيْهَا؟ قال: نَعَمْ، قال: ألَكَ سَكَنٌ تَسْكُنُه؟ قال: نَعَمْ، قال: فأنْتَ من الأغْنِيَاء، قال: لِي خَادِمٌ، قال: فأنت من المُلُوكِ».
267
وقال السديُّ: وجَعَلكُمْ [مُلُوكاً] أحراراً تَمْلِكُون أمْرَ أنفُسِكُمْ، بَعْدَما كُنْتُم في أيْدِي القبطِ يَسْتَعْبِدُونَكُمْ.
وقال الضَّحَّاك: كانت مَنَازِلُهُمْ واسِعَة، فيها مِيَاهٌ جَارِيَةٌ، فمن كان مَسْكَنُهُ واسِعاً وفيه نهرٌ جارٍ، فهو مَلِكٌ.
وقيل: إنَّ كل من كان رسُولاً ونَبِيّاً كان مَلِكاً؛ لأنَّه يَمْلِكُ أمْر أمَّتِهِ وكان نافِذَ الحُكْم عليهم فكان مَلِكاً، ولهذا قال تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ [النساء: ٥٤].
وقيل: كان في أسْلافِهِم وأخلافِهِم المُلُوكُ والعُظْمَاءُ، وقد يُقَال لمن حصل فيهم المُلُوك: أنْتُم ملوكٌ على سَبِيل الاسْتعارَة.
قال الزَّجَّاج: المَلِكُ من لا يَدْخُل علَيْه أحدٌ إلا بإذْنِهِ.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين﴾ وذلك لأنَّه تعالى خَصَّهم بأنْوَاع عَظِيمَة من الإكْرَامِ، فلق البَحْرَ لهم وأهْلك عَدُوَّهم وأوْرَثهُمْ أمْوَالهم، وأنْزَل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى، وأخرج لهم المياه الغَزِيرَة من الحَجَرِ، وأظلَّ فَوْقَهُم الغَمام، ولَمْ يَجْتَمِع المُلْكُ والنُّبُوَّة لِقَومٍ كما اجْتَمَعَا لَهُم، وكانوا في تِلْكَ الأيَّام هُمُ العُلَمَاءُ باللَّه، وهم أحْبَابُ اللَّهِ وأنْصَار دينِهِ.
ولما ذَكَر هذه النِّعَمَ وشرحَها لهم أمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَهَاد العَدُوِّ، فقال: ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
وقرأ ابن مُحَيْصِن هنا وفي جميع القُرْآن «يَا قَوْمُ» مضموم الميم.
وتروى قراءة عن ابن كثيرٍ [ووَجْهُهَا أنَّها] لُغَةٌ في المُنَادى المضاف إلى يَاءِ المُتَكَلِّم كَقِرَاءة ﴿ [قَالَ] رَبِّ احكم بالحق﴾ [الأنبياء: ١١٢]، وقد تقدَّمَت هذه [المسألة].
268
وقرأ ابن السمَيْفع: ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا﴾ بفتح الياء، ورُوِيَ أنَّ إبراهيم - عليه السلام - لما صعد [جَبَل لبنان]، فقال اللَّهُ تعالى له: «انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك».
والأرضُ المقدَّسَةُ هي الأرْضُ المطهَّرَةُ من الآفات؛ لأنَّ التَّقْدِيس هُو التَّطْهِيرُ، وقال المُفَسِّرُون طهِّرَت من الشِّرك، وجُعِلَت مَسْكَناً وقَرَاراً للأنْبِيَاء، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ تلك الأرْض لما أمَرهُمْ مُوسى بِدُخُولها ما كانَتْ مقدَّسة عن الشِّرْك، وما كَانَتْ مَقرًّا للأنْبيَاء، وقد يُجَابُ عَنْهُ بأنَّها كَانَتْ كذلك فيما قَبْل.
واختلفُوا في تلك الأرْض، فقال عِكْرِمَةُ، والسديُّ، وابنُ زَيْد: هي أريحا.
وقال الكَلْبِيُّ: هي دمشق وفلسْطِين وبعض الأرْدُن، وقال الضَّحَّاك: هي إيليَا وبَيْتُ المَقْدِسِ، وقال مُجَاهِد: هي الطُّور وما حَوْلَه. وقال قتادةُ: هي الشَّامُ كُلُّها. وقال كَعْبٌ: وجَدْتُ في كتاب اللَّه المُنَزَّل [أنَّ الشَّام] كَنْزُ الله من أرْضِه، وبِها كَثْرَةٌ من عِبَادِه.
وقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يعني: في اللَّوْح المَحْفُوظِ أنَّها لكم مَسَاكِن.
وقال ابن إسحاق: وهب اللَّهُ لكم، وقيل: جعلها لكم [قال السديّ: أمَرَكُم الله بِدُخُولها].
فإن قيل: لم قال ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، ثم قال ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٢٦].
فالجوابُ: قال ابنُ عبَّاس: كانت هِبَةً ثُمَّ حرَّمها عليهم بشُؤم تَمَرُّدِهِم وعِصْيَانِهم، وقيل: اللَّفْظ وإن كان عامًّا لكنَّ المرادُ به الخُصُوصُ، فكَأَنَّها كُتِبَتْ لِبَعْضِهِم، وَحُرِّمَتْ على بَعْضِهِم.
269
وقيل: إنَّ الوَعْد بقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ مشروطٌ بقَيْد الطَّاعة، فلما لم يُوجَد الشَّرْط لم يُوجَد المَشْرُوط.
وقيل: إنَّها مُحَرَّمةٌ عليهم أرْبَعِين سَنَة، فلما مَضَى الأرْبَعُون حصل ما كتَبَ.
وفي قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فَائِدَة، وهي أنَّ القوم وإن كانُوا جبَّارِين، إلاَّ أنَّ الله تعالى لمَّا وعد هؤلاءِ الضُّعَفَاء بأنَّ تلك الأرْضَ لهم، فإن كانوا مُؤمنين مُقَرَّبين بصدْق الأنْبِيَاء، عَلِمُوا قَطْعاً أنَّ اللَّه يَنْصُرهم عليهم، فلا بُدَّ وأن يَعْزِمُوا على قتالهم من غير خَوْفٍ ولا جُبْن.
قوله: ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ﴾ فالجار والمجرور [حال من فاعل «تَرتَدوا» أي: لا ترتدوا مُنقلبين، ويجُوزُ أن] يتعلَّق بِنَفْسِ الفَعْل قَبْلَهُ.
وقوله: «فَتَنْقَلِبُوا» فيه وجهان:
أظهرُهُمَا: أنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفاً على فِعْل النَّهْي.
والثاني: أنَّهُ منصُوبٌ بإضْمَار «أنْ» بعد الفَاءِ في جواب النَّهي.
و «خَاسِرِين» حالٌ.
وفي المَعْنَى وجهان:
أحدهما: لا يَرْجِعُوا عن الدِّين الصَّحيح في نُبُوَّة مُوسَى؛ لأنَّهُ - عليه السلام - لما أخْبَرَ اللَّه تعالى جعل تِلْكَ الأرْضَ لَهُم، [أو] كان هذا وعْداً بأنَّ الله يَنْصُرهم عليهم، فلو لَمْ يقْطعُوا بِهَذِه النُّصْرَة، صارُوا شاكِّين في صِدْق مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فيصيروا كافرين بالنُّبُوَّة والإلهِيَّة.
والثاني: لا ترجِعُوا عن الأرْضِ التي أمرتُم بِدُخُولِها إلى الأرْض الَّتِي خَرَجْتُم عنها، يُرْوَى أنَّهُم عَزَمُوا على الرُّجُوعِ إلى مِصْر.
وقوله: «فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين» أي: في الآخِرَة يَفوتُكُم الثَّواب ويَلْحَقُكُم العِقَابُ.
وقيل: تَرْجِعُون إلى الذِّلَّة، وقيل: تُمَزَّقُون في التِّيه، ولا تَصِلُون إلى شَيْءٍ من مَطَالبِ الدُّنْيَا ومَنَافِع الآخِرَة.
قوله: ﴿قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ والجبَّارُ: فعَّالٌ من جَبرهُ على الأمْرِ، بمعنى: أجْبَرهُ عليه، وهو الذي يُجْبِرُ النَّاس على ما يُرِيدُ، وهذا اخْتِيَارُ الفَرَّاء والزَّجَّاج.
270
قال الفرَّاء: لا أسْمَع فعَّالاً من أفعل إلاَّ في حَرْفَيْن وهما: جَبَّارٌ من أجْبَر، ودَرّاك من أدْرَكَ.
وقيل: مأخوذٌ من قَولِهِم: نَخْلةٌ جَبَّارَةٌ، إذا كانت طَويلَةً مُرْتَفِعَةً لا تَصِلُ الأيْدِي إلَيْها، ويُقَال: رَجُلٌ جَبَّارٌ، إذا كان طَوِيلاً عَظِيماً قويّاً تَشْبِيهاً بالجبَّار مِن النَّخْلِ، والقَوْمُ كانوا في غَايَةِ القُوَّة وعِظَمِ الإجْسَامِ، بِحَيْثُ ما كَانَتْ أيْدِي قوم مُوسَى تَصِلُ إليهم، فَسَموهم جَبَّارِين لِهذَا المَعْنى.

فصل


قال المُفَسِّرُون: لما خَرَجَ مُوسَى من مِصْر، وعدَهُم الله - تعالى - إسكان أرْضِ الشَّام، وكان بَنُوا إسرائِيل يُسَمُّون أرْضَ الشَّام أرْضَ المَوَاعِيد، ثم بَعَثَ مُوسى - عليه السلام - اثْنَي عَشَر نَقِيباً من الأنبياء، يَتَجسَّسُون لَهُمْ أحْوَال تلك الأرَاضي.
فلمَّا دَخَلُوا تلك الأمَاكِن رَأوْا أجْساماً عَظِيمَة، قال المُفَسِّرُون: فأخذَهُم أحَدُ أولئك الجبَّارِين، وجَعَلَهُم في كُمّهِ مع فَاكِهَةٍ كان قد حَمَلَها من بُسْتَانِه، وأتى بهم المَلِك فَنَثَرَهُم بين يديه، وقال مُتَعجباً للملك: هؤلاء يُرِيدُون قِتالَنا، فقال المَلِكُ: ارْجِعُوا إلى صاحِبِكُم، وأخْبِرُوه بما شَاهَدْتُم.
قال ابْنُ كَثِير: وهذه هذياناتٌ من وضْعِ جُهَّالِ بني إسائيل، ولو كان هذا صَحِيحاً لكَان بَنُوا إسرائيل معذُورين في امْتِنَاعِهِم عن القتال، وقد ذَمَّهُمُ اللَّهُ تعالى على مُخَالَفَتِهِم وتَرْكِ جِهَادِهِم، وعَاقَبَهُم بالتِّيهِ، ثمَّ انْصَرَف أولَئِكَ النُّقَبَاءُ إلى مُوسَى وأخْبَرُوه بالوَاقِعَة، وأمَرَهُم أنْ يَكْتُمُوا ما شَاهَدُوهُ، فلم يَقْبَلُوا قوله إلا رَجُلان مِنْهُم، وهم: يُوشَعُ ابن نُون، وكَالِب بن يُوقنا فإنهما سَهَّلا الأمْر، وقالا: هي بلادٌ طَيِّبَةٌ كثيرة النعم والأقوام، وإن كانت أجْسَامُهُم عَظِيمَة، إلاَّ أنَّ قلوبَهُم ضَعِيفَةٌ.
وأما العَشْرُة البَاقِية فإنَّهم أوْقَعُوا الجُبْن في قُلُوب النَّاسِ حتَّى أظْهَرُوا الامْتِنَاع من غَزْوِهِم، وقالُوا لِمُوسَى: ﴿إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا، فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، فدَعا عَلَيْهم مُوسَى، فعاقَبَهُم الله تعالى بأن أبْقَاهُم في التِّيهِ أرْبَعِين سنة.
وقالوا: وكَانَتْ مُدَّة غَيْبَة النُّقَبَاءِ المُتَجَسِّسِين أرْبعين يَوْماً، فعُوقِبُوا بالتِّيهِ أرْبَعِين سنة.
قالوا: ومَاتَ أولَئِك العُصَاةُ بالتِّيهِ، وأهْلِكَ النُّقَبَاءُ العَشْرَة في التِّيهِ بعُقُوبَةٍ غَلِيظَةٍ،
271
وقال بَعْضُهُم: إنَّ مُوسَى وهَارُون مَاتَا - أيضاً - في التِّيهِ.
وقال آخرون: إنَّ مُوسَى بَقِي، وخرج مَعَهُ يُوشَعُ بن نُون وكَالِب، وقاتَلَ الجبَّارِين وغَلَبَهُم، ودَخَلُوا تلك البِلاَد.
ورُويَ أنَّهُ لم يَخْرُجْ من التِّيه [أحدٌ] ممن دَخَلهُ، [بل] ماتوا كُلُّهُم في مُدَّةِ أربعين سنة، ولَمْ يَبْقَ إلا ذَرَارِيهم يُوشعُ بن نُون وكالِب - عليهما الصلاة والسلام -.
قال المُفَسِّرُون: إنَّ بَني إسْرَائيل دَخَلُوا البريَّة عند سيناء في الشَّهْرِ الثالث من خُرُوجهم من «مِصْر»، وكان خُرُوجُهُمْ في أوَّلِ السَّنَة التي شُرِعَت لَهُمْ، وَهِيَ أوَّل فَصْلِ الرَّبيع، فكأنَّهُم دَخَلُوا التِّيهَ في أوَّل فَصْلِ الصَّيْف.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾.
قالُوا هذا القول على سبيل الاسْتِبْعَاد، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط﴾ [الأعراف: ٤٠].
وقوله: «فإنَّا دَاخِلُون» أي: فإنَّا دَاخِلُون الأرْضَ، فحذف المَفْعولَ لِلدلالَةِ عَلَيْه.
قوله: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ﴾ هذا الجارُّ والمَجْرُور في محلِّ رَفْع صَفَةٍ ل «رَجُلاَن»، ومَفْعُول «يَخَافُونَ» محذوفٌ تَقْدِيرُهُ: «يَخَافُون الله»، أو يخافُون العَدُوّ [ولكن ثَبَّتَهُمَا اللَّهُ تعالى] بالإيمَان والثِّقَةِ به، حتى قَالُوا هَذِه المَقَالة، ويُؤيِّد التَّقْدير الأوَّل التَّصْرِيح بالمَفْعُول في قِرَاءة ابْن مَسْعُود «يَخَافُون اللَّه»، وهذان [التَّأوِيلاَن] بِنَاء على ما هُوَ المَشْهُور عِنْد الجُمْهُور، من كَوْنِ الرَّجُلَين القَائِلَيْن ذلك من قَوْمِ موسى، وهما: يُوشَعُ بن نُون بن أفرائيم بن يُوسُف فتى مُوسَى، والآخَر: كَالِب بن يوفنا خَتَنُ مُوسَى على أخْتِه مَرْيَم بِنْت عِمْران، وكان من سِبْط يَهُوذَا.
وقيل: الرَّجُلان من الجَبَّارين، ولكن أنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِما بالإيمَانِ حَتَّى قَالاَ هذه المقَالَة يُحَرِّضُونَهُم على قَوْمِهِم لِمُعَادَاتِهِم لهم في الدِّينِ وعلى هذا القَوْل فَيُحْتَمَل أن يكون المَفْعُولُ «يَخَافُون» كما تقدَّم، أي: يَخَافُون اللَّه أو العَدو، والمعنى كما تقدَّم ويُحْتَمَل أنَّ في المَفْعُول ضَمِيراً عَائِداً على المَوْصُولِ، ويكون الضَّمِير المَرْفُوع في «يَخَافُون» ضَمِير بَنِي إسْرَائيل، فالتَّقْدير: [من] الَّذِين يَخَافُهُمْ بُنُوا إسْرَائِيل.
وأيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذا التَّأوِيل بِقرَاءة مَنْ قرأ «يُخافون» مَبْنِيًّا للمَفْعُول [وبِقَوْلِه
272
أيْضاً] ﴿أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا﴾، فإنَّه قال: «وقراءة مَنْ قَرأ» يُخَافُون «بالضَّمِّ شاهدة له، ولذلك أنْعَم الله عَلَيْهِما، كأنَّه قيل: من المُخَوفين» انتهى.
والقِرَاءةُ المَذْكُورة مَرْوِيَّة عن ابْن عبَّاسٍ، وابن جُبَيْر، ومُجاهد، وأبدى الزَّمَخْشَرِي - أيضاً - في هذه القِرَاءة احْتِمَالاً آخَر، وهو أن تكُون من الإضَافَةِ ومعناه: من الَّذين يَخُوَّفُون من اللَّه بالتَّذْكِرة والمَوْعِظَة، أو يُخَوِّفهم وَعِيد الله بالعقَابِ.
وتَحْتَمِلُ القِرَاءةُ - أيضاً - وجْهاً آخَر، وهو: أن يكُون المَعْنَى: يُخَافون، أي: يُهَابُون [ويُوَقَّرُون، ويُرْجَعُ] إليهم لِفَضْلِهِم وخَيْرِهِم.
ومع هَذَيْن الاحْتِمَالين الأخِيرَيْن، فلا تَرْجِيحَ في هذه القراءة لِكَون الرَّجُلَيْن من الجبَّارين [أما قوله كذلك: ﴿أنعم الله عليهما﴾، أي: في كونه مرجّحاً أيضاً لكونهما من الجبارين] فَغَيْرُ ظاهر، لكون هذه الصِّفَة مُشْتَرَكَة بَيْن يُوشَع وكالب، وبين غيرهما مِمَّن أنْعَمَ اللَّهُ عليه.
قوله: ﴿أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا﴾ في هذه الجُمْلَة خَمْسَة أوجُه:
أظهرها: أنَّها صِفةٌ ثانية فمحَلُّها الرَّفْع، وجيءَ هنا بِأفْصَحِ الاسْتِعْمَالَيْنِ من كونه قدَّمَ الوَصْفَ بالجَارِّ على الوَصْفِ بالجُمْلَةِ لِقُرْبِهِ من المُفْرَد.
والثاني: أنها مُعْتَرَضَةٌ وهو - أيضاً - ظَاهِر.
الثالث: أنَّهَا حالٌ من الضَّمِير في «يَخَافُون» قال مَكِّي.
الرابع: أنَّها حالٌ من «رَجُلانِ»، وجاءت الحالُ من النَّكِرَة، لأنَّها تخصّصت بالوَصْف.
الخامس: أنَّها حال من الضَّمِير المُسْتَتِر في الجَارِّ والمَجْرُور، وهو «مِن الَّذِين» لوُقُوعِهِ صِفَةً لموصُوف، وإذا جَعَلْتَها حَالاً فلا بُدَّ من إضمار «قَدْ» مع المَاضِي، على خلافٍ سلف [في المسألة].

فصل


قوله: ﴿ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب﴾ مُبَالغةٌ في الوَعْدِ بالنَّصْر والظفر؛ كأنَّه قيل: مَتَى دَخَلْتُم باب بَلَدِهِم انْهَزَمُوا، ولَمْ يَبْق منهم أحَدٌ، وإنَّما جَزَمَ هذان الرَّجُلان في قولهما: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ ؛ لأنَّهما كان عَارِفَيْن صِدْق مُوسى - عليه السلام -، فلمَّا
273
أخْبَرَهُم مُوسَى بأنَّ الله قال: ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [فقد تبيّن أنَّهُ أوْعَدَهُم] بأنَّ النُّصْرَة والغَلَبَةَ لَهُمْ، ولِذَلك خَتَمُوا كلامَهُم بقولهم: ﴿وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، يعني: توكَّلُوا على اللَّه تعالى في حُصُول هذا النصر لكم إن كُنْتُم مُؤمنين بوجود الإله القَادِرِ، ومُؤمِنِين بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عليه السلام -.
قوله: ﴿قَالُواْ: ياموسى، إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾ [ «ما» ] مصْدَريَّة ظرفية و «دَامُوا» صِلَتُهَا، وهي «دَامَ» النَّاقصة، وخبرها الجارُّ بعدها، وهذا الظَّرْفُ بَدَلٌ من «أبداً» وهُوَ بَدَلُ بَعْض من كُلّ؛ لأنَّ الأبَدَ يعمُّ الزَّمَن المُسْتَقْبَل كله، ودوام [الجَبَّارين] فيها بَعْضه، وظَاهِرُ عِبَارَة الزَّمَخْشَرِيِّ يُحْتَمَلُ أن يكُون بَدَلُ [كُلٍّ] من كُلٍّ أو عَطْف بَيَان، والعَطْفُ قد يَقَعُ بَيْن النَّكِرَتَيْن على كلام فيه تقدَّم.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «وأبَداً» تعليق للنَّفْي المُؤكَّد بالدَّهْر المُتَطَاولِ، ﴿مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾ :[بيانُ الأمْر]، فهذه العَبَارَةُ تَحْتَملُ أنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ من كُلٍّ، لأنَّ بَدَل البَعْضِ من الكُلِّ مُبَيِّنٌ للمُرَاد، نحو: «أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ»، ويحتَملُ أن يكُون بَدَلَ كُلٍّ من كُلٍّ، فإنَّه بيانٌ أيضاً للأوَّل، وإيضَاحٌ له، نحو: رَأيْتُ زَيْداً أخَاك، ويحتمل أن يكُون عَطْفَ بَيَانٍ.
قوله: ﴿فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ﴾ [في «وَرَبُّكَ» ] أرْبَعَةُ أوجه:
أحدها: أنَّه مرفوع عَطْفاً على الفاعِل المُسْتَتِر في «اذْهَبْ»، وجازَ ذلِك للتَّأكِيد بالضَّمِير.
الثاني: أنَّه مَرفوع بِفَعْل مَحْذُوف، أي: ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ، ويكون من عَطْفِ الجُمَل، وقد تقدَّم [لي نَقْلُ] هذا القَوْل والرَّدُّ عليه، ومُخَالَفَتُهُ لنَصِّ سِيبَويْه عند قَوْلِهِ تعالى:
﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ [البقرة: ٣٥].
الثالث: أنَّهُ مُبْتَدأ، والخبَرُ محذُوفٌ، و «الواوُ» لِلْحَال.
الرابع: أنَّ «الواوَ» لِلْعَطْفِ، وما بَعْدَها مُبْتَدَأ محذوفٌ والخَبَرُ - أيضاً - ولا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة من الإعْرَاب لِكَوْنِها دُعَاءً، والتَّقْدِير: وَرَبُّكَ يُعِينُكَ.
قوله: ﴿هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ «هُنَا» وَحْدَه الظَّرْفُ المَكَانِي الَّذِي لا يَنْصَرِفُ إلا بِجَرِّه؛ ب «مِنْ» و «إلَى»، و «هَا» قَبْلَهُ للتَّنْبِيه كسَائِرِ أسْمَاء [الإشارة] وعامله «قَاعِدُون»، وقد أجيز أن يكُون خَبَر [ «إنَّ» ] و «قاعدُون» خَبر ثانٍ، [وهُو بَعِيدٌ].
274
وفي غير القُرْآن إذا اجْتَمَع ظَرْفٌ يَصِحُّ الإخْبَارُ بِهِ مع وَصْفٍ آخَر، ويَجُوزُ أن يُجْعَل الظَّرْفُ خَبَراً، والوَصْفُ حالاً، وأن يَكُون الخَبَرُ الوَصْفَ، والظَّرْف مَنْصُوبٌ به كَهَذِه الآية.

فصل


قولهم: ﴿فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ﴾ فيه وُجُوهٌ:
أحدُهَا: لعلَّ القَوْم كانُوا مُجَسِّمَةً، يجوِّزُون الذَّهَاب والمَجِيءَ على الله تعالى.
وثانيها: يُحْتَمَلُ ألاَّ يَكُون المُرَادُ حَقِيقَة الذهَاب، بَلْ كَما يُقَالُ: كَلَّمْته فذهَبَ يُجِيبُنِي، أي: يُريدُ أن يُجِيبَنِي، فكأنَّهُم قالوا: كُن أنْتَ وَربُّكَ مُريدين لقتَالِهِمْ.
ثالثها: التَّقْدِير اذْهَبْ أنْتَ وَربُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ فأضْمَر خَبَر الابْتِدَاء.
فإن قيل: إذَا أضْمَرنا الخَبَرَ فَكَيْفَ يَجْعَل قوله: «فَقَاتِلا» خبراً أيضاً.
فالجَوَابُ: لا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَر.
رابعها: أرَادَ بقوله: «وَرَبُّكَ» أخُوه هَارُون، وسمُّوه [ربًّا] لأنَّهُ كان أكبر من مُوسَى.
قال المُفَسِّرُون: قولهم: ﴿اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ﴾، إن قَالُوهُ على وَجْهِ الذهَاب من مَكَانٍ إلى مَكَانٍ فهو كُفْرٌ، وإن قَالُوهُ على وَجْهِ التَّمَرُّدِ عن الطَّاعَةِ فهو فِسْقٌ، ولقَدْ فَسَقُوا بهذَا الكلامِ لقوله تعالى في هذه القصة: ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين﴾ [المائدة: ٢٦].
والمقْصُودُ من هذه القِصَّة: شَرْحُ حال هؤلاءِ اليَهُودِ، وشِدَّة بُغْضِهِم [وَغُلُّوهِمِ] في المَنَازَعَةِ مع الأنْبِيَاءِ قَدِيماً، ثُمَّ إنَّ مُوسى - عليه السلام - لمَّا سَمِع مِنْهُم هذا الكلام قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ في إعْرَاب «أخي» سِتَّةُ أوْجُه:
أظهرها: أنَّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على «نَفْسِي»، والمعنى: لا أمْلِكُ إلاَّ أخِي مع مِلْكِي لِنَفْسي دُونَ غَيْرنَا.
الثاني: أنَّّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على اسْمِ «إنَّ»، وخَبَرُهَا محذوفٌ للدَّلالة اللَّفْظِيَّة عَلَيْه، أي: وإنَّ أخِي لا يَمْلِكُ إلا نَفْسَه.
الثالث: أنَّهُ مرفوع عَطْفاً على مَحَلِّ اسم «إنَّ» ؛ لأنَّه يُعَدُّ استكمال الخَبر على خلافٍ في ذَلِك، وإن كان بَعْضُهم قد ادَّعى الإجْمَاعَ على جَوَازه.
275
الرابع: أنَّهُ مَرْفُوع بالابْتِدَاء، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ للدَّلالة المتقدِّمَة، ويكون قد عَطفَ جُمْلَة غَيْرَ مُؤكَّدَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤكَّدَة [ب «إنَّ» ].
الخامس: أنَّه مَرْفُوعٌ عَطْفاً على الضَّمير المُستكِنِّ في «أمْلك»، والتَّقْدير: ولا يَملِكُ أخي إلا نَفْسَه، [وجاز ذلك لِلْفَصْل بقوله: «إلاَّ نَفْسِي» ] وقال بهذا الزَّمَخْشَرِيُّ، ومَكِّي، وابنُ عطيَّة، وأبُو البقاء ورَدّ أبُو حَيَّان هذا الوَجْهَ، بأنَّه يلزم منه أنَّ مُوسَى وهَارُون لا يَمْلِكَان إلاَّ نَفْسَ مُوسَى فَقَطْ [وَلَيْس المَعْنَى على ذَلِك]، وهذا الرَّدُّ لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأنَّ القائِل بهذا الوَجْهِ صَرَّح بِتَقْديرِ المفعول بَعْد الفاعِلِ المَعْطُوف.
وأيضاً اللَّبْسُ مأمُونٌ، فإن كلَّ أحِدٍ يَتَبادَرُ إلى ذِهْنِهِ أنَّهُ يَمْلِكُ أمْرَ نَفْسِهِ.
السادس: أنَّه مَجْرُورٌ عطفاً على «اليَاء» في «نَفْسِي»، أي: إلاَّ نَفْسِي ونَفْس أخِي، وهو ضعيفٌ على قَوَاعِدِ البَصْريِّين لِلْعَطْفِ على الضَّمِير المَجْرُور من غَيْر إعادَةِ الجَارِّ، وقد تقدَّم ما فيه.
والحَسَن البَصْرِيُّ يقرأ بِفَتْح [ياء] «نَفْسِي»، و «أخِي».
وقرأ يوسُف بن دَاوُد وعُبَيْد بن عُمَيْر «فَافْرِق» بِكَسْرِ الرَّاء، وهي لُغَةٌ: فَرَقَ يَفْرِق ك «يضرب» قال الراجز: [الرجز]
١٩٤٩ - يا رَب فَافْرِقْ بَيْنَهُ وبَيْنِي أشَدَّ ما فَرَّقْت بَيْنَ اثْنَيْنِ
وقرأ ابن السَّمَيْفَع «فَفَرِّقْ» مُضَعَّفاً، وهي مُخَالِفَةٌ للرَّسْم و «بَيْنَ» معمولة ل «افْرُق»، وكان من حَقِّها ألا تكرَّرَ في العَطْفِ، تقُولَ: المَالُ بَيْن زَيْدٍ وعَمْرو، وإنَّما كرِّرَت للاحْتِيَاج إلى تكررِ الجارِّ في العَطْفِ على الضِّمِير المَجْرُور، وهو يُؤيِّد مَذْهَب البَصْريِّين.
فإن قيل: لم قال: ﴿لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ وكان مَعَهُ الرَّجُلان المَذْكُورَان؟.
فالجواب: كأنَّه لم يَثِقْ بِهِمَا كُلَّ الوُثُوق لِمَا رَأى [من] إطباقِ الأكْثَرِين على
276
التَّمَرُّد، ولَعَلَّهُ إنَّما قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلاً لمن وَافَقَهُ، أو يكُون المُرَادُ بالأخِ مَنْ يُؤاخِيهِ في الدِّين، وعلى هذا يَدْخل الرَّجُلان.
والمُرادُ بقوله: ﴿فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين﴾ أي: افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُم، بأنْ تَحْكُم لَنَا بما تَسْتَحِقُّ وتحْكُم عَلَيْهِم بما يَسْتَحِقُّون، وهُوَ في مَعْنَى الدُّعَاء عَلَيْهِم، أو يكون المَعْنَى: خَلِّصْنَا من صُحْبَتِهِم، وهو كقوله: ﴿نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾ [القصص: ٢١].
277
وقرأ ابن١ مُحَيْصِن هنا وفي جميع القُرْآن " يَا قَوْمُ " مضموم الميم.
وتروى قراءة٢ عن ابن كثيرٍ [ ووَجْهُهَا أنَّها ]٣ لُغَةٌ في المُنَادى المضاف إلى يَاءِ المُتَكَلِّم كَقِرَاءة ﴿ [ قل ]٤ رَبُّ احْكُم بِالحَقِّ ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ]، وقد تقدَّمَت هذه [ المسألة ]٥.
وقرأ ابن٦ السمَيْفع :﴿ يَا قَوْمِيَ ادْخُلُوا ﴾ بفتح الياء، ورُوِيَ أنَّ إبراهيم - عليه السلام - لما صعد [ جَبَل لبنان ]٧، فقال اللَّهُ تعالى له :" انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك " ٨.
والأرضُ المقدَّسَةُ هي الأرْضُ المطهَّرَةُ من الآفات ؛ لأنَّ التَّقْدِيس هُو التَّطْهِيرُ، وقال المُفَسِّرُون٩ طهِّرَت من الشِّرك، وجُعِلَت مَسْكَناً وقَرَاراً للأنْبِيَاء، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ تلك الأرْض لما أمَرهُمْ مُوسى بِدُخُولها ما كانَتْ مقدَّسة عن الشِّرْك، وما كَانَتْ مَقرًّا للأنْبيَاء، وقد يُجَابُ عَنْهُ بأنَّها كَانَتْ كذلك فيما قَبْل.
واختلفُوا في تلك الأرْض، فقال عِكْرِمَةُ، والسديُّ، وابنُ زَيْد : هي أريحا١٠.
وقال الكَلْبِيُّ : هي دمشق وفلسْطِين وبعض الأرْدُن١١، وقال الضَّحَّاك : هي إيليَا وبَيْتُ المَقْدِسِ، وقال مُجَاهِد : هي الطُّور وما حَوْلَه١٢. وقال قتادةُ : هي الشَّامُ كُلُّها١٣. وقال كَعْبٌ : وجَدْتُ في كتاب اللَّه المُنَزَّل [ أنَّ الشَّام ]١٤ كَنْزُ الله من أرْضِه، وبِها كَثْرَةٌ من عِبَادِه.
وقوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ يعني : في اللَّوْح المَحْفُوظِ أنَّها لكم مَسَاكِن.
وقال ابن إسحاق١٥ : وهب اللَّهُ لكم، وقيل : جعلها لكم [ قال السديّ : أمَرَكُم الله بِدُخُولها ]١٦.
فإن قيل : لم قال ﴿ كتبَ اللَّه لَكُم ﴾، ثم قال ﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾١٧ [ المائدة : ٢٦ ].
فالجوابُ : قال ابنُ عبَّاس : كانت هِبَةً ثُمَّ حرَّمها عليهم بشُؤم تَمَرُّدِهِم وعِصْيَانِهم١٨، وقيل : اللَّفْظ وإن كان عامًّا لكنَّ المرادُ به الخُصُوصُ، فكَأَنَّها كُتِبَتْ لِبَعْضِهِم، وَحُرِّمَتْ على بَعْضِهِم.
وقيل : إنَّ الوَعْد بقوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ مشروطٌ بقَيْد الطَّاعة، فلما لم يُوجَد الشَّرْط لم يُوجَد المَشْرُوط.
وقيل : إنَّها مُحَرَّمةٌ عليهم أرْبَعِين سَنَة، فلما مَضَى الأرْبَعُون حصل ما كتَبَ.
وفي قوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ فَائِدَة، وهي١٩ أنَّ القوم وإن كانُوا جبَّارِين، إلاَّ أنَّ الله تعالى لمَّا وعد هؤلاءِ الضُّعَفَاء بأنَّ تلك الأرْضَ لهم، فإن كانوا مُؤمنين مُقَرَّبين بصدْق الأنْبِيَاء، عَلِمُوا قَطْعاً أنَّ اللَّه يَنْصُرهم عليهم، فلا بُدَّ وأن يَعْزِمُوا على قتالهم من غير خَوْفٍ ولا جُبْن.
قوله :﴿ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ﴾ فالجار والمجرور [ حال من فاعل " تَرتَدوا " أي : لا ترتدوا مُنقلبين، ويجُوزُ أن ]٢٠ يتعلَّق بِنَفْسِ الفِعْل قَبْلَهُ.
وقوله :" فَتَنْقَلِبُوا " فيه وجهان :
أظهرُهُمَا : أنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفاً على فِعْل النَّهْي.
والثاني : أنَّهُ منصُوبٌ بإضْمَار " أنْ " بعد الفَاءِ في جواب النَّهي.
و " خَاسِرِين " حالٌ.
وفي المَعْنَى وجهان :
أحدهما : لا يَرْجِعُوا عن الدِّين الصَّحيح في نُبُوَّة مُوسَى ؛ لأنَّهُ - عليه السلام - لما أخْبَرَ اللَّه تعالى جعل تِلْكَ الأرْضَ لَهُم، [ أو ]٢١ كان هذا وعْداً بأنَّ الله يَنْصُرهم٢٢ عليهم، فلو لَمْ يقْطعُوا بِهَذِه النُّصْرَة، صارُوا شاكِّين في صِدْق مُوسى - عليه الصلاة والسلام - فيصيروا٢٣ كافرين بالنُّبُوَّة والإلهِيَّة.
والثاني : لا ترجِعُوا عن الأرْضِ التي أمرتُم بِدُخُولِها إلى الأرْض الَّتِي خَرَجْتُم عنها، يُرْوَى أنَّهُم عَزَمُوا على الرُّجُوعِ إلى مِصْر.
وقوله :" فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين " أي : في الآخِرَة يَفوتُكُم الثَّواب ويَلْحَقُكُم العِقَابُ.
وقيل : تَرْجِعُون إلى الذِّلَّة، وقيل : تُمَزَّقُون٢٤ في التِّيه، ولا تَصِلُون٢٥ إلى شَيْءٍ من مَطَالبِ الدُّنْيَا ومَنَافِع الآخِرَة.
١ وروي ذلك عن ابن كثير.
ينظر: المحرر الوجيز ٢/١٧٣، والبحر المحيط ٣/٤٦٩، والدر المصون ٢/٥٠٦..

٢ في أ: وترد..
٣ في أ: ووجها أنه..
٤ سقط في أ..
٥ سقط في أ..
٦ ينظر: الدر المصون ٢/٥٠٦..
٧ في ب: الجبل ليناد..
٨ ينظر: الرازي ١١/١٥٦..
٩ ينظر: تفسير الرازي ١١/١٥٦..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٥١٤) عن ابن عباس والسدي وابن زيد..
١١ ذكره الطبري في "تفسيره" (٤/٥١٣) عن الكلبي..
١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٥١٣) عن ابن عباس ومجاهد..
١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره"(٤/٥١٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٢/٤٧٨) عن قتادة وعزاه لعبد بن حميد وعبد الرزاق..
١٤ سقط في أ..
١٥ ينظر: تفسير البغوي ٢/٢٤..
١٦ سقط في أ..
١٧ انظر هذه الآثار في "التفسير الكبير" للرازي (١١/١٥٦)..
١٨ ينظر: تفسير الرازي ١١/١٥٦..
١٩ في ب: وهو..
٢٠ سقط في أ..
٢١ سقط في أ..
٢٢ في أ: ينصركم..
٢٣ في ب: فصيروا..
٢٤ في ب: تموتون..
٢٥ في ب: تقبلون..
قوله :﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ﴾ والجبَّارُ : فعَّالٌ من جَبرهُ على الأمْرِ، بمعنى : أجْبَرهُ عليه، وهو الذي يُجْبِرُ النَّاس على ما يُرِيدُ، وهذا اخْتِيَارُ الفَرَّاء والزَّجَّاج١.
قال الفرَّاء٢ : لا أسْمَع فعَّالاً من أفعل إلاَّ في حَرْفَيْن وهما : جَبَّارٌ من أجْبَر، ودَرّاك من أدْرَكَ.
وقيل : مأخوذٌ من قَولِهِم : نَخْلةٌ جَبَّارَةٌ، إذا كانت طَويلَةً مُرْتَفِعَةً لا تَصِلُ الأيْدِي إلَيْها، ويُقَال : رَجُلٌ جَبَّارٌ، إذا كان طَوِيلاً عَظِيماً قويّاً تَشْبِيهاً بالجبَّار مِن النَّخْلِ، والقَوْمُ كانوا في غَايَةِ القُوَّة وعِظَمِ الإجْسَامِ، بِحَيْثُ ما كَانَتْ أيْدِي قوم مُوسَى تَصِلُ إليهم، فَسَموهم جَبَّارِين لِهذَا المَعْنى.

فصل


قال المُفَسِّرُون٣ : لما خَرَجَ مُوسَى من مِصْر، وعدَهُم الله - تعالى - إسكان أرْضِ الشَّام، وكان بَنُو إسرائِيل يُسَمُّون أرْضَ الشَّام أرْضَ المَوَاعِيد، ثم بَعَثَ مُوسى - عليه السلام - اثْنَي عَشَر نَقِيباً من الأنبياء، يَتَجسَّسُون لَهُمْ أحْوَال تلك الأرَاضي٤.
فلمَّا دَخَلُوا تلك الأمَاكِن رَأوْا أجْساماً عَظِيمَة، قال المُفَسِّرُون : فأخذَهُم أحَدُ أولئك الجبَّارِين، وجَعَلَهُم في كُمّهِ مع فَاكِهَةٍ كان قد حَمَلَها من بُسْتَانِه، وأتى بهم المَلِك فَنَثَرَهُم بين يديه، وقال مُتَعجِّباً للملك : هؤلاء يُرِيدُون قِتالَنا، فقال المَلِكُ : ارْجِعُوا إلى صاحِبِكُم، وأخْبِرُوه بما شَاهَدْتُم.
قال ابْنُ كَثِير : وهذه هذياناتٌ من وضْعِ جُهَّالِ٥ بني إسرائيل، ولو كان هذا صَحِيحاً لكَان بَنُوا إسرائيل معذُورين في امْتِنَاعِهِم عن القتال٦، وقد ذَمَّهُمُ اللَّهُ تعالى على مُخَالَفَتِهِم وتَرْكِ جِهَادِهِم، وعَاقَبَهُم بالتِّيهِ، ثمَّ انْصَرَف أولَئِكَ النُّقَبَاءُ إلى مُوسَى وأخْبَرُوه بالوَاقِعَة، وأمَرَهُم أنْ يَكْتُمُوا ما شَاهَدُوهُ، فلم يَقْبَلُوا قوله إلا رَجُلان مِنْهُم، وهم : يُوشَعُ ابن نُون، وكَالِب بن يُوقنا فإنهما سَهَّلا الأمْر، وقالا : هي بلادٌ طَيِّبَةٌ كثيرة النعم والأقوام٧، وإن كانت أجْسَامُهُم عَظِيمَة، إلاَّ أنَّ قلوبَهُم ضَعِيفَةٌ.
وأما العَشْرُة البَاقِية فإنَّهم أوْقَعُوا الجُبْن في قُلُوب النَّاسِ حتَّى أظْهَرُوا الامْتِنَاع من غَزْوِهِم، وقالُوا لِمُوسَى :﴿ إِنَّا لَنْ ندخُلَهَا أبداً ما دامُوا فِيهَا، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾، فدَعا عَلَيْهم مُوسَى، فعاقَبَهُم الله تعالى بأن أبْقَاهُم في التِّيهِ أرْبَعِين سنة.
وقالوا : وكَانَتْ مُدَّة غَيْبَة النُّقَبَاءِ المُتَجَسِّسِين أرْبعين يَوْماً، فعُوقِبُوا بالتِّيهِ أرْبَعِين سنة.
قالوا : ومَاتَ أولَئِك العُصَاةُ بالتِّيهِ، وأهْلِكَ النُّقَبَاءُ العَشْرَة في التِّيهِ بعُقُوبَةٍ غَلِيظَةٍ٨، وقال بَعْضُهُم : إنَّ مُوسَى وهَارُون مَاتَا - أيضاً - في التِّيهِ.
وقال آخرون : إنَّ مُوسَى بَقِي، وخرج مَعَهُ يُوشَعُ بن نُون وكَالِب، وقاتَلَ الجبَّارِين وغَلَبَهُم، ودَخَلُوا تلك البِلاَد.
ورُويَ أنَّهُ لم يَخْرُجْ من التِّيهِ [ أحدٌ ]٩ ممن دَخَلهُ، [ بل ]١٠ ماتوا كُلُّهُم في مُدَّةِ أربعين سنة، ولَمْ يَبْقَ إلا ذَرَارِيهم يُوشعُ بن نُون وكالِب - عليهما الصلاة والسلام -.
قال المُفَسِّرُون : إنَّ بَني إسْرَائيل دَخَلُوا البريَّة عند سيناء في الشَّهْرِ الثالث من خُرُوجهم من " مِصْر "، وكان خُرُوجُهُمْ في أوَّلِ السَّنَة التي شُرِعَت لَهُمْ، وَهِيَ أوَّل فَصْلِ الرَّبيع، فكأنَّهُم دَخَلُوا التِّيهَ في أوَّل فَصْلِ الصَّيْف.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾.
قالُوا هذا القول على سبيل الاسْتِبْعَاد، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [ الأعراف : ٤٠ ].
وقوله :" فإنَّا دَاخِلُون " أي : فإنَّا دَاخِلُون الأرْضَ، فحذف المَفْعولَ لِلدلالَةِ عَلَيْه.
١ ينظر: تفسير الرازي ١١/١٥٧..
٢ ينظر: المصدر السابق..
٣ ينظر: تفسير الرازي ١١/١٥٥..
٤ في ب: الأرض..
٥ في أ: جهالة..
٦ في ب: قتالهم..
٧ في أ: والأقوان..
٨ في ب: عظيمة..
٩ سقط في أ..
١٠ سقط في أ..
قوله :﴿ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِين يَخَافُون ﴾ هذا الجارُّ والمَجْرُور في محلِّ رَفْع صِفَةٍ ل " رَجُلاَن "، ومَفْعُول " يَخَافُونَ " محذوفٌ تَقْدِيرُهُ :" يَخَافُون الله "، أو يخافُون العَدُوّ [ ولكن ثَبَّتَهُمَا اللَّهُ تعالى ] بالإيمَان والثِّقَةِ به، حتى قَالُوا هَذِه المَقَالة، ويُؤيِّد التَّقْدير الأوَّل التَّصْرِيح بالمَفْعُول في قِرَاءة ابْن مَسْعُود١ " يَخَافُون اللَّه "، وهذان [ التَّأوِيلاَن ]٢ بِنَاء على ما هُوَ المَشْهُور عِنْد الجُمْهُور، من كَوْنِ الرَّجُلَين القَائِلَيْن ذلك من قَوْمِ موسى، وهما : يُوشَعُ بن نُون بن أفرائيم بن يُوسُف فتى مُوسَى، والآخَر : كَالِب بن يوفنا خَتَنُ مُوسَى على أخْتِه مَرْيَم بِنْت عِمْران، وكان من سِبْط يَهُوذَا.
وقيل : الرَّجُلان من الجَبَّارين، ولكن أنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِما بالإيمَانِ حَتَّى قَالاَ هذه المقَالَة يُحَرِّضُونَهُم٣ على قَوْمِهِم لِمُعَادَاتِهِم لهم في الدِّينِ وعلى هذا القَوْل فَيُحْتَمَل أن يكون المَفْعُولُ " يَخَافُون " كما تقدَّم، أي : يَخَافُون اللَّه أو العَدو، والمعنى كما تقدَّم ويُحْتَمَلُ أنَّ في المَفْعُول ضَمِيراً عَائِداً على المَوْصُولِ، ويكون الضَّمِير المَرْفُوع في " يَخَافُون " ضَمِير بَنِي إسْرَائيل، فالتَّقْدير :[ من ]٤ الَّذِين يَخَافُهُمْ بَنُو إسْرَائِيل.
وأيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذا التَّأوِيل بِقرَاءة مَنْ قرأ٥ " يُخافون " مَبْنِيًّا للمَفْعُول [ وبِقَوْلِه أيْضاً ]٦ ﴿ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهمَا ﴾، فإنَّه قال :" وقراءة مَنْ قَرأ " يُخَافُون " بالضَّمِّ شاهدة له، ولذلك أنْعَم الله عَلَيْهِما، كأنَّه قيل : من المُخَوفين " انتهى.
والقِرَاءةُ المَذْكُورة مَرْوِيَّة عن ابْن عبَّاسٍ، وابن جُبَيْر، ومُجاهد، وأبدى الزَّمَخْشَرِي - أيضاً - في هذه القِرَاءة احْتِمَالاً آخَر، وهو أن تكُون من الإضَافَةِ ومعناه : من الَّذين يَخُوَّفُون٧ من اللَّه بالتَّذْكِرة والمَوْعِظَة، أو يُخَوِّفهم وَعِيد الله بالعقَابِ.
وتَحْتَمِلُ القِرَاءةُ - أيضاً - وجْهاً آخَر، وهو : أن يكُون المَعْنَى : يُخَافون، أي : يُهَابُون [ ويُوَقَّرُون٨، ويُرْجَعُ ] إليهم لِفَضْلِهِم وخَيْرِهِم.
ومع هَذَيْن الاحْتِمَالين الأخِيرَيْن، فلا تَرْجِيحَ في هذه القراءة لِكَون الرَّجُلَيْن من الجبَّارين [ أما قوله كذلك :﴿ أنعم الله عليهما ﴾، أي : في كونه مرجّحاً أيضاً لكونهما من الجبارين ] فَغَيْرُ ظاهر، لكون هذه الصِّفَة مُشْتَرَكَة بَيْن يُوشَع٩ وكالب، وبين غيرهما مِمَّن أنْعَمَ اللَّهُ عليه.
قوله :﴿ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهما ﴾ في هذه الجُمْلَة خَمْسَة أوجُه :
أظهرها : أنَّها صِفةٌ ثانية فمحَلُّها الرَّفْع، وجيءَ١٠ هنا بِأفْصَحِ الاسْتِعْمَالَيْنِ من كونه قدَّمَ الوَصْفَ بالجَارِّ على الوَصْفِ بالجُمْلَةِ لِقُرْبِهِ من المُفْرَد.
والثاني : أنها مُعْتَرَضَةٌ وهو - أيضاً - ظَاهِر.
الثالث : أنَّهَا حالٌ من الضَّمِير في " يَخَافُون " قاله مَكِّي١١.
الرابع : أنَّها حالٌ من " رَجُلانِ "، وجاءت الحالُ من النَّكِرَة، لأنَّها تخصّصت بالوَصْف.
الخامس : أنَّها حالٌ من الضَّمِير المُسْتَتِر في الجَارِّ والمَجْرُور، وهو " مِن الَّذِين " لوُقُوعِهِ صِفَةً لموصُوف، وإذا جَعَلْتَها حَالاً فلا بُدَّ من إضمار١٢ " قَدْ " مع المَاضِي، على خلافٍ سلف [ في المسألة ]١٣.

فصل


قوله :﴿ ادْخُلُوا عَلَيْهمُ البَابَ ﴾ مُبَالغةٌ في الوَعْدِ بالنَّصْر والظفر ؛ كأنَّه قيل : مَتَى دَخَلْتُم باب بَلَدِهِم انْهَزَمُوا، ولَمْ يَبْق منهم أحَدٌ، وإنَّما جَزَمَ هذان الرَّجُلان في قولهما :﴿ فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فإنَّكُمْ غَالِبُون ﴾ ؛ لأنَّهما كان عَارِفَيْن صِدْق مُوسى - عليه السلام -، فلمَّا أخْبَرَهُم مُوسَى بأنَّ الله قال :﴿ ادْخُلُواْ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [ فقد تبيّن أنَّهُ أوْعَدَهُم ]١٤ بأنَّ النُّصْرَة والغَلَبَةَ لَهُمْ، ولِذَلك خَتَمُوا كلامَهُم بقولهم :﴿ وعلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُؤمنين ﴾، يعني : توكَّلُوا على اللَّه تعالى في حُصُول هذا النصر لكم إن كُنْتُم مُؤمنين بوجود الإله القَادِرِ، ومُؤمِنِين بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عليه السلام -.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/١٧٥، والدر المصون ٢/٥٠٦..
٢ سقط في أ..
٣ في أ: بحرصهم..
٤ سقط في أ..
٥ ينظر: الكشاف ١/٦٢٠، والبحر المحيط ٣/٤٧٠ والمحرر الوجيز ٢/١٧٥، والدر المصون ٢/٥٠٦..
٦ في أ: وكذلك..
٧ في أ: يخافون..
٨ في أ: ويؤثرون..
٩ سقط في أ..
١٠ في أ: وهي..
١١ ينظر: المشكل ١/٢٢٤..
١٢ في أ: احتمال..
١٣ سقط في أ..
١٤ في أ: قطعا..
قوله :﴿ قَالُواْ : يَا مُوسَى، إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أبداً مَا دَامُوا فِيهَا ﴾ [ " ما " ]١ مصْدَريَّة ظرفية و " دَامُوا " صِلَتُهَا، وهي " دَامَ " النَّاقصة، وخبرها الجارُّ٢ بعدها، وهذا الظَّرْفُ بَدَلٌ من " أبداً " وهُوَ بَدَلُ بَعْض من كُلّ ؛ لأنَّ الأبَدَ يعمُّ الزَّمَن المُسْتَقْبَل كله، ودوام [ الجَبَّارين ]٣ فيها بَعْضه، وظَاهِرُ عِبَارَة الزَّمَخْشَرِيِّ يُحْتَمَلُ أن يكُون بَدَلُ [ كُلٍّ ]٤ من كُلٍّ أو عَطْف بَيَان، والعَطْفُ قد يَقَعُ بَيْن النَّكِرَتَيْن على كلام فيه تقدَّم.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ٥ :" وأبَداً " تعليق للنَّفْي المُؤكَّد بالدَّهْر المُتَطَاولِ، ﴿ ومَا دَامُوا فِيها ﴾ :[ بيانُ الأمْر ]٦، فهذه العَبَارَةُ تَحْتَملُ أنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ من كُلٍّ، لأنَّ بَدَل البَعْضِ من الكُلِّ مُبَيِّنٌ للمُرَاد، نحو :" أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ "، ويحتَملُ أن يكُون بَدَلَ كُلٍّ من كُلٍّ، فإنَّه بيانٌ أيضاً للأوَّل، وإيضَاحٌ له، نحو : رَأيْتُ زَيْداً أخَاك، ويحتمل أن يكُون عَطْفَ بَيَانٍ.
قوله :﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ ﴾ [ في " وَرَبُّكَ " ]٧ أرْبَعَةُ أوجه :
أحدها : أنَّه مرفوع عَطْفاً على الفاعِل المُسْتَتِر في " اذْهَبْ "، وجازَ ذلِك للتَّأكِيد بالضَّمِير.
الثاني : أنَّه مَرفوع بِفِعْل مَحْذُوف، أي : ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ، ويكون من عَطْفِ الجُمَل، وقد تقدَّم [ لي نَقْلُ ]٨ هذا القَوْل والرَّدُّ عليه، ومُخَالَفَتُهُ لنَصِّ سِيبَويْه عند قَوْلِهِ تعالى :﴿ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [ البقرة : ٣٥ ].
الثالث : أنَّهُ مُبْتَدأ، والخبَرُ محذُوفٌ، و " الواوُ " لِلْحَال.
الرابع : أنَّ " الواوَ " لِلْعَطْفِ، وما بَعْدَها مُبْتَدَأ محذوفٌ والخَبَرُ - أيضاً - ولا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة من الإعْرَاب لِكَوْنِها دُعَاءً، والتَّقْدِير : وَرَبُّكَ يُعِينُكَ.
قوله :﴿ هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ " هُنَا " وَحْدَهُ الظَّرْفُ المَكَانِي الَّذِي لا يَنْصَرِفُ إلا بِجَرِّه ؛ ب " مِنْ " و " إلَى "، و " هَا " قَبْلَهُ للتَّنْبيه كسَائِرِ أسْمَاء [ الإشارة ]٩ وعامله " قَاعِدُون "، وقد أجيز أن يكُون خَبَر [ " إنَّ " ]١٠ و " قاعدُون " خَبر ثانٍ، [ وهُو بَعِيدٌ ]١١.
وفي غير القُرْآن إذا اجْتَمَع ظَرْفٌ يَصِحُّ الإخْبَارُ بِهِ مع وَصْفٍ آخَر، ويَجُوزُ أن يُجْعَل١٢ الظَّرْفُ خَبَراً، والوَصْفُ١٣ حالاً، وأن يَكُون الخَبَرُ الوَصْفَ، والظَّرْف مَنْصُوبٌ به كَهَذِه الآية.

فصل


قولهم :﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ ﴾ فيه وُجُوهٌ :
أحدُهَا : لعلَّ القَوْم كانُوا مُجَسِّمَةً، يجوِّزُون الذَّهَاب والمَجِيءَ على الله تعالى.
وثانيها : يُحْتَمَلُ ألاَّ يَكُون المُرَادُ حَقِيقَة الذهَاب، بَلْ كَما يُقَالُ : كَلَّمْته فذهَبَ يُجِيبُنِي، أي : يُريدُ أن يُجِيبَنِي، فكأنَّهُم قالوا : كُن أنْتَ وَربُّكَ مُريدين لقتَالِهِمْ.
ثالثها : التَّقْدِير اذْهَبْ أنْتَ وَربُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ فأضْمَر خَبَر الابْتِدَاء.
فإن قيل : إذَا أضْمَرْنَا الخَبَرَ فَكَيْفَ يَجْعَل١٤ قوله :" فَقَاتِلاَ " خبراً أيضاً.
فالجَوَابُ : لا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَر.
رابعها : أرَادَ بقوله :" وَرَبُّكَ " أخُوه١٥ هَارُون، وسمُّوه [ ربًّا ]١٦ لأنَّهُ كان أكبر من مُوسَى.
قال المُفَسِّرُون١٧ : قولهم :﴿ اذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ ﴾، إن قَالُوهُ على وَجْهِ الذهَاب من مَكَانٍ إلى مَكَانٍ فهو كُفْرٌ، وإن قَالُوهُ على وَجْهِ التَّمَرُّدِ عن الطَّاعَةِ فهو فِسْقٌ، ولقَدْ فَسَقُوا بهذَا الكلامِ لقوله تعالى في هذه القصة :﴿ فلا تَأسَ عَلَى القَوْمِ الفَاسِقِينَ ﴾.
والمقْصُودُ من هذه القِصَّة : شَرْحُ حال هؤلاءِ اليَهُودِ، وشِدَّة بُغْضِهِم [ وَغُلُّوهِمِ ]١٨ في المُنَازَعَةِ مع الأنْبِيَاءِ قَدِيماً،
١ سقط في أ..
٢ في أ: الحال..
٣ سقط في أ..
٤ سقط في أ..
٥ ينظر: الكشاف ١/٦٢١..
٦ في أ: يأتي للأبد..
٧ سقط في أ..
٨ سقط في أ..
٩ سقط في أ..
١٠ في أ: كان..
١١ سقط في أ..
١٢ في أ: يحصل..
١٣ في أ: والموصوف..
١٤ في ب: يكون..
١٥ في أ: أخاه..
١٦ سقط في أ..
١٧ ينظر: تفسير الرازي ١١/١٥٨..
١٨ سقط في أ..
ثُمَّ إنَّ مُوسى - عليه السلام - لمَّا سَمِع مِنْهُم هذا الكلام قال :﴿ رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وأخِي ﴾. في إعْرَاب " أخي " سِتَّةُ أوْجُه :
أظهرها : أنَّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على " نَفْسِي "، والمعنى١ : لا أمْلِكُ إلاَّ أخِي مع مِلْكِي لِنَفْسي دُونَ غَيْرنَا.
الثاني : أنَّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على اسْمِ " إنَّ "، وخَبَرُهَا محذوفٌ للدَّلالة اللَّفْظِيَّة عَلَيْه، أي : وإنَّ أخِي لا يَمْلِكُ إلا نَفْسَه.
الثالث : أنَّهُ مرفوع عَطْفاً على مَحَلِّ اسم " إنَّ " ؛ لأنَّه يُعَدُّ استكمال الخَبر على خلافٍ في ذَلِك، وإن كان بَعْضُهم قد ادَّعى٢ الإجْمَاعَ على جَوَازه.
الرابع : أنَّهُ مَرْفُوع بالابْتِدَاء، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ للدَّلالة المتقدِّمَة، ويكون قد عَطفَ جُمْلَة غَيْرَ مُؤكَّدَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤكَّدَة [ ب " إنَّ " ]٣.
الخامس : أنَّه مَرْفُوعٌ عَطْفاً على الضَّمير المُستكِنِّ في " أمْلك "، والتَّقْدير : ولا يَملِكُ أخي إلا نَفْسَه، [ وجاز ذلك لِلْفَصْل بقوله :" إلاَّ نَفْسِي " ]٤ وقال بهذا الزَّمَخْشَرِيُّ٥، ومَكِّي٦، وابنُ عطيَّة٧، وأبُو البقاء٨ ورَدّ أبُو حَيَّان٩ هذا الوَجْهَ، بأنَّه يلزم منه أنَّ مُوسَى وهَارُون لا يَمْلِكَان إلاَّ نَفْسَ مُوسَى فَقَطْ [ وَلَيْس المَعْنَى على ذَلِك ]١٠، وهذا الرَّدُّ لَيْس بِشَيْءٍ ؛ لأنَّ القائِل بهذا الوَجْهِ صَرَّح بِتَقْديرِ المفعول بَعْد الفاعِلِ المَعْطُوف.
وأيضاً اللَّبْسُ مأمُونٌ، فإن كلَّ أحِدٍ يَتَبادَرُ إلى ذِهْنِهِ أنَّهُ يَمْلِكُ أمْرَ نَفْسِهِ.
السادس : أنَّه مَجْرُورٌ عطفاً على " اليَاء " في " نَفْسِي "، أي : إلاَّ نَفْسِي ونَفْس أخِي، وهو ضعيفٌ على قَوَاعِدِ البَصْريِّين لِلْعَطْفِ على الضَّمِير المَجْرُور من غَيْر إعادَةِ الجَارِّ، وقد تقدَّم ما فيه.
والحَسَن البَصْرِيُّ١١ يقرأ بِفَتْح [ ياء ]١٢ " نَفْسِي "، و " أخِي ".
وقرأ يوسُف بن دَاوُد وعُبَيْد بن عُمَيْر١٣ " فَافْرِق " بِكَسْرِ الرَّاء، وهي لُغَةٌ : فَرَقَ يَفْرِق ك " يضرب " قال الراجز :[ الرجز ]
يا رَب فَافْرِقْ بَيْنَهُ وبَيْنِي١٤ أشَدَّ ما فَرَّقْت بَيْنَ اثْنَيْنِ١٥
وقرأ ابن السَّمَيْفَع١٦ " فَفَرِّقْ " مُضَعَّفاً، وهي مُخَالِفَةٌ للرَّسْم و " بَيْنَ " معمولة ل " افْرُق "، وكان من حَقِّها ألا تكرَّرَ في العَطْفِ، تقُولَ : المَالُ بَيْن زَيْدٍ وعَمْرو، وإنَّما كرِّرَت للاحْتِيَاج إلى تكررِ الجارِّ في العَطْفِ على الضِّمِير المَجْرُور، وهو يُؤيِّد مَذْهَب البَصْريِّين.
فإن قيل : لم قال :﴿ لا أمْلِكُ إلاَّ نَفْسِي وَأخِي ﴾ وكان مَعَهُ الرَّجُلان المَذْكُورَان ؟.
فالجواب : كأنَّه لم يَثِقْ بِهِمَا كُلَّ الوُثُوق لِمَا رَأى [ من ]١٧ إطباقِ الأكْثَرِين على التَّمَرُّد١٨، ولَعَلَّهُ إنَّما قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلاً لمن وَافَقَهُ، أو يكُون المُرَادُ بالأخِ مَنْ يُؤاخِيهِ في الدِّين، وعلى هذا يَدْخل الرَّجُلان.
والمُرادُ بقوله :﴿ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ أي : افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُم، بأنْ تَحْكُم لَنَا بما تَسْتَحِقُّ وتحْكُم عَلَيْهِم بما يَسْتَحِقُّون، وهُوَ في مَعْنَى الدُّعَاء عَلَيْهِم، أو يكون المَعْنَى : خَلِّصْنَا من صُحْبَتِهِم، وهو كقوله :﴿ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [ القصص : ٢١ ].
١ في أ: والضمير..
٢ في أ: أدى..
٣ في أ: بأل..
٤ سقط في أ..
٥ ينظر: الكشاف ١/٦٢٢..
٦ ينظر: المشكل ١/٢٢٥..
٧ ينظر: المحرر الوجيز ٢/١٧٦..
٨ ينظر: الإملاء ١/٢١٣..
٩ ينظر: البحر المحيط ٣/٤٧١-٤٧٢..
١٠ في أ: دليل المعنى عليه على ذلك..
١١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/١٧٦، والبحر المحيط ٣/٤٧٢، والدر المصون ٢/٥٠٨..
١٢ سقط في أ..
١٣ ينظر: تخريج القراءة السابقة..
١٤ في أ: بين وبينه..
١٥ ينظر: مجاز القرآن ١/١٦٠، البحر المحيط ٣/٤٧٢، الطبري ٤/٥٢٢، الدر المصون ٢/٥٠٨..
١٦ ينظر: البحر المحيط ٣/٤٧٢، والدر المصون ٢/٥٠٨..
١٧ سقط في أ..
١٨ في أ: التردد..
قوله: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي الأرْضَ المقدسة مُحَرَّمة عَلَيْهم أبَداً، لم يرد تَحْريم تَعَبُّد، وقيل تَحْرِيم مَنْع. [في] قوله: «أرْبَعين سَنَةً» وجهان:
أظهرهما أنَّه منْصُوب ل «مُحَّرَمة»، فإنَّه رُوِي في القِصَّة أنهم بعد الأرْبَعين دخلوها، فيكون قد قَيّد تَحْريمها عَلَيْهم بهذه المُدَّة، وأخْبَر أنَّهم «يَتيهُون»، ولم يُبَيِّنْ كَميَّة التِّيه، وعلى هذا فَفِي «يَتيهُون» احتمالان:
أحدهما: أنه مستَأنَفٌ.
الثاني: أنَّه حالٌ من الضَّمِير في «عَلَيْهِم».
الوجه الثَّاني: أن «أرْبَعين» مَنْصُوب ب «يتيهُون»، فيكون قَيّد التِّيه [ب «الأرْبَعين» ].
[وأمَّا] التَّحْريم فمطلق، فيحتمل أن يكُون مُسْتَمِراً، أو يكون مُنقْطِعاً وأنَّهَا أحلت لهم.
وقد قيل بِكُلٍّ من الاحتمالين، رُوِي أنَّه لم يدخُلْها أحَدٌ ممَّن كان في التِّيهِ، ولم يَدْخُلْها إلا أبْناؤُهُمَ [وأمَّا الآبَاءُ فماتُوا، وما أدْرِي ما الَّذي حَمَل أبَا مُحَمَّد بن عَطِيَّة على تَجويزه أن يكُون العَامِلُ في «أربعين» مُضْمَراً يفسره] «يتيهُون» المتأخر، ولا ما اضْطَرَّه إلى ذَلِك من مَانِعِ صِنَاعِي أو مَعْنَوِي، وجَوَاز الوَقْف والابْتِدَاء بقوله: «عَلَيْهِمْ»، و «يَتِيهُون» [مفهوما ممَّا] تقدم من الإعراب.
والتِّيه: الحَيْرة، ومنه: أرْضٌ تَيْهَاء [لِحَيرةٍ سَالكها] قال: [الطويل]
277
١٩٥٠ - بتَيْهاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأنَّهَا قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُها
ويقال: «تَاهَ يتيه وهو أتْيَهُ منه، وتَاهَ يَتُوه وهو أتْوَهُ مِنْه» [فقول من قال: يتيه، وتوهْتُهُ] من التَّدَاخل، ومثله: «طَاحَ» في كونه سُمِع في عَيْنيه الوجهان، وأن فيه التَّدَاخُلَ - أيضاً - فإنَّ من قال: «يَطِيحُ» قال: «طَوَّحْتُه»، وهو «أطْوَحُ منه».
واختَلفُوا في التِّيه، قال [الرَّبيع:] مقدار ستة فَرَاسِخ، وقيل: تِسْعة فَرَاسِخ في ثلاثين فَرْسخاً، وقيل: سِتَّة فَرَاسِخ في اثْنَيْ عشر فرسخاً.
وقيل: كانوا ستمائة ألْفِ فارس.
فإن قيل: كيف يعقل بَقَاءُ هذا الجَمْع العظيمِ في هذا القَدْر الصَّغِير من المفَازَة أرْبَعِين سنة بحيث لا يَتَّفِقُ لأحدٍ منهم أن يَجِد طَرِيقاً إلى الخُرُوج عنها؟ ولو أنهم وضعُوا أعينَهُم على حركة الشَّمس أو الكواكب لَخَرجوا منها، ولو كانُوا في البَحْر العَظِيم فكيف في المفازة الصغيرة؟.
فالجواب فيه وَجْهَان: الأوَّل: أن انخراق العَادَات في زمن الأنْبِياء غير مُستبعد، إذ لو فَتَحْنَا باب الاسْتِبْعَاد لزم الطَّعن في جميع المُعْجِزات، وهو باطِلٌ.
الثاني: إذا جعلْنَا ذلك التَّحْريم تحريم تعبد، زال السَّؤال؛ لأن الله تعالى حرَّم عليهم الرُّجوع إلى أوْطَانِهِم، وأمرهم بالمكْثِ في تلك المفَازةِ أرْبعين سنة مع المشقة والمحنة جَزَاءً لهم على سُوء صنِيعِهم.
قال القُرْطُبِي: [قال] أبو علي: قد يكونُ ذلك بأن يحول الله الأرْضَ التي هم عليها إذا نَامُوا فيردَّهم إلى المكان الذي ابْتَدؤوا منه، وقد يَكُون بغير ذلك من الاشتباه والأسْبَاب [المَانِعَة من] الخُرُوج عنها على طَريق المُعْجِزة الخارجة عن العَادَة.
قال بعضهم: إنَّ هارون وموسى لم يكُونَا فيهم، والصَّحِيح: أنَّهما كانا فيهم، ولم يكن لهما عُقُوبة لكن كما كَانَت النَّار على إبْرَاهيم بَرْداً وسَلاَماً وإنما كانت العقوبة لأولَئِك الأقْوام، ومات في التِّيه كل من دَخَلها ممن جاز عشرين سنة غير يُوشَع وكالب، ولم يدخل أريحاء أحَدٌ ممَّن قالوا: ﴿إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ [أَبَداً] ﴾ [المائدة: ٢٤] فلما هَلَكُوا وانْقَضت الأربعون
278
سنة، وَنَشَأت [النَّواشئ] من ذراريهم ساروا إلا حرب الجبَّارِين، واخْتَلَفُوا فيمن تولَّى الحرب وعلى يدي من كان الفتح فقيل: إنَّما فَتَح أريحاء موسى، وكان يُوشع على مقدمته، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع، فقالت الجَبَابِرَة ثم دَخَلَها موسى، وأقام فيها ما شاء الله، ثم قَبَضَهُ اللَّه إليه، ولا يعلم قبره أحد، وهذا أصَحُّ الأقوال. وقيل: إنما قاتل الجبَّارين يُوشع، ولم يَسِر إليهم إلا بعد موت موسى - عليه السلام -، وقالوا: مات مُوسى وهارون جميعاً في التِّيه.
قال القُرْطُبِيُّ: روى مُسْلِمٌ عن أبِي هُرَيْرَة قال: «أرْسَلَ اللَّهُ ملك المَوْتِ إلى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فلما جاءَهُ، صَكَّهُ وفَقَأ عَيْنَه، فرجع إلى رَبِّه فقال:» أرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لا يُريد الموْتَ «، قال: فَرَدَّ الله إلَيْه عَيْنَهُ، وقال: ارجع إلَيْه وقل له: يضع يده على مَتْن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سَنَة. قال:» أي رب ثم مَهْ «، قال:» ثم الموت «قال:» فالآن «؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثِيب الأحمر «فهذا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد علم قبره ووصف موضعه، ورآه فيه قائماً يصلي كما في حديث الإسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهوراً عندهم؛ ولعل ذلك لئلا يُعبد، والله أعلم. ويعني بالطريق طريق بيت المقدس. ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطُّور مكان الطريق. واختلف العلماء في تأويل لَطْم موسى عين مَلك الموت وفَقْئها على أقوال؛ منها: أنها كانت عيناً متخيلة لا حقيقة، وهذا باطل، لأنه يؤدّي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له.
ومنها: أنها كانت عيناً معنوية وإنما فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة. ومنها: أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت، وأنه رأى رجلاً دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن.
وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصّك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: «يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت»
فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضاً قوله في الرواية الأخرى: «أجب ربك» يدلّ على تعريفه بنفسه. والله أعلم. ومنها: أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان سريع الغضب، إذا غضب طلع الدّخان من قَلَنْسُوته ورفع شعرُ بدنه جبّته؛ وسرعة غضبه كانت سبباً لصَكِّه مَلَك الموت.
قال ابن العربي: وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب. ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال: أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة
279
وَالسَّلَام ُ عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمِر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من «أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيِّره» فلما جاءه على غير الوجه الذي أُعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحاناً لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير. ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم، والله بغيبه أحكم وأعلم. هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصاً وأخباراً الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غُنْيَة عنها. انتهى.

فصل


وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له: كيف وجدت الموت؟ فقال: «كشاة تسلخ وهي حية».
وقوله: ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين﴾ أي لا تحزن.
[والأسى: الحُزْن، يقال: أسِي - بكسر العين - يَأسَى، بفتحها، ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واوٍ، وهو الظاهرُ لقولهم: «رجل أسْوان» بزنة سكران، أي: كثير الحزن، وقالوا في تثنية الأسى: أسوان، وإنما قُلبت الواوُ في «أسِيَ» يَاءً لانكسار ما قبلَها، ويُحْتمل أن تكون ياءً فقد حُكي «رجل أسْيان» أي كثيرُ الحزن، فتثنيتُه على هذا «أسَيان». والله أعلم بغيبه].
280
واتل عليهم نبأ ابني آدم الآية.
في تعَلُّقِ هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ:
280
أحدها: أنه تعالى قال فيما تَقدَّمَ:
﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾ [المائدة: ١١] فذكر أنَّ الأعْدَاءَ يُرِيدُونَ إيْقَاعَ الْبَلاَء بِهِمْ، لَكِنَّهُ تعالى يَحْفَظُهُمْ [بِفَضْلِهِ] ويمنع أعداءهم من إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِمْ، ثم ذكر قِصَصاً تَدُلُّ في أنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ به - تعالى - من النِّعَمِ العظيمة في الدِّينِ والدُّنْيَا فإنَّ الناس يتنازعونه حسداً، فَذَكَرَ قِصةَ النُّقَبَاءِ الاثْنَيْ عَشَرَ، وأخذ الميثاق منهم، ثم إنَّ اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللَّعْنِ والقساوة، وذكر بعد شِدَّة إصْرَارِ النصارى على الكفر، وقولهم ب «التَّثْلِيث» بعد ظهور الدَّلاَئِل الواضحة القاطعة على فساد اعْتِقَادِهِمْ، وما ذلك إلا حسداً لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما آتاه الله من الدِّينِ الْحَقِّ ثم ذكر قصَّة ابْنَيْ آدم، وأنَّ أحدهما قتل الآخر حسداً على قَبُولِ قُرْبَانِهِ، وكل هذه الْقَصَصِ دالَّةٌ على أنَّ كل ذي نِعْمَة محسود، فلما كانت نِعَمُ الله على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعْظَمَ النعم لم يبعد اتِّفَاق الأعداء على كَيْدِهِ، فكان ذكر هذه القصص تسلية له فيما هدّده به اليَهُود من المكر والكَيد.
ثانيها: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله: ﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ [المائدة: ١٥].
وهذه القصص مَذْكورة في التَّوْراة.
وثالثها: أنَّها متعلِّقَة بقصة [محاربة] الجبَّارين، أي: ذكِّروا اليَهُود بحديث ابْنَيْ آدم؛ ليعلموا أن سَبِيل أسْلاَفهم في النَّدامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعاصي، مثل سَبِيل ابْنَيْ آدم في نَدَامة أحَدهما على قَتْلِ الآخَر.
رابعها: أنه مُتَّصِل بحكاية قول اليَهُود والنَّصَارَى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] أي: لا ينفعهم كَوْنُهُم أولاد الأنْبِيَاء مع كُفْرِهِم، كما لم يَنْتَفِع ولد آدم بقَتْلِ أخيه بكون أبيه نَبِيّاً معظماً عند الله - تعالى -.
وخامسها: لما كَفَرَ أهل الكِتَاب بمحمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حَسَداً أخْبَرَهُم الله - تعالى - بخبر ابْنَيْ آدم، وأنَّ الحسد أوْقَعَهُ في سُوءِ الخَاتِمة، والمقصود منه التَّحْذِير عن الحَسَدِ.
281
الضَّمِير في «عَلَيْهِم» فيه قولان:
282
أحدهما: واتل على النَّاس.
والثاني: واتْلُ على أهل الكِتَاب.
وفي «ابْنَيْ آدَمَ» قولان:
أحدهما: أنها ابْنَا آدم لِصُلْبِهِ، وهما: قَابِيل، وهَابِيل، وفي سبب [وقوع] المُنَازَعة بينهما قولان:
أحدهما: أنَّ هَابِيلَ كان صاحب غَنَمٍ، وقابيلَ صاحب زَرْع فقرَّب كل واحد منهما قُرْبَاناً، فطلب هابيل أحْسَنَ شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً، وطلب قابيل شَرَّ حِنْطة كانت عنده وجعلها قُرْبَاناً، فنزلت نارٌ مِنَ السَّمَاءٍ فَاحْتَمَلَتْ قُرْبَانَ هَابيلَ ولم تَحْتَمِل قُرْبان قابيل، فعلم قابيل أنَّ الله تعالى قبل قُرْبَان أخِيهِ ولم يقبل قُرْبَانه، فحَسَده وقصد قَتْلَهُ.
قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ولم يُحْتَمَلْ قربان قَابيل، فَعَلِمَ قَابِيلُ أنَّ الله قَبِلَ قربان أخيه ولم يقبل قربانه؛ لأنَّه كان كافراً فقال قابيل لأخيه هابيل - وكان مُؤمِناً -: أتَمْشِي على الأرض يراك النَّاس أفْضَلَ مِنِّي به، فَحَسَدَه وَقَصَدَ قَتْلَهُ.
وثانيهما: رُوِيَ أنَّ آدم - عليه السلام - كان يُولَدُ له [في كل بطن] غلام وجارية وكان يزوِّج [تلك] البِنْت من البَطْن بالغلام من بَطْن آخر، فولد له قَابِيل [وتوأمته،] قال الْكَلْبيُّ: وكان اسْمُهَا «إقْلِيمِياء» -، وبعدهما هَابِيل وتَوْأمَته وكانت تَوْأمَةُ قابيل أحْسَنَ النَّاسِ وجهاً، فأراد آدَم - عليه السلام - أن يُزَوِّجَهَا من هَابِيل، فأبى قَابِيل وقال: أنا أحَقُّ بِهَا وهو أحق بأخته وليس هذا من اللَّه وَإنَّمَا هو رَأيُكَ، فقال آدمُ - عليه السلام - لهما: قَرِّبَا قرباناً فأيُّكُمَا قبل قُرْبانه زَوَّجْتُها منه، فَقَرَّبَا قُرْبَانَيْن، فَقَبِلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ بأن أنْزل على قُرْبَانه ناراً فازداد قابيل حَسَداً له.
قال القُرْطُبِيُّ: وَرُوِيَ عن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضي الله عَنْهُ - «أنَّ آدم - عليه السلام -
283
لم يكن يُزَوِّجُ ابنته من ابنه، ولو فعل ذلك ما رَغِبَ عنه النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا كان دين آدم عليه السلام إلاَّ دين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ... »، وذكر قَصَّته. قال القُرْطُبِيُّ: وهذه القِصَّة عن جَعْفَرٍ ما أظُنُّهَا تَصِحُّ، وأنه يزوِّجُ غلام هذا البَطْنِ إلى البَطْن الآخر، بدليل قوله تعالى: ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ [النساء: ١]، وهذا كالنصِّ ثم نسخ ذلك على ما تقدم بيانه في «سورة البقرة» وكان جميع ما ولدته حَوَّاءُ أربعين ولداً ذكراً، وأنثى: عِشْرين بطناً أوَّلُهُم قابيل، وتوأمته إقليمياء وآخرهم عَبْدُ المُغِيثِ، ثم بارك الله في نسل آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لم يمت آدم - عليه السَّلام - حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألْفاً.
والقول الثاني: وهو قول الْحَسَنِ والضَّحَّاك: أنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللذين قَرَّبا القربان ما كانا ابْنَيْ آدم لِصُلْبِهِ، وإنما كانا رَجُلَيْن من بني إسرائيل [كانت بينهما خُصُومة، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل] ؛ لقوله تعالى في آخر القصَّة: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً﴾ [المائدة: ٣٢].
وصدور الذنب من ابني آدم، لا يصلح أن يكون سَبَباً لإيجاب القِصَاص عليهم زَجْراً لهم عن المُعَاودَة إلى مثل هذا الذَّنب، ويَدُلُّ عليه أيضاً أنَّ المقصود من هذه القِصَّة: بيان أنَّ اليَهُود من قديم الدَّهر مُصِرُّونَ على التَّمَرُّدِ والحسد حتى بلغ بهم هذا الحَسَد إلى أن أحدهما لما قَبِلَ اللَّهُ قربانه حَسَدَه الآخر وقتله، ولا شكَّ أن هذا ذَنْبٌ عَظِيمٌ.
فإنَّ قَبُولَ الْقُرْبَانِ ممَّا يدل [عليه أن صَاحِبَه] حسن الاعتقاد [وأنه] مقبول عند اللَّه - تعالى - فَتَجِبُ المُبَالَغَةُ في تَعْظِيمه، فلما أقدم على قَتْلِهِ [وَقَتَلَهُ] مع هذه الحالة دَلَّ ذلك على أنَّهُ قد بَلَغَ في الحَسَد أقصى الغايات، وإذا كان المرادُ أنَّ الحسَد داءٌ قديمٌ في بَنِي إسْرَائِيلَ، وجب أن يقال: [هذان الرَّجلان] كانا من بَنِي إسْرَائيلَ، والصَّحيح الأول؛ لأنَّ القاتل جهل ما يَصْنَع بالمقَتُول، حتى تعلَّم ذلك من عَمَل الغراب ولو كان من بَنِي إسرائيلَ لما خَفِي عليه هذا الأمْر - والله سبحانه أعلم -.

فصل


قوله تعالى: «بالحقِّ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
284
أحدُها: أنه حَالٌ من فاعل «اتْلُ» أي: اتلُ ذلك حال كونك مُلْتَبساً بالحقِّ أي: بالصِّدق، وموافقاً لما في التَّوْراة والإنْجِيل.
والثاني: أنه حال من مَفْعُوله وهي «نَبَأ»، أي: اتلُ نبأهُمَا مُلْتَبساً بالصِّدْقِ مُوافِقاً لما في كُتُب الأوَّلين لتثبت عليهم الحُجَّةُ برسالتك.
الثالث: أنه صِفَةٌ لمصدر «اتْلُ»، أي: اتْلُ ذلك تلاوةً مُلْتَبِسة بالحقِّ والصِّدٌ كافَّة.
وَالزَّمَخْشَرِيُّ به بدأ، وعلى الأوْجُهِ الثلاثة ف «البَاءُ» للمُصَاحبة وهي متعلِّقَة بمحذُوف.
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بتسكين الميم من «آدَم» قبل بَاءِ «بالْحَقِّ»، وكذا كل مِيمٍ قبلها مُتَحرك، وبعدها بَاء، ومعنى الكلام: واتْلُ عليهم نبأ ابْنَيْ آدم بالغَرض [الصحيح]، وهو تَقْبِيح الحسد، والبَغْي وقيل: لِيَعْتَبِرُو به لا لِيَحمِلُوهُ على اللَّعِبِ، كالأقاصيص التي لا فائدة فيها، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المقصود من ذكر القصص العبرةُ لا مجرَّد الحكاية، لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ [يوسف: ١١١].
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَرَّبَا [قُرْبَاناً] ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: وبه بدأ الزَّمخشريُّ، وأبو البقاء: أن يكون متعلِّقاً بنفس النَّبأ، أي: قصّتُهما، وحديثهما في ذلك الوَقْت، وهذا وَاضِح.
والثاني: أنه بَدلٌ من «نبأ» على حَذْف مضافٍ، تقديره: «واتْلُ» عَلَيْهِم النَّبأ ذلك الوقت، كذا قدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ.
قال أبُو حَيَّان: «ولا يجُوز ما ذكر؛ لأن» إذْ «لا يُضَاف إليها إلا الزَّمانُ و» نبأ «ليس بزمان.
الثالث: ذكره أبُو البَقَاءِ [أنه حال من»
نبأ « [وعلى هذا فيتعلق بِمَحذُوف، لكنَّ هذا الوجه غَيْر وَاضِح.
قال أبو البَقَاء:] ولا يجوز أن يكون ظرفاً ل»
اتْلُ «؛ قلت: لأنَّ الفعل مستقبل، و» إذ «وقت ماضٍ، فكيف يَتلاقَيَان؟ و» الْقُرْبَانُ «فيه احْتِمَالان:
285
أحدهما: وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ:» أنه اسم لما يُتَقَرَّبُ به، كما أنَّ الْحُلْوَانَ اسم ما يُحَلَّى أو يُعْطى «.
يقال: «قَرَّبَ صَدَقةً وتقرَّب بها»
؛ لأن «تقرَّب» مطواع «قرَّب».
قال الأصْمَعِيُّ: [تقربوا] «قِرْفَ القَمع» فيعدَّى بالباء حتى يكون بمعنى: قَرَّبَ، أي: فيكون قوله: ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً﴾ يَطْلُبُ مُطَاوِعاً له، والتَّقْدِير إذْ قَرَّبَاهُ، فتقرَّبا بِهِ وفيه بُعْدٌ.
قال أبُو حَيَّان: «وليس تقرَّب بصدقة مطاوع» قَرَّب صدقة «لاتحاد فاعل الفعلين، والمُطاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فيها الفاعل يكونُ من أحدهما فعل، ومن الآخَرِ انفعال، نحو: كَسَرْتُه فانكسر، وفَلَقْتُه فانْفَلَق، فليس قَرَّبَ صَدَقَةً، وتقرَّبَ بها، من هذا البَابِ، فهو غلط فَاحِشٌ».
قال شهاب الدِّين: وفيما قاله الشَّيْخ نظر؛ لأنَّا نُسَلِّم هذه القاعدة.
والاحتمال الثاني: أن يكون في الأصْل مَصْدراً، ثم أطلق على الشيء المُتقرّب به، كقولهم «نَسْج اليَمَن»، و «ضَرْب الأمير».
ويُؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنِّ، والموضعُ موضعُ تَثْنِية؛ لأنَّ كلاً من قَابيل وهَابيل له قُرْبان يَخُصُّه، فالأصل: إذ قَرَّبا قُرْبَانين ولأنه لم يُثَنِّ [لأنه مصدر في الأصل، وللقائل بأنه اسم ما يتقرّب به لا مصدر أن يقول: إنما لم يُثَنِّ] ؛ لأن المعنى - كما قاله أبو عَلِيّ الفَارسيّ -: إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قُرْبَاناً، كقوله تعالى: ﴿فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] أي: كل واحد منهم.
قال ابن الخطيب: جَمَعَها في الفِعْل، وأفرد الاسْم ليستدل بِفِعْلهما على أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما قُرْباناً.
وقيل: إنَّ القُرْبَان اسم جنس فهو يَصْلُح للوَاحِد والعَدَد.
وقوله تعالى: ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر﴾.
قال أكثر المُفَسِّرِين: كان علامَةُ القبول أن تأكله النَّار، وقال مُجَاهد: علامة الردِّ أن تأكله النَّار.
286
وقيل: لم يكن في ذلك الوَقْتِ فقير يُدفَع إليه ما يتقرَّب به إلى الله - تعالى -، فكانت تَنْزِلُ من السَّمَاء نار تأكلُهُ.
وإنما صار أحد القُرْبَانَيْن مقبولاً والآخر مردوداً؛ لأنَّ [حصول] التَّقوى شرط في قُبُول الأعْمَال لقوله تعالى هاهنا حِكَاية عن المُحِقِّ ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾، وقوله تعالى فيما أمَرنا به من القُرْبان بالبدن: ﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧] فأخبر أنَّ الذي يصل إليه لَيْس إلاَّ التَّقوى، والتَّقْوى من صفات القُلُوبِ؛ لقوله - عليه السلام -: «التَّقْوى هَاهُنَا» وأشار إلى القَلْب.
وحقيقة التَّقْوى: أن يكون على خَوْف ووَجَل من تقصير نَفْسه في تلك الطَّاعَة.
وأن يكون في غَايَةِ الاحْتِرَاز من أن يَأتِي بتلك الطَّاعَة لغرض سوى مَرْضَاة الله تعالى.
وألاَّ يكون فيه شركة لِغَيْر الله تعالى.
قيل: إن قابيل جعل قُرْبَانه أرْدَأ ما كان عِنْده، وأضْمَر في نفسه ألاَّ يُبَالي قُبِلَ أو لم يُقْبَلْ، وأنه لا يزوِّج أخْتَه من أخِيه أبَداً.
وقيل: كان قابيل لَيْس من أهل التَّقْوى والطَّاعة فلذلك لم يَقْبَل اللَّهُ قُرْبانه.
قوله تعالى: «قال لأقْتُلَنَّك»، أي: قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه.
وقرأ الجمهور «لأقْتُلَنَّك»، أي: قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه.
وقرأ الجمهور «لأقتلنَّك» بالنون الشديدة، وهذا جوابُ قسم مَحْذُوف وقرأه زيدٌ بالخفيفة.
قال أبُو حَيَّان: [إنما يتقبل الله مَفْعُوله مَحْذُوف]، لدلالة المعنى عليه، أي: قرابينهم وأعمالهم ويجُوزُ ألاَّ يراد له مَفْعُول، كقوله تعالى ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى﴾ [الليل: ٥]، هذه الجُمْلَة قال ابن عطيَّة: «قبلها كلام محذوف، تقديرُه: لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أجْنِ شيئاً، ولا ذَنْبَ لي في تَقَبُّلِ الله قرباني بدون قربانك» ؛ وذكر كلاماً كثيراً.
وقال غيرُه: «فيه حذفٌ يَطُول» وذكر نحوه: ولا حَاجَة إلى تقدير ذلك كلّه؛ إذ المعاني مفهومَةٌ من فَحْوَى الكلام إذا قُدِّرَتْ قَصِيرةً كان أحْسَن، والمعنى هنا: لأقْتُلَنَّك حَسَداً على تَقَبُّل قُرْبَانك، فَعَرَّضَ له بأن سَبَبَ التَّقَبُّل التَّقْوى.
287
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فإن قلت: كيف [كان] قوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ جوباً لقوله:» لأقْتُلَنَّكَ «؟.
قلت: لمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تَقَبُّل قربانه هو الذي حَمَلَهُ على توعُّده بالقَتْل، قال: إنَّما أتَيْت من قبل نفسك لانْسِلاَخها من لِبَاسِ التَّقْوَى»
انتهى.
وهذا ونَحْوه من تَفسِير المَعْنَى لا الإعْرَاب.
وقيل: إن هذه الجملة اعْتِرَاض بَيْن كلام القَاتِل وكلام المَقْتُول والضَّمِير [في «قال» ] إنَّما يعود إلى الله تعالى، أي: قال الله ذلك لِرَسُوله، فَيَكُون قد اعْتَرض بقوله ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله﴾ بين كلام قابيل وهو: «قال لأقْتُلَنَّكَ»، وبين كلام هَابِيل وهو: «لَئِنْ بَسَطْتَ» إلى آخره، وهو في غاية البُعْد لِتَنافُر النَّظْم.
و «اللاَّم» في قوله: «لَئِنْ بَسَطْتَ» هي المُوَطِّئة.
وقوله: ﴿مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ﴾ جوابُ القسم المَحْذُوف، وهذا على القاعِدَة المُقَرَّرةِ من أنَّه إذا اجْتَمَع شَرْطٌ وقسمٌ أجِيبَ سابقُهما إلا في صُورة تَقدّم التَّنْبِيه عليها.
وقال الزَّمَخْشَرِي: «فإن قلت: لِم جاء الشَّرْط بلفظ الفِعْل، والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وو قوله» لَئِنْ بَسَطْتَ «، ﴿مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ﴾ ؛ قلت: ليفيد أنه لا يفعلُ هذا الوَصْفَ الشَّنِيع، ولذلك أكَّدَهُ ب» الباء «المفيدة لِتَأكِيد النَّفْي».
وناقَشَهُ أبُو حيَّان في قوله: [إنَّ] ﴿مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ﴾ جزاء للشَّرْط.
قال: لأنَّ هذا الجواب لِلقَسَم لا للشَّرط قال: «لأنه لو كان جواباً للشَّرط للزمته الفاء لِكَوْنه منفيًّا ب» ما «والأداة جَازِمة، وللزِمَهُ أيضاً تلك القَاعِدة، وهو كَوْنه لم يجب الأسْبَق منهما» وهذا ليس بشيء؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ سماه جزاء للشَّرط لما كان دالاًّ على جزاء الشَّرْط، ولا نَكِيرَ في ذلك [ولكنه مُغْرى بأن يقال: قد اعترض على الزَّمَخْشَرِي].
وقال أيضاً: وقد خالف الزمخشريّ كلامه هنا بما ذكره في «البَقَرة» في قوله تعالى ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين﴾ [البقرة: ١٤٥]، من كونه جعله جواباً للقسم سادًّا مسدّ جوابِ الشَّرْط، وقد تقدَّم بحثه مَعَهُ هناك.
288

فصل في معنى الآية


ومعنى قوله «بَسَطْتَ» أي: مَددْتَ إليَّ يدكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنَا بباسطٍ يدي إليْكَ لأقْتُلَكَ إنِّي أخافُ الله ربَّ العالمِين «قال عبدُ الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: وايمُ الله إن كان المَقْتُول أشدَّ الرَّجُلَين، ولكن مَنَعَهُ التَّحَرُّج أن يَبْسُطَ إلى أخيه يده، وهذا في الشَّرْعِ جَائِز لمن أُريد قَتْلُهُ أن يَنْقَاد ويَسْتَسْلِم طلباً للأجْر، كما فعل عُثْمان - رضي الله تعالى عنه - وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمحمَّد بن مسلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -» ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المَقْتُول ولا تكن عبد الله القاتِل «.
وقال مجاهد:»
كتب عليهم في ذلك الوَقْتِ إذا أراد رَجُلٌ قَتْلَ رجل أنَّه لا يَمْتَنِع ويصْبر «.
قوله تعالى: ﴿إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي﴾، فيه ثلاثة تأوِيلات:
أحدها: على حَذْفِ همزة الاستفهام تقديره: أإنِّي أريد؛ وهو استفهام إنكَار؛ لأن إرادة المَعْصِيَة قبيحَةٌ، ومن الأنْبِيَاء أقبح؛ فهم معْصُومُون عن ذلك، ويؤيِّد هذا التَّأويل قراءة من قرأ»
أنَّى أريد «بفتح النون، وهي» أنَّى «التي بمعنى» كَيْفَ «، أي: كيف أريد ذلك.
والثاني: أنَّ»
لا «محذوفةٌ تقديره: إني أريدُ أن لا تَبُوء، كقوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦]، وقوله تعالى: ﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥]، أي ألاّ تضلّوا وألا تميد وهو مستَفِيضٌ وهذا أيضاً فرار من إثْبَات الإرَادَة له، وضعَّفَ بعضهم هذا التَّأويل بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كانَ على ابْنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ «.
فثبت بهذا أن الإثْمَ حاصلٌ، وهذا الَّذي ضعَّفه به غير لاَزِم؛ لأن قائِل هذه المقالة يقول: لا يلزم من عَدَمِ إرادَته الإثْم لأخيه عَدَم الإثم، بل قد يريد عدمه ويَقَع.
289
الثالث: أن الإرادة على حَالها، وهي: إمَّا إرادة مَجَازية، أو حقيقيَّة على حَسَبِ اختلاف المُفسِّرين في ذلك، وجَاءَت إرادة ذلك به لمعانٍ ذكرُها، من جملتها:
أنَّه ظهرت له قَرائِن تدلُّ على قرب أجلهِ، وأنَّ أخاه كافر، وإرادة العُقُوبَة بالكافر حَسَنة.
وقوله:» بِإثْمِي «في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من فاعل» تبُوء «أي: ترجعُ حاملاً له ومُلْتبساً به، وقد تقدم نَظِيرُه في قوله ﴿فَبَآءُو بِغَضَبٍ﴾ [البقرة: ٩٠] وقالوا: لا بُدَّ من مُضافٍ، فقدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ» بمثلَ إثمي «قال:» على الاتِّسَاع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كِتَابَته «.
وقدَّره بعضهم «بإثْمِ قَتْلِي، وإثم معصِيَتك التي لم يُقبل لأجلها قُرْبَانك، وإثْم حسدك»
.
وقيل: معناه إنِّي أريد أن تَبُوءَ بعقاب قَتْلي فتكون إرادة صَحِيحَة؛ لأنَّها موافقة لِحُكم الله - عزَّ وجلَّ -، ولا يكون هذا إرادة للقَتْل، بل لموجِبِ القتل من الإثْم والعِقَاب رُوِي أن الظَّالم إذا لم يَجِد يوم القِيَامة ما يرضي خَصْمَه، أُخِذَ من سيِّئَات المَظْلُوم وحمل على الظَّالم، فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال: إنِّي أُريد أن تَبُوء بإثْمي في قَتْلِك، وهذا يَصْلُح جواباً.
قوله «فَطَوَّعَتْ» الجمهورُ على «طَوَّعَتْ» بتشديد الواو من غير ألف بمعنى «سَهلت وبعثت» أي: جَعَلْته سهلاً، تقديره: بعثت له نفسه أنَّ قتل أخيه طَوْعاً سهل عليه.
قال الزَّمَخْشَرِي: «وسَّعَتْه ويسَّرَتْه من طاعَ له المرْتَعُ إذ اتَّسع» انتهى.
وقال مجاهد: شجّعْتُه.
وقال قتادة: زيَّنْتُ له نفسه، والتَّضْعيف فيه للتَّعْدِية؛ لأنَّ الأصل: طَاعَ له قَتْلُ أخيه، أي: انْقَادَ من الطَّواعِية، فعُدّي بالتَّضعيف، فصار الفاعلُ مَفْعُولاً كحاله مع الهَمْزَة.
290
وقرأ الحسن، وزَيْد بن علي وجماعة كثيرة «فَطَاوعتْ»، وأبدى الزَّمَخْشَرِيُّ فيها احتِمَالَيْن:
أحدهما: أن يكُون ممَّا جاء فيه «فَاعَلَ» لغير مُشاركة بين شَيْئيْن، بل بمعنى «فَعَّل» نحو: ضَاعَفْتُه وضَعَّفْته، وناعَمْتُهُ ونَعَّمْتُه، وهذان المثالان من أمثلة سِيبويه.
قال: «فجاءوا به على مثال عاقَبْتُه».
قال: وقد تجيء: «فاعَلْتُ» لا تريدُ بها عمل اثْنَيْن، ولكنَّهم بَنَوْا عليه الفِعْل كما بَنَوْه على «أفْعَلْتُ»، وذكر أمْثِلَة منها: «عَافَاهُ اللَّه»، وقَلَّ مَنْ ذكر أن «فَاعَل» يجيءُ بمعنى «فعّلْتُ».
والاحتمال الثاني: أن تكون على بَابِهَا من المُشَاركة، وهو أنَّ قَتْل أخيه كأنه دَعَا نَفْسَه إلى الإقْدَام عليه فَطَاوعته انتهى.
وإيضاحُ العبارة في ذلك أنْ يُقَال: جعَل القَتْل يدعو إلى نفسه لأجل الحسد الذي لَحِقَ قَابِيل، وجعلت النَّفسُ تَأبى ذلك وتَشْمَئِزُّ منه، فكُلٌّ منهما - أعني القَتْلَ والنَّفْسَ - كأنه يريد من صاحِبِه أن يُطِيعَه إلى أن غَلَبَ القَتْلُ النَّفسَ فطاوعته، و «له» مُتعلِّق ب «طوَّعت» على القِرَاءتَيْن.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: و «له» لزيادة الرَّبْط، كقولك: حَفِظْتُ لزيْد ماله. يعني أنَّ الكلام تامٌّ بِنَفْسه.
ولو قيل: فَطَوَّعَتْ نفسُه قَتْل أخيه، كما كان كَذَلك في قولك «حَفِظْتُ مالَ زَيْد» فأتى بهذه «اللاَّم» لقوة رَبْط الكلام.
قال أبو البقاء: وقال قوم: طاوَعَتْ تتعدَّى بغير «لاَم»، وهذا خَطَأٌ؛ لأنَّ التي تتعدى بغير اللاَّم تتعدى لِمَفْعُول واحد، وقد عَدَّاهُ إلى قَتْلِ أخِيه.
وقيل: التَّقْدِير: طاوَعَتْه نفسه قَتْل أخيه، فزاد «اللاَّم» وحذف «عَلَى»، أي: زاد اللاَّم في المفعول به وهو «الهَاء»، وحذف [ «على» الجارَّة ل «قَتْل أخِيه» ].
قالت المُعْتَزِلَةُ: لو كان خالق الكلِّ هو الله لكان ذلك التَّزيين والتَّطْويع مُضافاً إلى الله - تعالى - لا إلى النَّفْس.
والجواب: أنَّ الأفعال لما استَنَدَت إلى الدَّوَاعي، وكان فاعل تِلْك الدواعي هو الله
291
فكان فاعل الأفْعَال كلها هو الله - تعالى - ثم قال تعالى «فَقَتَلَهُ»، قيل: لم يَدْر قابيل كيف يَقْتُل هَابِيل.
قال ابن جُرَيْج: فتمثَّل له إبليس، فأخذ طَائِراً ووضَع رأسَه على حَجَرٍ، ثم شَدَخَ له حجرًا آخر، وقَابيل يَنْظُر إلَيْه فعلَّمه القتل، فرضَخَ قابيل رَأسَ هَابِيل بين حَجَرَيْن، قيل: قتله وهو مُسْتَسْلِمٌ، وقيل: اغْتَالَه وهو نَائِمٌ.
وكان لهابيل يوم قُتل عشرون سنة، واخْتَلَفُوا في موضع قَتْله
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - على جبل ثَوْر، وقيل: عند عقبة حراء، وقيل: بالبَصْرَة عند موضع المَسْجد الأعْظَم، فلمَّا قتله تركه بالعَرَاء ولم يدر ما يصنع به؛ لأنَّه كان أول ميِّت على وَجْهِ الأرْض من بَنِي آدم، وقصده السِّباع فَحَمَلَه في جراب على ظَهْرِه أرْبَعِين يَوْماً.
وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: سَنَة حتى أروح، وعَكَفَت عليه الطَّيْر والسِّبَاع تَنْظُر متى يرمي به فَتَأكله ثم قال: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين﴾ : الحائرين.
قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - خسر دُنْيَاه وآخِرته أما الدُّنْيَا: فإنه أسْخَطَ والديه، وَبقِي مذمُوماً إلى يوم القِيَامة، وأما الآخِرة: فهي العِقَابُ الدَّائِم العَظِيم.
قيل: إنَّ قابيل لما قتل أخاه [هابيل]، هرب إلى عدن من أرْضِ اليمن، فأتاه إبْليس فقال له: إنَّما أكلت النَّارُ قُرْبَان هَابِيل؛ لأنَّه كان يَخْدُم النَّار ويعبُدُها، فإن عَبدت أنت أيضاً النَّار حصل مَقْصُودك، فبنى بيت نَارٍ وهو أوَّل من عبد النَّار، ورُوِي أنَّه لما قَتَلَهُ اسْوَدَّ جَسَدُهُ وكان أبْيَض، فَسَألَهُ آدم عن أخِيه، فقال: ما كُنْت عليه وَكِيلاً، فقال: بل قَتَلْته، ولذلك اسوَدَّ جَسَدُك، ومكث آدَمُ بَعْدَه مائة سنة لم يضَحْكَ قطّ.
قال الزمخشري: روي أنَّه رَثَاهُ بِشِعْر، وهو كَذِب بحت والأنبياء معْصُومون عن
292
الشِّعر روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن يوم الثلاثاء فقال:» يوم الدَّم فيه حاضَت حَوَّاء، وفيه قتل ابنُ آدم أخَاه «.
293
و " اللاَّم " في قوله :" لَئِنْ بَسَطْتَ " هي المُوَطِّئة.
وقوله :﴿ مَا أنَا بِبَاسِط ﴾ جوابُ القسم المَحْذُوف، وهذا على القاعِدَة المُقَرَّرةِ من أنَّه إذا اجْتَمَع شَرْطٌ وقسمٌ أجِيبَ سابقُهما إلا في صُورة تَقدّم التَّنْبِيه عليها١.
وقال الزَّمَخْشَرِي٢ :" فإن قلت : لِم جاء الشَّرْط بلفظ الفِعْل، والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله " لَئِنْ بَسَطْتَ "، ﴿ ما أنَا بِبَاسِطٍ ﴾ ؛ قلت : ليفيد أنه لا يفعلُ هذا الوَصْفَ الشَّنِيع، ولذلك أكَّدَهُ ب " الباء " المفيدة لِتَأكِيد النَّفْي ".
وناقَشَهُ أبُو حيَّان٣ في قوله :[ إنَّ ]٤ ﴿ ما أنا بِبَاسِطٍ ﴾ جزاء للشَّرْط.
قال : لأنَّ هذا الجواب لِلقَسَم لا للشَّرط قال :" لأنه لو كان جواباً للشَّرط للزمته الفاء لِكَوْنه منفيًّا ب " ما " والأداة جَازِمة، وللزِمَهُ أيضاً تلك القَاعِدة، وهو كَوْنه لم يجب الأسْبَق منهما " وهذا ليس بشيء ؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ سماه جزاء للشَّرط لما كان دالاًّ على جزاء الشَّرْط، ولا نَكِيرَ في ذلك [ ولكنه مُغْرى بأن يقال : قد اعترض على الزَّمَخْشَرِي ]٥.
وقال أيضاً : وقد خالف الزمخشريّ كلامه هنا بما ذكره في " البَقَرة " في قوله تعالى ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ ﴾ [ البقرة : ١٤٥ ]، من كونه جعله جواباً للقسم سادًّا مسدّ جوابِ الشَّرْط، وقد تقدَّم بحثه مَعَهُ هناك.

فصل في معنى الآية


ومعنى قوله " بَسَطْتَ " أي : مَددْتَ إليَّ يدكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنَا بباسطٍ يدي إليْكَ لأقْتُلَكَ إنِّي أخافُ الله ربَّ العالمِين " ٦ قال عبدُ الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : وايمُ الله إن كان المَقْتُول أشدَّ الرَّجُلَين، ولكن مَنَعَهُ التَّحَرُّج أن يَبْسُطَ إلى أخيه يده٧، وهذا في الشَّرْعِ جَائِز لمن أُريد قَتْلُهُ أن يَنْقَاد ويَسْتَسْلِم طلباً للأجْر، كما فعل عُثْمان - رضي الله تعالى عنه - وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمحمَّد بن مسلمة - رضي الله عنه - " ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المَقْتُول ولا تكن عبد الله القاتِل " ٨.
وقال مجاهد :" كتب عليهم في ذلك الوَقْتِ إذا أراد رَجُلٌ قَتْلَ رجل أنَّه لا يَمْتَنِع ويصْبر " ٩.
١ وهي أن يتقدم ذو خبر فإذا تقدم غلب الشرط..
٢ ينظر: الكشاف (١/٦٢٥)..
٣ ينظر: البحر المحيط ٣/٤٧٧..
٤ سقط في أ..
٥ سقط في أ..
٦ قال أحد العلماء: الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر، وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع، ثم إن لم يندفع إلا بالقتل جاز له ذلك.
ينظر: تفسير الرازي ١١/١٦٣، القرطبي ٦/٩٠..

٧ أخرجه الطبري في تفسيره" (٤/٥٣٢) عن عبد الله بن عمرو..
٨ له شواهد من حديث خباب بن الأرت وابن مسعود وغيرهما وقد ذكرها جميعا السيوطي في "الدر المنثور" (٢/٢٧٥) والعجلوني في كشف الخفا (٢/١٣٤)..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره"(٤/٥٣٢) عن مجاهد، وينظر: تفسير الرازي ١١/١٦٣..
قوله تعالى :﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي ﴾، فيه ثلاثة تأوِيلات :
أحدها : على حَذْفِ همزة الاستفهام تقديره : أإنِّي أريد ؛ وهو استفهام إنكَار ؛ لأن إرادة المَعْصِيَة قبيحَةٌ، ومن الأنْبِيَاء أقبح ؛ فهم معْصُومُون عن ذلك، ويؤيِّد هذا التَّأويل قراءة١ من قرأ " أنَّى أريد " بفتح النون، وهي " أنَّى " التي بمعنى " كَيْفَ "، أي : كيف أريد ذلك.
والثاني : أنَّ " لا " محذوفةٌ تقديره : إني أريدُ أن لا تَبُوء، كقوله تعالى :﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ]، وقوله تعالى :﴿ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [ النحل : ١٥ ]، أي ألاّ تضلّوا وألا تميد وهو مستَفِيضٌ وهذا أيضاً فرار من إثْبَات الإرَادَة له، وضعَّفَ بعضهم هذا التَّأويل بقوله - عليه الصلاة والسلام - :" لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كانَ على ابْنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها ؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ " ٢.
فثبت بهذا أن الإثْمَ حاصلٌ، وهذا الَّذي ضعَّفه به غير لاَزِم ؛ لأن قائِل هذه المقالة يقول : لا يلزم من عَدَمِ إرادَته الإثْم لأخيه عَدَم الإثم، بل قد يريد عدمه ويَقَع.
الثالث : أن الإرادة على حَالها، وهي : إمَّا إرادة مَجَازية، أو حقيقيَّة على حَسَبِ اختلاف المُفسِّرين في ذلك، وجَاءَت إرادة ذلك به لمعانٍ ذكرُوها، من جملتها :
أنَّه ظهرت له قَرائِن تدلُّ على قرب أجلهِ، وأنَّ أخاه كافر، وإرادة العُقُوبَة بالكافر حَسَنة.
وقوله :" بِإثْمِي " في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " تبُوء " أي : ترجعُ حاملاً له ومُلْتبساً به، وقد تقدم نَظِيرُه في قوله ﴿ فَبَآءُو بِغَضَبٍ ﴾ [ البقرة : ٩٠ ] وقالوا : لا بُدَّ من مُضافٍ، فقدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ٣ " بمثلَ إثمي " قال :" على الاتِّسَاع في الكلام، كما تقول : قرأت قراءة فلان، وكتبت كِتَابَته ".
وقدَّره بعضهم٤ " بإثْمِ قَتْلِي، وإثم معصِيَتك التي لم يُقبل لأجلها قُرْبَانك، وإثْم حسدك ".
وقيل : معناه إنِّي أريد أن تَبُوءَ بعقاب قَتْلي فتكون إرادة صَحِيحَة ؛ لأنَّها موافقة لِحُكم الله - عزَّ وجلَّ-، ولا يكون هذا إرادة للقَتْل، بل لموجِبِ القتل من الإثْم والعِقَاب رُوِي أن الظَّالم إذا لم يَجِد يوم القِيَامة ما يرضي خَصْمَه، أُخِذَ من سيِّئَات المَظْلُوم٥ وحمل على الظَّالم، فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال : إنِّي أُريد أن تَبُوء بإثْمي في قَتْلِك، وهذا يَصْلُح جواباً.
١ ينظر: البحر المحيط ٣/٤٧٨، والدر المصون ٢/٥١٢..
٢ أخرجه البخاري (٦/٤١٩) كتاب أحاديث الأنبياء حديث (٣٣٣٥) ومسلم (٣/١٣٠٣-١٣٠٤) كتاب القسامة: باب بيان إثم من سنّ القتل حديث (٢٧/١٦٧٧) من حديث ابن مسعود..
٣ ينظر: الكشاف (١/٦٢٤)..
٤ ينظر: تفسير القرطبي ٦/٩٠، ٩١..
٥ وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه). أخرجه مسلم بمعناه، وقد تقدم؛ ويعضده قوله تعالى: ﴿وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم﴾ [العنكبوت: ١٣] وهذا بين لا إشكال فيه.
ينظر: القرطبي ٦/٩٠..

قوله " فَطَوَّعَتْ " الجمهورُ على " طَوَّعَتْ " بتشديد الواو من غير ألف بمعنى " سَهلت وبعثت " أي : جَعَلْته سهلاً، تقديره : بعثت له نفسه أنَّ قتل أخيه طَوْعاً سهل عليه١.
قال الزَّمَخْشَرِي٢ :" وسَّعَتْه ويسَّرَتْه من طاعَ له المرْتَعُ إذ اتَّسع " انتهى.
وقال مجاهد : شجّعْتُه.
وقال قتادة : زيَّنْتُ له نفسه، والتَّضْعيف فيه للتَّعْدِية ؛ لأنَّ الأصل : طَاعَ له قَتْلُ أخيه، أي : انْقَادَ من الطَّواعِية، فعُدّي بالتَّضعيف، فصار الفاعلُ مَفْعُولاً كحاله مع الهَمْزَة.
وقرأ الحسن، وزَيْد بن علي وجماعة٣ كثيرة " فَطَاوعتْ "، وأبدى الزَّمَخْشَرِيُّ٤ فيها احتِمَالَيْن :
أحدهما : أن يكُون ممَّا جاء فيه " فَاعَلَ " لغير مُشاركة بين شَيْئيْن، بل بمعنى " فَعَّل " نحو : ضَاعَفْتُه وضَعَّفْته، وناعَمْتُهُ ونَعَّمْتُه، وهذان المثالان من أمثلة سِيبويه٥.
قال :" فجاءوا به على مثال عاقَبْتُه ".
قال : وقد تجيء :" فاعَلْتُ " لا تريدُ بها عمل اثْنَيْن، ولكنَّهم بَنَوْا عليه الفِعْل كما بَنَوْه على " أفْعَلْتُ "، وذكر أمْثِلَة منها :" عَافَاهُ اللَّه "، وقَلَّ مَنْ ذكر أن " فَاعَل " يجيءُ بمعنى " فعّلْتُ ".
والاحتمال الثاني : أن تكون على بَابِهَا من المُشَاركة، وهو أنَّ قَتْل أخيه كأنه دَعَا نَفْسَه إلى الإقْدَام عليه فَطَاوعته انتهى.
وإيضاحُ٦ العبارة في ذلك أنْ يُقَال : جعَل القَتْل يدعو إلى نفسه لأجل الحسد الذي لَحِقَ قَابِيل، وجعلت النَّفسُ تَأبى ذلك وتَشْمَئِزُّ منه، فكُلٌّ منهما - أعني القَتْلَ والنَّفْسَ - كأنه يريد من صاحِبِه أن يُطِيعَه إلى أن غَلَبَ القَتْلُ النَّفسَ فطاوعته، و " له " مُتعلِّق ب " طوَّعت " على القِرَاءتَيْن.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ٧ : و " له " لزيادة الرَّبْط، كقولك : حَفِظْتُ لزيْد ماله. يعني أنَّ الكلام تامٌّ بِنَفْسه.
ولو قيل : فَطَوَّعَتْ نفسُه قَتْل أخيه، كما كان كَذَلك في قولك " حَفِظْتُ مالَ زَيْد " فأتى بهذه " اللاَّم " لقوة رَبْط الكلام.
قال أبو البقاء٨ : وقال قوم : طاوَعَتْ تتعدَّى بغير " لاَم "، وهذا خَطَأٌ ؛ لأنَّ التي تتعدى بغير اللاَّم تتعدى لِمَفْعُول واحد، وقد عَدَّاهُ هنا إلى قَتْلِ أخِيه.
وقيل : التَّقْدِير : طاوَعَتْه نفسه قَتْل أخيه، فزاد " اللاَّم " وحذف " عَلَى "، أي : زاد اللاَّم في المفعول به وهو " الهَاء "، وحذف [ " على " الجارَّة ل " قَتْل أخِيه " ].
قالت المُعْتَزِلَةُ٩ : لو كان خالق الكلِّ هو الله لكان ذلك التَّزيين والتَّطْويع مُضافاً إلى الله - تعالى - لا إلى النَّفْس.
والجواب : أنَّ الأفعال لما استَنَدَت إلى الدَّوَاعي، وكان فاعل تِلْك الدواعي هو الله فكان فاعل الأفْعَال كلها هو الله - تعالى - ثم قال تعالى " فَقَتَلَهُ "، قيل : لم يَدْر قابيل كيف يَقْتُل هَابِيل.
قال ابن جُرَيْج١٠ : فتمثَّل له إبليس، فأخذ طَائِراً ووضَع رأسَه على حَجَرٍ، ثم شَدَخَ له حجراً آخر، وقَابيل يَنْظُر إلَيْه فعلَّمه القتل، فرضَخَ قابيل رَأسَ هَابِيل بين حَجَرَيْن، قيل : قتله وهو مُسْتَسْلِمٌ، وقيل : اغْتَالَه وهو نَائِمٌ١١.
وكان لهابيل يوم قُتل عشرون سنة، واخْتَلَفُوا في موضع قَتْله :
قال ابن عبَّاس١٢ - رضي الله عنهما - على جبل ثَوْر١٣، وقيل : عند عقبة حراء، وقيل : بالبَصْرَة عند موضع المَسْجد الأعْظَم١٤، فلمَّا قتله تركه بالعَرَاء ولم يدر ما يصنع به ؛ لأنَّه كان أول ميِّت على وَجْهِ الأرْض من بَنِي آدم، وقصده السِّباع فَحَمَلَه في جراب على ظَهْرِه أرْبَعِين يَوْماً١٥.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : سَنَة حتى أروح١٦، وعَكَفَت عليه الطَّيْر والسِّبَاع تَنْظُر متى يرمي به فَتَأكله ثم قال :﴿ فَأصْبَح مِن الخَاسِرِين ﴾ : الحائرين.
قال ابن عبَّاسٍ١٧ - رضي الله عنهما - خسر دُنْيَاه وآخِرته أما الدُّنْيَا : فإنه أسْخَطَ والديه، وَبقِي مذمُوماً إلى يوم القِيَامة، وأما الآخِرة : فهي العِقَابُ الدَّائِم العَظِيم.
قيل : إنَّ قابيل لما قتل أخاه [ هابيل ]١٨، هرب إلى عدن من أرْضِ اليمن، فأتاه إبْليس فقال له : إنَّما أكلت النَّارُ قُرْبَان هَابِيل ؛ لأنَّه كان يَخْدُم النَّار ويعبُدُها، فإن عَبدت أنت أيضاً النَّار حصل مَقْصُودك، فبنى بيت نَارٍ وهو أوَّل من عبد النَّار١٩، ورُوِي أنَّه لما قَتَلَهُ اسْوَدَّ جَسَدُهُ وكان أبْيَض، فَسَألَهُ آدم عن أخِيه، فقال : ما كُنْت عليه وَكِيلاً، فقال : بل قَتَلْته، ولذلك اسوَدَّ جَسَدُك، ومكث آدَمُ بَعْدَه مائة سنة لم يضَحْكَ قطّ.
قال الزمخشري٢٠ : روي أنَّه رَثَاهُ بِشِعْر، وهو كَذِب بحت والأنبياء معْصُومون عن الشِّعر٢١ روى أنس - رضي الله عنه - قال :" سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال :" يوم الدَّم فيه حاضَت حَوَّاء، وفيه قتل ابنُ آدم أخَاه٢٢ ".
١ يقال: طاع الشيء يطوع سهل وانقاد. وطوعه فلان له أي سهله. قال الهروي: طوعت وأطاعت واحد؛ يقال: طاع له كذا إذا أتاه طوعا. وقيل: طاوعته نفسه في قتل أخيه؛ فنزع الخافض فانتصب.
ينظر: القرطبي ٦/٩١..

٢ ينظر: الكشاف (١/٦٢٦)..
٣ وقرأ بها الحسن بن عمران وأبو واقد كما في المحور الوجيز ٢٠/١٨٠، والبحر المحيط ٣/٤٧٩، والدر المصون ٢/٥١٢، والكشاف ١/٦٢٦..
٤ ينظر: الكشاف ١/٦٢٦..
٥ ينظر: الكتاب ٢/٢٣٩..
٦ في ب: إفصاح..
٧ ينظر: الكشاف (١/٦٢٦)..
٨ ينظر: الإملاء ١/٢١٤..
٩ ينظر: تفسير الرازي ١١/١٦٤..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٤/٥٣٦) عن ابن جريج وعن مجاهد بنحوه وعزاه القرطبي لمجاهد وابن جريج ونسبه للأكثر ٦/٩١..
١١ ذكره الطبري في "تفسيره"(٤/٥٣٦) فقال: وقال بعضهم. فذكره..
١٢ ينظر: تفسير القرطبي ٦/٩١..
١٣ ينظر: تفسير البغوي ٢/٣٠..
١٤ قاله جعفر الصادق. ينظر: القرطبي ٦/٩٢..
١٥ ينظر: تفسير البغوي ٢/٣٠..
١٦ أخرجه الطبري في "تفسيره"(٤/٥٣٨) عن عطية العوفي..
١٧ ينظر: تفسير الرازي ١١/١٦٤..
١٨ سقط في أ..
١٩ ينظر: تفسير القرطبي ٦/٩٢، والرازي ١١/١٦٤..
٢٠ ينظر: الكشاف ١/٦٢٦..
٢١ وصدق صاحب الكشاف فيما قال، فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين، فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة. ينظر: الرازي ١١/١٦٤..
٢٢ أخرجه ابن مردويه عن أنس كما في "كشف الخفاء" (٢/٥٥٦)..
قوله تعالى ﴿فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي [سَوْءَةَ أَخِيهِ] ﴾.
هذه «اللامُ» يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها متعلِّقة ب «يبحث»، أي: يَنْبُشُ ويُثِيرُ التُّراب للإراءة.
الثاني: أنها متعلِّقة ب «بَعَثَ»، والمعنى: لِيُريَه الله، أو ليريه الغراب، و «كَيْفَ» معمُولة ل «يُوارِي»، وجملة الاستفهام معلقة للرُّؤْية البَصَرية، فهي في محلِّ المَفْعُول الثَّانِي سادةٌ مسدَّه؛ لأن «رأى» البصرية قبل تعدِّيها بالهَمْزة مُتَعَدِّية لواحد، فاكتسبت بالهمزة آخر، وتقدَّم نَظِيرُها في قوله تعالى: ﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠] ومعنى: «يَبْحَثُ» أي: يُفَتِّش في التُّرَاب بمنقارِه ويثيره، ومنه سُمِّيت سورة «بَراءَة» البحوث؛ لأنها فَتَّشَت على المُنَافقين، والسَّوْءَةُ المراد بها: ما لا يجُوز أن يَنْكَشِفَ من جَسَده، وهي الفضيحة أيضاً، قال: [الخفيف]
١٩٥١ -............................. يَا لَقَوْمِي لِلسَّوْءَة السَّوآءِ
ويجوز تخفيفها بإلقاء حَرَكَة الهَمْزة على الواو، وهي قراءة الزُّهري، وحينئذٍ لا يجوزُ قَلْبُ هذه الواو ألِفاً، وإن صدق عليها أنَّها حرْف علّةٍ متحرك مُنْفَتِحٌ ما قبله؛ لأنَّ حركتها عَارِضة، ومثلُها «جَيَل» و «توم» مُخَفَّفَيْ «جَيْألَ» و «تَوْءَم»، ويجوزُ أيضاً قلبُ هذه الهمزة واواً، وإدغامُ ما قبلها فيها تَشبيهاً للأصلي بالزَّائِد [وهي لُغة] يَقُولون في «شَيْء» و «ضَوْء» : شَيّ وضوّ، قال الشَّاعر: [البسيط]
293
١٩٥٢ - وإنْ يَرَوْا سَيَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحاً مِنِّي ومَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
وبهذا قرأ أبُو جعفر.
قوله تعالى: «يَا ويْلَتَا» قلب يَاء المُتَكلم ألِفاً، وهي لغة فاشيةٌ في المُنَادى المضاف إليها، وهي إحدى اللُّغات السِّت، وقد تقدم ذكرُها.
وقُرِئ كذلك على الأصْلِ وهي قِرَاءة الحسن البَصْرِيِّ.
والنِّدَاء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإقْبَالُ وهم العقلاءُ، إلا أنَّ العرب تتجوَّز فتُنَادِي ما لا يَعْقِلُ. وهذه كلمة تُسْتَعمل عند وُقُوعِ الدَّاهِيَة العظيمة ولفظُهَا لفظ النِّداء، كأن الوَيْل غير حَاضِر عِنْده، والمعنى يا وَيْلَتَى احضُري، فهذا أوانُ حُضُورك، ومثله: ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠]، ﴿ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ﴾ [الزمر: ٥٦]، وأمال حمزة، والكسائي، وأبُو عمرو في رواية الدَّوْري ألف «حَسْرَتَا»، والجمهور قرأ «أعَجَزْتَ» بفتح الجيم، وهي اللُّغة الفَصِيحَة، يقال: «عََجَزْت» بالفتح في الماضي، «أعْجِزُ» بِكَسْرها في المُضَارع.
وقرأ الحسن، وابن عبَّاس، وابنُ مسعُود، وطلحة بكسرها وهي لغة شاذَّة، وإنَّما المشهور أن يُقَال: «عَجِزت المرأة» بالكَسْر أي كَبُرت عَجِيزتُهَا، و «أن أكون» على إسْقَاط الخَافِض، أي: عَنْ أنْ أكونَ، فلما حُذِف جَرَى فيها الخلاف المَشْهُور.
قوله تعالى: «فَأوَارِيَ».
قرأ الجمهورُ بنصب الياء، وفيها تَخْرِيجان:
أصحهما: أنه عطف على «أكون» المنصوبة ب «أنْ» منتظماً في سِلْكِهِ، أي: أعجَزْت عن كوني مُشْبِهاً للغُرَاب فَمُوَارياً.
والثاني: قاله الزمخْشَريُّ، ولم يذكر غيره أنَّه منْصوب على جواب الاستفهام في قوله: «أعجَزْتُ»، يعني: فَيَكونُ من باب قوله: ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ﴾ [الأعراف: ٥٣].
294
ورده أبو البقاء بعد أن حَكَاهُ عن قَوْمٍ، قال: وذكر بعضهم: أنه يجُوزُ أن يَنتصب على جواب الاستفهام؛ وليس بِشَيء، إذ ليس المَعْنى: أيكون منِّي عجز فَمُواراة، ألا ترى أن قولك: «أين بَيْتُكَ فأزُوركَ» معناه: لو عَرَفْتُ لزرتُ ليس المَعْنَى هنا «لو عَجَزت لوَاريت».
قال شهاب الدين: وهذا الرَّدُ على ظاهره صَحِيحٌ.
وبَسْطُ عبارة أبي البَقَاء: أنَّ النُّحاة يَشْتَرِطون في جواز نَصْب الفعْلِ بإضمار «أنْ» بعد الأشياء الثمانية - غير النَّفْي - أن يَنحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجَزَاء فإن انعقد منه شَرْط وجزاء صَحَّ النَّصْبُ، وإلاَّ امتنعَ، ومنه «أيْن بيتُك فأزُورَك [أي] إن عَرّفتني بَيْتَك أزُورَك».
وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجَزَاء لفسد المعنى؛ إذ يصير التَّقْدِيرُ: إنْ عَجَزْت وارَيْت، وهذا ليس بِصَحِيح؛ لأنه إذاعَجز كيف يُوَارِي.
وردَّ أبو حيَّان على الزَّمخشريِّ بما تقدَّم، وجعله غَلَطاً فاحِشاً وهو مَسْبُوقٌ إليه كما رأيت، فأساءَ عليه الأدبَ بشيء نَقَلَهُ عن غيره الله أعلمُ بصحَّتِهِ.
وقد قرأ الفَيَّاض بن غَزْوَان، وطلحة بن مصرف «بسكون الياء»، وخرَّجها الزمخشري على أحد وجهين:
إمَّا القَطْع، أي: فأنا أوَاري، وإمَّا على التَّسْكِين في موضع النصب تخفيفاً.
وقال ابنُ عطيَّة: «هي لغة لتوالي الحركات».
قال أبو حيَّان: «ولا يصلح أن تعلَّلَ القِرَاءة بهذا ما وُجِد عنه مندُوحَةٌ؛ إذ التَّسْكينُ في الفَتْحَة لا يجُوز إلاَّ ضرورة، وأيضاً فلم تتوالَ حركات».
وقوله «فَأَصْبَحَ» بمعنى «صَارَ».
قال ابن عطيَّة: قوله: «أصْبَح» عبارة عن جميع أوْقَاتِه قيم بَعْض الزَّمان مكان كله، وخُصَّ الصَّباحُ بذلك [لأنه] بَدْءُ النهار، والانبعاث إلى الأمُور، ومَظَنَّةُ النَّشَاط، ومنه قولُ الرَّبِيع: [المنسرح]
١٩٥٣ - أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا.................................
295
وقول سعد بن أبي وقَّاص: ثم أصَبْحَت بنو [أسد تعزرني على] الإسلام إلى غير ذلك.
قال أبو حيَّان: وهذا التَّعْليل الذي ذكره؛ لكون «أصْبَح» عبارة عن جميع أوْقاته، وإنما خصَّ الصَّبَاح لكونه بَدْءُ النَّهَار ليس بِجَيّد؛ لأن العرب اسْتَعْمَلَت «أضْحَى» و «بَاتَ» و «أمْسَى» بمعنى «صَار»، وليس شيء منها بَدْء النَّهَار.
قال شهاب الدين: وكيف يُحْسِن أن يردَّ على أبي محمد بِمِثْل هذا، وهُوَ لم يَقُل: إنها لمَّا أُقِيمَت مقام أوْقَاته للعلَّةِ الَّتي ذكرها تكونُ بمعنى «صَار»، حتَّى يلزمَ بأخواتها نَاقِصة عليه، وسيأتي الكلام على ذلك في «الحُجُرَات» عند قوله تعالى
﴿فَتُصْبِحُواْ
على
مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
[الآية: ٦]- إن شاء الله تعالى -.

فصل


فإن قيل: فِعْل الغُرَابِ صار سنَّة في دفن الخَلْقِ فَرْضاً على جميع النَّاس على الكِفَاية.
فالجواب: قال بعض المُفَسِّرين: لمَّا قتله ولم يدر ما يَصْنَع به بَعَثَ اللَّه غرابين فاقْتَتَلا، فقتل أحدُهما الآخر فحفَر له بِمِنْقَاره ورجليه، ثمَّ ألقاه في الحُفْرَة فتعلَّم قابيل ذلك، وعَلِمَ أن الغُرَاب أكثر عِلْماً منه، وعلم أنَّه إنما أقدم على قَتْل أخيه [بسبب] جهله وقلَّة معرفته فَنَدِم وتلهف. وقال الأصمُّ: لما قتله وتركه فَبَعَث اللَّه غُرَاباً يحثو التَّراب على المقْتُول، فلما رأى القَاتِل أنَّ المقتول كيف يُكرمُهُ اللَّه بعد موته نَدِم وقال: يا وَيْلَتا، وقال أبو مُسْلم: عادة الغُرَاب دفن الأشْيَاء فجاء غرابٌ ودفن شيئاً؛ فتعلَّم ذلك منه.
وقيل: إنَّه كان عالماً بكيْفِيَّة الدَّفن، وأنه يبعد في الإنْسَان العَاقِل ألاَّ يُهْدَى إلى هذا القدر من العمل، إلاَّ أنه لما قَتَلَهُ تركه بالعَرَاء، فلما رَأى الغُرابَ يدفن الغُرابَ رقَّ قلبه، وقال: إن هذا الغُراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قَتَلَهُ أخْفَاه تحت الأرْض، أفأكون أقلَّ شَفَقَة من هذا الغُراب؟! فجاء وحَثَى التُّراب على المَقْتُول، فلما رأى أنَّ الله تعالى أكرمه حال حياته بقبول قُرْبَانه، وأكرمه بعد مماته بأن بعث الغُراب ليدفنه تَحْتَ الأرْض، علم أنَّه عظيم الدَّرجة عند الله تعالى؛ فتلهَّف على فِعْله، وعَلِمَ أن لا قدرة له على التَّقَرُّب إلى أخيه إلاَّ بأن يَدْفِنَه في الأرض فلا جرم قال: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا
296
الْغُرَابِ}. فإن قيل: لفظ النَّدَم وضع للزُوم، ومنه سُمِّي النَّدِيم نَدِيماً لأنه يُلازِمُ المَجْلس.
فالجواب أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: ﴿النَّدم تَوْبَة﴾ وأجابوا عنه بوجوه:
أحدها: أنه لما تعلَّم الدَّفن من الغُرَاب صار من [النَّادِمين على كونه حَمَلَهُ على ظهره سنة.
وثانيها: أنه صار من النَّادمين] ؛ لأنَّه لم ينتفع بقتله، وسخطَ عليه بسببه أبواه وإخوته، وكان نَدمُه لهذه الأسْباب لا لِكَونِهِ مَعْصِية.
وثالثها: أنَّ ندمه كان لأجْل تركه بالعَرَاء استِخْفافاً به بعد قَتْله، لأنَّ الغُرَاب لما قتل الغُرَاب ودفنه، نَدِم على قساوة قَلْبه، وقال: هذا أخِي وشقيقي ومَنْ لحمه مختلط بِدَمي، فإذا ظهرت الشَّفَقَة من الغُرَاب ولم تظهر منِّي على أخِي، كنت دون الغراب في الرَّحْمَة والشَّفَقة والأخْلاق الحميدة، فكان نَدَمُه لهذه الأسْبَاب، لا للخوف من الله - تعالى -، فلذلك لَمْ يَنْفَعه النَّدم.
قال المُطَّلِب بن عَبْد اللَّه بن حِنْطَب: لمَّا قتل ابن آدَم أخَاهُ، وجفَّت الأرض سَبْعَة أيَّام بما عليها، ثمَّ شَرِبت الأرْضُ دَمَهُ كما تشرب الماء، فنادَاه [آدم] : أين أخُوكَ هَابِيلُ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رَقِيباً.
فقال آدم: إن دم أخيك ليُنَادِيني من الأرْضِ. فلم قَتَلْتَ أخاكَ؟ قال: فأيْنَ دَمُه إن كنت قتلته؟ فحرّم اللَّه - عزَّ وجل - على الأرْض أن تَشْرَب بعده [دماً] أبداً، وقيل لقابيل: اذْهَب طَرِيداً شريداً فزعاً مَرْعُوباً لا تأمَن من تراه، فأخَذَ بيد أخته «إقْلِيما» وهَرَب بها إلى اليَمَن، فأتاه إبليس فقال له: إنَّما أكَلَت النَّار قربان أخيك هَابيل؛ لأنَّه كان يعبُد النَّار فانْصِبْ أنت أيضاً ناراً، وهو أوَّل من عَبَد النَّار قال مُجَاهد: فعلقت إحدى رِجْلَيْ قَابِيل إلى فخذهَا وسَاقِهَا، وعلقت من يَوْمئذٍ إلى يومِ القِيَامة، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه، في الصَّيْف حَظِيرةٌ من نار، وفي الشِّتَاء حظيرةٌ من ثَلْج، واتَّخَذَ أولاد قَابِيل آلات اللَّهْو، وانهمكوا في اللَّهْو وشُرْبِ الخَمْر وعِبَادة النار والزِّنا والفَواحِش، حتَّى غرقهم اللَّه بالطُّوفان أيَّام نوح - عليه السلام - وبقي نَسْلُ شِيث.
297
قوله: [ ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾ ] فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلِّق ب «كَتَبْنَا» وذلك إشارةٌ إلى القَتْل، و «الأجْل» في الأصْل هو: الجناية، يقال: «أجَل الأمْر يأجل [إجْلاً] وأجْلاً وإجْلاَء، وأجْلاَء» بفتح الهمزة وكسْرِها إذا جَنَاهُ وحْدَه، مثل: أخَذَ يَأخُذُ أخْذاً.
ومنه قول زُهَيْرٍ: [الطويل]
١٩٥٤ - وَأهْلِ خِبَاءٍ صالحٍ ذَاتُ بَيْنهمْ قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أنَا آجِلُهْ
أي: جَانِيه.
ومعنى قول النَّاس «فَعَلْتُه من أجْلِك ولأجلك» أي: بِسببك، يعني: مِنْ أنْ جَنَيْتَ فِعْلَه وَأوْجَبْته، وكذلك قولهم: «فَعَلْتُه مِنْ جَرَّائك»، أصْلُهُ من أن جَرَرْتَهُ، ثم صار يستعمل بمعنى السَّبَب.
ومنه الحديث «مِن جَرَّاي» أي: من أجْلِي.
و «من» لابتداء الغاية، أي: نَشَأ الكَتْبُ، وابتدى من جناية القَتْلِ.
ويجُوزُ حَذْفُ «مِنْ» واللاَّم وانتصاب «أجْل» على المَفْعُول له إذا استكمل الشُّروط له. قال: [الرمل]
١٩٥٥ - أجْلَ أنَّ اللَّهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ.....................
والثاني: أجَازَ بعض النَّاس أن يكون مُتعلِّقاً بقوله: «من النَّادمين» أي: ندم من أجْلِ ذلك، أي: قَتْلِهِ أخاه قال أبو البقاء: ولا تتعلَّقُ ب «النَّادمين» ؛ لأنَّه لا يحسن الابتداء ب «
298
كَتَبْنَا» هنا، وهذا الردُّ غير وَاضِح، وأين عَدَمُ الحُسْنِ [بالابتداء] بِذَلك؛ ابتدأ الله - تعالى - إخْبَاراً بأنَّه كتب ذلك، والإخْبَار مُتعلِّق بقصة ابْنَيْ آدم إلا أنَّ الظَّاهر خلافه كما تقدَّم.
[والجمهور على فتح همزة «أجل»، وقرأ أبو جعفر بكسرها، وهي لغة كما تقدم] ورُوي عنه حذفُ الهمزة، وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون «مِنْ»، كما يَنْقِل وَرْش فتحتها إليها، والهاء في «أنَّه» ضمير الأمْر والشَّأن، و «منْ» شرطيَّة مبتدأة، وهِيَ وخَبَرُها في مَحَلِّ رفعٍ خبراً ل «أن»، فإن قيل: قوله ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾ أي: من أجْل ما مَرَّ من قصَّة قَابِيل وهَابِيل كَتَبْنَا على بَنِي إسْرَائيل القصاص وذلك مُشْكِلٌ، لأنه لا مُنَاسَبَة بين واقِعَة قَابِيل وهَابِيل، وبين وُجُوب القِصَاص على بَنِي إسْرائيل.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: ما تقدَّم نَقْلُهُ عن الحسن، والضَّحَّاك: أنَّ هذا القَتْل إنما وقع في بَنِي إسْرَائيل، لا بَيْنَ ولديْ آدم لصُلْبِه.
الثاني: أن «مِنْ» في قوله ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾ ليس إشارة إلى قصَّة قَابِيل وهَابِيل بَلْ هُو إشَارَةٌ إلى ما ذكر في القِصَّة من أنْوَاع المَفَاسِدِ الحاصلة بِسَبَب القتل المحرَّم، كقوله «فأصْبَح من الخَاسِرين»، و «أصْبَح من النَّادِمين»، فقوله «أصبح من الخَاسِرِين» إشارةٌ إلى أنه حَصَل في قلبه أنْوَاع النَّدم والحسرة والحُزْن، مع أنَّه لا دَافِع لذلك ألْبَتَّة.
فإن قيل: حُكْم القِصَاص ثَابتٌ في جميع الأمَم فما فَائِدَة تخْصِيصِه بِبني إسْرائيل؟.
فالجواب: أنَّ وجوب القِصَاص وإن كان عاماً في جميع الأمَمِ، إلا أنَّ التَّشْديد المَذْكور في حقِّ بَنِي إسْرائيل غير ثَابتٍ في جميع الأدْيَان؛ لأنَّه - تعالى - حكم هاهُنَا بأن قَتْل النفس جار مُجْرى قَتْل جَمِيع النَّاس، فالمقصود منه: المُبَالَغَة [في عقاب القتل العَمْد العدوان، والمقصود من هذه المُبَالَغَة: أنَّ اليهُود مع عِلْمهم بهذه المُبَالغة العَظِيمة] أقدَموا على قتل الأنبياء والرُّسل، وذلك يدُلُّ على غاية قَسَاوَة قُلُوبهم ونِهَاية بُعْدهم عن طَاعَة الله، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص، تَسْلية الرَّسول في الواقعة التي ذكرْنا، من أنَّهُم عزموا على الفتك برسُول اللَّه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وبأكابر الصَّحابة، [فكان تَخْصِيص] بَنِي إسرائيل في هذه القِصَّة بهذه المُبَالغَة مُنَاسِباً للكَلاَم.

فصل


استدلَّ القَائِلُون بالقياس بهذه الآية على أنَّ أحْكَام الله تعالى قد تكون مُعَلَّلة؛ لأنَّه
299
قال: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا﴾ وهذا تَصْرِيح بأن كتبه تلك الأحْكَام معلَّلٌ بتلك المَعَانِي المُشَار إليها بقوله ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾.
وقالت المُعتزلةُ:
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ أحْكَام اللَّه معلّلة بمصالح العِبَاد، وإذا ثَبَتَ ذلك امْتَنَع كونه خَالِقاً للكُفْر والقَبَائح، مُريداً وقوعها مِنْهم؛ لأنَّ خلق القَبَائح وإراداتها يمنع من كونه تعالى مُرَاعياً للمصالح، وذلك يُبْطِل التَّعْلِيل المَذْكُور في هذه الآية.
وأجاب القَائِلُون بأنَّ تعلِيلَ أحْكَام اللَّه مُحَالٌ بوجوه:
أحدها: أن العِلَّة إذا كانت قَدِيمة لزم قدم المَعْلُول، وإن كانت مُحْدَثة وجب تَعْلِيلُها بعلَّة أخرى ولزم التَّسَلْسُل.
وثانيها: لو كان مُعَلَّلاً بِعِلَّة، فوجود تلك [العِلَّة] وعدمها بالنِّسْبَة إلى اللَّه تعالى إن كان على السَّوِيَّة امتنع كونه عِلَّة، وإن لم يَكُن فأحدهما به أوْلى، وذلك يَقْتَضِي كونه مُسْتَفِيداً تلك الأوْلويَّة من ذلك الفِعْلِ [فيكون ناقِصاً لذاته مُسْتَكْملاً بغيره وهو مُحَال.
وثالثها: ثبت توقف الفعل] على الدَّوَاعي، ويمتنع وقوع التَّسَلْسُل في الدَّواعي، بل يجب انْتِهَاؤُها إلى الدَّاعية الأولَى التي حَدَثَت في العَبْد، لا مِن العَبْد بل من الله تعالى، وثبت أنَّ عند حُدُوث الدَّاعِية يجب الفعل. وعلى هذا التقدير: فالكُلّ من الله تعالى، وهذا يَمْتَنِع من تَعْلِيل أفْعَال اللَّه وأحكامه برعاية المصالح، وإذا ثبت امْتِنَاع تَعْليل أفعال اللَّه وأحكامه ثَبَتَ خلوّ ظاهر هذه الآية من المُتَشَابِهَات، ويؤكِّده قوله تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾ [المائدة: ١٧]، وذلك نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّه يحسن من اللَّه كُلُّ شيء، ولا يَتَوَقَّف خلقه وحُكْمُه على رعاية المَصْلَحة ألبتة.
قوله تعالى «بِغَيْر نَفْسٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَعَلِّقٌ بالقتل قَبْلها.
والثاني: أنَّه في مَحَلِّ حالٍ من ضمير الفاعل في «قتل»، أي: قَتلها ظالماً، ذكره أبو البقاء.
وقوله تعالى «أوْ فسادٍ» الجمهور على جَرِّهِ عَطْفاً على «نَفْس» المجرور بإضافة [ «غَيْر» إليها]، وقرأ الحسن بنصبه، وفيه وجهان:
300
أظهرهُمَا: أنَّه منصوبٌ على المَفْعُول بعامل مضمر يَلِيقُ بالمَحَلِّ، أي: أو أتى أو عَمِل فََسَاداً.
والثاني: أنه مصدرٌ، والتقدير: أو أفْسَد فَسَاداً بمعنى إفساد فهو اسْمُ مَصْدَر، كقوله: [الوافر]
١٩٥٦ - وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا... ذكره أبو البَقَاء.
و «في الأرض» متعلِّق بنفس «فَسَاد» ؛ لأنَّك تقول: «أفْسَد في الأرْض» إلاَّ في قراءة الحسن بنَصْبِه، وخرَّجناه على النَّصْب على المَصْدرية، كما ذكره أبُو البقاء، فإنه لا يتعلَّق به؛ لأنه مصدر مُؤكِّد، وقد نَصُّوا على أنَّ المؤكد لا يعمل، فيكُون «في الأرضِ» متعلِّقاً بمحذُوف على أنه صِفَة ل «فساداً» والفاءُ في «فَكَأنَّمَا» في الموضعين جواب الشَّرْط واجِبَة الدُّخول، و «ما» كافة لحرف التَّشْبيه، والأحْسَن أن تسمى هُنَا مهيِّئة لوقوع الفِعْل بَعْدَهَا، و «جَمِيعاً» : إمَّا حال أو تَوْكِيدٌ.

فصل


قال الزَّجَّاج: التقدير: من قتل نَفَساً بغير نَفْس أو فَسَاد في الأرْض، وإنَّما قال تعالى ذلك؛ [لأنَّ] القَتْل يحل لأسْبَاب كالقصاص، والكفر، والزِّنا بعد الإحْصَان، وقطع الطَّرِيق ونحوه، فجمع تعالى هذه الوُجُوه كُلَّها في قوله تعالى ﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض﴾ ثم قال: ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً﴾.
فإن قيل: كيف يكُون قتل النَّفْس الوَاحِدة مساوِياً للكُلِّ؟ فذكر المُفَسِّرُون له وُجُوهاً، وهي مَبْنِيَّة على مُقَدِّمة، وهي أنَّ تَشْبيه أحَد الشَّيْئَيْن بالآخَر، لا يَقْتَضِي الحُكْم بمُشَابَهَتِهما من كلِّ الوُجُوه، وإذا صحَّت المُقدِّمة، فنقُول: الجواب من وجوه:
أحدها: [المقصُود من تَشْبيه] قَتْل النَّفْس الواحِدَة بقَتْل النُّفُوس: المُبَالغَة في تَعْظيم أمر القَتْل العَمْدِ العُدوان وتَفْخِيم شَأنه، يعني: كما أنَّ قَتْل كلِّ الخَلْق أمر مستَعْظمٌ عند كلِّ أحَدِ، فكَذَلِك يجب أن يكون قتل الإنْسَان الواحِد مستَعْظَماً منهياً، فالمَقْصُود بيان مُشاركتهمَا في الاستِعْظَام، لا بيان مُشاركتِهمَا في مقدار الاسْتِعْظام، وكيف لا يكُون مُسْتعْظَماً وقد قال - تعالى -: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء: ٩٣].
وثانيها: أنَّ جميع النَّاس لو عَلِمُوا من إنْسَان واحد أنَّه يقصد قَتْلَهم بأجْمَعِهِم، فلا
301
شكَّ أنهم يَدْفَعُونه دفعاً لا يُمْكِن تَحْصِيل مَقْصُوده، فكذلِكَ إذا عَلِموا منه أنَّه يقصد قَتْلَ إنْسَان واحد [مُعيَّن يجب أن] يَجِدُّوا في دَفْعِه، ويَجْتَهِدوا كاجْتِهَادهم في الصُّورة الأولى.
وثالثها: أنه لمَّا أقدم على القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان فقد رجَّح داعِية الشَّهْوة والغضب على دَاعِيَة الطَّاعة، ومتى كان الأمر [كَذَلِكَ] كانَ التَّرْجِيح حَاصِلاً بالنِّسبة إلى كلِّ واحد، فكان في قلبه أنَّ كلَّ أحد نازعه في شيءٍ من مَطَالبه؛ فإنَّه لو قدر عليه لقتَلَهُ، ونيَّة المؤمن في الخَيْرَات خَيْر من عَمَلِهِ، فكذلك [نِيَّة المؤمن في الشُّرور شرٌّ من عمله، فيصير المَعْنَى: من يَقْتُل إنساناً قَتْلاً عمداً عُدْوَاناً فكأنَّمَا قَتَل جَمِيع النَّاس].
ورابعها: قال ابْنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في رواية عِكْرِمة «مَنْ قتل نَبيّاً أو إمامَ عَدْلٍ، فكأنَّما قتل النَّاسَ جَمِيعاً ومن أحْيَاها: من سَلِمَ من قتلها، فكان كمن سَلِمَ من قَتْلِ النَّاس جَمِيعاً».
وخامسها: قال مُجَاهِد: من قتل نَفْساً محرَّمة يَصْلَى النَّار بقتلها، كما يصلاها لو قتل النَّاس جميعاً، ومَنْ أحْيَاها: من سلم من قتلها، فكان كمن سلم من قتْلِ النَّاس جَمِيعاً.
وسادسها: قال قتادة: أعْظَم اللَّه أجرَهَا وعظَّم وزرَها، معناه: من استَحَلَّ قتل مُسْلِم بغير حَقِّه، فكأنَّما قتل النَّاس جميعاً في الإثْم لا يَسْلَمُون منه، ومن أحْيَاها وتورَّع عن قَتْلِها، فكأنَّما أحْيَا النَّاس جَمِيعاً في الثَّواب لسلامتِهم منه.
وسابعها: قال الحسن: فكأنَّما قتل النَّاس جَمِيعاً، يعني: أنَّه يَجِبُ عليه من القِصَاص بِقَتْلِها، مثل الذي يجب عليه لو قتل النَّاسَ جَمِيعاً، ومن أحْيَاها، أي: عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ عليه القِصَاص له، فَلَمْ يَقْتُلْه فكأنَّما أحيا النَّاس جَمِيعاً، قال سُليمان بن عَلِي: قلت للحَسَن: يا أبَا سَعِيد: أهِيَ لَنَا كما كانت لِبَني إسْرائيل؟ قال: والذي لا إله غيره ما كان دَمُ بَنِي إسرائيل أكرم على الله من دَمائِنا.
302
وإحْيَاء النَّفْس: هو تَخْلِيصُها من المُهْلِكَات كالحَرق، والغَرَقِ، والجُوعِ المُفْرط، والبرد والحرِّ المُفْرطيْن.
ثم قال: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك﴾، أي: بعد مَجِيء الرُّسل وبعدما كَتَبْنَا عليهم تَحْريم القَتْل، «لمُسْرِفُون» الذي هو خَبَر «إن» ولا تَمْنَعُ من ذلك لام الابتداء فاصِلَة بين العامل ومعمُوله المتقدِّم عليه؛ لأنَّ دخولها على الخَبَر على خِلاف الأصْل؛ إذ الأصْل دُخولُها على المُبْتَدأ، [وإنَّما منع منه دخول «إنَّ» و «ذلِكَ» إشارة إلى مجيء الرُّسُل بالبيِّنات].
303
لما ذكر تَغْلِيظ الإثْم في قَتْل النَّفس بغير حقٍّ ولا فساد في الأرض أتبعه بِبَيَان الفَسَاد في الأرْض.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الذين﴾ : مُبْتَدأ وخبره «أنْ يُقَتَّلُوا» وما عطف عليه، أي: إنَّما جَزاؤُهُمُ التَّقْتِيلُ، أو التَّصلِيب، أو النَّفْي.
وقوله: «يُحارِبُون اللَّه»، أي: يُحَارِبون أولِيَاءه كذا قدَّرَه الجُمْهُور.
وقال الزَّمَخْشَريُّ: «يُحَارِبُون رسُول الله، ومحاربة المُسْلِمِين في حكم مُحَارَبَتِه».
يعني: أنَّ المقصود أنَّهم يُحَارِبون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإنما ذكر اسْم الله - تبارك وتعالى - تَعْظِيماً وتَفْخِيماً لمن يُحَارَبُ، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠]، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك عند قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا﴾ [البقرة: ٩].
فإن قيل: المُحَارَبة مع اللَّه - عزَّ وجل - غيْر مُمْكنة، فيجب حَمْلُه على المحاربة مع أولياء اللَّه، والمحاربةُ مع رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ممكِنَةٌ فلفظ ﴿يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ يَلْزَم أن يكون مَحْمُولاً على المجاز والحقيقة معاً فلفظ المحاربة بما نُسِبَت إلى الرَّسُول فلفظ المحاربة إذا نُسِبَت إلى اللَّه تعالى كان مَجَازاً، لأن المُراد منه مُحَاربة أوْلِيَاء اللَّه، وإذا نُسِبَتْ إلى الرَّسُول كانت حَقِيقَة، وذلك مُمْتَنِعٌ.
فالجواب: إنَّما تحمل المُحاربة على مُخالفةِ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ.
والتقدير: إنَّما جزاء الذين يُخالِفُون أحْكامَ اللَّه تعالى وأحكام رسُولِه، ويَسْعَوْن في
303
الأرْض فَسَاداً كذا وكذا، ومن يجز ذلك لم يَحْتَجْ إلى شيء من هذه التَّأوِيلات بل يقول تُحْمَلُ محاربتهم للَّه - تعالى - على مَعْنًى يَلِيق بها، وهي المُخالفةُ مَجازاً، ومحاربَتُهم لِرسُوله على المُقاتلةِ حَقِيقة. قوله: «فساداً» في نصبه ثلاثة أوجُه:
أحدها: أنه مَفْعُول من أجله، أي يُحَاربُون ويسْعَون لأجل الفساد، وشروط النَّصْبِ موجُودة.
الثاني: أنَّه مصدر وَاقع موقع الحَالِ: ويسْعَوْن في الأرْض مفسدين، أو ذوي فساد، أو جُعِلُوا نفس الفساد مُبالغةً، ثلاثة مذاهب [مشهورة] تقدَّم تَحْرِيرها.
الثالث: أنه منْصُوب على المصدر، أي: إنَّه نَوْع من العامل قبله، فإنَّ معنى «يَسْعَوْن» هنا: يُفْسدُون وفي الحَقِيقة، ف «فسادٌ» قائم مقام الإفساد [والتقدير:]، ويفسدون في الأرْض بسعيهم إفْساداً.
و «فِي الأرْضِ» الظّاهر: أنه متعلِّق بالفِعْل قَبْلَه، كقوله: ﴿سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ﴾ [البقرة: ٢٠٥].
وقد أجيز أن يكون في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ؛ لأنَّه يجُوز أن لو تأخَّر عنه أن يكون صِفَةً له. وأجيز أن يتعلَّق أيضاً بنَفْس «فساداً»، وهذا إنَّما يَتمشّى إذا جعلْنَا «فَسَاداً» حالاً.
أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مصدراً امتنع ذلك لِتَقَدُّمِهِ عليه، ولأنَّ المؤكد لا يَعْمَل.
وقرأ الجمهور «أنْ يُقَتَّلُوا» وما بعده من الفِعْلَين بالتثقيل، ومعناه: التَّكْثير بالنِّسْبَة إلى من تقعُ به هذه الأفْعَال.
وقرأ الحسن وابنُ مُحَيْصِن بِتَخْفِيفِهَا.
قوله تعالى «مِن خِلافٍ» في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من «أيْدِيهِمْ» و «أرْجُلِهِمْ» أي: [تقطع مختلف] بمعنى: أن يقْطَع يَدَهُ اليُمْنَى، ورجله اليُسرى.
والنَّفي: الطَّرْد.
و «الأرض» المراد بها هاهُنَا «ما يُريدُون الإقامَة بها، أو يُراد من أرْضِهِمْ.
و»
ألْ «عوض من المضاف إليه عِنْد من يَرَاهُ.
304

فصل


قال الضَّحَّاك: نزلت في قوم مِنْ أهْل الكتاب، كان بَيْنهم وبين رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَهْدٌ، فَنَقَضُوا العَهْد وقطعُوا السَّبِيل وأفْسَدوا.
وقال الكَلْبِي: نزلت في قَوْم هِلال بن عُوَيْمر، وذلك أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واعد هلال بن عُوَيْمِر وهو أبو بُرْدَة الأسْلَمي، على ألا يُعِينَهُ ولا يُعِين عليه، ومن مرَّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فهو آمِنٌ لا يُهَاجُ، فمرَّ قوم من بَنِي كِنَانَة يريدون الإسلام، بِنَاس من أسْلَم من قَوْم هلال بن عويمر، ولم يكن هلال شَاهِداً، فَشَدُّوا عليهم فَقَتَلُوهم وأخَذُوا أمْوالهم، فنزل جبريل بالقِصَّة.
وقال سعيد بن جبير: نزلت في نَاسٍ من عُرَيْنَة وعكل أتَوا النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة، فَبَعَثَهُم النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى إبل الصَّدقةِ فارْتَدُّوا، وقتلوا الرَّاعِي واسْتَاقُوا الإبِل، فبعث النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من رَدَّهم وأمر بِقَطْع أيديهم وأرجُلهم، وسَمْل أعْيُنِهم بمَسَامِير وكحلهم بها، وطَرحهم في الحَرِّ يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون حتى ماتُوا.
305
قال أبو قِلابَة: هؤلاء قَتَلُوا وسَرَقُوا، وحاربُوا الله ورسُولَهُ وَسَعَوْا في الأرْضِ فساداً، فنزلت هذه نَسْخاً لِفْعِل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فصارت السُّنَّة مَنْسُوخة بهذا القُرْآن العظيم، ومن قال إنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقُرْآن قال: إنما كان النَّاسِخ لتلك السُّنَّة سُنَّة أخْرى: ونزل هذا القُرْآن العَظِيم مُطَابِقاً للسُّنَّة النَّاسخة.
وقال بعضهم: حُكُمُهم ثَابِت إلا السَّمل والمُثْلَة، وروى قتادةُ عن ابن سيرين أنَّ ذلك قَبْل أن تَنْزِل الحُدُود.
قال أبو الزَّنَاد: ولما فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك بهم أنْزل اللَّه الحُدُود، ونَهَاهُ عن المُثْلة فلم يَعُد، وعن قتادةُ قال: بَلَغَنَا أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [بعد
306
ذلك كان يحثّ على الصَّدَقة ويَنْهَى عن المُثْلة، وقال سليمان التَّيْمِي عن أنس: إنَّما سَمَل النبي - صلَّى الله] عليه وعلى آله وسلَّم - أعْيُن هؤلاء؛ لأنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُّعَاة.
وقال الليث بن سَعْد: نزلَت هذه الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وتَعْلِيماً له عُقُوبَتهم وقال: إنَّما جَزَاؤهم لا المُثْلَة، ولذلك ما قَامَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خَطِيباً إلا نَهَى عن المُثْلَة.
وقيل: نزلت هذه الآية في الَّذِين حُكي عنهم من بَنِي إسرائيل - أنَّهُم بعد أنْ غلظ عليهم عِقَابُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان، فهم مُسْرِفون في القَتْلِ ويُفْسِدون في الأرْض، فمن أتى منهم بالقَتْلِ والفَسَادِ في الأرْضِ فَجَزَاؤهُم كذا وكذا.
وقيل: نزلت هذه الآية في قطَّاعِ الطَّرِيق من المُسْلِمين [وهذا قول] أكثر الفقهاء قالوا: والذي يدل على أنَّهُ لا يَجُوز حَمْلُ الآية على المُرْتَدِّين من وجوه:
أحدها: أنَّ قطع المرتدِّ لا يقف على المُحَاربة، ولا على إظهار الفَسَاد في دار الإسلام، والآية تَقْتَضِي ذلك.
وثانيها: لا يجوز الاقتصَار في المرتدِّ على قَطْعِ اليَدِ، ولا على النَّفْي، والآية تقتضي ذلك.
وثالثها: أن الآية تَقْتَضِي سقوط الحد بالتَّوْبة قبل القُدْرة؛ لقوله تعالى ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ﴾.
والمرتَدُّ يسقط حَدُّه بالتَّوبة قبل القُدْرة وبعدها، فدلَّ على أن الآية لا تعلُّقَ لها بالمُرْتَدِّين.
ورابعها: أن الصَّلْب غير مشْرُوع في حق المُرْتَدِّ، وهو مشروع هاهنا فوجَب ألا تكون الآية مُخْتَصَّة بالمرتدِّين.
وخامسها: أنَّ قوله تعالى: ﴿الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً﴾ يتناول كل من يُوصَف بهذه سواءً كان مُسْلِماً أو كافراً، ولا يُقالَ: الآية نزلت في الكُفَّار؛ لأن
307
العبرة بعُمُوم اللَّفْظ لا خُصوص السَّبَب، فإن قيل: المُحَارِبُون هم الذين يَجْتَمِعُون ولهم مَنَعَةٌ، ويَقْصدون المُسْلِمين في أرواحهم ودِمَائهم، واتَّفَقُوا على أنَّ هذه الصِّفَة إذا حصلت في الصَّحَراء كانوا قُطَّاع الطَّريق، وأما إن حصلت في الأمْصار، فقال الأوْزَاعيُّ ومالِكٌ واللَّيْث بن سَعْد والشَّافِعِيّ: هم أيضاً قُطَّاع الطَّريق، هذا الحدُّ عليهم، قالوا: وإنَّهم في المُدُن يكونون أعْظَم ذَنْباً فلا أقَلَّ من المُسَاوَاة، واحتَجُّوا بالآية وعُمُومها، ولأنَّ هذا حدّ فلا يَخْتَلِفُ كَسَائِر الحدود [وقال أبو حنيفة ومُحَمَّد: إذا حصل ذلك في المِصر لا يُقام عَلَيْه الحُدُود] لأنه لا يلحقه الغَوْثُ في الغالِبِ فلا يتمكَّن من المغالبة، فصار في حكم السَّارِق.

فصل


قوله تعالى في الآية ﴿أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض﴾. اختلف العلماء في لفظة «أوْ» : فقال ابن عبَّاس في رواية الحسن، وسعيد بن المسيب، ومُجاهد، والنَّخْعِي: إنَّها للتَّخْيير، والمعنى: أنَّ الإمام مخيَّر في المُحَاربين، إن شاء قَتَلَ، وإن شَاء صَلَب، وإن شاء قَطَعَ الأيْدِي والأرجل، وإن شاء نَفَى، وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في رواية عطاء: «أوْ» هاهنا [لَيْسَت] للتَّخيير، بل لبيانِ الأحْكَام وتَرْتِيبهَا.
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - في قُطَّاع الطريق إذا قتلوا وأخَذُوا المال: قُتِلُوا وصُلِبُوا، وإذا قَتَلُوا ولم يأخُذُوا المال، قُتِلُوا ولم يُصْلَبُوا، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم، وإذَا قَتَلُوا ولم يَأخذُوا المالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أيديهم وأرْجُلُهم من خلافٍ، وإذا أخافُوا السَّبيل، ولم يأخُذُوا مالاً؛ نُفُوا من الأرض، وهذا قول قتادة [والشَّافعي، والأوْزَاعِيِّ]، وأصحاب الرَّأي.
واختَلَفُوا في كَيْفِيَّة القَتْلِ والصَّلْب، فظاهر مَذْهَبِ الشَّافعيّ: أنه يُقْتَل ثم يُصْلَب، وقيل: يُصْلب حيّاً ثم يُطْعَن حتى يموت مصْلُوباً، وهو قول اللَّيْث بن سَعْد، وقيل: يُصْلَب ثلاثة أيَّام، ثم ينزل ثم يُقْتَل، وإذا قَتَلَ يُقْتَلُ حتماً، لا يسقط بعَفْو وَلِيّ الدَّم.
واختُلِفَ في النَّفْي: فقال سعيد بن جُبَيْر، وعُمَرُ بن عَبْد العزِيز: أنَّ الإمام يطلبه
308
ففي كُلِّ بلد يُوجَد ينفى عنه، وقيل: يُطْلَبُون ليُقَام عليهم الحُدُود، وهو قول ابن عبَّاس، واللَّيث بن سَعْد، وبه قال الشَّافعي، وإسْحَاق.
وقال أبو حنيفة: النَّفْي هو: الحبس، وهو اخْتِيَار أهْل اللُّغَة.
قالوا: لأن قوله ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض﴾ : إمَّا أن يكُون المُرَادُ به النَّفي من جميع الأرْضِ، وذلك غير مُمْكِن مع بَقَاءِ الحياة، [وإمَّا] أن يكون المُرَاد إخراجه من تلك البلدة إلى بَلْدَةٍ أخرى وهو غَيْر جَائِزٍ، لأنَّه إمَّا أن يُنْفَى من بِلاد الإسْلام فَيُؤذيهم، أو إلى بِلاد الكُفْر فيكون تَعْرِيضاً له بالرِّدَّة، وذلك غَيْرُ جَائِزٍ، فلم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكُون المُراد من النَّفْي نَفْيهُ عن جميعِ الأرْض إلى مكانِ الحَبْس قالوا: والمَحْبُوس: قد يُسَمَّى منفياً من الأرض لأنه لا يَنْتَفِع بشيء من طَيِّبَات الدُّنيا ولذَّاتها، ولا يرى أحَداً من أحبابه، فصار منفياً عن اللَّذات والشَّهَوات والطَّيِّبات فكان كالمَنْفِي في الحقيقةِ، ولما حَبَسُوا صالح بن عبد القُدُّوس على تُهْمَة الزَّندقة في حبس ضيقٍ وطال لَبْثه هُنَاك ذكر شِعْر منه: [الطويل]
١٩٥٧ - خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا ولا الأحْيَا
وقال - سامَحه اللَّه وعفا عنه وعنَّا - قوله: [الطويل]
١٩٥٨ - إذا [جَاءنَا] السَّجَّانُ يَوْماً لِحَاجَةٍ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا: جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
قوله تعالى: ﴿ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا﴾.
«ذلك» إشارةٌ إلى الجزاء المُتقدِّم، وهو مُبْتَدأ.
وقوله: «لَهُمْ خِزْيٌ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكُون «لهم» خبراً مُتقدِّماً، و «خِزْي» مُبْتَدأ مُؤخَّر، و «فِي الدُّنْيا»
309
صِفَةٌ له، فيتعلق بمحذُوف، أو يتعلَّق بنفس «خِزْي» على أنَّه ظَرْفيَّة، والجُمْلَة في محلِّ رفع خبر ل «ذَلِكَ».
الثاني: أن يكون «خِزْي» خبراً ل «ذلك»، و «لهم» مُتعلِّق بمحذُوف على أنَّه حال من «خِزْي» ؛ لأنَّه في الأصْل صِفَةٌ له، فلمَّا قُدِّم انْتَصَب حالاً.
وأمَّا «في الدُّنْيَا» فيَجُوز فيه الوجهان المتقدِّمان من كونهِ صِفَةً ل «خزي» أو مُتعلِّقاً به، ويجُوزُ فيه أن يكون مُتعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به «لَهُم».
الثالث: أن يكون [ «لَهُمْ» ] خبراً ل «ذلك» و «خِزْي» فاعل، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ، و «فِي الدُّنْيَا» على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة.

فصل في شبهة للمعتزلة وردها


المراد بالخِزْي في الدُّنْيَا: الفَضِيحة والهَوَان والعَذَاب، ولَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيم.
قالت المُعْتَزِلَةُ: دلَّت الآية [على القَطْعِ بوَعِيد] الفُسَّاق من أهْل الصَّلاة وعلى أنَّ عِقَابَهم قد أحْبَطَ ثوابهم؛ لأنَّه تعالى حَكَم بأنَّ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وذلك يدل على أن اسْتِحْقَاقهم للذمِّ في الحَالِ، وإذا اسْتَحَقُّوا الذَّم في الحالِ امْتَنَع اسْتِحْقَاقهم للمَدْح والتَّعْظيم؛ لأنَّ ذلك جَمْعٌ بين الضِّدِّيْن، وإذا كان كذلِك ثَبَتَ القَطْع بوعيد الفُسَّاق، وثَبَتَ القول بالإحْبَاط.
والجوابُ: لا نِزَاع بيننا وبَيْنَكم أنَّ هذا إنَّما يكون وَاقِعاً على جِهَة الخِزْي والاسْتِحْقَاقِ، إذَا لَمْ يَتقدَّمه تَوْبة، وإذا جازَ لكم [أن تَشْتَرِطُوا هذا الحُكْم بِعَدَم التَّوْبة] لِدَليل دَلَّ على اعْتِبَار هذا الشَّرْط، فنحن أيضاً نشترط لهذا الحُكْم عدم العَفْو، وحينئذٍ لا يَبْقَى الكلام إلاّ في أنَّهُ هل دَلَّ [على أنَّه - تعالى -] يَعْفُو عن الفُسَّاق أم لا؟ وقد تقدَّمت هذه المسْألة في سُورة البقرة عند قوله تعالى ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته﴾ [البقرة: ٨١].
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء من المحاربين، وللعُلَماء خلافٌ في التَّائِب من قُطَّاع الطَّريق، هل تَسْقط عنه العُقُوبات كُلُّها، أو عقوبة قَطْع الطَّريق فقط؟.
وأما ما يتعَلَّق بالأمْوَال وقتل الأنْفُس، فلا تسقط، بل حُكْمُه إلى صاحِبِ المال، وَوَلِيّ الدَّم، والظَّاهر الأوّل.
310
الثاني: أنَّه مرفوع بالابْتِدَاء، والخبر قوله: «فإنَّ الله غَفُورٌ رحيم» والعَائِد مَحْذُوف، أي: غفور له؛ ذكر هذا الثَّاني أبُو البقاء. وحينئذٍ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً بمعنى: لكن التَّائِب يُغْفَر لَهُ.

فصل


من ذَهَب إلى أنَّ الآية نَزَلَت في الكُفار قال: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ : من شركهم: وأسْلَموا قبل أن تَقْدِروا عليهم فَلاَ سَبِيل عليهم بِشَيْءٍ من الحدُود ولا تَبِعَة عليهم فيما أصَابُوا في حال الكُفْر من دَمٍ أوْ مَال.
أما المُسْلِمُون المحاربون: فمن تاب منهم قبل القُدْرَة عَلَيْه، وهو قبل أنْ يَظْفَر بِهِمُ الإمَام تَسْقُط عَنْهُ كل عُقُوبة وجبت حقاً لله تعالى، ولا يَسْقُط ما كان من حُقُوق العِبَاد، فإذا كان قد قَتَل في قَطْعِ الطَّريق يسقُطُ عنه بالتَّوْبة [قبل القُدْرَة عليه] تحتُّم القَتْل، ويبقى عليه القِصَاصُ لولي القَتِيل إن شَاءَ عفا عنه، وإن شَاءَ اسْتَوْفَاه، وإن كان قد أخَذَ المال يَسْقُط عنه القَطْع، وإن كان جمع بَيْنَهُما يسقط عنه تحتُّم القَتْل والصَّلْب، ويجب ضَمَان المال.
وقال بعضهُم: إذا جاء تَائباً قبل القُدْرَة [عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه.
روي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في حارثة بن زيد كان خرج محارباً فسفك الدماء، وأخذ الأموال ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة. أما من تاب بعد القدرة] فلا يَسْقُط عنه شيء منها.
وقيل: كُلُّ عقُوبة تجب حقاً لِلَّه - تعالى - من عُقُوبَات قَطْع الطَّريق، وقطع السَّرقة، وحدِّ الزنا، والشُّرب تَسْقُط بالتَّوْبة بكل حال كما تقدَّم والأكْثَرُون على أنَّها لا تَسْقُط.
311
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء من المحاربين، وللعُلَماء خلافٌ في التَّائِب من قُطَّاع الطَّريق، هل تَسْقط عنه العُقُوبات كُلُّها، أو عقوبة قَطْع الطَّريق فقط ؟.
وأما ما يتعَلَّق بالأمْوَال وقتل الأنْفُس، فلا تسقط، بل حُكْمُه إلى صاحِبِ المال، وَوَلِيِّ الدَّم، والظَّاهر الأوّل.
الثاني : أنَّه مرفوع بالابْتِدَاء، والخبر قوله :" فإنَّ الله غَفُورٌ رحيم " والعَائِد مَحْذُوف، أي : غفور له ؛ ذكر هذا الثَّاني أبُو البقاء٤٣. وحينئذٍ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً بمعنى : لكن التَّائِب يُغْفَر لَهُ.

فصل


من ذَهَب إلى أنَّ الآية نَزَلَت في الكُفار قال :﴿ إلاَّ الَّذِين تَابُوا ﴾ : من شركهم : وأسْلَموا قبل أن تَقْدِروا عليهم فَلاَ سَبِيل عليهم بِشَيْءٍ من الحدُود ولا تَبِعَة عليهم فيما أصَابُوا في حال الكُفْر من دَمٍ أوْ مَال.
أما المُسْلِمُون المحاربون : فمن٤٤ تاب منهم قبل القُدْرَة عَلَيْه، وهو قبل أنْ يَظْفَر بِهِمُ الإمَام تَسْقُط عَنْهُ كل عُقُوبة وجبت حقاً لله تعالى، ولا يَسْقُط ما كان من حُقُوق العِبَاد، فإذا كان قد قَتَل في قَطْعِ الطَّريق يسقُطُ عنه بالتَّوْبة [ قبل القُدْرَة عليه ]٤٥ تحتُّم القَتْل، ويبقى عليه القِصَاصُ لولي القَتِيل إن شَاءَ عفا عنه، وإن شَاءَ اسْتَوْفَاه، وإن كان قد أخَذَ المال يَسْقُط عنه القَطْع، وإن كان جمع بَيْنَهُما يسقط عنه تحتُّم القَتْل والصَّلْب، ويجب ضَمَان المال.
وقال بعضهُم : إذا جاء تَائباً قبل القُدْرَة [ عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه.
روي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن زيد كان خرج محارباً فسفك الدماء، وأخذ الأموال ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة. أما من تاب بعد القدرة ]٤٦ فلا يَسْقُط عنه شيء منها.
وقيل : كُلُّ عقُوبة تجب حقاً لِلَّه - تعالى - من عُقُوبَات قَطْع الطَّريق، وقطع السَّرقة، وحدِّ الزنا، والشُّرب تَسْقُط بالتَّوْبة بكل حال كما تقدَّم والأكْثَرُون على أنَّها لا تَسْقُط.
في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان:
أحدهما: أنَّه لما أخبر رسُولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قوماً من اليَهُود هَمُّوا أن يَبْسُطُوا أيديهم إلى الرَّسُول وإلى أصحابه بالغدر والمكر، ومَنَعَهُم الله تعالى من مُرَادهم، وشرح للرَّسُول شدَّة تَعَصُّبِهم على الأنْبِيَاء وإصْرَارهم على إيذَائهم، وامتدَّ الكلامُ إلى هذا الموضع، فعند هذا
311
رَجَع إلى المَقْصُود الأوَّل وقال ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة [وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ] ﴾، كأنه قيل: قد عَرَفْتُمْ كمال جَسَارَةِ اليَهُودِ على المَعَاصِي والذُّنُوب، وبُعْدهم عن الطَّاعَات الَّتِي هي الوَسَائِلُ للعبد إلى الرَّبِّ، فكُونُوا يا أيُّها المُؤمِنُون بالضَّدِّ من ذلك فاتَّقوا معَاصِي اللَّه، وتوسَّلُوا إليه بالطَّاعات.
والثاني: أنهم لما قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
أي: أبْنَاء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعْمَال آبَائِهِم كأنَّه تعالى قال: «يا أيها الذين آمنوا [اتّقوا الله] ولتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم، فاتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة».
في قوله تعالى: «إليه» ثلاثةُ أوجُه:
أحدها: أنه مُتعلِّق بالفِعْل قبله.
الثاني: أنه متعلِّق بنفس «الوَسيلَة».
قال أبو البقاء: لأنَّها بمعنى المتوسَّل به، فلذلك عَمِلَت فيما قبلها.
يعني: أنَّها ليست بِمَصْدَر، حتى يمتَنِع أن يتقدَّم مَعْمُولها عليها.
الثالث: أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حال من «الوَسِيلَة»، وليس بالقَوِي.
و «الوسيلة» أي: القُرْبة، فَعِيلَة مِنْ توسَّل إليه فلانٍ بكذا إذا تقرَّب إليه، وجمعها: وَسَائِل.
قال لبيد: [الطويل]
١٩٥٩ - أرى النَّاسَ لا يَدْرُونَ ما قَدْرُ أمْرِهِمْ ألاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلى الله وَاسلُ
أي: متوسّل، فالوسِيلة هي التي يتوسَّلُ بها إلى المَقْصُودِ.

فصل


قال ابن الخطيب: التَّكْلِيفُ نوعان: ترك المَنْهِيَّات: وهو قوله تعالى «اتَّقُوا الله»، وفعل الطَّاعات: وهو قوله ﴿وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة﴾، والتَّرك مُقَدَّم على الفِعْل بالذَّات؛ لأنه بَقَاء على العَدَم [الأصلي]، والفعل إيجاد وتَحْصِيل، والعَدَمُ سابق، ولذلك قُدِّمَت التَّقْوى فإن قيل: لِمَ اختصّت الوسِيلَة بالفعل، مع أنَّ ترك المَعَاصي قد يكون وَسِيلة؟
312
فالجوابُ: أن التَّرك بقاء على العدم، وذلك لا يُمْكِن التَّوَسُّل به، بل من دَعَتْهُ الشهْوة [إلى فعل القَبِيح]، فتركه مرضاة اللَّه حصل التَّوسُّل إلى اللَّه بذلك الامْتِنَاع، لكنَّه من باب الأفْعَال، ولذلك قال المُحَقِّقُون: تَرْك [الشَّيء] عبارة عن فعل ضِدِّه.
ثم قال - تعالى -: ﴿وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، لمّا أمر بِتَرْك ما لا يَنْبَغِي بقوله: «اتَّقُوا اللَّه» وفعل ما يَنْبَغِي بقوله ﴿وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة﴾ وكل واحد منهما شاقٌّ ثَقِيل على النَّفْس فإن النَّفْس تَدْعُو إلى اللَّذَّات المَحْسُوسَة، والعَقْل يدعو إلى خِدْمَة اللَّه وطاعتهِ والإعْرَاض عن المَحسُوسَات؛ فكان بَيْن الحَالَتيْن تضَادٌّ وتناف، وإذا كان الأمْر كذلك فالانْقِيَادُ لقوله تعالى ﴿وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة﴾ من أشقِّ الأشْيَاء على النَّفْس وأشدها ثقلا على الطَّبع، فلهذا أرْدَف ذلك التَّكْليف بقوله ﴿وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ولمّا أرشد المُؤمِنِين في هذه الآية إلى معاقدِ الخَيْرَات ومَفَاتِح السَّعاداتِ، أتْبَعَهُ بشرح حَالِ الكُفَّار.
313
قد تقدم الكلام على «أنَّ» الواقعة بعد «لو» على أنَّ فيها مَذْهَبيْن.
و «لَهُمْ» خبر ل «أنَّ»، و ﴿مَّا فِي الأرض﴾ اسمها، و «جميعاً» توكيد لهُ، أو حال منه و «مِثلَه» في نَصْبِه وجهان:
أحدهما: عطف على اسم «أن» وهو «مَا» الموصولة.
والثاني: أنه منصُوب على المَعِيَّة، وهو رأي الزَّمخْشَرِي، وسيأتي ما يرد على ذلك والجوابُ عنه.
و «معهُ» ظرف واقع موقع الحال.
[ «واللام» ] متعلِّقة بالاستِقْرَار الذي تعلَّق به الخبر، وهو «لَهُمْ».
و «به» و «مِنْ عذاب» متعلِّقان بالافْتِدَاء، والضَّمير في «بِهِ» عائدٌ على «مَا» الموصولة، وجيء بالضَّمِير مُفْرَداً وإن تقدَّمه شَيْئَان وهما ﴿مَّا فِي الأرض﴾ و «مِثْلَهُ»، إما لتلازُمهمَا فهما في حُكْم شيء واحد؛ وإما لأنَّه حذف من الثَّانِي لدلالة ما في الأوَّل عليه، كقوله رحمة الله عليه: [الطويل]
١٩٦٠ -.........................
313
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
أي: لو أنَّ لهم ما في الأرض لِيَفْتَدُوا به، ومثله معه ليفْتَدُوا به وإما لإجراء الضمير مُجْرَى اسم الإشارة، كقوله: [الرجز]
١٩٦١ -...................... كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ...........
وقال بعضهم: ليفْتَدُوا بذلك المَال.
وقد تقدم في «البقرة».
و «عذاب» بمعنى: تَعْذِيب بإضافته إلى «يَوْم» خرج «يَوْم» عن الظرفية، و «مَا» نَافِية وهي جواب «لَوْ»، وجاء على الأكْثَر من كونِ الجواب النَّفي بغير «لام»، والجملة الامْتِنَاعية في محل رفع خبراً ل «إن»، وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ توحيد الضَّمير في «بِهِ» لمَدْرك آخر، وهو أنَّ «الوَاو» في «ومِثْلَهُ» [واو «مع» قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين: ويجُوزُ أن تكُونَ الواوُ في «ومِثله» ] بمعنى «مَعَ» فيتوحد المَرْجُوع إليه.
فإن قُلْتَ: فبم يُنْصب المَفْعُول معه؟.
قلت: بما تسْتَدْعِيه «لَوْ» من الفعل؛ لأن التَّقدير: لو ثبت أنَّ لَهُمْ ما في الأرض، يعني: أنَّ حكم ما قبل المفعُول معه في الخَبَرِ والحَالِ، وعود الضَّمِير حكمه لو لم يكن بعده مفعول معه، تقول: «كُنْتُ وَزَيْدَاً كالأخِ» قال الشاعر: [الطويل]
١٩٦٢ - فَكَانَ وَإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ عَنِ المَاءِ إذْ لاقَاهُ حَتَّى تَقَدَّدَا
فقال: «كَحَرَّان» بالإفْرَاد ولم يقُلْ: «كحرَّانَيْن»، وتقول: «جَاءَ زَيْدٌ وهنْداً ضاحِكاً في داره».
وقد اختار الأخْفَشُ أن يُعطى حُكْم المُتَعَاطفين، يعني: فَيطَابق الخبر، والحَال، والضمير له ولما بَعْده، فتقول: «كُنْتُ وَزيْداً كالأخوين».
قال بعضهم: والصَّحِيح جوازه على قِلِّة.
وقد رد أبُو حيَّان على الزمخشري، وطوَّل معه.
قال شهاب الدِّين: ولا بد من نَقْل نصِّه؛ قال: وقول الزمَخْشَرِي ويجُوزُ أن تكون «الواو» بمعنى «مع» ليس بِشَيْء؛ لأنَّه يصير التقدير: مع مثله معه، أي: مع مِثْل ما
314
في الأرْضِ [مع ما في الأرض] إن جعلت الضَّمِير في «مَعَه» عائِداً على «مَا» يكون معه حَالاً من «مِثْله».
وإذا كان مَا في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر «معه» لملازمة معيّة كل منهما للآخر.
وإن جعلت الضمير عائداً على «مثله»، أي: مع مثله مع ذلك المثل، فيكون المعنى مع مِثْلَيْنِ، فالتَّعْبِير عن هذا المَعْنَى بتلك العِبَارة عَيِيٌّ؛ إذ الكلام المُنْتَظِم أن يكون التَّركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْهِ.
وقول الزَّمَخْشَرِي: «فإن قُلْت» إلى آخِر الجواب [هذا السؤال] لا يرد؛ لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن يكون «الوّاو» واو «مَعَ»، وعلى تقدِير وُرودِه فهذا بناء منه على أنَّ [ «أن» ] إذا جاءت بعد «لَوْ» كانت في مَحَلِّ رفع بالفاعليّة، فيكون التقدير على هذا لو ثَبَتَ كينونة ما في الأرْضِ مع مثله لهم لِيَفْتَدُوا به، فيكون الضَّمِير عائِداً على «مَا» فقط.
وهذا الذي ذكره هو تَفْريعٌ منه على مذهَب المُبَرِّد في أنَّ «أن» بعد «لَوْ» في محل رفع على الفاعليَّة، وهو مذهب مرجُوحٌ، ومذهب سيبويه: أن «أنَّ» بعد «لَوْ» في محلِّ رفع مُبْتَدأ.
والذي يظهر من كلام الزَّمخْشَرِي هنا وفي تصانيفه أنَّهُ ما وَقَفَ على مذهب سيبويْه في هذه المسألة.
وعلى المفرع على مذهَب المُبَرِّد لا يجوز أن تكون «الوَاوُ» بمعنى «مَعْ» والعامِلَ فيها «ثَبَتَ» المقدَّرة لما تقدم من وجود لفظة «مَعَهُ»، وعلى تقديره سُقُوطها لا يصحُّ؛ لأن «ثَبَتَ» ليس رَافِعاً ل «مَا» العائد عليها الضمير وإنما هو رَافِعٌ مصدراً مُنْسَبكاً من «أن» وما بعدها، وهُو كونُ؛ إذ التقدير لو ثَبَتَ كون ما في الأرض جَمِيعاً لهم ومِثْله معه لِيَفْتدُوا به، والضمير عَائِد على [ما] دُون الكوْنِ، فالرَّافِع الفاعِل غير النَّاصب للمفعُول معه، إذ لو كان إيَّاه للزم من ذلك وجود الثُّبُوت مُصَاحباً للمثل [والمعنى على كينونة ما في الأرض مُصاحباً للمثل، لا على ثُبُوت ذلك مُصَاحِباً للمثل،] وهذا فيه غُمُوض.
وبيانُهُ: أنَّك إذا قلت: «يُعْجِبُني قيام زَيْد وعَمْراً»، جعلت «عمراً» مفعُولاً معه، والعامِلُ فيه «يُعْجُبني» [لزم] من ذلك أن «عَمْراً» لم يَقُمْ، وأعجبك القِيَامُ وعمرو.
315
وإن جَعَلْتَ العامل فيه القِيَام: كان عمرو قَائِماً، وكان الإعْجَاب قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيام عَمْرو.
فإن قلت: هلاّ كان «ومِثْلَهُ مَعَهُ» مفعولاً معه، والعامِلُ فيه هو العَامِلُ في «لَهُمْ» ؛ إذ المَعْنَى عليه؟.
قلت: لا يَصِحُّ ذلك لِمَا ذكرْنَاه من وجود «مَعَهُ» في الجُمْلَة، وعلى تقديرِ سُقُوطِهَا لا يصحُّ؛ لأنَّهُم نَصُّوا على أنَّ قولك: «هَذَا لَكَ وأبَاك» ممنوع في الاختيار.
قال سيبويْه: وأما «هَذَا لَكَ وأبَاك» فَقَبيحٌ؛ لأنَّه لم يذكر فِعْلاً ولا حَرْفاً فيه معنى فعل حتى يَصِير كأنَّه قد تكلَّم بالفعل، فأفْصَح سيبويه بأن اسْم الإشَارَة وحرف الجر المتضمن [المعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه وقد أجاز بعض النحويين في حرف الجر والظرف أن يعملا] نحو «هذا لك وأباك».
فقوله: «وأبَاكَ» يكون مفعُولاً مَعَهُ، والعَامِلُ الاستِقْرَار في «لَكَ». انتهى. ومع هذا الاعتراض الذي ذكره، فقد يَظْهر عنه جوابٌ، وهو أنَّا نقول: نختار أن يكون الضَّمِير في قوله: «مَعَهُ» عائداً على «مِثْله» ويَصِيرُ المعنى: مع مِثْلَين، وهو أبْلَغُ من أن يكون مع مِثْل واحد.
وقوله: «تَرْكِيبٌ عَيِيٌّ» فَهْم قَاصِرُ، ولا بُدَّ من جُمْلَةٍ محذُوفَة قَبْل قوله: ﴿مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾ تقديره: وَبذَلُوه، أو وافْتَدُوا به، ليصِحَّ التَّرْتيب المذكُور؛ إذ لا يترتَّب على اسْتِقْرَار ما فِي الأرْض جَمِيعاً ومثله معه لهم عدم التَّقبُّل، إنما يترتَّب عدم التَّقَبُّل على البَذلِ والافْتِدَاء والعامَّة على «تُقُبِّل» مبنياً [للمفعول حذف فاعله لعظمته وللعلم به.
وقرأ يزيد بن قطيب: «ما تقبَّل» مبنياً للفاعل] وهو ضميرُ البَارِي تبارك وتعالى.
قوله [تعالى] «ولَهُمْ عَذابٌ» مبتدأ وخبرُهُ مُقَدَّمٌ عليه، و «ألِيمٌ» صفته بمعنى: مُؤلِمٌ، وهذه الجُمْلَة أجَازُوا فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون حالاً، وفيه ضَعْفٌ من حيث المعنى.
المعنى الثاني: أن تكون في مَحَلِّ رفع عَطْفاً على خَبَرِ «أن» أخبر عن الذين كفروا بخبرين لو استقرَّ لَهُمْ جَمِيعُ ما في الأرضِ مع مثله فَبَذلُوه، لم يُتَقَبَّلْ مِنْهُم وأنَّ لهم عَذَاباً أليماً.
الثالث: أن تكون مَعْطُوفة على الجُمْلَة من قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها؛ لِعَطْفها على ما لا مَحَلَّ له.
316
وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ﴾ كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٨] وقد تقدَّم.
والجُمْهُور على «أن يَخرُجُوا» مَبْنيّاً للفاعل وقرأ يحيى بن وثَّاب، وإبْرَاهيم النَّخْعي «يُخْرجُوا» مبنياً للمفعُول وهما واضحتان، والمقصُود من هذا الكلام لُزُوم العذابِ لَهُمْ، وأنَّهُ لا سَبيلَ لهُمْ إلى الخلاصِ مِنْهُ وإرادتهم إلى الخُرُوجِ تحْتَمِلُ وجهيْن:
الأوَّل: أنهم قصدوا وطلبُوا المخرج مِنْها، كقوله تعالى
﴿كُلَّمَآ
أرادوا
أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾
[السجدة: ٢٠].
قيل: إذا [لَفَحَتْهُم] النَّار إلى فوق فهُنَاك يتمنُّون الخُرُوج.
وقيل: يَكادُون أن يخْرُجُوا من النَّار؛ لِقُوَّة النَّارِ ورفعها للمُعَذَّبين.
والثاني: أنهم يتمَنُّون ذلك ويريدُوه بِقُلُوبهم.

فصل


احتجَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أن الله تعالى يُخْرِج من النار من قال: لا إله إلا الله مُخْلِصاً؛ لأنَّه تعالى جعل هذا المعنى من تَهْديدات [الكُفَّار، وأنواع ما خَوَّفهم به، ولولا أنَّ هذا المعنى يختصُّ بالكفار وإلا لم يكن لِتخصيص] الكُفَّار به معنى، ويؤكده قوله ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾، وهذا يفيد الحصر، فكان المعنى: ولهم عذابٌ مقيمٌ لا لِغَيْرهم كما أن قوله ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ [الكافرون: ٦] لا لغيركم، فها هُنَا كذلك.
317
وقوله تعالى :﴿ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ ﴾ كقوله تعالى :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٨ ] وقد تقدَّم.
والجُمْهُور على " أن يَخرُجُوا " مَبْنيّاً للفاعل وقرأ يحيى٢٥ بن وثَّاب٢٦، وإبْرَاهيم النَّخْعي " يُخْرجُوا " مبنياً للمفعُول وهما واضحتان، والمقصُود من هذا الكلام لُزُوم العذابِ لَهُمْ، وأنَّهُ لا سَبيلَ لهُمْ إلى الخلاصِ مِنْهُ وإرادتهم إلى الخُرُوجِ تحْتَمِلُ وجهيْن :
الأوَّل : أنهم قصدوا وطلبُوا المخرج مِنْها، كقوله تعالى ﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ السجدة : ٢٠ ].
قيل : إذا [ لَفَحَتْهُم ]٢٧ النَّار إلى فوق فهُنَاك يتمنُّون الخُرُوج.
وقيل : يَكادُون أن يخْرُجُوا من النَّار ؛ لِقُوَّة النَّارِ ورفعها للمُعَذَّبين.
والثاني : أنهم يتمَنُّون ذلك ويريدُوه بِقُلُوبهم٢٨.

فصل


احتجَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أن الله تعالى يُخْرِج من النار من قال : لا إله إلا الله مُخْلِصاً ؛ لأنَّه تعالى جعل هذا المعنى من تَهْديدات [ الكُفَّار، وأنواع ما خَوَّفهم به، ولولا أنَّ هذا المعنى يختصُّ بالكفار وإلا لم يكن لِتخصيص ]٢٩ الكُفَّار به معنى، ويؤكده قوله ﴿ وَلَهُمْ عذابٌ مُقِيمٌ ﴾، وهذا يفيد الحصر، فكان المعنى : ولهم عذابٌ مقيمٌ لا لِغَيْرهم كما أن قوله ﴿ لَكُم دينكُمْ ﴾ لا لغيركم، فهاهُنَا كذلك.
«و» في اتِّصالها وجهان:
الأوَّل: أنه لما أوْجَبَ في الآية المتقدِّمة قَطْع الأيْدي والأرْجُل عند أخذ المالِ على سبيل [المحاربة، بيَّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل] السَّرِقَة يُوجبُ قطع الأيدي، والأرجُل أيضاً.
317
الثاني: أنَّهُ لما ذكر تَعْظِيم أمْر القَتْلِ حيث قال: ﴿قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ [أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض] فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ [المائدة: ٣٢] ذكره بعد الجنايات التي تُبيحُ القَتْلَ والإيلام فذكر:
أولاً: قطع الطريق.
وثانياً: من السَّرقة.
قوله تعالى: «والسَّارقُ والسَّارقَةُ» قرأ الجمهور بالرفع.
وعيسى بن عُمَر وابن أبي عبلة بالنَّصْبِ.
ونقل عن أبيّ: «والسُّرَّق والسُّرَّقة» بضم السِّين وفتح الرَّاء مُشَدَّدَتَيْن؛ قال الخَفَّاف: «وجدته في مُصْحَفِ أبَيّ كذلك».
وممن ضبطهما بما ذكرت أبو عمرو، إلاَّ أن ابن عطيَّة جعل هذه القِراءة تَصْحيفاً [فإنَّه قال: «ويُشبهُ أنْ يكُون هذا تَصْحِيفاً] من الضابط». لأن قراءة الجماعة إذا كتبت: «والسّرق» : بغير ألف وافقت في الخط هذه، قلت: ويمكن توجيه هذا القِرَاءة بأنَّ «السرق» جمع «سَارِق»، فإنَّ فُعَّلا يَطّرد جَمْعاً لفاعِل صِفَةً، نحو ضارِب وضُرَّب.
والدَّليل على أنَّ المراد الجمع قراءة عبد الله «والسَّارقون والسَّارقَات» بصيغتي جمع السلامة، فدلَّ على أنَّ المُرَاد الجَمْع، إلا أنه يَشْكُل في أنّ «فُعَّلا» يكُون من جمع: فاعِل وفاعلة تقول: نِسَاءٌ ضُرَّب، كما تقول: رِجَالٌ ضُرَّب، ولا يُدْخِلُون عليه تاء التَّأنِيث حيث يُرادُ به الإنَاثُ، والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بِتَاءِ التَّأنيث، حيث أُرِيد ب «فُعَّل» جمع فاعلة، فهو مُشْكِلٌ من هذه الجِهَة لا يقال: إن هذه التَّاء يجوز أن تكُون لِتَأكِيد الجمع؛ لأنَّ ذلك محفُوظٌ لا يُقَاس عليه نحو: «حِجَارة» وأمَّا قِرَاءَةُ الجُمْهُور فَفِيهَا وجهان:
أحدهما: هو مذهَبُ سيَبوَيْه، والمشهُور من أقوال البَصريِّين أن «السَّارِق» مبتدأ مَحْذُوف الخَبَر تقديرُهُ: «فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم» أو فيما فَرَضَ - «السَّارِق» و «السَّارِقَة» أي: حُكم السَّارِق، وكذا قوله: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا﴾ [النور: ٢].
318
ويكون قوله: «فَاقْطَعُوا» بياناً لذلك الحُكم المقدَّر، فما بعد الفاء مُرْتَبِطٌ بما قَبْلَها، ولذلك أتى بها فيه؛ لأنَّهُ هُوَ المَقْصُود.
ولو لم يَأتِ بالفَاءِ لَتوهّم أنه أجْنَبِيّ والكلامُ على هذا جُملتان: الأولى: خَبَريَّة، والثَّانية: أمْرِيَّة.
والثاني: وهو مذهب الأخْفَش، ونُقِلَ عن المُبَرِّد وجماعة كثيرة أنَّهُ مُبْتَدأ أيضاً، والخبر الجُمْلَةُ الأمْرِية من قوله: «فاقْطَعُوا»، وإنَّما دخلت الفاء في الخَبَر؛ لأنه يُشْبِهُ الشَّرْط؛ إذ الألِفُ واللاَّم فيه موصُولة، بمعنى «الَّذِي» و «الَّتِي» والصفَةُ صلتُهَا، فهي في قُوَّةِ قولك: «والذي سرق والتي سَرَقَت فاقْطَعُوا»، وهو اختيار الزَّجَّاج.
وما يدلُّ على أنَّ المراد من الآيَة الشَّرْط والجزاء وُجُوه:
الأوَّل: أنه تعالى صَرَّح بذلك في قوله تعالى ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا﴾. وهذا يدلُّ على أنَّ القَطْع جزاءٌ على فِعْل السَّرِقة، فوجَبَ أن يَعُمَّ الجَزَاء لعُموم الشَّرط.
والثاني: أن السَّرِقة جناية، والقطع عُقُوبة، فربط العُقُوبة بالجناية مناسب، وذكر الحُكم عَقِيب الوَصْف المُنَاسب يدلُّ على أنَّ الوصْفَ عِلَّة لذلك الحُكم.
الثالث: أنّا إذا حملنا الآيَة على هذا الوجه كانت [الآية] مُفِيدة، ولوْ حملْنَاها على سَارِقٍ مُعَيَّن صَارَت مُجْمَلة غير مفيدة، فالأوَّل أوْلى.
وأجاز الزمَخْشَري الوجهَيْن، ونسب الأوَّل لسيبَويه، ولم يَنْسِبِ الثَّانِي، بل قال: وَوَجْهٌ آخر، وهو أن يَرْتفعَا بالابْتداء، والخبر: «فَاقْطَعُوا».
وإنما اخْتَارَ سيبوَيْه أنَّ خبره مَحْذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجُمْلَة الطَّلَبِيَّة بعده لوجْهَيْن:
أحدهما: النَّصْب في مثله هو الوجه في كلام العرب، نحو: «زَيْداً فاضْرِبْهُ» لأجل الأمْرِ بعده.
قال سيبويه في هذه الآية: الوجْهُ في كلام العرب النَّصب، كما تقول «زَيْداً فاضْرِبْه»، ولكن أبتِ العَامَّةُ إلاَّ الرَّفع.
والثاني: دخول الفَاءِ في خَبَره، وعنده أنَّ «الفَاء» لا تدخل إلا في خبر الموصُول الصَّرِيح ك «الذي»، و «من»، بشُرُوط أخر مذكورة في كُتُبِ النَّحْو، وذلك لأنَّ الفَاء إنَّما دَخَلَتْ لِشَبَهِ المُبْتَدأ بالشَّرْط، واشْتَرَطُوا أن تَصْلُح لأداة الشَّرْط من كَوْنِهَا جُمْلَة فعلية مستقبلة المَعْنَى، أو ما يقوم مقامَها من ظَرْفٍ وشِبْهِهِ، ولذلك إذا لم تَصْلُح لأداة الشَّرْط،
319
لم يَجُزْ دخول الفَاء في [الخبر، وصِلَةُ «أل» لا تَصْلُح لِمُبَاشرة أدَاةِ الشَّرْط فلذلك لا تدخل الفاء في] خبرها، وأيضاً ف «ألْ» وصلَتُها في حكم اسْمٍ واحدٍ، ولذلك تَخَطَّاهَا الإعْرَاب.
وأما قِرَاءة عِيسى بن عمر، وإبراهيم: فالنَّصْب بفعل مُضْمَرٍ يُفَسِّره العَامِل في سببيهما نحو: «زَيْداً فأكْرِمْ أخاهُ»، والتقدير: «فعاقِبُوا السَّارِق والسَّارِقَة» تقدِّره فِعْلاً من معناه، نحو «زَيْداً ضَرْبتُ غُلامه»، أي: «أهَنْتُ زَيْداً».
ويجُوز أن يقدَّر العامِل موافقاً لَفْظاً؛ لأنَّه يُسَاغ أن يُقَال: قطعت السَّارِق وهذه قراءة واضِحَة لمكان الأمر بعد الاسم المُشْتَغِل عَنْهُ.
قال الزَّمَخْشَرّيُّ: وفَضَّلها سيبوَيْه على قِرَاءَة العامَّة؛ لأجل الأمْر؛ لأن «زَيْداً فاضْرِبْه» أحْسَن من «زيدٌ فاضْرِبه».
وفي نقله تَفْضيل النَّصْب على قراءة العامَّة نظر، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه.
قال سيبويه: الوجْهُ في كلام العرب النَّصْب، [كما تقُول: «زيداً اضْرِبْه» ؛ ولكن أبت العامَّة إلا الرَّفع، وليس في هذا ما يَقْتَضِي تَفْضِيل النَّصْب بل مَعْنى] كلامه أن هذه الآية لَيْسَتْ من الاشتِغَال في شَيْء؛ إذ لو كان من باب الاشْتِغَال لكانَ الوَجْهُ النَّصب، ولكن لم يقْرَأها الجُمْهُور إلا بالرَّفْع، فَدَلَّ على أنَّ الآيَة محمولة على كلامين كما تقدَّم، لا على كلامٍ واحد، وهذا ظَاهِرٌ.
وقد رد ابن الخَطِيب على سيبويه بِخَمْسَةِ أوْجُه، وذلك أنه فهم كما فهم الزَّمَخْشَرِيُّ من تفضيل النًّصْب، فقال: الذي ذهب إليه سيبويه ليس بِشَيْء، ويدل على فَسَادِه وُجُوه:
الأول: أنه طعنٌ في القِرَاءة المُتَوَاتِرَة المَنْقُولة عن الرَّسُول وعن أعْلام الأمَّة، وذلك بَاطِلٌ قَطْعاً، فإن قال سيبويه: لا أقُول: إنَّ القراءة بالرَّفْع غير جَائِزة، ولكنِّي أقُول: قِرَاءة النَّصْب أوْلَى، فنقول: رَدِيءٌ أيْضاً؛ لأن تَرْجِيح قِرَاءة لم يَقْرَأ بِها إلاَّ عيسَى بن عمر على قِرَاءَة الرَّسُول وجميع الأمَّة في عَهْد الصَّحابة والتَّابعين أمر مُنْكَر، وكلام مَرْدُودٌ.
الثاني: لو كانت القراءة بالنَّصْب أوْلَى، لَوَجَبَ أنْ يكون في القُرَّاء من يَقْرأ: ﴿واللّذين يَأتيَانها مِنكُمْ فآذُوهُمَا﴾ [النساء: ١٦]، بالنَّصْب، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء من يقرأ كذلك، عَلِمْنا سقوط هذا القَوْل.
320
الثالث: أنَّا إذا جَعَلْنَا «السَّارِق والسَّارِقة» مُبْتَدأ، وخبره مُضمَر وهو الذي يقدِّره «فيما يُتلَى عليْكُم» بقي شيءٌ آخر يتعلَّق به الفاء في قوله: «فَاقْطَعُوا».
فإن قال: الفاء تتعلَّق بالفعل الذي دلَّ عليه قوله: «والسَّارِق والسَّارِقَةُ»، يعني: أنَّه إذا أتى بالسَّرِقة فاقْطَعُوا يَدَهُ.
فنقول: إذا احْتجت في آخِر الأمْر أنْ تَقُول: السَّارِق والسَّارِقة تقديره: «مَنْ سَرَقَ»، فاذكر هذا أوَّلاً، حتى لا تَحْتَاج إلى الإضْمَار الذي ذكرته.
الرابع: أنا إذا اخْتَرْنَا القراءة [بالنصب لم يَدُلَّ ذلك على أنَّ السَّرِقة علةٌ لوجُوب القَطْع، وإذا اخْتَرْنَا القِرَاءة بالرَّفْع] أفادتِ الآيةُ هذا المَعْنَى ثم إنَّ هذا المعنى مُتأكد بقوله تعالى: ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا﴾، فثَبَت أنَّ القراءة بالرَّفْعِ أوْلَى.
الخامس: أنَّ سيبويه قال: «وَهُم يُقَدِّمُون الأهَمَّ، والذي هم بِبَيَانه أعْنَى» فالقِرَاءة بالرَّفْع تَقْتَضِي تقْديم ذكر كَوْنه سَارِقاً على ذِكْرِ وُجُوبِ القَطْع، وهذا يَقْتَضِي أن يكُون أكبر العِنَايَةِ مَصْرُوفاً إلى شَرْح ما يتعلَّق بِحَال السَّارِق مِنْ حَيْثُ إنَّه سَارِقُ.
وأمَّا قراءة النَّصْبِ، فإنها تَقْتَضِي أنْ تكُون العِنَايَةُ بِبَيانِ القَطْع أتم من العِنايَة بكونه سَارِقاً، ومَعْلُوم أنَّه لَيْسَ كذلك، فإنَّ المَقصُود في هذه الآية تَقْبِيحُ السَّرِقَة، والمُبَالَغة في الزَّجْر عنها، فثبت أنَّ القراءة بالرَّفْع هي المُتعينَة. انتهى ما زعَم أنه رَدّ على إمَام الصِّنَاعة، والجواب عن الوجْهِ الأوَّل ما تقدَّم جواباً عمَّا قالهُ الزَّمَخْشَرِي [وقد تقدَّم]، ويُؤيِّدُه نصُّ سيبويه، فإنَّه قال: وقد يَحْسُن ويستَقِيمُ: «عَبْدُ الله فاضْرِبْه»، إذا كان مَبْنِيّاً على مُبْتدأ مُظْهر أو مُضْمَر.
فأمَّا في المُظْهَر، فقوله: «هَذَا زَيْدٌ فاضْرِبْه» وإن شِئْتَ لم تُظْهِر هذا، ويعمل كعملِهِ إذا كان مُظْهراً، [وذلك] قولُك: «الهِلال والله فانْظُرْ إليه»، فَكَأنَّك قُلْت: «هذا الهِلالُ»، ثُمَّ جِئْت بالأمْر.
ومن ذلك قول الشَّاعِر: [الطويل]
١٩٦٣ - وقَائِلَةٍ:
321
هكذا سُمِعَ من العربِ تُنْشِدُهُ، يعني بِرَفْعِ «خَوْلان»، فمع قوله: «يَحْسُن ويستقيم» كيف [يكون] طاعِناً في الرَّفْع؟.
وقوله: «وإن قَالَ سيبويه... » الخ فسِيبَويْه لا يقول ذَلِكَ، وكَيْفَ يَقُولُهُ، وقد رَجح الرَّفع بما أوْضَحْتُهُ.
وقوله: «لَمْ يَقْرأ بها إلاَّ عيسى» لَيْس كما زَعَمَ بل قَرَأ بها جماعةٌ كإبْراهيم بن أبي عَبْلَة.
وأيضاً فهؤلاء لم يَقْرءُوهَا من تِلْقَاءِ أنْفُسِهِم، بل نَقَلُوهَا إلى أنْ تَتّصل بالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، غاية ما في البَابِ أنَّها لَيْسَت في شُهْرَةِ الأولى.
وعن الثاني: أنَّ سيبويه لم يَدَّعِ تَرْجيحَ النَّصْب حتى يُلْزَم بما قَاله، بل خَرَّج قراءة العامَّة على جُملتَيْن، لما ذكرت لَكَ فيما تقدَّم من دُخُول الفاءِ، ولذلك لمَّا مثَّل سيبويه جُمْلَة الأمْرِ والنَّهْي بعد الاسْمِ مثلهما عاريَتَيْن من الفَاء، قال: وذلِكَ قولك: «زَيْداً اضْربْه» و «عَمْراً امرُر به».
[وعن] الثالث: ما تقدَّم من الحِكْمَة المُقْتَضِيَة للْمَجِيء بالفاء، وكونها رَابِطَةٌ للحكم بما قَبْلَه.
وعن الرابع: بالمنع أن يكون بَيْن الرَّفْع والنَّصب فَرْق، بأنَّ الرَّفع يَقْتَضِي العِلَّة، والنَّصْب لا يَقْتَضِيه، وذلك أنَّ الآيَة من باب التَّعْلِيل بالوَصْفِ المرتَّب عليه الحُكْم، ألا ترى أن قولك: «اقطع السَّارق» يفيد العِلَّة، [أي: إنَّه] جعل عِلَّة القَطْع اتِّصافه بالسَّرِقة، فهذا يُشْعِر بالعِلَّة مع التصريح بالنصب.
الخامس: أنهم يُقَدِّمون الأهَمَّ، حيث اخْتَلَفَتِ النِّسْبَةُ الإِسْنَادية كالفاعل مع المفعول، ولنسرد نصّ سيبويه ليتبين ما ذكرْنَاه.
قال سيبَوَيْه: فإن قدَّمْت المَفْعُول، وأخَّرْت الفاعل جرى اللَّفظ كما جَرَى في «الأوَّل»، يعني في «ضَرَب عَبْدُ الله زَيْداً» قال: «وذلك: ضَرَبَ زيداً عبد الله لأنَّك إنَّما أردت به مُؤخَّراً ما أرَدْت به مُقَدَّماً، ولم تُرِدْ أن يَشْتَغِل الفِعْل بأوَّل منه، وإن كان مُؤخَّراً في اللَّفْظ، فمن ثَمَّ كان حَدُّ اللَّفْظِ أن يكون فيه مُقَدَّماً، وهو عربي جيد كثير، لأنهم يُقَدِّمُون الذي بَيَانُه أهَمُّ لهم، وهم ببيانهِ أعْنَى، وإن كانا جَمِيعاً يُهِمَّانِهم ويعنيانهم». والآيَةُ الكَريمَةُ لَيْسَت من ذلك.
قوله: «أيْدِيهمَا» جمع واقعٌ موقِع التَّثْنِية: لأمْن اللَّبْس، لأنَّهُ معلُوم أنَّه يقطع من كل
322
سَارِق يَمِينه، فهو من باب ﴿صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤]، ويدلُّ على ذلك قراءة عبد الله: «فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمَا» واشْتَرَط النَّحْوِيُّون في وُقُوع الجَمْعِ موقع التَّثْنِية شُرُوطاً، من جملتها: أنْ يكون ذلك الجُزْء المُضَاف مُفْرَداً من صاحِبِه نحو: «قُلُوبكما» و «رُوس الكَبْشَيْنِ» لأمْنِ الإلْبَاس، بخلافِ العَيْنَيْنِ واليَدين والرِّجليْن، لو قلت: «فَقَأت أعينهما»، وأنت تعني عينيهما، و «كتَّفْت أيديهمَا»، وأنت تعني «يديهما» لم يَجْزْ للَّبْسِ، فلوْلاَ أنَّ الدَّلِيل دَلَّ على أنّ المُرَاد اليَدَان اليُمْنَيَان لما ساغَ ذلك، وهذا مُسْتَفِيض في لِسانِهم - أعني وُقُوع الجَمْع مَوْقِع التَّثْنِيَة بِشُرُوطه - قال تعالى:
﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤]، ولنذكر المسْألة، فنقول: كُلُّ جزْأين أضيفا إلى كِليْهِما لفظاً أو تقديراً، وكانا مُفْرَدَيْن من صَاحبيْهِمَا جاز فيهما ثلاثة أوجُه:
الأحسن: الجمع، ويليه الإفْرَاد عند بَعْضِهم، ويليه التَّثْنِية، وقال بعضهم: الأحْسَنُ الجَمْع، ثم التَّثْنِية، ثم الإفْرَاد، نحو: «قَطَعْتُ رُءُوس الكَبْشَيْن، ورَأس الكَبْشَيْن ورَأسَي الكَبْشَين».
وقال سامَحَهُ اللَّهُ وعَفَا عَنْهُ: [السريع أو الرجز]
خَوْلانُ فَانِكحْ فَتَاتَهُمْ وَأكْرُومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا
١٩٦٤ - ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ
فقولنا: «جزآن» تَحَرُّز من الشَّيئين المُنْفَصِلَيْن، لو قلت: «قَبَضت دَرَاهِمكُمَا» تعني: دِرْهَمَيْكُما لم يَجُزْ لِلَّبْسِ، فلو أمِنَ جَازَ، كقوله: «اضْرِبَاه بِأسْيَافِكُمَا» «إلى مَضَاجِعِكُمَا»، وقولنا: «أُضِيفَا» تحرُّز من تفرُّقِهِمَا، كقوله: ﴿على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى﴾ [المائدة: ٧٨]، وقولنا: «لَفْظاً»، تقدَّم مِثَاله، فإنَّ الإضافَة فيه لَفْظِيَّة.
وقولُنا: «أو تَقْدِيراً» نحو قوله: [الطويل]
١٩٦٥ - رَأيْتُ بَنِي البَكْرِيِّ فِي حَوْمَةِ الوَغَى كَفَاغِرَي الأفْوَاهِ عِنْدَ عَرينِ
فإن تقديره: كَفَاغِرين أفَواهَهُمَا.
وقولنا: «مُفَرَدَيْن» تحرُّز من العَيْنَين ونحوهما، وإنما اخْتِير الجَمْعُ على التَّثْنِية، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِية، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِيَةِ في الضَّمِّ، وبعده المُفْرد لعدم الثِّقَلِ، هذا عِنْد بَعْضِهِم قال: لأنَّ التَّثْنِيَة لم ترد إلا ضرورةً، كقوله - رحمةُ الله عليه -[الطويل]
323
١٩٦٦ - هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهمَا عَلَى النَّابحِ العَاوِي أشَدَّ رِجَامِ
بخلاف الإفْرَاد فإنَّه ورد في فَصِيح الكلام، ومنه: «مَسَحَ أذنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وبَاطِنَهُمَا».
وقال بعضهم: الأحسنُ الجَمْعُ، ثم التَّثْنِيَة، ثُمَّ الإفراد كقوله: [الطويل]
١٩٦٧ - حَمَامَةَ بَطْنِ الوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي سَقاكِ مِنَ الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْدِيَهُمَا: يَدَيْهُمَا، ونحوُهُ: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤] اكْتَفَى بتثنيةِ المضافِ إليه عَنْ تَثنيةِ المضافِ، وأُريد باليدين اليُمْنَيَان بدليلِ قراءةِ عبد الله: «والسَّارِقُونَ والسَّارِقَاتُ فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمْ» وردَّ عليه أبو حيَّان بأنهما لَيْسا بِشَيْئَيْنِ، فإن النوعَ الأوَّلَ مُطّرد فيه وضْعُ الجمعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، بخلافِ الثاني فإنه لا يَنْقَاسُ، لأن المتبادر إلى الذِّهْنِ من قولك: «قَطَعْتُ آذانَ الزَّيْدَيْن» :«أربعة الآذان» وهذا الردّ ليس بشيء؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على أنَّ المرادَ اليمنيان.

فصل من أول من قطع في حد السرقة؟


قال القُرْطُبي: أولُ مَنْ حُكم بقطع [اليد] في الجاهليةِ ابنُ المُغِيرةِ، فأمر الله بقطعِهِ في الإسلام، فكان أول سارقٍ قطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الإسلامِ، مِنَ الرِّجَالِ الخِيَارَ بْنش عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ومن النساء مُرَّة بنت سُفْيَانَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وقطع أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يَدَ الْفَتَى الذي سَرَقَ العِقْد، وقطع عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يدَ ابن سَمُرَة أخِي عَبْد الرَّحْمن بن سَمُرَة.

فصل لماذا بدأ الله بالسارق في الآية؟


قال القرطبيّ: بَدَأ الله بالسارقِ في هذه الآيةِ قَبْلَ السَّارقةِ، وفي الزِّنَا بدأ بالزانيةِ، والحكمةُ في ذلك أنْ يُقالَ: لما كان حُبُّ المالِ على الرجالِ أغلبُ، وشهوةُ الاستمتاعِ على النساءِ أغْلَبُ بدأ بهما في الموضعين.
قوله تعالى: «جَزَاءً» فيه أرْبعةُ أوجُهٍ:
أحدُها: أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مُقدَّرٍ، أيْ: جازُوهما جزاء.
الثاني: أنَّهُ مصدرٌ [أيضاً] لكنه منصوبٌ على معنى نوعِ المصدرِ؛ لأنَّ قوله: «فاقْطَعُوا» في قُوَّةِ: جَازُوهما بقطع الأيْدِي جَزَاءً.
324
الثالث: أنَّه منصوبٌ على الحالِ، وهذه الحال يحتملُ أن تكونَ من الفاعل، أي: مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما، وأنْ تكون من المضافِ إليه في «أيْدِيَهُمَا»، أي: في حال كونهما مُجَازَيْن، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه، لأنَّ المضاف جُزْؤهُ، كقوله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الحجر: ٤٧].
الرابع: أنَّهُ [مفعولٌ] مِنْ أجْلِهِ، أيْ: لأجْلِ الجزاءِ، وشروطُ النصب موجودة.
و «نَكَالاً» منصوبٌ كما نُصِب «جَزَاءً» ولم يذكر الزمخْشريُّ فيهما غيرَ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ.
قال أبُو حيان: «تبع في ذلك الزَّجَّاج»، ثم قال: «وليس بجيِّدٍ إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ، فيكون ذلك على طريقِ البدلِ، وأمّا إذا كانا مُتَبَاينين، فلا يجوزُ ذلك إلا بوَسَاطَةِ حَرْفِ العطفِ».
قال شهابُ الدِّين: النَّّكالُ: نَوْعٌ من الجزاء فهو بدلٌ منه، على أنّ الذي يَنْبغي أن يُقَال هنا إنَّ «جَزَاءٌ» مفعول من أجله، العامل فيه «فاقْطَعُوا»، فالجزاءُ عِلةٌ للأمر بالقطع، و «نَكَالاً» مفعولٌ مِن أجْله أيضاً العامل فيه «جَزَاءً»، والنَّكَالُ عِلّةٌ للجزاءِ، فتكون العلةُ مُعَلَّلةً بِشَيْءٍ آخرٍ، فتكون كالحال المتداخِلَةِ، كما تقول: «ضربتُه تَأدِيباً له إحْسَاناً إلَيْه»، فالتأدِيبُ علَّة للضرب، والإحسانُ علة للتأديب، وكلامُ الزمخشريِّ والزَّجاج لا يُنَافِي ما ذكرنا فإنَّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما: «جزاءً» مفعولٌ مِنْ أجلْه، وكذلك «نَكَالاً» فتأمّله، فإنه وجه حسنٌ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزَّجَّاج، والتفصيلُ المذكورُ في قوله: «إلا إذا كان الجزاءُ هو النَّكَالَ»، ثم ظفرتُ بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له
﴿أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً﴾ [البقرة: ٩٠] أن يكون «بَغْياً» مفعولاً له، ثم ذكروا في قوله: ﴿أَن يُنَزِّلُ الله﴾ [البقرة: ٩٠] أنه مفعولٌ له ناصبُه «بَغْياً»، فهو علةٌ له، صَرَّحُوا بذلك فَظَهَرَ ما قلت ولله الحمد.
و «بما» متعلق ب «جَزَاءً»، و «ما» يجوزُ أنْ تكونَ مصدرية، أي: بكسبهما، وأنْ تكونَ بمعنى «الذي»، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي: بالذي كسباه، والباءُ سَبَبِيَّةٌ.

فصل


قال بعضُ الأصُوليِّين: هذه الآيةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أحدها: أنَّ الحكمَ مُعلّق على السرقةِ، ومطلقُ السرقَةِ غيرُ مُوجِب القطع، بَلْ لا بد
325
أنْ تكونَ هذه السرقةُ سرقَةً لمقدارٍ مَخْصُوصٍ من المالِ، وذلك القَدْرُ مذكورٌ في الآية، فكانت الآيةُ مُجْملةً.
وثانيها: أنَّهُ تعالى أوْجب قطع الأيمانِ والشمائِلِ وبالإجماع لا يجبُ قطعُهما معاً فكانت الآيةُ مجملةً.
وثالثها: أن اليدَ اسمٌ يتناولُ الأصابعَ وحدها، ويقعُ على الأصابع مع الكفِّ، والسَّاعِدِ إلى المِرْفَقَيْنِ، ويقعُ على كل ذلك إلى المنْكِبينِ، وإذا كانَ لَفْظُ اليدِ مُحْتَمِلاً لِكُلِّ هذه الأقسامِ والتعيينُ غَيْر مذكورٍ في هذهِ الآيةِ فكانتْ مُجْمَلةً.
ورابعها: أن قوله: «فاقْطَعُوا» خطابٌ مع قومٍ، فيحتملُ أنْ يكونَ هذا التكليفُ واقِعاً على مَجْموعِ الأمَّةِ، وأنْ يكونَ واقعاً على طائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ منهم، وأنْ يكونَ على شَخْص مُعَين منهم، وهو إمامُ الزمانِ كما ذهب إلَيْه الأكثرُون، ولمّا لم يكن التعيينُ مَذْكوراً في الآية كانتْ مُجْملةً، فثبتَ بهذه الوجُوهِ أنَّ هذه الآية مُجملةٌ على الإطلاقِ.
وقال قومٌ من المُحَقِّقِين: إنَّ الآية ليستْ مُجْمَلةً ألْبَتَة، وذلك لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ الألفَ واللامَ في قوله تعالى «والسارقُ والسارقةُ» قائمانِ مقام «الذي» والفاءُ في قوله «فاقْطَعُوا» للجزاءِ، وكما أنَّ التقدير: الذي سَرَقَ فاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ تأكّدَ هذا بقوله تعالى: ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا﴾ وذلك أنَّ الكَسْبَ لا بُدَّ وأنْ يكونَ المرادُ به ما تقدم ذِكرُهُ، وهو السَّرِقَةُ، فصار هذا الدليلُ على مَنَاطِ الحُكم [ومتعلقه] هو ماهية السرقة، ومقتضاهُ أنْ يَعُمَّ الجزاءُ أينما حصل الشرطُ. اللهَّم إلاّ إذا قام دليلٌ مُنْفصِلٌ يَقْتَضِي تخصيصَ هذا العامِّ، وأمّا قوله: «الأيْدِي» عامَّة، فنقول: مُقْتضاه قطعُ الأيدي، لكنَّه لما انعقَدَ الإجماعُ على أنه لا يجبُ قطعهُما معاً، ولا الابتداءُ [باليد] اليُسْرى، أخرجناه مِنَ الْعُمُومِ.
وأمَّا قوله: «لفظُ اليَدِ دَائرٌ بَيْنَ أشياء».
فنقولُ: لا نُسَلِّمُ، بل اليَدُ اسمٌ لهذا العُضْو إلى المنْكِبِ ولهذا السَّبَبِ قال تعالى: ﴿فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق﴾ [المائدة: ٦] ولولا دخولُ العَضُديْنِ في هذا الاسم، وإلاَّ لما احتيج إلى التَّقييدِ بقوله «إلى المرَافِقِ». فظاهرُ الآيةِ: يُوجِبُ قَطْعَ اليديْنِ من المنكِبَيْنِ كما هو قولُ الخوارج: إلاَّ أنَّا تركنا ذلكِ لدليلٍ مُنْفصل وأما قوله «رَابِعاً» يَحْتَمِلُ أن يكُونَ الخطابُ مع واحدٍ مُعَيَّنٍ.
قُلْنا: ظاهِرُه أنَّهُ خطابٌ مع [كُل أحدٍ]، تُرِكَ العملُ بِهِ، فلما صار مَخْصُوصاً بدليلٍ مُنْفَصِل فَيَبْقَى مَعمولاً به في الْبَاقِي فالحاصلُ أنَّا نقُولُ: الآيةُ عامةٌ صارت
326
مَخْصُوصَةً بدلائِلَ مُنْفَصِلَة في بعضِ الصُّوَرِ، فيبقى حُجَّة فيما عداهَا، وهذا القولُ أوْلَى من القول بأنها مُجْملة لا تُفِيدُ فائدَةً أصْلاً.

فصل لماذا لم يحد الزاني بقطع ذكره؟


قال القُرطبي: جعل الله حدَّ السرقة قطعَ اليدِ لتناوُلها المالَ، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنَا قطعَ الذَّكرِ مع مُوافقَةِ الفاحشة به لأمورٍ:
أحدها: أن للسارقِ مثلَ يدِهِ التي قُطِعت، فإن انْزَجَرَ بِها اعتاضَ بالباقية، وليس للزَّانِي مثلُ ذكره، إذا قُطِعَ ولم يعتض بغيره لو انْزَجَرَ بقطعِهِ.
الثاني: أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيره، وقطعُ يدِ السَّارقِ ظاهرٌ، وقطعُ الذكرِ في الزنا باطنٌ.
الثالث: أنَّ قطع الذكرِ إبطال للنَّسْلِ وليس في قطع اليد إبطالٌ للنسلِ.

فصل


قال جمهورُ الفقهاءِ: لا يجبُ القطعُ إلا بشرطيْن: قدرُ النصابِ، وأنْ تكونَ السرقةُ من حِرْزٍ.
قال ابن عباسٍ وابنُ الزُّبيْرِ والحسنُ البصريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - القدرُ غيرُ مُعْتبرٍ، والقطعُ واجبٌ في القليلِ والكثيرِ، والحرزُ أيضاً غَيْرُ مُعْتبرٍ، وهذا قولُ داود الأصْفهاني وقولُ الخوارجِ، وتمسكوا بعمومِ الآيةِ، فإنَّه لم يُذْكَرْ فيها النصابُ ولا الحرزُ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ، وبالقياسِ غيرُ جائزٍ، واحتج الجمهورُ بأنه لا حاجة إلى القول بالتخصيصِ، بل نقولُ إنَّ لفظ السرقةِ لفظٌ عربيٌّ، ونحنُ بالضرورة، نعلمُ أنَّ أهْلَ اللغَةِ لا يقُولُونَ لِمَنْ أخذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَة الغَيْرِ أو تبنةً واحدةً أو كِسْرةً صغيرةً أنَّهُ سرق مالهُ، علمنا أنَّ أخذ مالِ الغيْرِ كيفما كان لا يُسَمَّى سرقَةً، وأيْضاً فالسرقةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسارقَةِ عيْنِ المالِكِ [وإنَّما يُحْتَاجُ إلى مُسارقةِ عيْنِ المالِكِ] لَوْ كان المسروقُ أمْراً يتعلقُ به الرغبةُ في مَحَلّ الشُّحِّ والضِّنَّةِ حتَّى يَرْغَب السارقُ في أخذِهِ ويتضَايَقُ المسروقُ مِنْه فِي دَفْعِهِ إلى الغَيْرِ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وُجوبِ القطعِ أخْذ المالِ مِنْ حِرْزِ المثل، لأنَّ مَا لا يكُونُ موضُوعاً في الْحِرْزِ لا يُحْتَاجُ في أخْذِه إلى مُسَارقَة الأعْيُنِ، فلا يُسَمَّى أخْذُه سَرِقَةً.
قال داودُ: نحن لا نُوجِبُ القطعَ في سرقة الجبَّةِ الواحدةِ، بل في أقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مالاً، وفي أقَلِّ شَيْءٍ يجري فيه الشُّحُّ والضِّنَّةُ، وذلك لأن مقاديرَ القِلَّةِ والكثْرة غيرُ
327
مَضْبُوطَةٍ، فربَّما اسْتَحْقَر الملكُ الكبيرُ آلافاً مُؤلَّفَةً، وربما اسْتَعْظَمَ الفقيرُ طسُّوجاً، ولهذا قال الشافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لو قال: لِفُلانٍ عليَّ مالٌ عَظِيمٌ، ثم فسره بالحبةِ، يقبل قوله فيه لاحتمالِ أنَّه كان عظيماً في نظره، أو كان عظيماً عنده لغاية فَقرِهِ وشدةِ احتياجِهِ إليه، ولما كانت مقاديرُ القِلَّةِ والكَثْرةِ غيْرَ مَضْبُوطةٍ، وَجَبَ بِنَاءُ الحكمِ على أقل ما يُسَمَّى مالاً.
وليس لقائلٍ أنْ يَسْتَبْعِدَ ويقُولَ: كيف يجوزُ [القطعُ في سرقةِ] الطسوجة الواحدةِ، فإنَّ الملحد قد جعلَ هذا طَعْناً في الشريعةِ فقال: اليدُ لما كانت قيمَتُها خَمسمائَةِ دينارٍ من الذَّهَبِ، فكيف تُقْطَعُ لأجل القليلِ من المالِ؟ ثُم إنْ أجَبْنَا عن هذا الطعنِ، بأنَّ الشرعَ إنما قطعَ يدهُ بسبب أنه تَحمَّل الدناءَةَ والخساسَةَ في سرقَةِ ذلك القدرِ القليلِ، فلا يَبْعُدُ أنْ يعاقبه الشرعُ بسبب تلك الدناءَةِ بهذه العُقُوبةِ العظيمةِ، وإذاً كَانَ هذا الجوابُ مَقْبُولاً مِنَّا في إيجابِ القطْعِ في القليلِ والكثيرِ، قال: ومِمَّا يدلُ على أنَّهُ لا يجوزُ تخصيصُ عمومِ القرآنِ هَاهُنَا بخبرِ الواحدِ، وذلك لأن القائلينَ بتخصيصِ هذا العمومِ اختلفُوا على وجوهٍ:
قال الشافعيُّ: يجبُ القطعُ في رُبْعِ دينارٍ، وروى فيه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا قَطْعَ إلاَّ في رُبْعِ دينارٍ» وقال أبُو حنيفَةَ: لا يجبُ إلاَّ في عشرةِ دراهم مضرُوبة، وروى قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا قطع إلا في ثَمنِ المجَنِّ» قال: والظاهر أنَّ ثمن المجَنّ لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم.
وقال مالكٌ وأحْمدُ وإسحاقُ: يُقدر بثلاثةِ دراهم أو رُبْعِ دينار وقال ابنُ أبِي لَيْلَى: مُقَدَّرٌ بخمسةِ دراهمَ، وكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتهدين يطعنُ في الخبرِ الذي يرويه الآخرُ، فعلى هذا التقدير: فهذهِ المُخَصصَاتُ صارتْ متعارِضةً، فوجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ مِنْها: ويُرْجع في معرفةِ حُكْمِ الله تعالى إلى ظاهرِ القرآنِ.
قال: وليس لأحدٍ أنْ يقول: إن الصحابة أجْمَعُوا على أنَّه لا يجبُ القطعُ إلاّ في مقدار مُعَيَّنٍ، قال: لأنَّ الحسنَ البصريَّ كان يُوجِبُ القطعَ بمجردِ السَّرِقَةِ، وكان يقولُ:
328
احذر من قطع درهم، ولو كان الإجماعُ مُنْعَقِداً لما خالف الحسنُ البصري فيه مع قربه من زمنِ الصحابةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وشدةِ احتياطِهِ فيما يتعلقُ بالدينِ، فهذا تقريرُ مذهَبِ الحسنِ البصْرِيِّ ومذهبِ داوُدَ الأصْفَهانِي، وأمَّا الفقهاءُ فقالوا: لا بُدَّ فِي وجوبِ القطعِ مِنَ الْقَدْرِ.
فقال الشافعيُّ: القطعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً وهو نِصابُ السرقةِ، وسائِرُ الأشياءِ تُقَوَّمُ بِهِ، وقال أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ لاَ يَجِبُ القطعُ في أقَل مِنْ عَشَرةِ دراهم مَضْرُوبة. ويُقَوَّم غيرُها به، وقال مالكٌ وأحمدُ: رُبْعُ دينارٍ [أو] ثلاثةُ دَرَاهِمَ، وقال ابنُ أبِي لَيْلَى: خَمْسةُ دراهِم، وحجةُ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ما رُوِي عن عائشةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أن رسولَ الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم قال: «القَطْعُ فِي رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً».
وحُجَّةُ مالكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ما رُوِيَ عَنْ نافعٍ عن ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَطَعَ سارِقاً في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثلاثةُ دَرَاهِمَ.
ورُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ قطعَ السارقَ في أتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بثلاثةِ دراهِمَ من صرف اثني عشر دينار، واحْتَجّ أبو حَنيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بأنَّه قول ابن مسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وبأن المجَنّ قيمتُهُ عَشَرةُ دراهِمَ، واحتج ابنُ أبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِما روى أبُو هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقُ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، ويَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدهُ».
قال الأعْمَشُ: كانوا يَرَوْنَ أنَّهُ بيضُ الحديد والحبلُ، يرون أنه منها تُساوِي ثلاثةَ دراهم، ويحتج بهذا مَنْ يرى القطع في الشيء القليلِ، وعند الأكثرينَ محمولٌ على ما قاله الأعْمَشُ لحديثِ عائشةَ - رضي الله تعالى عنها -.
329
فإنْ قيل: إذا سرَقَ المالَ مِنَ السَّارِقِ، فقال الشافِعيُّ: لا يُقْطَعُ لأنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مالكٍ ومِنْ غَيْرِ حِرْزٍ.
وقال أصحابُ مالكٍ: حُرْمةُ المالِكِ عليه لم تَنْقَطِعْ عنه، وَيَدُ السارقِ كلا يد كالغاصب إذا سُرِقَ منه المالُ المغصُوب قُطع، فإنْ قيل: حِرْزُهُ كَلاَ حِرْزٍ. فالجوابُ: الحرْزُ قائمٌ والمالِكُ قائمٌ، ولم يَبْطُلِ الملك فيه.

فصل المذاهب فيما إذا كرر السارق السرقة


قال الشافعي: الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى، وفي الثانية رجله اليسرى وإذا سرق في الثالثة تقطع يده اليسرى، وفي الرابعة: رِجْلُهُ اليُمْنَى؛ لأنَّ السرقةَ عِلّةُ القطعِ وقد وُجدت وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأحْمَدُ والثَّوْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: لا يُقْطَع في الثالثةِ والرابعةِ، بلْ يُحْبَسُ.

فصل


قال أبُو حَنِيفَة والثَّوْرِيُّ: لا يُجْمَعُ بَيْنَ القَطْعِ والغُرْمِ، فإن غُرّم فلا قَطْعَ، وإن قُطِعَ سَقَطَ الغُرْمُ، وقال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يُغرّم إنْ تلف المسروقُ، وإنْ كان بَاقِياً رَدَّهُ.
وقال مَالِكٌ: يُقْطَع] بِكُلِّ حالٍ، ويُغرّم إنْ كان غَنِياً، ولا يَلْزَمُه إن كان فقيراً، واستدل الشافعي بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «على الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤدِّيَهُ»، ولأنَّ المسروقَ لَوْ كان بَاقِياً وَجَبَ رَدُّهُ بالإجْماعِ، ولأنَّ حق الله لا يَمْنَعُ حَقَّ العبادِ، بِدليلِ اجتماع الجزاءِ والقِيمةِ في الصَّيْدِ المَمْلُوكِ، ولأنَّه بَاقٍ على مُلْكِ مالِكِه إلى وقْتِ القطع.
330
فإنْ قيل: الحِرْزُ عادة ما نُصِبَ لِحفْظِ الأموالِ، وهو يَخْتَلِفُ في كُلِّ شَيْءٍ بحسبِ عَادَتِهِ.
قال ابنُ المُنْذرِ: لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ ثَابتٌ.
فالجوابُ: وإنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لا قَطْعَ لقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: «لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلاَ فِي حريسة جَبَلٍ، وإذَا آواها المراحُ والحرزُ فالقطعُ فيما بلغ ثمنَ المجَنّ» وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «ليسَ على خائنٍ ولا مُنْتَهبٍ ولا مُخْتلِس قطعٌ».
وإذا سَرَقَ من مالٍ فيه شُبْهَةٌ، كالعبدِ المسروقِ في مالِ سَيِّده، والولدِ من مال والدِهِ، والوالدِ من مالِ ولدِهِ، وأحدِ الشريكيْنِ من مالِ المشتركِ لا قَطْعَ عليه.

فصل فيما إذا اشترك جماعة في سرقة


إذا اشترك جماعةٌ في سرقَة نصابٍ مِنْ حِرْزٍ، فلا يَخْلُو: إمَّا أنَّ بعضهم يَقْدِرُ على إخراجه أوْ لا يَقْدِرُ إلا بمعاونِتِهم، فإنْ كان الأول فَقِيل: يُقْطَعُ، وقيل: لا يُقطعُ، وهو قولُ أبِي حَنيفَةَ والشافعي، فإذا نَقَبَ واحدٌ الحِرْزَ وأخَذَ الآخرُ، فإنْ كانَ انفردَ كل واحدٍ بِفعلِهِ دُونَ اتفاقٍ منهما، فلا قطْع على واحدٍ منهما، وإنْ تفاوتَا في النَّقْبِ وانفردَ أحدهما بالإخراجِ خاصةً، فإنْ دخل أحدُهما وأخرجَ المتاعَ إلى باب الحرْزِ فأدخل الآخرُ يدَهُ فأخذه، فعليه القطعُ ويُعاقبُ الأولُ، وقيل: يُقْطعانِ وإنْ وضعه خارج الحِرْز فعليه القطعُ لا على الآخذِ.

فصل في حكم النبّاش


والقبرُ والمسجدُ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ النَّباشُ عند الجمهور، وقال أبُو حنيفةَ: لا يقطعُ؛ لأنَّه سرق مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مالاً مُعَرَّضاً لِلتَّلفِ لا مالِكَ لَهُ؛ لأنَّ الميِّتَ لا يملِكُ.

فصل


قال الشافعي: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لِلْمَوْلى إقَامةُ الحدِّ على ممَالِيكِه، وقال أبُو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يَمْلِكُ ذلكَ.
331

فصل في وجوب نصب إمام


احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ يجبُ على الأمَّة أن يُنَصِّبوا لأنفسهم إماماً مُعَيَّناً، لأنَّهُ تعالى أوْجبَ بهذه الآيَة إقامَةَ الحدِّ على السُّرَّاق والزُّنَاةِ فلا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يكُونُ مُخَاطَباً بهذا الخطابِ، وأجْمعتِ الأمةُ على أنَّه ليسَ لآحادِ الرعيَّةِ إقامةُ الحدودِ على الأحْرارِ الجُنَاةِ إلاَّ الإمامَ، فلمَّا كان هذا تَكْلِيفاً جازِماً، ولا يمكنُ الخروجُ مِنْ عُهْدَتِه، إلا بِوُجودِ وجبَ نَصْبُهُ؛ لأنَّ ما لا يَأتي الواجبُ إلا به، وكانَ مقدوراً للمُكلَّفِ فهو واجبٌ.

فصل


قالتِ المعتزلةُ: قوله تعالى: ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا﴾ يَدُلُّ على تَعْلِيلِ أحْكامِ الله تعالى؛ لأنَّه صَريحٌ في أنَّ القطعَ إنَّما وجبَ مُعَلّلاً بالسرقَةِ.
وجوابُهُ ما تقدمَ في قوله ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا﴾ [المائدة: ٣٢].
قوله تعالى ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ والمعنى: عَزيزٌ في انْتِقامِهِ، حكِيمٌ في شرائِعِهِ وتكالِيفِه، قال الأصْمَعِيُّ: كنتُ أقرأُ سورةَ المائدة ومعي أعرابيٌّ. فقرأتُ هذه الآيَةَ فقلْتُ: واللَّه غفورٌ رحيمٌ، سَهْواً فقال الأعرابيُّ: كلامُ من هذا، فقلتُ: كلامُ الله، فقال: أعِدْ، فأعَدْتُ: والله غفور رحيمٌ ثُمَّ تَنَبَّهْتُ فقلتُ: «والله عزيزٌ حكيمٌ» فقال: الآنَ أصَبْتَ.
قُلْتُ: كيف عرفتَ؟ فقال: يا هذا، عَزَّ فحكم فأمر بالقطْعِ، فلَوْ غَفر ورحِمَ لما أمر بالقَطْعِ.
قوله تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ الجارُّ [والمجرور في قوله: ﴿مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ ] متعلِّقُ ب «تاب» و «ظُلْم» مصدرٌ مضافٌ إلى فاعله، أيْ: مِنْ بعد أنْ ظلمَ غَيْرَهُ بأخْذِ ماله.
وأجاز بعضُهم أنْ يكونَ مُضافاً للمفعولِ، أيْ: مِنْ بعد أنْ ظلم نَفْسَهُ، وفي جوازِ هذا نَظَرٌ؛ إذْ يصيرُ التقديرُ: مِنْ بَعْد أنْ ظلمه، ولو صرَّحَ بهذا الأصل لم يجز؛ لأنَّهُ يؤدِّي إلى تَعَدِّي فعل المضمرِ إلى ضَمِيره المتصلِ، وذلك لا يجوزُ إلا في بابِ: «ظَنّ وفَقَدَ وعدِمَ»، كذلك قاله أبُو حيان.
وفي نظرِه نَظَرٌ؛ لأنَّا إذا حللنا المصدر لحرفٍ مَصْدرِيٍّ وفِعْلٍ، فإنَّما يأتِي بعد الفعلِ بما يَصِحُّ تقديرُه، وهو لفظُ النَّفْسِ، أيْ: مِنْ بَعْد أنْ ظَلَمَ نَفْسه. انتهى.
332

فصل في معنى الآية


المعنى: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ﴾ سرقته «وَأصْلَحَ» العملَ، «فإنَّ اللَّهَ» تعالى ﴿يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ هذا فيما بينَهُ وبَيْنَ الله تعالى، فأمَّا القطعُ فلا يَسْقُطُ بالتَّوْبةِ عند الأكْثرينَ.
قال مُجاهِدٌ: السارقُ لا توبة له، فإذا قُطِعَ حصلتِ التوبةُ، والصحيحُ: أن القطعَ جزاءٌ على الجِنايةِ لقوله تعالى: ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله﴾ فلا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدُ، وتوبَتُه الندمُ على ما مضَى والعزمُ على تركِهِ في المستقبلِ، وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ مَنْ تاب من بعد ظلمه وأصْلح، فإنَّ الله تعالى يقبلُ توبَتَهُ.
فإن قيل: قوله «وأصْلَحَ» يدلُّ على أنَّ مجردَ التوبةِ غيرُ مقبولٍ. فالجوابُ: المرادُ وأصلح التوبة بنيةٍ صادقةٍ وعزيمةً صحيحةً خاليةٍ عن سائرِ الأغْرَاضِ.

فصل في أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى


دَلَّتِ الآيةُ على أنَّ قبولَ التوبة غيرُ واجبٍ على الله تعالى، لأنَّهُ يُمْدحُ بقبول التوبةِ، والتمدُّحُ إنما يكونُ بفعل التَّفَضُّلِ والإحْسَانِ لا بأدَاءِ الوَاجِبَاتِ.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ الآية.
لما ذكر عقابَ السَّارِقِ، ثُمَّ ذَكرَ أنَّهُ يقبلُ توبتَهُ إنْ تاب أرْدَفَهُ ببيان أنه يفعلُ ما يشاء ويَحْكُم ما يريدُ فيُعَذبُ من يشاءُ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ وإنَّما قدم التعذيبَ على المغفرةِ، لأنَّهُ في مقابلةِ السرقةِ، والسرقةُ مقدمةٌ على التوبةِ.
قال السديُّ والكَلْبِيُّ: يعذبُ مَنْ يشاءُ ممَّنْ ماتَ على كُفْرِهِ، وقال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يعذبُ مَنْ يشاءُ على الصَّغيرةِ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ الكبيرةَ والله غفورٌ رحيمٌ.
قال القُرْطُبِيُّ: هذه الآيةُ خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أيْ: لا قرابة لأحدٍ بينه وبين الله تُوجِبُ المحاباةَ حتى يقول قائلٌ: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، والحدودُ تقامُ على كُلِّ مَنْ قارف حدًّا.
333
قوله تعالى :﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ ﴾ الجارُّ [ والمجرور في قوله :﴿ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ ﴾ ]١ متعلِّقُ ب " تاب " و " ظُلْم " مصدرٌ مضافٌ إلى فاعله، أيْ : مِنْ بعد أنْ ظلمَ غَيْرَهُ بأخْذِ ماله.
وأجاز بعضُهم أنْ يكونَ مُضافاً للمفعولِ، أيْ : مِنْ بعد أنْ ظلم نَفْسَهُ، وفي جوازِ هذا نَظَرٌ ؛ إذْ يصيرُ التقديرُ : مِنْ بَعْد أنْ ظلمه، ولو صرَّحَ بهذا الأصل لم يجز ؛ لأنَّهُ يؤدِّي إلى تَعَدِّي فعل المضمرِ إلى ضَمِيره المتصلِ، وذلك لا يجوزُ إلا في بابِ :" ظَنّ وفَقَدَ وعدِمَ "، كذلك قاله أبُو حيان.
وفي نظرِه نَظَرٌ ؛ لأنَّا إذا حللنا المصدر لحرفٍ مَصْدرِيٍّ وفِعْلٍ، فإنَّما يأتِي بعد الفعلِ بما يَصِحُّ تقديرُه، وهو لفظُ النَّفْسِ، أيْ : مِنْ بَعْد أنْ ظَلَمَ نَفْسه. انتهى.

فصل في معنى الآية


المعنى :﴿ فَمَن تَابَ منْ بَعْد ﴾ سرقته " وَأصْلَحَ " العملَ، " فإنَّ اللَّهَ " تعالى ﴿ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ هذا فيما بينَهُ وبَيْنَ الله تعالى، فأمَّا القطعُ فلا يَسْقُطُ بالتَّوْبةِ عند الأكْثرينَ.
قال مُجاهِدٌ٢ : السارقُ لا توبة له، فإذا قُطِعَ حصلتِ التوبةُ، والصحيحُ : أن القطعَ جزاءٌ على الجِنايةِ لقوله تعالى :﴿ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ ﴾ فلا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدُ، وتوبَتُه الندمُ على ما مضَى والعزمُ على تركِهِ في المستقبلِ، وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ مَنْ تاب من بعد ظلمه وأصْلح، فإنَّ الله تعالى يقبلُ توبَتَهُ.
فإن قيل : قوله " وأصْلَحَ " يدلُّ على أنَّ مجردَ التوبةِ غيرُ مقبولٍ. فالجوابُ : المرادُ وأصلح التوبة بنيةٍ صادقةٍ وعزيمةٍ صحيحةٍ خاليةٍ عن سائرِ الأغْرَاضِ.

فصل في أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى


دَلَّتِ الآيةُ على أنَّ قبولَ التوبة غيرُ واجبٍ على الله تعالى، لأنَّهُ يُمْدحُ بقبول التوبةِ، والتمدُّحُ إنما يكونُ بفعل التَّفَضُّلِ والإحْسَانِ لا بأدَاءِ الوَاجِباتِ.
١ سقط في أ..
٢ ينظر: تفسير البغوي ٢/٣٦..
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ الآية.
لما ذكر عقابَ السَّارِقِ، ثُمَّ ذَكرَ أنَّهُ يقبلُ توبتَهُ إنْ تاب أرْدَفَهُ ببيان أنه يفعلُ ما يشاء ويَحْكُم ما يريدُ فيُعَذبُ من يشاءُ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ وإنَّما قدم التعذيبَ على المغفرةِ، لأنَّهُ في مقابلةِ السرقةِ، والسرقةُ مقدمةٌ على التوبةِ.
قال السديُّ والكَلْبِيُّ١ : يعذبُ مَنْ يشاءُ ممَّنْ ماتَ على كُفْرِهِ، وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - : يعذبُ مَنْ يشاءُ على الصَّغيرةِ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ الكبيرةَ والله غفورٌ رحيمٌ.
قال القُرْطُبِيُّ٢ : هذه الآيةُ خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أيْ : لا قرابة لأحدٍ بينه وبين الله تُوجِبُ المحاباةَ حتى يقول قائلٌ :﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [ المائدة : ١٨ ]، والحدودُ تقامُ على كُلِّ مَنْ قارف حدًّا.
١ ينظر: البغوي ٢/٣٦..
٢ ينظر: تفسير القرطبي ٦/١١٤..
قد تقدم أنَّ «يَحْزُن» يُقْرأ بفتح الياءِ وضمِّها وأنهما لُغتانِ، وهل هما بمعنًى، أو بينهما فَرْقٌ.
والنَّهْيُ للنبيّ في الظاهرِ، وهو مِنْ بابِ قوله: «لا أرَيَنَّك هاهُنَا»، أي: لا تَتَعَاطَ أسباباً يحصلُ لك بها حُزْنٌ من جهتِهم، وتقدم لك تحقيقُ ذلك مِرَاراً.
وقولُ أبي البقاءِ في «يَحْزُنْكَ» :«والجيدُ فتحُ الياءِ وضمُّ الزَّاي، ويُقْرأ بِضَمِّ الياءِ، وكسر الزَّاي مِنْ: أحْزَنَنِي وهي لغةٌ» - لَيْسَ بجيِّدٍ؛ لأنها قراءةٌ متواترةٌ، وقد تقدَّم دليلُها في آل عمران [الآية ٧٦]. و «يسارعون» من المسارعة، و «فِي الكفر» متعلقٌ بالفعل قبلهُ، وقد تقدم نظيرُها في آل عمران. واعلمْ أنه تعالى خاطب النبيَّ عليه الصلاةُ والسلام بقوله تعالى: ﴿ياا أَيُّهَا النبي﴾ في مواضِعَ كثيرةٍ، ولم يخاطِبْهُ بقوله: ﴿ياأيها الرسول﴾ إلاّ في موضِعَيْنِ في هذه السورة.
أحدهما: هاهُنا، والثانية: ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ﴾ [المائدة: ٦٧] وهذا خطابُ تشريفٍ وتعظيمٍ.
واعلمْ أنه تعالى لما بيَّن بعضَ التكاليف والشرائعِ، وكان قد علم من بعضِ النَّاسِ المسارعةَ إلى الكفرِ لا جَرَمَ صبَّر رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على تَحَمُّلِ ذلك، وأمرهُ بأنْ لا يَحْزنَ لأجلِ ذلك أيْ: لا تَهْتَمَّ ولا تُبَالِ بمسارعةِ المنافقينَ في الكفرانِ في موالاةِ الكُفارِ، فإنهم لَنْ يُعْجِزُوا اللَّه شيئاً.
قوله تعالى: ﴿مِنَ الذين قالوا﴾ يجوزُ أنْ يكُون [حالاً من] الفاعل في «يسارِعُون» أيْ: يُسارعون حال كونهم بعضَ الذينَ قالُوا، ويجوزُ أنْ يكون حالاً من نفسِ الموصُول، وهو قريبٌ من مَعْنى الأولِ، ويجُوزُ أن يكُونَ «منْ» بياناً لجنسِ الموصُولِ الأولِ، وكذلك «من» الثانية، فتكون تَبْييناً وتَقْسِيماً للذين يُسارعون في الكُفْرِ، ويكون «سمَّاعُون» على هذا خَبَر مُبْتَدأ محذُوفٍ و «آمنَّا» منصوبٌ ب «قالوا»«أفْواهِهمْ» متعلقٌ ب «قالوا» لا ب «آمَنَّا» ] بمعنى أنه لم يُجاوزْ قولهم أفْواهَهُمْ، إنَّما نَطَقُوا بِهِ غير مُعْتقدِين له بقلوبهم. وقوله: ﴿وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ جملةٌ حاليَّةٌ.
قال بعضُ المفسِّرين: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، والتقديرُ: مِنَ الذينَ قالُوا: آمَّنا بأفْواهِهمْ ولَمْ تُؤمِن قُلُوبُهُم، وهؤلاءِ هُم المنافِقُونَ.
334
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الذين هِادُواْ﴾ فيه وجهانِ:
أحدهما: ما تقدَّم، وهو أنْ يكونَ مَعْطُوفاً على ﴿مِنَ الذين قالوا﴾ بَيَاناً وتَقْسِيماً.
والثاني: أن يكونَ خبراً مُقَدماً، و «سمَّاعُونَ» مُبْتدأ، والتقديرُ: ﴿ومِنَ الذين هادُوا قومٌ سمَّاعُون﴾، فتكونُ جملةً مستأنفة، إلاَّ أن الوجه الأول مُرجَّح بقراءةِ الضَّحَّاكِ: «سمَّاعِينَ» على الذَّمِّ بِفِعْل محذوفٍ، فهذا يدلُّ على أن الكلام لَيْسَ جُملةً مُسْتقلةً، بل قوله: ﴿مِنَ الذين قالوا﴾ عطفٌ على ﴿مِنَ الذين قالوا﴾.
وقوله «سماعُون» مِثالُ مُبالغَةٍ، و «للْكَذِب» فيهِ وجهانِ:
أحدهما: أنَّ «اللامَ» زائدةٌ، و «الكَذِبِ» هو المفعولُ، أي: سمَّاعون الكذبَ، وزيادةُ اللام هُنا مُطَّردة لكوْنِ العامل فَرْعاً، فقوي باللام، ومثلُه ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦].
والثاني: أنَّها على بابها مِنَ التعليلِ، ويكونُ مفعولُ «سمَّاعُونَ» مَحْذُوفاً، أيْ: سَمَّاعُون أخْبَارَكُم وأحَادِيثَكُمْ لِيَكْذِبُوا فيها بالزيادَةِ والنَّقْصِ والتَّبْديلِ، بأنْ يُرْجفُوا بِقَتْلِ المؤمنينِ في السَّرَايَا كما نقل من مخازيهم.
وقوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ﴾ يجوزُ أنْ تكون هذه تكْرِيراً للأولى، فعلى هذا يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله: «لِقَومٍ» بنَفْس الكذبِ، أيْ: يَسْمَعُونَ ليَكْذبُوا لأجْل قوْم [ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بنفس «سمَّاعون» أي: سمَّاعُونَ لأجل قومٍ لم يأتوك؛] لأنهم لبُغضِهِمْ لا يقربُونَ مَجْلِسكَ، وهم اليهودُ، و «لم يأتُوك» في محَلِّ جرٍّ؛ لأنَّها صفةٌ ل «قوم».

فصل


ذكر الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ هاهُنَا وَجْهَيْنِ.
الأول: أنَّ الكلامَ إنَّما يتمُّ عند قوله «ومِنَ الَّذِينَ» ثُم يُبْتَدأ الكلامُ من قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ [وتقديرُ الكلامِ: لا يحْزُنْكَ الذين يُسارعُونَ في الكفر من المنافِقِينَ ومن اليهُود، ثم بعد ذلك وصفَ الكل بكونهم سمَّاعين لقوم آخرين].
الوجهُ الثاني: أن الكلام تَمَّ عند قوله: ﴿لَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ ثم ابْتَدَأ فقال: ﴿وَمِنَ الذين هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ وعلى هذا التقدير: فقوله: «سمَّاعُون» صفةُ محذوفٍ والتقديرُ: ومن الذين هادُوا قومٌ سماعُون، وقيل: خبرُ مُبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هُم سمَّاعُونَ.
335
وحَكَى الزَّجَّاجُ في قوله تعالى «سمَّاعُون لِلْكذبِ» وجهين:
الأوَّلُ: معناه: قَائِلُون لِلْكَذبِ، فالسمعُ يُستعملُ، والمراد منه القبولُ كما تقول: لا تَسْمعْ من فلانٍ، أيْ: لا تقبَلْ مِنْه، ومِنه: «سَمِعَ الله لِمَن حمدَهُ»، وذلك الكذبُ الذي يُقْبَلُونَهُ هو ما يقوله رؤساؤهُمْ من الأكاذِيبِ في دينِ الله تعالى، وفي تحريفِ التوراةِ، وفي الطعنِ في سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
والوجه الثَّانِي: أنَّ المرادَ مِنْ قوله «سَمَّاعُون» نَفْسُ السَّمَاعِ، واللامُ في قوله «لِلْكَذِبِ» لامُ كَيْ أي: يَسْمعُون مِنْك لِكَيْ يَكذِبُوا علَيْكَ، وذلك أنَّهُم كانوا يَسْمَعُون مِنَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثُم يَخْرُجون ويقُولونَ: سمعْنَا منه كذا وكذا، ولم يَسْتَمِعُوا ذلك منه، وأمَّا ﴿لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ والمعنى أنهم أعْيُنٌ وجواسِيسُ لِقَوْم آخرينَ لَمْ يأتُوك، ولم يحضرُوا عندَك لِيُبَلِّغُوا إليهم أخبارَك، وهم بَنُوا قُرَيْظَةَ والنَّضِير.
قوله تعالى: «يُحَرِّفُونَ» يجوزُ أن يكونَ صِفَة لِ «سمَّاعُون»، أيْ: سمَّاعون مُحَرِّفُونَ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ في «سماعون» ويجوزُ أن يكون مُسْتأنَفاً لا مَحَلَّ لَهُ.
ويجوزُ أنْ يكونَ خَبَرَ مُبْتَدأ مَحْذُوفٍ أيْ: هُمْ مُحَرِّفُونَ.
ويجُوز أن يكُونَ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةً ل «قَوْمٍ»، أيْ: لقوْمٍ مُحَرِّفِينَ.
و ﴿مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ تقدم في النِّساءِ [الآية ٤٦].
و «يَقُولُون» ك «يُحَرِّفُونَ» ويجوزُ أنْ يكُونَ حالاً من ضمير «يُحرِّفُونَ»، والجملةُ شَرْطِيَّةٌ مِنْ قوله: «إنْ أوتيتُمْ» [مفعولة بالقول، و «هذا» مفعول ثان ل «أوتيتم» ] فالأول قائمُ مقامَ الفاعل، و «الفاء» جوابُ الشرطِ، وهي واجِبة لعدمِ صلاحيَّةِ الجزاءِ لأنْ يكونَ شَرْطاً، وكذلك الجملة من قوله: ﴿وإن لم تؤتوه﴾.

فصل في معنى الآية


ومعنى ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أي: من بعد أن وضعه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - في مواضعه، أي فرض دينهُ، وأحلَّ حلالهُ وحرَّم حرامهُ. قال المفسرون: «إِنَّ رجُلاً وامرأةً من أشراف خيبرٍ زنيا، وكان حدُّ الزِّنا في التوراة الرَّجم، فكرهت اليهودُ رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قوماً إلى رسول اللَّهِ - صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وسلم - عن حُكمه في الزَّانيين إذا أُحصنا وقالوا: إن أمركم بالجلد فاقبلوا، وإن أمركُم بالرَّجم فلا تقبلوا. فلمّا
336
سألوا الرسول - عليه الصلاةُ والسلامُ - عن ذلك فنزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخُذُوا به، فقال جبريلُ: اجعل بينك وبينهم ابن صوريَّا ووصفه له. فقال لهم رسولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وآله وسلم -: [هل] تعرفون شاباً أمردَ أبيض أَعوَرَ يسكن فدك يقال له: ابنُ صوريَّا؟.
قالُوا: نَعَمْ، قال: فأيُّ رَجُلٍ هو فيكُم قالوا: هو أعْلَمُ يَهُودِيٍّ بَقِيَ على وجه الأرضِ بما أنْزَل الله على موسى بن عمران في التَّوْرَاةِ قال: فأرْسلوا إليه. ففعلُوا فأتاهُمْ، فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنْتَ ابنُ صُوريَّا قال: نَعَمْ، فقال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُُ:» أنْشُدُك الله الذي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الذي أنْزَل التوراةَ على مُوسَى، وأخرجكم من مِصْرَ، وفلق لكم البحرَ، وأنجاكُمْ، وأغْرقَ آل فِرْعوْنَ، وظلل عليكم الغمامَ، وأنزلَ عليكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى، ورفعَ فوْقَكُم الطُّور، وأنْزَلَ عَلَيْكُم كتابَهُ فيه حلالُه وحرامُه هل تجدُون في كتابِكُم الرَّجْمَ على مَنْ أحْصِن.
قال ابن صُوريّا: نَعَمْ، والذي ذَكَّرْتَنِي به لَوْلاَ خشيةُ أنْ تحرقنِي التوراةُ إنْ كذبتُ أو غيَّرت [أو بدلتُ] ما اعترفتُ لك، ولكن كيفَ هي في كتابكم يا مُحمدُ؟ قال: إذا شَهدَ أربعة رَهْطٍ عُدُول، أنَّهُ قد أدْخَلَ فيها ذكرهُ كما يدخُلُ المِيلُ في المُكْحُلَةِ وجب عليه الرَّجْمُ، فقال ابنُ صوريَّا: والَّذِي أنزلَ التوراةَ على مُوسى هكذا أنزلَ الله التوراة على موسى فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [فماذا كان] أوَّل ما تَرَخّصْتُم به أمر الله عزَّ وجلَّ قال: كُنَّا إذا أخذنَا الشريفَ تركْنَاهُ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدَّ: فكثُرَ الزِّنَا في أشْرَافِنَا حتى زَنَى ابنُ عَمِّ [مَلِكٍ] لنا فلم نَرْجُمْهُ، ثُم زَنَا رجلٌ آخرُ في أسوةٍ من النَّاس، فأراد ذلك الملكُ رَجْمَه، فقام دُونَه قَوْمُه، فقالوا: واللَّه لا نرجُمُه حتى نرجُم فُلاناً ابن عَمِّ الملكِ. فقُلْنا: تعالَوْا نَجْتَمِعُ فنضعَ شَيئاً دون الرجمِ يكونُ على الشَّريفِ والوضيعِ، فوضعْنَا الجلْدَ والتَّحْميمَ؛ وهو أنْ يُجْلَدَا أربعينَ جلْدةً بِحَبلٍ مَطْلِيٍّ بالقارِ، ثم يُسَوَّد وُجُوهُهُمَا، ثُمَّ يُحملا على حِمَاريْنِ وجوهُهُما من قبلِ دُبر الحمار، ويطافُ بِهَما، فجعلوا هذا مكان الرجم. فقال اليهودُ [لابن صوريا] : ما أسرع ما أخبرتَهُ به، وما [كُنتَ لما أثْنَيْنَا] عليك بأهل، ولكِنَّكَ كُنْتَ غائباً، فكرهنا أن نَغْتَابَك، فقال لهم ابن صوريا: إنَّه قد أنْشَدَني بالتوراةِ، ولولا خشيةُ التوراةِ أنْ تُهلكني لما أخبرته، فأمر بهما النبيُّ - صلى الله عليه وعلى وآله وسلم - فَرُجِمَا عند بابِ المسجدِ، وقال: اللهم، إنَّي أوَّلُ مَنْ أحْيَا أمرَكَ إذْ أمَاتُوهُ «
، فأنزل الله عزَّ وجل: ﴿ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾.
337
فقولُه تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم﴾ جمع كَلِمَةٍ، وذكر الكِنايةَ رَدّاً على لَفظها الكلم ﴿مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أيْ: وضعُوا الجلدَ مكان الرجمِ.
وقيل: سببُ نزول هذه الآيةِ: أنَّ بَنِي النضير كان لهم فضلٌ على بَنِي قريظةَ، فقال بَنُوا قريظةَ: يا محمدُ إخْوَانُنا بنو النضير وأبُونا واحدٌ وديننا واحدٌ ونبينا واحدٌ، وإذا قتلُوا مِنَّا قتيلاً لم يقيدونَا، وأعطونا ديتَهُ سَبْعينَ وَسْقاً من تَمْرٍ. وإذا قتلنا منهم قتلُوا القاتلَ، وأخذوا مِنّا الضِّعْفَ مائةً وأربعين وسْقاً مِنْ تَمْرٍ. وإنْ كان القتيلُ امرأةً قتلُوا بها الرجُلَ مِنَّا، وبالرجل منهم الرجليْن مِنّا، وبالعبد حُراً مِنَّا، وجراحاتُهم على الضَّعْفِ مِنْ جراحاتِنَا فاقْضِ بَيْننا وبينهم، فأنزل الله هذه الآية، والأولُ أصحُ لأنَّ الآية في الرَّجْمِ.

فصل


قال القرطبي: الجمهورُ على ردِّ شهادةِ الذِّمِّيِّ؛ لأنَّهُ ليس مِنْ أهلِهَا فلا تقبلُ على مسلم، ولا على كافرٍ وقبِلَ شهادتهُم جماعة مِنَ الناسِ إذا لم يُوجدْ مسلمٌ، على ما يأتي في آخر السورة.
فإنْ قِيل: قد حَكَمَ بشهادَتِهمْ ورجمَ الزَّانِيَيْنِ.
فالجوابُ: أنَّهُ إنَّما تقدم عليهم بما علم أنَّهُ حكمُ التَّوْراةِ، وألزمهُم العملَ بِهِ على نحو ما عملت به بَنُو إسرائيلَ؛ إلْزَاماً للحجةِ عليهم، وإظْهَاراً لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذاً لا حَاكِماً.
قوله تعالى: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا﴾ أيْ: إنْ أمرَكُم بحدِّ الجلدِ فاقبلوا، وإنْ أمركُم بالرجم فلا تقبلُوا.
قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ﴾ «مَنْ» مفعولٌ مقدمٌ، وهي شرطيةٌ.
وقوله: «فَلَنْ تَمْلِكَ» جوابُه، و «الفاء» أيضاً واجبةٌ لما تقدم.
و «شيئاً» مفعولٌ به، أو مصدرٌ، و «مِنَ اللَّهِ» متعلقٌ ب «تَمْلكَ».
وقيل: هو حالٌ من «شَيْئاً» ؛ لأنَّهُ صفتُه في الأصْلِ.

فصل


قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ﴾ أي: كفْرَهُ وضلالَهُ، وقال الضحاكُ: هلاكَهُ.
وقال قتادةُ: عذابَهُ.
ولمّا كان لفظُ الفتنةِ مُحتملٌ لجميعِ أنواعِ المفاسدِ، وكان هذا اللفظُ مذكُوراً عُقَيْبَ أنْواع كفرِهم التي شرحَها الله تعالى وجب أن يكُون المرادُ من هذه الفتنةِ تلك الكُفْرياتِ
338
المذكُورة، ويكونُ المعنى: ومَنْ يُرد الله كفره وضلالتهُ، فلَنْ يقدِرَ أحدٌ على دفع ذلك عنه، ثُمَّ أكَّدَ ذلك بقوله: ﴿أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾.
قال أهلُ السُّنَّةِ: دلّت هذه الآيةُ على أن الله تعالى غيرَ مُريدِ إسلامِ الكافرِ، وأنَّه لم يُطهرْ قلبَهُ مِنَ الشِّرْكِ، ولوْ فعل ذلك لآمن.
وذكر المعتزلةُ في تعبير هذه الفِتْنَة وجوهاً:
أحدها: أنَّ الفتنة هي العذابُ. قال تعالى: ﴿عَلَى النار يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: ١٣] أيْ: يُعَذَّبُونَ، فالمرادُ هنا: يُريد عذابَهُ لِكُفْره.
وثانيها: ومَنْ يُردِ الله فضيحتَهُ.
وثالثها: المرادُ الحكمُ بضلالهِ، وتَسْمِيتِهِ ضَالاًّ.
ورابعها: الفتنَةُ: الاختبارُ؛ والمعنى: مَنْ يُرِدِ الله اختبارهُ [فِيمَا يَبْتَليه] من التكاليف فيتركُهَا ولا يقومُ بأدائِها، فلَنْ تملِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثواباً ولا نفعاً.
وأمَّا قوله تعالى: ﴿أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ فذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: لم يردِ الله أنْ يهدي قلوبَهُم بالألطافِ؛ [لأنه تعالى عَلِم أنه لا فائدةَ في تلكَ الألطافِ لأنَّها لا تنجحُ في قُلُوبِهم].
ثانيها: لم يُرد الله أن يطهرَ قلوبَهُم مِنَ الحَرَجِ والغَمِّ والوحشةِ الدَّالةِ على كُفْرِهم.
وثالثها: أنَّ هذه الاستعارةَ [عبارةٌ] عَنْ سُقوطِ وقْعَهِ عند الله، وأنَّه غيرُ مُلتفتٍ إلَيْهِ بسببِ قُبْحِ أفعالِهِ، وقد تقدم [الكلامُ] على هذه الوجوه.
قوله تعالى: «أولَئِكَ» : مبتدأ، و ﴿لَمْ يُرِدِ الله﴾ جملةٌ فعليةٌ خبرُهُ.
ثُم قال تعالى: ﴿لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ وخزيُ المُنافقينَ الفَضيحةُ، وهَتْكُ السَّتْرِ بإظْهَارِ نفاقِهمْ، وخَوفِهم مِن القتْلِ، وخزيُ اليهودِ: الجزْيَةُ، وفَضِيحتُهم، وظهورُ كذبِهِمْ، في كِتْمانِ نَصِّ الله تعالى في إيجابِ الرَّجْمِ.
قوله تعالى ﴿وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهو الخلودُ في النَّارِ.
339
قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ : يجُوزُ أن يكُونَ مُكَرَّراً للتَّوْكيدِ إنْ كان مِنْ وصف المنافقينَ، وغَيْرَ مُكرَّرٍ إنْ كانَ مِنْ وصف بَنِي إسْرائيلِ.
339
وإعْرَابُ مفرداتِهِ تقدَّم، ورفْعُه على خبرِ ابْتَداءٍ مُضْمَرٍ، أيْ: هُمْ سمَّاعون.
وكذلك «أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» في «اللاَّمِ» الوجهانِ المذكورانِ في قوله: «لِلْكَذِبِ».
و «السُّحْتُ» الحَرَامُ، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يُذْهِبُ البَرَكَةَ ويَمْحَقُها، يُقالُ: سَحَتَهُ اللَّهُ، وأسْحَتَهُ: أيْ: أهْلكهُ وأذهَبَهُ.
قال الزَّجَّاجُ: أصلُهُ مِنْ: سَحَتُّهُ إذ اسْتَأصَلته، قال تعالى: ﴿فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ [طه: ٦٢] أيْ: يَسْتأصلهمْ، أوْ لأنَّه مَسْحوتُ البَرَكَةِ.
قال الله تعالى: ﴿يَمْحَقُ الله الربا﴾ [البقرة: ٢٧٦].
وقال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ: إنَّهُ حرامٌ يحصلُ مِنْه العار.
وعن الفرَّاءِ: «السُّحْتُ» : شدَّةُ الجُوعِ، يُقال: رجلٌ مَسْحُوتُ المعدة إذا كان أكُولاً، لا يُلْفَى إلاَّ جائعاً أبداً وهو راجعٌ إلى الهلكة.
وقد قُرِئ قوله تعالى: «فَيُسْحِتَكُمْ» بالوجهين: مهن سَحَتُّهُ، وأسْحَتُّهُ.
وقال الفرزدقُ: [الطويل]
١٩٦٨ - وعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
وقرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ: «السُّحْت» بضَمِّ السِّينِ وسكون الحاء، والباقون بضمهما، وزيد بن علي، وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفَتْحتيْنِ، فالضمتانِ: اسمٌ للشيء المسحُوتِ، والضمةُ والسكونُ تخفيفُ هذا الأصْلِ، والفتحتانِ والكَسْرِ والسُّكُونِ اسمٌ له أيضاً.
وأمَّا المفتوحُ السينِ السَّاكن الحاءِ، فمصدرٌ أُريدَ بِهِ اسمُ المفعولِ، كالصَّيْد بمعنى المصيدِ، ويجوزُ أنْ يكُونَ تَخْفِيفاً مِنَ المَفتُوحِ، وهُوَ ضعيفٌ.
والمرادُ بالسُّحْتِ: الرَّشْوَةُ في الحُكْمِ، ومَهْرُ البَغِيّ، وعَسِيبُ
340
الفَحْلِ، وكَسْبُ الحجامِ، وثَمنُ الكَلْبِ، وثمنُ الخمرِ، وثمنُ المَيْتَةِ، وحُلوانُ الكَاهِنِ، والاستعجالُ في المعصية، رُوِيَ ذلك عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ وابن عباسٍ وأبِي هُريرةَ ومجاهدٍ، وزاد بعضهُم، ونقص بعضهم.
وقال الأخْفَش: السُّحْتُ كُلُّ كَسْبٍ لا يَحقُّ.

فصل


قال الحسنُ: كان الحاكِمُ منهم إذا أتاهُ أحَدٌ برشْوَةٍ جعلها في كُمِّهِ، فَيُريها إيَّاهُ، وكان يَتَكلَّمُ بحاجتِهِ، فَيُسْمعُ مِنْه، ولا ينظرُ إلى خَصْمهِ، فَيَسْمَعُ الكذبَ، ويأكُلُ الرشْوَةَ.
وقال أيضاً: إنَّما ذلك في الحُكْم إذا رشوتَهُ ليحقَّ لك باطلاً، أو يُبْطل عنك حقاً، فأمَّا أنْ يُعْطِيَ الرجلُ الوالِيَ يَخافُ ظُلْمَهُ لِيَدْرَأ به عَن نفسه فلا بأسَ، والسُّحْتُ هو الرَّشْوَةُ فِي الحكمِ على قول الحسن وسُفيانِ وقتادةَ والضَّحَّاكِ.
وقال ابنُ مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - هو الرشوةُ في كُلِّ شيْءٍ، مَنْ يشفعُ شفاعَةً ليَرُدَّ بِهَا حَقًّا أو يدفَعَ بها ظُلْماً، فأهدي له فَقَبِلَ، فهو سُحْتٌ.
فقيل له: يا أبَا عَبْد الرَّحْمنِ، ما كُنَّا نَرَى ذلك إلاَّ الأخْذَ على الحُكْمِ، فقال: الأخذُ على الحُكْمِ كُفْرٌ؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون﴾
[المائدة: ٤٤].
وقال بَعْضُهُم: كان فقراؤهُم يأخُذُونَ مِنْ أغْنِيائِهم مالاً ليقيمُوا على ما هُمْ عليه
341
من اليَهُوديَّة، فالفقراءُ كانُوا يسمعُونَ أكاذيبَ الأغنياءِ، ويأكُلُونَ السُّحْتَ الذي يأخذوه مِنْهُم.
وقيل: سمَّاعُون للأكاذِيبِ التي كانوا يَنْسِبُونَها إلى التوراةِ، أكَّالُونَ لِلرِّبَا لقوله تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ﴾ [النساء: ١٦١].
وقال عمرُ بن الخطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رَشْوَةُ الحاكم من السُّحْتِ. وعن رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: «كُلُّ لَحْمٍ نبتَ بالسُّحْتِ فالنَّارُ أوْلَى به» قالُوا: يا رسولَ الله، ومَا السُّحْتُ؟ قال: «الرشوةُ في الحُكْمِ».
وعن ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أيْضَاً أنَّهُ قال: السحتُ أنْ يَقْضِيَ الرجلُ لأخيه حَاجَةً، فيُهْدِي إلَيْهِ هديَّةً فَيَقْبَلهَا.
وقال بعضُ العلماءِ: من السحتِ أنْ يأكلَ الرجلُ بجاهِهِ، بأنْ يكون للرجل حاجةٌ عند السلطانِ، فيسألَهُ أنْ يَقْضِيَها له، فلا يَقْضِيَها له إلاَّ بِرشْوَةٍ يأخُذُها. انتهى.
وقال أبُو حَنيفَةَ [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -] : إذا ارْتَشَى الحاكمُ انعزَلَ في الوقْتِ، وإنْ لم يُعزلْ بطلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ به بَعْدَ ذلك.
قال القرطُبي: وهذا لا يجوزُ أن يُخْتلفَ فيه إنْ شاء الله؛ لأنَّ أخْذَ الرشوة فِسْقٌ والفاسِقُ لا يَنْفُذُ حُكْمُهُ.
قوله تعالى: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾.
خيَّره تعالى بَيْنَ الحُكْمِ وبَيْنَ الإعراضِ عنهم، واختلفُوا فيه على قولَيْنِ:
الأولُ: أنَّهُ في أمرٍ خاصٍّ، ثُم اختلف هؤلاءِ.
فقال ابنُ عباسٍ، والحسنُ، والزهريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: إنَّهُ في أمر زنا المُحْصَنِ، وقيل: في قَتيلٍ قُتل من اليهودِ في بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِير كما تقدم، فتحاكمُوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فجعل الدِّيَّةَ سَواءً.
342
وقيل: هذا التخييرُ مُخْتص بالمعاهدينَ الذين لا ذمَّةَ لهم، فإن شاء حكم بينهم، وإنْ شاء أعْرض عنْهُم.
والقول الثاني: أنَّ الآيةَ عامةٌ في كل مَنْ جاء من الكُفار، ثم اختلفُوا: فمنهم من قال: إنَّ الحُكمَ ثابتٌ في سَائِرِ الأحكامَ غيرُ منسُوخٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وقتادة، وعطاء، وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ، وأبِي مُسْلِمٍ.
وحكامُ المسلمينِ بالخيارِ في الحُكم بين أهْل الكتابِ، ومنهم مَنْ قال: إنه منسوخٌ بقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ [المائدة: ٤٩] وهو قولُ ابن عباسٍ، والحسنِ، ومجاهد، وعكرِمَة [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم]، ومذهبُ الشافعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه يجبُ على حاكمِ المسلمينَ أنْ يحكمَ بينَ أهْل الذِّمَةِ إنْ تَحاكمُوا إليه، لأنَّ في إمضاء حُكْمِ الإسلام علَيْهم صَغَاراً لَهُم.
فأمَّا المعاهدُ إلى مُدَّةٍ، فلا يجبُ على الحاكمِ أنْ يحكمَ بينهم، بل يتخيَّرُ في ذلك.
قال ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لم يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلاَّ آيتَانِ: قوله تعالى: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ [المائدة: ٢] نسخَهَا قوله: ﴿فاقتلوا المشركين﴾ [التوبة: ٥].
وقوله تعالى: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ نسخها قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ [المائدة: ٤٩] فأمَّا إذا تحاكَمَ مسلمٌ وذميٌّ يجبُ علينا الحكمُ بَيْنَهُمَا بلا خلافٍ، لأنَّهُ لا يجُوزُ للمسلم الانقيادُ لحكم أهْلِ الذِّمَّةِ.
ثُمَّ قال: ﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً﴾ والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم، وصاروا أعداءً لَهُ، فبين تعالى أنَّهُ لا تَضره عداوتُهُمْ له.
ثُمَّ قال تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط﴾ أيْ بالعَدْلِ: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ أيْ: العادِلينَ.
343
قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ كقوله: ﴿كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠] وقد تقدم.
[قولُه:] «وعنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ» «الواوُ» للحالِ، و «التوراة» يجوزُ أن تكون مُبْتدأ والظرفُ
343
خَبَرُه، ويجوزُ أنْ يكونَ الظرفُ حالاً، و «التوراةُ» فاعلٌ بِهِ لاعتمادِهِ على ذِي الحالِ.
والجملةُ الاسميَّةُ أو الفعليَّةُ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ.
وقوله: ﴿فِيهَا حُكْمُ الله﴾، «فيها» خَبَرٌ مقدمٌ، و «حُكْمُ» مبتدأ، أو فاعِلٌ كما تقدم في «التوراةِ»، والجملةُ حالٌ من «التوراةِ»، أو الجار وحدَهُ، و «حُكْمُ» مصدرٌ مضافٌ لفاعلِهِ.
وأجاز الزمخشريُّ: ألاَّ يكون لها مَحَل من الإعراب، بل هي مُبَيِّنةٌ؛ لأنَّ عندَهُم ما يُغنيهم عن التحكيمِ، كما تقولُ: «عندك زيدٌ يَنْصَحُك، ويُشيرُ عليك بالصَّوابِ، فما تصنعُ بِغَيْره؟».
وقولُه تعالى: «ثُمَّ يَتولّونَ» معطوفٌ على «يُحَكِّمونَكَ»، فهو في سياقِ التعجُّب المفهُومِ مِن «كَيْفَ» وذلك إشارةٌ إلى حُكْمِ الله الذي في التوراة، ويجوزُ أن يَعُودَ إلى التحكيم والله أعلم.

فصل


هذا تعجُّبٌ من اللَّهِ لنبيه [عليه الصلاةُ والسلامُ] مِنْ تحكيمِ اليهُودِ إياهُ بعد علمهم بما في التوراةِ مِنْ حدِّ الزَّانِي، ثُم تركِهِمْ قبولَ ذلك الحُكْم فيتعدلُونَ عما يعتَقدُونَه حُكْماً [حقاً] إلى ما يعتقدُونه باطِلاً طلباً للرخْصةِ فظهر جهلهم وعنادهُم من وُجُوه:
أحدُها: عُدُولُهُمْ عن حُكْمِ كتابِهِم.
والثاني: رجوعُهم إلى حكمِ مَنْ كانوا يعتقدون أنه مُبطلٌ.
والثالث: إعراضُهم عن حكمه بعد أن حكَّموه، فبينَ الله تعالى حال جهلهم وعنادهم؛ لَئِلا يَغْتَرَّ مُغْترٌّ أنهم أهلُ كتابِ الله ومن المحافظِينَ على أمْر الله.
ثُمَّ قال تعالى: ﴿وَمَآ أولئك بالمؤمنين﴾ أيْ بالتوراةِ وإنْ كانوا يُظْهِرُون الإيمانَ بها، وقِيلَ: هذا إخبارٌ بأنهم لا يُؤمنونَ أبَداً، وهو خَبَرٌ عن المستأنفِ لا عَنِ الماضِي.
وقِيلَ: إنَّهمَ وَإنْ طلبُوا الحكمَ مِنْك فما هُم بمؤمِنينَ بِكَ، ولا بالمعتقدينَ في صِحّةِ حُكْمكَ.
344
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ الآية.
344
قوله سبحانه: ﴿فِيهَا هُدًى﴾ يحتملُ الوجهَيْن المذكورَيْنِ في قوله: «وعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ»، ف «هُدًى» مبتدأ أو فاعلٌ، والجملةُ حالٌ من «التَّوْرَاةِ».
وقوله: «يَحْكُمُ بِهَا» يجَوزُ أنْ تكونَ جُمْلةً مستأنفةً، ويجوزُ أنْ تكونَ منصوبة المحلِّ على الحالِ، إمَّا مِنَ الضَّمير في «فِيهَا»، وإمَّا مِن «التَّوْرَاةِ».
وقوله: «الَّذِينَ أسْلَمُوا» صِفَةٌ ل «النَّبِيُّونَ»، وصفَهُم بذلك على سبيلِ المَدْح، والثَّنَاء، لا عَلى سبيلِ التَّفْصِيل؛ فإنَّ الإنبياءَ كُلَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وإنَّما أثْنَى عليهم بذلك، كما تَجري الأوْصَافُ على أسماء الله تعالى.
قال الزَّمخشريُّ: أجْرِيَتْ على النَّبِيِّينَ على سبيلِ المدْحِ كالصفات الجارية على القديم - سبحانه - لا للتفصلة والتوضِيحِ، وأُريدَ بإجرائها التَّعْرِيضُ باليهُودِ، وأنَّهم بُعداءُ من مِلَّةِ الإسلامِ الذي هو دينُ الأنبياءِ كُلِّهم في القديم والحديثِ، فإن اليهود بمعْزَلٍ عنها.
وقوله تعالى: ﴿الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ منارٌ على ذلك، أيْ: دليلٌ على ما ادَّعَاهُ.
فإن قُلْتَ: «هُدًى ونُورٌ» العطفُ يقتضِي المغايَرَة، فالهُدَى مَحْمُولٌ على بيانِ الأحْكامِ والشرائع والتكالِيف، والنُّورُ بيانُ التَّوْحيدِ، والنُّبُوَّةِ، والمَعَادِ.
وقال الزَّجَّاج: الهُدَى بيانُ الحُكْمِ الذي يستفتُونَ فيه النبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، والنورُ بيانُ أنَّ أمرَ النبيِّ [صلى الله عليه وعلى آله وسلم] حَقٌّ.
وقوله: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النبيون﴾ يُريدُ الذين كانوا بعد مُوسى [عليه السلام].
وقوله «الَّذِين أسْلَمُوا» أيْ: سلَّموا وانْقَادُوا لأمر الله كما أخبرَ عَنْ إبْرَاهِيم [عليه السلامُ] :﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ [البقرة: ١٣١]، وكقوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ [آل عمران: ٨٣].
وأراد بالنبيِّينَ الذين بُعِثُوا بعد مُوسى [عليه وعليهم السلام] لِيحكُمُوا بما في التوراةِ [وقد أسلمُوا لحُكْمِ التوراةِ وحكمُوا بها، فإنَّ من النبيين مَنْ لمْ يحكم بحكم التوراةِ منهم] عيسى [عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ] قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨].
وقال الحسنُ والزهري وعكرمةُ، وقتادةُ والسديُّ: يحتملُ أنْ يكونُ المرادُ بالنبيين هُمْ مُحَمَّدٌ [صلى الله عليه وعلى آله وسلم] حَكَمَ على اليهُودِ بالرجْمِ، وكان هَذَا حُكْمَ التَّوْرَاةِ، وذكره بلفْظِ الجمعِ تَعْظِيماً له كقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ﴾ [النحل: ١٢٠] وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس﴾ [النساء: ٥٤] لأنه كان قد اجتمعَ فِيه من خِصالِ الخيْرِ ما كان حَاصِلاً لأكثرِ الأنْبياء.
345
قال ابنُ الأنْبَارِي: هذا ردٌّ على اليهُود والنَّصارى [لأنَّ بعضُهم كانوا يقولون: الأنبياءُ كلُهم يهودٌ أو نصارى، فقال تعالى:] ﴿يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ﴾ يَعْنِي: أنَّ الأنبياء ما كانوا مَوصُوفينَ باليهوديةِ والنصرانيَّةِ بَلْ كانوا مُسْلِمين لِلَّهِ مُنْقَادينَ لتكالِيفهِ.
وقولُه تعالى: ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ فيه وجهانِ:
أحدهما: أن النبيين إنما يحكُمون بالتورَاةِ لأجْلِهِمْ، وفِيمَا بَيْنَهُم، والمَعْنَى: يحكمُ بها النبيونَ الذين أسْلموا على الذين هَادُوا؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] أيْ: فعليْهَا: وكقوله: ﴿أولئك لَهُمُ اللعنة﴾ [الرعد: ٢٥] أيْ: عليهم.
وقيل: فيه حَذْفٌ كأنه قال: للذين هادُوا وعلى الذين هَادُوا فحذَفَ أحدهما اخْتِصَاراً.
والثاني: أنَّ المعنى على التقديم والتأخِيرِ، أيْ: إنَّا أنزلنَا التوراةَ فيها هُدًى ونُورٌ للذين هَادُوا يحكُمُ بها النبيونَ الذين أسْلَمُوا.
وتقدم تفسيرُ الربانيِّينَ، وأمَّا الأحبارُ فقال ابنُ عباس وابن مسعود [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] : هُمُ الفُقَهاءُ.
واختلفَ أهْلُ اللُّغَةِ في واحِدِهِ قال الفرَّاءُ: إنَّه «حِبْرٌ» بكسر الحاءِ وسُمِّيَ بذلك لمكان الحِبر الذي يُكْتَبُ به؛ لأنَّه يكونُ صاحبَ كُتُبٍ، وقال أبُو عُبَيْد: «حَبْر» بفتحِ الحاءِ، وقال اللَّيْثُ: هو «حَبْرٌ»، و «حِبْر» بفتح الحاء وكسرِهَا.
ونقل البَغوِيُّ: أنَّ الكسرَ أفْصَحُ، وهو العالِمُ المُحكِمُ للشَّيْء.
وقال الأصمعِيُّ: لا أدْرِي أهُوَ الحِبْرُ أو الحَبْرُ، وأنكرَ أبُو الهَيْثَمِ الكَسْرَ، والفراءُ «الفَتْحَ»، وأجاز أبُو عُبَيْد الوجْهَيْنِ، واختار الفَتْحَ.
قال قُطْربٌ: هو مِنَ الحبر الذي هو بمَعْنَى الجمالِ بفتح الحَاءِ وكسْرِهَا وفي الحديث «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبَرهُ وسَبَرهُ» أي حُسْنُهُ وهَيْئَتُهُ، ومنه التَّحْبِيرُ أي: التحسينُ قال تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف: ٧٠] أي: يَفْرَحُون ويزينونَ، وسُمِّيَ ما يكتبُ حبراً لتحْسِينهِ الخطَّ، وقيل: لتأثيره وقال الكِسَائِيُّ، والفرَّاءُ، وأبُو عُبَيْدَةَ: اشتقاقُهُ من الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به.
وقيل: الرَّبَّانِيُّونَ هاهُنَا مِنَ النَّصَارَى، والأحبارُ مِن اليهُودِ وقِيل: كلاهُمَا من
346
اليُهودِ، وهذا يقتضي كون الربانيِّينَ أعْلَى حالاً مِنَ الأحبار، فيُشْبهُ أنْ يكونَ الربانِيُّون كالمجتهدينَ والأحبارُ كآحادِ العُلَماءِ.
قوله: «لِلَّذين هَادُوا» في هذه «اللاَّم» ثلاثةُ أقوالٍ:
أظهرُهَا: أنَّها متعلِّقةٌ ب «يَحْكُمُ»، فعلى هذا مَعْنَاها الاخْتِصَاصُ، وتشمل مَنْ يحكمُ لَهُ، ومن يحكمُ عليْه، ولهذا ادَّعَى بعضُهم أنَّ في الكلامِ حَذْفاً تقديرُه: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ للَّذينَ هَادُوا وعليْهِمْ» ذكره ابنُ عطيَّة وغيرُه.
والثاني: أنها متعلقة ب «أنْزَلْنَا»، أيْ: أنزلْنَا التوراةُ للَّذين هادُوا يحكم بها النَّبِيُّونَ.
والثالثُ: أنها متعلقةٌ بِنَفْس «هُدًى» أيْ: هُدى ونُورٌ للذين هادُوا، وهذا فيه الفَصْلُ بين المصَدْرِ ومعمُولِهِ، وعلى هذا الوجْهِ يجوزُ أنْ يكونَ «للذين هَادُوا» صفة لِ «هُدًى ونُورٌ»، أيْ: هُدًى ونُورٌ كائِنٌ للذين هادُوا وأوَّلُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ.
قوله تعالى: «والرَّبَّانِيُّون» عطفٌ على «النبيُّونَ» أيْ: [إنَّ الرَّبَّانِيِّين وقد تقدم تفسيرهم في آل عمران] يحكمُونَ أيْضاً بمقْتضَى مَا فِي التَّوْرَاةِ.
قال أبُو البقاءِ: «وقِيل: الرَّبَّانيون» مَرْفُوعٌ «بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أي: ويحكُمُ الربانيونَ والأحبار بِمَا اسْتُحْفِظُوا» انتهى.
يَعْنِي أنَّه لما اختلفَ متعلِّقُ الحكمِ غاير بَيْنَ الفعلينِ أيضاً، فإن النبيينَ يحكُمُونَ بالتوراةِ، والأحبارُ والربانيونَ يحكُمونَ بما استحفَظَهُمُ الله تعالى، وهذا بعيد عن الصَّوَابِ؛ لأنَّ الذي استحَفَظَهُمْ هو مُقْتَضَى ما في التَّوْرَاةِ، فالنبيُّونَ والربانِيُّون حاكِمُونَ بشيء واحدٍ، على أنَّه سيأتي أنَّ الضَّمير في «اسْتُحْفِظُوا» عَائِدٌ على النَّبِيين فَمَنْ بعدهم.
قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: الربانيون يُرْشِدُونَ الناسَ بالعلمِ، ويربونهم للصغارِ قَبْل كبار.
وقال أبُو رَزِين: الرَّبَّانِيُّونَ العلماءُ، والحكماءُ، وأمَّا الأحبار: فقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: هُمُ الفقهاء والحَبرُ والحِبرُ بالفتح والكسر: الرجلُ العالِمُ، مأخُوذٌ من التَّحِبِيرِ، والتَّحبر؛ فَهُمْ يُحبِّرون العِلْمَ ويُزَيِّنُونَهُ، فهو مُحَبَّرٌ في صُدُورهم.
قال الجوهَرِيُّ: والحِبَر والحَبر واحد أحبار اليهود، وهو بالكسْرِ أفْصحُ؛ لأنَّهُ يُجَمعُ على أفْعَالٍ دُونَ الفُعُولِ.
347
قال الفرَّاءُ: هُو حِبْرٌ بالكسْرِ، يُقالُ ذلك للعَالِمِ.
وقال الثَّوْرِيُّ: سألْتُ الفرَّاءَ: لِمَ سُمِّيَ الحبْرُ حِبْراً؟ فقال: يُقال للعالم حِبرٌ وحَبرٌ، فالمعنى مدادُ حبرهم، ثم حذف كما قال: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] [أيْ أهْلَ القَريةِ].
قال: فسألتُ الأصمعيَّ، فقال: لَيْسَ هذا بشْيءٍ، إنما سُمِّي حبْراً لِتَأثيرِه، يُقالُ: على أسْنَانِهِ حِبْرٌ، أيْ: صُفْرَةٌ أو سوادٌ.
وقال المبرِّدُ: وسُمِّيَ الحِبرُ الذي يُكْتَبُ به حِبْراً؛ لأنه يُحَبَّرُ به، أيْ: يُحقَّقُ بِهِ.
وقال أبُو عُبَيْد: والذي عندي في واحدِ الأحبارِ أنَّه للحَبر بالفتح، ومعْنَاه العالمُ بِتَحبِير الكلامِ، والعلم تحسينه، والحِبرُ بالكسر: الذي يُكْتَبُ به.
قوله تعالى: ﴿بِمَا استحفظوا﴾ أجازَ أبُو البقاءِ فيه ثلاثةُ أوْجهٍ:
أحدها: أنَّ «بِمَا» بدلٌ من قوله: «بِهَا» بإعادة العامل لِطُول الفَصْل، قال: «وهو جائزٌ وإنْ لَمْ يَطُل» أيْ: يجوزُ إعادةُ العامِلِ في البَدَلِ، وإن لم يَطُل.
قلتُ: وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً.
الثاني: أنْ يكُونَ مُتعلّقاً بفعْلٍ محذوفٍ: أيْ: وَيَحْكُم الربانيونَ بما اسْتُحفِظُوا، كما قدمتُه عنه.
والثالث: أنَّه مفعولٌ به، أيْ: يحكُمُونَ بالتوراة بسببِ اسْتِحْفَاظِهِمْ ذلك، وهذا الوجهُ الأخيرُ هو الذي نَحَا إليه الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا بِمَا سألَهُمْ أنبياؤهم حِفْظَهُ من التوراةِ، أيْ: بسبب سُؤالِ أنبيائِهِمْ إيَّاهم أن يحفظُوه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ»، وهذا على أنَّ الضميرَ يعُودُ على الربانِيين، والأحبارِ، دُونَ النَّبِيِّين، فإنَّهُ قدَّرَ الفاعِلَ المحذُوفَ «النبيين»، وأجاز أن يعودَ الضميرُ في «استحفِظُوا» على النبيينَ والربانيينَ والأحْبار، وقدَّر الفاعل المنوبَ عنه: البَارِيَ تعالى، أيْ: بِمَا اسْتَحْفَظَهُم اللَّه تعالى، يعني: بما كَلَّفَهُمْ حِفْظَهُ.
وقوله تعالى: ﴿مِن كِتَابِ الله﴾ ؛ قال الزمخشريُّ: و «مِنْ» فِي ﴿مِن كِتَابِ الله﴾ للتَّبْيينِ، يَعْنِي أنَّها لِبَيانِ جِنْس المُبْهَمِ في «بِمَا» فإنَّ «مَا» يجوزُ أنْ تكونَ موصُولَةً اسمِيَّةً بمعْنَى «الَّذِي»، والعائِدُ محذوفٌ، أيْ: بِمَا اسْتحْفظُوه، وأنْ تكونَ مَصدريَّةً، أيْ: باسْتِحْفَاظِهِمْ.
348
وجوَّزَ أبُو البقاءِ: أنْ تكونَ حالاً مِنْ أحَدِ شَيْئَيْنِ: إمَّا مِنْ «مَا» الموصُولَةِ، أو مِنْ عَائِدها المحذُوفِ، وفيه نظرٌ من حيثُ المعنى.
وقولُه: «وكانُوا» داخِلٌ في حَيِّز الصِّلةِ أيْ: وبكونِهِم شُهداءَ عليه، أيْ: رُقَبَاءَ لئلاَّ يُبدل، ف «عَلَيْهِ» متعلقٌ ب «شُهداءَ»، والضميرُ في «عَلَيْه» يعودُ على «كِتابِ الله» وقيل: على الرسول عليه الصلاةُ والسلامُ، أيْ: شُهداء على نُبُوَّتِهِ ورسالته.
وقيل: على الحُكْمِ، والأوَّلُ هو الظاهِرُ.
قوله تعالى: ﴿بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله﴾ أي: استُودعوا. وحفظ كتاب الله على وجهين:
أحدهما: أن يُحفَظ فلا ينسى.
والثاني: أن يحفظ فلا يُضيع، فإن كان استحفظوا من صلة الأحبار، فالمعنى: العلماء بما استحفظوا.
وقال الزجاج: يحكمون بما استحفظوا.
قوله تعالى ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ﴾ أي: هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق من عند الله تعالى فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة، ويحفظونها عن التحريف والتغيير.
ثم قال تعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون﴾ لمَّا قرر أن النبيين والربانيين والأحبار، كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة، خاطب اليهود الذي كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، ومنعهم من التحريف والتغيير.
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف أو رهبة أو لطمع ورغبة، ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون﴾ والمعنى لا تحرفوا كتابي للخوف من الناس، ومن الملوك والأشراف، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم، وتستخرجوا الحيل في إسقاط تكاليف الله عنهم، ولما ذكر أمر الرهبة أتبعه بالرغبة فقال تعالى: ﴿ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً﴾ أي: كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في الجاه والمال والرشوة، فإن متاع الدنيا قليل. ولما منعهم من الأمرين أتبعه بالوعيد الشديد، فقال تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ وهذا تهديد لليهود في افترائهم على تحريف حكم الله في حد الزاني المحصن، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة، قالوا: إنه غير واجب فهم كافرون على
349
الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن وبعيسى ابن مريم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.

فصل


قالت الخوارج: من عصى الله فهو كافر، واحتجوا بهذه الآية، وقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله، فوجب أن يكون كافراً، وقال الجمهور: ليس الأمر كذلك، وذكروا عن هذه الشبهة أجوبة منها أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم.
قال قتادة والضحاك: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة.
وروى البراء بن عازب: أن هذه الثلاثة آيات في الكافرين، وهذا ضعيف؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقال آخرون: المراد ﴿من لم يحكم بما أنزل الله﴾ كلام أدخل كلمة «من» في معرض الشرط فيكون للعموم، وقولهم: من الذين سبق ذكرهم، زيادة في النص، وذلك غير جائز. وقال عطاء: هو كفر دون كفر.
وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولا بكفر بالله واليوم الآخر. فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين، وهو أيضاً ضعيف، لأن إطلاق لفظ الكافر إنما ينصرف إلى الكفر في الدين وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وهذا أيضاً ضعيف لأنه عدول عن الظاهر.
وقال عبد العزيز: قوله «بما أنزل» صيغة عموم، ومعنى «أنزل الله» أي: نص الله، حكم الله في كل ما أنزله، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل من العمل، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق، وهذا أيضاً ضعيف، لأنه لو كانت هذه الآية [وعيداً مخصوصاً] لمن خالف حكم الله تعالى، في كل ما أنزله الله لم يتناول هذا الوعيد
350
اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم، وأجمع المفسرون أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم، فدلَّ على سقوط هذا الجواب.
وقال عكرمة: قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده، فهو حاكم بما أنزل الله، ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية.
351
قوله تعالى ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ﴾.
أي كتبنا عليهم في التوراة حكم أنواع القصاص وهو أن حكم الزاني المحصن «الرجم» فغيَّروه وبدَّلوه، وبيَّن أيضاً في التوراة: أن النفس بالنفس فغيَّروا هذا الحكم ففضلوا بني النضير على بني قريظة، وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا أوجه النظم، ومعنى «كتبنا» أي: فرضنا، وكان شر القصاص أو العفو، وما كان فيهم الدية والضمير في «عليهم» ل «الذين هادوا». قوله تعالى: ﴿أَنَّ النفس بالنفس﴾ :«أن» واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية ب «كتبنا»، والتقدير: وكتبنا عليهم أخْذَ النفس بالنفس.
وقرأ الكسائي «والعَيْنُ» وما عُطِفَ عليها بالرفع، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع.
وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر بالنصب فيما عد «الجُرُوح» فإنهم يرفعونها.
فأما قراءة الكسائي فوجَّهَهَا أبو علي الفارسي بثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون «الواو» عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات، يعني أن قوله: «والعين» مبتدأ، و «بالعين» خبره، وكذا ما بعدها، والجملة الاسمية عطف على الفعلية من قوله: «وَكَتَبْنَا» وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع، وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة.
351
قالوا: وليست مشركة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى.
وعَبَّرَ الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف قال: «أو» للاستئناف، والمعنى: فرضنا عليهم أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها، إذا قتلها بغير حقٍّ، وكذلك العين مَفْقُودة بالعين، والأنف مَجْدُوع بالأنف، والأذن مَصْلُومة أو مقطوعة بالأذن والسِّنّ مقلوعة بالسن، والجُرُوح قصاص وهو المُقَاصَّة، وتقديره: أن النفس مأخوذة بالنفس، سبقه إليه الفارسي، إلا أنه قدر ذلك في جميع المجرورات، أي: والعين مأخوذة بالعين إلى آخره، والذي قدَّرَه الزمخشري مناسب جداً، فإنه قدر متعلَّق كل مجرور بما يناسبه، فالقَقْء للعين، والقَلْع للسن، والصَّلْمُ للأذن، والجَدْع للأنف، إلا أن أبا حيّان [كأنه] غضَّ منه حيث قدَّر الخبر الذي تعلَّق به المجرور كوناً مقيداً، والقاعدة في ذلك إنما يقدَّر كوناً مُطْلَقاً.
قال: «وقال الحوفي:» بالنفس «يتعلّق بفعل محذوف تقديره: يجب أو يستقر، وكذا العين بالعين وما بعدها، فقدَّر الكون المطلق، والمعنى: يستقر قتلها بقتل النفس»، إلا أنه قال قبل ذلك: «وينبغي أن يُحْمَلَ قول الزمخشري على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب» ثم قال: فقدَّر - يعني: الزمخشري - ما يقرب من الكون المطلق، وهو: «مأخوذ»، فإذا قلت: «بعت الشياه شاةً بدرهم»، فالمعنى: مأخوذة بدرهم، وكذلك الحر بالحر أي: مأخوذ.
والوجه الثاني من توجيه الفارسيّ: أن تكون «الواو» عاطفة جملة اسمية على الجملة من قوله: ﴿أن النفس بالنفس﴾. [لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى ﴿كتبنا عليهم أن النفس بالنفس﴾ قلنا لهم: إن النفس بالنفس] فالجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ.
وقال ابن عطية: «ويحتمل أن تكون» الواو «عاطفة على المعنى» وذكر ما تقدم، ثم قال: ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ [الصافات: ٤٥] يُمْنَحُون عطف «وحوراً عيناً» عليه، فنظَّر هذه الآية بتلك لاشتراكهما في النظر إلى المعنى، دون اللفظ وهو حَسَنٌ.
قال أبو حيان: وهذا من العطف على التوهم؛ إذ توهم في قوله: ﴿أنَّ النفس بالنفس﴾ : النفسُ بالنفسِ، وضعَّفه بأن العطف على التوهم لا ينقاس.
والزمخشري نحا إلى هذا المعنى، ولكنه عبَّر بعبارة أخرى فقال: [الرفع للعطف]
352
على محلِّ «أن النفس» ؛ لأن المعنى: «وكتبنا عليهم النفسُ بالنفسِ»، إما لإجراء «كتبنا» «مجرى» قلنا، وإما أن معنى الجملة التي هي «النفس بالنفس» مما يقع عليه الكَتْبُ، كما تقع عليه القراءة تقول: كتبتُ: الحمدُ لله وقرأت: سُورةٌ أنزلناها، ولذلك قال الزَّجَّاج: «لو قرئ إن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحاً».
قال أبو حيان: هذا الوجْهُ الثاني من توجيه أبي عليٍّ، إلا أنه خرج عن المصطلح، حيث جعله من العطف على المحل وليس منه، لأن العطف على المحلِّ هو العطف على الموضعِ، وهو محصور ليس هذا منه، ألا ترى أنا لا نقول: ﴿أن النفس بالنفس﴾ في محل رفع؛ لأن طالبه مفقود، بل «أن» وما في حيِّزهَا بتأويل مصدر لفظه وموضعه نَصبٌ؛ إذ التقدير: «كتبنا عليهم أخذ النفس»، قال شهاب الدين: والزمخشري لم يَعْنِ أن «أن» وما في حيِّزهَا في محل رفع، فعطف عليها المرفوع حتى يلزمه أبو حيان بأن لفظها ومحلَّها نصب، إنما عَنى أن اسمها محلُّه الرفع قبل دخولها، فراعَى العطف عليه كما راعاه في اسم «إن» المكسورة وهذا الرد ليس لأبي حيّان، بل سبقه إليه أبو البقاء، فأخذه منه.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» أنّ «وما عملت فيه في موضع نصب» انتهى.
وليس بشيء لما تقدم.
قال أبو شامة: فمعنى الحديث: قلنا لهم: النَّفْسُ بالنفسُ، فحمل «العين بالعين» على هذا، لأنَّ «أنَّ» لو حذفت لاستقام المعنى بحذفها كما استقام بثبوتها، وتكون «النفس» مرفوعة، فصارت «أن» هنا ك «إن» المكسورة في أن حذفها لا يُخلُّ بالجملة، فجاز العَطْفُ على محل اسمها، كما يجوز على محلِّ اسم المكسورة، وقد حُمِلَ على ذلك:
﴿أَنَّ
الله
برياء
مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾
[التوبة: ٣].
قال ابن الحاجب: «ورسوله» بالرفع معطوف على اسم «أنَّ» وإن كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون.
قال شهاب الدين: بلى قد نَبَّه النحويون على ذلك، واختلفوا فيه، فجوَّزه بعضهم، وهو الصحيحُ، وأكثر ما يكون ذلك بعد «علم» أو ما في معناه كقوله: [الوافر]
353
وقوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله﴾ [التوبة: ٣] الآية؛ لأن «الأذان» بمعنى الإعلام.
الوجه الثالث: أن «العين» عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبراً؛ إذ التقدير أنَّ النفس بالنفس هي والعينُ، وكذا ما بعدها، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبنيةً للمعنى؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر وضَعِّفَ هذا بأن هذه أحوال لازمة، والأصل أن تكون منتقلةً، وبأنه يلزم العَطْفُ على الضمير المرفوع المُتصل من غير فَصْلٍ بين المتعاطفين، ولا تأكيدٍ ولا فَصْلٍ ب «لا» بعد حرف العطف كقوله: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً.
قال أبو البقاء: وجاز العطفُ من غير توكيد كقوله: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] قال شهاب الدين: قام الفصْل ب «لا» بين حرف العطف، والمعطوف مقام التوكيد، فليس نظيره.
وللفارسي بحث في قوله: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] مع سيبويه، فإن سيبويه يجعل طول الكلام ب «لا» عوضاً عن التوكيد بالمنفصل، كما طال الكلام في قولهم: «حضر القاضِيَ اليومَ امرأةٌ».
قال الفارسي: «هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطفِ، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير، ألا ترى أنك لو قلت:» حضر امرأة القاضي اليوم «لم يُغْنِ طُولُ الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه».
قال ابن عطية: «وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتَمَّ، فإنه بعد حرف العطف مؤثر، لا سيما في هذه الآية، لأن» لا «ربطت المعنى؛ إذ قد تقدمها نفي، ونفت هي أيضاً عن» الآباء «فيمكن العطف.
واختار أبو عبيد قراءة رفع الجميع، وهي رواية الكسائي؛ لأن أنَساً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رواها قراءة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وروى أنس عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أيضاً»
أن النَّفسُ بالنَّفسِ «بتخفيف» أنْ «ورفع» النفس «، وفيها تأويلان:
أحدهما: أن تكون»
أنْ «مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف، و» النفس بالنفس «مبتدأ وخبر، في محل رفع خبراً ل» أن «المخففة، كقوله:
﴿أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [يونس: ١٠] فيكون المعنى كمعنى المشدّدة.
354
والثاني: أنها «أنْ» المفسرة؛ لأنها بعد مَا هو بمعنى القول لا حروفه وهو «كتبنا»، والتقدير: أي النفسُ بالنفس، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم، وهو قليل أو ممنوع، وقد يقال: إن «كتبنا» لمّا كان بمعنى «قضينا» قَرُبَ من أفعال اليَقينِ.
وأما قراءة نافع ومن معه فالنَّصْبُ على اسم «أنَّ» لفظاً، وهي النفس، والجار بعده خبرُه.
و «قصاصٌ» خبر «الجروح»، أي: وأن الجروح قصاص، وهذا من عطف الجُمَلِ، عطفت الاسم على الاسم، والخبر على الخبر، كقولك «إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً منطلق» عطفت «عمراً» على «زيداً»، و «منطلق» على «قائم»، ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكون «قصاص» خبراً على المنصوبات أجمع، فإنه قال: وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كلِّه، و «قصاص» خبرُ «أنَّ»، وهذا وإن كان يصدقُ أن أخْذَ النفس بالنفسِ والعين بالعينِ قصاص، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح، وهو محل نظر.
وأما قراءة أبي عمرو ومن معه، فالمنصوب كما تقدم في قراءة نافع، لكنهم لم ينصبوا «الجروح» قطعاً له عما قبله، وفيه أربعة أوجه: الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة الكسائي، وقد تقدم إيضاحه.
والرابع: أنه مبتدأ وخبره «قصاص»، يعني: أنه ابتداء تشريعٍ، وتعريف حكم جديد.
قال أبو علي: «فأمّا» والجروح قصاص « [فمن رفعه يقْطَعُهُ عما قبله، فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع» والعين بالعين «، ويجوز أن يستأنف» والجروح قصاص «] ليس على أنه مما كُتب عليهم في التوراة، ولكنه على الاستئناف، وابتداء تشريع» انتهى.
إلا أن أبا شامة قال - قبل أن يحكي عن الفارسي هذا الكلام -: «ولا يستقيم في رفع الجروح الوجه الثالث، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر» النفس «وإن جاز فيما قبلها، وسَبَبُهُ استقامة المعنى في قولك: مأخوذة هي بالنفس، والعين هي مأخوذة بالعين، ولا يستقيم، والجروحُ مأخوذة قصاص، وهذا معنى قولي: لما خلا قوله:» الجروح قصاص «عن» الباء «في الخبر خالفَ الأسماءَ التي قبلها، فخولف بينهما في الإعراب».
قال شهاب الدين: وهذا الذي قاله واضح، ولم يتنبه له كثير من المُعرِبين.
355
وقال بعضهم: «إنما رُفِعَ» الجروح «ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لما قبله فَرْقاً بين المجمل والمفسر». يعني أن قوله: «النَّفْسَ بالنفسِ، والعينَ بالعينِ» مفسّر غير مجمل، بخلاف «الجروح»، فإنها مجملة؛ إذ ليس كل جرح يجري فيه قصاصٌ؛ بل ما كان يعرف فيه المساواة، وأمكن ذلك فيه، على تفصيل معروف في كتب الفقه.
وقال بعضهم: خُولِفَ في الإعراب لاختلاف الجراحات وتفاوتها، فإذن الاختلاف في ذلك كالخِلافِ المُشَارِ إليه، وهذان الوجهان لا معنى لهما، ولا ملازمة بين مُخَالَفَةِ الإعراب، ومخالفةِ الأحكام المُشَارِ إليها بوجهٍ من الوُجُوهِ، وإنما ذكرتها تنبيهاً على ضعفها.
وقرأ نافع: «والأذْن بالأذْن» سواء كان مفرداً أم مثنى، كقوله: ﴿كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ [لقمان: ٧] بسكون الذال، وهو تخفيف للمضموم ك «عُنْق» في «عُنُق» والباقون بضمهما، وهو الأصل، ولا بد من حذف مضاف في قوله: «والجروحُ قصاص» : إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، وسواء قُرئ برفعه أو بنصبه، تقديره: وحكم الجروح قصاص، أو: والجروح ذات قصاص.
والقِصَاصُ: المقُاصَّةُ، وقد تقدم الكلام عليه في «البقرة» [الآية ١٧٨].
وقرأ أبيّ بنصب «النفس»، والأربعة بعدها و «أن الجُرُوحُ» بزيادة «أن» الخفيفة، ورفع «الجُرُوح»، وعلى هذه القراءة يَتعيَّنُ أن تكون المخففة، ولا يجوز أن تكون المفسرة، بخلاف ما تقدَّم من قراءة أنس عنه عليه السلام بتخفيف «أن» ورفع «النفس» حيث جوزنا فيها الوجهين، وذلك لأنه لو قدرتها التفسيرية [وجعلتها معطوفة على ما قبلها فسد من حيث إن «كتبنا» يقتضي أن يكون عاملاً لأجل أنّ «أن» المشدّدة غير عامل لأجل «أنْ» التفسيرية]. فإذا انتفى تسلّطه عليها انتفى تشريكها مع ما قبلها؛ لأنه إذا لم يكن عمل فلا تشريك، فإذا جعلتها المُخَفَّفَةَ تسلَّطَ عمله عليها، فاقتضى العمل التشريك في انصباب معنى الكَتْبِ عليهما.

فصل


قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة، وهو أن النفس بالنفس. الخ، فما بالهم يقتلون بالنفس النفسين، ويفقأون بالعين العينين،
356
والمعنى أن من قتل نفساً بغير قود قتله، ولم يجعل الله لهم دية في نفس ولا جرح، إنما هو العفو أو القصاص، وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضاً في الأطراف، ولما ذكر حكم بعض الأعضاء ذكر الحكم في كلها فعمَّ بعض التخصيص فقال: «والجروح قصاص»، وهو كل ما يمكن أن يختص فيه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والألْيتيْنِ والقدمَيْنِ واليدين وغيرهما، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضّ لحم أو كسر عظم أو جرح يخاف منه التلف، ففيه أرش؛ لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته.
وقرأ أبيّ: «فهو كفارته له»، أي: التصدق كفارة، يعني الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها وهو تعظيم لما فعل كقوله: ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ [الشورى: ٤٠].
قوله تعالى: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي: بالقصاص المتعلق بالنفس، أو بالعين أو بما بعدها، فهو أي: فذلك التصدقُ، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه، وهو كقوله تعالى: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨].
والضمير في «له» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: وهو الظاهر: أنه يعود على الجاني، والمراد به وَلِيّ القصاص أي: فالتصدق كَفَّارة لذلك المتصدق بحقه، وإلى هذا ذهب كثير من الصحابة فمن بعدهم [ويؤيده قوله تعالى في آية القصاص في البقرة وأن تعفوا أقرب للتقوى].
والثاني: أن الضمير [يراد به] الجاني، [والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص، والمعنى أنه إذا تصدق المستحق على الجاني]، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يُؤاخذ به.
قال الزمخشري: «وقيل: فهو كفارة له أي: للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه في الدنيا والآخرة» فأمّا أجر العافي فعلى الله قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ [الشورى: ٤٠] وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ تَصدَّقَ مِنْ جسدِهِ بِشَيءٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقدرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ» وإلى هذا ذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في آخرين.
الثالث: أن الضمير يعود على المتصدق أيضاً، لكن المراد الجاني نفسه، ومعنى
357
كونه متصدقاً، أنه إذا جنى جناية، ولم يعرف به أحد، فعرف هو بنفسه، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قال مجاهد.
وَيُحْكَى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه، فلم يعرف الرجل من أصابه، فقال له عروة: «أنا أصبتك، وأنا عروة بن الزُّبَيْرِ، فإن كان يعنيك شيء فَهَا أنَا ذَا» وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون «تصدَّق» من الصدقة، وأن يكون من الصِّدْق.
قال شهاب الدين: فالأول واضح، والثاني معناه أن يتكلف الصدق؛ لأن ذلك مما يشق.
وقوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم﴾ يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط.
و «هم» في قوله: «هم الكافرون» ونظائره فصل أو مبتدأ، وكله ظاهر مما تقدَّم في نظائره.
فإن قيل: إنه ذكر أولاً قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون﴾ [المائدة: ٤٤] وثانياً: «هم الظالمون» والكفر أعظم من الظلم. فلماذا ذكر أعظم التهديدات، ثم ذكر بعده الأخف فأيُّ فائدة في ذلك؟ فالجواب: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها، فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس في الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم.
358
قوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم﴾ الآية، قد تقدم معنى «قفينا» وأنه من قَفَا يَقْفُو أي: تبع قفاه في البقرة [الآية ٨٧] وقوله تعالى: ﴿على آثَارِهِم بِعَيسَى﴾ كِلاَ الجارَّيْنِ متعلق به على تضمينه معنى «جئنا به على آثارهم قافياً لهم».
وقد تقدم أيضاً أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذُكِرَتْ هناك، وإيضاحها أنَّ «قَفَا» متعدٍّ لواحد قبل التضعيف، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦] ف «ما» موصولة بمعنى «الذي» هي مفعول، وتقول العرب: «قفا فلان أثر فلان» أي: تبعه، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين، فكان التركيب يكون: «ثم قفيناهم عيسى ابن مريم» ف «هم» مفعول ثانٍ، و «عيسى» أول، ولكنه ضُمِّن كما تقدم، فلذلك تعدى
358
بالباء، و «على» قال الزمخشري «» قَفَّيْتُهُ «مثل: عَقَّبْتُهُ إذا أتبعته، ثم يقال:» قَفَّيتُهُ بفلان «مثل: عَقَّبْتُه به: فتعديه إلى الثاني بزيادة» الباء «.
فإن قلت: فأين المفعول الأول؟
قلت: هو محذوف، والظرف الذي هو»
على آثارهم «كالسَّادِّ مسدَّه؛ لأنه إذا قَفَّى به على أثره، فقد قَفَّى به إياه، فكلامه هنا ينحو إلى أنَّ» قفَّيته «مضعفاً ك» قفوته «ثلاثياً ثم عدَّاهُ بالباء، وهذا وإن كان صحيحاً من حيث إنَّ» فعَّل «قد جاء بمعنى» فعل «المجرد ك» قدَّرَ وقَدَرَ «، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلى ثانٍ بالباء، لا تقول في» طعم زيد اللحم «:» أطعمت زيداً باللحم «ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع، جاءت منه ألفاظ قالوا:» صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ «ثم يقولون: صككت الحَجَر بالحجر، و» دَفَعَ زيدٌ عَمْراً «ثم: دَفَعْتُ زيداً بعمرو: أي: جعلته دافعاً له، فكلامه إما ممتنع، أو محمول على القليل، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادِّعاء حذف المفعول من نحو» قَفَّيْنَا «في البقرة [الآية ٨٧].
وناقشه أبو حيان في قوله:»
فقد قَفَّى به إياه «من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول:» قفيته به «.
قال:»
ولو قلت: «زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه» لم يَجُزْ إلا في ضرورة شعر، بل ضربته بسوط «، وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله: ﴿يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ﴾ [الممحنة: ١] ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [النساء: ١٣١] وقد تقدَّم تحقيقه.
والضمير في «آثارهم»
: إمَّا للنبيين؛ لقوله: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النبيون﴾ [المائدة: ٤٤] وإمَّا لِمَنْ كُتِبَتْ عليهم تلك الأحْكَامُ، والأول أظهر؛ لقوله في موضع آخر: ﴿برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم﴾.
و «مصدقاً» حال من «عيسى».
قال ابن عطية: وهي حال مؤكّدة، وكذلك قال في «مصدقاً» الثانية، وهو ظاهرٌ فإن مَنْ لازم الرَّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن.
و «لما» متعلّق به.
وقوله: «من التوراة» حال: إما من الموصول، وهو «ما» المجرورة باللام، وإما من الضمير المستكنّ في الظرف لوقوعه صِلَةً، ويجوز أن تكُون لبيان جِنْسِ الموصول.
قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الإنجيل﴾ يجوز فيها وجهان:
359
أحدهما: أن تكون عطفاً على قوله: «وَقَفَّيْنَا» فلا يكون لها مَحَلٌّ، كما أن المعطوف عليه لا مَحَلَّ له، ويجوز أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال عَطْفاً على «مصدقاً» الأوَّل إذا جعل «مصدقاً» الثاني حالاً من «عيسى» أيضاً كما سيأتي، [ويجوز أن تكون الجملة حالاً] وإن لم يكن «مصدقاً» الثاني حالاً من «عيسى».
قوله تعالى: «فيه هدى» يجوز أن يكون «فيه» وحده حالاً من الإنجيل، و «هدى» فاعل به؛ لأنه لما اعتمد على ذِي الحَالِ رفع الفاعل ويجوز أن يكون «فيه» خبراً مقدّماً، «وهدى» مبتدأ مؤخر، والجملة حال، و «مصدقاً» حال عَطْفاً على محل «فيه هدى» بالاعتبارين أعني اعتبار أن يكون «فيه» وَحْدَهُ هو الحال، فعطفت هذه الحال عليه، وأن يكون «فيه هدى» جملة اسمية محلُّها النصب، و «مصدقاً» عطف على محلِّهَا، وإلى هذا ذَهَبَ ابن عطية، إلاّ أن هذا مرجوحٌ من وجهين:
أحدهما: أن أصل الحال أن تكون مفردة، والجار أقرب إلى المفرد من الجمل.
الثاني: أن الجملة الاسمية الواقعة حالاً، الأكثر أن تأتي فيها بالواو، وإن كان فيها ضميرٌ - حتى زعم الفراء - وتبعه الزمخشري أن ذلك لا يجوز إلا شاذّاً، وكونُ «مصدقاً» حالاً من «الإنجيل» هو الظاهر.
وأجاز مكي بن أبي طالب - وتبعه أبو البقاء - أن يكون «مصدقاً»، الثاني حالاً أيضاً من عيسى «كُرِّرَ توكيداً.
قال ابن عطية:»
وهذا فيه قَلَقٌ من جهة اتساق المعاني «.
قال شهاب الدين: إذا جعلنا»
وآتيناه «حالاً منه، وعطفنا عليها هذه الحال الأخرى، فلا أدْرِي وجْه القلقِ من الحيثية المذكورة؟
وقوله:»
وهدى «الجمهور على النَّصْبِ، وهو على الحال: إمَّا من» الإنجيل «، عطفت هذه الحال على ما قبلها، وإمَّا من» عيسى «أي: ذا هُدًى وموعظة، أو هادياً، أو جعل نفس الهدى مبالغة.
وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعُولِ من أجْلِهِ، وجعل العامل فيه قوله تعالى: «آتيناه»
، قال: وأنْ ينتصبا مفعولاً لهما لقوله: «وليحكم» كأنه قيل وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم.
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون العامل فيه «قَفَّيْنَا» أي: قفينا للهدى والموعظة،
360
وينبغي إذا جعلا مفعولاً من أجله أن يُقدَّر إسنادهما إلى الله - تعالى - لا إلى الإنجيل ليصح النصب، فإن شرطه اتحاد المفعول له مع عامله فاعلاً وزماناً، ولذلك لما اختلف الفاعل في قوله: ﴿وليحكم أهل الإنجيل﴾ عُدِّي إليه باللام، ولأنه خالفه أيضاً في الزمان، فإن زمن الحكم مستقبل وزمن الأنبياء ماضٍ، بخلاف الهداية والموعظة، فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء.
و «للمقيمين» يجوز أن يكون صفة ل «موعظة»، ويجوز أن تكون «اللام» زائدة مقوية، و «المتقين» مفعول ب «موعظة»، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله؛ لأنه مبنيٌّ عليها؛ كقوله: [الطويل]
١٩٧٠ -.................. وَرَهْبَةٌ... عِقَابَكَ.......................
وقد تقدم الكلام على «الإنجيل» واشتقاقه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن إعادته.
وقرأ الضَّحَّاك بن مزاحم: «وهُدًى وموعِظَةٌ» بالرفع، ووَجْهُهَا أنها خبر ابتداء مضمر، أي: وهو هدى وموعظة.

فصل


قال ابن الخَطيبِ: هنا سؤالات:
الأول: أنه - تعالى - وَصَفَ عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وإنما يكون كذلك، إذا كان [عمله على شريعة التوراة، ومعلوم أنه لم يكن] كذلك فإن شريعة عيسى كانت مغايرة لشريعة موسى عليهما السلام، ولذلك قال تعالى في آخر هذه الآية: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ﴾ [المائدة: ٤٧] فكيف الجمع بينهما؟
والجواب: كون عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مصدقاً للتوراة، أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى، وأنه كان حقًّا واجب العمل به قبل وُرُودِ النَّسْخِ.
الثاني: لم كرر كونه مصدقاً لما بين يديه؟
والجواب: ليس فيه تكْرَارٌ، إلا أنَّ في الأول أنَّ المسيح يصدق التوراة، وفي الثاني: الإنجيل يصدق التوراة.
الثالث: ما معنى وصفه الإنجيل بهذه الصفات الخمسة فقال « [فيه] هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين» ؟
361
والجواب: [أن قوله] «هدى» بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدَّالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة الله عن الصاحبة والولد، والمثل والضد، وعلى النبوة والمعاد فهذا هو المراد بكونه هدى.
وأما كونه نوراً [فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف].
وأما كونه هدى مرة أخرى، فلأن اشتماله على البشارة بمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولمّا كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير.
وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة، وإنما خصها بالمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بها كقوله ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
362
قوله تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ﴾ قرأ الجمهور بسكون «اللام» وجزم الفعل بعدها على أنها لام الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً ب «كَتْف» وإن كان أصلها الكسر، وقد قرأ بعضهم بهذا الأصل.
وقرأ حمزة والأعمش، بكسرها ونصب الفعل بعدها، جعلها لام «كي»، فنصب الفعل بعدها بإضمار «أن» على ما تقرر غير مَرّة، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكون جملة مستأنفة.
وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق «اللام» ب «آتينا»، أو ب «قفَّيْنَا» إن جعلنا «هدى وموعظة» مفعولاً لهما، أي: قَفَّينا للهدى والموعظة وللحكم، أو آتيناه الهدى والموعظة والحكم، وإن جَعَلْنَاهما حالين معطوفين على «مصدقاً» تعلَّق «وليحكم» في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ، كأنه قيل: «وللحكم آتيناه ذلك».
362
قال الزمخشري: فإن قلت: فإن نظمت «هدى وموعظة» في سِلْكِ «مصدقاً» فما تصنع بقوله: «وليحكم» ؟
قال شهاب الدين: أصنعُ به ما صنعت ب «هدى وموعظة» حيث جعلتهما مفعولاً لهما فأقدِّر: «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه».
وقال ابن عطية قريباً من الوجه الأول، أعني كون «وليحكم» مفعولاً له عطفاً على «هدى» والعامل «آتيناه» الملفوظ به، فإنه قال: وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم أهل الإنجيل.
قال أبو حيان: فعطف «وليحكم» على توهّم علةٍ، ولذلك قال: «ليتضمن» وذكر أبو حيان قول الزمخشري السَّابق، وجعله أقرب إلى الصواب من قول ابن عطية.
قال: لأنَّ الهدى الأول، والنور والتصديق لم يؤت بها على أنها علّة، إنما جيء بقوله: ﴿فيه هدى ونور﴾ على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً، وهذا معنى الحَالِ، والحالُ لا تكون علةً، فقوله: «ليتضمَّن كَيْتَ وكَيْتَ وليحكم» بعيد.
واختلف المفسرون في هذه الخواتم الثلاثة أعني: الكافرون الظالمون الفاسقون.
فقال القفال: صفات لموصوف واحد، وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة باللفظ ما يوجب القدح في المعنى، بل كما يقال: مَنْ أطاعَ اللَّهَ فَهُوَ البَرُّ، ومن أطاعَ الله فهو المؤمنُ، ومن أطاعَ الله فهو المُتَّقِي؛ لأنَّ كُلَّ ذلك صفاتٌ مُخْتَلِفَةٌ حاصِلةٌ لموْصُوفٍ واحدٍ وقال آخرون: الأوَّلُ في الْجَاحِدِ، والثاني والثالث: في المُقِرِّ التاركِ، وقال الأصم: الأوَّلُ والثاني في اليهُودِ، والثالثُ في النَّصارى.
وقال الشَّعْبِيُّ: الأولى في المسلمين والثانيةُ في اليهودِ، والثالثةُ: في النصارى، لأنَّ قبلَ الأولى «فإنْ جَاءُوك فاحْكُم»، و «كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ»، و «يَحْكُمُ بها النَّبِيُّونَ» وَقَبْلَ الثانيةِ «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم» وهم اليهودُ، وقَبل الثَّالِثَةِ «وَلْيَحكُمْ أهْلُ الإنجِيلِ» وهمُ النَّصارى، فكأنَّه خَصَّ كُلَّ واحدةٍ بما يليه وهذا أحْسَنُهَا.
وقرأ أبَيٌّ: «وَأن ليحكُم» بزيادة «أنْ» وليْسَ موضِعَ زيادَتِهَا.
363

فصل


مَنْ قَرَا بِكَسْرِ اللامِ وفتحِ الميمِ جعل اللاَّم مُتعلقةً بقوله: «وآتيْنَاهُ الإنجيلَ» فيكونُ المعْنَى: آتيناهُ الإنجيلَ ليحكُم، ومن قرأ بِجَزْمِ اللام والميمِ على سبيلِ الأمْرِ ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون التقديرُ: وقُلْنا: لِيَحْكُمْ أهْلُ الإنجيلِ، فيكونُ هذا إخباراً عمَّا فرض الله عليهم في ذلك الوقْتِ، وحذفُ القولِ كثيرٌ كقوله تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤] أيْ: يَقُولُونَ سلامٌ عليْكُم.
والثاني: أن يكونَ قوله: «وَلَيَحْكُمْ» ابتَدأ الأمْرَ للنَّصارى بالحُكْمِ بما في الإنجيلِ.
فإنْ قِيل: كيف يجُوزُ أن يُؤمَرُوا بالحُكْمِ بِمَا فِي الإنجيلِ بعد نزولِ القرآنِ؟
فالجوابُ من وُجُوه:
[الأول: ليحكم أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثاني: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخاً بالقرآن.
الثالث: المرادُ وليحكمْ أهلُ الإنجيلِ بما أنزل الله فيه] زجرهم عَنْ تحريفِ ما فِي الإنجيل وتَغْييرهِ كما فعله اليهودُ مِنْ إخفاءِ أحكامِ التَّوراةِ، والمعنى: وَلْيُقِرّ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجْهِ الذي أنزلَهُ من غَيْرِ تحريفٍ ولا تبديلٍ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عَزَّ وَجَلَّ.
364
وهذا خطابٌ مع النَّبِي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والمرادُ بالكتابِ القرآن العظيم.
والباءُ [في «بالحَقِّ» ] يجوزُ أن تكونَ لِلْحَالِ مِنَ «الكتابِ» أيْ: مُلْتَبِساً بالحقِّ والصِّدْقِ، وهي حالٌ مؤكدة، ويجوزُ أن تكون حالاً من الفاعلِ أيْ: مُصَاحبينَ للحقِّ، أو حالاً من «الكافِ» في «إليْكَ» أيْ: وأنت مُلْتَبِسٌ بالحَقِّ.
و «مِنَ الكتابِ» تقدم نظيرُه، و «ألْ» في الكتابِ الأولِ للعَهْدِ، وهو القرآنُ بلا خلافٍ، وفي الثاني: يحتملُ أن تكونَ للجنْسِ، إذ المُرادُ الكُتُبُ السماويَّة [كما تقدم].
364
وجوَّز أبُو حيان: أنْ تكُون لِلْعَهد؛ إذ المرادُ نوعٌ معلُومٌ من الكتابِ، لا كُل ما يقعُ عليه هذا الاسمُ، والفرقُ بَيْنَ الوجهيْنِ أنَّ الأولَ يحتاجُ إلى حَذْفِ [صفة] أيْ: مِنَ الكتابِ الإلهِي، وفي الثاني لا يحتاجُ إلى ذلِكَ؛ لأن العَهْدَ فِي الاسْمِ يتضمنُه بجميعِ صِفَاتِهِ.
قوله تعالى: «وَمُهَيْمِناً» الجمهورُ على كَسْرِ الميمِ الثانيةِ، اسمُ فاعلٍ، وهو حالٌ من «الكتاب» الأول لعطفِهِ على الحالِ منه وهو «مُصدِّقاً»، ويجوزُ في «مُصَدِّقاً» و «مُهَيْمِناً» أنْ يَكُونَا حاليْنِ مِنْ كافِ «إلَيْكَ»، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قراءةِ مجاهد رَحِمَهُ اللَّهُ.
«وعليْهِ» متعلقٌ ب «مُهَيْمِن».
و «المهيمنُ» : الرَّقيبُ قال حسَّان: [الكامل]
١٩٦٩ - وإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ بُغَاةٌ ما بَقِينَا فِي شِقَاقِ
١٩٧١ - إنَّ الكتابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الألْبَابِ
والحافِظُ أيْضاً قال: [الطويل]
١٩٧٢ - مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمنٌ لِعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «شاهِداً» وهو قولُ مُجاهدٍ وقتادَةَ والسديِّ والكِسَائِي، وقال عِكْرِمَةُ: دالاً، وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبُو عُبيدَةَ: مُؤتَمناً عليه. وقاله الكسائيُّ والحسنُ.
واختلفوا: هل هو أصل بِنَفْسِهِ، أيْ: أنه ليس مُبْدَلاً مِنْ شيءٍ، يقالُ: «هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُو مُهَيْمِن» ك «بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ فهو مُبَيْطر».
وقال أبُو عُبَيْدة: لم تَجِئْ في كلامِ العرب على هذا البِنَاءِ إلا أربعةُ ألفاظٍ: «مُبَيْطِر، ومُسَيْطِر، ومُهَيْمن، ومُحَيْمِر».
365
وزاد أبُو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في شرحه لخُطْبَةِ «أدَبِ الكاتبِ» لفظاً خامساً، وهو مُبَيْقِر، اسم فاعل من: بيقَر يُبَيْقِر أيْ: خرج من أفُقٍ إلى أفُقٍ، أو لعب البُقَّيْرى وهي لعبةٌ مَعْرُوفةٌ للصِّبْيَان.
وقيل: إنَّ هاءَهُ مُبْدلةٌ من همزة، وأنه اسمُ فاعلٍ من آمن غيرهُ مِنَ الخوفِ، والأصْلُ «مُأَأْمِن» بهمَزْتَيْنِ أبدلَتِ الثانيةُ ياءً كراهِيةَ اجتماعِ همزتين، ثُمَّ أبْدِلَتِ الأولَى هاءً ك «هراق وهراح، وهَبرتُ الثوب» في: «أراق وأراح وأبرتُ الثوبَ» و «أيهاتَ وهَيْهَات» ونحوها، وهذا ضعيفٌ فيه تكلُّفٌ لا حاجة إليه، مع أنَّ له أبْنِيَةً يُمْكِن إلحاقهُ بها ك «مُبَيْطِر» وإخوانه، وأيضاً فإنَّ هَمْزَةَ «مُأَأْمِن» اسمُ فاعلٍ من «آمَنَ» قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أنها أثبتت، ثم أبدلت هاءً، هذا ما لا نظيرَ له.
وقد سقط ابنُ قَُتَيْبَة سقطةً فاحِشَةً حيث زعم أن «مُهَيْمِناً» مُصَغَّرٌ، وأنَّ أصلهُ «مُؤيْمِنٌ» تصغيرُ «مُؤمِن» اسمُ فاعلٍ، ثُم قُلبتْ همزتهُ هاءً ك «هَرَاق»، ويُعْزَى ذلك لأبِي العبّاس المُبَرّدِ أيضاً، إلاَّ أنَّ الزَّجَّاج قال: «وهذا حسنٌ على طريق العربية [وهُو مُوافقٌ لِمَا جَاءَ فِي التفسيرِ مِن أنَّ معنى» مُهَيْمِن «: مُؤمِنٌ». وهذا الذي قالَهُ الزَّجَّاجُ واسْتَحْسَنَهُ] أنكره الناسُ عليه، وعلى المبرِدِ، وعلى مَنْ تَبِعَهُما.
ولما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَباً هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة، وكتب إليه: أن اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ، لأنَّ أسماءَ الله - تعالى - لا تُصَغَّر، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم شَرْعاً.
وقال ابنُ عطيَّة: «إنَّ النقَّاش حَكَى أنَّ ذلك لمَّا بلغ ثعلباً فقال: إنَّ ما قال ابنُ قُتَيْبَة رَدِيءٌ باطِلٌ، والوُثُوب على القرآنِ شديدٌ، وهو ما سَمِعَ الحديثَ مِنْ قويٍّ ولا ضعيفٍ، وإنَّما جمع الكتُبَ من هَوَسٍ غلبه».
وقرأ ابنُ مُحيصن ومُجاهد: «وَمُهَيْمَناً» بفتح الميمِ الثانيةِ على أنَّه اسمُ مفعولٍ.
وقال أبُو البقاءِ: وأصلُ «مُهَيْمن» : مُؤيمنٌ؛ لأنه مُشْتَقٌّ من «الأمانة» ؛ لأنَّ المهيمنَ الشاهدُ، وليس في الكلام «هَيْمَنَ» حتى تكُون «الهاء» أصْلاً، وهذا الذي قالهُ ليس بِشَيءٍ لما تقدَّمَ مِنْ حِكايةِ أهْلِ اللُّغَةِ «هَيْمَنَ»، وغايةُ مَا في البابِ أنهم لم يستعمِلُوه إلاَّ مَزِيداً فيه الياءُ ك «بَيْطَر» وبابِهِ، بمعنى أنَّه حُوفِظَ عليه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ، والفاعلُ هو الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] أو الحافظُ لهُ في كُلِّ
366
بلدٍ، حتَّى إنَّه إذا غيَّرْتَ مِنْه الحَرَكَةَ تَنَبَّهَ لها الناسُ، ورَدُّوا على قارئها بالصوابِ.
والضميرُ في «عَلَيْه» على هذه القراءةِ عائدٌ على الكتابِ الأولِ، وعلى القراءة المشهورةِ عائدٌ على الكتاب الثاني.
وروى ابنُ أبِي نَجيح عَنْ مُجاهدٍ قراءتَهُ بالفتحِ، وقال: «معناه: مُحَمدٌ مؤتمنٌ على القرآنِ».
قال الطَّبرِيُّ: فعلى هذا يكون «مُهَيْمِناً» حالاً من «الكَافِ» في «إليْك»، وطعنَ على هذا القولِ لوجود «الواو» [في] «ومهيمناً» ؛ لأنها عطفٌ على «مُصدِّقاً»، و «مُصدِّقاً» حالٌ مِنَ «الكِتاب» لا حَالٌ مِنَ «الكَافِ» ؛ إذْ لَوْ كان حالاً مِنْها لكان التركيبُ: «لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ» بالكَافِ.
قال أبُو حيّان: وتأويلُه على أنَّه من الالتفات من الخطاب إلى الغَيْبَةِ بعيدٌ عَنْ نظم القرآن، وتقديرُ: «وَجَعلْنَاكَ يا مُحمَّدُ مُهَيْمِناً» أبعدُ يعني: أنَّ هذيْنِ التَّأويلَيْنِ يَصْلُحَانِ أنْ يكُونَا جَوَابَيْنِ عن قول مجاهد، لكنَّ الأولَ بعيد، والثَّانِي أبعدُ مِنْه.
وقال ابن عطيَّة هنا بَعْدَ أن حَكَى قراءةَ مُجاهِدٍ وتفسيرَهُ محمداً - عليه السلام - أنَّه أمينٌ على القرآنِ: قال الطبريُ وقوله: «ومُهَيْمناً» على هذا حالٌ مِنَ «الكَافِ» في قوله: «إلَيْكَ» قال: «وهذا تأويلٌ بعيدُ المفهومِ» قال: «وغلط الطبرِيُّ في هذه اللَّفْظَةِ على مُجاهدٍ، فإنه فَسَّرَ تأويلَهُ على قراءةِ النَّاسِ» مُهَيْمناً «بِفَتْحِ الميمِ الثانيةِ، فَبَعُدَ التأويلُ، ومجاهدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّما يَقْرأ هو وابنُ مُحَيْصِن:» مُهَيْمَناً «بِفَتْحِ الميمِ الثَّانِيَةِ فهُوَ بناءُ اسم المفعولِ، وهو حالٌ من» الكِتَابِ «معطوفٌ على قوله:» مُصَدِّقاً «، وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد - عليه السلام -».
قال: «وكذلك مشى مَكيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -».
قال شهابُ الدِّين: وما قاله أبُو محمدٍ ليس فيه ما يَرُدُّ على الطَّبريِّ، [فإنَّ الطبري] اسْتَشْكَلَ كَوْنَ «مُهَيْمِناً» حالاً من «الكافِ» على قراءة مجاهدٍ، وأيضاً فقد قال ابنُ عطية بعد ذلك: ويُحْتَملُ أنْ يكونَ «مُصدِّقاً ومُهَيْمِناً» حاليْنِ مِنَ «الكافِ» في «إلَيْكَ»، ولا يخص ذلك قراءةَ مُجاهدٍ وحده كما زعم مَكّي، فالناسُ إنما اسْتَشْكَلُوا كَوْنَهُمَا حالين من كافِ «إليك» لِقَلَقِ التركيبِ، وقد تقدم ما فيه وما نقله أبُو حيَّان مِنَ التَّأويلينِ.
وقوله: «ولا يخص ذلك» كلامٌ صَحِيحٌ، وإنْ كان مكِّيٌّ التَزَمَهُ، وهو الظَّاهِرُ.
و «عَلَيْهِ» في مَوْضِعِ رَفْعٍ على قراءةِ ابنِ مُحَيْصن، ومجاهدٍ لقيامِهِ مُقَامَ الفاعلِ، كذا قاله ابنُ عَطِيَّةً.
367
قال شهاب الدين: هذا إذا جعلنا «مُهَيْمناً» حالاً من «الكتاب»، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف «إلَيْكَ»، فيكون القائمُ مقام الفاعلِ ضَمِيراً مُسْتَتِراً يعُود على النبي - عليه السلام -، فيكون «عليه» أيضاً في مَحَلِّ نَصْب، كما لو قُرِئ به اسمُ الفاعل انتهى.

فصل معنى أمانة القرآن


ومعنى أمانةِ القرآنِ ما قال ابنُ جُرَيج: القرآنُ أمين على ما قبله من الكُتُبِ، فما أخبر أهْلُ الكتابِ عن كِتَابِهِمْ، فإنْ كان في القرآن فصدِّقوه، وإلاَّ فَكَذِّبُوه.
قال سعيدٌ بن المُسيَّب والضَّحاك: قَاضِياً، وقيل: إنَّما كان القُرْآن مُهَيْمِناً على الكُتُب؛ لأنه الكِتَاب الذي لا يَصِير مَنْسُوخاً ألْبَتَّةَ، ولا يَتَطَرَّقُ إلَيْه التَّبْديل والتَّحْريف؛ لقوله تعالى:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
وإذا كان كذلك كان شهادَة القُرْآن على التَّوْرَاة والإنْجيل والزَّبُور حقٌّ وصدقٌ باقيةٌ أبداً، [وكانت حقيقة هذه الكُتُب مَعْلُومة أبداً].
ومن قَرَأ بفتح الميمِ الثَّانِية، فالمعنى أنه مشهودٌ عليه من عِنْد الله تعالى بأنَّه يَصُونُه عن التَّحْرِيف والتَّبْدِيلِ لقوله تعالى: ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢]، والآيات المتقدِّمة.
قوله تعالى ﴿فاحكم بَيْنَهُم﴾ : يا محمد ﴿بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ بين أهْلِ الكتاب إذا ترافعُوا إليك بالقُرآن، والوَحْي ينزل عليك، ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾، أي: ولا تتحَرِفْ، ولذلك عدَّاه ب «عَنْ» كأنَّه قيل: ولا تنحرف عمَّا جاءك من الحقِّ مُتَّبِعاً أهواءَهم.
روي أنَّ جماعة من اليهُود قالوا: تعالوا [نذهب] إلى محمد لعلَّنا نَفْتِنهُ عن دينه، ثمَّ دَخَلُوا عليه وقالوا: يا مُحَمَّد قد عَرَفْتَ أنّا أحبار اليَهُود وأشْرَافُهم، وأنّا إن اتَّبَعْنَاك اتَّبَعَك كلُّ اليَهُود، وإنَّ بَيْنَنَا وبين خصُومِنا حُكُومة فَنُحَاكِمهم إلَيْكَ، فاقْضِ لنا ونحْنُ نُؤمِنُ بك فأنزل الله تعالى هذه الآية - والله أعلم -.

فصل


تمسَّك من طعن في عِصْمَة الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآيةِ، وقال: لولا جواز المَعْصِيَة عليهم لما قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق﴾.
368
والجوابُ: أنَّ ذلِكَ مَقْدورٌ له، ولكِنَّهُ لا يَفْعَله لمكان النَّهْي، وقيل: الخِطَابُ له والمُرَاد غيره.
قوله تعالى: «عَمَّا جاءَك» فيه وجهانِ:
أحدهما - وبه قال أبو البقاء - أنَّهُ حال، أي: عَادِلاً عمَّا جَاءَك، وهذا فيه نَظرٌ من حيث إنَّ «عَنْ» حرف جرٍّ ناقِص لا يقع خَبَراً عن الجُثَّةِ، فكذا لا يَقَعُ حالاً عنها، وحرف الجر النَّاقِص إنَّما يتعلَّق بكَوْنٍ مُطْلق لا بكَون مُقَيَّد، لكن المقيَّد لا يجوز حَذْفُهُ.
الثاني: أن «عَنْ» على بابِها من المُجَاوَزَةِ، لكن بتضمين [ «تَتَّبعْ» ] معنى «تَتَزَحْزَحْ وتَنْحَرِفْ»، أي: لا تَنْحَرِفْ مُتَّبِعاً كما تقدم.
قوله تعالى: «مِن الحقِّ» فيه أيْضاً وجهان:
أحدهما: أنَّه حالٌ من الضَّمِير المرفُوع في «جاءَك».
والثاني: أنَّهُ حالٌ من نفس «مَا» الموصُولة، فيتعلّق بمحذوفٍ، ويجُوزُ أن تكون للبيان.
قوله [تعالى] :«لِكُلّ» :«كُلّ» مضافة لشيء محذوفٍ، وذلك المَحذُوف يُحتمل أن يكون لَفْظَة «أُمّة»، أي: لكل أمة، ويراد بِهِم: جميعُ النَّاسِ من المُسْلِمِين واليَهُود والنَّصارى.
ويحتمل أن يكُون ذلك المَحْذُوف «الأنْبِيَاء» أي: لكلِّ الأنْبِياءِ المقدَّم ذِكْرُهم.
و «جَعَلْنَا» يُحْتَمل أن تكون مُتعدِّية لاثْنَين بمعنى صَيَّرْنَا، فيكون «لكلِّ» مفعولاً مقدَّماً، و «شِرْعَةً» مفعول ثانٍ.
وقوله: «مِنْكم» متعلِّق بمحذُوفٍ، أي: أعْني مِنْكم، ولا يجُوز أن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنَّهُ صِفَة ل «كُلٍّ» لوجهين:
أحدهما: أنَّهُ يلزم منه الفَصْلُ بين الصِّفَة والموصُوف بقوله: «جعلنا»، وهي جُمْلة أجْنَبيَّة ليس فيها تَأكِيد ولا تَسْدِيدٌ، وما شأنه كذلِكَ لا يجُوزُ الفَصْلُ به.
والثاني: أنه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين «جَعَلْنَا»، وبين مَعْمُولها وهو «شرعة» قاله أبو البقاء، وفيه نظر، فإنَّ العامِلَ في «لِكُلٍّ» غير أجْنَبِيّ، ويدلُّ [على ذلك] قوله: ﴿أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ﴾ [الأنعام: ١٤]، ففصل بين الجلالة وصِفَتِها بالعامِل في المَفْعُول الأوّل، وهذا نَظِيرُهُ.
وقرأ إبراهيم النَّخعي، ويَحْيى بن وثَّاب: «شَرْعَةً» بفتح الشِّين، كأن المكسور للهيئَة، والمفْتُوح مَصْدر.
369
والشِّرْعَةُ في الأصْل «السُّنَّة»، ومنه: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين﴾ [الشورى: ١٣]، أي: سن [لكم وبيَّنَ ووَضَّحَ].
والشَّارع: الطريق، وهو من الشَّريعة التي هي في الأصْلِ: الطَّريق المُوصِّلُ إلى الماء، وقال ابن السِّكِّيت: الشَّرْع مصدر شَرَعْت الإهَاب، أي: شَقَقْتُهُ وسَلَخْتُه، وقيل: مأخوذٌ من الشُّروع في الشَّيء: وهو الدُّخُول فيه.
ومنه قول الشاعر: [البسيط]
١٩٧٣ - وفِي الشَّرَائِعِ مِنْ جلاَّنَ مُقْتنِصٌ بَالِي الثِّيَابِ خَفِيُّ الصَّوْتِ مُنْزَرِبُ
والشَّريعة: فَعِيلة بمعنى المَفْعُولة: وهي الأشيَاءُ التي أوْجب اللَّه تعالى على المكلَّفِين أن يشرعوا فيها، والمِنْهاجُ مشتقٌّ من الطَّريق النَّهْج وهو الوَاضِح.
ومنه قوله: [الرجز]
١٩٧٤ - مِنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ مَاءٌ رَوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ
أي: وَاضِح، يقال: طَرِيق مَنْهَج ونَهْج. وقال ابن عطية: منهاج مثال مُبالغة، يعني قولهم: «إنَُّه لَمِنْحَارٌ بَوَائكَهَا» وهو حسنٌ، [وهل الشِّرْعَة] والمنهاج بمعنى كقوله: [الطويل]
١٩٧٥ -............................. وَهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ
[الوافر]
١٩٧٦ -............................. وَألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنا
أو مُخْتَلفَان؟
فالشِّرْعَةُ: ابتداءُ الطَّريق، والمِنْهَاج الطَّريق المستمِرُّ، قاله المبرِّد، أو الشِّرْعةُ: الطَّرِيق وَاضِحاً كان أو غَيْر وَاضِح، والمنْهَاجُ: الطريق الوَاضِحُ فقط، فالأوَّل أعمُّ. قاله ابن الأنباري، أو الدِّين والدَّلِيل؟ خلافٌ مشهور.

فصل في معنى الآية


قال ابنُ عبَّاس، ومُجَاهِد، والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - معنى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا
370
مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أي: سَبِيلاً وسُنَّة، وأراد بهذا أن الشَّرَائع مختلِفَةٌ ولكلِّ أمَّة شرِيعة.
قال قتادة: الخِطَاب للأمُمِ الثَّلاث: أمَّة مُوسَى، وأمَّة عيسى، وأمَّة محمد - صلوات الله وسلامُهُ عليهم - لتقدُّم ذِكرهم.
فإن قيل: قد وردتْ آياتٌ تدلُّ على عدم التَّبَايُن في طريقة الأنبياء - عليهم السلام - كقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ [الشورى: ١٣] إلى قوله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣] وقال تعالى ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠]، وآياتٌ دلَّت على التَّبَايُن في هذه الآية فكيف الجَمْع؟
فالجواب: أنَّ الأوَّل يَنْصَرِفُ إلى أصُول الدِّيَانَاتِ.
والثاني ينصرف إلى الفُرُوع.
واحتجَّ أكثر العُلَمَاء بهذه الآية على أنَّ شرع من قبلنا لا يلزمنا؛ لأنَّها تدلُّ على أنَّ لكلِّ رَسُولٍ شريعَةٌ خاصَّةٌ.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، أي: جماعة مُتَّفِقَة على شريعة واحِدة، أو ذَوِي أمة واحدة، أو دِين واحد لا اخْتِلاَف فيه.
قال أهل السُّنَّة: وهذا يدلُّ على أن الكُلَّ بِمَشِيئَةِ الله - تعالى -، والمعتزِلَة: حَمَلُوهُ على مَشِيئَة الإلْجَاء.
قوله تعالى: «ولَكِنْ لِيَبْلُوكُمْ» متعلِّق بِمَحْذُوف، فقدَّرَهُ أبو البقاء: «ولكن فرَّقكم لِيَبْلُوَكُم».
وقدَّره غيره «ولكن لم يَشْأ جَعْلكم أمَّة واحِدة».
قال شهاب الدين: وهذا أحْسَن؛ لدلالة اللَّفْظ والمعنى عليه.
ومعنى «لِيَبْلُوكُمْ» : ليختبركم، «فِيمَا آتَاكُم» : من الكُتُب وبيَّن لكم من الشَّرائع، فبيّن المُطِيع من العَاصِي، والمُوَافِق من المُخَالِف، «فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ» فبادروا إلى الأعْمَال الصَّالحة قوله تعالى: ﴿إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ استئناف في معنى التَّعْليل لاستِبَاقِ الخَيْرَاتِ.
371
وهذه الجُملة تحتمل أن تكُون من بَابِ الجملة الفعليَّة أو الجملة الاسميَّة، كما تقدَّم في نظائره.
و «جَمِيعاً» حال من «كُمْ» في «مَرْجِعُكُمْ»، والعامل في هذه الحال، إمَّا المصْدر المضاف إلى «كُمْ»، فإنَّ «كُمْ» يحتمل أن تكون فاعِلاً، والمصدر يَنْحَلُّ لحرف مصدريٍّ، وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل، والأصْلُ: «تُرْجَعُون جَمِيعاً»، ويحتمل أن تكون مفعُولاً لم يُسَمَّ فاعِلُه، على أنَّ المصدر يَنْحَلُّ لفعل مَبْني للمفعول، أي: «يُرْجِعُكُم الله»، وقد صرَّح بالمعْنَييْن في مواضع.
وإما أن يعمل فيها الاسْتِقْرارُ المقدَّر في الجارِّ وهو «إلَيْه»«إليه مَرْجِعُكُمْ» يحتمل أن يكون من باب الجُمَل الفعليَّة، أو الجُمل الاسميَّة، وهذا واضح بما تقدَّم في نَظَائِره] و «فَيَنَبِّئُكم» هنا من «نَبَّأ» غير مُتَضَمِّنَة معنى «أعْلَم»، فلذلك تعدَّتْ لواحد بِنَفْسِها، وللآخر بحرف الجرَّ.
والمعنى: فَيُخْبِركم بما لا تَشُكُّونَ معه من الجَزَاءِ الفاصِلِ بين محقكم ومُبْطِلِكُم، والمُراد: أنَّ الأمر سيؤول إلى ما يُزِيل الشُّكُوك.
372
قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احكم﴾ : فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنَّ محلَّها النَّصب عَطْفاً على «الكِتَاب»، أي: «وأنزلنا إليكم الحكم».
والثاني: أنَّها في محلِّ جرٍّ عَطْفاً على «بالحقِّ»، أي: «أنزلناه بالحق وبالحكم» وعلى هذا الوجْهِ فيَجُوزُ في محلِّ «أنْ» النَّصْب والجرّ على الخلافِ المَشْهُور.
والثالث: أنَّها في محلِّ رفع على الابتداء، وفي تقدير خَبَرهِ احتمالان:
أحدهما: أن تقدِّره مُتَأخِّراً، أي: حكمك بما أنْزَل اللَّه أمْرُنا أو قولنا.
والآخر: أن تقدِّره متقدِّماً أي: ومِن الواجِبِ أن احكُم أي: حُكْمُك.
والرابع: أنَّهَا تَفْسِيريَّة.
قال أبُو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ» الواو «تَمْنَع من ذلك، والمعنى يفسد ذلِك؛ لأنَّ» أن «التَّفْسِيريَّة يَنْبَغِي أن يَسْبِقَها قولٌ يُفسَّر بِهَا»، أما ما ذَكَرَهُ من مَنْع «الواو» أن تكُون «أنْ» تَفسيريَّة فَوَاضِحٌ.
372
وأمَّا قوله: «يَسْبِقُها قوْل» إصلاحُهُ أن يقول: «مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه»، ثم قال: ويمكن تَصْحِيحُ هذا القول بأن يكون التَّقدير: وأمَرْنَاك، ثم فسَّر هذا الأمْر ب «احْكُمْ»، ومنع الشَّيْخ من تصحيح هذا القَوْل بما ذكرهُ أبو البقاء، قال: لأنَّه لم يُحْفَظ من لِسَانهم حذف الجُمْلَة المُفسَّرَة ب «أن» وما بعدها، وهو كما قال. وقراءتَا ضمِّ نُونِ «أن» وكَسْرِهَا واضحتَان ممَّا تقدَّم في البَقَرَة: الضمَّة للإتبَاع، والكَسْر على أصْل التِقَاء السَّاكِنَيْن.
والضَّمِير في «بَيْنَهُم» : إمَّا لليهُود خَاصَّة، وإمَّا لِجَمِيع المُتَحَاكِمين.
فإن قيل: قالوا: هذه الآية نَاسِخَةٌ للتَّخْيِير في قوله: ﴿فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ﴾ [المائدة: ٤٢]، وأعَادَ ذِكْر الأمْر بالحُكْمِ بعد ذِكْرِه أوَّلاً: إما للتَّأكيد، وإمَّا لأنَّهما حُكْمَان أمَر بهما جَمِيعاً؛ لأنَّهمُ احْتَكموا إليه في زِنَا المُحْصَن، ثُمَّ احْتَكَمُوا إليه في قتلٍ كائنٍ فيهِم.
قوله تعالى: ﴿واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ﴾ قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما -: يردُّوكَ إلى أهْوائِهِم.
وقد ذكرنا أنَّ اليهُود اجْتَمَعُوا وأرادُوا إيقاعَهُ في تَحْرِيفِ دينهِ فعصمَهُ اللَّه عن ذلك، فإن كلَّ من صُرِفَ من الحقِّ إلى الباطِلِ فقد فُتِن، ومنه قولُهُ تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء: ٧٣] والفِتْنَةُ هاهنا: المَيْلُ عن الحقِّ والإلْقَاء في الباطِل، وكان - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يقول: «أعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا»، قال: هو أن يَعْدِلَ عن الطَّرِيق.
قال العُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخَطَأ والنِّسْيَان جائِزٌ على الرُّسُل؛ لأن الله قال: ﴿واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ﴾، والتَّعَمُّد في مثل هذا غير جائز على الرُّسل فلم يَبْقَ إلا الخَطَأ والنسيان.
قوله تعالى: «أن يفْتِنُوكَ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ مفعول من أجلِهِ، أي: احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك.
والثاني: أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال، كأنَّه [قال] : واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ، كقولك: «أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه».
وقوله تعالى: «فإن تَوَلَّوْا».
قال ابنُ عطيَّة: قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر، تقديره: «لا تَتَّبعْ واحْذَر، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ».
373
ويحسُنُ أن يقدَّر هذا المحذُوف المعادل بعد قوله: «لَفَاسِقُون»، والذي يَنْبَغِي ألاَّ يُقَال: في هذا النَّوْع ثَمَّ حذف؛ لأنَّ ذلك من بَابِ فَحْوَى الخِطَابِ، والأمْر فيه واضِحٌ.

فصل


المعنى: «فإن تَولَّوْا» : أعرضوا عن الإيمَان ولَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ، ﴿فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم﴾ أي: فاعْلَم أن إعْراضهم من أجْلِ أن يُرِيد الله أن يعجِّل لهم العُقُوبَة في الدُّنْيَا، بأن يُسَلِّط عَلَيْهِم ويُعذِّبَهُم في الدُّنْيَا [بالقَتْلِ والجَلاَء]، وخصَّ تعالى بَعْضَ الذُّنُوب؛ لأنَّ القَتْل جُوزُوا به في الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبهم، وكانت مُجَازَاتهم بالبعض كَافِياً في إهلاكهم، ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾، يعني: اليَهُود. «لفاسقون» لمتمردّون في الكُفْرِ ومُعْتَدُون فيه.
قوله تعالى: «أفَحُكْمَ» : الجمهور على ضمِّ الحاء، وسُكُون الكَافِ ونَصْبِ الميم، وهي قِرَاءَة واضِحَةٌ.
و «حُكْمَ» مَفْعُول مقدَّم، و «يَبْغُون» فعل وفاعل، وهو المْستفْهَم عَنْه في المَعْنَى.
و «الفاء» فيها القَوْلان المشهوران: هل هي مُؤخَّرة عن الهَمْزة وأصلُهَا التَّقدِيم، أو قَبْلَها جملة عَطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره: أيعدِلُون عن حُكْمِكَ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الجاهليَّة؟
وقرأ ابن وثَّاب، والأعْرج، وأبو رجَاء، وأبو عبد الرَّحمن برفع الميمِ، وفيها وجهان:
أظهرهما - وهو المَشْهُور عند المُعربين -: أنه مُبْتَدأ، و «يَبْغُون» خبره، وعائِدُ المبتدأ محذُوفٌ تقديرُه: «يَبْغُونَهُ» حَمْلاً للخبر على الصِّلَة، إلا أنَّ بعضهُم جَعَلَ هذه القِرَاءة خَطَأ، حتى قال أبُو بكر بن مُجَاهِد: «هذه القراءةُ خَطَأ»، وغيره يَجْعَلُهَا ضَعِيفَة، ولا تَبْلُغ دَرَجَةَ الخَطَأ.
قال ابن جنِّي في قول ابن مُجاهد: لَيْس كذلك، ولكنَّه وَجْهٌ غَيْرُه أقْوى منه، وقد جَاءَ في الشِّعْر، قال أبو النَّجْم: [الرجز]
374
أي: لم أصْنَعْهُ.
قال ابن عطيَّة: وهكذا الرِّواية، وبها يَتِمُّ المَعْنى الصَّحِيح؛ لأنَّه أراد التبَرُّؤ من جَمِيع الذُّنُوبِ، ولو نَصب «كُل» لكان ظَاهِر قوله أنَّه صنع بَعْضَه، وهذا الذي ذكره ابن عطيَّة معنى صَحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان، واستَشْهَدُوا على ذلك بقوله - عليه السلام - «حين سأله ذُو اليَديْن، فقال:» أقصرت الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ؟ فقال: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ»
أراد - عليه السلام - انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ، وأفَادَ هذا المَعْنَى تقديم «كُلّ»، قالوا: ولو قال: «لَمْ يَكُن كُلُّ ذَلِك» لاحتمل الكلام أنَّ البعض غير مَنْفِي، وهذه المَسْألَةُ تُسَمَّى عموم السَّلْب، وعكسها نحو: «لَمْ أصْنَع كلَّ ذلك» يُسمَّى سَلْبَ العُمُوم، وهذه مسألة مُفِيدَةٌ، وإن كان بَعْضُ النَّاسِ قد فَهِم عن سيبويه غير ما [ذكرت لك].
ثُمَّ قال ابن عطيَّة: وهو قَبِيحٌ - يعني: حذف العَائِد من الخَبَرِ - وإنَّما يُحْذَف الضَّمِير كثيراً من الصِّلَةِ، ويحذف أقَلّ مِنْ ذلك من الصِّفَة، وحذْفُه من الخبر قَبِيحٌ.
ولكنَّه رجَّح البَيْتَ على هذه القِرَاءةِ بِوَجْهَيْنِ.
أحدهما: أنَّه ليس في صَدْرِ قوله [ألِف] استفهام تَطْلُب الفعل، كما هي في «أفَحُكْمَ».
375
والثاني: أن في البيت عِوَضاً من «الهَاء» المحذُوفَة، وهو حَرْف الإطلاَق أعني «اليَاء» في «اصنَعِي»، فتضعف قِرَاءة من قَرَأ «أفحكمُ الجاهلِيَّة يَبْغُونَ»، وهذا الَّذي ذكره ابن عطيَّة في الوجهِ الثَّانِي كلام لا يُعْبَأ به.
وأمَّا الأوَّل فَقَرِيبٌ من الصَّواب، لكنه لم يَنْهَضْ في المنع ولا في التَّقْبِيح، وإنَّمَا يَنْهَضُ دليلاً على الأحْسَنِيّةِ، أو على أنّ غَيْرَه [أوْلى].
وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهُم الخِلاف فيها بالنِّسْبَة إلى نَوْع، ونفي الخِلاف عنها، بل حكي الإجْمَاع على الجوازِ بالنِّسْبَة إلى نوع آخر، فحكي الإجْمَاع فيما إذا كان المُبْتَدأ لفظ «كل»، أو ما أشبَهَهَا في العُمُوم والافْتِقَار، فأمَّا «كُل» فنحو: «كلُّ رَجُلٍ ضَرَبْت»، ويقوِّيه قراءة ابن عَامِر: «وكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى» [النساء: ٩٥] ويريد بما أشْبَه «كُلاًّ» نحو: «رَجُلٌ يَقُولُ الحَقَّ انْصُرْ»، أي: انْصُرْهُ، فإنه عامٌّ يفتَقِرُ إلى صِفَة، كما أنَّ «كلاً» عامة، وتَفْتَقِرُ إلى مُضَافٍ إلَيْه.
قال: «وإذا لم يكن المُبْتَدأ كذلك، فالكُوفِيُّون يَمْنَعُون حذْفَ العَائِد، بل يَنْصُبُون المتقدِّم مَفْعُولاً به، والبصريُّون يُجِيزُون:» زَيْدٌ ضَرَبْتُ «أي: ضربْتُهُ»، وذكر القراءة.
وتعالى بعضهم فقال: «لا يجُوزُ ذلك»، وأطلق، إلا في ضرورةِ شِعْر كقوله: [السَّريع]
١٩٧٨ - وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا... بِالحَقِّ، لا يُحْمَدُ بِالبَاطِلِ
قال: «لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تَهْيِئَةِ العامل لِلْعَمَل، وقطعه عَنْهُ».
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدِّمَيْن: أن يكون «يَبْغُون» ليس خبراً لِلْمُبْتَدأ، بل هو صِفَةُ لموصُوفٍ محذُوفٍ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ، والتَّقْدير: «أفحكم الجاهلية حُكمٌ يَبْغُون»، وحذفُ العَائِد هنا أكثر، لأنه كما تقدَّم يكثر حذفُه من الصِّلة، ودونَهُ من الصِّفَةِ، ودونَهُ من الخَبَرِ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابن عطيَّة، وهو تَخْرِيجٌ مُمْكن، ونظَّرَهُ بقوله تعالى:
﴿مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ﴾ [النساء: ٤٦]، أي: «قومٌ يُحَرِّفُون» يعني: في حذف موصوف، وإقامة صِفَته مُقَامه وإلا فالمَحْذُوف في الآية المُنَظَّرِ بها مُبْتَدأ، ونظَّرها أيْضاً بقوله: [الطويل]
١٩٧٩ - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارتَانِ: فَمِنْهُمَا... أمُوتُ وأخْرى أبْتَغِي العَيشَ أكْدَحُ
أي: تارةً أمُوت فيها.
وقال الزَّمَخْشَرِي: وإسقاطُ الرَّاجع عنه كإسْقاطِهِ في الصِّلة، كقوله: ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١]، وعن الصِّفَةِ «في النَّاس رجلان: [رجُلٌ] أهنْتُ، ورجُلٌ أكرمت» أي: رجل أهَنْتُهُ ورجل أكرمْتُه.
376
وعن الحال في نحو: «مررتُ بِهِنْد يَضْرِبُ زَيْدٌ».
قال أبو حيَّان: «إنْ عنى التَّشْبيه في الحَذْفِ والحُسْن، فليس كذلك لما تقدَّم [ذكره]، وإن عنى في مُطْلَقِ الحَذف فَمُسَلَّم».
وقرأ الأعمش وقتادة: «أفَحَكَمَ» بفتح الحَاء والكاف، ونصب الميم، وهو مفردٌ يُرَادُ به الجِنْس؛ لأنَّ المعنى: أحُكَّامَ الجاهليَّة، ولا بدَّ من حذفِ مُضافٍ في هذه القراءة، هو المصرَّح به في المُتواتِرة تقديره: أفَحْكْمَ حُكَّامِ الجاهليَّة.
والقُرَّاءُ غير ابن عَامِرٍ على «يَبْغُونَ» بياء الغَيْبَةِ نَسَقاً على ما تقدَّم من الأسْمَاء الغَائِبَة، وقرأ هو بِتَاءِ الخِطَاب على الالتِفَاتِ؛ ليَكُون أبلغ في زَجْرِهِمْ وردْعِهِمْ ومُبَاكتتهِ لهم، حيث واجهَهُم بهذا الاستفهام الذي يأنَفُ منه ذَوُو البَصَائِر.
والمعنى أنَّ هذا الحُكْم الذي يَبْغُونَه إنَّما يحكم به حُكَّام الجاهليَّة.

فصل


وفي الآية وجهان:
الأول: قال مُقَاتِل: «كان بَيْنَ قُرَيْظَة والنَّضِير دَمٌ في الجاهليَّة، فلما بُعِثَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - واحتكَمُوا إليه، فقال بَنُوا قُرَيْظَة [يا رسُول الله إن] بني النَّضِير إخْوَانُنَا، أبُونا واحِدٌ وكِتَابُنَا واحِدٌ ونبيُّنا واحد، فإن قتل بنُو النَّضِير منَّا قَتِيلاً، أعطونا سَبْعِين وَسقاً من تَمْرٍ، وإنَّا إن قتلْنَا وَاحِداً أخَذُوا منَّا مائة وأربعين وسقاً، وأرُوش جِرَاحَاتِنَا على النِّصْف من أرُوش جراحاتِهِم، فاقضِ بَيْنَنا وبَيْنَهُم، فقال - عليه السلام -:» وإنِّي أحْكُم [أنَّ دِمَاء القرظي] وفاءٌ من دم النَّضَري، والنَّضَري وفاءٌ من دمِ القُرظِي، ليْسَ لأحدهمَا فَضْل على الآخر في دم ولا عَقْلٍ ولا جراحةٍ «فَغَضِبَ بنُو النَّضِير وقالُوا: لا نرضى بِحُكْمِكَ فإنَّك عَدُوٌّ لَنَا، فَأنْزَل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقيل: إنَّهُمْ كانوا إذا وَجَبَ الحكمُ على ضُعَفَائِهِم ألْزَمُوهُم إيَّاه، وإذَا وجبَ على أقْوِيَائِهِم لم يَأخُذُوهُم به فَمَنعهم اللَّه من ذلِكَ بهذه الآية.
والثاني: أنَّهُم يَبْغُون حُكْمَ الجاهليَّة، الَّتِي هي محضُ الجهل وصريح الهوى.
377
ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، فقوله - سبحانه وتعالى -:» حُكْماً «نصب على التَّمْييزِ، و» اللاَّم «في قوله تعالى:» لِقَوْم «فيها ثلاثةُ أوجُه:
أحدها: أن يتعلّق بنفس»
حُكْماً «؛ إذ المعنى: أنَّ حكم الله للمؤمن على الكَافِر.
والثاني: أنَّها للبيان فتتعلَّق بمحْذُوف، كَهِي في «سقياً لَكَ»
و «هَيْتَ لَكَ»، وهو رأي الزَّمَخْشَرِي، وابنُ عطيَّة قال شيئاً قَرِيباً منه، وهو أنَّ المعنى: «يُبَيِّنُ ذلِكَ ويُظْهِره لِقَوْم».
الثالث: أنَّها بمعنى «عِنْد»، أي: عند [قَوْمٍ]، وهذا لَيْسَ بِشَيْء. ومتعلَّقُ «يُوقِنُون» يجُوزُ أن يُرادَ، وتقديرُه: يُوقِنُونَ باللَّهِ وبحُكْمهِ، أو بالقُرْآن، ويجُوزُ ألاَّ يُرَاد على مَعْنَى [وقُوع الإيقان]، وإليه مَيْلُ الزَّجَّاج، فإنَّهُ قال: «يُوقِنُون» :«يَتَبَيَّنُون عدل اللَّهِ في حُكْمِهِ» فإنَّهم [هم الذين] يَعْرِفُون أنَّه لا أحَد أعْدَل من اللَّهِ حُكْماً، ولا أحْسَن مِنْهُ بَيَاناً.

فصل


قال القرطُبِيّ: روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبِي نُجَيْح، عن طَاوُوس قال: كان إذا سألُوه عن الرَّجُل يُفَضِّل بعض ولده على بَعْضِ يَقْرأ هذه الآية ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾، فكان طاووس يقول: لَيْس لأحدٍ أنْ يُفَضِّل بَعْضَ ولدِه على بعضٍ، فإن فعل لا ينفذُ ويفسخ، وبه قال أهْلُ الظَّاهِرِ، وهو مَرْوِيٌّ عن أحْمد بن حَنْبَل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وكرهه الثَّوْري، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي واللَّيْث والشَّافِعِي وأصحاب الرَّأي، واستَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في نَخْلَةِ عائِشَةٍ دون سائر ولدِه، واستدَلَّ الأوَّلُون بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لبَشِير: [ «ألَكَ ولد سِوَى هذا» ؟ قال: نعم، فقال «أكُلّهم وهَبْتَ لهُ مِثْلَ هذا»، فقال: لا، قال] «فلا تُشهدْني إذَنْ فإنِّي لا أشْهَدُ على جَوْرٍ»، وفي رِوَاية «إنِّي لا أشْهَدُ إلاَّ على حَقٍّ».
قالُوا: ومَا كان جَوْراً وغير حقٍّ فهو بَاطِل لا يجُوز، وقوله: «أشْهِدْ على هذا غَيْرِي» ليس إذْناً في الشَّهَادَة، وإنَّما هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا؛ لأنَّه - عليه السلام - قد سمَّاها [جَوْراً] وامتنع من الشَّهَادَة فيه، فلا يُمْكِن أن يَشْهَد أحَدٌ من المُسْلِمين، وأمَّا فعل أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فلا يُعَارضُ به قول النَّبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ولعلَّه كان [قد] نحل أولادهُ كُلَّهم مثل ذلك.
378
فإن قيل: الأصْلُ تصرُّف الإنْسَان في مَالِهِ مُطْلَقاً، قيل له: الأصل الكُلِّي والواقِعَة المُعَيَّنَةُ المُخَالِفَة لذلك الأصل لا تعارض بَيْنَهُمَا كالعُمُوم والخُصُوصِ.
379
قوله تعالى :" أفَحُكْمَ " : الجمهور على ضمِّ الحاء، وسُكُون الكَافِ ونَصْبِ الميم، وهي قِرَاءَة واضِحَةٌ.
و " حُكْمَ " مَفْعُول مقدَّم، و " يَبْغُون " فعل وفاعل، وهو المْستفْهَم عَنْه في المَعْنَى.
و " الفَاء " فيها القَوْلان المشهوران : هل هي مُؤخَّرة عن الهَمْزة وأصلُهَا التَّقدِيم، أو قَبْلَها جملة عَطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره : أيعدِلُون عن حُكْمِكَ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الجاهليَّة ؟
وقرأ١ ابن وثَّاب، والأعْرج، وأبو رجَاء، وأبو عبد الرَّحمن برفع الميمِ، وفيها وجهان :
أظهرهما - وهو المَشْهُور عند المُعربين - : أنه مُبْتَدأ، و " يَبْغُون " خبره، وعائِدُ المبتدأ محذُوفٌ تقديرُه :" يَبْغُونَهُ " حَمْلاً للخبر على الصِّلَة، إلا أنَّ بعضهُم جَعَلَ هذه القِرَاءة خَطَأ، حتى قال أبُو بكر بن مُجَاهِد :" هذه القراءةُ خَطَأ "، وغيره يَجْعَلُهَا ضَعِيفَة، ولا تَبْلُغ دَرَجَةَ الخَطَأ.
قال ابن جنِّي٢ في قول ابن مُجاهد : لَيْس كذلك، ولكنَّه وَجْهٌ غَيْرُه أقْوى منه، وقد جَاءَ في الشِّعْر، قال أبو النَّجْم :[ الرجز ]
قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي *** عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ٣
أي : لم أصْنَعْهُ٤.
قال ابن عطيَّة٥ : وهكذا الرِّواية، وبها يَتِمُّ المَعْنى الصَّحِيح ؛ لأنَّه أراد التبَرُّؤ من جَمِيع الذُّنُوبِ، ولو نَصب " كُل " لكان ظَاهِر قوله أنَّه صنع بَعْضَه، وهذا الذي ذكره ابن عطيَّة معنى صَحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان، واستَشْهَدُوا على ذلك بقوله - عليه السلام - حين سأله ذُو اليَديْن، فقال :" أقصرت الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ ؟ " فقال :" كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ " ٦ أراد - عليه السلام - انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ، وأفَادَ هذا المَعْنَى تقديم " كُلّ "، قالوا : ولو قال :" لَمْ يَكُن كُلُّ ذَلِك " لاحتمل الكلام أنَّ البعض غير مَنْفِي، وهذه المَسْألَةُ تُسَمَّى عموم السَّلْب، وعكسها نحو :" لَمْ أصْنَع كلَّ ذلك " يُسمَّى سَلْبَ العُمُوم، وهذه مسألة مُفِيدَةٌ، وإن كان بَعْضُ النَّاسِ قد فَهِم عن سيبويه غير ما [ ذكرت لك ]٧.
ثُمَّ قال ابن عطيَّة٨ : وهو قَبِيحٌ - يعني : حذف العَائِد من الخَبَرِ - وإنَّما يُحْذَف الضَّمِير كثيراً من الصِّلَةِ، ويحذف أقَلّ مِنْ ذلك من الصِّفَة، وحذْفُه من الخبر قَبِيحٌ.
ولكنَّه رجَّح البَيْتَ على هذه القِرَاءةِ بِوَجْهَيْنِ.
أحدهما : أنَّه ليس في صَدْرِ قوله [ ألِف ] استفهام تَطْلُب الفعل، كما هي في " أفَحُكْمَ ".
والثاني : أن في البيت عِوَضاً من " الهَاء " المحذُوفَة، وهو حَرْف الإطلاَق أعني " اليَاء " في " اصنَعِي "، فتضعف قِرَاءة من قَرَأ " أفحكمُ الجاهلِيَّة يَبْغُونَ "، وهذا الَّذي ذكره ابن عطيَّة في الوجهِ الثَّانِي كلام لا يُعْبَأ به.
وأمَّا الأوَّل فَقَرِيبٌ من الصَّواب، لكنه لم يَنْهَضْ في المنع ولا في التَّقْبِيح، وإنَّمَا يَنْهَضُ دليلاً على الأحْسَنِيّةِ، أو على أنّ غَيْرَه [ أوْلى ]٩.
وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهُم الخِلاف فيها بالنِّسْبَة إلى نَوْع، ونفي الخِلاف عنها، بل حكي الإجْمَاع على الجوازِ بالنِّسْبَة إلى نوع آخر، فحكي الإجْمَاع فيما إذا كان المُبْتَدأ لفظ " كل "، أو ما أشبَهَهَا في العُمُوم والافْتِقَار، فأمَّا " كُل " فنحو :" كلُّ رَجُلٍ ضَرَبْت "، ويقوِّيه قراءة١٠ ابن عَامِر :﴿ وكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى ﴾ [ النساء : ٩٥ ] ويريد بما أشْبَه " كُلاًّ " نحو :" رَجُلٌ يَقُولُ الحَقَّ انْصُرْ "، أي : انْصُرْهُ، فإنه عامٌّ يفتَقِرُ إلى صِفَة، كما أنَّ " كلاً " عامة، وتَفْتَقِرُ إلى مُضَافٍ إلَيْه.
قال :" وإذا لم يكن المُبْتَدأ كذلك، فالكُوفِيُّون يَمْنَعُون حذْفَ العَائِد، بل يَنْصُبُون المتقدِّم مَفْعُولاً به، والبصريُّون يُجِيزُون :" زَيْدٌ ضَرَبْتُ " أي : ضربْتُهُ "، وذكر القراءة.
وتعالى بعضهم فقال :" لا يجُوزُ ذلك "، وأطلق، إلا في ضرورةِ شِعْر كقوله :[ السَّريع ]
وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا *** بِالحَقِّ، لا يُحْمَدُ بِالبَاطِلِ١١
قال :" لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تَهْيِئَةِ العامل لِلْعَمَل، وقطعه عَنْهُ ".
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدِّمَيْن : أن يكون " يَبْغُون " ليس خبراً لِلْمُبْتَدأ، بل هو صِفَةُ لموصُوفٍ محذُوفٍ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ، والتَّقْدير :" أفحكم الجاهلية حُكمٌ يَبْغُون "، وحذفُ العَائِد هنا أكثر، لأنه كما تقدَّم يكثر حذفُه من الصِّلة، ودونَهُ من الصِّفَةِ، ودونَهُ من الخَبَرِ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابن عطيَّة، وهو تَخْرِيجٌ مُمْكن، ونظَّرَهُ بقوله تعالى :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ﴾ [ النساء : ٤٦ ]، أي :" قومٌ يُحَرِّفُون " يعني : في حذف موصوف، وإقامة صِفَته مُقَامه وإلا فالمَحْذُوف في الآية المُنَظَّرِ بها مُبْتَدأ، ونظَّرها أيْضاً بقوله :[ الطويل ]
وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارتَانِ : فَمِنْهُمَا *** أمُوتُ وأخْرى أبْتَغِي العَيشَ أكْدَحُ١٢
أي : تارةً أمُوت فيها.
وقال الزَّمَخْشَرِي١٣ : وإسقاطُ الرَّاجع عنه كإسْقاطِهِ في الصِّلة، كقوله :﴿ أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ﴾ [ الفرقان : ٤١ ]، وعن الصِّفَةِ " في النَّاس رجلان :[ رجُلٌ ] أهنْتُ، ورجُلٌ أكرمت " أي : رجل أهَنْتُهُ ورجل أكرمْتُه.
وعن الحال في نحو :" مررتُ بِهِنْد يَضْرِبُ زَيْدٌ ".
قال أبو حيَّان١٤ :" إنْ عنى التَّشْبيه في الحَذْفِ والحُسْن، فليس كذلك لما تقدَّم [ ذكره ]، وإن عنى في مُطْلَقِ الحَذف فَمُسَلَّم ".
وقرأ الأعمش١٥ وقتادة :" أفَحَكَمَ " بفتح الحَاء والكاف، ونصب الميم، وهو مفردٌ يُرَادُ به الجِنْس ؛ لأنَّ المعنى : أحُكَّامَ الجاهليَّة، ولا بدَّ من حذفِ مُضافٍ في هذه القراءة، هو المصرَّح به في المُتواتِرة تقديره : أفَحُكْمَ حُكَّامِ الجاهليَّة.
والقُرَّاءُ غير ابن عَامِرٍ على " يَبْغُونَ " بياء الغَيْبَةِ نَسَقاً على ما تقدَّم من الأسْمَاء الغَائِبَة، وقرأ١٦ هو بِتَاءِ الخِطَاب على الالتِفَاتِ ؛ ليَكُون أبلغ في زَجْرِهِمْ وردْعِهِمْ ومُبَاكتتهِ لهم، حيث واجهَهُم بهذا الاستفهام الذي يأنَفُ منه ذَوُو البَصَائِر.
والمعنى أنَّ هذا الحُكْم الذي يَبْغُونَه إنَّما يحكم به حُكَّام الجاهليَّة.

فصل


وفي الآية وجهان :
الأول : قال مُقَاتِل١٧ :" كان بَيْنَ قُرَيْظَة والنَّضِير دَمٌ في الجاهليَّة، فلما بُعِثَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - واحتكَمُوا إليه، فقال بَنُو قُرَيْظَة [ يا رسُول الله إن ]١٨ بني النَّضِير إخْوَانُنَا، أبُونا واحِدٌ وكِتَابُنَا واحِدٌ ونبيُّنا واحد، فإن قتل بنُو النَّضِير منَّا قَتِيلاً، أعطونا سَبْعِين وَسقاً من تَمْرٍ، وإنَّا إن قتلْنَا وَاحِداً أخَذُوا منَّا مائة وأربعين وسقاً، وأرُوش جِرَاحَاتِنَا على النِّصْف من أرُوش جراحاتِهِم، فاقضِ بَيْنَنا وبَيْنَهُم، فقال - عليه السلام - :" وإنِّي أحْكُم [ أنَّ دِمَاء القرظي ]١٩ وفاءٌ من دم النَّضَري، والنَّضَري وفاءٌ من دمِ القُرظِي، ليْسَ لأحدهمَا فَضْل على الآخر في دم ولا عَقْلٍ ولا جراحةٍ ". فَغَضِبَ بنُو النَّضِير وقالُوا : لا نرضى بِحُكْمِكَ فإنَّك عَدُوٌّ٢٠ لَنَا، فَأنْزَل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقيل : إنَّهُمْ كانوا إذا وَجَبَ الحكمُ على ضُعَفَائِهِم ألْزَمُوهُم إيَّاه، وإذَا وجبَ على أقْوِيَائِهِم لم يَأخُذُوهُم به فَمَنعهم اللَّه من ذلِكَ بهذه الآية.
والثاني : أنَّهُم يَبْغُون حُكْمَ الجاهليَّة، الَّتِي هي محضُ الجهل وصريح الهوى.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾، فقوله - سبحانه وتعالى - :" حُكْماً " نصب على التَّمْييزِ، و " اللاَّم " في قوله تعالى :" لِقَوْم " فيها ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أن يتعلّق بنفس " حُكْماً " ؛ إذ المعنى : أنَّ حكم الله للمؤمن على الكَافِر.
والثاني : أنَّها للبيان فتتعلَّق بمحْذُوف، كَهِي في " سقياً لَكَ " و " هَيْتَ لَكَ "، وهو رأي الزَّمَخْشَرِي، وابنُ عطيَّة قال شيئاً قَرِيباً منه، وهو أنَّ المعنى :" يُبَيِّنُ ذلِكَ ويُظْهِره لِقَوْم ".
الثالث : أنَّها بمعنى " عِنْد "، أي : عند [ قَوْمٍ ]، وهذا لَيْسَ بِشَيْء. ومتعلَّقُ " يُوقِنُون " يجُوزُ أن يُرادَ، وتقديرُه : يُوقِنُونَ باللَّهِ وبحُكْمهِ، أو بالقُرْآن، ويجُوزُ ألاَّ يُرَاد على مَعْنَى [ وقُوع الإيقان ]٢١، وإليه مَيْلُ الزَّجَّاج، فإنَّهُ قال :" يُوقِنُون " :" يَتَبَيَّنُون عدل اللَّهِ في حُكْمِهِ " فإنَّهم [ هم الذين ]٢٢ يَعْرِفُون أنَّه لا أحَد أعْدَل من اللَّهِ حُكْماً، ولا أحْسَن مِنْهُ بَيَاناً.

فصل


قال القرطُبِيّ٢٣ : روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبِي نُجَيْح، عن طَاوُوس قال : كان إذا سألُوه عن الرَّجُل يُفَضِّل بعض ولده على بَعْضِ يَقْرأ هذه الآية ﴿ أَفَحُكْم الجاهليَّة يبغُون ﴾، فكان طاووس يقول : لَيْس لأحدٍ أنْ يُفَضِّل بَعْضَ ولدِه على بعضٍ، فإن فعل لا ينفذُ ويفسخ، وبه قال أهْلُ الظَّاهِر، وهو مَرْوِيٌّ عن أحْمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه -، وكرهه الثَّوْري، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي واللَّيْث والشَّافِعِي وأصحاب الرَّأي، واستَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في نَخْلَةِ عائِشَةٍ دون سائر ولدِه، واستدَلَّ الأوَّلُون بقوله - عليه الصلاة والسلام - لبَشِير :[ " ألَكَ ولدٌ سِوَى هذا " ؟ قال : نعم، فقال " أكُلّهم وهَبْتَ لهُ مِثْلَ هذا "، فقال : لا، قال ]٢٤ " فلا تُشهدْني إذَنْ فإنِّي لا أشْهَدُ على جَوْرٍ "، وفي رِوَاية " إنِّي لا أشْهَدُ إلاَّ على حَقٍّ ".
قالُوا : ومَا كان جَوْراً وغير حقٍّ فهو بَاطِل لا يجُوز، وقوله :" أشْهِدْ على هذا غَيْرِي " ليس إذْناً في الشَّهَادَة، وإنَّما هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا ؛ لأنَّه - عليه السلام - قد سمَّاها [ جَوْراً ]٢٥ وامتنع من الشَّهَادَة فيه، فلا يُمْكِن أن يَشْهَد أحَدٌ من المُسْلِمين، وأمَّا فعل أبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - فلا يُعَارضُ به قول النَّبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ولعلَّه كان [ قد ]٢٦ نحل أولادهُ كُلَّهم مثل ذلك.
فإن قيل : الأصْلُ تصرُّف الإنْسَان في مَالِهِ مُطْلَقاً، قيل له : الأصل الكُلِّي والواقِعَة المُعَيَّنَةُ المُخَالِفَة لذلك الأصل لا تعارض بَيْنهُمَا كالعُمُوم والخُصُوصِ.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٠٢، والبحر المحيط ٣/١٦، والدر المصون ٢/٥٤١ والشواذ ٣٩..
٢ ينظر: المحتسب ١/٢١١..
٣ ينظر البيت في ديوانه ١٣٢، سيبويه ١/٨٥، ١٢٧، ١٣٧، معاني القرآن ١/١٤٠، ٢٤٢، مجاز القرآن ٢/٨٤، الخصائص ١/٢٩٢، ٣/٦١، المحتسب ١/٢١١، ما يجوز للشاعر في الضرورة ٦٦، ضرائر الشعر ١٧٦، شرح الجمل لابن عصفور ١/٣٥٠، أمالي ابن الشجري ١/٨، ٩٣، ٣٢٦، مغني اللبيب ٢٦٥، ٦٤٧، ٧٩٦، ٨٢٩، شرح شواهده ٢/٥٤٤، همع الهوامع ١/٩٧، ٢/١٦، الكافية ١/٩٢، ابن يعيش ٢/٣٠، ٦/٩٠، البسيط في شرح جمل الزجاجي ١/٥٦٥ الإفصاح للفارقي ٢٠٥، الخزانة ١/٣٥٩، المحرر الوجيز ٢/٢٠٢، الدر المصون ٢/٥٤١..
٤ يحذف الضمير العائد من جملة الخبر إلى المبتدأ بشرطين:
أن يكون في الكلام ما يدل عليه أو قرينة حال، فإن لم يكن معنا ما يدل عليه، فلا يجوز حذفه، وهذا بلا شك بين؛ لأن العرب لا تحذف الشيء حتى يكون معها ما يدل عليه.
ألا يكون في الكلام ما يصح أن يعمل في المبتدأ، نحو: زيد ضربت، فإن (ضربت) يصح أن يعمل في زيد؛ لأنه لم يشتغل عنه بضميره، ولا بغير ضميره في اللفظ، وقد جاء في الشعر وفي قليل من الكلام، واستدل بالشاهد السابق، على أن حذف الضمير من الفعل، والأصل: "كله لم أصنعه" وقالوا: شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى. المعنى: ترى فيه.
قال الفراء ويحذف أيضا قياسا إذا كان الضمير منصوبا مفعولا به، والمبتدأ "كل" كما في البيت السابق. فإن "كل" إذا وقعت في حيز النفي، كان النفي موجها إلى الشمول خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد، نحو: ما جاء كل القوم. وإن وقع النفي في حيزها، اقتضى السلب عن كل فرد؛ كقوله-عليه السلام- لما قال له ذو اليدين: أنسيت أم قصرت الصلاة؟: "كل ذلك لم يكن".
واستشهد بالبيت السابق:
قد أصبحت أم الخيار تدعي *** علي ذنبا كله لم أصنع
ويعني بالذنب: الشيب والصلع والشيخوخة وهي أشياء لم يصنعها هو. ينظر: المراجع السابقة..

٥ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٠٢..
٦ أخرجه مالك في الموطأ ١/٩٤ كتاب المساجد: باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا وأخرجه البخاري ٣/١٦٦، كتاب السهو: باب إذا سلم في ركعتين (١٢٢٧)، ومسلم ١/٤٠٣-٤٠٤، كتاب المساجد: باب السهو في الصلاة والسجود له (٩٩/٥٧٣)..
٧ في أ: ذكرنا لك..
٨ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٠٢..
٩ في أ: أهل..
١٠ ينظر: السبعة ٦٢٥، والدر المصون ٢/٥٤١..
١١ تقدم..
١٢ تقدم..
١٣ ينظر: الكشاف ١/٦٤١..
١٤ ينظر: البحر ٣/٥١٦..
١٥ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٠٣، والبحر المحيط ٣/٥١٦، والدر المصون ٢/٥٤٢ والتخريجات النحوية ٢٨٣..
١٦ ينظر: السبعة ٢٤٤، والحجة ٢/٢٢٨، وحجة القراءات ٢٢٨، والعنوان ٨٧، وشرح الطيبة ٤/٢٣٠، وشرح شعلة ٣٥١، وإتحاف ١/٥٣٧..
١٧ ينظر: تفسير الرازي ١٢/١٤..
١٨ سقط في أ..
١٩ في أ: القرظي..
٢٠ تقدم..
٢١ في ب: قوة الإيمان..
٢٢ سقط في أ..
٢٣ ينظر: تفسير القرطبي ٦/١٣٩..
٢٤ في أ: بعثت هذا بولدك قالا: لا مال..
٢٥ في أ: زجر..
٢٦ سقط في أ..
اختلفوا في نُزُول هذه الآية، وإن كان حُكمُهَا عامًّا لجميع المؤمنين، فقال قومٌ: نزلت في عبادة بن الصَّامتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وعبد الله بن أبي ابن سلُول - لعنهُ الله -، وذلك أنَّهما اخْتَصَما، «فقال عُبَادة: إن لي أوْلِيَاء من اليَهُود كثير عَدَدَهُم شديدةٌ شوْكَتُهُم، وإنِّي أبرأ إلى الله - تعالى - وإلى رسُوله من ولايتهِم وولايَة اليَهُود، ولا مولى لي إلا الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله. فقال عبدُ الله - لعنه الله -: لكنِّي لا أبرأ مِنْ ولايَة اليَهُود لأنِّي أخاف الدَّوَائر ولا بُدَّ لِي مِنْهُم فقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -: يا أبا الحُبَاب ما نفذت من ولاية اليَهُود على عُبَادة بن الصَّامِت فهو لك دُونه قال: إذْن أقْبَل» فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية.
وقال السُّدِّيُّ: لمَّا كانت وقعة [أُحُد] اشتدَّتْ على طائِفَةٍ من النَّاس، وتَخوَّفُوا أن يُدَال عليهم الكُفَّار، فقال [رَجُلٌ] من المُسْلِمين: أنَا ألْحَقُ بِفلانٍ اليهُودِيّ، وآخذ منه أماناً إنِّي أخافُ أن يُدالَ علينا اليَهُود.
وقال رجُل آخَر: أما أنا فألْحَقُ بفُلانٍ النَّصْرَانِيِّ من أهْلِ الشَّام، وآخُذ منه أمَاناً، فأنْزَل الله هذه الآية نَهْياً لَهُمَا.
وقال عكرمة: نزلت في أبِي لُبَابة بن عبد المُنْذِر بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى بني قُرَيْظَة حين حَاصَرَهُم، فاسْتَشَارُوه في النُّزول، وقالوا: ماذا يَصْنَعُ بنا إذا نَزَلْنَا فجعل إصْبَعَهُ على حَلْقِه أنَّه الذَّبح، أي: يَقْتُلكُمْ، فنَزَلَتْ هذه الآية؛ ومعنى لا تتَّخِذُوهُمْ أي: لا تَعْتَمِدُوا على اسْتِنْصَارِهِم، ولا تتودَّدُوا إلَيْهِم.
379
قوله: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ مُبْتَدأ وَخَبَر، وهذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها؛ لأنها مُسْتَأنفة، سيقَتْ تعليلاً للنَّهْي المتقدِّم.
وزعم الحوفيّ أنها في محلِّ نصب نعتاً ل «أَولياء»، والأوَّل هو الظّاهر، والضَّمير في «بَعْضِهِم» يعود على اليهُود والنَّصارى على سَبِيل الإجْمَالِ، والقرينة تبين أن بعض اليهود أولياء بعض، وأن بعض النصارى أولياء بعض [وبهذا التقرير لا يحتاج كما زعم بعضهم إلى تقدير محذوف يصح به المعنى، وهو: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض].
قال: لأن اليهود لا يتَوَلَّوْنَ النصارى، والنصارى لا يتولَّوْن اليهود، وقد تقدم جوابه.
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ﴾ فيوافقُهُم ويُعينُهم، «فإنَّهُ مِنْهُم» قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما -: يعني كانوا مِثْلَهُم فهذا تَغْلِيظٌ من الله وتشديدٌ في [وجوب] مجانبة المُخالِفِ في الدِّين، ونَظِيره قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: ٢٤٩]، وهذه الآية تدلُّ على مَنْع إثْبَات المِيرَاث للمُسْلِم من المرتَدِّ.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ رُوِي عن أبي مُوسى الأشْعَري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال: قُلْتُ لعمر بن الخَطّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إن [لي كاتباً] نَصْرانياً.
قال: مَا لَكَ قاتلَك اللَّه؟ ألا اتَّخْذَت حَنِيفاً، أما سَمِعْت قول الله - تعالى -: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾.
قلت: لَهُ دينُهُ ولي كِتَابتُه قال: لا أكرمُهم إذ أهَانَهُم الله، ولا أعزُّهُم إذ أذَلَّهُم، ولا أدْنِيهِمْ إذ أبْعدَهَمُ الله.
قلت: لا يَتِمُّ النُّصْرة إلاَّ به، فقال: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ والسَّلام، يعني: هَبْ أنَّهُ مات فَمَا تَصْنَعَ بَعْدَهُ، فما تعمله بعد موْتِهِ فاعْمَلْهُ الآنَ، واستعن عنهُ بِغيْرِه.
380
قوله تعالى: ﴿فَتَرَى الذين﴾ : الجمهورُ على «تَرَى» بتاء الخطاب، و «الذين» مفعُول،
380
فإن كانت الرُّؤيَة بَصَرِيَّةً أو عرفانية - فيما نقله أبُو البقاء وفيه نظر - فتكون الجُمْلَة من «يُسَارِعُون» في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصُول، وإن كانت قَلْبِيَّةً، فيكون «يُسَارِعُون» مفعولاً ثانياً.
وقرأ النَّخْعِي، وابن وثَّاب «فَيَرَى» باليَاء وفيها تَأويلان:
أظهرهما: أنَّ الفاعِل ضمير يَعُود على الله تعالى، وقيل: على الرَّأي من حيث هُو: و «يُسَارِعون» بحالتها.
والثاني: أن الفاعل نفس الموصُول، والمفعول هو الجملة من قوله: «يسارعون»، وذلك على تأويل حذْفِ «أنْ» المصدريَّة، والتقدير: ويرى القوم الذين في قُلُوبهم مَرَضٌ أن يُسَارِعُوا، فلما حُذِفَتْ: «أنْ» رُفِعَ الفِعْلُ؛ كقوله: [الطويل]
١٩٨٠ - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى........................

فصل


أجاز ابْنُ عطيَّة حذف «أن» المصدريّة، إلا أنَّ هذا غير مَقِيسٍ؛ إذ لا تُحْذَفُ «أن» عند البصريين إلا في مواضع مُحفُوظة.
وقرأ قتادةُ والأعْمش: «يُسْرِعُونَ» من أسْرَعَ. و «يَقُولُون» في محل نَصْب [على الحالِ من فاعل «يُسَارِعُون»، و «نَخْشَى» في محل نَصْبٍ بالقَوْل، و «أنْ تُصِيبنَا» في محلِّ نَصْبٍ] بالمفعُول أي: «نَخْشَى إصابَتَنَا»، والدَّائرة صفة غَالِبة لا يذكر موصُوفها، والأصل: دَاوِرَة؛ لأنَّها من دار يَدُور.
قال الواحدي: الدَّائرة من دَوَائِر الزَّمن، كالدَّولة والدَّوَائِل تَدُولُ قال الشاعر: [الرجز]
١٩٧٧ - قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ
١٩٨١ - يَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا أوْ دَائِرَاتِ الدَّهْرِ أنْ تَدُورَا
يعني بدور الدَّهر: هو الدَّائِرة من قَوْم إلى قَوْم.

فصل


المُرَاد بقوله تعالى ﴿الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ هم المُنَافِقُون يعني: عبد الله بن أبَيّ
381
وأصحابه - لعنهم الله - «يُسَارِعُون [فيهم» أي: في] مودَّة اليَهُود ونَصَارى نَجْران؛ لأنَّهم كانوا أهل ثرْوَة، وكانوا يُعِينُونَهُم على مُهِمَّاتِهِم، ويُقْرِضُونَهُم.
ويقول المَنَافِقُون: إنَّما نُخَالِطُهم لأنّا نَخْشَى أن تُصِيبنَا دَائِرَةٌ قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والزَّجَّاج: أي: نَخْشَى ألا يَتِمَّ الأمْرُ - لمحمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فيدُور الأمْر كما كان قبل ذلك. وقيل: نَخْشَى أن يدُور الدَّهْر علينا بِمَكْرُوه من جَدْب أو قَحْط، فلا يُعْطُون المِيَرة والقَرْض.
قوله: ﴿فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح﴾، «أن يَأتِي» في محلِّ نَصْبٍ إمَّا [على] الخبر ل «عسى»، وهو رأي الأخْفَش، وإمَّا على أنَّهُ مَفْعُول به، وهو رأيُ سيبوَيْه لئلاَّ يلزم الإخْبَار عن الجُثَّةِ بالحدَثِ في قولك: «عَسَى زَيْدٌ أن يَقُوم».
وأجاز أبو البقاء أن يكون «أنْ يأتِي» في محلِّ رفعٍ على البَدَلِ من اسْمِ «عسى»، وفيه نظر.

فصل


قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله -: عسى من اللَّه واجِب؛ لأنَّ الكَرِيم إذا طَمِعَ في خَيْر فعله، وهو بِمَنْزِلَةِ الوَعْدِ؛ لتعلُّق النَّفْسِ به ورَجَائِها له، قال قتادةُ ومُقَاتِل: فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي بالقَضَاء الفَصْل من نَصْر مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على من خَالَفَهُ.
وقال الكَلْبِي والسُّدِّيُّ: فتح «مَكَّةَ»، وقال الضَّحَّاك: فتح قُرَى اليَهُود مثل خَيْبَر وفدك.
﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾.
قال السُّدِّي: هي الجِزْيَة، وقال الحَسَن: إظْهَار أمر المُنَافِقِين والأحبار بأسْمَائهم والأمر بِقَتْلِهِم، وقيل: الخَصْبُ والسَّعَة للمُسْلِمِين، وقيل: إتْمَام أمْر محمَّد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وقيل: ﴿هذا عذابٌ أليم﴾.
382
وقيل: إجْلاء بَنِي النَّضِير، «فَيُصْبِحُوا» أي: هؤلاء المُنَافِقِين ﴿على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ﴾ مِنْ مُوالاة اليَهُود ودسِّ الأخْبَار إليْهم «نَادِمِين» وذلك لأنهم كانوا يشكُّون في أمْرِ رسُول اللَّه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، ويقولون: الظَّاهِر أنَّهم لا يتمُّ لهم أمْر، وأن الدولة والغلبَة تصير لأعْدَائه.
قوله تعالى: «فَيُصْبِحُوا» فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه منصوب عَطْفاً على «يأتي» المَنْصُوب ب «أنْ»، والذي يُسَوِّغُ ذلك وُجُود «الفَاء» السَّبَبِيَّة، ولولاَهَا لم يَجُزْ ذلك؛ لأن المعطُوف على الخبر خبر، و «أنْ يَأتِي» خبر «عَسَى»، وفيه راجعٌ عائِدٌ على اسْمِهَا.
وقوله: «فَيُصْبِحُوا» ليس فيه ضَمِيرٌ يَعُود على اسْمِهَا، فكان من حَقِّ المسألة الامْتِنَاع، لكن «الفَاء» للسسببِيَّة، فجعلت الجُمْلَتَيْن كالجملة الواحِدة، وذلك جَارٍ في الصِّلة نحو: «الذي يطير فيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبابُ».
والصِّفة نحو: «مررت بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرو»، والخبر نحو: «زيدٌ يبكي فيضحَكُ خالد»، ولو كان العَاطِفُ غير «الفَاء» لم يجُزْ ذلك.
والثاني: أنه منْصُوب بإضْمَار «أنْ» بعد الفَاءِ في جواب التَّمَنِّي قالوا: «لأن» عَسَى «تَمَنٍّ وتَرَجٍّ في حَقّ البَشَر».
﴿على مَآ أَسَرُّواْ﴾ متعلِّق ب «نَادِمِين»، و «نَادِمِين» خَبر «أصْبَح».
قوله تعالى: «ويَقُولُ» : قرأ أبُو عمرو، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ «يَقُول» والباقُون بإسْقَاطِها، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد «الوَاوِ»، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر: الرَّفع كالكُوفِيِّين، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات: «يَقُولُ» من غير واو [ «ويقول» بالواوِ والنَّصْب،] «ويقول] بالواو والرَّفع، فأمَّا قِرَاءة من قرأ» يَقُول «من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّر، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى: ﴿فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح﴾ إلى قوله» نَادِمِين «، سأل سَائِلٌ فقال: ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذْ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ﴾ إلى آخره، وهو واضح، و» الواو «سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ» مَكَّةَ «و» المدينَةِ «و» الشَّام «، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ، ونافع المدنِي، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم [وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط، بل وافقت روايتهم مصاحفهم] على ما تَبيَّن غير مَرَّة، وأما قِرَاءة» الواو «والرَّفع فواضحةٌ أيْضاً؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ
383
بالإخْبَارِ بِهَا، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة، و» الواو «ثابِتَةٌ في مصاحِفَ» الكُوفَة «و» المشرق «، والقارئُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف، والكلام كما تقدَّم أيضاً.
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وحَذْف «الواو»
هاهنا كإثباتها، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكراً من المَعْطُوف عليْهَا، فإن الموصُوفيه بِقَوْله تعالى «يُسَارِعُونَ فِيهِمْ»، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون: ﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله﴾، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو، ونَظِيرُه قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ.
وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر.
واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه:
أحدُهَا: أنه منصُوب عَطْفاً على «فَيُصْبِحُوا» على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب «فَيُصْبِحُوا»، وهو الوجهُ الثَّاني، أعْني: كَوْنَهُ مَنْصُوباً بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد «الفَاء»، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة نَافِع ﴿لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى﴾ [عبس: ٣: ٤] بِنَصبِ «تَنْفَعَهُ» وبقراءة عَاصِم في رواية حَفْصٍ: ﴿لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ﴾ [غافر: ٣٦، ٣٧] بنصب «فأطَّلِع»، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه.
وهذا الوجه - أعني: عَطْفَ «ويقُول» على «فَيُصْبِحوا» - قاله الفَارِسيُّ وجماعة، ونقله ابن عطيَّة، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب.
قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم: «وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب، ولم أره لِغَيْره، وذكروا وُجُوهاً كلها بعيدة مُتعسِّفة» انتهى.
قال شهاب الدِّين: وهذا - كما رأيت - مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين، وهو مرْجوحٌ كا تقرَّر في علم النَّحْو.
الثاني: أنه منصُوب عَطْفاً على المصدر قبْله، وهو الفَتْح كأنَّه قيل: ﴿فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح﴾، وبأن يقول، أي: ﴿وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ﴾، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر: [الوافر]
384
١٩٨٢ - للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
وقول الآخر: [الطويل]
١٩٨٣ - لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ
وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه:
أحدها: أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل ب «أن» والفعل تقديره: أن يَأتِي بأن يفتح، وبأنْ يقول، فيقعُ الفصلُ بقوله «فَيُصبِحُوا» وهو أجنبي؛ لأنَّه مَعْطُوف على «يأتي».
الثاني: أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك، نحو: يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك.
الثالث: أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل، فلا يكون المعنى على: «فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا»، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً.
الثالث - من أوجُه نَصْب «ويقول» -: أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله: «يَأتي» أي: فَعَسَى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء.
وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر، وذلك أن قوله: «أن يأتي» خبر «عَسَى» وهو صحيحٌ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم «عَسَى» [وهو ضمير الباري تعالى، وقوله: «ويقول» ليس فيه ضمير يعود على اسم «عسى» ] فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه:
أحدها: أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى، والمعنى: فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح، وبقولِ الذين آمَنُوا، فتكون «عَسَى» تامَّة؛ لإسنادها إلى «أنْ» وما في حَيِّزهَا، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ، وهذا قرِيبٌ من قولهم: «العطْفُ على التَّوهُّم» نحو: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين﴾ [المنافقون: ١٠].
الثاني: أنَّ «أنْ يَأتِيَ» بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر، وتكون «عَسَى» حينئذٍ تامَّة، وكأنه قِيل: فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ؛ لأنهم نَصُّوا على أن «عَسَى» و «اخْلَوْلَق» و «أوْشَكَ» من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها: «أنْ يَفعل»، قالوا: ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه، كما قالوا ذَلِكَ في «ظَنّ» وأخواتها: إنَّ «أنْ» و «أنَّ» تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها.
والثالث: أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع «وَيَقُول» خبراً عن «عَسَى»،
385
والتقدير: ويقول الذين آمَنُوا به، أي: بِاللَّه، ثم حذف للعلْم به، ذكر ذلك أبو البقاء.
وقال ابن عطيَّة بعد حكايته نَصْبَ «ويقُولَ» عَطْفاً على «يَأتيَ» :«وعندي في مَنْع» عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون «نظرٌ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه».
قال شهاب الدِّين: قول ابن عطيَّة في ذلك، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم «عَسَى» يَصِحُّ به الرَّبط، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة، وهو النَّصْب: إما عطفاً على «أنْ يَأتِي»، وإما على «فَيُصْبِحُوا»، وإمَّا على «بالفَتْح» وقد تقدم تَحقِيقُهَا.
قوله - تعالى -: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ في انتصَابِه وجهان:
أظهرهما: أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ «أقْسَمُوا» فهو مِنْ مَعْناه، والمعنى: أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين.
والثاني: - أجازه أبو البقاء وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم: «افعل ذلك جَهْدَك» أي: مُجْتَهِداً، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره، والمعنى هُنَا: «وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم».
قوله تعالى: «إنَّهُم لمَعَكُمْ» هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ: إنَّا مَعَكُم، وفيه نَظَرٌ؛ إذ يجُوز لك أن تقول: «حَلَفَ زيد لأفْعَلَن» أو «ليفْعَلَنَّ»، فكما جَازَ أنْ تقول: ليفعلن جاز أن يقال: «إنَّهُمْ لَمَعكُم» على الحِكَاية.
فإن قيل: الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول: هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى، وقالوا: إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟
قوله تعالى: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ فيها أوجه:
حدها: أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك.
الثاني: أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك، وهو قولُ الله - تعالى - نحو: ﴿قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧].
386
الثالث: أنها في محلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف، أعني: كونَهُ إخْبَاراً أو دُعَاءً.
الرابع: أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ، وهو «هؤلاء»، وعلى هذا فيحتمل قوله «الَّذين أقْسَمُوا» وَجْهَيْن:
أحدهما: أنَّه صفة لاسْم الإشارة، والخبر: «حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ».
والثاني: أن «الَّذِين» خَبَر أوَّل، و «حَبِطَتْ» خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك، وجعل الزمخْشَرِيّ «حَبِطَت أعمَالهم» مفهمة للتَّعجُّب.
قال: وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل: «ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ»، وأجاز مع كونه تعجُّباً أن يكون من قولِ المؤمنين، فيكون في محلِّ نَصْب، وان يكون من قَوْلِ الباري - تعالى - لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله - تعالى - بأنه تَعْجِيبٌ، قال: «أوْ مِنْ قول الله - عَزَّ وَجَلَّ َّ - شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال، وتعْجِيباً من سُوءِ حالِهِمْ» والمعنى: ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة، [أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ، وأمَّا في الآخرة] فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم، وقرأ أبُو واقد والجرَّاح «حَبَطت» بفتح «الباء»، وهما لُغَتَان، وقد تقدَّم ذلك.
وقوله تعالى: «فأصْبَحُوا» وجه التسبب في هذه الفاء ظاهر.
387
قوله تعالى :" ويَقُولُ " : قرأ أبُو عمرو١، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ " يَقُول " والباقُون بإسْقَاطِها، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد " الوَاوِ "، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر : الرَّفع كالكُوفِيِّين، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات :" يَقُولُ " من غير واو [ " ويقول " بالواوِ والنَّصْب، ]٢ " ويقول " بالواو والرَّفع، فأمَّا قِرَاءة من قرأ " يَقُول " من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّر، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى :﴿ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ﴾ إلى قوله " نَادِمِين "، سأل سَائِلٌ فقال : ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذٍ ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ إلى آخره، وهو واضح، و " الواو " سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ " مَكَّةَ " و " المدينَةِ " و " الشَّام "، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ، ونافع المدنِي، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم [ وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط، بل وافقت روايتهم مصاحفهم ]٣ على ما تَبيَّن غير مَرَّة، وأما قِرَاءة " الواو " والرَّفع فواضحةٌ أيْضاً ؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ بالإخْبَارِ بِهَا، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة، و " الواو " ثابِتَةٌ في مصاحِفَ " الكُوفَة " و " المشرق "، والقارئُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف، والكلام كما تقدَّم أيضاً.
قال الواحدي - رحمه الله ٤- : وحَذْف " الواو " هاهنا كإثباتها، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكراً من المَعْطُوف عليْهَا، فإن الموصُوفين بِقَوْله تعالى " يُسَارِعُونَ فِيهِمْ "، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون :﴿ أهؤلاءِ الَّذِين أقْسَمُوا باللَّه ﴾، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو، ونَظِيرُه قوله تعالى :﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ.
وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر.
واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه :
أحدُهَا : أنه منصُوب عَطْفاً على " فَيُصْبِحُوا " على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب " فَيُصْبِحُوا "، وهو الوجهُ الثَّاني، أعْني : كَوْنَهُ مَنْصُوباً بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد " الفَاء "، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة٥ نَافِع ﴿ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [ عبس : ٣، ٤ ] بِنَصبِ " تَنْفَعَهُ " وبقراءة عَاصِم٦ في رواية حَفْصٍ :﴿ لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ ﴾ [ غافر : ٣٦، ٣٧ ] بنصب " فأطَّلِع "، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه.
وهذا الوجه - أعني : عَطْفَ " ويقُول " على " فَيُصْبِحوا " - قاله الفَارِسيُّ وجماعة، ونقله ابن عطيَّة، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب.
قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم :" وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب، ولم أره لِغَيْره، وذكروا وُجُوهاً كلها بعيدة مُتعسِّفة " انتهى.
قال شهاب الدِّين٧ : وهذا - كما رأيت - مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين، وهو مرْجوحٌ كما تقرَّر في علم النَّحْو.
الثاني : أنه منصُوب عَطْفاً على المصدر قبْله، وهو الفَتْح كأنَّه قيل :﴿ فَعَسَى اللَّهُ أنْ يَأتي بِالفَتْح ﴾، وبأن يقول، أي :﴿ ويقول الَّذِين آمَنُوا ﴾، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس٨، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر :[ الوافر ]
للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ٩
وقول الآخر :[ الطويل ]
لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ١٠
وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه :
أحدها : أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل ب " أن " والفعل تقديره : أن يَأتِي بأن يفتح، وبأنْ يقول، فيقعُ الفصلُ بقوله " فَيُصبِحُوا " وهو أجنبي ؛ لأنَّه مَعْطُوف على " يأتي ".
الثاني : أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك، نحو : يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك.
الثالث : أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل، فلا يكون المعنى على :" فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا "، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً.
الثالث - من أوجُه نَصْب " ويقول " - : أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله :" يَأتي " أي : فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي ويقول، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء.
وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر، وذلك أن قوله :" أن يأتي " خبر " عَسَى " وهو صحيحٌ ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم " عَسَى " [ وهو ضمير الباري تعالى، وقوله :" ويقول " ليس فيه ضمير يعود على اسم " عسى " ]١١ فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً ؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه :
أحدها : أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى، والمعنى : فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح، وبقولِ الذين آمَنُوا، فتكون " عَسَى " تامَّة ؛ لإسنادها إلى " أنْ " وما في حَيِّزهَا، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ، وهذا قرِيبٌ من قولهم :" العطْفُ على التَّوهُّم " نحو :
﴿ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ المنافقون : ١٠ ].
الثاني : أنَّ " أنْ يَأتِيَ " بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر، وتكون " عَسَى " حينئذٍ تامَّة، وكأنه قِيل : فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ ؛ لأنهم نَصُّوا على أن " عَسَى " و " اخْلَوْلَق " و " أوْشَكَ " من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها :" أنْ يَفعل "، قالوا : ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه، كما قالوا ذَلِكَ في " ظَنّ " وأخواتها : إنَّ " أنْ " و " أنَّ " تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها.
والثالث : أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع " وَيَقُول " خبراً عن " عَسَى "، والتقدير : ويقول الذين آمَنُوا به، أي : بِاللَّه، ثم حذف للعلْم به، ذكر ذلك أبو البقاء١٢.
وقال ابن عطيَّة١٣ بعد حكايته نَصْبَ " ويقُولَ " عَطْفاً على " يَأتيَ " :" وعندي في مَنْع " عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون " نظرٌ ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه ".
قال شهاب الدِّين١٤ : قول ابن عطيَّة في ذلك، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم " عَسَى " يَصِحُّ به الرَّبط، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة، وهو النَّصْب : إما عطفاً على " أنْ يَأتِي "، وإما على " فَيُصْبِحُوا "، وإمَّا على " بالفَتْح " وقد تقدم تَحقِيقُهَا.
قوله - تعالى - :﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ في انتصَابِه وجهان :
أظهرهما : أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ " أقْسَمُوا " فهو مِنْ مَعْناه، والمعنى : أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين.
والثاني :- أجازه أبو البقاء١٥ وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم :" افعل ذلك جَهْدَك " أي : مُجْتَهِداً، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره، والمعنى هُنَا :" وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم ".
قوله تعالى :" إنَّهُم لمَعَكُمْ " هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم ؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ : إنَّا مَعَكُم، وفيه نَظَرٌ ؛ إذ يجُوز لك أن تقول :" حَلَفَ زيد لأفْعَلَن " أو " ليفْعَلَنَّ "، فكما جَازَ أنْ تقول : ليفعلن جاز أن يقال :" إنَّهُمْ لَمَعكُم " على الحِكَاية.
فإن قيل : الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول : هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى، وقالوا : إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم ؟
قوله تعالى :﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ فيها أوجه :
أحدها : أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك.
الثاني : أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك، وهو قولُ الله - تعالى - نحو :﴿ قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ ﴾ [ عبس : ١٧ ].
الثالث : أنها في محلِّ نَصْبٍ ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف، أعني : كونَهُ إخْبَاراً أو دُعَاءً.
الرابع : أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ، وهو " هؤلاء "، وعلى هذا فيحتمل قوله " الَّذين أقْسَمُوا " وَجْهَيْن :
أحدهما : أنَّه صفة لاسْم الإشارة، والخبر :" حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ ".
والثاني : أن " الَّذِين " خَبَر أوَّل، و " حَبِطَتْ " خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك، وجعل الزمخْشَرِيّ ١٦ " حَبِطَت أعمَالهم " مفهمة للتَّعجُّب.
قال : وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل :" ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ "، وأجاز مع كونه تعجُّباً أن يكون من قولِ المؤمنين، فيكون في محلِّ نَصْب، وأن يكون من قَوْلِ الباري - تعالى - لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله - تعالى - بأنه تَعْجِيبٌ، قال :" أوْ مِنْ قول الله - عز وجلَّ - شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال، وتعْجِيباً من سُوءِ حالِهِمْ " والمعنى : ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه ؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة، [ أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ، وأمَّا في الآخرة ]١٧ فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم
١ ينظر: السبعة ٢٤٥، والحجة ٣/٢٢٩، وحجة القراءات ٢٢٩، والعنوان ٨٨، وشرح الطيبة ٤/٢٣٠، وشرح شعلة ٣٥١، وإتحاف ١/٥٣٧..
٢ سقط في أ..
٣ سقط في أ..
٤ ينظر: الرازي ١٢/١٦..
٥ ستأتي في "عبس" آية (٣، ٤)..
٦ ستأتي في "غافر" آية (٣٦، ٣٧)..
٧ ينظر: الدر المصون ٢/٥٤٤..
٨ ينظر: إعراب القرآن ١/٥٠٣..
٩ تقدم..
١٠ تقدم..
١١ سقط في أ..
١٢ ينظر: الإملاء ١/٢١٩..
١٣ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٠٦..
١٤ ينظر: الدر المصون ٢/٥٤٥..
١٥ ينظر: الإملاء ١/٢١٩..
١٦ ينظر: الكشاف ١/٦٤٣..
١٧ سقط في أ..
قوله: «مَنْ يَرْتَدَّ» «مَنْ» شرطيَّة فقط لِظُهُور أثَرِها.
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ» جوابها وهي مُبْتَدأة، وفي خَبَرِها الخِلافُ المَشْهُور وبظاهره يتمسَّكُ مَنْ لا يَشْتَرِطُ عَوْدَ الضَّمِير على اسْمِ الشَّرْط من جُمْلَة الجواب، ومن الْتَزَم ذلك قدَّر ضَمِيراً مَحْذُوفاً تقديره: «فسوْفَ يأتي الله بِقَوْم غَيْرهم»، ف «هُمْ» في «غَيْرهم» يعُود على «مَنْ» على مَعْناها.
وقرأ ابنُ عامرٍ، ونافع: «يَرْتَدِد» بداليْن.
387
قال الزَّمَخْشَري: «وهي في الإمَام - يعني رسم المُصْحَفِ - كذلك»، ولم يتبين ذلك، ونَقَل غَيْرُهُ أنَّ كل قَارِئ وافَق مُصْحَفَه، فإنَّها في مَصَاحِف «الشَّام» و «المدينة» :«يَرْتَدِدْ» بدالين، وفي البَاقِية: «يَرْتَدَّ»، وقد تقدَّم أنَّ الإدغام لغة «تمِيم»، والإظهَار لغة «الحِجاز»، وأن وجه الإظْهَار سكون الثَّانِي جَزْماً أو وَقْفاً، ولا يُدْغَمُ إلا في مُتَحَرِّك، وأنَّ وجه الإدْغَام تحْرِيك هذا السَّاكن في بَعْضِ الأحْوَال نحو: رُدَّا، ورُدُّوا، ورُدِّي، ولم يَرُدَّا، ولم يَرُدُّوا، واردُدِ القوم، ثم حُمِل «لم يَرُدَّ»، و «رُدَّ» على ذلك، فَكَأنَّ التَميميّين اعتبروا هذه الحركة العارضة، والحِجازيِّين لم يَعْتَبِرُوها.
و «مِنْكُم» في محلِّ نصب على الحال من فاعل «يَرْتَدّ»، و «عَنْ دينهِ» متعلِّق ب «يَرْتدَّ».
قوله: «يحبُّهم» في محلِّ جر؛ لأنها صفةٌ ل «قَوْم»، و «يُحِبُّونه» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه معطوف على ما قَبْلَهُ، فيكُون في محلِّ جرِّ أيضاً، فوصفهم بِصفتين: وصفهم بكونه تعالى يُحِبُّهم، وبكوْنِهِم يُحِبُّونَه.
والثاني: أجازه أبُو البقاءِ أن يكُون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المنصُوب في «يُحِبُّهم»، قال: تقديره: «وهُمْ يُحِبُّونَهُ».
قال شهاب الدِّين: وإنما قدَّر أبُو البقاءِ لفظة «هُمْ» ليخرج بذلك من إشْكال، وهو أنَّ المُضارع المُثْبَت متى وَقَعَ حالاً، وجبَ تجرُّدُه من «الواو» نحو: «قُمْتُ أضْحَكُ» ولا يجوز: «وأضْحَكُ» وإن وَرَدَ شيءٌ أوِّلَ بما ذَكَرَهُ أبُو البقاء، كقولهم: «قُمْتُ وأصُكُّ عَيْنَه».
وقوله: [المتقارب]
١٩٨٤ -..................... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
أي: وأنَا أصُكُّ، وأنا أرهَنُهم، فتؤوَّل الجملة إلى جُمْلة اسميَّة، فيصحُّ اقترانها بالواو، ولكن لا ضَرُورةَ في الآيَة الكريمَة تدعو إلى ذلك حتَّى يُرْتَكَب، فهو قولٌ مَرْجُوحٌ.
وقدمت محبَّة الله - تعالى - على مَحبتهم لشرفِها وسَبْقِهَا؛ إذ مَحَبَّتُهُ - تعالى - لهم عِبَارة عن إلْهامهم فِعْلَ الطَّاعةِ، وإثابته إيَّاهُم عليها.

فصل


روى الزَّمخشري: أنَّه كان أهْلُ الرِّدَّة إحدى عشرة فرقة في عهد رَسُول الله -
388
صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم - بنو مدُلج [ورئِيسُهم] وهو «عَيْهَلة بن كعب» لقبه «ذُو الخِمَار» وهو الأسْوَد العَنْسي وكان كاهِناً - ادّعى النُّبُوّة باليمن، واستولى [على بلادِها] وأخرج عُمَّال رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مثل مُعَاذِ بن جَبَل وساداتِ اليمن، فأهلكه الله على يد «فَيْرُوز الدَّيْلَمِي»، فقتله وأخبر رسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم -] من الغد، وأتَى خَبَرُه في آخِر رَبِيع الأوَّل، وبنو حنيفَة: قوم «مُسَيْلِمَة الكَذَّاب» ادَّعى النُّبُوَّة، وكتب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -: «من مسيلمة رسُول الله إلى محمَّد رسول الله، أما بعد: فإن الأرْض نصفُهَا لك ونِصْفُها لِي»، فأجاب - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من محمَّد إلى مُسَيْلمة الكذَّاب أما بعد: ﴿إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨] فحارَبَهُ أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بجُنُود المُسْلِمين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وقُتل على يَدِ وَحْشِيٍّ قاتل حَمْزة وقال: قَتَلْتُ خير النَّاسِ في الجاهليَّة، وشرَّ النَّاسِ في الإسلام أراد في جاهليَّته وفي إسلامه.
وبنو أسَد: قوم طُلَيْحة بن خُوَيْلِد ادّعى النُّبوة، فبعَثَ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خالداً فانْهَزَم بعد القِتَال إلى الشَّام، ثمَّ أسْلَم، وحَسُن إسلامه في عَهْد أبِي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وفِزَارة: قوم عُيَيْنَة بن حِصْن، وغَطَفَان: قوم قُرَّة بن سلمة القُشَيْري، وبنو سَلِيم: قوم فُجاءَة بن عبد يَالِيل، وبنو يَرْبُوع: قوم مَالِك بن نُوَيْرة، وبعض بني تَمِيم: قوم سجاح بِنْت المُنْذِر التي ادَّعت النُّبُوَّة، وزوجت نفسها من مُسَيْلمة الكَذَّاب، وكِنْدة: قوم الأشعَث بن قَيْس، وبنو بكر بن وَائِل ب «البحرين»، وقوم الحَطْم ابن زَيْد، وكُفِيَ أمْرُهم على يد أبِي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وفرقةَ واحدةُ على عهد عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - غسان قوم جبلة بن الأيْهَمِ، وذلِك أنَّ جبلة أسلم على يد عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان يَطُوفُ ذاتَ يومٍ جارًّا رداءَهُ، فوطئ رَجُلٌ طرَفَ رِدائِه فغَضِبَ فَلَطَمُه، فتظلَّم إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، فقضى بالقِصَاص عليه، فقال: أنّا أشْتَرِيها بألْفٍ، فأبي الرَّجُل، فلم يَزَل يزيد في الفِدَاءِ حتى بلغ عَشْرَة آلاَف فأبى الرجل إلا القِصَاص، فاسْتَنْظَره [عُمر] فأنْظَرَهُ فَهَرَب إلى الرُّوم وارتد.
ومعنى الآية: يا أيُّها الذين آمنُوا من يتول منكم الكُفَّار، فَيَرْتَدَّ عن دينه، فليعلم: أنَّ الله تعالى يأتي بِقَوْم آخَرِين يتدينوا بهذا الدِّين على أبْلَغ الوُجُوه.
وقال الحسن: عَلِمَ اللَّهُ أنَّ قوماً يَرْجِعُون عن الإسْلام بعدَ مَوْت نَبِيِّهِم، فأخْبَرَهُم
389
بأنه سَيَأتِي الله بِقَوْم يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ. وعلى هذا التقدير: تكون هذه الآيَةُ إخْباراً عن الغَيْبِ، وقد وقع المخبر على وِفْقِه، فيكون مُعْجِزاً.
واخْتَلَفُوا في القَوْم مَنْ هُم؟
فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضَّحَّاك وابن جُرَيْج: أبو بكر وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - الَّذين قاتلوا أهْلَ الرِّدَّة، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مات رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وارتدَّ من العرب قوم [واشْتَهَر] النِّفَاق، ونزل بِأبي ما لوْ نزل بالجبال الرَّاسِيَات لهاضها، وذلك بأن النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لما قبض ارتدَّ عامَّة العرب إلا أهْل مَكَّة والمدِينَة. والبَحْرين من عَبْد القَيْس، ومنع بعضهم الزَّكاة، وهمَّ أبُو بَكْر بقتالهم، فكره ذلك أصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كيف نُقَاتِلُ النَّاس، وقد قال رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -: «أمرت أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوا: لا إله إلا الله محمُّد رسولُ الله، فمن قَالَهَا فقدْ عَصَم مِنَّي ماله ونَفْسَهُ، إلا بحقِّه، وحِسَابُهُ على اللَّه» فقال أبُو بكر - رضي الله تعالى عنه -: «واللَّهِ لأقَاتِلنَّ من فرق بين الصَّلاة والزَّكاة، فإن الزَّكاة حقُّ المَال، واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عنَاقاً كانُوا يُؤدُّونَها إلى رسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقاتَلْتُهُم على مَنْعِها».
قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كَرِهَت الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قتال مانِعِي الزَّكاة، وقالوا أهْل القِبْلة، فتقلَّد أبُو بكر سَيْفَهُ، وخرج وحده، فلم يَجِدُوا بُدًّا من الخروج على أثره.
قال ابن مسعود: كَرِهْنَا ذلك في الابتدَاء، ثم حَمِدْناهُ عليه في الانتهاء، قال أبو بكر ابن عيَّاش: سمعت أبا حُصَيْن يقول: ما وُلِدَ بَعْد النَّبِيِّين مَوْلُود أفْضَل من أبِي بَكْر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، لقد قام مَقَامَ نَبَيٍّ من الأنْبِيَاء في قتال أهْلِ الرِّدَّة.
وقال السُّديُّ: نزلت الآية في الأنْصَار؛ لأنَّهُم الذين نَصَرُوا الرَّسُول وأعانُوه على إظْهَار الدِّين.
وقال مُجَاهِد: نزلتْ في أهل «اليَمَن».
390
وقال الكلبي: هُمْ أحْيَاء من اليمن، ألْفان من النَّخْع، وخمسة آلافٍ من كِنْدة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء النَّاس، فجَاهَدُوا في سَبِيل الله يوم القَادِسيَّة في أيَّام عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وروي مَرْفوعاً أن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - «لما نزلَتْ هذه الآية، أشار إلى أبِي مُوسَى الأشْعَرِيّ وقال:» هُمْ قَوْمُ هَذَا «، وقال آخَرُون: هم الفُرْسُ؛ لأنه رُوِي أنَّ النَّبِيَّ - صلًّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لمّا سُئِلَ عن هذه الآية ضَرَبَ يَدَهُ على عَاتِق سَلْمَان الفارسيِّ وقال: هذا وَذَوُوُه، ثمَّ قال: لو كان الدِّين معلَّقاً بالثُّرَيَّا لنالَهُ رِجَالٌ من أبْنَاء فَارِس».
وقال قوم:
إنَّهَا نزلت في عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ لأنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «لما دفع الراية إلى عَلِيّ قال: لأدْفَعَنَّ الرَّاية إلى رَجُلٍ يحبُّ الله ورسُوله».
قوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾.
هاتان أيضاً صِفَتَان ل «قَوْم»، واستدلَّ بعضُهم على جواز تَقْدِيم الصِّفَة غير الصَّريحة على الصِّفَة الصَّريحة بهذه الآية، فإن قوله تعالى: «يُحِبُّهم» صِفةٌ وهي غير صَرِيحةٌ؛ لأنَّها جملة مؤوَّلة بمفْرَد، وقوله: «أذلّة - أعزّة» صِفتَان صريحَتَان؛ لأنَّهُمَا مفردتان، وأما غيره من النَّحْوِيِّين فيقول: متى اجْتَمَعَت صِفَةٌ صَرِيحة، وأخرى مؤوَّلة وَجَبَ تقدِيم الصَّريحة، إلاَّ في ضرورة شِعْرٍ، كقول امْرِئ القيس: [الطويل]
391
فقدَّم قوله: «يُغَشِّي» - وهو جملة - على «أسْوَد» وما بعده، وهُنَّ مفردات، وعِند هذا القَائِل أنه يُبْدَأ بالمُفْرَد، ثم بالظَّرْف أو عديله، ثم بالجُمْلة، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ [غافر: ٢٨] ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ١٥٥].
قال أبو حيَّان: وفيها دليل على بطلان من يَعْتَقِد وجوب تَقْديم الوصْفِ بالاسْمِ على الوَصْف بالفِعْل إلا في ضَرُورَة، ثُمَّ ذكر الآية الآخرى.
قال شهاب الدين: وليْسَ في هاتين الآيتين الكَرِيمتين ما يَرُدُّ قول هذا القَائِل، أمَّا هذه الآية فيحتمل أن يكون قوله تعالى: «يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه» جملة اعتراض، لأنَّ فيها تأكيداً وتَشدِيداً للكلام.
وجملة الاعْتِرَاض تقع بين الصِّفة ومَوْصُوفها، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٦] ف «عَظِيم» صفة ل «قَسَم»، وقد فصل بينهما بقوله: «لَوْ تَعْلَمُون»، فكذلك فصل هنا بين «بِقَوْم»، وبين صفتهم وهي «أذِلَّة - أعِزَّة» بقوله: «يُحِبُّهم ويُحِبُّونه»، فعلى هذا لا يكون لها مَحَلٌّ من الإعراب.
وأمَّا ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ١٥٥] فلا نسلّم أن «مباركٌ» صفة، ويجوز أن يكون [خبر مبتدأ محذوف، أي: هو مُبارك] ولو استدلَّ على ذلك بآيتين غير هاتَيْن لكان أقْوى، وهما قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: ٢]، ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ﴾ [الشعراء: ٥] فقدَّم الوصف بالجار على الوَصْفِ بالصَّرِيح، وكذا يحتمل أن يُقَال: لا نسلِّم أن «مِنْ رَبِّهم» و «مِنَ الرَّحْمن» صفتان لجواز أن يكونا حاليْنِ مُقدَّمين من الضَّمِير المسْتَتِر في «مُحْدَث» أي: مُحَدث إنزالهُ حال كَوْنه من رَبِّهِم.
و «أذلَّة» جمع ذَلِيل بمعنى متعطّف؛ ولا يُرَادُ به الذليل الذي هو ضعيف خَاضِعٌ مُهَان: ولا يجوز أن يكُون جمع «ذَلُول» ؛ لأن ذَلُولاً يجمع على «ذُلُل» لا على أذِلَّة، وإن كان كلام بَعْضِهِم يوهِمُ ذلك.
قال الزَّمَخْشَرِي: ومن زَعَم أنَّه من «الذُّل» الذي هو نَقِيضُ الصُّعُوبة، فقد غَبِيَ عن أن «ذَلُولاً» لا يُجْمَع على «أذِلَّة».
و «أذلَّة» و «أعِزَّة» جمعان ل «ذلل» و «عَزِيز» وهما مِثَالا مُبَالَغَة، وعدَّى «أذلّة» ب «على» وإن كان أصْلُه أن يتعدّى باللاَّم لما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف، والمعنى: عَاطِفين [على المؤمنين] على وجه التَّذَلُّل والتَّواضُع، ويجُوزُ أن يكون المعنى أنَّهُم مع
392
شَرَفِهم وعلو طَبَقَتِهِم وفَضْلِهِم على المُؤمنين خافِضُون لهم أجنحتهم؛ كقوله تعالى: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْن الزَّمخْشَري.
قال أبو حيَّان: قيل: «أو لأنَّه على حَذْفِ مضافٍ، التَّقدير: على فَضْلِهِم على المُؤمِنِين، والمعنى: أنَّهُمْ يَذِلُّون، ويَخْضَعُون لمن فُضِّل عَلَيْه مع شَرَفِهِم وعلو مَكَانتهم».
وذكر آيَة الفَتْح، وهذا هو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِي بعينه، إلا أن قوله: «عَلى حَذْفِ مُضَافٍ» يوهم حَذْفه، وإقامَةِ المُضَاف إليه مَقَامَه، وهنا حَذفَ «عَلَى» الأولى، وحذف المُضَاف إليه، والمُضَاف معاً.
قال شهابُ الدِّين: ولا أدْرِي ما حَمَلَهُ على ذلك؟ ووقع الوصف في جانب المَحبَّة بالجُمْلَة الفِعْلِيَّة، لأنَّ الفِعْل يَدُلُّ على التَّجَدد والحُدُوثِ وهو مُنَاسِب، فإن مَحَبَّتَهُمْ لله - تعالى - تَجَدُّدُ طاعَاتِه وعبادَتِه كُلَّ وقت، ومحبَّةُ اللَّه إياهم تجد ثوابه وإنْعامه عليهم كُلَّ وَقْت، ووقع الوَصْفُ في جَانِبِ التَّواضُع للمُؤمنين والغِلْظَةِ على الكَافِرين بالاسْمِ الدَّال على المُبَالَغة، دلالة على ثُبُوتِ ذَلِك واسْتِقْرَاره، وأنه عَزِيزٌ فِيهِم، والاسْم يدلُّ على الثُّبُوت والاسْتِقْرار، وقدم الوصْفَ بالمحبَّة مِنْهم المتعلّق بالمؤمنين على وَصْفِهم المتعلِّق بالكَافرين؛ لأنه آكَدُ وألْزَمُ منه، ولِشَرفِ المُؤمِن أيْضاً، والجُمْهُور على جَرِّ «أذلَّةٍ» - «أعِزَّةٍ» على الوصف كما تقدَّم.
قال الزَّمَخْشري: «وقُرِئ» أذِلَّةً وأعِزَّةً «بالنَّصْب على الحَالِ».
قلت: الذي قرأ «أذلَّةً»، هو عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، إلا أنَّه قرأ بَدَل «أعِزَّة» :«غُلظَاءَ على الكَافِرِين» وهو تفسيرٌ، وهي حال من «قَوْم»، وجازَ ذلك، وإنْ كان «قَوْم» نَكِرة لقُرْبِهِ من المَعْرِفة؛ إذ قد تُخَصَّصُ بالوَصْف.

فصل


معنى «أذِلَّة» أي: أرقَّاء رحماء، كقوله تعالى: ﴿واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة﴾ [الإسراء: ٢٤] من قولهم دابَّه ذَلُولٌ، أي: تَنْقَادُ سَهْلةً، وليْسَ من الذُّل في شَيْءٍ ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ يُعَادُنهم ويُغَالِبُونهم، من قولهم: عَزَّه إذا غَلَبَه.
393
قال عطاء: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين﴾ كالولد لِوَالده والعَبْد لسَيِّدِه: أعزَّة على الكَافِرِين كالسَّبُع على فَرِيسَتِه.
قوله تعالى: «يُجَاهِدُون» يحتمل ثلاثة أوْجُه:
أحدها: أن يكُون صِفَةً أخرى ل «قوم»، ولذلك جاء بِغَيْر واو، كما جاءت الصِّفَتان قَبْلَهُ بِغَيْرها.
الثاني: أنه في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في «أعِزَّة»، أي: يَعُزُّون مُجَاهِدِين.
قال أبُو البقاء: وعلى هذا فيجُوز أن تكون مِنَ الضَّمير في «أذلَّة»، أي: يَتَواضَعُون للمُؤمنين حال كَوْنِهِم مُجاهدين، أي: لا يَمْنَعُهم الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه من التَّواضُع للمُؤمِنِين، وحاليَّتُهَا من ضمير «أعِزَّة» أظْهَرُ من حاليَّتها ممَّا ذكرت، وذلك لَمْ يَسُغْ أن يَجْعَل المسْألة من التَّنازُع.
الثالث: أن يكون مُسْتَأنفاً، سِيقَ للإخْبار بأنّهم يُجَاهِدُون في نُصْرَةِ دينِ اللَّه تعالى.
قوله تعالى: «ولا يَخَافُون» فيه أوجه:
أحدها: أن يكُون مَعْطُوفاً على «يُجَاهِدُون» فتجري فيه الأوْجُه السَّابقة فيما قَبْله.
الثاني: أن تكُون «الواوُ» للحَالِ، وصاحب الحال فاعل «يُجَاهِدُون»، قال الزَّمَخْشَرِي: «أي: يُجَاهِدُون» وحالهم في المُجَاهَدَةِ غَيْرُ حَالِ المُنافِقِين «.
وتَبِعَهُ أبو حيَّان ولم يُنْكِر عليه، وفيه نَظَر؛ لأنهم نَصُّوا عَلَى أن المُضَارع المَنْفِي ب»
لاَ «أو» مَا «كالمُثْبَتِ في أنَّه [لا يجوزُ أن] تباشِرَه واو الحَال، وهذا كما تَرَى مضارع مَنْفِيٌّ ب» لاَ «، إلاَّ أن يُقَال: إن ذلك الشَّرْط غير مُجْمَعٍ عليه، ولكن العِلَّةَ التي مَنَعُوا لها مُبَاشَرة» الواو «للمُضَارع المُثْبت موجودة في المُضَارع المَنْفِي ب» لاَ «و» مَا «، وهي أنَّ المُضَارع المُثْبَتَ بِمَنْزِلة الاسْمِ الصَّرِيح، فإنَّك إذا قُلْتَ:» جاء زَيْد يَضْحَكُ «كان في قُوة» ضَاحِكاً «و» ضَاحِكاً «لا يجوز دخول» الوَاو «عليه، فكذلكَ ما أشْبَهَه وهُوَ في قُوَّتِهِ، وهذه مَوْجُودة في المَنْفِي، فإن قولك:» جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ «في قوَّة» غَيْر ضَاحِكٍ «و» غيْر ضاحك «لا تَدْخل عليه الواو [إلاَّ أنَّ هذا يُشْكِلُ بأنَّهم نَصُّوا على أنَّ المنفي ب» لَمْ «و» لَمَّا «يجُوز فيه دخول الواو، مع أنَّه في قولك:» قَامَ زيدٌ لَمْ يَضْحَكْ «بمنزلة» غَيْرِ ضَاحِك «] ومن دخول الواو، وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم﴾ [البقرة: ٢١٤] ونحوه.
394
الثالث: أن تكون» الواوُ «للاستِئْنَاف، فيكون ما بَعْدَها جُمْلةً مُسْتَأنَفَةً مُسْتَقِلَّة بالإخْبار، وبهذا يَحْصُلُ الفَرْق بين هَذَا الوَجْهِ، وبين الوَجْهِ الذي جُوِّزَت فيه أن تكون» الوَاو «عَاطِفَةً، مع اعْتِقَادِنا أن» يُجَاهِدُون «مستَأنفٌ، وهو وَاضِح.
و «اللَّوْمَةُ»
: المرَّة من اللَّوْمِ.
قال الزمخشري: «وفيها وفي التَّنْكِير مبالغتان، كأنَّه قيل:» لا يخافُون شيئاً قط من لَوْم أحَد من اللُّوَّام «، و» لومة «مصدر مُضاف لِفاعِلِه في المعنى.
فإن قِيلَ: هل يجُوزُ أن يكُونَ فاعِلُهُ مَحْذُوفاً، أي: لا يَخَافُون لَوْمَة لائِمٍ إيَّاهم؟
فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجُوز عند الجُمْهُور؛ لأنَّ المصدر المحدُودَ بتاء التَّأنيثِ لا يَعْمَل، فلو كان مَبْنيّاً على التَّاء عمل، كقوله: [الطويل]
١٩٨٥ - وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أسْوَدَ فَاحِم أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
١٩٨٦ - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا بِالْموَارِدِ
فأعمل» رَهْبَة «؛ لأنه مَبْنِيٌّ على» التَّاء «، ولا يجُوز أن يعمل المَحْدُود بالتَّاءِ إلا في قَليلٍ في كلامهم؛ كقوله: [الطويل]
١٩٨٧ - يُحَايِي بِه الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ بِضَرْبَةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ
يصف رَجُلاً سقى رَجُلاً مَاءً فأحْيَاهُ به، وتيمّم بالتُّراب.
والمَلاَ: التُّراب، فنصب»
المَلاَ «ب» ضَرْبة «، وهو مصدر محدُود بالتَّاء وأصل» لاَئِم «: لاَوِم؛ لأنه من اللَّوْم، فَأعِلَّ ك» قََائِم «.

فصل في معنى الآية


المعنى لا يخافُون في نُصْرة دِين اللَّه لَوْمة النَّاس، وذلك [أنَّ] المُنافِقِين يُرَاقِبُون الكفَّار ويَخَافُون لَوْمَهُم.
وروى عُبَادة بن الصَّامِت، قال: بايَعنا رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على السَّمْع والطَّاعة، وأن نَقُوم للَّه وأن نقُول الحَقَّ حيث ما كُنَّا لا نخاف في اللَّهِ لَوْمَة لائِم.
قوله تعالى:»
وذلك «في المُشَار إليه ثلاثةُ أوجه:
أظهرُها: أنه جَمِيع ما تقدَّم من الأوْصَاف التي وُصِفَ بها القَوْم، من المحبّةِ، والذِّلَّة، والعِزَّة، والمُجَاهدة في سبيل الله، وانتِفَاء خوف اللاَّئِمَة من كل أحَدٍ، واسْمُ الإشارَة يَسُوغُ فيه ذلك، أعْنِي: أنه يقع بِلَفْظِ الإفْرَاد مُشَاراً به لأكثر مِنْ وَاحدٍ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُهُ في قوله تعالى: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨].
395
والثاني: أنَّه مشار به إلى حُبِّ اللَّه لهم، وحُبِّهم لَهُ.
والثالث: أنَّه مشارٌ به إلى قوله:» أذِلَّةٍ «، أي: لِينُ الجَانِب، وترك التَّرَفُّع، وفي هذين تَخْصِيصٌ غير وَاضِح، وكأنَّ الحَامِل على ذلك من مَجِيء اسمِ الإشَارَةِ مُفْرَداً.
و»
ذَلِك «مبتدأ، و» فَضْلُ الله «خبرُه.
و»
يُؤتِيهِ «يحتمل ثلاثة أوجُه:
أظهرُهَا: أنه خَبَرٌ ثانٍ.
والثاني: أنه مُسْتَأنف.
والثالث: أنَّه في مَحَلِّ نصب على الحَالِ، كقوله تعالى: ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢].

فصل


ومعنى الكلام: أنَّ الوصف بالمحبَّة، والذلَّة، والعِزَّة، والمُجاهَدَةِ، وانتِفَاء خَوْفِ اللاَّئمة حصل بِفَضْل اللَّه - تعالى -، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعَات العِبَاد مَخْلُوقة للَّه تعالى، والمعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونه على فِعْل الألْطَاف وهو بعيد؛ لأنَّ فعل الألْطَاف عامٌّ في حقِّ الكُلِّ، فلا بدَّ في التَّخْصِيصِ من مَزِيدِ فَائِدة.
ثم قال - عزَّ وجلَّ -: ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، قالوا: فالوَاسِع إشَارَة إلى كمال المُقْدرة. والعَلِيم إشارةٌ إلى كمال العِلْم، ومن هذا صِفَتُه - سُبْحَانه وتعالى -، فلا يُعْجِزُه أنَّه سيجيء بأقْوَام هذا شأنْهُم.
396
لمَّا نَهَى عن مُوالاةِ الكُفَّار في الآيَات المُتقدِّمة بيَّن هاهُنَا من يجب مُوالاته.
قوله ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله﴾ مُبْتَدأ وخبر.
و «رَسُولُه» و «الَّذين» عَطْف على الخبر.
قال الزَّمَخْشَرِي: قد ذُكِرَتْ جماعةُ فهلاَّ قيل: «إنَّما أوْلِياؤُكم» ؟
وأجاب أنَّ الولاية بِطَرِيق الأصَالَة للَّه - تعالى - ثم نظم في سلك إثْباتها لِرَسُوله وللمُؤمِنين، ولَوْ جِيءَ به جَمْعاً، فقيل: «إنَّما أوْلِيَاؤُكم» لم يكن في الكلام أصْل وتبع.
قال شهاب الدِّين: ويحتمل وَجْهاً آخر، وهو أن «وَلي» بِزِنَةِ «فَعِيل»، و «فَعِيل» قد نصَّ عليه أهْلُ اللِّسَان أنَّهُ يقع لِلْواحد والاثْنَين والجماعة تَذْكيراً وتأنِيثاً بلفظ واحدٍ، يُقَال: «الزَّيْدُون صَدِيق» و «هِنْد صَدِيق»، وهذا مِثْله غاية ما فِيهِ أنَّهُ مقدَّم في التَّرْكِيب،
396
وقد أجَابَ الزَّمَخْشَرِي وغَيْره في قوله تعالى: ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ [هود: ٨٩] وذكر وَجْهَ ذلك، وهو شَبَهُهُ بالمصادر، وسَيَأتِي تحقِيقُه - إن شَاء اللَّه تعالى -.
وقرأ ابُن مسعُود: «إنَّما مولاكم الله»، وهي تَفْسِير لا قِرَاءة.

فصل في سبب نزول الآية


روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّها نَزَلت في عُبَادَة بن الصَّامِت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعبد الله بن أبيِّ ابن سلُول - لَعَنَهُ اللَّه -، حين تَبَرأ عُبَادة من اليَهُود وقال: أتوَلَّى الله ورسوله والذين آمَنُوا، فنزل فِيهِم من قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ﴾ [المائدة: ٥١]، إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ﴾ يَعْني: عُبَادة بن الصَّامِت وأصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وقال جَابِر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: جاء عَبْدُ الله بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال: يا رسول الله: «إن قَوْمنا قُرْيَظَة والنَّضِير قد هَجَرُونا وفَارَقُونا وأقْسَمُوا ألاَّ يُجَالِسُونا» فنزلت هذه الآية الكريمة، فَقَرأهَا عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال: يا رسول الله رَضِينا باللَّه وبرسُوله وبالمُؤمنين أوْلياء، وعلى هذا التَّأويل أراد بقوله - تعالى -: «وَهُمْ رَاكِعُون» صلاة التَّطَوُّع باللَّيْل والنَّهَار.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والسُّديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، أراد به على بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مرَّ به سَائِلٌ وهو رَاكِعٌ في المَسْجِد فأعطاه خاتمه، وقال جُوَيْبِر عن الضَّحَّاك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ﴾ [قال: هم المُؤمِنُون بعضهم أوْلِيَاء بعض، وقال أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر: ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا﴾ نزلت] في
397
المُؤمنين، فقيل له: إن ناساً يقولون: إنَّها نزلت في عَلِيٍّ - رضي الله تعالى عنه - قال: هو من المُؤمنين.
قوله تعالى: ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾ فيه خَمْسَة أوْجُه:
أحدها: أنَّهُ مَرْفُوع على الوَصْف، لقوله تعالى: «الَّذِين آمَنُوا».
وصف المؤمنين بإقام الصلاة، وإيتاء الزَّكاة، وذكر هَاتَيْن العبادَتيْن دون سَائِر فُروع الإيمان؛ لأنَّهما أفْضَلُهُمَا.
الثاني: أنَّه مرفوع على البَدَل من «الَّذِين آمَنُوا».
الثالث: أنه خَبَرُ مُبْتَد مَحْذُوف، أي: هُمُ الذين.
الرابع: أنه عَطْف بَيَان لما قبله؛ فإنَّ كل ما جاز أنْ يَكُون بدلاً جاز أن يكون بَيَاناً، إلا فيما اسْتُثْنِيَ كما تقدَّم.
الخامس: أنه مَنْصُوب بإضمار فِعْل، وهذا الوجه والَّذِي قَبْله من باب القَطْعِ عن التَّبِعيَّة.
قال أبو حيَّان - بعد أن نَقَل عن الزَّمَخْشَرِي وَجْهَي البدل، وإضمار المُبْتَدأ فقط -: «ولا أدْرِي ما الَّذِي مَنَعَهُ من الصِّفة، إذ هو المُتَبَادَرُ إلى الذِّهن، ولأنَّ المُبْدَلَ منه على نِيَّةِ الطَّرْح؛ وهو لا يصحُّ هنا؛ لأنَّه هو الوَصْف المترتِّبُ عليه صحّة ما بعده من الأوْصَاف».
قال شهاب الدِّين: لا نسلِّم أنَّ المتَبَادر إلى الذِّهْنِ الوَصْف، بل البَدَل هو المُتبَادر، وأيضاً فإن الوَصْف بالموصول على خِلاف الأصْل؛ لأنَّه مؤوَّل بالمُشْتَقِّ وليس بمُشْتَقٍّ، ولا نُسلِّم أن المُبْدَل مِنْه على نِيَّة الطَّرْح، وهو المَنْقُول عن سِيبوَيْه.
قوله: «وَهُمْ رَاكِعُون» في هذه الجُمْلَة وجهان:
أظهرهما: أنَّها معطوفة على ما قَبْلَها من الجُمَلِ، فتكون صِلَةً للمْوصُول، وجاء بهذه الجملة اسميَّةً دون ما قَبْلَها، فلم يَقُلْ: «يَرْكَعُون» اهتماماً بهذا الوَصْف، لأنَّه أظهر أرْكَان الصلاة.
والثاني: أنَّها «واو» الحال، وصاحبُها هو واو «يُؤتُون».
والمراد بالرُّكُوع الخُضُوع أي: يُؤتُون الصَّدَقة، وهم مُتُواضِعُون للفُقَراء الَّذين يتصَدَّقُون عليهم.
ويجُوز أن يُراد به الرُّكُوع حَقِيقةً؛ كما تقدَّم عن عَلِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
398
وقال أبو مُسلمِ: المراد من الرُّكوع: الخُضُوع، أي: يُصَلُّون ويَركَعُون وهم مُنْقَادُون خَاضِعُون لجميع أوَامِرِ اللَّه ونواهيه.
399
«ومن يَتَولَّ» «مَن» شَرْط في محلِّ رفع بالابْتداء.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ الله﴾ جُمْلَة واقعة خبر المُبْتَدأ، والعائد غير مَذْكُور لكوْنِهِ مَعْلُوماً، والتَّقْدِير: فهو غَالِبٌ لكونه من جُنْدِ الله، فيحتملُ أن يكُون جواباً للشَّرْط، وبه يحتجُّ من لا يَشْتَرِط عَوْد ضَمِير على اسْمِ الشَّرْط إذا كان مُبْتَدأ.
ولقائل أن يقول: إنَّما جاز ذَلِك؛ لأنَّ المُرَاد بحزب الله هو نَفْسُ المُبْتَدأ، فيكون من بَابِ تكْرَار المُبْتَدأ بمعناه، وفيه خِلاف، فالأخْفَش يُجِيزُهُ، فإن التقدير: ومن يَتَولَّ اللَّه ورسُولَهُ والذين آمنوا فإنه غالب، فوضع الظَّاهر موضع المُضْمَر لفائدة، وهي التَّشْرِيف بإضافة الحِزْب إلى اللَّه - تعالى -، ويحتملُ أن يكُون الجوابُ مَحْذُوفاً، لدلالة الكلام عَلَيْه، أي: ومن يتولَّ اللَّه ورسوله والَّذِين آمنُوا يَكُنْ من حِزْب الله الغَالِب، أو يُنْصَر ونحوه ويكون قوله: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ الله﴾ دالاًّ عليه، وعلى هَذَيْن الاحتمَالَيْن، فلا دِلَة في الآية على عدم اشْتِرَاط عَوْدِ ضمير على اسْم الشرط.
وقوله: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون﴾ في محلِّ جَزْم إنْ جَعَلْناه جواباً للشَّرْط، ولا محلَّ له إن جعلْنَاهُ دالاًّ على الجواب.
وقوله «هُمْ» يحتمل أنْ يكُون فَصلاً، وأن يكُون مُبْتَدأ.
و «الغَالِبُون» خبره والجُمْلَةُ خبر «إن»، وقد تقدَّم الكلام على ضَمِير الفَصْل.
و «الحِزْب» : الجماعة فيها غِلْظَةٌ وشدَّة، فهو جماعة خَاصَّة، وهو في اللّغَة: أصْحَاب الرَّجُل الَّذين يكُونُون معه على رَأيه، وهم القَوْم الَّذِين يَجْتَمِعُون لأمر حَزَبَهُمْ، وللمُفسرين فيه عِبَارات، فقال الحَسَن: جُنْدُ الله وقال أبو رَوْق: أوْلِيَاء الله، وقال أبو العَالِية: شِيعَتُه، وقال بعضهم: أنْصَار الله، وقال الأخْفَش: حِزْب الله الذين يَدِينُون بدينِهِ ويُطيعُونَه ويَنْصُرُونه.
لما نهى في الآية الأولى عن اتَّخَاذِ اليَهُود والنَّصَارى أوْلِيَاء، نهى هُنَا عن جَمِيع
399
مُوالاَةِ الكُفَّار على العُمُوم، ف «الَّذِين» وصلتُهُ هو المَفْعُولُ الأوّلِ لقوله «لا تتَّخِذُوا»، والمفعُول الثاني: هو قوله «أولِيَاء»، و «دِينُكُم» مَفْعُول ل «اتَّخذُوا»، و «هُزُواً» مفعول ثان، وتقدَّم ما في «هُزْءاً» من القِراءَات والاشْتِقَاق.
قوله تعالى: ﴿مِّنَ الذين أُوتُواْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ، وصاحِبُها فيه وجهان:
أحدها: أنَّهُ الموصول الأوَّل.
والثاني: أنَّه فاعل «اتَّخَذُوا» والثاني من الوَجْهَيْن الأوَّلين: أنه بيانٌ للموصُول الأوَّل، فتكون «مِن» لِبَيَان الجِنْس.
وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلكم» متعلِّق ب «أوتُوا» ؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين، والمُرَاد بالكِتَاب: الجِنْس.
وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلكم» متعلِّق ب «أوتُوا» ؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين، والمُرَاد بالكِتَاب: الجِنْس.

فصل


قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - كان رِفاعة بن زَيْد بن التَّابُوت، وسُوَيْد بن الحَارِث قد أظهرا الإسْلام ثم نافَقَا، وكان رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمين يوادُّونَهُما، فأنْزل اللَّه - تعالى - هذه الآية، ومعنى تَلاَعُبِهم واستهْزَائِهِم، إظْهَار ذلك باللِّسَان مع الإصْرَارِ على الكُفْر في القَلْبِ، ونَظِيرُه قوله في ذَلِك في سُورة «البقرة» :﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا﴾ [آية: ١٤] إلى قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [آية: ١٤]، والمعنى: أنَّ القَوْم لمَّا اتَّخَذُوا دينكُمْ هُزُواً ولَعِباً وسُخْرِية، فلا تتَّخِذُوهم أوْلِيَاء وأنْصَاراً وأحْبَاباً، فإن ذلك الأمْرَ خَارجٌ عن العَقْلِ والمرُوءَة.
قوله تعالى: «والكُفَّار» قرأ أبُو عَمْرو والكِسَائي: «والكُفَّارِ» بالخَفْض، والباقُون بالنَّصْب، وهما واضِحَتَانِ، فَقِرَاءة الخَفْضِ عَطْفٌ على المَوْصُول المَجْرُور ب «مِنْ»، ومعناها: أنَّه نَهَاهم أن يتَّخِذُوا المُسْتَهْزِئين أوْلِيَاء، وبَيَّنَ أن المُسْتَهْزِئين صِنفان: أهلُ كتاب متقدِّم، وهم اليَهُود والنَّصارى، وكفارٌ عَبَدة أوْثَان، وإن كان اسم الكُفْر ينطلقُ على الفَرِيقين، إلا أنَّه غَلَبَ على عَبَدَةِ الأوْثان: الكُفَّار، وعلى اليهُود والنَّصارى: أهْل الكِتَاب.
400
وقال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب﴾ [البينة: ١]، وقال تعالى: ﴿مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين﴾ [البقرة: ١٠٥]، اتَّفقوا على جر «المُشْركين» عَطْفاً على أهْل الكِتَاب، ولم يَعْطف على العَامِل الرَّافع قاله الواحدي.
يعني [بذلك] : أنَّه أطلق الكُفَّار على أهْلِ الكِتَاب، وعلى عبدةِ الأوْثَانِ المُشْرِكِين، ويدلُّ على أنَّ المُرَاد بالكُفَّار في آية المَائِدة «المُشْرِكُون»، قراءة عبد الله «ومِنَ الَّذِين أشْرَكُوا» ورُجِّحت قراءة أبِي عَمْرو أيضاً بالقُرْب، فإن المَعْطُوف عليه قرِيب، ورُجِّحَتْ أيضاً بقراءة أبَيّ «وَمِنَ الكُفَّار» بالإتْيَان ب «مِنْ».
وأما قراءة البَاقِين، فوَجْهُهَا أنَّه عطف على المَوْصُول الأوَّل، أي: لا تَتَّخذُوا المُسْتَهْزِئين، ولا الكُفَّار أوْلِيَاء، فهو كقوله تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ [آل عمران: ٢٨]، إلاَّ أنه ليس في هذه القراءة تَعَرُّضٌ للإخْبَار باسْتِهْزَاء المُشْرِكين، وهم مُسْتَهْزِئُون أيْضاً، قال تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين﴾ [الحجر: ٩٥] فالمراد به: مُشْرِكوا العرَب، ولوضوح قِرَاءة الجرِّ قال مَكي بن أبِي طالب: «ولولا اتِّفَاقُ الجماعةِ على النَّصْب، لاخترتُ الخَفْض لقوَّته في المَعْنى، ولِقُرْب المَعْطُوف من المَعْطُوف عليه».
ثم قال تعالى: ﴿اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، والمعنى ظاهِر.
401
[الضَّمير في «اتَّخَذُوها» يجُوزُ] أن يعودُ على الصَّلاة وهو الظَّاهِر، ويجُوز أن يَعُود على المَصْدَرِ المفهُوم من الفِعْل، أي: اتَّخَذُوا المُنَاداة، ذكره الزَّمَخْشَرِي، وفيه بُعْدٌ؛ إذ لا حاجة مع التَّصْريح بما يَصْلُح أن يَعُود عليه الضَّمِير، بخلافِ قوله تعالى: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨].

فصل


قال الكلبي: كان مُنَادِي رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، إذا نَادَى إلى الصَّلاة وقام المُسْلِمُون إليها، قالت اليَهُود: قاموا لا قَامُوا، وصلُّوا لا صلُّوا على طريق الاسْتهْزَاء وضَحِكوا، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الشَّرِيفة، وقال السُّدِّي: نزلت في رَجُلٍ من النَّصَارى بالمدِينة، كان إذا سَمِعَ المُؤذِّن يقول: أشْهَدُ أن محمَّداً رسُول الله -
401
قال: حُرق الكَاذِبُ، فدخل [خادمه] ذاتَ لَيْلَة بنارٍ وهو وأهْله نِيَام فتطايَرَتْ منها شَرارة، فاحْتَرَق البَيْتُ وأهْلُه.
وقال آخَرُون: إن الكُفَّار لما سَمِعُوا الأذَان حَسَدُوا المُسْلِمين، فَدَخلُوا على رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وقالُوا: يا محمَّد: لقد ابتدَعْتَ شَيْئاً لم يُسْمَع به فيما مَضَى من الأمَمِ، فإن كنت تَدَّعي النُّبُوة فقد خَالَفْت فيما أحْدَثَت الأنبياء قَبْلَك، ولو كان فيه خَيْراً لكان أولى النَّاس به الأنبياء، فمن أين لك صياحٌ كصياحِ العير، فما أقبح من صوت، وما أسْمَج من أمْر، فأنْزَل الله هذه الآية، ونزل: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله﴾ [فصلت: ٣٣] قالوا: دلَّت هذه الآيةُ على ثُبُوت الأذَان بِنَصِّ الكِتَاب لا بالْمَنام وحْدَه.
قال القُرْطُبِي: قال العُلَمُاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ولم يكن الأذَانُ بمكَّة قَبْل الهِجْرة، وإنما كانوا يُنَادُون «الصَّلاة جَامِعَة»، فلما هَاجَر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وصُرفت القِبْلَة إلى الكَعْبَة أمِرَ بالأذَان، وبقي «الصَّلاة جَامِعَة» للأمر، وكانَ النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قَدْ أهمَّه أمر الأذانِ حتى أُرِيَهُ عبد الله بن زَيْد، وعُمر بن الخطاب وأبُو بكر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - سمع الأذَان ليلة الإسْرَاء إلى السَّمَاء، وأما رُؤيا عبد اللَّه بن زَيْد وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فمشهورة، وأمر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - بلالاً فأذَّن بالصَّلاة أذانَ اليَوْم، وزَادَ بلالٌ في الصُّبْح «الصَّلاة خَيْرٌ من النَّوْمِ»، فأقرَّها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وليست فيما رَآه الأنْصَاري، ذكره ابن سعْد عن بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -، ثمَّ ذكر الدَّارَقُطْنِيُّ؛ أن الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أري الأذان، وأنَّه أخبر النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أمر بِلالاً بالأذَانِ قَبْل أن يُخْبِرَه عَبد الله بن زَيْد، ذكره الدَّارقُطْنِي في كتاب «المدبج» لَهُ في حَدِيث النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن أبِي بَكْر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قوله تعالى: «ذَلِكَ بأنَّهُم» مُبْتَدأ وخبر، أي: ذَلِك الاسْتِهْزَاء مُسْتِقِرٌّ؛ بسبب عدم عَقْلِهِم.
402
لما حكى عنهم أنهم اتَّخَذُوا دِين الإسلام هُزُواً ولعِباً، فقال: ما الذي تَجِدُون فيه ممَّا يُوجِب اتَّخَاذه هُزُواً ولعباً؟
402
قوله تعالى: «هل تَنْقِمُون» : قراءة الجُمْهُور بكسر القَافِ، وقراءة النَّخْعي، وابن أبي عَبْلَة، وأبي حَيْوَة بِفَتْحها، وهاتان القِرَاءتَانِ مفرَّعَتَان على المَاضِي، وفيه لُغَتَان: الفُصْحَى، وهي التي حَكَاهَا ثَعْلَب في «فَصِيحه» : نَقَم بفتح القَاف، يَنْقِم بِكَسْرها.
والأخرى: نَقِم بكسر القاف يَنْقَمُ بفَتْحِها، وحكاها الكَسَائي، ولم يَقْرأ في قوله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ﴾ [البروج: ٨] إلا بالفتح.
قال الكسّائِي: «نقِم» بالكسر لُغَةً، ونَقَمْتُ الأمْر أيضاً، وَنَقِمْتُهُ إذا كَرِهْته، وانْتَقَم اللَّه منه إذا عَاقَبَه، والاسم منه: النِّقْمة، والجمع نَقِمَاتٌ ونَقِمٌ مثل كَلِمة وكَلِمَات وكَلِم، وإن شِئْت سَكَّنت القَافَ، ونَقَلْت حَرَكَتَها إلى النُّون فقلت نِقْمة، والجَمْع: نِقَم، مثل نِعْمة وَنِعَم، نقله القرطبي وأدغم الكسَائِي لام «أهَلْ» في تَاء «تَنْقِمُون»، وَلِذَلِكَ تُدْغَمُ لام «هَلْ» في التَّاء والنُّون ووافقه حَمْزة في التَّاء والثَّاء وأبُو عَمْرٍو في «هَلْ تَرَى» في موضعَيْن.

فصل


قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أتى رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - نَفَرٌ من اليَهُود: أبو يَاسِر بن أخْطَب، ورَافِع بن أبي رَافِع وغيرهما، فَسَألُوه: عمَّن يُؤمِن به من الرُّسُل، فقال: ﴿اا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ [البقرة: ١٣٦]، إلى قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] فلما ذكر عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جَحَدُوا نُبُوتَهُ، وقالُوا: والله ما نَعْلَمُ أهْلَ دِينٍ أكْثَر خَطَأ في الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْكُم، ولا دِيناً شرًّا من دينكُمْ، فأنْزَل الله هذه الآية الكريمة.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَنْ آمَنَّا﴾، مفعول ل «تَنْقِمُون» بمعنى: تَكْرَهُون وتَعِيبُون، وهو استِثْنَاء مُفَرَّغٌ.
و «مِنَّا» متعلِّق به، أيْ: ما تَكْرَهُون من جِهَتِنَا، إلاَّ الإيمَان وأصل «نَقَمَ» أن يتعدَّى ب «عَلَى»، نقول: «نَقَمْتُ عليْهِ كذا» وإنَّما عُدِّيَ هُنَا ب «مِنْ» لِمَعْنًى يَأتي.
وقال أبُو البَقَاء: و «منَّا» مفعول «تَنْقِمُون» الثَّاني، وما بَعْد «إلاَّ» هو المَفعُول الأوَّل، ولا يجُوز أن يكُون «منَّا» حالاً من «أنْ» والفِعْل لأمْرين:
أحدهما: تقدُّمُ الحالِ على «إلاَّ».
403
والثاني: تقدم الصِّلَة على الموْصُول، والتَّقْدِير: هل تَكْرَهُون مِنَّا إلاَّ إيماننا. انتهى.
وفي قوله: مَفْعُول أوَّل، ومفعول ثَان نَظَر؛ لأنَّ الأفْعَال الَّتِي تتعدَّى لاثْنَيْن إلى أحدهما بِنَفْسِها، وإلى الآخَرِ بحَرْف الجرِّ مَحْصُورة ك «أمر»، و «اخْتَار»، و «استغْفَرَ»، و «صَدَّق» و «سَمَّى»، و «دَعَا» بمعناه، و «زَوَّج»، و «نَبَّأ»، و «أنْبَأ»، و «خَبَّر»، و «أخْبَر»، و «حَدَّث» غير مُضَمَّنَةٍ معنى «أعْلَم»، وكلُّها يَجُوز فيها إسْقَاط الخَافِضِ والنَّصب، ولَيْسَ هذا مِنْها.
وقوله: «ولا يجُوز أن يكُونَ حالاً» يعني: أنَّه لو تَأخَّر بعد «أن آمَنَّا» لَفْظَة «مِنّا»، لجاز أن تكون حَالاً من المصْدر المؤوَّل من «أنْ» وصلَتِها، ويَصِير التَّقْدِير: هل تكرهون إلاَّ الإيمان في حال كونه «منا»، لَكِنَّهُ امتنع من تقدُّمِهِ على «أنْ آمنَّا» للوجهين المذكورين.
أحدهما: تقدُّمه على «إلاّ» ويعني بذلك: أن الحال لا تتقدم على «إلاَّ».
قال شهابُ الدِّين: ولا أدري ما يمنع ذلك لأنه إذا جعل «مِنَّا» حالاً من «أن» و «ما» في حيزها كان حال الحال مقدراً، ويكونُ صاحب الحال محصوراً، وإذا كان صاحب الحال محصوراً وَجَبَ تقديم الحال عليه، فيقال: «مَا جَاءَ رَاكِباً إلاَّ زَيْدٌ»، و «ما ضَربْتُ مَكْتُوفاً إلا عَمْراً»، ف «راكباً» و «مكتوفاً» حالان مقدمان وجوباً لحصر صاحبيهما فهذا مثله.
وقوله: « [والثاني: تقدُّم الصلة على الموصول] لم تتقدَّم صلة على موصول.
بيانه: أنَّ الموصول هو»
أنْ «، والصلة» آمَنَّا «، و» منَّا «ليس متعلّقاً بالصلة، بل هو معمول لمقدَّر، ذلك المقدر في الحقيقة منصوب ب» تنقمون «، فَمَا أدْرِي ما توهمه حتى قال ما قال؟
على أنه لا يجوز أن يكون حالاً، لكن لا لما ذكر؛ بل لأنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير:»
هَلْ تَنْقِمُونَ إلا إيماننا منا «فمن نفس قوله:» إيماننا «فهم أنَّه منَّا، فلا فائدة فيه حينئذٍ.
فإن قيل: تكون حالاً مؤكدة.
قيل: هذا خلاف الأصل، وليس هذا من مَظَانِّهَا، وأيضاً فإنَّ هذا شبيه بتهيئة العامل للعمل، وقطعه عنه، فإن»
تَنْقِمُونَ «يطلب هذا الجار طلباً ظاهراً.
وقرأ الجمهور»
وما أنزل إلَيْنَا وما أنزل [مِنْ قَبْل] «بالبناء للمفعول فيهما، وقرأ أبو نهيك:» أنْزل، وأنْزل «بالبناء للفاعل، وكلتاهما واضحة.
404

فصل


المعنى: قُلْ لأهل الكتاب: لِمَ اتخذتم هذا الدين هزواً ولعباً، ثم قال على سبيلِ التعجب: هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله؟! فهو رَأسُ جميع الطاعات، وإلاَّ الإيمان بمحمد، وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق؛ لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في ادعاء الرسالة والنبوة هو المعجزة.
ثم رأينا أن المعجز حصل على يدي محمد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فوجب الإقرار بكونه رسولاً، فأمَّا الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك تناقض ومذهب باطل.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ قرأ الجمهور: «أنَّ» مفتوحة الهمزة.
وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها.
فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل «أنَّ» فيها أن تكون في محل رفع، أو نصب، أو جر، فالرفع من وجه واحد، وهو أن تكون مبتدأ، والخبر محذوف.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «والخبر محذوف، أي: فسقكم ثابت معلوم عندكم؛ لأنكم علمتم أنَّا على الحق، وأنْتُمْ على الباطل، إلا أن حب الرئاسة، وجمع الأموال لا يدعكم فتنصفوا».
فقدر الخبر متأخراً.
قال أبُو حيَّان: ولا ينبغي أن يُقَّدَرَ الخبر إلا مقدماً؛ لأنه لا يبتدأ ب «أن» على الأصح إلا بعد «أمَّا» انتهى.
ويمكن أن يقال: يُغْتَفَرُ في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في اللفظية، لا سيما أنَّ هذا جارٍ مجرى تفسير المعنى، والمراد إظهار ذلك الخبر [كيف] يُنْطَقُ به؛ إذْ يقال: إنه يرى جواز الابتداء ب «أنَّ» مطلقاً، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير.
وأمَّا النَّصْبُ فمن ستَّةِ أوجه:
أحدها: أن يُعْطَفَ على «أن آمنَّا» واستشكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقدير: هل تكرهون إلا إيماننا، وفسق أكثركم، وهم لا يعترفون بأن أكثرهم فاسقون حتى يكرهونه.
وأجاب الزمخشري وغيره عن ذلك بأن المعنى: «وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا، وبين تمرُّدكم، وخروجكم عن الإيمان، كَأنَّه قِيلَ: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حَيْثُ دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه».
ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المُقَابَلَة والازدواج، يعني أنه لما نقم
405
اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل، وهو مما لا يُنْقَمُ ذَكَرَ في مُقَابلته فسقَهُمْ، وهو مما يُنْقَم، ومثل ذلك حَسًنٌ في الازدواج، يقول القائل: «هل تنقم مني إلا أن عفوت عنك، وأنَّكَ فاجر» فيحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة.
وقال أبُو البقاء: والمعنى على هذا: إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم، أي كرهتم مخالفتنا إياكم وهذا كقولك للرجل: «ما كرهت مني إلا أني مُحَبَّبٌ للناس، وأنك مبغض»، وإن كان لا يعترف بأنه مبغض.
وقال ابن عطية: ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ هو عند أكثر المتأوِّلين معطوف على قوله: «أنْ آمنَّا»، فيدخل كونهم فاسقين فيما نَقَمُوهُ وهذا لا يتجه معناه.
ثم قال بعد كلام: «وإنَّمَا يَتَّجِهُ على أن يكون معنى المحاورة: هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من أنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ مما قرره المخاطب لهم، وهذا [كما] يقول لمن يخاصم:» هل تنقم عليَّ إلا أن صدقت أنا، وكذبت أنت «، وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب، ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال» وهذا هو مجموع ما أجاب به الزَّمَخْشَرِيُّ والواحِديُّ.
الوجه الثاني من أوجه النصب: أن يكون معطوفاً على «أنْ آمنَّا» أيضاً، ولكن في الكلام مضاف محذوف لصحة المعنى، تقديره: «واعتقاد أنَّ أكثركم فاسقون» وهو معنى واضح، فإنَّ الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم فاسقون.
الثالث: أنه منصوب بفعل مقدر، تقديره: هل تنقمون منا إلا إيماننا، ولا تنقمون فسق أكثركم.
الرابع: أنه منصوب على المعيَّة، وتكون «الواو» بمعنى «مع» تقديره: «وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون».
ذكر جميع هذه الأوجه أبُو القَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
الخامس: أنه منصوب عَطْفاً على «أنْ آمنَّا»، و «أن آمنَّا» مفعول من أجله فهو منصوب، فعطف هذا عليه، والأصل: «هل تنقمون إلا لأجل إيماننا، ولأجل أن أكثركم فاسقون»، فلمَّا حذف حرف الجر من «أنْ آمنَّا» بقي منصوباً على أحد الوجهين المشهورين، إلا أنه يقال هنا: النصب هنا ممتنع من حيث إنَّهُ فُقِد شرطٌ من المفعول له، وهو اتحاد الفاعل، والفاعل هنا مختلف، فإن فاعل الانتقام غير فاعل الإيمان، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ «أنْ آمنَّا» جراً ليس إلاَّ، بعد حذف حرف الجر، ولا يجري فيه الخلاف المشهور بين الخَلِيلِ وسيبَويْهِ في محل «أنْ» إذَا حذف منها حرف الجر، لعدم اتحاد الفاعل.
406
وأجِيبَ عن ذلك بأنَّا وإنْ اشترطنا اتحاد الفاعل فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ النصب في «أنْ» و «أنَّ» إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حذف حرف الجر لا لكونهما مفعولاً من أجله، بل من حيث اختصاصهما من حيث هما بجواز حذف حرف الجر لطولهما بالصلة وفي هذه المسألة بخصوصها خلاف مذكور في بابه، ويدُلُّ على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب «النَّظْم»، فإنَّ صاحب «النظم» ذكر عن الزجاج معنًى، وهو: هل تكرهون إلا إيماننا على دينكم، وهذا معنى قول الحسنِ: نقمتم علينا.
قال صاحب «النَّظْمِ» : فعلى هذا يجب أن يكون موضع «أن» في قوله: ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ نَصْباً بإضمار «اللام» على تأويل «ولأنَّ أكْثَرَكُمْ»، والواو زائدة، فقد صرح صاحب النظم بما ذكرناه.
الوجه السادس: [أنه] في محل نَصْب على أنه مفعول من أجله ل «تنقمون» والواو زائدةٌ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشري.
[وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير] ليفهم معناه، قال أبُو حيَّان بعد نقله الأوجه المتقدمة: «ويظهر وجه آخر [لعلَّه] يكون الأرجح، وذلك أن» نَقَمَ «أصله أنْ يتعدى ب» على «تقول:» نَقَمْتُ عَلَيْه «، ثم تبني منه [افتعل إذ ذاك] ب» من «ويضمَّن معنى الإصابة بالمكروه، قال تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥]، ومناسبة التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخص فعله، فهو كاره له، ومصيبه عليه بالمكروه، فجاءت هنا» فَعَل «بمعنى» افْتَعَل «ك» قدر «و» اقتدر «، ولذلك عُدِّيت ب» من «دون» على «التي أصلها أن تتعدى بها، فصار المعنى: وما تنالون منا، وما تصيبوننا بما نكره، إلا أنْ آمَنَّا، [أي: إلاَّ لأنْ آمنا،] فيكون» أن آمنَّا «مفعولاً من أجله، ويكون ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ معطوفاً على هذه العلة، وهذا - والله أعلم - سبب تعديته ب» من «دون» على «انتهى ما قاله، ولم يصرح بكون حينئذٍ في محلِّ نصب أو جرٍّ، إلاَّ أن ظاهر حاله أن يُعتقَدَ كونه في محل جرٍّ، فإنه إنَّمَا ذكر في أوجه الجر.
وأمَّا الجَرُّ فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه عطف على المؤمن به.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ:»
أي: وما تنقمون منَّا إلا الإيمان بالله، وما أنزل، وبأن أكْثرَكُمْ فِاسِقُونَ «وهذا معنى واضح، قال ابن عطية:» وهذا مستقيمُ المعنى؛ لأن إيمان
407
المؤمنين [بأنَّ] أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فَسَقَةٌ هو مما ينقمونه «.
الثاني: أنَّهُ مجرورٌ عَطْفاً على علّةٍ محذوفة، تقديرها: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم، واتباعكم شهواتكم، ويدلُّ عليه تفسير الحسن البصري»
لفسقكم نقمتم علينا، ويروى لفسقكم تنقمون علينا الإيمان «، [ويروى» لفسقهم نقموا علينا الإيمان «. عطفاً على محل» أن آمنا «إذا جعلناه مفعولاً من أجله، واعتقدنا أن» أن «في محل جر].
الثالث: أنَّهُ في محل جر بعد حذف الحرف وقد تقدم ذلك في الوجه الخامس، فقد تحصَّل في قوله تعالى:»
وأن أكثركم «أحد عشر وجهاً وجهان في حالة الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر، هل يُقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً؟ وقد تقدم ما فيه، وستة أوجه أنها على الاستئناف، أخبر أن أكثرهم فاسقون، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفها على معمول القول، أمر نبيه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أن يقول لهم: ﴿هل تنقمون منا﴾ إلى آخره، وأن يقول لهم: إنَّ أكثركم فاسقون، وهي قراءة [جليَّة] واضحة.

فصل


وتفسير المعنى على وجوه الإعْرَاب المتقدمة. قال ابن الخطيب فإن قيل: كيف تنقم اليهود على المسلمين وكون أكثرهم فاسقين.
فالجواب أنه كالتعريض؛ لأنهم لم يتبعوهم على فسقهم أي: أنْ آمَنَّا، وما فسقنا مثلكم وهو كقولهم: «ما تنقم مني إلا أنِّي عفيف، وأنت فَاجِرٌ»
، على وجه المقابلة، أو لأن أحد الخصمين إذا كان متصفاً بصفات حميدة وخصمه بضد ذلك كان ذكر صفات الخير الحميدة مع صفات خصمه الذميمة أشد تأثيراً ونكاية مِنْ ألاَّ يذكر الذميمة، فتكون الواو بمعنى «مع» أو هو على حذف مضاف أيْ: واعتقاد أن أكثركم فاسقون، والمعنى: بأن أكثركم فاسقون نقمتم الإيمان علينا.
أو تعليل معطوف على محذوف كأنه قيل: نقمتم لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون.

فصل


اليهود كلهم فُسَّاقٌ وكُفَّارٌ فَلِمَ خُصَّ الأكثر بوصف الفسق؟ فالجواب من وجهين:
الأول: يعني أنْ أكثركم إنَّمَا يقولون [ما يقولون] ويفعلون ما يفعلون طلباً
408
للرياسة، والجاه وأخذ الرشوة، والتقرب إلى الملوك، فإنَّهُمْ في دينهم فُسَّاقٌ لا عُدولٌ، فإن الكافر المبتدع قد يكون عادلاً في دينه، وفاسقاً في دينه، ومعلومٌ أن كلهم ما كانوا كذلك فلهذا خص أكثرهم بهذا الحكم.
الثاني: ذكر أكثرهم لِئلاَّ يظن أن من [آمن منهم داخل في ذلك].
409
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ : قرأ الجمهور، «أنَبِّئُكُمْ» بتشديد الباء من نبأ، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «أنْبِئُكُمْ» بالتخفيف من أنبأ وهما لغتان فصيحتان والمخاطب في «أنبئكم» فيه قولان:
أحدهما: وهو الذي لا يعرف أهل التفسير غيره - أن المراد به أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم.
والثاني: أنه للمؤمنين.
قال ابن عطية: ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمرَ أن يقول لهم: «هل أنبئكم» هم اليهود والكفار، والمتخذون ديننا هُُزُواً ولعباً. قال ذلك الطبري، ولم يسند في ذلك [إلى] متقدم شيئاً، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين. انتهى.
فعلى كونه ضمير المؤمنين واضحٌ، وتكون «أفْعَلُ» التفضيل أعني «بِشَرّ» على بابها؛ إذ يصير التقدير: قل هل أنبئكم يا مؤمنون بشر من حال هؤلاء الفاسقين، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم، كذا قدره ابن عطية، وإنما قدَّرَهُ مضافاً، وهو حال ليصح المعنى، فإن ذلك إشارة للواحد، ولو جاء من غير حذف مضاف لقيل: بشر من أولئكم بالجمع.
قال الزمخشري: «ذلك» إشارة إلى المنقوم، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل «من» تقديره: بِشَرٍّ من أهل ذلك، أو دين من لعنه [الله] انتهى.
ويجوز ألاَّ يقدر مضاف محذوف لا قَبْلُ ولا بَعْدُ، وذلك على لغة من يشير للمفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً بإشارة الواحد المذكر، ويكون «ذلك» إشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب، كأنه قيل: بشرٍّ من أولئك، يعني أن السَّلف الذي لهم شرٌّ من الخَلَفِ، وعلى هذا يجيء قوله: «مَنْ لَعَنَه» مفسراً [لنفس «ذلك» وإن
409
كان ضمير أهل الكتاب وهو قول عامة المفسرين فيشكل ويحتاج إلى جواب] ووجه الإشكال أنه يصير التقدير: هل أنبئكم يا أهل الكتاب بِشَرٍّ من ذلك، و «ذلك» يرادُ به المنقوم، وهو الإيمان، وقد علم أنه لا شَرَّ في دين الإسلام ألبتة، وقد أجاب الناس عنه، فقال الزمخشري عبارةً قرر بها الإشكال المتقدم، وأجاب عنه بعد أن قال: فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف وقعت في الإساءة؟ قلت: وضعت موضع عقوبة، فهو كقوله: [الوافر]
١٩٨٨ -.................... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
ومنه ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]، وتلك العبارة التي ذكرتها [لك] هي أن قال: «فإن قلت: المُعَاقب من الفريقين هم اليهود، فلمَ شورك بينهم في العقوبة؟
قلت: كان اليهود - لعنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون للعقوبة، فقيل لهم: مَنْ لعنه الله شَرٌّ عقوبة في الحقيقة، فاليقين لأهل الإسلام في زعمكم ودعواكم»
.
وفي عبارته بعض علاقة وهي قوله: «فَلِمَ شورك بينهم» أي: بين اليهود وبين المؤمنين.
وقوله: «من الفريقين» يعني بهما أهل الكتاب المخاطبين ب «أنبئكم»، ومَنْ لعنه الله وغضب عليه، وقوله: «في العقوبة»، أي: التي وقعت المثوبة موقعها، ففسرها بالأصل، وفسَّر غيره المثوبة هنا بالرجوع إلى الله - تعالى - يوم القيامة، ويترتب على التفسيرين فائدة تظهر قريباً.
قال القرطبي: المعنى فبشِّر من نقمكم علينا، وقيل: من شر ما تريدون لنا من المكروه، وهذا جواب لقولهم: «ما نعرف ديناً أشرَّ من دينكم».
و «مَثُوبَةً» نصبٌ على التمييز، ومميَّزُها «شَرٌّ»، وقد تقدَّم في البقرة الكلامُ على اشتقاقها ووزنها، فَلْيُلْتَفَتْ إليه. قوله تعالى: «عِنْدَ الله» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بنفس «مَثُوبَةٌ»، إن قُلْنا: إنها بمعنى الرجوع؛ لأنك تقول: «رَجَعْتُ عِنْدَهُ»، والعندية هنا مجازية.
والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف؛ لأنه صفة ل «مَثُوبَةً»، وهو في محلِّ نصبٍ، إن قلنا: إنها اسمٌ مَحْضٌ وليستْ بمعنى الرجوعِ، بل بمعنى عقوبة.
وقرأ الجمهورُ: «أنَبِّئُكُمْ» بتشديد الباء من «نَبَّأ»، وقرأ إبراهيم النَّخَعِيُّ ويحيى بْنُ
410
وثَّابٍ: «أنْبِئُكُمْ» بتخفيفها من «أنْبَأَ»، وهما لغتان فصيحتان، والجمهور أيضاً على «مَثُوبَة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ الأعرَجُ وابن بُرَيْدَة ونبيح وابن عمران: «مَثْوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وجعلها ابن جِنِّيّ في الشذُوذِ؛ كقولهم «فَاكِهَةٌ مَقْودَةٌ للأذَى»، بسكون القاف وفتح الواو، يعني: أنه كان من حقِّها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها، وتُقْلب الواوُ ألفاً، فيقال: مَثَابَة ومقادَة كما يقال: «مَقَام» والأصل: «مَقْومٌ».
قوله تعالى: «مَنْ لَعَنَهُ» في محلِّ «مَنْ» أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه في محلِّ رفع على خبر مبتدأ مضمرٍ، تقديره: هُوَ مَنْ لَعنَهُ الله فإنه لما قال: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك﴾، فكأنَّ قَائِلاً قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لَعَنَهُ الله.
ونظيرُهُ قوله تعالى: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار﴾ [الحج: ٧٢] أي: هو النار.
وقدَّر مكيٌّ قبله مضافاً محذوفاً، قال: «تقديرُه: لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ الله»، ثم قال: وقيل: «مَنْ» في موضعِ خَفْضٍ على البدلِ من «بِشَرٍّ» بدلِ الشيء من الشَّيْء، وهو هو، وكان ينبغي له أن يقدِّرَ في هذا الوجه مضافاً محذوفاً؛ كما قدَّره في حالة الرفع؛ لأنه إنْ جَعَلَ «شَرًّا» مراداً به معنًى، لزمه التقديرُ في الموضعين، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ، لزمَهُ ألاَّ يُقَدَّر في الموضعَيْن.
الثاني: أنه في محل جر، كما تقدَّم بيانُه عن مكيٍّ والمعنى: أنبئكم عن من لَعَنَهُ الله.
الثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على البَدَل من محل «بِشَرٍّ».
الرابع: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر يدل عليه «أنَبِّئُكُمْ»، تقديره: أعَرِّفُكُمْ من لَعَنَهُ الله، ذكره أبو البقاء، و «مَنْ» يُحْتَملُ أن تكون موصولةً، وهو الظاهرُ، ونكرةً موصوفةً، فعلى الأوَّل: لا محلَّ للجملة التي بعدها، وعلى الثاني: لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على «مَنْ» بأحد الأوجه السابقة، وقد حمل على لفظها أولاً في قوله «لَعَنَهُ» و «عَلَيْهِ»، ثم على معناها في قوله: «مِنْهُمُ القِرَدَة»، ثم على لفظها في قوله: «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» ثم على لفظها في قوله: «أولَئِكَ»، فجَمَع في الحمل عليها أربعَ مرَّاتٍ.
و «جَعَلَ» هنا بمعنى «صَيَّرَ» فيكون «مِنْهُمْ» في محل نصب مفعولاً ثانياً، قُدِّم على
411
الأول فيتعلق بمحذوف، أي: صَيَّر القردةَ والخنازيرَ كائِنِينَ منهم، وجعلها الفارسيُّ في كتاب «الحُجَّة» له بمعنى «خَلَقَ»، قال ابن عطية: «وهذه منه - رَحِمَهُ اللَّهُ - نزعةٌ اعتزاليَّة؛ لأن قوله:» وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «، تقديره: ومن عَبَد الطَّاغُوت، والمعتزلةُ لا ترى أن الله تعالى يُصَيِّرُ أحَداً عابد طاغُوتٍ» انتهى، والذي يُفَرُّ منه في التَّصْييرِ هو بعينه موجودٌ في الخَلْق.
وجعل أبو حيان قوله تعالى ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ إلى آخره - مِنْ وَضْعِ الظاهرِ موضعَ المضْمَر؛ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شرًّا مثوبةً، كأنه قيل: قل هَلْ أنبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلك عند الله مَثُوبَةً؟ أنتم، أيْ: هُمْ أنْتُمْ، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعدُ: ﴿وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا﴾ [المائدة: ٦١]، فيكون الضميرُ واحداً، وجعل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام، وقرأ أبيُّ بْنُ كَعْبٍ وعبد الله بْنُ مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «من غضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَجَعَلهُمْ قِرَدَةً» وهي واضحةٌ.

فصل


المُرادُ ﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ يعني: اليَهُودَ، ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة﴾ : وهم أصْحَابُ السَّبْتِ، و «الخَنَازِير» : وهم كُفَّارُ مائِدة عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ورُوِي [عن] عَلِيّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ الممسُوخِين مِنْ أصْحَاب السَّبْت فشبابُهُم مُسِخُوا قِرَدَةً، وَمَشَايِخُهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ.
قوله تعالى: «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءة، اثنتان في السَّبْعِ، وهما «وعَبَدَ الطَّاغُوت» على أنَّ «عَبَدَ» فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للفاعل، وفيه ضميرٌ يعودُ على «مَنْ» ؛ كما تقدَّم، وهي قراءة جمهور السَّبْعة [غيرَ حَمْزة] أي: جعل منهم من «عَبَدَ الطَّاغُوتَ» أي: أطَاعَ الشَّيْطَان فيما سَوَّل له، ويؤيده قراءة ابن مسعُودٍ «وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ».
والثانية: «وَعبُدَ الطَّاغُوتِ» بضم الباء، وفتح الدال، وخَفْض الطاغوتِ، وهي قراءةُ حمزة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والأعْمَشِ ويحيى بْنِ وثَّاب؛ وتوجيهُها كما قال الفارسيُّ وهو أن «
412
عَبُداً» واحدٌ يُرادُ به الكَثْرةُ، كقوله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ﴾ [النحل: ١٨] وليس بجَمْعِ «عَبْدٍ» ؛ لأنه ليس في أبنيةِ الجَمْعِ مثلُه، قال: «وقد جاءَ على فعُلٍ؛ لأنه بناءٌ يُرَادُ به الكثرةُ والمبالغةُ في نحْوِ يَقُظٍ وندُسٍ؛ لأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذْهَبٍ، وبهذا المعنى أجاب الزمخشريُّ أيضاً، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: معناه الغُلُّو في العبوديَّة؛ كقولهم:» رَجُلٌ حَذُرٌ وفَطُنٌ «للبليغ في الحَذَر والفطْنة؛ وأنشد لِطَرَفَة: [الكامل]
١٩٨٩ - أبَنِي لُبَيْنَى، إنَّ أمَّكُم أمَةٌ، وَإِنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ
قد سَبَقُهمَا إلى هذا التوجيهِ أبو إسْحَاق، وأبو بَكْر بنُ الأنْبَارِيِّ، قال أبو بَكْرٍ:»
وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ؛ كقولهم للفَطِن: «فَطُنٌ» وللحَذِر: «حَذُرٌ»، يَضُمُّون العين للمبالغةِ؛ قال أوس بن حُجْرٍ: [الكامل]
١٩٩٠ - أبَنِي لُبَيْنَى، إنَّ أمَّكُمُ أمَةٌ، وإنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ
بضمِّ الباء «. ونَسَب البيت لابن حُجْر، وقد تقدَّم أنه لطرفة، ومِمَّنْ نَسَبه لطرفة الشيخُ شهابُ الدينِ أبو شَامَةَ.
وقال أبو إسحاق: ووجْهُ قراءةِ حمزة: أنَّ الاسم بُني على»
فَعُلٍ «؛ كما تقول:» رَجُلٌ حَذُرٌ «، وتأويلُه أنه مبالغٌ في الحَذَرِ، فتأويلُ» عَبُدٍ «: أنَّه بلغَ الغايةَ في طاعة الشيطانِ، وكأنَّ هذا اللفظ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجَمْعِ؛ كما تقول للقوم» عَبُدُ العَصَا «تريدُ: عَبيدَ العَصَا، فأخذ أبو عليّ هذا، وبَسَطَهُ. ثم قال» وجاز هذا البناءُ على عَبْدٍ؛ لأنه في الأصلِ صِفَةٌ، وإن كان قد استُعْمِلَ استعمالَ الأسماءِ، لا يُزيله ذلك عن حُكْمِ الوصْفِ، كالأبْطَحِ والأبْرَقِ استُعْمِلاَ استعمال الأسماء حتَّى جُمِعَا جَمْعَهَا في قولهم: أبَارِق وأبَاطِح كأجَادِل، جَمْع الأجْدَل، ثم لم يُزِلْ ذلك عنهما حكم الصفة؛ يَدُلُّكَ على ذلك مَنْعُهم له الصَّرْف؛ كأحْمَرَ، وإذا لم يَخْرج العبدُ عن الصفة، لم يمتنعْ أنْ يُبنَى بناءَ الصفات على فَعُلٍ، نحو: يَقُظٍ «.
وقال البَغَوِي: هُمَا لُغَتَانِ:»
عَبْد «بجزم الباء، و» عَبُد «بضمها، مثل سَبْع، وَسَبُع.
وطعن بعض الناس على هذه القراءة، ونسب قارئها إلى الوهْم؛ كالفراء،
413
والزجاج، وأبي عُبَيْدٍ، ونصيرٍ الرازيِّ النحويِّ صاحب الكسائيِّ؛ قال الفرَّاء:» إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشِّعْرِ - يعني ضمَّ باء «عَبُدٍ» - فأمَّا في القراءة فَلاَ «، وقال أيضاً:» إنْ تكنْ لغةً مِثْلَ حَذُرٍ وعَجُلٍ، جاز ذلك، وهو وجهٌ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة «، وقال الزَّجَّاج:» هذه القراءةُ ليستْ بالوجهِ؛ لأنَّ عَبُداً على فَعُلٍ، وهذا ليس من أمثلةِ الجَمْعِ «، وقال أبو عُبَيْدٍ:» إنما معنى العَبُدِ عندهم الأعْبُدُ، يريدون خَدَم الطَّاغوتِ، ولم نجدْ هذا يَصِحُّ عند أحدٍ من فصحاء العرب أن العَبْدَ يقال فيه عَبُدٌ، وإنما عَبْدٌ وأعْبُدٌ «، وقال نصيرٌ الرزايُّ:» هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به، فليتَّق الله مَنْ قرأ به، وليسألْ عنه العلماء حتى يُوقَفَ على أنه غير جائز «.
قال شهاب الدين: قد سألوا العلماءَ عن ذلك ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى، وإذا تواتر الشيءُ قرآناً، فلا التفاتَ إلى مُنْكِره؛ لأنه خَفِيَ عليه ما وَضَح لغيره.
وقَدْ ذَكَرُوا في تَوْجِيه هذه القِرَاءة وُجُوهاً: مِنْهَا ما تقدَّمَ [من أنَّهم] ضَمُّوا البَاءَ للمبالَغَة، كقولِهِم: «حَذُر»
و «فَطُن» ومنها ما نقله البَغَوِي وغيره: أنَّ «العبْد» و [ «العبُد» ] لغتان كقولهم سَبْع، وسَبُع.
ومنها: أن العَبْد جمعه عِبَاد، والعِبَادُ جَمْعُ عُبُد، كثِمَار وَثُمُر، فاستثقلوا ضَمَّتَيْن مُتَواليتيْن فأبْدِلت الأولى فَتْحَة.
ومنها: يحتمل أنهم أرادوا أعْبُد الطَّاغُوت، مثل فَلْسٍ وأفْلُسٍ ثم [حُذِفَتِ «الهَمْزَةُ» ونقلت حَرَكَتُها إلى «العَيْن».
ومنها: أنه أراد: وعبدةَ الطَّاغُوت، ثم] حذفت الهاء وضم الباء لِئَلاَّ يُشْبِه الفِعْلَ. وأمَّا القراءاتُ الشاذَّةُ فقرأ أبَيٌّ: «وعَبَدُوا» بواو الجمع؛ مراعاةً لمعنى «مَنْ»، وهي واضحةٌ، وقرأ الحسنُ البصريُّ في رواية عبَّادٍ: «وعَبْدَ الطَّاغُوتَ» بفتح العين والدال، وسكون الباء، ونصب التاء من «الطَّاغُوتَ»، وخرَّجها ابن عطية على وجهيْنِ أحدهما: أنه أراد: «وعَبْداً الطَّاغُوتَ»، فحذف التنوينَ من «عَبْداً» ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب]
١٩٩١ -......................... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
والثاني: أنه أراد «وعَبَدَ» بفتح الباء على أنه فِعْلٌ ماضٍ؛ كقراءة الجماعة، إلا أنه سكَّن العينَ على نحوِ ما سكَّنها في قول الآخر: [الطويل]
414
١٩٩٢ - وَمَا كُلُّ مَغْبُونٍ وَلَوْ سَلْفَ صَفْقُهُ.............................
بسكون اللام، ومثله قراءةُ أبي السَّمَّال: ﴿وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾ [المائدة: ٦٤] بسكون العين، قال شهاب الدين: ليس ذلك مثل «لُعْنُوا» ؛ لأنَّ تخفيف الكسْرِ مقيسٌ؛ بخلاف الفتح؛ ومثلُ «سَلْفَ» قولُ الآخر: [الرمل]
١٩٩٣ - إنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قَدْ خُلِطْ بجُلْجُلاَنِ
من حيث إنه خَفَّف الفَتْحة. وقال أبو حيان - بعد أن حكى التخريج الأوَّل عن ابن عطية -: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ عَبْداً لايمكنُ أن ينصبَ الطاغوتَ؛ إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعلٍ، فالتخريجُ الصحيحُ أن يكون تخفيفاً من «عَبَدَ» ك «سَلْفَ» في «سَلَفَ»، قال شهاب الدين: لو ذكر التخريجَيْن عن ابن عطيَّة، ثم استشكل الأولَ، لكان إنصافاً؛ لئلا يُتَوَهَّم أن التخريج الثاني له، ويمكن أن يقال: إنَّ «عَبْداً» لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ، فكأنه قيل: مَنْ يعبدُ هذا العَبْدَ؟ فقيل: يَعْبُدُ الطاغوتَ، وإذا تقرَّر أنَّ «عَبْدَ» حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطْفاً على القِردَةِ، أي: وجعلَ منْهُمْ عَبْداً للطَّاغوتِ.
وقرأ الحسنُ أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة، إلا أنه جَرَّ «الطَّاغُوت» وهي واضحةٌ، فإنه مفرد يُرادُ به الجنسُ أضيفَ إلى ما بعده، وقرأ الأعْمَشُ والنخَعِيُّ وأبو جعفر: «وعُبِدَ» مبنيًّا للمفعول، «الطَّاغُوتُ» رفعاً، وقراءة عبد الله كذلك، إلا أنَّه زاد في الفعل تاء التأنيث، وقرأ: «وعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ» والطاغوتُ يذكَّر ويؤنَّث؛ قال تعالى: ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر: ١٧] وقد تقدَّم في البقرة [الآية: ٢٥]، قال ابن عطية: «وضَعَّفَ الطبريُّ هذه القراءةَ، وهي متجهةٌ»، يعني: قراءةَ البناءِ للمفعولِ، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ، ولا توجيهَ القراءة، ووجهُ الضعْفِ: أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصِّلَةِ من رابطٍ يربُطُها بالموصولِ؛ إذ ليس في «عُبِدَ الطَّاغُوتُ» ضميرٌ يعودُ على «مَنْ لَعَنَهُ الله»، لو قلت: «أكْرَمْتُ الذينَ أهَنْتَهُمْ وضُرِبَ زَيْدٌ» على أن يكون «وضُرِبَ» عطفاً على «أكْرَمْتُ» لم يَجُزْ، فكذلك هذا، وأمَّا توجيهُها، فهو كما قال الزمخشريُّ: إنَّ العائدَ محذوفٌ، تقديرُه: «وعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أوْ بِيْنَهُمْ».
415
وقرأ ابن مسعُود في رواية عبد الغفَّار عن علقمة عنه: «وعَبُدَ الطَّاغُوتُ» بفتح العين، وضمِّ الباء، وفتحِ الدالِ، ورفعِ «الطَّاغُوتُ»، وفيها تخريجان:
أحدهما: - ما ذكره ابن عطية - وهو: أن يصيرَ له أنْ عُبِدَ كالخُلُقِ والأمْرِ المعتاد المعروفِ، فهو في معنى فَقُهَ وشَرُفَ وظَرُفَ، قال شهاب الدين: يريد بكونه في معناه، أي: صار له الفِقْهُ والظَّرْفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعال.
والثاني: - ما ذكره الزمخشري - وهو: أنْ صارَ معبوداً من دونِ الله ك «أمُرَ»، أي: صَارَ أميراً، وهو قريبٌ من الأوَّلِ، وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ.
وقرأ ابن عبَّاس في رواية عِكْرِمة عنه ومُجَاهِد ويحيى بن وثَّاب: «وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ» بضم العين والباء، وفتح الدال وجر «الطَّاغُوتِ»، وفيها أقوال:
أحدها: - وهو قول الأخفش -: أنَّ عُبُداً جمع عَبِيدٍ، وعَبِيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ، فهو جمعُ الجمعِ، وأنشد: [الرمل]
١٩٩٤ - أنْسُبِ الْعَبْدَ إلى آبَائِهِ أسْوَدَ الْجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْ
وتابعه الزمخشريُّ على ذلك، يعني أنَّ عَبِيداً جمعاً بمنزلة رَغيفٍ مفرداً فيُجْمَعُ جمعُه؛ كما يُقال: رَغِيفٌ ورُغُفٌ.
الثاني - وهو قولُ ثَعْلَب -: أنه جمعُ عَابِدٍ كشَارِفٍ وشُرُفٍ؛ وأنشد: [الوافر]
١٩٩٥ - ألاَ يَا حَمْزَ للشُّرُفِ النِّوَاءِ فَهُنَّ مُعَقَّلاتٌ بِالْفِنَاءِ
والثالث: أنه جَمْعُ عَبْدٍ؛ كسَقْفٍ وسُقُفٍ ورَهْنٍ ورُهُنٍ.
والرابع: أنه جمع عبادٍ، وعبادٌ جمعُ «عَبْدٍ»، فيكونُ أيضاً جمعَ الجَمْع؛ مثل «ثِمَار» هو مع «ثَمَرَةٍ» [ثم يُجْمَعُ على «ثُمُرٍ» ]، وهذا؛ لأنَّ «عِباداً» و «ثِمَاراً» جمعَيْن بمنزلة «كِتَابٍ» مفرداً، و «كِتَاب» يجمع على «كُتُب» فكذلك ما وازَنَه.
وقرأ الأعمَشُ: «وعُبَّدَ» بضمِّ العين وتشديد الباء مفتوحةً وفتحِ الدَّال، «الطَّاغُوتِ» بالجرِّ، وهو جمع: عَابدٍ؛ كضُرَّبٍ في جمعِ ضَاربٍ، وخُلَّص في جمع خالصٍ.
وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة: «وعُبَدَ الطَّاغُوتِ» بضمِّ العين وفتحِ الباء والدالِ، و «الطَّاغُوتِ» جَرًّا؛ وتوجيُهها: أنه بناءُ مبالغةٍ، كحُطَمٍ ولُبَدٍ، وهو اسْمُ جِنْسٍ مفردٍ يُرَادُ به الجَمْعُ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة، وقد تقدَّمَتْ.
416
وقرأ ابن مَسْعُودٍ في رواية عَلْقمَةَ أيضاً: «وعُبَّدَ الطَّاغُوتَ» بضمِّ العين، وبشد الباء مفتوحة، وفتح الدال، ونصب «الطَّاغُوت» ؛ وخرَّجها ابن عطية على أنها جمعُ عَابِدٍ؛ كضُرَّبٍ في جمع ضارِبٍ، وحَذَف التنوين من «عُبَّداً» ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [الطويل]
١٩٩٦ -..................... وَلاَ ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ
قال: «وقد تقدَّمَ نَظِيرُهُ»، يعني قراءةَ: «وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ» بفتح العين والدال، وسكونِ الباءِ، ونصبِ التاء، وكان ذَكَر لها تخريجَيْن، أحدُهما هذا، والآخرُ لا يمكنُ، وهو تسكينُ عين الماضي، وقرأ بُرَيدة الأسلَمِيُّ فيما نقلَه عنه ابنُ جريرٍ «وعَابِدَ الشَّيْطَان» بنصب «عَابِدَ» وجَرِّ «الشَّيْطَانِ» بدلَ الطَّاغُوتِ، وهو تفسيرٌ، لا قراءةٌ، وقرأ أبو واقدٍ الأعْرَابِيُّ: «وعُبَّادَ» بضمِّ العين وتشديد الباءِ بعدها ألف ونصبِ الدال، والطَّاغُوتِ بالجرِّ، وهي جمعُ عابدٍ؛ كضُرَّابٍ في ضاربٍ.
وقرأ بعضُ البصْريِّين: «وعِبَادَ الطَّاغُوتِ» بكسر العين، وبعد الباء المخفَّفة ألف، ونصْبِ الدال، وجَرِّ «الطَّاغُوتِ»، وفيها قولان:
أحدهما: أنه جمعُ عابدٍ؛ كقَائِمٍ وقيَامٍ، وصَائِمٍ وصيَامٍ.
والثاني: أنها جمعُ عَبْد؛ وأنشد سيبَوَيْهِ: [الوافر]
١٩٩٧ - أتُوعِدُنِي بِقَوْمِكَ يَا بْنَ حَجْلٍ أُشَابَاتٍ يُخَالُونَ الْعِبَادَا
قال ابن عطية: «وقد يجوزُ أن يكونَ جَمْعَ» عَبْدٍ «، وقلَّما يأتي» عِبَاد «مضافاً إلى غير الله تعالى، وأنْشَد سيوَيْهِ:» أتُوعِدُنِي «البيتَ، قال أبو الفتْحِ: يريد عبادَ آدم - عليه السلام - ولو أراد عِبَاد [الله] فليس ذلك بشَيْءٍ يُسَبُّ به أحدٌ، فالخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادُ الله» قال ابن عطيَّة: «وهذا التعليقُ بآدَمَ شاذٌ بعيدٌ، والاعتراضُ باقٍ، وليس هذا مِمَّا تَخَيَّلَ الشاعرُ قَصْدَهُ، وإنما أرادَ العَبِيدَ، فساقَتْه القافيةُ إلى العِبَادِ؛ إذ قد يُقَالُ لِمَنْ يملكه مِلْكاً مَّا، وقد ذكر أن عربَ الحِيرةِ سُمُّوا عِبَاداً؛ لدخولهم في طاعةِ كِسْرَى، فدانَتْهم مملكتُه»، قال شهاب الدين: قد اشْتَهَرَ في ألسنةِ الناسِ أن «عَبْداً» المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على «عِبَاد» وإلى غيره على «عَبِيد»، وهذا هو الغالبُ، وعليه بَنَى أبو محمَّد.
وقرأ عَوْنٌ العقيليُّ في رواية العبَّاس بْنِ الفَضْل عنه: «وعَابِدُ الطَّاغُوتِ» بضمِّ الدالِ،
417
وجَرِّ الطاغوت؛ كضَاربِ زَيْدٍ، قال أبو عمرو: تقديرُه: «وهُمْ عَابِدُ الطَّاغُوتِ»، قال ابن عطية: «فهو اسمُ جنْسٍ»، قلت: يعني أنه أرادَ ب «عابد» جماعةً، قلتُ: وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها «وَعَابِدُو الطَّاغُوتِ» جَمْعَ عابد جمع سلامةٍ، فلمَّا لَقِيتِ الواوُ لامَ التعريفِ، حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، فصار اللفظُ بدالٍ مضْمُومةٍ؛ ويؤيِّدُ فَهْمَ هذا أنَّ أبا عَمْرو قدَّر المبتدأ جَمْعاً، فقال: «تقديرُه: هُمْ عَابِدُو»، اللهم إلا أنْ ينقلُوا عن العقيليِّ أنه نَصَّ على قراءتِه أنها بالإفراد، أو سمعُوهُ يقف على «عَابِد»، أو رَأوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ؛ وحينئذٍ تكونُ قراءته كقراءةِ ابن عبَّاس: «وعَابِدُوا» [بالواو]، وعلى الجملة، فقراءتُهما متَّحِدةٌ لفظاً، وإنَّما يَظْهَرُ الفَرْقُ بينهما على ما قالُوه في الوقْفِ أو الخَطِّ.
وقرأ ابن عبَّاس في روايةٍ أخرى لعكْرِمَةَ: «وعَابِدُوا» بالجمْعِ، وقد تقدَّم ذلك، وقرأ ابن بُرَيْدَةَ: «وعَابِدَ» بنصب الدالِ؛ كضَارِبِ زَيْدٍ، وهو أيضاً مفرد يُرادُ به الجِنْسُ، وقرأ ابن عبَّاس وابن أبي عَبْلَة: «وعبدَ الطَّاغُوت» بفتحِ العينِ والباءِ والدالِ، وجَرِّ «الطَّاغُوتِ» ؛ وتخريجُها: أنَّ الأصلَ: «وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ» وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة، كَفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ، وكَافِرٍ وكَفَرةٍ، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإضافة؛ كقوله: [الرجز]
١٩٩٨ - قَامَ وُلاَهَا فَسَقوْهُ صَرْخَدَا... أي: وُلاتُهَا؛ وكقوله: [البسيط]
١٩٩٩ -......................... وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذِي وَعدُوا
أي: عدةَ الأمرِ، ومنه: ﴿وَإِقَامَ الصلاة﴾ [الأنبياء: ٧٣] أي: إقامةِ الصلاة، ويجوزُ أن يكون «عبد» اسم جنسٍ لعابدٍ؛ كخَادِمٍ وخدمٍ، وحينئذ: فلا حَذْفَ تاء تأنيثٍ لإضافة، وقُرِئ: «وعبَدَةَ الطَّاغُوتِ» بثبوت التاء، وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإضافة في القراءةِ قبلها، وقد تقدَّم توجيُهها أنَّ فَاعِلاً يُجْمَعُ على «فَعَلَةٍ» كَبَارٍّ وبررَةٍ، وفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ.
وقرأ عُبْيدُ بْنُ عُمَيْر: «وأعْبُدَ الطَّاغُوتِ» جمع عَبْدٍ، كفَلْسٍ وأفْلُس، وكَلْبٍ وأكْلُبٍ، وقرأ ابن عبَّاس: «وعَبِيدَ الطَّاغُوتِ» جمعَ عَبْدٍ أيضاً، وهو نحو: «كَلْبٍ وكَلِيبٍ» قال: [الطويل]
٢٠٠٠ - تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ
وقُرئ أيضاً: «وعَابِدِي الطَّاغُوتِ»، وقرأ عبد الله بن مسعُود: «ومَنْ عَبَدُوا»، فهذه أربعٌ وعشرون قراءة، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها: «وعَابِدَ الشَّيْطَانِ» ؛ لأنها تفسيرٌ، لا قراءة. وقال ابن عطيَّة: «وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية: إنها تجويزٌ، لا قراءة»
418
يعني: لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآية، ظَنَّ بعضُهم؛ أنه قيل على سبيلِ الجَوَاز، لا أنها منقولةٌ عن أحَدٍ، وهذا لا ينبغي أنْ يُقال، ولا يُعْتقدَ؛ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْهَا قراءةً تَلَوْهَا على مَنْ أخَذُوا عنه، وهذا بخلاف و «عَابِدَ الشَّيْطَانِ»، فإنَّه مخالفٌ للسَّوَاد الكريم.
وطريقُ ضبْطِ القراءةِ في هذا الحَرْفِ بعدما عُرِفَ القُرَّاء: أن يقال: سبع قراءاتٍ مع كَوْنِ «عَبَدَ» فعلاً ماضياً، وهي: وعَبَد، وعَبَدُوا، ومَنْ عَبَدُوا، وعُبِدَ، وعُبِدَت، وعَبُدَ، وعَبْدَ في قولنا: إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً، ك «سَلْفَ» في «سَلَفَ»، وتِسْعُ قراءاتٍ مع كونه جمعَ تكسِيرٍ، وهي: وعُبُدَ، وعُبَّدَ، مع جَرِّ الطاغوتِ، وعُبَّدَ مع نصبه، وعُبَّاد، وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإضافةِ، وعَبَدَةَ، وأعْبُد، وعَبِيدَ، وستٌّ مع المفْرَدِ: وعَبُدَ، وعُبَدَ، وعَابِدَ الطَّاغُوتِ، وعَابِدُ الطاغوتِ بضم الدال، وعَابِدَ الشيطانِ، وعَبْدَ الطَّاغُوتِ، وثِنتان مع كونه جمع سلامة: وعَابِدُوا بالواو، وعَابِدِي بالياء، فعلى قراءةِ الفِعْلِ يجُوزُ في الجملةِ وجهان:
أحدهما: أن تكون معطوفةً على الصِّلة قبلها، والتقدير: مَنْ لَعَنَهُ الله وعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
والثاني: أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ، وإنما هو على تقديرِ «مَنْ»، أي: ومن عَبَدَ؛ ويدُلُّ له قراءةُ عبد الله بإظهارِ «مَنْ»، إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحديُّ - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه، وهو ممنوعٌ عند البصريِّين، جائزٌ عند الكوفيين، وسيأتي جميعُ ذلك في قوله تعالى: ﴿وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ [العنكبوت: ٤٦]، أي: وبالذي أُنْزِلَ، وعلى قراءةِ جمع التكسير، فيكون منصوباً عطفاً على القِرَدَةِ والخَنَازِيرِ، أي: جَعَل منهمُ القِرَدَةَ وعِبَادَ وعُبَّادَ وعَبِيدَ، وعلى قراءةِ الإفراد كذلك أيضاً، ويجوزُ النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخر، وهو العطفُ على «مَنْ» في ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾، إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ، وهو مرادٌ به الجنْسُ، وفي بعضها قُرئ برفعه؛ نحو: «وعَابِدُ الطَّاغُوتِ»، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ، أي: هُمْ عَابِدُو وتقدَّم ما في ذلك.
قال شهاب الدين: وعندي أنه يجوزُ أن يرتفع على أن معطوفٌ على «مَنْ» في قوله تعالى ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ ؛ ويَدُلُّ لذلك: أنهم أجازوا في قراءةِ عبد الله: «وَعَابِدُوا» بالواوِ هذين الوجهَيْن، فهذا مثله، وأما قراءة جمع السلامة، فمن قرأ بالياء، فهو منصوبٌ؛ عطفاً على القردةِ، ويجوزُ فيه وجهان آخران:
أحدهما: أنه منصوبٌ عطفاً على «مَنْ» في ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ إذا قلنا: إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ.
419
والثاني: أنه مجرورٌ؛ عطفاً على ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ أيضاً، إذا قُلْنا بأنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من «بِشَرٍّ» ؛ كما تقدَّم إيضاحُه، وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرةُ الاستنباطِ، والله أعلمُ.
ومَنْ قرأ بالواو فرفعه: إمَّا على إضمار مبتدأ، أي: هُمْ عَابِدُوا الطَّاغُوتِ، وإمَّا نَسَقٌ على «مَنْ» في قوله تعالى: ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ كما تقدَّم.

فصل


قِيلَ: الطَّاغُوتُ الْعِجْل، وقيل: الأحْبَارُ، وكلُّ مَنْ أطاعَ أحَداً فِي مَعْصِيَةٍ فَقَدْ عَبَدَه.
واحْتَجُّوا بهذه الآية على أنَّ الكُفْرَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، قالُوا: لأنَّ تقديرَ الآيَة: وجَعَلَ اللَّهُ منهم من عَبَدَ الطَّاغُوت، وإنَّما يُعْقَلُ معنى هذا الجَعْل، إذا كانَ هُوَ الذي جعل فيهم تِلْكَ العِبَادَةَ، إذْ لوْ كَانُوا هُمُ الجَاهِلُون لكَانَ اللَّهُ تعالى [ما] جعلهم عَبَدَة الطَّاغُوت، بلْ كَانُوا هُمُ الذين جعلوا أنْفُسَهُم كذلك وذلك خِلافُ الآية.
قالتِ المُعْتَزِلَة: مَعْنَاه أنَّهُ تعالى حَكَمِ عليهم بذلك كَقوْلِهِ تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ [الزخرف: ١٩] وقد تقدَّمَ الكلامُ فيه.
[قوله تعالى: «أولئك شَرٌّ» مبتدأ وخبر، و «مكاناً» نصب على التمييز، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهله، كنايةً عن نهايتهم في ذلك] كقولهم: فلانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، وحَاصِلُهُ يرجع إلى الإشَارَةِ إلى الشَّيْءِ بذكرِ لوَازِمِه وتَوَابِعِهِ و «شَرّ» هنا على بابه من التفضيل، والمفضَّلُ عليه فيه احتمالان:
أحدهما: أنهم المؤمنون، فإن قيل: كيف يُقال ذلك، والمؤمنون لا شَرَّ عنْدَهُمْ ألبتة؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: - ما قاله النحاس - أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدُّنيا؛ لِمَا يلحقُهم فيه من الشَّرِّ، يعني: من الهمومِ الدنيويةِ، والحاجةِ، والإعسارِ، وسماعِ الأذَى، والهَضْمِ من جانبهم، قال: «وهذا أحسنُ ما قيل فيه».
والثاني: أنه على سبيلِ التنازُلِ والتسليم للخَصْم على زعمه؛ إلزاماً له بالحُجَّة، كأنه قيل: شَرٌّ من مكانِهِمْ في زعْمِكُمْ، فهو قريبٌ من المقابلة في المعنى.
والثاني من الاحتمالين: أنَّ المفضَّل عليه هم طائفةٌ من الكفارِ، أي: أولئكَ الملعونَون المغضُوبُ عليهم المجعُولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العابدُونَ الطَّاغوت - شرٌّ مكاناً من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمَعُوا بَيْنَ هذه الخصَالِ الذَّميمة.
420
قوله تعالى: ﴿وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ أي: طريق الحقِّ.
قال المُفَسِّرون: لمَّا نزلت هذه الآيَةُ عيَّر المسلمُون أهْلَ الكِتَاب، وقالُوا: يا إخْوَان القِرَدَةِ والخَنَازِير، فافْتَضَحُوا ونَكَّسُوا رؤُوسَهم قال الشَّاعِر: [الرجز]
421
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا﴾ : الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرينَ؛ فحينئذ: لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، أي: وإذا جاءَكُمْ ذريتُهم، أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردَةُ والخنازيرُ، لم يَجِيئُوا، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ؛ وذلك على أن يكونَ قولُه ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ [المائدة: ٦٠] إلى آخره عبارةً عن المخاطَبِينَ في قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الكتاب﴾ [المائدة: ١٩]، وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضْمَرِ، وكأنه قيل: أنْتُمْ، كذا قاله أبو حيان، وفيه نظرٌ؛ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة﴾ [المائدة: ٦٠]، تقديره: وجعل من آبائِكُمْ أو أسْلافِكُمْ، أو مِنْ جِنْسِكُمْ؛ لأن المعاصِرِينَ ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهِم، فسواءٌ جعله مِمَّا ذكر أم لا، لا بُدَّ من حذف مضاف.
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر﴾ هذه جملةٌ حاليةٌ، وفي العامل فيها وجهان:
أحدهما - وبه بدأ أبو البقاء -: أنه «قَالُوا»، أي: قالُوا كذا في حَالِ دخولهم كفرةً وخُرُوجهم كفرةً، وفيه نظرٌ؛ إذ المعنى يأبَاهُ.
والثاني: أنه «آمَنَّا»، وهذا واضحٌ، أي: قالوا آمنَّا في هذه الحالِ، و «قَدْ» في «وَقَدْ دَخَلُوا» «وَقَدْ خَرَجُوا» لتقريب الماضِي من الحال، وقال الزمخشريُّ: «ولمعنى آخرَ، وهو: أنَّ أماراتِ النفاقِ كانَتْ لائحةً عليهم؛ فكان الرسولُ - عليه السلام - متوقِّعاً لإظهار الله تعالى - ما كتموه، فدَخَلَ حرفُ التوقُّعِ، وهو متعلِّقٌ بقوله» قَالُوا آمَنَّا «، أي: قالوا ذلك وهذه حالهم»، يعني بقوله: «وهُو متعلِّقٌ»، أي: والحال، وقوةُ كلامه تُعْطِي: أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقَوْل، و «بالكُفْرِ» متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من فاعلِ «دَخَلُوا»، فهي حال من حال، أي: دَخَلُوا ملتبسين بالكُفْر، أي: ومعهُمُ الكُفْرُ؛ كقولهم: «خَرَجَ زَيْدٌ بِثيَابِهِ»، وقراءةِ من قرأ: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠]، أي: وفيها الدُّهْنُ؛ ومنه ما أنشدَ الأصمعيُّ: [الطويل]
421
٢٠٠١ - فَلَعْنَةُ اللَّهِ على اليَهُودِ إنَّ اليَهُودَ إخْوَةُ القُرُودِ
٢٠٠٢ - وَمُسْتَنَّةٍ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو فِ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ
أي: ومِرْوَدُهُ فيه، وكذلك «بِهِ» أيضاً حالٌ من فاعل «خَرَجُوا». فالبَاءُ في قوله تعالى: ﴿دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾، يُفيدُ أنَّ الكُفْرَ معهم حالةَ الدُّخُولِ والخُرُوجِ من غيْرِ نُقْصَانٍ، ولا تَغْيِير ألْبَتَّة، كما تَقُولُ: «دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وخَرَجَ» أي: ثوْبُهُ حال الخُرُوجِ، كما كَانَ حَالَ الدُّخُول. وقوله: «وَهُمْ» مبتدأ، و «قَدْ خَرَجُوا» خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولَى فعليَّةً والثانيةُ اسميةً؛ تنبيهاً على فرطِ تهالِكهم في الكُفْرِ؛ وذلك أنهم كان ينبغي لهم، إذا دخلُوا على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنْ يُؤمنُوا؛ لِما يَرَوْن من حُسْنِ شيمته وهَيْبَته، وما يظهرُ على يديهِ الشريفة من الخوارقِ والمعجزاتِ؛ ولذلك قال بعض الكَفَرَةِ: «رَأيْتُ وَجْهَ مَنْ لَيْسَ بِكَذَّابٍ»، فلمَّا لم يَنجَعْ فيهم ذلك، أكَّد كفرهم الثاني بأنْ أبْرَز الجملة اسميةً صدْرُها اسمٌ، وخبرها فعلٌ؛ ليكون الإسنادُ فيها مرتين، وقال ابن عطية: «وقوله:» وَهُمْ «تخليصٌ من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكُفْرِ، ثم يؤمنوا، ويخرجَ قومٌ، وهم كَفَرَة، فكان ينطبِقُ على الجميع، وهم قد دخلوا بالكفر، وقد خَرَجوا به، فأزال اللَّهُ الاحتمال بقوله: ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾، أي: هُمْ بأعيانهم»، وهذا المعنى سبقه إليه الواحديُّ، فبسطه ابن عطيَّة، قال الواحديُّ: ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾ أكَّد الكلام بالضَّمير، تعييناً إياهم بالكفر، وتمييزاً لهم عن غيَرِهِمْ، وقال بعضهم: معنى «هُم» التأكيدُ في إضافة الكُفْر إليهم، ونَفْيِ أن يكون من الرسولِ ما يوجبُ كفرَهُمْ؛ مِنْ سوءِ معاملته لهم، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ، فالمعنَى: أنهم هم الذين خَرَجُوا بالكُفْر باختيار أنفُسِهِمْ، لا أنَّكَ أنْتَ الذي تسبَّبْتَ لبقائِهم في الكُفْر، وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون التقديرُ: وقد كانوا خرجُوا به»، ولا معنى لهذا التأويلِ، والواوُ في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾ تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلها.
والثاني: أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال؛ وعلى هذا: يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجِيزُ تعدُّدَ الحال لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف، ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل، نحو: «جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكاً كَاتِباً» ؛ وعلى الأول: لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر.
قوله تعالى: «وإذا جَاءُوكم» يعني: هؤلاء المُنَافِقِين وقيل: هُم الذين آمَنُوا بالذي
422
أنْزِلَ على الَّذِين آمَنُوا وجْهَ النَّهار، دَخَلوا على النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وقالوا: آمَنَّا بِكَ وصدَّقْنَاك فيما قُُلْتَ، وهُمْ يُسِرُّون الكُفْر.
﴿وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾ أي: دخلوا كافِرِين وخرَجُوا كافِرِين، واللَّه أعلَمُ بما يَكْتُمُون، والغرض منه: المُبَالَغَةُ فِيمَا في قُلُوبِهِم من الجدِّ والاجتِهَادِ في المكر بالمُسْلِمِين، والكَيْدِ والبُغْضِ والعَداوَةِ لهم.
قالت المُعْتَزِلَةُ: إنَّه تعالى أضَافَ الكُفْرَ إليْهِم حالَتَي الدخُول والخُرُوج على سبيل الذَّمِّ، وبالَغَ في تَقْرِيرِ تِلْكَ الإضَافَةِ بقوله: ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾، فدلَّ هذا على أنَّه من العَبْدِ لا من اللَّه تعالى.
والجوابُ: المُعارضَةُ بالْعِلْمِ والداعي.
423
قوله: «وترى» : يجوز أن تكون بصريَّةً، فيكون «يُسَارِعُونَ» حالاً، وأن تكون العلميَّةَ أو الظنيَّة، فينتصب «يُسَارعُونَ» مفعولاً ثانياً، و «مِنْهُمْ» في محلِّ نصب؛ على أنه صفةٌ ل «كَثِيراً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً منهم، أو استقرَّ منهم، وقرأ أبو حيوة: «العِدْوان» بالكسر، و «أكْلِهِمُ» هذا مصدرٌ مضافٌ لفاعله، و «السُّحْتَ» مفعولُه، وقد تقدَّمَ ما فيه.

فصل


الضَّميرُ في «مِنْهُمْ» لليهُود، والمُسَارعة في الشَّيْءِ الشُّرُوعُ فيه، والمُراد بالإثْمِ الكذِب، وقيل: المَعَاصِي، والعُدْوَان الظُّلْم، وقيل: الإثْمُ ما يخْتَصُّ بهم، والعُدْوانُ ما يتعدَّاهُمْ إلى غيرهم، وقيل: الإثْمُ ما كتمُوا من التَّوْراة، والعُدْوان ما زَادُوا فيها، «وأكْلِهِمُ السُّحْتَ» الرِّشْوَة.
وقوله تعالى: «كَثِيراً مِنْهُم» لأنَّهمُ كُلُّهُمْ ما كانُوا يَفْعَلُون ذَلِكَ، لَفْظ المُسارعة إنما [يُسْتَعْمَلُ] في أكْثَرِ الأمْر في الخَيْرِ، قال تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ [آل عمران: ١١٤] وقال تعالى: ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات﴾ [المؤمنون: ٥٦] فكان اللاَّئِقُ بهذا الموضِعِ لفظ العَجَلَةِ.
423
فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر المُسارعة [الفائدة؛ وهي أنَّهم] كانوا يُقْدِمُون على هَذِهِ المُنْكَرَات [كأنهم مُحِقُّون] فيها وقد تقدَّم حُكْمُ «مَا» مع بِئْسَ ونِعْمَ.
424
و «لولا» : حرفُ تحضيض ومعناه التوبيخ أي: هلاَّ، وقرأ الجَرَّاحُ وأبُو وَاقِدٍ: «الرِّبِّيُّونَ» مكان الرَّبَانِيِّين، قال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الرَّبَانِيُّون عُلَمَاءُ أهل الإنجيل، والأحْبَار عُلَمَاءُ أهْل التَّوْرَاة»، وقال غيره: كُلُّهُم في اليهُود؛ لأنَّه مُتَّصِل بذكرهم، والمعنى: أنَّ اللَّه اسْتَبْعَدَ من عُلَمَاءِ أهْلِ الكتاب أنَّهُمْ ما نهوا سَفَلتهم وعَوامَّهُم عن المَعَاصِي، وذلك يُدُلُّ على أنَّ تَرْكَ النَّهْي عن المنكر بمنزلة مُرْتَكِبِهِ؛ لأنَّهُ تعالى ذَمَّ الفَرِيقَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ على لَفْظٍ واحدٍ، بل نقُول: أنَّ ذَمَّ تَارِك النهي عن المُنْكَر أقْوَى؛ لأنَّه قال في المُقْدِمِين على الإثْمِ والعُدْوان وأكلهم السُّحْت: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٢] وقال في العُلَمَاء التَّاركِين للنَّهْي عن المنكر: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ والصُّنْعُ أقوى مِنَ العَمَلِ؛ فإنَّما العمل يُسَمَّى صِناعَةً، إذا صَارَ مُسْتَقِرّاً راسخاً مُتَمَكِّناً، فجعل [حُرْمَ] العامِلين ذَنْباً غير رَاسخٍ، وذنب التَّارِكِين للنهْي المُنْكر ذَنْباً راسِخاً، والأمْرُ في الحقيقَة راسخاً كذلك؛ لأنَّ المعْصِيَة مرضُ الرُّوح، وعلاجُه العِلْمُ باللَّه وبصفَاتِهِ وبأحْكَامِه، فإذا حَصَل هذا العِلْم ولم تزل المعْصِيَة، كان كالمَرِيض الذي يعالج بأدويته، قَلَّ فيها الشِّفَاءُ، ومثل هذا المرض صَعْبٌ شديد لا يَكَادُ يَزُولُ، وكذلك العَالِمُ إذا أقْدَم على المعْصِيَة دَلّ على أنَّ مرض فَقْد الإيمَان في غايَةِ القُوَّةِ والشِّدَّةِ.
رُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: هِيَ أشَدُّ آية في القُرْآن، وعَنِ الضَّحَّاك: ما في القُرآن آية أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهَا.
وقرأ ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «بِئْسَمَا» بغير لام قسم، و «قَوْلِهِمْ» مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه، و «الإثْمَ» مفعولُه.
424
والظاهر أن الضمير في «كانُوا» عائدٌ على الأحْبَار والرُّهْبَان، ويجوز أن يعودَ على المتقدِّمين.
425
في هذه الحكاية قولان:
أحدهما: أنه خبر محض، وزعم بعضهم أنه على تقدير همزة استفهام، تقديره: «أيد الله مغلُولة» ؟ قالوا ذلك لمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم، ولا يحتاج إلى هذا التقدير.
قال ابنُ الخطيب: في هذا الموْضِع إشكَالٌ، وهُو أنَّ اللَّه تعالى حكى عن اليَهُودِ أنَّهُمْ قالوا ذَلِك، ولا شَكَّ في أنَّ اللَّهَ تعالى صَادِقٌ في كُلِّ ما أخْبَر عنه، ونرى [اليهُود] مُطبقِين مُتَّفِقِين على أنَّا لا نَقُولُ ذلكَ ولا نعْتَقدهُ، والقولُ: بأنَّ ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ باطل بِبَديهَةِ العَقْل؛ لأنَّ قَوْلَنَا: اللَّهَ اسمٌ لموْجُودٍ قديم، قادرٍ على خَلقِ العَالم وإيجَادِه وتكوينه، وهذا الموجُود يَمْتَنِعُ أن تكون يدُهُ مَغْلُولة مُقيَّدة قَاصِرَة، وإلاَّ فَكَيْفَ يُمْكِنُه ذلك مع قُدْرته النَّاقِصَة حِفْظ العَالم وتدبيره. إذا ثَبَتَ هذا فقد حَصَل الإشْكال في كَيْفِيَّة تَصْحيح هذا النَّقْل وهذه الرِّواية فَنَقُول فيه وُجُوهٌ:
الأوَّل: لَعَلَّ القَوْم إنَّما قالوا هذا القَوْل على سَبِيلِ الالتزام؛ فإنَّهُم لمَّا سَمِعُوا قوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة: ٢٤٥] قالوا: لو احْتَاج إلى القَرْضِ لكَانَ فَقِيراً عاجِزاً [فلما حكموا بأنَّ الذي يسْتَقْرِضُ من عبادهَ شَيْئاً فقيرٌ مُحْتَاج مَغْلُولُ اليديْن، لا جرم حكى اللَّهُ عَنْهُم هذا الكلام].
الثاني: لعَلَّ القوم لمَّا رأوا أصْحَاب الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في غَايَةِ الشِّدَّةِ والفَقْرِ والحَاجَةِ، قالُوا ذلك على ذلك سَبيلِ السُخْرِيَةِ والاسْتِهزاء.
قالوا: إنَّ إله مُحَمَّدٍ فَقِير مَغْلُولُ اليَدِ، فَلما قالوا ذلك حَكَى اللَّه تعالى عَنْهُمْ هذا الكلام.
الثالث: قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله -: كانُوا أكثر النَّاسِ مالاً وثَرْوَة، فلما بَعَثَ اللَّهُ محمداً - صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وسلم - فكذبَّوُه ضَيَّقَ اللَّهُ عليهم المَعيشَةَ، فعند
425
ذلك قالت اليَهُود: ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ أي: مَقْبُوضَةٌ من العَطَاءِ على جِهَةِ الصِّفَةِ بالبُخْلِ، والجاهلُ إذا وقع في البلاءِ والشِّدَّة والمِحْنَة يقول مثل هَذِه الألْفَاظ.
الرابع: لعلَّه كان فيهم مِمَّن كان على مَذْهَبِ الفَلْسَفَة، وهو أنَّهُ مُوجِبٌ لذاتِه، وأنَّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نَهْجٍ واحدٍ وهو أنَّهُ تعالى غير قادر على إحْداثِ الحوادِثِ على غير الوُجُوه الَّتِي عليها تقع، فَعَبَّرُوا عن عَدَمِ الاقْتِدَار على التَّغْيِير والتبْدِيل بغلِّ اليَد.
الخامس: قال بعضهم: المراد منه - هو قَوْلَ اليَهُود أنَّ اللَّه تعالى لا يعذِّبُنَا إلا قدْرَ الأيَّامِ التي عَبدْنَا فيها العِجْلَ - إلاَّ أنهم عبَّروا على كونه تعالى غير مُعَذِّبٍ لهم إلاَّ هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة، واسَتْوجَبُوا اللَّعن بِسَبَبِ فساد العِبَادَة، وعدم رِعَايَة الأدَب، وهذا قول الحسن.
قال البغوي بعد أن حَكَى قولَ المُفَسِّرين، ثم بعده قول الحَسَن: والأوَّلُ أوْلَى لمعنى قول المفسرين لِقَوْله تعالى بَعْدَ ذلك: ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾.
وقوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ﴾ يحتمل الخبرَ المَحْضَ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعَاءُ عليهم أي: أمْسَكَتْ أيْديهم عن الخَيْرَات، والمعنى: أنَّه - تعالى - يُعَلِّمُنَا الدُّعَاءَ عليهم، كما عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ على المُنافقين في قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ [البقرة: ١٠] فإن قيل: كان يَنْبَغي أن يُقَال: «فَغُلَّتْ أيديهم».
فالجَوَاب: أنَّ حَرْفَ العَطْف وإنْ كان مُضْمَراً إلا أنَّهُ حُذِفَ لفائدة، وهي أنَّه لما حُذِفَ كان قوله «غُلَّتْ أيْدِيهم» كالكلام المبتدأ به ففيه [زيادة] قُوَّة؛ لأنَّ الابْتِدَاء بالشَّيْء يَدلُّ على شِدَّةِ الاهْتِمَام به وقُوَّة الاعْتِنَاء، ونَظِيرُه في الحَذْفِ والتَّعْقِيب قوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾ [البقرة: ٦٧] ولَمْ يَقُل: فقالوا أتَتَّخِذنَا.
وقيل: هو من الغلِّ يوم القِيَامَةِ في النَّار كقوله تعالى: ﴿إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل﴾ [غافر: ٧١].
«ولُعِنُوا» عُذِّبوا «بما قالوا» فَمِنْ لَعْنِهم - أنَّهُ مَسَخَهُمْ قردة وخَنَازِير، وضُرِبَت عليهمُ الذِّلَّة والمَسْكَنَة في الدُّنْيا، وفي الآخِرَة بالنَّار.
426
قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾.
وفي مصحف عبد الله: «بُسُطَانِ» يقال: «يَدٌ بُسُطٌ» على زنة «نَاقَةٌ سُرُحٌ»، و «أحُدٌ» و «مِشْيَةٌ سُجُحٌ»، أي: مبسوطة بالمعروف، وقرأ عبد الله: «بَسِيطَتَانِ»، يقال: يَدٌ بسيطةٌ، أي: مُطْلَقَةٌ بالمَعْرُوف.
[وغَلُّ] اليدِ وبَسْطُهَا هنا استعارةٌ للبُخْل والجودِ، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة، وكلامُ العربِ ملآنُ من ذلك، قالتِ العربُ: «فلانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ» ؛ قال: [الطويل]
٢٠٠٣ - يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
وقال أبو تمام: [الطويل]
٢٠٠٤ - تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَوَ أنَّهُ دَعَاهَا لقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أنَامِلُهْ
وقد استعارت العربُ ذلك حيثُ لا يدَ ألبتة، ومنه قولُ لبيدٍ: [الكامل]
٢٠٠٥ -...................... إذْ أصْبَحَتَ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمامُهَا
وقال آخر: [الكامل]
٢٠٠٦ - جَادَ الحِمَى بَسْطُ اليَدَيْنِ بوابِلٍ شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاعُهُ ووِهَادُهُ
وقالوا: «بَسَطَ اليأسُ كفَّيْهِ في صَدْرِي»، واليأسُ معنًى، لا عينٌ، وقد جعلوا له كفَّيْنِ مجازاً، قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِم ثُنِّيَتِ اليدُ في ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، وهي في ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ مفردةٌ؟ قلتُ: ليكونَ ردُّ قولهم وإنكارُه أبْلَغ وأدلَّ على إثبات غايةِ السَّخَاءِ له، ونَفْيِ البُخْلِ عنه، وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السَّخِيُّ مِنْ ماله بنفسِه: أن يعطيَه بيديه جميعاً، فبنى المجازَ على ذلك».

فصل


اعلم أنه قد وَرَدَ في القرآن آياتٌ كثيرة ناطِقَةٌ بإثْبَات اليد، فتارَةً ذكر اليد من غير
427
بيان عددٍ كقوله تعالى: ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠]، وتارةً ذكر اليدين كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى لإبليس عليه اللعنة ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾
[ص: ٧٥]، وتارة أثْبَت الأيْدي قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً﴾ [يس: ٧١]، وإذا عرف هذا فَنَقُولُ: اختفت الأمَّةُ في تَفْسِير يد اللَّه تعالى.
فقالت المُجَسِّمَةُ: إنَّها عُضْو جُسْمَانِيٌّ كما في حقِّ كُلِّ أحدٍ، واحتَجُّوا بقوله تعالى: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: ١٩٥] ذكر ذلك قد جاء في إلاهيَّةِ الأصنامِ، لأجل أنَّهُ ليْسَ لَهَا شيءٌ من هذه الأعْضَاء، فلو لم يَحْصُل لِلَّهِ هذه لزمَ القَدْحُ في كونه إلهاً، فلما بَطُل ذلك، وَجَبَ إثْبَات هذه الأعْضَاء له، قالوا: واسمُ اليد موضوع لِهَذا العُضْو، فَحَمْلُه على شيء آخر ترك للُّغَة، وإنَّه لا يجُوزُ.
والجوابُ عنه: أنَّه تعالى ليس بِجِسْمٍ؛ لأنَّ الجسم لا ينفَكُّ عن الحَرَكَةِ والسُّكُون وهما مُحْدَثَانِ، وما لا يَنْفَكُّ عن المُحْدَثِ فَهُو مُحْدَثٌ، ولأنَّ كُلَّ جسم فهو مُتَنَاهٍ في المِقْدَار، وكلّ ما كان متناهياً في المقدار فهو محدثٌ، ولأنَّ كلَّ جسم فهو مؤلَّفٌ من الأجزاء، وكلّ ما كان كذلك افتقر إلى ما يؤلِّفُهُ ويُركِّبُهُ، وكلّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ، فَثَبت بهذه الوجوه أنَّه يمتنع كونه تعالى جِسْماً، فيمتَنِعُ أنْ يكون عُضْواً جُسْمَانِياً.
وأما جمهور المُوَحِّدين فلهُمْ في لَفْظِ اليَدِ قولان:
أحدهما: قول من يقول: إنَّ القرآن لمَّا دلَّ على إثْبَات اليد للَّه آمنَّا باللَّه، والعقْل دلَّ على أنَّه يمتنع أن يكون يدُ الله عبارة عن جِسْم مخْصُوصٍ وعضو مُرَكَّب من الأجزاء والأبْعَاض آمنَّا به، فأمَّا أنَّ اليد ما هي وما حَقِيقَتُهَا، فقد فَوَّضْنَا مَعْرِفَتَها إلى الله تعالى، وهذه طَرِيقَةُ السَّلَفِ.
[وثانيهما: قَوْلٌ المُتكَلِّمِين فقالوا: اليدُ تذكر في اللُّغَة على وُجُوهٍ:
أحدُها: الجَارِحَة].
وثانيها: النِّعْمَةُ: نقول: لفلان يد أشكُرُه عليها.
وثالثها: القُوَّةُ: قال تعالى: ﴿أُوْلِي الأيدي والأبصار﴾ [ص: ٤٥] فسَّرُوهُ بِذِي القُوَّةِ والعُقُول.
وحكى سيَبَويْه أنَّهُم قالوا: «لا يَدَ لَكَ بِهَذا» والمعنى: سلب كمال القُدْرَة.
رابعها: المِلْك فقال في هذه الصِّفَة: في يَدِ فُلان، أي: في مِلْكِه قال تعالى: ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ [البقرة: ٢٣٧] أي: يملِكُ ذلك.
428
وخامسها: شِدَّةُ العِنَايَة والاخْتِصَاص، قال: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، والمراد: تخصيص آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا التَّشْرِيف، فإنَّه تعالى الخالق لجميع المخلوقات، ويُقَال: «يدي رَهْنٌ لك بالوَفَاء» إذا ضمنت له شَيْئاً.
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُول: اليد في حقِّ اللَّه تعالى مُمْتَنِعٌ أن تكون الجارِحَة، وأما سائر المعاني فكُلُّهَا حَاصِلَة.
وها هنا قَوْلٌ آخر: وهو أنَّ أبا الحسن الأشْعَرِي زعم في بَعْضِ أقواله: أنَّ اليد صِفَةٌ قائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّه تعالى، وهي صِفَةٌ سِوى القُدْرَة، ومنْ شَأنِها التَّكْوِين على سَبِيل الاصْطِفَاءِ.
قال: ويدلُّ عليه أنَّه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيده عِلة الكَرَامة لآدم واصْطِفَائه، فلو كانت اليدُ [عبارة] عن القُدْرَةِ لامْتَنَع كونُه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اصطُفِيَ؛ لأنَّ ذلِكَ في جَميعِ المخْلُوقَات، فلا بُدَّ من إثْبَاتِ صِفَةٍ أخْرى وراءَ القُدْرة يقع بها الخَلْقُ والتَّكْوين على سبيلِ الاصْطِفَاء، وأكْثَرُ العُلَمَاء زَعَمُوا: أنَّ اليد في حقِّ اللَّه تعالى عِبَارَة عنِ القُدْرة وهذا مُشْكِلٌ؛ لأنَّ قُدْرةَ اللَّه واحِدَةٌ، ونصُّ القُرْآن نَاطِقٌ بإثْبَات اليدين تارَةً وبإثْبَاتِ الأيْدي تارةً أخْرَى، وإن فَسَّرْتُمُوها بالنِّعْمة، فَنَصُّ القُرْآن ناطِقٌ بإثبات اليديْن، ونعم الله غير محدُودَةٍ، لقوله تعالى:
﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ﴾ [النحل: ١٨].
والجوابُ: إن اخْتَرْنَا تفسير اليد بالقُدْرَة، كان الجوابُ عن الإشْكَال المذكُور: أنَّ القوْم جعلوا قولهم: ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ كناية عن البُخْلِ، فأجيبوا على وِفْقِ كلامهم، فقيل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، أي: ليس الأمْرُ على ما وَصَفْتُمُوه من البُخْلِ، بل هو جوادٌ على سَبيلِ الكمال، وأنَّ من أعْطَى بيده فَقَدْ أعْطَى عطاءً على أكْمَل الوُجُوهِ.
وأمَّا إن اخترنَا تفسير اليد بالنِّعْمَةِ، كان الجوابُ عن الإشْكَال المذْكُور من وجهين:
الأول: أنَّ التَّثْنِيَةَ بحسَبِ الجِنْسِ يُدخِلُ تحت كُلِّ واحدٍ من الجِنْسَيْنِ أنْوَاع لا نِهَاية لها نِعْمَة الدنيا ونعمة الدين، ونعمة الظاهر ونعمة الباطن، ونعمة النفع ونعمة الدفع، ونعمة الشدة ونعمة الرخاء.
الثاني: أنَّ المُرادَ بالتَّثْنِيَةِ المُبَالَغَةُ في وَصْفِ النِّعْمة، ألا ترى قولك «لَبَّيْكَ»، معناه: مُساعدةٌ بعد مُسَاعَدة، وليس المراد [منه طاعتين] ولا مُساعدتَيْن، فكذلك الآيَة معناها: أنَّ النِّعْمَة مُتَظَاهِرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، ليْسَت كما ادَّعَى اليَهُودُ أنَّهَا مَقْبُوضَةٌ مُمْتَنِعَة.
قوله: ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ في هذه الجملة خمسةُ أوجه:
أحدها - وهو الظاهر -: أنْ لا محلَّ لها من الإعراب؛ لأنها مستأنفة.
429
والثاني: أنها في محلِّ رفع؛ لأنها خبر ثان ل «يَدَاهُ».
والثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المستكنِّ في «مَبْسُوطَتَانِ» ؛ وعلى هذين الوجهين؛ فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ، أو على ذي الحال، أي: ينفقُ بهما، وحذفُ مثل ذلك قليلٌ، وقال أبو البقاء: ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ مستأنفٌ، ولا يجوزُ أن يكون حالاً من الهاء - يعني في «يَدَاهُ» -؛ لشيئين:
أحدهما: أنَّ الهاءَ مضاف إليها.
والثاني: أنَّ الخبر يفْصِل بينهما، ولا يجوز أن تكون حالاً من اليدين؛ إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما. [قال شهاب الدين] : قوله: «أحدهما: أنَّ الهاء مضاف إليها» ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحَالِ من المضافِ إليه، إذا لم يكن المضافُ جزءاً من المُضافِ إليه، أو كجزئه أو عاملاً فيه، وهذا من النوع الأول، فلا مانع فيه، وقوله: «والثاني: أن الخبر يفصلُ بينهما» هذا أيضاً ليس بمانعٍ، ومنه: ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢] إذا قلنا: إن «شَيْخاً» حالٌ من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه.
وقوله: «إذْ ليسَ فيها ضميرٌ» قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر، أي: ينفق بهما.
الرابع: أنها حالٌ من «يدَاهُ» وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحالِ من المبتدأ - ووجه المنع: أنَّ العامل في الحالِ هو العالمُ في صاحبهَا، والعاملُ في صاحبها أمرٌ مَعْنَوِيٌّ لا لفظيٌّ، وهو الابتداء، وهذا على أحد الأقوال في العاملِ في الابتداء.
الخامس: أنها حالٌ من الهاء في «يَدَاهُ»، ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاءِ؛ لما تقدَّم من تَصْحيح ذلك.
و «كَيْفَ» في مثل هذا التركيب شرطيةٌ؛ نحو: «كيْفَ تكُونُ أكُونُ» ومفعولُ المشيئة محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعل السابق ل «كَيْفَ»، والمعنى: يُنْفِقُ كما يشاءُ أنْ يُنْفِقَ يُنْفِقُ، ويبسطُ في السَّماء، كَيْفَ يشاء أنْ يَبْسُطَهُ يَبْسُطُهُ، فحذف مفعول «يَشَاءُ» وهو «أنْ» وما بعدها، وقد تقدَّم أن مفعول «يشَاء» و «يُريد» لا يُذْكران إلا لغرابتهما، وحذفَ أيضاً جواب «كَيْفَ» وهو «يُنْفِقُ» المتأخرُ ولا جائزٌ أن يكون «يُنْفِق» المتقدمُ عاملاً في «كَيْفَ»، لأنَّ لها صدر الكلامِ، وما له صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف.
وقال الحوفيُّ: «كَيْفَ» سؤالٌ عن حال، وهي نصبٌ ب «يَشَاء»، قال أبو حيان: «ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سُؤالاً عن حال»، وقد تقدم الكلامُ عليها مشبعاً عِنْدَ قوله: ﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ٦].
430

فصل


ومعنى ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ أي: يَرْزُق كيف يُريد وكيف يشاءُ، إن شاء قَتَّر، وإن شاء وَسَّعَ. وقال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ﴾ [الشورى: ٢٧].
وقال تعالى: ﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ﴾ [الرعد: ٢٦].
وقال عزَّ وجلَّ: ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير﴾ [آل عمران: ٢٦]، وهذه الآية ردّ على المعتزلة؛ لأنَّهُم قالوا: يَجِبُ على اللَّه إعْطَاء الثَّوَاب للمُطِيع، ويجبُ عليه ألاَّ يُعاقِبَهُ، فَهَذَا المَنْعُ والقَيْدُ يَجْري مُجْرَى الغلّ، فهم في الحقيقة [قائلون بأنَّ يَدَ الله مَغْلُولة].
وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -[فهُمُ] القَائِلُونَ: بأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، وليس لأحدٍ عليه اسْتِحْقَاقٌ ولا اعتِرَاضٌ، كما قال تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾ [المائدة: ١٧] فقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ لا يسْتَقِيم إلا على هذا المَذْهَبِ.
قوله تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ والمراد بالكثير: علماء اليهود، يعني: ازدَادُوا عند نُزُولِ ما أنْزِل إليك من رَبِّكَ من القرآنِ والحُجَجِ غُلُواً في الكُفْرِ والإنكَار، كما يُقال: «ما زادَتْكَ الموْعِظَةُ إلا شَرّاً»، وهم كُلَّما نزلت آيةٌ كَفَرُوا بها فازْدَادُوا طُغْيَاناً وكُفْراً.
وقيل: إقامَتُهُمْ [على الكُفْر] زِيَادَةٌ مِنْهُمْ في الكُفْر.
قوله تعالى: «ما أنْزِلَ» «مَا» هنا موصولةٌ اسميَّة في محلِّ رفع؛ لأنها فاعل بقوله: «ليزِيدَنَّ»، ولا يجوزُ أن تكون «مَا» مصدريةً، و «إلَيْكَ» قائمٌ مقام الفاعل ل «أُنْزِلَ»، ويكون التقديرُ: «وليَزِيدَنَّ كَثِيراً الإنْزَالُ إلَيْكَ» ؛ لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّلِ، والذي يزيدُهُمْ إنما هو المُنَزَّلُ، لا نفسُ الإنزال، وقوله: «مِنْهُمْ» صفةٌ ل «كَثِيراً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و «طًغْيَاناً» مفعولٌ ثان ل «يَزيد».

فصل


دلّ هذا الكلامُ على أنَّه تعالى لا يُرَاعى مصالح الدِّين والدُّنيا؛ لأنَّه تعالى عَلِمَ أنَّهم يَزْدَادُون عند إنْزالِ تِلْك الآيَاتِ، [كفراً وضلالاً، فلو كانَتْ أفعَالُه مُعَلَّلَة برعاية المصالِحِ للعباد، لامْتَنَع عليه إنْزَال تلك الآيات] فلما أنْزَلَهَا عَلِمْنَا أنَّهُ تعالى ما يُرَاعي مصالح
431
العِبَادِ، ونظيرُه قوله تعالى: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥]، فإن قالوا: عَلِمَ اللَّه تعالى من حَالِهِم سواءً أنْزَلَهَا أو لم يُنْزِلْها، فإنَّهُم يأتون بتلكِ الزِّيَادة من الكُفْرِ، فلهذَا حَسُن منه تعالى إنْزَالُها.
قلنا: فَعلى هذا التَّقْدير لم يكن ذلك الازْديَادُ لأجل تِلكَ الآيات، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدِيَاد الكفر إلى إنْزال تِلْكَ الآياتِ بَاطِلاً، وذلِكَ تكذيبٌ لنَصِّ القُرْآن.
قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء﴾ الضمير في «بَيْنَهُم» يجوز أن يعود على اليَهُود والنَّصَارى؛ لتقديم ذكرهم، ولاندراج الصِنْفَيْن في قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الكتاب﴾ [المائدة: ١٩]، ويجُوزُ أن يعُودَ على اليَهُود وحْدَهُم، لأنَّهُم فِرَقٌ مُخْتَلِفَةٌ، فعلى هذين قال الحسن ومجاهد: يعني بين اليَهُود والنَّصارى، لأنَّ ذكرهم جرى في قوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى﴾ [المائدة: ٥١]، وقيل: بين فِرَق اليهُود، فإنَّ بعضهم جَبْرِيَّةٌ، وبعضَهم قَدَرِيَّةٌ، وبعضهم [مُوَحِّدَة] وبعضهم مُشَبِّهَة، وكذلك بين فرقِ النَّصَارى كالمَلْكَانِيَّة والنَّسْطُوريَّةِ واليَعْقُوبِيَّةِ.
فإن قيل: فهذا المعنى حَاصِلٌ بين فرقِ المُسْلمين، فكيف يمكن جعلهُ عَيْباً في اليَهُودِ والنَّصَارى؟
فالجواب: أنَّ هذه البدَعَ إنَّما حدثَتْ بعدَ عصر الصَّحَابةِ والتَّابعين، أما في ذلك الزَّمَانِ فلم يكن شَيءٌ من ذَلِك، فلا جَرَمَ حَسُنَ جَعْل ذلك عَيْباً في اليَهُود والنَّصَارى.
ووجْهُ اتِّصَال هذا الكلام بما قَبْلَهُ: أنَّه تعالى بيَّن أنَّهُم إنَّما يُنْكِرُون نُبُوَّتَه بعد ظُهُور الدَّلائِلِ على صِحَّتِها لأجل الحَسَدِ، ولأجل حُبِّ الجَاه والمال والسَّعادة، فلمَّا رجَّحُوا الدُّنْيَا على الآخِرَة لا جَرَم حَرَمهم سعادَة الدِّين، فلذلك حَرمَهم سَعَادةَ الدُّنْيَا؛ لأنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُم مُصِرٌّ على مذهبه، ومُبَالِغٌ في نصرته، ويَطْعَنُ في كل ما سِوَاه من المذاهِب تَعْظِيماً لِنَفْسِه وتَرْويجاً لمذهَبِهِ، فصار ذلك سَبَباً لوقوع الخُصُومَة الشَّدِيدَة بين فرقِهم، انْتَهى الأمر فيه إلى أنَّ بَعْضَهُم يُكَفِّر بَعْضاً.
وقوله تعالى: ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ متعلِّقٌ ب «ألقَيْنَا»، ويجوز أن يتعلَّق بقوله: «والبغْضَاءَ»، أي: إنَّ التباغُضَ بينهم إلى يوم القيامة، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ؛ لئلا يَلْزَم الفصْلُ بين المصدَرِ ومعموله بالأجنبيِّ، وهو المعطوفُ؛ وعلى هذا: فلا يجوزُ أن تكون المسألةُ من التنازُع؛ لأن شرطه تسلُّطُ كلٍّ من العاملَيْن، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه، لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور، وقد نَقَل بعضُهُمْ: أنه يجوز التنازُعُ في فعلي التعجُّبِ مع التزامِ إعمال الثاني؛ لأنه لا يُفْصَل بين فعْلِ التعجُّبِ ومعموله، وهذا
432
مثلُه، أيْ: يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني، وهو خارجٌ عن قياسِ التنازُعِ، وتقدَّم لك نظيره، والفرقُ بين العداوة والبغضاء: أن العداوَةَ كلُّ شيء مشتهرٌ يكون عنه عَمَلٌ وحَرْبٌ، والبغضاءُ لا تتجاوزُ النفُوسَ، قاله ابن عطيَّة وقال أبو حيان: «العداوة أخَصُّ من البغضاء؛ لأنَّ كلَّ عَدُوٍّ مُبْغَضٌ، وقد يُبْغَضُ مَنْ لَيْس بعدُوٍّ».
قوله تعالى: ﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾، وهذا نوْع آخر من أنْوَاع المِحَنِ في اليهُود، وهو أنَّهُم كلّما همُّوا بأمر من الأمُور جُعِلوا فيه خَاسِرِين خَائِبِين مَقْهُورين مَغْلُوبين.
قال المفسرون: يعني اليهود أفسدوا وخَالَفُوا حُكْمَ التَّوْراة، فبعث الله عليْهم بُخْتَنَصَّرَ ثُمَّ أفْسَدُوا فَبَعَثَ عَلَيْهَم طيطوس الرُّومِي، ثم أفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عليهمُ المجُوسَ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهمُ المُسْلِمين.
وقيل: كُلَّمَا أجْمَعُوا أمْرَهُمْ ليُفْسِدوا أمْرَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأوْقَدُوا ناراً لِمُحاربته أطْفَأهَا اللَّهُ، فردَّهم وقَهَرَهُم ونصر دينَهُ ونبيَّهُ، وهذا قول الحَسَن وقال قتادة: هذا عامٌّ في كل حرب طَلَبْتَهُ اليهود، فلا تَلْقَى اليهود في بلد إلا وجَدْتَهُم من أذَلِّ النَّاسِ.
قوله تعالى: «لِلْحَرْبِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب «أوْقَدُوا»، أي: أوقدوها لأجْلِ الحرب.
والثاني: أنه صفة ل «نَاراً» فيتعلَّق بمحذوف، وهل الإيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان. و «أطْفَأهَا الله» جواب «كُلَّمَا»، وهو أيضاً حقيقةٌ أو مجازٌ؛ على حسب ما تقدَّم، والحربُ مؤنثةٌ في الأصل مصدر وقد تقدَّم الكلام عليها في البقرة، وقوله: «فَسَاداً» قد تقدَّم نظيره [الآية ٣٣ من المائدة]، وأنه يجوز أن يكون مصدراً من المعنى؛ وحينئذ لك اعتباران: أحدهما: ردُّ الفعل لمعنى المصدر، والثاني: ردُّ المصدر لمعنى الفعْلِ، وأن يكون حالاً، أي: يَسْعَوْن سعيَ فسادٍ، أو: يُفْسِدُونَ بسعيهم فَسَاداً، أو: يَسعوْن مُفْسِدين، وأن يكون مفعولاً من أجله، أي: يَسْعَوْنَ لأجْلِ الفساد والألف واللام في «الأرض» يجوزُ أن تكون للجنس وأن تكون للعهد.
ثم قال: ﴿والله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾، وهذا يدُلُّ على أنَّ السَّاعي في الأرْضِ بالفَسَاد مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللَّهِ.
433
وقد تقدَّم الكلام على نَظِير قوله: «وَلَوْ أنَّ».
واعلم أنَّهُ تعالى لما بالغَ في ذَمِّهِمْ وتهجين طريقهِم، بيَّن أنهم لو آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - واتقَوْا لكفَّرنَّا عنهم سَيِّئاتِهِمْ، ولأدْخلْنَاهُمْ جَنَاتِ النَّعِيم.
فإن قيل: الإيمانُ وحدهُ سبب مسْتَقِلٌّ [باقتضاء تكفير] السَّيِّئَاتِ، وإعْطَاء الحَسَناتِ، فلم ضمَّ إلَيْه شَرْطٌ آخر وهُو التَّقْوَى.
فالجوابُ: أنَّ المُراد كَوْنه آتياً الإيمان لِغَرَض التَّقْوى، والطَّاعة لا لغرضٍ آخر من الأغْرَاض العَاجِلَة كما يفعله المُنَافِقُون.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل﴾ الآية لما بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّهُم لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادة الآخِرة، بيَّن في هذه الآية أيْضاً، أنَّهُمْ لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادةِ الدُّنْيَا ووجدُوا طَيِّبَاتِهَا وخَيْرَاتِها، وفي إقَامَةِ التَّوْرَاةِ والإنْجِيل ثلاثةُ أوْجُه:
أحدها: أن يعملوا بما فيهما من الوَفَاءِ بالعُهُودِ، ومن الإقْرَار باشْتِمَالهما على الدَّلائل الدَّالَّة على بَعْثَةِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وثانيها: أنَّ المراد إقامَةُ أحْكَامِهِمَا وحُدُودِهمَا، كما يُقَال: أقامَ الصَّلاة إذا قام بِحُدُودِهَا وحُقوقِهَا، ولا يُقَال لمن لم يُوَفِّ بشَرَائِطها أنَّهُ أقَامها.
وثالثها: [أنَّ المراد] جعلوهما نصْبَ أعيْنِهِم، لئلاَّ يَزِلُّوا في شَيْء من حدُودِهِمَا.
وقوله تعالى: ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ يعني: القُرْآن وقيل: كتب أنبياء بني إسرائيلَ مثل كُتُبِ شُعَيْبٍ، وكتاب حَيقُوق، وكتاب دَانْيَال، فإنَّ هذه الكتب مملوءة من البشَارَة بِمَبْعَثِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
قوله تعالى: ﴿لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ﴾ : مفعولُ الأكْلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً، أيْ: لوُجِدَ منهم هذا الفعلُ، و «منْ فوقِهِمْ» متعلِّقٌ به، أي: لأكَلُوا من الجهَتَيْنِ، وقال أبو البقاء: «إنَّ» مِنْ فوْقِهِمْ «صفةٌ لمفعول محذوفٍ، أي: لأكَلُوا رِزْقاً كَائِناً مِنْ فَوْقِهِمْ».

فصل


اعلم أنَّ اليهود لما أصَرُّوا على تَكْذِيب سيِّدنا محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أصابَهُمُ القَحْطُ والشِّدَّةُ، وبلغُوا إلى حيث قالوا: ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤]، فبيَّن اللَّه لَهُمْ
434
أنَّهُم لو تركوا ذَلِك الكُفْر لانْقَلَب [الأمر] وحصل الخَصْبُ والسَّعَة.
قوله تعالى: ﴿لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾.
قيل: المراد منه المُبالغُة في شرْحِ السَّعَةِ والخَصْب، والمعنى: لأكلوا أكلاً مُتَّصِلاً كثيراً، كما يُقال: «فلان في الخَيْرِ مِنْ فَوْقِهِ إلى قَدَمِهِ» يريدُ كَثْرَةَ الْخَيْرِ عنده؛ قالَهُ الفَرَّاءُ.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: المراد «مِنْ فَوْقِهِمْ» نُزُول المَطَرِ، و ﴿وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ خرُوج النَّبَات كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض﴾ [الأعراف: ٩٦]، وقيل: الأكل من فَوْقٍ كَثْرَة الأشْجَار المُثْمِرة، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة، وقيل: يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الأشْجَار المُثْمِرة، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة، وقيل: يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الثِّمَار ما يَنْزِلُ مِنْهَا من رُؤوس الشَّجر، ويلتقطون ما تساقَطَ على الأرض مِنْ تَحْت أرجلهم، وهذا إشارة إلى ما جَرَى على اليَهُود من بَني قُرَيْظَة وبني النَّضِير، من قطع نَخِيلهِمِ، وإفساد زُرُوعهم وقوله تعالى: «مِنْهُمْ» خبر مقدَّم، و «أمَّةٌ» فاعلاً بالجار، وقوله: « ﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ تنويعٌ في التفصيل، فأخبر في الجملة الأولى، بالجارِّ والمجرور، ووصف المبتدأ بالاقتصادِ، ووصف المبتدأ في الجملة الثانية ب» مِنْهُمْ «، وأخبر عنهم بأنَّهم من جملة أهل الكتاب؛ فإنَّ الوصف ألزمُ من الخبر؛ فإنهم إذا أسلموا، زالَ عنهم هذا الاسمُ، وأما الطائفة الثانية، فإنهم وصفوا بكونهم من أهْلِ الكتاب؛ فإنَّ الوصفَ ألزمُ، وهم كفَّار فهم منهم، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة، فإنَّ الخبر ليس بلازمٍ، وقد يُسْلِمُ منهم ناسٌ، فيزول عنهم الإخبارُ بذلك.

فصل


المُراد بالأمَّة المُقْتَصِدَة: مؤمِنُو أهْلِ الكِتَاب، كعَبْدِ اللَّهِ بنْ سلام من اليَهُود والنَّجَاشِيِّ من النَّصَارى، «مُقْتَصِدَة»
أي: عادِلَةٌ غير غَالِية ولا مقصِّرة، والاقتصادُ في اللُّغَة: الاعتِدَال في العمل من غير غُلُوِّ ولا تَقْصِير.
وقيل: المُرَاد بالأمَّةِ المقْتَصِدَةِ: كُفَّارُ أهل الكتاب الذين يكنون عُدُولاً في دينهِم، ولا يكون فيهم عِنَادٌ شديدٌ ولا غِلْظَةٌ، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٧٥].
435
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾ الآية لما بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّهُم لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادة الآخِرة، بيَّن في هذه الآية أيْضاً، أنَّهُمْ لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادةِ الدُّنْيَا ووجدُوا طَيِّبَاتِهَا وخَيْرَاتِها، وفي إقَامَةِ التَّوْرَاةِ والإنْجِيل ثلاثةُ أوْجُه :
أحدها : أن يعملوا بما فيهما من الوَفَاءِ بالعُهُودِ، ومن الإقْرَار باشْتِمَالهما على الدَّلائل الدَّالَّة على بَعْثَةِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وثانيها : أنَّ المراد إقامَةُ أحْكَامِهِمَا وحُدُودِهمَا، كما يُقَال : أقامَ الصَّلاة إذا قام بِحُدُودِهَا وحُقوقِهَا، ولا يُقَال لمن لم يُوَفِّ بشَرَائِطها أنَّهُ أقَامها.
وثالثها :[ أنَّ المراد ]٣ جعلوهما نصْبَ أعيُنِهِم، لئلاَّ يَزِلُّوا في شَيْء من حدُودِهِمَا.
وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ يعني : القُرْآن وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيلَ مثل كُتُبِ شُعَيْبٍ، وكتاب حَيقُوق، وكتاب دَانْيَال، فإنَّ هذه الكتب مملوءة من البشَارَة بِمَبْعَثِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
قوله تعالى :﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ : مفعولُ الأكْلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً، أيْ : لوُجِدَ منهم هذا الفعلُ، و " منْ فوقِهِمْ " متعلِّقٌ به، أي : لأكَلُوا من الجهَتَيْنِ، وقال أبو البقاء٤ :" إنَّ " مِنْ فوْقِهِمْ " صفةٌ لمفعول محذوفٍ، أي : لأكَلُوا رِزْقاً كَائِناً مِنْ فَوْقِهِمْ ".

فصل


اعلم أنَّ اليهود لما أصَرُّوا على تَكْذِيب سيِّدنا محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أصابَهُمُ القَحْطُ والشِّدَّةُ، وبلغُوا إلى حيث قالوا :﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾، فبيَّن اللَّه لَهُمْ أنَّهُم لو تركوا ذَلِك الكُفْر لانْقَلَب [ الأمر ]٥ وحصل الخَصْبُ والسَّعَة.
قوله تعالى :﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾.
قيل : المراد منه المُبالغُة في شرْحِ السَّعَةِ والخَصْب، والمعنى : لأكلوا أكلاً مُتَّصِلاً كثيراً، كما يُقال :" فلان في الخَيْرِ مِنْ فَوْقِهِ إلى قَدَمِهِ " يريدُ كَثْرَةَ الْخَيْرِ عنده ؛ قالَهُ الفَرَّاءُ٦.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : المراد ﴿ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾ نُزُول المَطَرِ، و ﴿ وَمِنْ تَحتِ أرْجُلِهِمْ ﴾ خرُوج النَّبَات٧ كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ]، وقيل : الأكل من فَوْقٍ كَثْرَة الأشْجَار المُثْمِرة، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة، وقيل : يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الثِّمَار ما يَنْزِلُ مِنْهَا من رُؤوس الشَّجر، ويلتقطون ما تساقَطَ على الأرض مِنْ تَحْت أرجلهم، وهذا إشارة إلى ما جَرَى على اليَهُود من بَني قُرَيْظَة وبني النَّضِير، من قطع نَخِيلهِمِ، وإفساد زُرُوعهم وقوله تعالى :" مِنْهُمْ " خبر مقدَّم، و " أمَّةٌ " مبتدأ، و " مُقْتَصِدَةٌ " صفتُها، وعلى رأي الأخفشِ يجوز أن تكون " أمَّة " فاعلاً بالجار، وقوله :﴿ مِنْهُمْ أمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ﴾ تنويعٌ في التفصيل، فأخبر في الجملة الأولى، بالجارِّ والمجرور، ووصف المبتدأ بالاقتصادِ، ووصف المبتدأ في الجملة الثانية ب " مِنْهُمْ "، وأخبر عنه بجملة قوله :" سَاءَ ما يَعْمَلُون "، وذلك لأنَّ الطائفة الأولى ممدوحةٌ، فوُصفوا بالاقتصاد، وأخبر عنهم بأنَّهم من جملة أهل الكتاب ؛ فإنَّ الوصف ألزمُ من الخبر ؛ فإنهم إذا أسلموا، زالَ عنهم هذا الاسمُ، وأما الطائفة الثانية، فإنهم وصفوا بكونهم من أهْلِ الكتاب ؛ فإنَّ الوصفَ ألزمُ، وهم كفَّار فهم منهم، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة، فإنَّ الخبر ليس بلازمٍ، وقد يُسْلِمُ منهم ناسٌ، فيزول عنهم الإخبارُ بذلك.

فصل


المُراد بالأمَّة المُقْتَصِدَة : مؤمِنُو أهْلِ الكِتَاب، كعَبْدِ اللَّهِ بنْ سلام من اليَهُود والنَّجَاشِيِّ من النَّصَارى، " مُقْتَصِدَة " أي : عادِلَةٌ غير غَالِية ولا مقصِّرة، والاقتصادُ في اللُّغَة : الاعتِدَال في العمل من غير غُلُوِّ ولا تَقْصِير.
وقيل : المُرَاد بالأمَّةِ المقْتَصِدَةِ : كُفَّارُ أهل الكتاب الذين يكونون عُدُولاً في دينهِم، ولا يكون فيهم عِنَادٌ شديدٌ ولا غِلْظَةٌ، كما قال تعالى :﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾، وفيه معنى التعجُّبِ، كأنَّه قيل [ كثير ]٨ منهم ما أسْوَأ عَمَلَهم.
والمراد بهم : الأجْلاف المُبْغِضُون، مثل كَعْبِ بن الأشْرفِ وأصحابه و " سَاءَ " هذه يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن تكون تعجباً ؛ كأنه قيل : ما أسوأ عملهُمْ، ولم يذكُرِ الزمخشريُّ٩ غيره، ولكن النحاة لمَّا ذكروا صيغَ التعجُّبِ لم يَعُدُّوا فيها " سَاءَ "، فإن أراد من جهةِ المعنى، لا من جهة التعجُّب المبوبِ له في النحوِ فقريبٌ.
الثاني : أنها بمعنى " بِئْسَ " فتدلُّ على الذَّمِّ ؛ كقوله تعالى :﴿ سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ ﴾ [ الأعراف : ١٧٧ ].
وقال البَغَوِي١٠ : بئس ما يَعْمَلُون، بِئْس شَيْئاً عملهم.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : عملوا بالقَبِيحِ مع التَّكْذِيب بالنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وعلى هذين القولين ف " سَاء " غيرُ متصرِّفة، لأن التعجُّب وباب المدح والذمِّ لا تتصرَّفُ أفعالُهما.
الثالث : أن تكون " سَاء " المتصرِّفة ؛ نحو : سَاءَ يَسُوءُ، ومنه :﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ [ الإسراء : ٧ ] ﴿ سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ تبارك : ٢٧ ]، والمتصرِّفةُ متعديةٌ ؛ قال تعالى :﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ [ الإسراء : ٧ ] فإن قيل فأيْنَ مفعولُ هذه ؟ قيل : هو محذوفٌ، تقديرُه : ساء عَملُهُم المؤمنين، والَّتِي بمعنى " بِئْسَ " لا بدَّ لها من مميِّز، وهو هنا محذوفٌ، تقديره : سَاءَ عَمَلاً الذي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ.
قوله تعالى: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾، وفيه معنى التعجُّبِ، كأنَّه قيل [كثير] منهم ما أسْوَأ عََمَلَهم.
والمراد بهم: الأجْلاف المُبْغِضُون، مثل كَعْبِ بن الأشْرفِ وأصحابه و «سَاءَ» هذه يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن تكون تعجباً؛ كأنه قيل: ما أسوأ عملهُمْ، ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره، ولكن النحاة لمَّا ذكروا صيغَ التعجُّبِ لم يَعُدُّوا فيها «سَاءَ»، فإن أراد من جهةِ المعنى، لا من جهة التعجُّب المبوبِ له في النحوِ فقريبٌ.
الثاني: أنها بمعنى «بِئْسَ» فتدلُّ على الذَّمِّ؛ كقوله تعالى: ﴿سَآءَ مَثَلاً القوم﴾ [الأعراف: ١٧٧].
وقال البَغَوِي: بئس ما يَعْمَلُون، بِئْس شَيْئاً عملهم.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: عملوا بالقَبِيحِ مع التَّكْذِيب بالنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وعلى هذين القولين ف «سَاء» غيرُ متصرِّفة، لأن التعجُّب وباب المدح والذمِّ لا تتصرَّفُ أفعالُهما.
الثالث: أن تكون «سَاء» المتصرِّفة؛ نحو: سَاءَ يَسُوءُ، ومنه: ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ [الإسراء: ٧] ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ﴾ [تبارك: ٢٧]، والمتصرِّفةُ متعديةٌ؛ قال تعالى: ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ [الإسراء: ٧] فإن قيل فأيْنَ مفعولُ هذه؟ قيل: هو محذوفٌ، تقديرُه: ساء عَملُهُم المؤمنين، والَّتِي بمعنى «بِئْسَ» لا بدَّ لها من مميِّز، وهو هنا محذوفٌ، تقديره: سَاءَ عَمَلاً الذي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ.
قوله
تعالى
: ﴿ياأيها
الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾
الآية: ناداه المولى سبحانه بأشْرَفِ الصِّفَات البشرية، وقوله: ﴿بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [وهو قد بَلَّغَ!!] فأجابَ الزمخشريُّ بأن المعنى: جميعَ ما أُنزِلَ إليْكَ، أي: أيَّ شيءٍ أُنْزِلَ غير مُرَاقِبٍ في تبليغِهِ أحَداً، ولا خائفٍ أنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ، وأجاب ابن عطية بقريبٍ منه، قال: «أمَر الله رسوله بالتبليغِ على الاسْتِيفَاءِ والكمالِ؛ لأنه كان قَدْ بَلَّغَ»، وأجاب غيرُهما بأنَّ المعنى
436
على الديمومة؛ كقوله: ﴿ياا أَيُّهَا النبي اتق الله﴾ [الأحزاب: ١] ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ﴾ [النساء: ١٣٦].
وقوله: «مَا» يحتمل أن تكون اسميةً بمعنى «الَّذِي» ولا يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً؛ لأنه مأمورٌ بتبليغ الجميعِ كما مَرَّ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك؛ فإن تقديرها: «بَلِّغْ شَيْئاً أُنْزِلَ إليْكَ»، وفي «أُنْزِلَ» ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقام الفاعلِ، وتحتملُ على بُعْدٍ أن تكون «مَا» مصدريَّةً؛ وعلى هذا؛ فلا ضمير في «أُنْزِلَ» ؛ لأنَّ «مَا» المصدرية حرفٌ على الصَّحيح؛ فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ، وهو الجارُّ بعده؛ وعلى هذا: فيكونُ التقديرُ: بَلِّغِ الإنْزَالَ، ولكنَّ الإنزالَ لا يُبَلَّغُ فإنه معنى، إلا أن يُراد بالمصدر: أنه واقعٌ موقع المفعول به، ويجوز أن يكون المعنى: «اعلم بتبليغ الإنْزَالِ»، فيكونُ مصدراً على بابه.
والمعنى أظهر تَبْلِيغَهُ، كقوله تعالى: ﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤].

فصل


روي عن مَسْروق [قال] : قالتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «من حدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - كتَم شَيئاً ممّا أنْزل الله، فقد كذب» وهو سبحانه وتعالى يقول: ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ الآية.
ورُوِيَ عن الحسن: أنَّ الله لمَّا بَعَثَ رسولَهُ، وعرف أنَّ مِنَ النَّاس من يُكَذِّبُه، فَنَزَلَتْ هذه الآية، وقيل: نَزَلَتْ في عيب من اليَهُود وذلك أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - دَعَاهُم إلى الإسلام، فقالوا: أسْلَمْنَا قَبْلَكَ، وجعلوا يَسْتهْزِئُون بِهِ فَيَقُولُون: تريد أن نَتَّخِذَكَ حَنَاناً كما اتَّخَذَ النَّصَارى عِيسى حَنَاناً، فلمَّا رأى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك سَكَت، فنزَلَتْ هذه الآية، فأمَرَهُ أنْ يقُولَ لأهْلِ الكِتَاب: ﴿لَسْتُمْ على شَيْءٍ﴾ [المائدة: ٦٨] الآية.
وقيل: بلِّغ الإنْزَال ما أُنْزِلَ إليك من الرَّجْمِ والقِصَاصِ في قصَّةِ اليهود، وقيل: نَزَلَتْ في أمرِ زَيْنَب بِنْتِ جَحْشٍ ونِكَاحها.
437
وقيل: نزلت في الجِهَاد وذلك أنَّ المُنَافِقِين كَرِهوه، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾
[محمد: ٢٠] فكرهَهُ بَعْضُ المُؤمِنين.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ﴾ [النساء: ٧٧] الآية، وكان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يمسك في بعض الأحَايِين عن الحثِّ عن الجهاد لِمَا يَعْلمُ من كَرَاهَةِ بعضهم فأنزَلُ اللَّهُ تعالى هذه الآية، والمَعْنَى: بَلِّغْ واصْبِر على تَبْلِيغ ما أنْزَلَهُ إلَيْك من كَشْفِ أسْرَارهم وفَضَائحِ أفعالهم، فإنَّ الله تعالى يَعْصِمُك من كَيْدِهِم ومَكْرِهِم، وقيل: نزلتَ في حجَّة الوَدَاع، لمَّا بيَّن الشَّرائِع والمَنَاسِكَ قال: هل بلَّغْتُ؟ قالُوا: نَعَمْ قال: اللَّهُم فاشْهَدْ، وقِيلَ: لمَّا نزلَتْ آيَة التَّخْيِير وهِيَ قوْلُه تعالى: ﴿ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا﴾ [الأحزاب: ٢٨] فلم يَعْرِضْهَا عليهنَّ خَوْفاً من اختيارِهِنَّ للدُّنْيَا فنزلت.
قوله تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾، أي: وإنْ لم تفعل التبليغ، فحذف المفعول به، ولم يقل: «وإن لم تبلّغْ فما بلّغتَ» لما تقدَّم في قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ﴾ في البقرة [آية: ٢٤]، والجوابُ لا بُدَّ أن يكون مغايراً للشرط؛ لتحصُل الفائدةُ، ومتى اتَّحدَا، اختلَّ الكلامُ، لو قلتَ: «إنْ أتَى زيدٌ، فقدْ جَاءَ»، لم يَجُزْ، وظاهرُ قوله: «وإنْ لَمْ تَفْعَلْ، فما بَلَّغْتَ» اتحادُ الشرطِ والجزاء، فإن المعنى يَئُولُ ظاهراً إلى قوله: وإن لم تفعل، لم تفعل، وأجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ؛ أسَدُّها: ما قاله الزمخشريُّ، وقد أجاب بجوابَيْنِ:
أحدهما: أنه إذا لم يمتثلْ أمر اللَّهِ في تبليغِ الرِّسالاتِ وكتَمَها كُلَّها؛ كأنه لم يُبْعَثْ رَسُولاً - كان أمراً شنيعاً لا خَفَاء بشناعته، فقيل: إنْ لم تُبَلِّغْ أدنَى شيء، وإن كلمةً واحدةً، فكنْتَ كمَنْ رَكِبَ الأمر الشنيعَ الذي هو كتمانُ كُلِّهَا، كما عَظَّمَ قَتْلَ النفْسِ في قوله: ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً﴾ [المائدة: ٣٢].
والثاني: المراد: وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ذلك، فلك ما يُوجِبُ كتْمَانَ الوَحْي كلِّه من العقابِ، فوضَع السَّبَبَ مَوْضِعَ المُسَبِّبِ؛ ويؤيده: «فأوْحَى الله إليَّ: إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رسَالاَتِي، عَذَّبْتُكَ».
وأجاب ابن عطية: أي: وإنْ تركْتَ شيئاً، فقد تركْتَ الكلَّ، وصار ما بَلَّغْتَ غيرَ معتدٍّ به، فمعنى «وإنْ لَمْ تَفْعَلْ» :«وإنْ لَمْ تَسْتَوْفِ» ؛ ونحوُ هذا قولُ الشاعر: [الطويل]
438
أي: فلم تُعْطِ ما يُعَدُّ نَائِلاً، وإلاَّ يتكاذَبِ البيتُ، يعني بالتكاذُب أنه قد قال: «فَلَم تَبْخَلْ» فيتضمَّن أنه أعطى شيئاً، فقوله بعد ذلك: «ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً» لو لم يقدِّر نَائِلاً يُعْتَدُّ به، تكاذَبَ، وفيه نظرٌ؛ فإن قوله «لَمْ تَبْخَلْ وَلَمْ تُعْطِ» لم يتواردا على محلٍّ واحد؛ حتَّى يتكاذَبا، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قدَّره ابن عطية كَذبُ البيت، وبهذا الذي ذكرتُه يتعيَّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعَمَ أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازعَ فيه ثلاثةُ عواملَ: سُئِلْتَ وتَبْخَلْ وتُعْطِ، وذلك لأن قوله: «وَلَمْ تَبْخَلْ» على قولِ هذا القائلِ متسلِّطٌ على طائِل، فكأنه قيل: فلم تَبْخَلْ بطائلٍ، وإذا لم يبخَلْ به، فقد بذله وأعطاه، فيناقضُه قوله بعد ذلك «ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً».
وقد أفسد ابنُ الخطيب جواب ابنِ عطيَّة فقال: «أجَابَ الجمهُور ب» إنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِداً مِنْهَا، كُنْت كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئاً «، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتَى بالبعض، فإن قيل: إنه ترك الكلَّ، كان كذباً، ولو قيل: إن مقدار الجُرْمِ في ترك البعْضِ مثلُ الجرم في ترك الكل، فهذا هو المُحالُ الممتنعُ؛ فسقط هذا الجوابُ، والأصحُّ عندي: أن يقال: خرج هذا الجوابُ على قانون قوله: [الرجز]
٢٠٠٨ - أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي... ومعناه: أنَّ شِعْرِي قد بلغَ في الكمالِ والفصَاحَةِ والمتانَةِ إلى حيْثُ متى قيل: إنه شِعْري، فقد انتهى مدحُه إلى الغايَةِ التي لا يُزَادُ عليها، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامَّةَ من هذا الوجهِ، فكذا هنا، كأنه قال: فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه، فما بلَّغْتَ رسالاته، يعني: أنه لا يمكنُ أن يوصَفَ ترْكُ التبليغِ بتهديدٍ أعظمَ من أنه ترك التبليغ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد»
.
قال أبو حيان: «وما ضعَّفَ به جوابَ الجُمْهور لا يُضَعَّفُ به؛ لأنه قال:» فإنْ قيل: إنه تركَ الكُلَّ، كان كذباً «، ولم يقولوا ذلك، إنما قالوا: إنَّ بعضها ليس أوْلَى بالأداء مِن بعضٍ، فإن لم تُؤدِّ بعضها، فكأنَّك أغْفَلْتَ أداءَها جميعَها، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضها كان كَمَنْ لم يؤمنْ بكلِّها؛ لإدلاءِ كلٍّ منها بما يُدْلِي به غيرُها، وكونُها كذلك في حكْمِ شيءٍ واحدٍ، والشيءُ الواحدُ لا يكون مبلَّغاً غير مبلَّغ، مُؤمَناً به غيرَ مؤمنٍ به؛ فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غير معتدٍّ به»، قال شهاب الدين: وهذا الكلام الأنِيقُ، أعني: ما وقع به الجواب عن اعتراضِ الرَّازِيِّ كلامُ الزمخشري أخَذَه ونقله إلى هنا، وتمامُ كلام الزمخشريِّ: أن قال بعد قوله: «غَيْرَ مُؤمَنٍ»، وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «إنْ كَتَمْتَ آيَةً لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاَتِي»، وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «بَعَثَنِي الله بِرِسَالاتِهِ، فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعاً، فأوْحَى الله إلَيَّ: إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاتِي، عَذَّبْتُكَ وضَمِنَ لِي
439
العِصْمَةِ؛ فقَوِيتُ»، قال أبو حيَّان: «وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرْمِ في تَرْكِ البعْضِ مثلُ الجُرْم في ترك الكلِّ مُحالٌ ممتنعٌ، فلا استحالة فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنْبِ اليسيرِ العقابَ العظيمَ، وبالعكس، ثم مَثَّلَ بالسارقِ الآخِذِ خفيةً يُقْطَعُ ويُرَدُّ ما أخَذَ، وبالغاصبِ يُؤخَذُ منه ما أخذ دونَ قَطْعٍ».
وقال الواحديُّ: أي: إنْ يَتْرُك إبلاغَ البعْضِ، كان كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ؛ لأنَّ تَرْكه البعضَ مُحْبِطٌ لإبلاغِ ما بلَّغَ، وجُرْمَهُ في كتمانِ البعضِ كجُرْمِهِ في كتمان الكلِّ؛ في أنه يستحقُّ العقوبة من ربِّهِ، وحاشا لرسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أوْحَى الله تعالى إليه، وقد قالت عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «مَنْ زَعَمَ أنَّ رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَتَمَ شَيْئاً من الوحْي، فقَدْ أعْظَمَ عَلى الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول: ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ﴾، ولو كَتَم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شَيْئاً من الوحْيِ، لَكَتَمَ قولَهُ تعالى: ﴿وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧] الآية»، وهذا قَريبٌ من الأجوبة المتقدِّمة؛ ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤالِ المتقدِّم الحديثُ الصحيحُ عن عُمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتَهُ إلى الله ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله ورسُولِه» فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرطِ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحْصُلُ به المغايرةُ، فقالوا: «تقدِيرُهُ: فمنْ كانَتْ هجرتُهُ إلى الله ورسُولِهِ نيَّةً وقصْداً فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ حُكْماً وشَرْعاً، ويمكنُ أن يأتِيَ فيه جوابُ الرَّازِيِّ الذي اختاره.
وقرأ نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر:»
رِسَالاَتِهِ «جَمْعاً، والباقون:» رِسَالَتَهُ «بالتوحيد، ووجهُ الجمْع: أنه عليه السَّلام بُعِثَ بأنْواعٍ شتَّى من الرسالة؛ كأصول التوحيد، والأحكام على اختلاف أنواعها، والإفرادُ واضحٌ؛ لأنَّ اسمَ الجنس المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك، وقد قال بعض الرسُلِ: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي﴾ [الأعراف: ٦٢]، وبعضُهم قال: ﴿رِسَالَةَ رَبِّي﴾ [الأعراف: ٧٩] ؛ اعتباراً للمعنيين.
قوله تعالى: ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ أي: يَحْفَظُكَ، ويمنعُكَ من النَّاسِ.
»
رُوِيَ أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نزل تَحْتَ شَجَرَةٍ في بَعْضِ أسْفَارِه وعلق سَيْفَه عليها، فأتَاه أعْرَابِيٌّ - وهو نَائِمٌ -، فأخذ سَيْفَهُ واخْتَرَطَهُ، وقال: يا مُحَمَّدُ من يَمْنَعُك مِنِّي؟ فقال: «اللَّهُ» فرعدت يَدُ الأعْرَابِيِّ، وسقطَ من يده، وضرب برأسه الشَّجَرة حتى انْتَثَر دِمَاغُهُ «، فأنزل اللَّهُ تعالى ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾.
440
فإن قيل: كيْفَ الجَمْعُ بين هذه الآية وبين ما رُوِيَ أنَّه شُجَّ في وجْهِه يوم أحد وكسرت رَبَاعِيَّتُهُ، وأوذي بِضُرُوبٍ من الأذَى.
فالجواب من وجوه:
فقيل: يَعْصِمُك من القَتْلِ، فلا يَصِلُوا إلى قَتْلِك.
وقيل: نزلَتْ هذه الآية بعدمَا شُجَّ رَأسُهُ يَوْم أُحُدٍ؛ لأنَّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القُرْآن.
والمُراد ب» النَّاس «هاهنا: الكفار لقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾.
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
»
كان رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يَحْرُسُه سَعْدٌ وحُذَيْفَة حتى نَزَلتْ هذه الآية، فأخْرَجَ رَأسَهُ مِنْ قُبَّةِ أديمٍ فقال: «انْصَرِفُوا أيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ».
وقيل: المُراد والله يَخُصُّكَ بالعِصْمَة من بين النَّاسِ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - معصُومٌ ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾.
441
لمَّا أمره الله بالتَّبْلِيغ فقال: قل يا أهْلَ الكِتَابِ من اليَهُود والنَّصَارى لَسْتُمْ على شَيْءٍ من الدِّين، ولا في أيْدِيكم شَيْءٌ من الحقِّ والصَّوَاب، كما تقول: هذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذا أرَدْتَ تَحْقِيره.
وقوله تعالى: ﴿حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾، وقد تقدَّم الكلام على نظيرِه، والتَّكْريرُ للتَّأكيد.
وقوله: ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين﴾ فيه وجهان:
أحدهما: لا تأسَفْ عليهم بسبب طغيانهم وكُفْرِهم، فإنَّ ضرر ذلك راجعٌ إليهم، لا إلَيْكَ ولا إلى المُؤمنين.
والثاني: لا تأسَفْ بسبب نُزُولِ اللَّعْن والعذابِ عليهم فإنَّهُمْ من الكَافِرِين المُسْتَحِقِّين لِذَلك.
441
وروى ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - «أنَّ جماعَةً مِنَ اليَهُود قالوا: يا مُحَمَّد ألَسْتَ تُقِرُّ أنَّ التَّوْرَاة حَقٌّ مِنْ عند اللَّهِ تَعَالى؟ قال: بلى، قالُوا: فإنَّا مُؤمِنُون بها، ولا نُؤمِن بِغَيْرها»، فنَزَلَتْ هذه الآية.
442
قرأ الجمهور: «والصَّابئُونَ» بالواو، وكذلك هو في مصاحِفِ الأمْصَار، وفي رفعه تسعة أوجه:
أحدها: وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة: الخليل وسيبويه وأتباعهما أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ؛ لدلالةِ خبر الأول عليه، والنيةُ به التأخيرُ، والتقديرُ: إنَّ الذينَ آمَنُوا والذينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ منهم إلى آخره والصَّابِئُونَ كذلك، ونحوه: «إنَّ زَيْداً وعمرٌو قائمٌ»، [أي: إنَّ زَيْداً قائِم وعمرٌو قائمٌ]، فإذا فعَلْنا ذلك، فهل الحذفُ من الأول أي: [يكونُ] خبرُ الثاني مثبتاً، والتقديرُ: إنَّ زَيْداً قائِمٌ وعمرٌو قائمٌ، فحذف «قائمٌ» الأول، أو بالعكس؟ قولان مشهوران، وقد وَرَد كلٌّ منهما؛ قال: [المنسرح]
٢٠٠٧ - سُئِلْتَ فَلَمْ تَبْخَلْ، وَلَمْ تُعْطِ نَائِلاً فَسِيَّان لا حَمْدٌ عَلَيْكَ وَلاَ ذَمُّ
٢٠٠٩ - نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ
أي: نحنُ راضُونَ، وعكْسُه قوله: [الطويل]
٢٠١٠ - فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمدِينَةِ رَحْلُهُ فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
التقدير: وقيارٌ بها كذلِكَ، فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ: أنه يلزم من ذلك دخولُ اللامِ في خَبَر المبتدأ غيرِ المَنْسُوخِ ب «إنَّ»، وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضَرُورة شِعْرٍ، فالآيةُ يجوزُ فيها هذا التقديران على هذا التخْريج، قال الزمخشريُّ: «والصَّابئُونَ: رفعٌ على الابتداء، وخبرُه محذوفٌ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز» إنَّ «من اسمها وخبرها؛ كأنه قيل: إنَّ الذين آمَنُوا والذينَ هَادُوا والنَّصارى حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ والصَّابِئُونَ كذلكِ؛ وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك: [الوافر]
٢٠١١ - وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ
أي: فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنْتُمْ كذلك»
ثم قال بعد كلامٍ: «فإنْ قلْتَ: فقوله» والصَّابئُونَ «معطوفٌ لا بدَّ له من معطوفٍ عليه، فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ إلى آخره، ولا محلَّ لها؛ كما لا محلَّ
442
للتي عطفتْ عليها، فإن قلتَ: فالتقديمُ والتأخيرُ لا يكون إلا لفائدةً، فما هي؟ قلتُ: فائدتُه التنبيهُ على أن الصابئين يُتابُ عليهم، إنْ صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالحُ، فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاءِ المعدُودِينَ ضَلاَلاً وأشدُّهم عِتِيّاً، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَئُوا عن الأديان كلِّها، أي: خَرَجُوا؛ كما أن الشاعر قدَّمَ قوله:» وأنْتُمْ «؛ تنبيهاً على أن المخاطبينَ أوغلُ في الوصْفِ بالبغْيِ من قومِه، حيثُ عاجلَ به قبل الخبر الذي هو» بُغاةٌ «؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغيِ قبلهم مع كونهم أوغلَ فيه منهم وأثبتَ قدماً، فإن قُلْتَ: فلو قيل:» والصَّابئينَ وإيَّاكُمْ «، لكان التقديمُ حاصلاً، قلت: لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء؛ لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه، وإنما يُقال مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ للمُزَالِ لا للقارِّ في مكانه، وتجْرِي هذه الجملة مَجْرَى الاعتراض».
الوجه الثاني: أنَّ «إنَّ» بمعنى «نَعَمْ» فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفعِ، وخبرُ الجميعِ قوله: «مَنْ آمَنَ» إلى آخره، وكونُها بمعنى «نَعَمْ» قولٌ مرجوحٌ، قال به بعضُ النحْويِّين، وجعل من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ﴾ [طه: ٦٣] في قراءةِ من قرأهُ بالألف، وفي الآية كلامٌ طويلٌ يأتي - إنْ شاء الله تعالى - في موضعه، وجعل منه أيضاً قول عبد الله بْنِ الزُّبَيْر: «إنَّ وصاحبهَا» جواباً لمنْ قال له: «لَعَنَ الله ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ»، أي: نَعَمْ وصاحِبهَا، وجعل منه قول الآخر: [الكامل]
٢٠١٢ - بََرَزَ الغَوَانِي فِي الشَّبَا بِ يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ
أي: نَعَمْ، والهاءُ للسكْتِ، وأجيبَ: بأنَّ الاسم والخبر محذوفان في قول ابن الزُّبَيْرِ، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه، والتقديرُ: إنَّها وصاحِبُهَا ملعونَانِ، وتقدير البيتِ: إنَّهُ كذلِكَ، وعلى تقدير أَنْ تكون بمعنى «نَعَمْ»، فلا يَصِحُّ هنا جعلُهَا بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيءٌ تكونُ جواباً له، و «نَعَمْ» لا تقعُ ابتداءَ كلامٍ، إنما تقع جواباً لسؤالٍ، فتكونُ تصديقاً له، ولقائل أن يقول: يجوزُ أن يكُونَ ثَمَّ سُؤالٌ مقدَّرٌ، وقد ذَكرُوا ذلك في مواضِعَ كثيرةٍ منها قوله تعالى: ﴿لاَ أُقْسِمُ﴾ [القيامة: ١] ﴿لاَ جَرَمَ﴾ [هود: ٢٢]، قالوا: يُحتملُ أن يكونَ ردّاً لقائلِ كَيْتَ وكَيْتَ.
الوجه الثالث: أن يكون معطوفاً على الضَّميرِ المستكنِّ في «هَادُوا» أي: هَادُوا هم
443
والصَّابئُونَ، وهذا قول الكسائيِّ، ورَدَّه تلميذُهُ الفرَّاء والزَّجَّاج. قال الزَّجَّاج: «هو خطأٌ من جهتَيْن» :
إحداهما: أن الصابئ في هذا القولِ يشاركُ اليهوديَّ في اليهوديَّة، وليس كذلك، فإن الصابئ هو غيرُ اليهوديِّ، وإن جُعِلَ «هَادُوا» بمعنى «تَابُوا» من قوله تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] لا من اليهوديَّة، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى «الَّذِينَ آمَنُوا» في هذه الآية؛ إنما هو إيمانٌ بأفواهِهِم؛ لأنه يريد به المنافقين؛ لأنه وصفُ الذين آمَنُوا بأفواههمْ ولم تؤمِنْ قلوبُهُمْ، ثم ذكر اليهودَ والنصارى، فقال: مَنْ آمَنَ منهُمْ بالله، فله كذا، فجعَلَهُمْ يهوداً ونصارى، فلو كانوا مؤمنين، لم يحتجْ أنْ يقال: «مَنْ آمَنَ، فَلَهُمْ أجْرُهُمْ»، وأُجِيبَ بأن هذا على أحدِ القولينِ، أعني: أنَّ «الَّذِينَ آمَنُوا» مؤمنُونَ نفاقاً، ورَدَّهُ أبو البقاء ومكي بن أبي طالبٍ بوجه آخر، وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعْطُوفِ عليه، قال شهاب الدين: هذا لا يلزمُ الكسائيَّ من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحةُ، والله أعلم، وهذا القولُ قد نقله مكيٌّ عن الفرَّاء، كما نقله غيره عن الكسائيِّ، وردَّ عليه بما تقدَّمَ، فيحتملُ أن يكونَ الفرَّاء كان يوافق الكسائيَّ، ثم رجَع، ويحتمل أن يكون مخالفاً له، ثم رجع إليه، وعلى الجُمْلةِ، فيجوز أن يكونَ له في المَسْألة قولان.
الوجه الرابع: أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم «إنَّ» ؛ لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، فلمَّا دخلَتْ عليه، لم تُغَيِّر معناه، بل أكدَتْهُ، غايةُ ما في الباب: أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً، ولذلك اختصَّتْ هي و «أنَّ» بالفتح، ولكن على رأي بذلك، دون سائر أخواتها؛ لبقاء معنى الابتداء فيها، بخلاف «لَيْتَ ولعلَّ وكَأنَّ»، فإنه خرج إلى التمنِّي والتَّرَجِّي والتشبيه، وأجرى الفراء الباب مُجْرًى واحداً، فأجاز ذلك في لَيْتَ ولعلَّ، وأنشد: [الرجز]
٢٠١٣ - يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ
فأتى ب «أنْتِ»، وهو ضميرُ رفع نسقاً على الياء في «لَيْتَنِي»، وهل يَجْري غيرُ العطْفِ من التوابع مَجْرَاهُ في ذلك؟ فذهَبَ الفرَّاء ويونُسُ إلى جوازِ ذلك، وجعلا منه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب﴾ [سبأ: ٤٨] فرفعُ «علاَّم» عندهما على النعْتِ ل «
444
رَبِّي» على المحلِّ، وحكوا «إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ»، وغلَّط سيبويه مَنْ قال من العرب: «إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ»، وأخذ الناس عليه في ذلك من حيْثُ إنه غَلَّط أهْلَ اللسان، وهم الواضعُون أو المتلقُّون من الواضعِ، وأجيبَ بأنهم بالنسبة إلى عامَّة العرب غالطُونَ، وفي الجملة: فالناسُ قد رَدُّوا هذا المَذهبَ، أعني: جواز الرفع عطفاً على محلِّ اسم «إنَّ» مطلقاً، أعني قبل الخبر وبعده، خَفِيَ إعرابُ الاسم أو ظهر، ونقل بعضهم الإجماع على جوازِ الرفْعِ على المحلِّ بعد الخبر، وليس بَشْيء، وفي الجملة: ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ: مذهبُ المحقِّقين: المنعُ مطلقاً، مذهبُ بعضهم: التفصيلُ قبل الخَبَر؛ فيمتنعُ، وبعده؛ فيجوز، ومذهب الفراء: إنْ خَفِيَ إعرابُ الاسمِ، جاز ذلك؛ لزوال الكراهية اللفظية، وحُكِيَ من كلامهم: «إنَّكَ وَزَيْد ذَاهِبَانِ»، الرابع: مذهب الكسائيِّ: وهو الجوازُ مطلقاً؛ ويستدلُّ بظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ﴾ الآية، وبقول ضَابِىءٍ البُرْجُمِيِّ: [الطويل]
٢٠١٤ - فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدينةِ رَحْلُهُ فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
وبقوله: [البسيط]
٢٠١٥ - يَا لَيْتَنَا وَهُمَا نَخْلُو بِمَنْزِلَةٍ حَتَّى يَرَى بعْضُنَا بَعْضاً وَنَأتَلِفُ
وبقوله: [الوافر]
٢٠١٦ - وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ......................
وبقوله: [الرجز]
٢٠١٧ - يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ... وبقولهم: «إنَّكَ وَزَيْدٌ ذَاهِبَانِ»، وكلُّ هذه تَصْلُحُ أن تكونَ دليلاً للكسائيِّ والفراء معاً، وينبغي أن يُوردَ الكسائيُّ دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعراب الاسم؛ نحو: «إنَّ زَيْداً وعَمْرو قائِمَانِ»، وردَّ الزمخشريُّ الرفع على المحلِّ؛ فقال: «فإنْ قلتَ: هلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطْفِ على محَلِّ» إنَّ «واسمها، قلتُ: لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخَبَرِ، لا تقول:» إنَّ زَيْداً وعمرٌو مُنْطَلِقَانِ «، فإنْ قلتَ: لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ، وكأنك قلتَ: إنَّ زَيْداً مُنْطلقٌ وعمرٌو؟ قلتُ: لأني إذا رفعته رفعتُه على محلِّ» إنَّ «واسمها، والعاملُ في محلِّهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخَبَرِ؛ لأنَّ الابتداء
445
ينتظم الجزأيْنِ في عمله، كما تنتظِمُها» إنَّ «في عملها، فلو رَفَعْتَ» الصَّابِئُونَ «المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء، وقد رفعت الخبر ب» إنَّ «، لأعْمَلْتَ فيهما رافعيْن مختلفين»، وهو واضحٌ فيما رَدَّ به، إلاَّ أنه يُفْهِمُ كلامُه أنه يُجيزُ ذلك بعد استكمال الخَبَر، وقد تقدَّم أنَّ بعضهم نقل الاجماع على جوازه.
وضعَّف ابنُ الخطيب ما قاله الزَّمَخْشَرِيُّ، قال: هذا الكلام ضَعِيفٌ وبَيَانُه من وجوه:
الأوَّل: أنَّ هذه الأشْيَاء التي يُسَمِّيها النَّحْويُّونَ: رَافِعَةً وناصبةً، ليس معناهُ أنَّهَا كذلك لذَوَاتها ولأعْيَانِها، فإنَّ هذا لا يقوله عاقل، بل المراد أنَّهُمَا مُعَرَّفانِ بحسَبِ الوضْعِ والاصْطِلاَح لهذه الحركات، واجْتِمَاع المُعَرَّفَات الكَثيرَة على الشَّيْءِ والوَاحِدِ غير مُحَالٍ، ألا ترى أنَّ جَمِيع أجْزَاء المُحْدَثَاتِ دَالَّةٌ على وُجُودِ اللَّه تعالى؟
الثاني: أنَّ هذا الجواب بناءٌ على أنَّ كلمة «إنَّ» مُؤثِّرة في نَصْبِ الاسْم ورفْعِ الخبر، والكُوفِيُّونَ يُنْكِرون ذلك، ويقولون: لا تَأثِير لهذا الحَرْفِ في رَفْعِ الخَبَرِ ألْبَتَّةً.
الثالث: أنَّ الأشْيَاء الكَثِيرة إذا عُطِفَتْ بَعْضُهَا على بَعْض، فالخَبَرُ الوَاحِدُ لا يكُونُ خَبَراً عنهم؛ لأنَّ الخبر عن الشَّيْءِ إخبارٌ عن تَعْريف حالِهِ وبيان صِفَتِهِ، ومن المُحَال أن يكون حالُ الشَّيء وَصِفَتُهُ عينُ حَالِ الآخَرِ وعيْنُ صفتِهِ، لامتناع قيام الصِّفة الواحدة للذَّوات المُخْتَلِفَة، وإذا ثَبَتَ هذا ظهر أنَّ الخَبَر، وإنْ كان في اللَّفْظِ واحِداً، لكنَّه في التقدير مُتَعَدِّدٌ، وإذا حصل التَّعَدُّدُ في الحقيقةِ، لم يمتنع كَوْنُ البَعْضِ مرتَفِعاً بالخَبَر، وبَعْض بالابْتِدَاء بهذا التَّقْدير، ولم يلزم اجْتِمَاعُ الرَّافِعَيْن على مَرْفُوعٍ واحدٍ.
والذي يُحَقِّقُ ذلك أنَّهُ سَلَّم أنَّ بعد ذَكْرِ الاسْمِ وخَبَرهِ جَازَ الرَّفْعُ والنَّصْبُ في المَعْطُوفِ عليه، ولا شكَّ أنَّ هذا المَعْطُوفَ إنَّما جَازَ ذَلِكَ فيه؛ لأنَّا نُضْمِرُ له خَبَراً، وحَكَمْنَا بأنَّ ذلك الخَبَرَ المُضْمَر مُرْتَفِعٌ بالابْتِدَاء.
وإذا ثَبَت هذا فَنَقُول: إن قبل ذكر الخبر إذا عَطَفْنَا اسماً على اسم، حكم صَريح العَقْل، بأنَّهُ لا بُدَّ من الحُكْمِ بتقدير الخَبَرِ، وذلك إنَّما يحصل بإضمار الأخْبَار الكَثِيرَة، وعلى هذا التقديرِ يَسْقُطُ ما ذكر من الإلْزَام.
الوجه الخامس: قال الواحديُّ: «وفي الآية قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية: وهو أنْ تُضْمِرَ خبرَ» إنَّ «، وتبتدئ» الصَّابِئُونَ «، والتقدير:» إنَّ الذينَ آمَنُوا والذين هَادُوا يُرْحَمُونُ «على قولِ من يقولُ: إنَّهم مسْلِمُونَ، و» يُعَذِّبُونَ «على قولِ من يقول: إنهم كفَّار، فيُحْذَفُ الخبرُ؛ إذ عُرِف موضِعُه؛ كما حُذِف من قوله:
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر﴾ [فصلت: ٤١]، أي: يُعَاقَبُونَ «ثم قال الواحديُّ: وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريِّينَ، غيرَ أنَّهم
446
يُضْمِرُون خبر الابتداءِ، ويجعلُونَ» مَنْ آمَنَ «خبرَ» إنَّ «، وهذا على العكْسِ من ذلك؛ لأنه جعل» مَنْ آمنَ «خبر الابتداء، وحذفَ خبرَ» إنَّ «، قال شهاب الدين: هو كما قال، وقد نَبَّهْت على ذلك في قَوْلِي أولاً: إنَّ مِنْهُم مَنْ يُقَدِّر الحذف من الأوَّلِ، ومنهم مَنْ يَعْكِسُ.
الوجه السادس: أنَّ»
الصَّابِئُونَ «مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ؛ كمذهب سيبويه والخليلِ، إلا أنه لا يُنْوى بهذا المبتدأ التأخيرُ، فالفرقُ بينه وبين مذهب سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها، قال أبو البقاء:» وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لما فيه من لزومِ الحذْفِ والفصلِ «، أي: لِما يلزمُ من الجَمْع بين الحذفِ والفَصْلِ، ولا يَعْنِي بذلك؛ أنَّ المكان من مواضع الحذف اللازمِ؛ لأنَّ القرآن يلزمُ أنْ يُتْلَى على ما أُنْزِلَ، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ.
الوجه السابع: أنَّ»
الصَّابِئُونَ «منصوبٌ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرثِ وغيرهمُ الذين يَجْعَلون المثنَّى بالألفِ في كل حال؛ نحو:» رأيْتُ الزَّيْدَانِ، ومَرَرْتُ بالزَّيْدَانِ «نقل ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها؛ أنه رأى الألف علامةَ رفعِ المثنَّى، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجرًّا، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً، فيبقى في حالةِ النصْب والجرِّ؛ كما بَقِيت الألفُ، وهذا ضعيفٌ، بل فَاسدٌ.
الوجه الثامن: أنَّ علامةَ النصب في»
الصَّابِئُونَ «فتحةُ النون، والنونُ حرفُ الإعراب، كهي في» الزَّيْتُونِ «و» عُرْبُونٍ «، قال أبو البقاء:» فإنْ قيلَ: إنما أجاز أبو عليٍّ ذلك مع الياءِ، لا مع الواوِ، قيل: قد أجازه غيرُه، والقياسُ لا يدفعُهُ «، قال شهاب الدين: يشير إلى مسألة، وهو: أن الفارسيَّ أجازَ في بعضِ جموعِ السَّلامة، وهي ما جَرَتْ مجرى المكسَّرِ كَبنينَ وسِنينَ؛ أن يَحُلَّ الإعرابُ نونها؛ بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصَّةً دونَ الواوِ، فيقال:» جاءَ البَنِينُ «؛ قال: [الوافر]
٢٠١٨ - وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَلِيٌّ أباً بَرًّا ونَحْنُ لَهُ بَنِينُ
وفي الحديث:»
اللَّهُمَّ، اجْعَلْهَا عَلَيهِمْ سِنيناً كَسِنين يُوسُفَ «؛ وقال: [الطويل]
447
فأثْبَتَ النونَ في الإضافةِ، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ؛ ووجِّهتْ بأن علامة النصب فتحةُ النونِ، وكانَ المشْهُورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسيُّ، سأل أبو البقاء هذه المسألة، وأجاب بأنَّ غيره يُجيزُهُ حتَّى مع الواو، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه، قال شهاب الدين: القياسُ يأباه، والفرقُ بين حال كونه بالياء وبين كونه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في» شَرْحِ التَّسْهِيلِ «، نعم، إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ، جاز فيه خمسةُ أوجه:
أحدها: أنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ، ويصيرَ نظيرَ»
الذون «، فيقال:» جَاءَ الزَّيْدُونُ ورَأيْتُ الزَّيْدُونَ ومَرَرْتُ بالزَّيْدُونِ «، ك» جَاءَ الذُونُ ورَأيْتُ الذونَ ومَرَرْتُ بالذونِ «، هذا إذا سُمِّيَ به، أمَّا ما دام جمعاً، فلا أحْفَظُ فيه ما ذكره أبو البقاءِ، ومن أثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نَفَى، لا سيما مع تقدُّمِه في العلمِ والزمان.
الوجه التاسع: قال مكيٌّ: «وإنما رفع»
الصَّابِئُونَ «؛ لأن» إنَّ «لم يظهر لها عملٌ في» الَّذينَ «فبقي المعطوفُ على رفعه الأصليِّ قبل دخول» إنَّ «على الجملة»، قلت: وهذا هو بعينه مذهَبُ الفراء، أعني: أنه يجيز العطف على محلِّ اسم «إنَّ» إذا لم يظهر فيه إعرابٌ، إلا أن عبارة مَكيٍّ لا توافق هذا ظاهراً.
قال ابنُ الخطيبِ مُعَلِّلاً قول الفرَّاء: أن «إنَّ» ضعيفةٌ في العَمَلِ هاهنا، وبيانُهُ مِنْ وجوه:
الأوَّلُ: أنَّ كلمة «إنَّ» لم تَعْمَلْ إلاَّ لكوْنِهَا مُشابِهَة للفِعْل، ومعلُومٌ أنَّ المشابَهَة بين الفِعْلِ والحَرْفِ ضَعِيفَةٌ.
الثاني: أنَّها، وإن كانَت تَعْمَل في الاسمِ فقط، أمَّا الخَبَر، فإنَّه يبقى مَرْفُوعاً، لِكَوْنِه خَبَرَ المُبْتَدَأ، وليس لهذا الحرف في رَفْعٍ الخَبَرِ تَأثيرٌ، وهذا مَذْهَبُ الكُوفيِّين.
والثالث: أنَّهَا إنما يَظْهَرُ أثَرُهَا في تَغْيير الأسْمَاءِ أمَّا الأسماءُ الَّتِي لا تَتَغيَّرُ عند اختلافِ العوامل، فلا يظهر أثَرُ هذا الحرف فيها، والأمر هاهُنا كذلك؛ لأنَّ الاسمَ هاهُنَا هو قوله «الَّذِين» وهذه الكَلِمَةُ لا يظهر فيها أثَرُ النَّصْبِ والرَّفْعِ والخَفْضِ.
وَإذا ثبت هذا فَنَقُولُ: إذَا كان اسم «إنَّ» بحيث لا يَظْهَرُ فيه أثَرُ الإعراب، فالَّذِي يُعْطَفُ عليه يجُوز النَّصْبُ فيه على إعْمَال هذا الحَرْفِ، والرَّفْعُ على إسْقَاطِ عَمَلِه، فلا يَجُوز أن يُقَال: «إنَّ زيداً وعَمْراً قَائِمَان» لأنَّ زيْداً ظهر فِيهَا أثَرُ الإعراب، ويجُوزُ أن يُقَال: «إنَّ هؤلاءِ إخْوتكَ يُكْرِمُونَنَا، وإنَّ قَطَامَ وهِنْد عِنْدنَا» والسَّبَبُ في جَوَازِ ذلك أنَّ
448
كَلِمَة «إنَّ» كانَتْ في الأصْلِ ضعيفَةُ العَمَل، فإذَا صارت بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ لَهَا أثَرٌ في اسمهَا صَارَتْ في غاية الضَّعفِ، فجاز الرَّفْعُ بِمُقْتَضَى الحُكْم الثَّابِتِ قبل دخول هذا الحَرْفِ عليه، وهو كَونُهُ مُبْتَدأ، فهذا تَقْرِير قول الفرَّاء، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ، وأولى من مذهَبِ البصْرِيِّين؛ لأن الَّذي قالوه يَقْتَضِي أنَّ كلام الله على التَّرْتِيب الَّذِي وردَ عليه ليس بصحيح، وإنَّمَا تَحصُل الصِّحَّة عند تَفْكيكِ هذا النَّظْمِ، وعلى قوْلِ الفرَّاءِ فلا حاجَةَ إليه، فكَانَ ذلك أوْلَى.
وقرأ أبيُّ بن كعْبٍ، وعثمان بنُ عفان، وعائشةُ، والجحْدَرِيُّ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، وجماعة: «والصَّابئينَ» بالياء، ونقلها صاحب «الكَشَّاف» عن ابن كثيرٍ، وهذا غير مشهُور عنه، وهذه القراءةُ واضحةُ التخريج؛ عطفاً على لفظِ اسْم «إنَّ»، وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصْحَفِ، فيه مخالفةٌ يسيرةٌ، ولها نظائرُ كقراءة قُنْبُلٍ عن ابن كثيرٍ: ﴿سراط﴾ [الفاتحة: ٥] وبابه بالسين، وكقراءة حمزة إيَّاهُ في روايةٍ بالزَّاي، وهو مرسومٌ بالصَّاد في سائر المصاحِف، ونحو قراءة الجميع: ﴿إيلافهم﴾ [قريش: ١] بالياء، والرسم بدونها في الجميعِ، وقرأ الحسن البصريُّ والزهريُّ: «والصَّابيُون» بكسر الباء بعدها ياءٌ خالصة، وهو تخفيف للهمزة، كقراءة من قرأ: ﴿ «يستهزيون﴾ [الأنعام: ٥] بخلوص الياء، وقد تقدَّم قراءة نافعٍ في البقرة [الآية ٦٢].
وأما»
النَّصَارى «، فهو منصوب عطْفاً على لفظ اسمِ» إنَّ «، ولا حاجة إلى ادِّعاء كونه مرفوعاً على ما رفع به» الصابئُونَ «؛ لكلفةِ ذلك.
قوله تعالى:»
مَنْ آمَنَ «يجوز في» مَنْ «وجهان:
أحدهما: أنها شرطيةٌ، وقوله:»
فلا خَوْفٌ «إلى آخره جوابُ الشرط، وعلى هذا ف» آمَنَ «في محل جزمٍ بالشرط، و» فلا خَوْفٌ «في محلِّ جزمٍ بكونه جوابه، والفاءُ لازمةٌ.
والثاني: أن تكون موصولةً والخبر»
فلا خوفٌ «، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ، ف» آمَنَ «على هذا لا محلَّ له؛ لوقوعه صلةً، و» فَلا خَوفٌ «محلُّه الرفعُ لوقوعه خبراً، والفاءُ جائزةُ الدخولِ، لو كان في غير القرآن، وعلى هذين الوجهين، فمحلُّ» مَنْ «رفعٌ بالابتداء، ويجوز على كونها موصولةً: أن تكون في محلِّ نصب بدلاً من اسم» إنَّ «وما عُطِف عليه، أو تكون بدلاً من المعطوفِ فقط، وهذا على الخلافِ في» الَّذِينَ آمَنُوا «: هل المرادُ بهم المؤمنونَ حقيقةً، أو المؤمنونَ نِفَاقاً؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدِّمة، فالعائدُ من هذه الجملة على» مَنْ «محذوفٌ، تقديرُه:» مَنْ آمن مِنْهُمْ «؛ كما صَرَّح به في موضعٍ آخر، وتقدَّم إعرابُ باقي الجُمْلَةِ فيما مَضَى.
449

فصل في معنى الآية


معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾، أي: باللِّسَان وقوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ بالقَلْبِ، وعلى هذا فالمُرَادُ بِهِم: المنافقون، وقيل: إنَّ الذين على حقيقةِ الإيمان ﴿مَنْ آمَنَ بالله﴾ أي: ثبتَ على الإيمان باللَّه واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُون.
ولهذا التكرير فائدتان:
الأولى: أن المُنَافِقِين كانوا يَزْعُمُون أنَّهُم مُؤمِنُون، فأخْرَجَهُمْ بهذا التكرير عن [وعد] عدمِ الخَوْف، وعدمِ الحزن.
والثاني: أنَّهُ تعالى ذكر لَفْظَ الإيمان، والإيمانُ يدخل تحته أقسامٌ: فأشرفُها: الإيمان باللَّهِ واليوم الآخر، فكرره تنبيهاً على أنَّ هذيْنِ القسمَيْن أشْرَف أقْسَام الإيمان.
وقد تقدَّمَ في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ [المائدة: ٣٥] كلامٌ يناسب هذا الموضع.
واعلم أنَّه لما بَيَّنَ أن أهل الكِتاب ليسُوا على شَيء ما لم يُؤمِنُوا بيَّن أنَّ هذا الحُكْمَ عامٌّ في الكُلِّ، وأنَّهُ لا يَحْصُلُ لأحدٍ فضيلة إلاَّ إذا آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخَرِ، وعَمِلَ صَالِحاً.
قالت المُعَتزِلَة: إنَّه تعالى شرَطَ عدمَ الخَوْفِ والحُزْن بالإيمان والعَمَلِ الصَّالح، والمشروط بالشَّيء عدم عند عدمِ الشَّرْطِ، فإنْ لم يَأتِ مع الإيمان بالعملِ الصَّالِح، فإنَّه يحصل له الخَوْفُ والحزن، وذلكَ يَمْنَعُ من العَفْوِ عن صاحبِ الكَبيرَة.
والجواب: أنَّ صاحِبَ الكَبيرَةِ لا يقطعُ بأنَّ الله يَعْفُو عنه لا مَحَالَة، فكان الخَوْفُ والحزن حاصِلاً قبل إظهَارِ العَفْو والله أعلم.
450
والمقصودُ: بيان عُيُوب بني إسرائيل، وشدَّة تَمَرُّدهم عن الوفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وهذا مُتعلِّقٌ بأوَّلِ السُّورة، وهو قولُه تعالى: ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾ [المائدة: ١].
قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ﴾ : قد تقدَّم الكلامُ [الآية ٢٠ من البقرة] على «كُلَّمَا» مشبَعاً، فأغْنَى عن إعادته، وقال الزمخشريُّ: «كُلَّمَا جاءَهُمْ رسولٌ» جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةٌ ل «رُسُلاً»، والراجعٌ محذوفٌ، أي: «رسولٌ منهُمْ»، ثم قال: «فإنْ قلتَ: أينَ جوابُ الشرط، فإنَّ قوله: ﴿فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ﴾ ناب عن الجواب؛ لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقَيْن؛ ولأنه لا يحسُن أن تقول:» إنْ أكْرَمْتَ أخِي، أخَاك
450
أكْرَمْتُ «؟ قلتُ: هو محذوفٌ؛ يَدُلُّ عليه قوله: ﴿فَرِيقاً كَذَّبُواْ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ﴾، كأنه قيل: كلما جاءهم رسولٌ، ناصَبُوه، وقوله:» فَرِيقاً كَذَّبُوا «جوابٌ مستأنفٌ لقائلٍ يقول: كيف فعلُوا برسُلِهِمْ؟» قال أبو حيان: «وليس» كُلَّمَا «شرطاً، بل» كُلَّ «منصوبٌ على الظرف و» مَا «مصدريةٌ ظرفيةٌ، ولم يجزم العربُ ب» كُلَّّمَا «أصلاً، ومع تسليم أن» كُلَّمَا «شرط؛ فلا يمتنع؛ لما ذكر، أمّا الأول؛ فلأنَّ المرادَ ب» رَسُول «الجنسُ لا واحدٌ بعينه، فيصحُّ انقسامُه إلى فريقَيْن؛ نحو:» لا أصْحَبُكَ ما طَلَع نَجْمٌ «أي: جنس النجوم، وأما الثاني؛ فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه». وهذا الذي منعه إنما منعه الفرَّاءُ وحدَه، وأما غيرُه، فأجاز ذلك، وهذا مع تسليم أنَّ «كُلَّمَا» شرط، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ، فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في «كُلَّمَا» تقول: «كُلَّمَا جِئْتَنِي أخَاكَ أكْرَمْتُ»، قال شهاب الدين: هذا واضحٌ من أنها ليستْ شرطاً، وهذه العبارةُ تكثُرُ في عبارة الفقهاءِ دُونَ النُّحَاةِ، وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشريُّ، فإنه قال: «وَكَذَّبُوا» جواب «كُلَّمَا» و «فَرِيقاً» مفعول ب «كَذَّبُوا»، و «فَرِيقاً» منصوب ب «يَقْتُلُونَ»، وإنما قدَّمَ مفعول «يَقْتُلُونَ» لتواخي رؤوس الآي، وقدَّم مفعولَ «كَذَّبُوا» مناسبةً لما بعده.
قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: لِمَ جِيءَ بأحد الفعلَيْن ماضياً، وبالآخر مضارعاً؟ قلتُ: جِيء ب» يَقْتُلُونَ «على حكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعاً للقتلِ، واستحضاراً لتلْكَ الحالِ الشنيعةِ؛ للتعجُّبِ منها». انتهى، وقد يقال: فلِمَ لا حُكِيَتْ حالُ التكْذيبِ أيضاً، فيُجَاءُ بالفعْلِ مضارعاً لذلك؟ ويجَابُ بأنَّ الاستفظاع في القتلِ وشناعَتِهِ أكثرُ من فظاعةِ التكذيبِ، وأيضاً؛ فإنه لمَّا جيء به مضارعاً ناسب رؤوس الآي.
451
قرأ حمزةُ والكسائيُّ وأبو عمرو «تَكونُ» برفع النون، والباقون بنصبها، فمنْ رفع ف «أنْ» عنده مخفَّفةٌ من الثقيلة، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ، تقديرُه، أنهُ، و «لاَ» نافية، و «تَكُونُ» تامة، و «فِتْنَةٌ» فاعلها، والجملةُ خبر «أن»، وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن، وعلى هذا، ف «حَسِبَ» هنا لليقين، لا للشكِّ؛ ومن مجيئها لليقين قولُ الشاعر: [الطويل]
451
٢٠١٩ - دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَهُ لَعِبْنَ بِنَا شِيباً وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَاً
٢٠٢٠ - حَسِبْتُ التُّقَى والْجُودَ خَيْرَ تِجَارةٍ رَبَاحاً إذَا مَا المَرْءُ أصْبَحَ ثَاقِلا
أي: تيقَّنْتُ؛ لأنه لا يليقُ الشكُّ بذلك، وإنما اضْطُرِرْنَا إلى جعلها في الآية الكريمة بمعنى اليقين؛ لأنَّ «أن» المخففةَ لا تقع إلا بعد يقينٍ، فأمَّا قوله: [البسيط]
٢٠٢١ - أرْجُو وَآمُلُ أنْ تَدْنُوْ مَوَدَّتُهَا وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْكَ تَنْوِيلُ
فظاهرُه: أنها مخفَّفةٌ؛ لعدم إعمالها، وقد وقعت بعد «أرْجُو» و «آمُلُ» وليسا بيقينٍ، والجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنَّ «أنْ» ناصبةٌ، وإنما أُهْمِلَتْ؛ حَمْلاً على «مَا» المصدريَّة؛ ويَدُلُّ على ذلك أنها لو كانت مخفَّفَةً، لفُصِلَ بينها وبين الجملة الفعليةِ بما سنذكره، ويكون هذا مثل قولِ الله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ [البقرة: ٢٣٣] ؛ وكقوله: [البسيط]
٢٠٢٢ - يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نَفْسِي نُفُوسَكُمَا وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لُقِّيتُمَا رَشَدَا
أنْ تَحْمِلا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا تَسْتوَجِبَا نِعْمَةً عِنْدِي بِهَا وَيَدَا
أنْ تَقْرَآنِ عَلَى أسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحَدَا
فقوله: «انْ تَقْرآنِ» بدلٌ من «حَاجَة»، وقد أهْمَلَ «أنْ» ؛ ومثلُه قوله: [مجزوء الكامل]
٢٠٢٣ - إنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ قَةُ إنْ نَجَوْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
وَنَجَوْتِ مِنْ وَصَبِ الْعَدْوْ وِ مِنَ الغُدُو إلى الرَّوَاح
أنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قوْ مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاحِ
وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات، يلزم أحد شذوذَيْنِ قد قيل باحتمال كلٍّ منهما: إمَّا إهمالُ «أنْ»، وإمَّا وقوعُ المخفَّفة بعد غير علمٍ، وعدمُ الفصل بينها، وبين الجملة الفعليَّة.
والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءَهُ وأملَهُ قويَا حتَّى قربا من اليقينِ، فأجراهما مُجْراهُ في ذلك.
وأما قول الشاعر: [الخفيف]
452
فالظاهرُ أنها المخفَّفة، وشَذَّ عدمُ الفصْلِ، ويحتملُ أن تكون الناصبة شذَّ وقوعُها بعد العلْمِ، وشذَّ إهمالُها، ففي الأوَّلِ شذوذٌ واحدٌ، وهو عدم الفصلِ، وفي الثاني شذوذَانِ: وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ، وإهمالُها حَمْلاً على «مَا» أختِها.
وجاءَ هنا على الواجب - عند بعضهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين «أن» الخفيفةِ وبين خبرها، إذا كان جملة فعليةً متصرفةً غير دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفي كهذه الآية، وإمَّا حرفُ تنفيس؛ كقوله تعالى:
﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى﴾ [المزمل: ٢٠]، ومثله: «عَلِمْتُ أنْ سوْفَ تقُومُ»، وإمَّا «قَدْ» ؛ كقوله تعالى: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ [المائدة: ١١٣]، وإمَّا «لَوْ» - وهي غريبةٌ -؛ كقوله: ﴿وَأَلَّوِ استقاموا﴾ [الجن: ١٦] ﴿أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب﴾ [سبأ: ١٤]. وتحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية؛ فإنها لا تحتاج إلى فاصل؛ كقوله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [يونس: ١٠]، وكقوله: [البسيط]
٢٠٢٤ - عَلِمُوا أنْ يُؤمَّلُونَ فَجَادُوا قَبْلَ أنْ يُسْألُوا بأعْظَمِ سُؤلِ
٢٠٢٥ - فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قَدْ عَلِمُوا أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
وبالمتصرِّفةِ من غيرِ المتصرِّفة؛ فإنه لا تحتاج إلى فاصلٍ؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: ٣٩] ﴿وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٥]، وبغير دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً؛ كقوله تعالى: ﴿أَنَّ غَضَبَ الله﴾ [النور: ٩] في قراءة نافعٍ.
ومَنْ نصب «تَكُونَ» ف «أنْ» عنده هي الناصبة للمضارعِ، دخلت على فعلٍ منفيٍّ ب «لاَ»، و «لاَ» لا يمنعُ أن يعملَ ما قبلها فيما بعدها من ناصبٍ، ولا جازم، ولا جارٍّ، فالناصبُ كهذه الآية؛ والجازم كقوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾ [التوبة: ٤٠]، والجارُّ نحو: «جِئْتُ بِلا زادٍ».
و «حَسِبَ» هنا على بابها من الظَّنِّ، فالناصبة لا تقعُ بعد علْم، كما أنَّ المخففة لا تقع بعده غيرِه، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبةِ بعد يَقِينٍ، وهو نصٌّ فيه كقوله: [البسيط]
٢٠٢٦ - نَرْضَى عَنِ النَّاسِ إنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا ألاَّ يُدانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ
وليس لقائلٍ أن يقول: العلمُ هنا بمعنى الظَّنِّ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ ب «أنْ»، ولذلك أُجْمِع على النصْب في قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا﴾ [العنكبوت: ٢]، وأمَّا قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ﴾ [طه: ٨٩] فالجمهورُ على الرفع؛ لأن الرؤية تقعُ على العلْمِ.
والحاصل أنه متى وقَعَتْ بعد علْمٍ، وجبَ أن تكونَ المخفَّفةَ، وإذا وقعت بعد ما
453
ليس بعلمٍ ولا شكٍّ، وجَبَ أن تكونَ الناصبةَ، وإن وقعت بعد فعْلٍ يحتملُ اليقينَ والشك جاز فيها وجهان باعتباريْنِ: إنْ جعلناه يقيناً، جعلناها المخففةَ ورفعنا ما بعدها، وإن جعلناه شكّاً جعلناها الناصبةَ ونصبْنَا ما بعدها، والآيةُ الكريمةُ من هذا الباب، وكذلك قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ﴾ [طه: ٨٩] وقوله: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا﴾ [العنكبوت: ٢] لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفعِ، ولا في الثانية إلا بالنصْب، لأن القراءة سنةٌ متبعة، وهذا تحريرُ العبارة فيها، وإنما قلنا ذلك؛ لأن بعضهم يقول: يجوزُ فيها بعد أفعال الشكِّ وجهان، فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ المخفَّفةَ، والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشكِّ، لكن يريد ما ذكرتُه لك من الصلاحيةِ اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمَيْن، ولهذا قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلْتَ: كيف دخَلَ فعلُ الحُسْبَانِ على» أن «التي هي للتحْقِيق؟ قلْتُ: نَزَّل حسبانَهم؛ لقوَّته في صدورِهِمْ منزلةَ العلْمِ» والسببُ المقتضي لوقوعِ المخفَّفةِ بعد اليقين، والناصبةِ بعد غيره، وجواز الوجهَيْن فيما تردَّد بين الشَّكِّ واليقينِ: ما ذكروه، وهو «أن» المخفَّفة تَدُلُّ على ثباتِ الأمر واستقراره؛ لأنها للتوكيدِ كالمشدَّدة، والعلمُ وبابُه كذلك، فنَاسَبَ أنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملائمةِ بينهما، ويدلُّ على ذلك وقوعُها مشدَّدةً بعد اليقين؛ كقوله تعالى:
﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾ [النور: ٢٥] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ [البقرة: ١٠٧] إلى غير ذلك، والنوعُ الذي لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ تقع بعده الناصبة؛ كقوله تعالى: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي﴾ [الشعراء: ٨٢] ﴿نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ [المائدة: ٥٢] ﴿فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا﴾ [الكهف: ٨٠] ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ﴾ [المجادلة: ١٣] إلى غير ذلك، والنوعُ المحتملُ للأمرين تقع بعده تارة المخففةُ، وتارةً الناصبةُ؛ كما تقدَّم من الاعتبارَيْنِ، وعلى كلا التقديرين، أعني: كونها المخففةَ أو الناصبةَ، فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعوليْنِ عند جمهورِ البصْريين، ومسدَّ الأولِ، والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن، أي: حَسِبُوا عدمَ الفتنةِ كائناً أو حاصلاً، وحكَى بعض النحويِّين أنه ينبغي لِمَنْ رفع أن يَفْصِلَ «أنْ» من «لاَ» في الكتابة؛ لأنَّ الهاء المضْمَرة حائلةٌ في المعنى، ومن نصب، لم يَفْصِلْ لعدمِ الحائل بينهما، قال أبو عبد الله: «هذا ربَّما ساغَ في غير المُصْحفِ، أمَّا المُصْحَفُ، فلَم يُرْسَمْ إلا على الاتِّصَال». انتهى، وفي هذه العبارة تجوُّزٌ؛ إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعِرُ بأنْ تُكْتَبَ «أنلا» فتوصل «أنْ» ب «لاَ» في الخطِّ، فينبغي أن يقال: لا تُثْبَتُ لها صورةٌ، أو تُثْبتُ لها صورةٌ منفصلة.

فصل


اختَلَفُوا في الفِتْنَةِ فقِيلَ: هِيَ العَذَابُ أي: وظنُّوا ألا يكون عذابٌ، وقيل: هي الابْتِلاءُ والاخْتِبَارُ بالقَحْطِ، والوَبَاء، والقَتْلِ والعَدَاوَةِ، والبَغْضَاءِ فيما بَيْنَهُم، وكُلُّ ذلك قد وقعَ بِهِم، وكُلُّ واحدٍ من المُفَسِّرين حَمَل الفِتْنَةَ على واحدٍ من هذِهِ الوُجُوه.
454
واعلم أنَّ حُسْبَانَهُمْ ألاَّ تقع فِتْنَةٌ يحتمل وجهين:
إمَّا أنهم كانوا يَعْتقدُون أنَّ الواجِبَ عليْهِم في كل رَسُول جَاءَ بِشَرْعٍ آخَر؛ أنَّه يجب عَلَيْهِم قَتْلُه وتَكْذِيبُه.
وإمَّا أنهم وإن اعْتَقَدُوا في أنْفُسِهِم كَوْنهم مُخْطِئِين في ذلك التَّكْذِيب والقَتْلِ، إلاَّ أنَّهُم كانوا يَقُولُون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وكانوا يعتقدون أنَّ نُبُوَّةَ أسْلاَفهم وآبَائِهم تَدْفَعُ عَنْهُم العذاب الذي يَسْتَحِقُّونَهُ بِسَببِ ذلِكَ القَتْلِ والتَّكْذِيب.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ أي: فَعَمُوا عن الحقِّ فلم يُبْصِرُوا «وصَمُّوا» بعد مُوسَى ﴿ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ﴾ ببعْثَ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقيل: عَمُوا وَصمُّوا في زَمَان زَكريَّا، ويحيى، وعيسى - عليهم الصلاة والسلام -، ثم تاب اللَّهُ على بعضهم، حيْثُ آمَنَ بعضُهُم به ثمَّ عمُوا وصمُّوا كثيرٌ منهم في زَمَانِ مُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، بأنْ أنْكَرُوا نُبُوَّتَه ورِسَالَتَهُ، وإنَّما قال «كثيرٌ مِنْهُم» ؛ لأنَّ أكثرَ اليهُود وإنْ أصَرُّوا على الكفر بمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، إلاَّ أنَّ جَمْعاً آمَنُوا به كَعَبْدِ اللَّه بن سلام وأصحَابِه.
وقيل: عَمُوا حين عَبَدُوا الْعِجْلَ، ثمَّ تَابُوا عَنْهُ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم، ثمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُم بالتعَنُّتِ، وهو طَلَبُهُم رُؤيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً، ونُزُولَ الملائِكة.
وقال القَفَّال: ذَكَرَ اللَّهُ تعالى في سُورةِ بَنِي إسْرائيل ما يجُوزُ أنْ يكُونَ تَفْسيراً لِهَذِه الآية، فقالَ تعالى: ﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً﴾ [الإسراء: ٤، ٥، ٦]، فهذا في معنى «فَعَمُوا وصمَّوا» ثم قال تعالى ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾ [الإسراء: ٧] فهذا في معنى قوله «فَعَمُوا وصَمُّوا».
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ في هذا التركيب خمسة أوجه:
أحدها: أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعلِ، كما يَلْحق الفعل تاءُ التأنيث؛ ليدلَّ على تأنيثِ الفاعل، ك «قَامَتْ هِنْدٌ»، وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمع الإناث أيضاً، فيقال: «قَامَا أخَواكَ، وقُمْنَ أخَوَاتُكَ» ؛ كقوله: [الطويل]
٢٠٢٧ -...................... وَقَدْ أسْلَمَاهُ مُبْعَدٌ وحَمِيمُ
455
وقوله: [الطويل]
٢٠٢٨ - ولَكِنْ دِيَافِيٌّ أبُوهُ وأمُّهُ بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّليطَ أقَارِبُهْ
واستدلَّ بعضُهم بقوله - عليه السلام -: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ ملائِكَةٌ»، ويعبِّر النحاة عن هذه اللغةِ بلغةِ «أكَلُونِي البَرَاغِيثُ»، ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ علامةٌ، وفرَّق النحويُّون بين لحاقِهِ علامةَ التأنيث، وعلامةَ التثنية والجمع؛ بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعلِ بخلافِ التثنيةِ والجمعِ؛ فإنه غيرُ لازمٍ.
الوجه الثاني: أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورينَ العائد عليهم واو «حَسِبُوا»، و «كَثِيرٌ» بدلٌ من هذا الضمير، كقولك: «إخْوَتُكَ قَامُوا كَبِيرُهُمْ وصَغِيرُهُمْ» ونحوه. والإبْدَال كَثيرٌ في القُرْآنِ قال تعالى: ﴿الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: ٧].
وقال تعالى: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: ٩٧].
الوجه الثالثك أن الواو ضمير أيضاً، و «كَثِيرٌ» بدلٌ منه، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله: أن الضمير في الوجْهِ الأوَّلِ مفسَّرٌ بما قبلَه وهم بنو إسْرائِيلَ، وأمَّا في هذا الوجه، فهو مفسَّرٌ بما بعده، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسرهُ، وهي مسألةُ خلافٍ، وقد تقدَّم تحريرها.
الوجه الرابع: أن الضمير عائدٌ على مَنْ تقدَّم، و «كَثِيرٌ» خبر مبتدأ محذوف، وقدَّره مكي تقديرين: أحدهما: قال: «تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثيرٌ منهم»، والثاني: العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم؛ ودلَّ على ذلك قوله: ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ﴾، فعلى تقديره الأوَّل: يكون «كَثِيرٌ» صادقاً عليهم و «مِنْهُمْ» صفة ل «كَثِير» ؛ وعلى التقدير الثاني: يكون «كَثِيرٌ» صادقاً على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهِمْ، و «مِنْهُمْ» صفةٌ له بمعنى أنه صادرٌ منهم، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ، وقدَّره الزمخشريُّ فقال: «أولَئِكَ كَثِيرٌ منهم».
الوجه الخامس: أنَّ «كَثيرٌ» مبتدأ والجملةُ الفعليَّة قبله خبرٌ، ولا يُقالُ: إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً، وجبَ تأخيرُه؛ لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً؛ نحو: «زَيْدٌ قَامَ» ؛
456
لأنه لو قُدِّم، فقيل: «قَامَ زَيْدٌ»، لألبس بالفاعل، فإن قيلَ: وهذا أيضاً يُلْبِس بالفاعلِ في لغة «أكَلُونِي البَراغيثُ»، فالجواب: أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها، وضعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنًى آخَرَ، فقال: «لأنَّ الفعل قد وقَعَ في موضِعِه، فلا يُنْوَى به غيرُه»، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وقع موقعه، وإنما كان واقعاً لو كان مجرَّداً من علامةٍ، ومثلُ هذه الآيةِ أيضاً قوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنبياء: ٣].
والجمهورُ على «عَمُوا وصَمُّوا» بفتح العين والصاد، والأصل: عَمِيُوا وصَمِمُوا؛ كَشَرِبُوا، فأعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثَّاني بالإدغامِ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من «عَمُوا»، قال الزمخشريُّ: «على تقدير عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ، أي: رَمَاهُمْ وضَرَبَهُمْ بالعَمَى والصَّمَمِ؛ كما يقال: نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بالنَّيْزَكِ، وركَبْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ»، ولم يعترضْ عليه أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة: «جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرجُلُ، وأزْكَمَهُ الله، وحُمَّ وأحَمَّه الله، ولا يقال: زَكَمَهُ الله ولا حَمَّهُ؛ كما لا يقال: عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُه، وهي أفعالٌ جاءت مبنيَّةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، وهي متعدِّيةٌ ثلاثيةٌ، فإذا بُنيتْ للفاعلِ، صارتْ قاصرةً، فإذا أردت بناءَها للفاعلِ متعدِّيةً، أدخَلْتَ همزة النقْلِ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأفعال». انتهى، فقوله: «كمَا لا يُقَالُ عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ» يقتضي أن الثلاثيَّ منها لا يتعدَّى، والزمخشريُّ قد قال على تقدير: «عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ» فاستعملَ ثلاثيَّةُ متعدِّياً، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحاً، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريِّ فاسداً أو بالعكس.
وقرأ ابن أبي عَبْلة «كَثِيراً» نصباً؛ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرَّة أنه عند سيبويه حالٌ، وقال مكي: «ولو نَصَبْتَ» كَثِيراً «في الكلام، لجازَ أن تجعله نعتاً لمصدر محذوف، أي: عَمى وصَمَماً كثيراً»، قلت: كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده؛ لشذُوذها.
وقوله: «فَعَمُوا» عطفَه بالفاء، وقوله: ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ عطفه ب «ثُمَّ»، وهو معنى حسنٌ؛ وذلك أنهم عَقِيبَ الحُسْبَانِ، حصل لهم العمى والصَّمَمُ من غير تَرَاخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلافِ قوله: ﴿فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: ٢٣]، لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله: ﴿ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ﴾، وعطف قوله: «ثُمَّ عَمُوا» بِحَرْفِ التراخِي؛ دلالةً على أنهم تمادَوْا في الضَّلال إلى وقْتِ التوبة.
457

فصل في معنى العمى والصّمم


المُرَادُ بهذا العمى والصّمم الجَهْلُ والكُفْرُ، وإذا كان كذلِكَ فنقول: فَاعِلُ هذا الجَهْلِ إمَّا أن يكون هو اللَّهُ - تعالى - أو العَبْدُ.
فالأول: يُبْطِلُ قول المُعْتَزِلَةِ.
والثاني: بَاطِل؛ لأنَّ الإنسان لا يَخْتَارُ ألْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الجَهْلِ والكُفْرِ لِنَفْسِهِ.
فإن قيل: إنَّمَا اختاروا ذلك؛ لأنَّهُمْ ظَنُّوا أنَّهُ علمٌ.
قلنا: هذا الجَهْلُ يسبقه جَهْلٌ آخَر، إلاَّ أنَّ الجهالات لا تتَسَلْسَلُ، بل لا بد من انْتِهائِهَا إلى الجَهْلِ الأوَّل، ولا يجوز أنْ يَكُون هو العَبْدُ لِما ذَكَرْنَا فوَجَب أن يكون فاعله هو اللَّهُ تعالى.
ثُمَّ قال تعالى: ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي: مِنْ قَتْل الأنْبيَاء وتكْذِيب الرُّسُلِ المقصود منه التَّهْدِيد.
458
لمَّا تكلم مع اليهود شَرَعَ في الكلام هَاهُنا مع النَّصارى.
فحكى عَنْ فَريقٍ مِنْهُم أنَّهُمْ قالوا: ﴿إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ وهذا قول المَلْكَانِيَّة واليَعْقُوبِيَّة؛ لأنهم يَقُولُون: إنَّ مَرْيم ولدَت إلهاً، ولعلَّ معنى هذا المَذْهَب أنَّهُمْ يقولون: إنَّ الله تعالى حَلَّ في ذَاتِ عيسى واتّحد بِذاتِ عيسى، ثم حكى - سبحانه وتعالى - عن المسيح أنَّهُ قال: ﴿يا بني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾، وهذا تنبيه على ما هُوَ الحُجَّةُ القَاطِعَةُ على فسَاد قول النَّصَارى؛ وذلك لأنَّه - عليه الصَّلاةُ والسلام - لم يُفَرِّقْ بينه وبين غيره، في أنَّ دلائل الحُدُوثِ ظَاهِرَةٌ عليه، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ ومعْنَاهُ ظاهرٌ واحتَجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بهذا على أنَّ عِقَابِ الفُسَّاقِ لا يكون مُخَلَّداً قالوا: لأنَّه تعالى جَعَل أعظم أنواع الوعيدِ والتَّهْديد في حَقِّ المُشْرِكينِ، وهو أنَّ اللَّه - تعالى - حَرَّم عليهم الجَنَّة ومأوَاهُمُ النَّار، وأنَّهُ ليس لهم نَاصِرٌ يَنْصُرهُم، ولا شَافِعٌ يَشْفَعُ لهُمْ، فلو كان حال الفُسَّاقِ من المُؤمنين كَذَلِك لما بَقِي لتهْدِيدِ المُشركين على شِرْكِهِم بهذَا الوعيد فائدة.
معناه أحدُ الثلاثةِ، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنْصَبَ ما بعده، لا تقولُ: ثَالِثٌ ثلاثةً، ولا رَابعٌ أربعةً؛ قالوا: لأنه اسمُ فاعلٍ، ويعملُ عَمَلَ فعله، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ؛ إذ لا يقال: رَبَّعْتُ الأرْبَعَةَ، ولا ثَلَّثْتُ الثلاثةَ، وأيضاً: فإنه أحدُ الثلاثة؛ فيلزم أن يعمل في نَفْسِهِ، وأجاز النصْبَ بمثلِ هذا ثَعْلَبٌ، وردَّه عليه الجمهورُ بما ذُكِرَ، أمَّا إذا كان من غيرِ لَفْظِ ما بعده، فإنه يجوزُ فيه الوجْهَان: النصبُ، والإضافة؛ نحو: رَابعٌ ثلاثةً، وإن شئْتَ: ثَلاثَةٍ، واعلم: أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عَشَرَةٍ صيغةُ اسمِ فاعلٍ؛ نحو: «وَاحِد»، ويجوز قلبه فيقال: حَادِي وثَانِي وثالِث إلى عَاشِر، وحينئذٍ: يجوز أن يستعملَ مفرداً؛ فيقال: ثَالِثٌ ورَابعٌ؛ كما يقال: ثلاثةٌ وأربعةٌ من غير ذكرِ مفسِّرٍ، وأن يستعمل استعمالَ أسماءِ الفاعلينَ؛ إنْ وقع بعده مغايرُهُ لفظاً، ولا يكونُ إلا ما دونهُ برتْبةٍ واحدةٍ؛ نحو عَاشِرُ تِسْعَةٍ، وتَاسِعُ ثَمَانِيَةٍ، فلا يجامعُ ما دونَه برتبتين؛ نحو: عَاشِرُ ثمانِيَةٍ، ولا ثَامِنُ أرْبَعَةٍ، ولا يُجامِعُ ما فوقه مطلقاً، فلا يقال: تَاسِعُ عشرةٍ ولا رَابعُ ستَّةٍ.
إذا تقرَّر ذلك فيعطى حكم اسم الفاعل؛ فلا يعملُ إلا بشروطه، وأمَّا إذا جامع موافقاً [له لفظاً] وجبتْ إضافتُه؛ نحو: ثَالثُ ثلاثةٍ، وثَاني اثْنَيْنِ، وتقدَّم خلاف ثَعْلَبٍ، ويجوز أن يُبْنَى أيضاً من أحَدَ عشر، إلى تِسْعَة عشر، فيقال: حَادِي عشرَ وثالثَ عشرَ، ويجوز أنْ يُستعمل مفْرداً؛ كما ذكرنا، ويجوز أن يُسْتَعْمَل مجامعاً لغيره، ولا يكونُ إلا موافقاً، فيقال: حَادِي عشر أحدَ عشرَ، وثالثَ عشرَ ثلاثةَ عشرَ، ولا يقالُ: ثالثَ عشرَ اثْنَيْ عشرَ، وإن كان بعضُهم خالفَ، وحكمُ المؤنثِ كحكْمه في الصفَاتِ الصريحةِ، فيقال: ثَالِثَة ورابعة، وحادية عشْرَةَ، وثَالِثَة عشْرَةَ ثلاثَ عَشْرَة، وله أحكامٌ كثيرة مذكورة في كُتب النَّحْو. فصل في تفسير قول النصارى «ثالث ثلاثة»
هذا قول المَرْقُوسِيَّة: وفيه طريقان: أحدهما: قول المُفَسِّرين: وهو أنَّ النَّصَارى يقولون: الإلهِيَّة مشتركة بَيْنَ اللَّه ومرْيَم وعيسَى، وكُلُّ واحد من هؤلاء إله.
ويؤكد ذَلِكَ قوله تعالى: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: ١١٦] فقوله: «ثَالِثُ ثلاثَةٍ» أي: أحَد ثلاثة، وواحد من ثلاثةِ آلهةٍ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى في الرَّدِّ عليهم: ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ﴾. قال الواحديُّ والبَغَوِي: من قال: إنَّ اللَّه تعالى ثَالِثُ ثلاثةٍ، هُو لَمْ يُرِدْ ثالثُ
459
ثلاثةِ آلهة، فإنَّه ما مِنْ شَيْءٍ إلاَّ واللَّه ثالثُهُ بالعِلْم، قال تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧].
وقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لأبي بكرٍ: «ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا».
الطريق الثاني: أنَّ المُتَكَلِّمين حكوا عن النَّصَارى أنَّهُمْ يقولون: جَوْهَرٌ واحدٌ: ثلاثةُ أقْسَام: أبٌ، وابْنٌ، ورُوحُ القُدُس، وهذه الثَّلاثَةُ إلهٌ واحِدٌ، كما أنَّ الشَّمْس اسمٌ يتناوَلُ القُرْصَ والشُّعَاع والحَرَارَة، وعنُوا بالأبِ الذَّات، وبالابْنِ الكَلِمَة، وبالرُّوحِ الحَيَاة، وأثْبَتُوا الذَّاتَ والكَلِمَة والحَيَاة.
وقالوا: إنَّ الكَلِمَة التي هي كلامُ اللَّه اخْتلطَتْ بِجِسْمِ عيسَى اخْتِلاطَ الماءِ بالخَمْر، واختلاط الماءِ باللَّبْن.
وزعمُوا أنَّ الأبَ إلهٌ، والابْنَ إله، والرُّوح إلهٌ، والكُلُّ إلهٌ وهذا بَاطِلٌ بيديهَةِ العقْلِ، فإنَّ الإلهَ لا يكونُ إلاَّ واحِداً، والواحِدُ لا يكونُ ثلاثةٌ، وليس في الدُّنْيا مقالةٌ أشَدَّ فَسَاداً، وأظْهَر بُطْلاناً من مقالَةِ النَّصارى - لعنهُمُ اللَّهُ تعالى -.
قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ إله﴾ «مِنْ» زائدةٌ في المبتدأ؛ لوجود الشرطين، وهما كونُ الكلام غير إيجابٍ، وتنكيرُ ما جرَّتْهُ، و «إلهٌ» بدل من محلِّ «إلهٍ» المجرورِ ب «مِنْ» الاستغراقية؛ لأن محلَّه رفعٌ كما تقدَّم، وما إلهٌ في الوجُودِ إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحْدَانية، قال الزمخشريُّ: «مِنْ» في قوله: «مِنْ إلهٍ» للاستغراقِ، وهي المقدَّرةُ مع «لاَ» التي لنفي الجنْسِ في قولك: «لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ» والمعنى: وما مِنْ إلهٍ قَطُّ في الوجُود إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحدانيَّة، وهو الله تعالى «، فقد تحصَّل مِنْ هذا أنَّ» مِنْ إلهٍ «مبتدأ، وخبرُه محذوفٌ، و» إلاَّ إلَهٌ «بدلٌ على المحلِّ، قال مكي:» ويجوزُ في الكلام النصبُ: «إلاَّ إلهاً» على الاستثناء «، قال أبو البقاء:» ولو قُرئَ بالجرِّ بدلاً من لَفْظ «إلهٍ»، لكان جائزاً في العربيَّة «، قال شهاب الدين: ليس كما قال؛ لأنه يلزمُ زيادةُ» مِنْ «في الواجبِ؛ لأن النفي انتقضَ ب» إلاَّ «، لو قلت:» ما قَامَ إلاَّ مِنْ رَجُلٍ «، لم يَجُزْ فكذا هذا، وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفش؛ فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ مجرورها فقط، والأخفشُ لا يشترط شيئاً، قال مكي» واختار الكسائيُّ الخفضَ على البدل من لفظ «إلهٍ»، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ «مِنْ» لا تُزَاد في الواجبِ «، قال شهاب الدين: ولو ذهبَ ذاهبٌ
460
إلى أنَّ قوله» إلاَّ إلهٌ «خبر المبتدأ، وتكونُ المسألةُ من الاستثناءِ المفرَّغِ، كأنه قيل: ما إلَهٌ إلاَّ إلَهٌ مُتَّصِفٌ بالواحدِ، لما ظهر له منعٌ، لكنِّي لم أرَهُمْ قالوه، وفيه مجالٌ للنظر.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
قال الزَّجَّاجُ: معناه: ليمسن الذين أقامُوا على هذا الدِّين؛ لأنَّ كثيراً منهم تَابُوا عن النَّصْرانيَّةِ، فخصَّ الذين كفروا لِعِلْمهِ أنَّ بعضَهُمْ يُؤمِنُ.
قوله: «لَيَمَسَّنَّ»
جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ؛ لدلالةِ هذا عليه، والتقديرُ: واللَّهِ، إنْ لَمْ يَنْتَهُوا لَيَمَسَّنَّ، وجاء هذا على القاعدَةِ التي قَرَّرْتُهَا: وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقَسَمٌ أُجيبَ سابقُهما ما لم يسبقْهُمَا ذو خَبَرٍ، وقد يجابُ الشرطُ مطْلقاً، وقد تقدَّم أيضاً: أن فعلَ الشرطِ حينئذٍ لا يكون إلا ماضياً لفظاً ومعنًى لا لفظاً كهذه الآية، فإنْ قيلَ: السابقُ هنا الشرطُ؛ إذ القسمُ مقدَّرٌ، فيكونُ تقديرُه متأخِّراً، فالجوابُ أنه لو قُصِدَ تأخُّرُ القسَمِ في التقدير، لأجيبَ الشرْطُ، فلمَّا أُجِيبَ القسمُ، عُلِمَ أنه مقدَّرُ التقديمِ، وعبَّر بعضهم عَنْ هذا، فقال: لامُ التوطئةِ للقسمِ قد تُحْذَفُ ويُراعَى حكمُها؛ كهذه الآيةَ؛ إذ التقدير: «ولَئِنْ لَمْ» كما صرَّح بهذا في غير موضع؛ كقوله: ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون﴾ [الأحزاب: ٦٠] ؛ ونظيرُ هذه الآية قوله: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ﴾ [الأعراف: ٢٣] ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١]، وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسمِ يجبُ أن يُتلقَّى باللام وإحدى النونَيْنِ عند البصريِّين، إلاَّ ما استثني، كما تقدَّمَ، قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: فهلاَّ قيل: لَيَمسُّهُمْ عذابٌ، قلتُ: في إقامة الظاهر مقامَ المضْمَرِ فائدةٌ، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكُفْر».
وقوله: «مِنْهُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحال، قال أبو البقاء: إمَّا من «الَّذِينَ»، وإمَّا من ضمير الفاعل في «كَفَرُوا»، قلتُ: لم يتغيَّر الحكمُ في المعنى؛ لأن الضميرَ الفاعِلَ هو نَفْسُ الموصُولِ، وإنما الخلافُ لفظيٌّ، وقال الزمخشريُّ: «مِنْ» في قوله تعالى: ﴿لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ للبيان كالتي في قوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠] قال شهاب الدين: فعلى هذا يتعلقُ «مِنْهُمْ» بمحذوفٍ، فإن قلتَ: هو على جعله حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوف، قلت: الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَهُ حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في الحقيقة، وعلى هذا الوجه يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّرٍ للموصولِ الأول، كأنه قيل: أعني منهُمْ، ولا محلَّ ل «أعْنِي» ؛ لأنها جملةٌ تفسيريةٌ، وقال أبو حيان: «و» مِنْ «في» مِنْهُمْ «للتبعيض، أي: كائناً منهُمْ، والربطُ
461
حاصلٌ بالضمير، فكأنه قيل: كَافرُهُمْ، وليسوا كلهم بَقُوا على الكُفْر». انتهى، يعني: هذا تقديرٌ لكونها تبعيضيةً، وهو معنى كونها في محلِّ نصبٍ على الحال.
وقوله تعالى: «أفَلا يَتُوبُونَ» : تقدَّم نظيره مراراً، وأنَّ فيه رأيين: رأيُ الجمهور: تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً، ورأيُ أبي القاسِمِ: بقاؤه على حاله وحذفُ جملةٍ معطوفٍ هذا عليها، والتقديرُ: أيثبُتُونَ على كُفرِهِمْ، فلا يتُوبُونَ، والاستفهامُ فيه قولان:
أظهرهما: أنه للتعجب من حالهم: كَيْفَ لا يتوبُونَ ويستغفُرونَ من هذه المقالةِ الشَّنعاء؟
والثاني: أنه بمعنى الأمر، وهو رأي ابن زياد الفَرَّاء؛ كأنه قال: تُوبُوا واسْتَغْفِرُوا من هاتيْنِ المقالتيْنِ؛ كقوله تعالى:
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]. وكلامُ ابن عطيَّة يُفْهِم أنه للتحضيضِ، قال: «رَفَقَ جَلَّ وعلا بهمْ بتحضيضهِ إياهُمْ على التوبة وطلب المغفِرَةِ»، يعني بذلك من حيث المعنى، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيض من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّم، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطفِ فصلَ بين الهمزة و «لا» المفهمةِ للتحضيض؟ [فإنْ قلت] :
هذا إنما يُشْكِلُ على قولنا: إنَّ «ألاَ» التحضيضية بسيطةٌ غيرُ مركَّبةٍ، فلا يُدَّعى فيها الفصلُ بحرفِ العطف، أما إذا قلنا: إنها همزةُ الاستفهام دَخَلَتْ على «لا» النافيةِ، وصارَ معناهما التحضيضَ، فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العَطْف؛ لأنه عُهِد في «لا» النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام، فالجواب: أنه لا يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخ وحدثَ معنى آخرُ، وهو التحضيضُ؛ فلا يلزم من الجوازِ في الأصْلِ الجوازُ بعد حدوثِ معنى جديد.
462
وقوله تعالى :" أفَلا يَتُوبُونَ " : تقدَّم نظيره مراراً، وأنَّ فيه رأيين : رأيُ الجمهور : تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً، ورأيُ أبي القاسِمِ : بقاؤه على حاله وحذفُ جملةٍ معطوفٍ هذا عليها، والتقديرُ : أيثبُتُونَ على كُفرِهِمْ، فلا يتُوبُونَ، والاستفهامُ فيه قولان :
أظهرهما : أنه للتعجب من حالهم : كَيْفَ لا يتوبُونَ ويستغفُرونَ من هذه المقالةِ الشَّنعاء ؟
والثاني : أنه بمعنى الأمر، وهو رأي ابن زياد الفَرَّاء ؛ كأنه قال : تُوبُوا واسْتَغْفِرُوا من هاتيْنِ المقالتيْنِ ؛ كقوله تعالى :﴿ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ [ المائدة : ٩١ ]. وكلامُ ابن عطيَّة١٥ يُفْهِم أنه للتحضيضِ، قال :" رَفَقَ جَلَّ وعلا بهمْ بتحضيضهِ إياهُمْ على التوبة وطلب المغفِرَةِ "، يعني بذلك من حيث المعنى، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيض من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّم، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطفِ فصلَ بين الهمزة و " لا " المفهمةِ للتحضيض ؟ [ فإنْ قلت ] :
هذا إنما يُشْكِلُ على قولنا : إنَّ " ألاَ " التحضيضية بسيطةٌ غيرُ مركَّبةٍ، فلا يُدَّعى فيها الفصلُ بحرفِ العطف، أما إذا قلنا : إنها همزةُ الاستفهام دَخَلَتْ على " لا " النافيةِ، وصارَ معناهما التحضيضَ، فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العَطْف ؛ لأنه عُهِد في " لا " النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام، فالجواب : أنه لا يجوزُ مطلقاً ؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخ وحدثَ معنى آخرُ، وهو التحضيضُ ؛ فلا يلزم من الجوازِ في الأصْلِ الجوازُ بعد حدوثِ معنى جديد.
وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ﴾ [آل عمران: ١٤٤]. و «قَدْ خَلَتْ» صفةٌ له كما في الآيةِ الأخرى، وتقدَّم معنى الحصر أي: ما هُو إلاَّ رسول من جنسِ الذين مَضَوْا من قَبْلِهِ، وليْسَ بإله، كما أنَّ الرُّسُل الذين مَضَوْا لم يكونوا آلهَةً، وجاء بالبَيِّنَات من اللَّهِ كما أتَوْا بأمْثَالِهَا، وإنَّ إبراءَ عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأكْمَهَ والأبْرَصَ، وإحْيَاء الموتى فبإذْنِ اللَّهِ على يدهِ من اللَّه، كما أحيا مُوسَى العَصَا، وجعلها حَيَّة تَسْعَى، وفُلِقَ له البحر، وضرب الحَجَرَ فانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً، وإن كان خلقَهُ من غير ذكرٍ، فقد خلق اللَّهُ - تعالى - آدَمَ من غَيْرِ ذكرٍ ولا أنْثَى.
462
وقوله تعالى: «وأمُّهُ صدِّيقةٌ» ابتداءٌ وخبرٌ، ولا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب، و «صِدِّيقةٌ» تأنيثُ «صدِّيق»، وهو بناءُ مبالغةٍ ك «فعَّال» و «فَعُول»، إلا أنه لا يعملُ عمل أمثلةِ المبالغة، فلا يقال: «زَيْدٌ شِرِّيبٌ العسلَ» ؛ كما يقال: «شرَّابٌ العَسَل»، وإن كان القياس إعماله، وهل هو مِنْ «صَدَقَ» الثلاثيِّ، أو من «صَدَّقَ» مضعَّفاً؟ القياسُ يقتضي الأولَ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تطَّرِدُ من الثلاثي دون الرباعيِّ، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ، وقال الزمخشري: «إنه من التَّصْديقِ»، وكذا ابنُ عطية، إلا أنَّه جعله محتملاً، وهذا واضحٌ لقوله: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا﴾ [التحريم: ١٢]، فقد صرَّح بالفعل المسند إليها مضعَّفاً، وعلى الأول معناه أنَّها كثيرةُ الصِّدْقِ.
وقوله تعالى: ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾ لا محلَّ له؛ لأنه استئنافٌ وبيان لكونهما كسائر البشرِ في احتياجهما إلى ما يحتاج إليه كلُّ جِسْمٍ مُولدٍ، والإلهُ الحقُّ سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن ذلك، وقال بعضهم: «هو كنايةٌ عن احتياجهما إلى التَّغَوُّطِ» وهُو ضعيفٌ مِنْ وُجُوه:
الأول: أنَّهُ ليْسَ كُلُّ من أكل أحْدَث، فإنَّ أهل الجَنَّةِ يأكلون ولا يُحْدِثُون.
الثاني: أنَّ الأكْلَ عبارةٌ عن الحاجَةِ إلى الطَّعَامِ وهذه الحاجَةُ من أقْوى الدَّلائلِ على أنَّهُ ليس بإله، فأي حَاجَةٍ إلى جَعْلِهِ كِنَايَةً عن شَيْءٍ آخر؟
الثالث: أنَّ الإله هو القادِرُ على الخَلْقِ والإيجَادِ، فلو كانَ إلهاً لقدر على دَفْعِ ألَم الْجُوعِ عن نَفْسِهِ بِغَيْرِ الطَّعَامِ، فلمَّا لم يقدر على دَفْعِ الضَّررِ عن نَفْسِه، كيف يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً للعالمين؟!
والمقصودُ من هذا: الاستِدلاَلُ على فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى، فإنّ من كان له أمٌّ فقد حَدَثَ بَعْدَ أن لَمْ يكُنْ، وكلُّ من كان كذلك كان مَخْلُوقاً لا إلهاً، وكُلُّ من احْتَاجَ إلى الطَّعَام أشَدَّ الحاجَةِ لَمْ يكن إلهاً؛ لأنَّ الإله هُوَ الَّذِي يكونُ غَنِيّاً عن جَمِيعِ الأشْيَاء، وبالجُمْلَةِ فسادُ قولِ النَّصَارى أظْهَرُ من أن يُحْتَاجَ فيه إلى دَليلٍ.
قوله تعالى: «كَيْفَ» منصوب بقوله: «نُبَيِّنُ» بعده، وتقدم ما فيه في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] وغيره، ولا يجوز أن يكون معمولاً لما قبله؛ لأن له صدر الكلام، وهذه الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلِّقةٌ لفعل قبلها، وقوله: ﴿ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ﴾ كالجملةِ قبلَها، و «أنَّى» بمعنى «كَيْفَ»، و «يُؤفَكُونَ» ناصبٌ ل «أنَّى» ويُؤفَكُونَ: بمعنى يُصْرَفُونَ.
وفي تكرير الأمر بقوله: «انْظُرْ» «ثُمَّ انْظُرْ» دلالةٌ على الاهتمام بالنظرِ، وأيضاً: فقد اختلف متعلَّقُ النظريْنِ؛ فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظَرِ في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ، وبيانها؛ بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريب، والأمرُ الثاني بالنَّظَر في كونهم صُرِفُوا عن
463
تدبُّرها والإيمان بها، أو بكونِهِم قُلِبُوا عمَّا أريدَ بهم، قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: ما معنى التراخي في قوله:» ثُمَّ انْظُرْ «؟ قلت: معناه ما بين التعجُّبَيْنِ، يعني: أنه بيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً، وأنَّ إعراضهم عنها أعْجَبُ منه». انتهى، يعني: أنه من باب التراخِي في الرُّتَبِ، لا في الأزمنةِ، ونحوه ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] وسيأتي.

فصل في معنى الإفك


يُقَالُ: أفَكَهُ يأفِكُهُ إفْكاً إذا صَرَفَهُ، والإفْكُ: الكَذِبُ؛ لأنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الحَقِّ، وكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْء مأفوكٌ عنه.
وقد أفَكَت الأرْضُ، إذا صُرِفَ عَنْهَا المَطَرُ.
والمعنى: كَيْف يصرفون عن الحَقِّ؟
قال أهْلُ السُّنَّةِ: دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُمْ مَصْرُوفُون عن تَأمُّلِ الحَقِّ، والإنْسَان يمتنع أن يَصْرِفَ نَفْسَهُ عن الحقِّ والصِّدْق إلى البَاطِلِ والجَهْلِ والْكَذِب، لأنَّ العاقل لا يختار لِنَفْسِه ذلك، فَعَلِمْنَا أنَّ الله تعالى صَرَفَهُمْ عن ذلك.
464
وهذا دَلِيلٌ أيضاً على فَسَادِ قول النَّصارَى وذلك من وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ اليَهُود كانوا يعادُونَ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ويَقْصُدُونَهُ بالسُّوءِ، فما قَدرَ على إضْرَارِهِمْ، وكان له أيضاً أنْصَارٌ وصَحَابَةٌ يُحِبُّونَهُ، فما قَدَرَ على إيصَالِ نَفْعٍ من منَافِعِ الدُّنْيَا إليْهِمْ، والعاجِزُ عن الإضْرار والنَّفْعِ كَيْفَ يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً؟ ﴿
الثاني: أن مذْهَبَ النَّصَارى - لعنهم اللَّهُ -: أنَّ اليهود صَلَبُوه ومَزَّقُوا أضْلاَعَهُ، ولما عَطِشَ وطلبَ الماءَ مِنْهُم صبُّوا الخَلَّ فِي مَنخريْهِ، ومن كان في الضَّعْفِ هكذَا، كَيْفَ يُعْقَل أن يكُون إلهاً؟﴾

الثالث: أنَّ إلهَ العالم يَجِبُ أنْ يكُون غَنِيًّا عن كل ما سواهُ مُحْتَاجاً إليه، فلو كان عيسَى كذلك لامْتَنَعَ كَوْنُهُ مَشْغُولاً بعبادة الله تعالى؛ لأنَّ الإله لا يَعْبُدُ شَيْئاً، إنَّمَا العبد هو الذي يَعْبُدُ الإله، فلما عُرِفَ بالتَّوَاتُرِ أنَّهُ كانَ مُوَاظِباً على الطَّاعَات والعبادَاتِ، عَلِمْنَا أنَّهُ كان يفعلها لكونه مُحْتَاجاً في تَحْصِيل المَنَافِعِ، ودفْعِ المضَارِّ إلى غيره، ومن كان كذلك كيْفَ يَقْدِرُ على إيصال المَنَافِعِ إلى العِبَادِ، ودَفْعِ المضارّ عنهم؟! وإذَا كان كذِلكَ كان عَبْداً كَسَائِرِ العَبيدِ، وهذا هو عَيْنُ الدَّليلِ الذي حَكَاهُ اللَّهُ تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -
464
حيث قال: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٤٢].
قوله تعالى: ﴿مَا لاَ يَمْلِكُ﴾ : يجوزُ أن تكون «مَا» بمعنى «الَّذِي»، وأن تكون نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ، فلا محلَّ لها، أو صفةٌ، فمحلُّها النصبُ، وفي وقوع «مَا» على العاقلِ هنا؛ لأنه أُريد به عيسَى وأمُّه وجوهٌ:
أحدها: أنه أُتِي ب «مَا» مراداً بها العاقلُ؛ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء، كذا قاله سيبويه، أو أُريد به النوعُ؛ كقوله: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]، أي: النوع الطَّيِّبَ، أو أُريدَ به العاقلُ مع غيره؛ لأنَّ أكثر ما عبد من دون اللَّهِ غيرُ عاقلٍ؛ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشَّجَرِ، أو شبهُهُ على أولِ أحواله؛ لأنه في أولِ حاله لا يُوصفُ بعقلٍ، فكيف يُتَّخَذ إلهاً معبوداً؟
قوله تعالى: ﴿والله هُوَ السميع العليم﴾ «هو» : يجوزُ أن يكون مبتدأ ثانياً، و «السَّميعُ» خبرُه، و «العَلِيمُ» خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ، والجملة خبرُ الأوَّل، ويجوزُ أن يكون فَصْلاً، وقد عُرِفَ ما فيه، ويجوزُ أن يكونَ بدلاً، وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ «تَعْبُدونَ»، أي: أتعبُدُونَ غير الله، والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة؛ لأنه يَسْمَعُ كلَّ شيء ويعلمه، وإليه ينحو كلامُ الزمخشريِّ؛ فإنه قال: ﴿والله هُوَ السميع العليم﴾ متعلِّق ب «أتَعْبُدُونَ»، أي: أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنَهُ، وهو الذي يسمَعُ ما تقولُونَ ويعلَمُ ما تعتقدُونَ؟ أتعبدون العاجزَ، واللَّهُ هو السميعُ العَلِيم؟. انتهى، والرابطُ بين الحالِ وصاحبها الواوُ، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة؛ فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفْعِ، ويعلم مواقعهما كيف يكُونَانَ؟
465
لما تكلَّمَ أوَّلاً على أباطيلِ اليهُودِ، ثم تكلَّم ثانياً على أباطيلِ النَّصَارى، وأقَامَ الدَّلائل على بُطْلانِها وفسادِهَا، فعند هذا خاطب مجمُوعَ الفريقَيْنِ، فقال تعالى: ﴿ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾، أي: لا تتجاوَزُوا الحَدَّ، والغُلُوَّ نَقيضُ التَّقْصِير، ومعْنَاهُ: الخُرُوجُ عَنِ الحَدِّ.
قوله تعالى: «غَيْرَ الحَقِّ» : فيه خمسة أوجه:
465
أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: لا تَغْلُوا في دينكُمْ غُلُوًّا غَيْرَ الحقِّ، أي: غُلُوًّا باطلاً، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
الثاني: أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعلِ في «تَغْلُوا»، أي: لا تَغْلُوا مُجاوِزينَ الحَقَّ، ذكره أبو البقاء.
الثالث: أنه حالٌ من «دينكُمْ»، أي: لا تغلُوا فيه وهو باطلٌ، بل اغْلُوا فيه وهُوَ حَقٌّ؛ ويؤيِّد هذا ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «لأنَّ الغُلُوَّ في الدين غُلُوَّانِ: حقٌّ؛ وهو أنْ يُفْحَصَ عن حقائقه، ويُفَتَّشَ عن أباعدِ معانيه، ويُجْتَهَد في تحصيله حُجَجه، وغُلُوٌّ باطلٌ؛ وهو أن يتجاوز الحقَّ ويتخطَّاه بالإعْرَاضِ عن الأدلَّة».
الرابع: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل.
الخامس: على الاستثناء المنقطع، ذكر هذين الوجهين أبو حيان عن غيره، واستبعدَهُما؛ فإنه قال: «وأبعد من ذهب إلى أنها استثناءٌ متَّصِلٌ، ومن ذهب إلى أنها استثناءٌ منقطعٌ، ويقدِّره ب» لَكِنَّ الحقَّ فاتَّبِعُوهُ «قال شهاب الدين: والمستثنى منه يَعْسُرُ تعيينُه، والذي يظهر فيه: أنه قوله تعالى:» في دينكُمْ «؛ كأنه قيل: لا تَغْلُوا في دينكُم إلا الدِّينَ الحقَّ، فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه، ومعنى الغلُوِّ فيه ما تقدَّم من تقرير الزمخشريِّ له.
وذكر الواحديُّ فيه الحالَ والاستثناء، فقال: وانتصابُ»
غَيْرَ الحَقِّ «من وجهين:
أحدهما: الحالُ والقَطْعُ من الدِّينِ؛ كأنه قيل: لا تَغْلُوا في دينِكُمْ مخالِفيَن للحَقِّ؛ لانهم خالَفُوا الحقَّ في دينهمْ، ثم غلوْا فيه بالإصْرارِ عليه.
والثاني: أن يكون منصوباٌ على الاستثناء، فيكون»
الحَقّ «مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه؛ بأنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حقٌّ على معنى اتباعه والثبات عليه، وهذا نصٌّ كما ذكرنا من أنَّ المستثنى هو» دِينُكُمْ «.
وتقدَّم معنى الغُلُوِّ في سورة النساء [الآية ١٧١] فظاهرُ هذه الأعاريب المتقدِّمةِ: أنَّ»
تَغْلُوا «فعلٌ لازمٌ، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء، إلا أن أهل اللغةِ يفسِّرونهُ بمعنى متعدٍّ؛ فإنهم قالوا: معناه لا تتجَاوَزُوا الحدَّ، قال الراغب: الغُلُوُّ تجاوزُ الحَدِّ، يقال ذلك إذا كان في السِّعْرِ» غَلاَءً «، وإذا كان في القَدْرِ والمنزلةِ» غُلُوًّا «، وفي السهم» غَلْواً «، وأفعالها جميعاً غَلاَ يَغْلُو؛ فعلى هذا: يجوز أن ينتصب» غَيْرَ الحَقِّ «مفعولاً به، أي: لا تتجاوَزُوا في دينكُمْ غير الحقِّ، فإنْ فسَّرنا» تَغْلُوا «بمعنى تتباعَدُوا من قولهم:» غَلاَ السَّهْمُ «، أي: تباعدَ كان قَاصِراً، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازمٌ، أخذه من هذا لا من الأوَّل.
466

فصل في معنى الآية


قال بعضُ المُفَسِّرين: معنى قوله «غَيْرَ الحَقِّ» أي: في دينِكُمُ المُخالِف للحَقِّ؛ لأنَّهُمْ خَالَفُوا الحقَّ في دينهِمْ، ثُمَّ غَلَوْا فيه بالإصْرَار عَليْه.
وقال ابْنُ الخَطيبِ: مَعْنَى الغُلُّو الباطل: أن تَتَكَلَّفَ الشُّبَهَ وإخْفَاءَ الدَّلائلِ، وذلك الغُلُوُّ أنَّ اليهُودَ - لعنُهُم اللَّهُ - نَسَبُوا سَيِّدنَا عيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى الزِّنَا وإلى أنَّهُ كَذَّابٌ والنَّصارى - لعنهم اللَّهُ - ادَّعَوا فيه الإلَهِيَّةِ.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ﴾ الآية.
الأهْوَاء: جمْعُ الهَوَى، وهو ما تَدْعُو إلَيْه شهوةُ النَّفْسِ.
والمراد هَاهُنَا: المذاهِبُ الَّتِي تدعو إليها الشَّهْوةُ دُونَ الحُجَّة.
قال الشَّعْبِيُّ: ما ذكر اللَّهُ بلفظ الهوى في القُرآن إلاَّ ذَمَّهُ.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [ص: ٢٦]، ﴿واتبع هَوَاهُ فتردى﴾ [طه: ١٦]، ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى﴾ [النجم: ٣]، ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾ [الفرقان: ٤٣].
قال أبُو عُبَيْدٍ: لم نجدِ الهوى يوضع إلا في مَوْضِعِ الشَّرِّ، لا يقال: فلانٌ يَهْوَى الخَيْر، إنما يقال: يريدُ الخَيْر ويُحِبُّهُ.
وقال بعضُهم: الهَوَى إلهُ يعبدُونَهُ من دُونِ اللَّهِ.
وقيل: سُمِّي الهَوَى هَوى؛ لأنَّهُ يَهْوِي بَصَاحِبِه في النَّارِ وأنْشَدُوا في ذَمِّ الهَوَى قوله: [الكامل]
٢٠٢٩ - إنَّ الهَوَى لَهُوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ فَإذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيتَ هَوَانَا
وقالَ رَجُلٌ لابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل هَوَايَ على هواك، فقال ابنُ عبَّاس: «كُلَّ هوى ضلالةٌ».
قوله تعالى: ﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ في نصب «كثيراً» وجهان:
أحدهما: أنه مفعولٌ به، وعلى هذا أكثرُ المتأوِّلين؛ فإنهم يفسِّرونه بمعنى: وأضلُّوا كَثِيراً مِنْهُمْ أو مِنَ المُنَافِقِينَ.
والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرية، أي: نعت لمصدرٍ محذوف، أي: إضلالاً كثيراً، وعلى هذا، فالمفعولُ محذوف، أي: أضَلُّوا غَيْرَهُمْ إضْلالاً كَثِيراً.
467

فصل


اعلم أنَّهُ تعالى وَصَفَهُمْ بثلاثِ دَرَجَات في الضَّلالِ، فَبَيَّنَ أنَّهُم كانوا ضَالِّين من قبل.
والمراد رُؤسَاء الضَّلالةِ من فَرِيقَيِ اليهُود والنَّصَارى لِمَا تَبَيَّنَ، والخطاب لِلَّذِين في عَصْرِ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، نُهُوا عن اتِّباعِ أسلافِهِم فيما ابْتَدَعُوه بأهْوَائِهِم، فتبيَّن أنهم كانوا مُضِلِّينَ لغيرهم، ثم ذكروا أنَّهُمْ استَمَرُّوا على تلك الحَالَةِ، حتى أنَّهم الآن ضَالُّون كما كَانُوا، ولا نجد حالةً أقْرَبَ إلى البُعْدِ من اللَّه تعالى، والقُرْب من عِقَابِ اللَّهِ من هذه الحالة - نعُوذُ باللَّه منها -.
ويحتَملُ أن يكُون المُرَاد أنَّهُم ضَلُّوا وأضَلُّوا، ثمَّ ضلُّوا بسبب اعتقادِهِمْ في ذلك الإضلال أنَّهُ إرشادٌ إلى الحقِّ، ولمَّا خَاطَبَهُمْ بهذَا الخطابِ وصَفَ أسلافهم، فقال تعالى: ﴿لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾.
قال أكثر المفسِّرِين: يعني أهْلَ «أيلة» لمَّا اعْتَدُوا في السَّبْتِ قال داوُدُ: «اللَّهُمَّ الْعَنْهُم واجْعلْهُم آيَةً» فَمُسِخُوا قِرَدَةً، وأصحاب المائدة لما أكلُوا من المائدة، ولم يُؤمِنُوا، قال عيسى - عليه السلام -: اللَّهُمَّ العَنْهُم كما لَعَنْتَ أصْحَابَ السَّبْتِ، فأصْبَحُوا وقد مسخوا خنازير، وكانوا خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فيهمُ امْرأةٌ ولا صَبِيٌّ.
قال بعضُ العُلَماء: إنَّ اليَهُود كانُوا يفْتَخِرُون بأنَّهُم من أوْلاد الأنْبِيَاء، فَذَكَر اللَّهُ هذه الآيَة؛ لتَدُلَّ على أنَّهُمْ مَلْعُونِين على ألْسِنَةِ الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام -.
وقيل: إنَّ داوُد وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، ولعنَا من يُكَذِّبُه وهو قولُ الأصَمِّ.
قوله تعالى: ﴿مِن بني إِسْرَائِيلَ﴾ : في محلِّ نصْبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا «الَّذينَ» وإمَّا واو «كَفَرُوا» وهما بمعنى واحدٍ، وقوله: ﴿على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى﴾ المرادُ باللسانِ الجارحةُ، لا اللغةُ، كذا قال أبو حيان، يعني: أنَّ الناطِقَ بلعْنِ هؤلاء لسانُ هذيْن النبيَيْنِ، وجاء قوله «عَلَى لِسَانِ» بالإفرادِ دون التثنيةِ والجَمْعِ، فلم يَقُلْ: «عَلَى لِسَانَيْ» ولا «عَلَى ألْسِنَةِ» لقاعدةٍ كليةٍ، وهي: أن كلَّ جزأيْنِ مفردَيْنِ من صاحبيهما، إذا أُضِيفَا إلى كليهما من غير تفريقٍ، جازَ فيهما ثلاثةُ أوجه: لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ -، ويليه التثنيةُ عند بعضهم، وعند بعضهم الإفرادُ مقدَّمٌ على التثنية، فيقال: «قطَعْتُ رُءُوسَ الكَبْشَيْنِ»، وإنْ شئْتَ: رَأسَي الكَبْشَيْن، وإن شئْتَ: رَأسَ الكَبْشَيْنِ، ومنه: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤].
فقولي «جُزْأيْن» : تحرُّزٌ من شيئين ليْسَا بجزأيْن؛ نحو: «دِرْهَمَيْكُمَا»، وقد جاء: «
468
مِنْ بُيُوتِكُمَا وعَمَائِمِكُمَا وأسْيَافِكُمَا» لأمْنِ اللَّبْسِ.
وبقولي: «مُفْردَيْنِ» : من نحو: «العَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ»، فأمَّا قوله تعالى: ﴿فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨] ففُهِم بالإجْماعِ.
وبقولي: «مِنْ غَيْرِ تَفريقٍ» : تحرُّزٌ من نحو: قطعْتُ رَأسَ الكَبْشَيْنِ: السَّمِين والكَبْشِ الهَزيلِ؛ ومنه هذه الآية، فلا يجوزُ إلا الإفرادُ، وقال بعضهم: «هُوَ مُخْتَارٌ»، أي: فيجوز غيرُه، وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ.
قال شهاب الدين: وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ، ويؤيِّد ذلك ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «نَزَّلَ اللَّهُ لَعْنَهُمْ في الزَّبُورِ على لسانِ دَاوُدَ، وفي الإنجيلِ على لسانِ عيسى»، وقوةُ هذا تأبَى كونه الجارحةَ، ثم إنِّي رأيتُ الواحديَّ ذكر عن المفسِّرين قولين، ورجَّح ما قلته؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وقال ابن عبَّاس: يريد في الزَّبُور وفي الإنجِيلِ، ومعنى هذا: أنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ في الزَّبُور من يكْفُرُ مِنْ بني إسرائيل، وكذلك في الإنجيلِ، وقيل: على لسان دَاوُدَ وعيسَى؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داوُدَ، والإنجيلَ لسانُ عيسى»، فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحَةِ، ثم قال: «وقال الزَّجَّاج:» وجائزٌ أن يكون داوُدُ وعيسَى عَلِمَا أنَّ محمَّداً نَبِيٌّ مبعوثٌ، وأنهما لَعَنَا من يَكْفُرُ به «، والقول هو الأوَّل، فتجويزُ الزجَّاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يرادُ باللسانِ الجارحةُ، ولكن ليس قولاً للمفسِّرين، و» عَلَى لسانِ «متعلِّقٌ ب» لُعِنَ «قال أبو البقاء:» كما يُقال: جَاءَ زَيْدٌ على فَرَسٍ «، وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهر أنه حالٌ، وقوله:» ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا «قد تقدَّم نظيره، وقوله:» وَكَانوا يَعْتَدُونَ «في هذه الجملةِ الناقصةِ وجهان:
أظهرهما: أن تكون عطفاً على صلةِ»
مَا «وهو» عَصَوْا «، أي: ذلك بسبب عصيانِهم وكونهم معتدين. والثاني: أنها استئنافيةٌ، أي: أخبر الله تعالى عنهم بذلك، قال أبو حيان:» ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشَّرْحِ له، وهو قولُه: كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ «.
469
ولمَّا خَاطَبَهُمْ بهذَا الخطابِ وصَفَ أسلافهم، فقال تعالى :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾.
قال أكثر المفسِّرِين١٣ : يعني أهْلَ " أيلة " لمَّا اعْتَدُوا في السَّبْتِ قال داوُدُ :" اللَّهُمَّ الْعَنْهُم واجْعلْهُم آيَةً " فَمُسِخُوا قِرَدَةً، وأصحاب المائدة لما أكلُوا من المائدة، ولم يُؤمِنُوا، قال عيسى - عليه السلام - : اللَّهُمَّ العَنْهُم كما لَعَنْتَ أصْحَابَ السَّبْتِ، فأصْبَحُوا وقد مسخوا خنازير، وكانوا خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فيهمُ امْرأةٌ ولا صَبِيٌّ.
قال بعضُ العُلَماء١٤ : إنَّ اليَهُود كانُوا يفْتَخِرُون بأنَّهُم من أوْلاد الأنْبِيَاء، فَذَكَر اللَّهُ هذه الآيَة ؛ لتَدُلَّ على أنَّهُمْ مَلْعُونِين على ألْسِنَةِ الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام -.
وقيل : إنَّ داوُدَ وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، ولعنَا من يُكَذِّبُه وهو قولُ الأصَمِّ١٥.
قوله تعالى :﴿ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ : في محلِّ نصْبٍ على الحال، وصاحبُها : إمَّا " الَّذينَ " وإمَّا واو " كَفَرُوا " وهما بمعنى واحدٍ، وقوله :﴿ عَلى لِسَانِ دَاوُودَ وعيسَى ﴾ المرادُ باللسانِ الجارحةُ، لا اللغةُ، كذا قال أبو حيان١٦، يعني : أنَّ الناطِقَ بلعْنِ هؤلاء لسانُ هذيْن النبيَيْنِ، وجاء قوله " عَلَى لِسَانِ " بالإفرادِ دون التثنيةِ والجَمْعِ، فلم يَقُلْ :" عَلَى لِسَانَيْ " ولا " عَلَى ألْسِنَةِ " لقاعدةٍ كليةٍ، وهي : أن كلَّ جزأيْنِ مفردَيْنِ من صاحبيهما، إذا أُضِيفَا إلى كليهما من غير تفريقٍ، جازَ فيهما ثلاثةُ أوجه : لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ -، ويليه التثنيةُ عند بعضهم، وعند بعضهم الإفرادُ مقدَّمٌ على التثنية، فيقال :" قطَعْتُ رُءُوسَ الكَبْشَيْنِ "، وإنْ شئْتَ : رَأسَي الكَبْشَيْن، وإن شئْتَ : رَأسَ الكَبْشَيْنِ، ومنه :﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [ التحريم : ٤ ].
فقولي " جُزْأيْن " : تحرُّزٌ من شيئين ليْسَا بجزأيْن ؛ نحو :" دِرْهَمَيْكُمَا "، وقد جاء :" مِنْ بُيُوتِكُمَا وعَمَائِمِكُمَا وأسْيَافِكُمَا " لأمْنِ اللَّبْسِ.
وبقولي :" مُفْردَيْنِ " : من نحو :" العَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ "، فأمَّا قوله تعالى :﴿ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ [ المائدة : ٣٨ ] ففُهِم بالإجْماعِ.
وبقولي :" مِنْ غَيْرِ تَفريقٍ " : تحرُّزٌ من نحو : قطعْتُ رَأسَ الكَبْشَيْنِ : السَّمِين والكَبْشِ الهَزيلِ ؛ ومنه هذه الآية، فلا يجوزُ إلا الإفرادُ، وقال بعضهم :" هُوَ مُخْتَارٌ "، أي : فيجوز غيرُه، وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ.
قال شهاب الدين١٧ : وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ، ويؤيِّد ذلك ما قاله الزمخشريُّ١٨ ؛ فإنه قال :" نَزَّلَ اللَّهُ لَعْنَهُمْ في الزَّبُورِ على لسانِ دَاوُدَ، وفي الإنجيلِ على لسانِ عيسى "، وقوةُ هذا تأبَى كونه الجارحةَ، ثم إنِّي رأيتُ الواحديَّ ذكر عن المفسِّرين قولين، ورجَّح ما قلته ؛ قال - رحمه الله - :" وقال ابن عبَّاس : يريد في الزَّبُور وفي الإنجِيلِ، ومعنى هذا : أنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ في الزَّبُور من يكْفُرُ مِنْ بني إسرائيل، وكذلك في الإنجيلِ، وقيل : على لسان دَاوُدَ وعيسَى ؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داوُدَ، والإنجيلَ لسانُ عيسى "، فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحَةِ، ثم قال : وقال الزَّجَّاج١٩ :" وجائزٌ أن يكون داوُدُ وعيسَى عَلِمَا أنَّ محمَّداً نَبِيٌّ مبعوثٌ، وأنهما لَعَنَا من يَكْفُرُ به "، والقول هو الأوَّل، فتجويزُ الزجَّاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يرادُ باللسانِ الجارحةُ، ولكن ليس قولاً للمفسِّرين، و " عَلَى لسانِ " متعلِّقٌ ب " لُعِنَ " قال أبو البقاء٢٠ :" كما يُقال : جَاءَ زَيْدٌ على فَرَسٍ "، وفيه نظرٌ ؛ إذ الظاهر أنه حالٌ، وقوله :" ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا " قد تقدَّم نظيره، وقوله :" وَكَانوا يَعْتَدُونَ " في هذه الجملةِ الناقصةِ وجهان :
أظهرهما : أن تكون عطفاً على صلةِ " مَا " وهو " عَصَوْا "، أي : ذلك بسبب عصيانِهم وكونهم معتدين.
والثاني : أنها استئنافيةٌ، أي : أخبر الله تعالى عنهم بذلك، قال أبو حيان٢١ :" ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشَّرْحِ له، وهو قولُه : كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ ".
قوله تعالى: ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ﴾ التَّنَاهِي هاهُنَا له مَعْنَيَانِ:
469
أحدهما: الذي عَلَيْه الجُمْهُور أنَّهُ تَفَاعُل من النَّهي أي: كان لا ينهى بَعْضُهُم بَعْضاً.
روى ابنُ مسعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قال: «كَانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُم مِنْ بَني إسْرَائِيلَ إذا عَمِلَ العَامِلُ بالخَطِيئَةِ نَهَاهُ النَّاهِي تعذيراً، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ جَاءَ لَهُ وواكلَهُ وشَارَبَهُ، كَأنَّهُ لَمْ يَرَهُ على الخَطِيئَةِ بالأمْسِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُم ضَرَبَ قُلُوبَ بَعْضِهِم عَلَى بَعْضِ، وجَعَلَ مِنْهُم القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ، ولَعَنَهُمْ على لِسَانِ دَاوُدَ وعيسَى ابْنِ مَريمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكر ولتأخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ ولَتأطرنَّه على الحقِّ أطْراً أوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْعَنُكُم كَما لَعَنَهُم».
المعنى الثاني: التَّنَاهِي بمعنى الانتِهَاء، يُقَال: انْتَهَى الأمر، وتَنَاهَى عَنْهُ إذا كَفَّ عَنْه.
وقوله تعالى: ﴿عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ : متعلِّقٌ ب «يَتَناهَوْنَ» و «فَعَلُوهُ» صفةٌ ل «مُنْكَرٍ»، قال الزمخشريُّ: «ما معنى وصفِ المنكرِ ب» فَعَلُوهُ «، ولا يكونُ النَّهْيُ بعد الفِعْلِ؟ قلتُ: معناه لا يتناهَوْنَ عن معاودةِ منْكَرٍ فعَلُوهُ، أو عن مِثْلِ مُنْكَر فَعلُوهُ، أو عن منْكرٍ أرادُوا فِعْلَهُ، كما ترى أماراتِ الخَوْضِ في الفسْقِ وآلاتِه تُسوَّى وتُهَيَّأُ، ويجوز أن يُرادَ: لا ينتهون ولا يمتنعونَ عن مُنْكَرٍ فعلُوه، بل يُصِرُّونَ عليه ويُداوِمُونَ، يقال: تناهَى عن الأمر وانتهى عنه، إذا امتنع منه».
وقوله تعالى: «لَبِئْسَمَا» : و «بِئْسَمَا قَدَّمَتْ» قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك [الآية ٩ في البقرة] ؛ فلا حاجة إلى إعادته، وهنا زيادةٌ أخرى؛ لخصوصِ التركيب يأتي الكلامُ عليها.
قوله تعالى: ﴿ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ﴾ قيل: مِنَ اليَهُود كَعْبُ بنُ الأشْرَف، ﴿يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ﴾ مُشْرِكي مَكَّةَ حين خَرَجُوا إليهم يجيشون على النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وقال ابنُ عبَّاس والحَسَنُ ومُجَاهِد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: «مِنْهُمْ» يعني المُنَافِقِين يَقُولُون لِلْيَهُود: «لِبِئْسَ ما قدَّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ»، بِئسَ مَا قَدَّموا من العَملِ لمعَادِهِم في الآخِرَة.
قوله تعالى: ﴿أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ﴾ في محلِّه أوجهٌ:
أحدها: أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصُوصِ بالذمِّ، والمخصوصُ قد حُذِفَ، وأُقيمَتْ صفتُه مقامه، فإنك تُعْرِبُ «مَا» اسماً تامّاً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ
470
الذمِّ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، و ﴿قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾ جملةٌ في محلِّ رفع صفةً له، والتقديرُ: لَبِئْسَ الشيءُ شَيءٌ قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أنْفُسُهمْ، ف ﴿أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ﴾ بدلٌ من «شَيْء» المحذوفِ، وهذا هو مذهبُ سيبويه؛ كما تقدَّم تقريرُه.
الثاني: أنه هو المخصوصُ بالذمِّ، فيكونُ فيه الثلاثةُ أوجه المشهورة:
أحدها: أنه مبتدأٌ، والجملةُ قبله خبرُه، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك، أو لا يحتاج إلى رابط؛ لأن الجملةَ عينُ المبتدأ.
الثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ لأنك لمَّا قلت: «بِئْسَ الرَّجُلُ» قيل لك: مَنْ هو؟ فقلتَ: فلانٌ، أي: هُوَ فلانٌ.
الثالث: أنه مبتدأ، خبرُه محذوفٌ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ، ولم يذكر غيره، قال: ﴿أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ﴾ هو المخصوصُ بالذمِّ؛ كأنه قيل: لبِئْسَ زادُهُمْ إلى الآخرة سخطُ اللَّهِ تعالى عليْهِمْ، والمعنى: مُوجِبُ سُخط الله «، قال شهاب الدين: وفي تقدير هذا المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفَى على متأمِّلِهِ؛ فإنَّ نفسَ السُّخْطِ المضاف إلى الباري تعالى لا يقالُ هو المخصوصُ بالذمِّ، إنما المخصوصُ بالذمِّ أسبابُه، وذهبَ إليه أيضاَ الواحديُّ ومكي وأبو البقاء، إلاَّ أنَّ أبا حيان بعد أنْ حكى هذا الوجه عن أبي القاسم الزمخشريِّ قال:» ولَمْ يَصِحَّ هذا الإعرابُ إلا على مذهبِ الفرَّاءِ والفارسيِّ في جَعْلِ «مَا» موصولةً، أو على مذهب من يجعلُ «مَا» تمييزاً، و «قَدَّمَتْ لَهُمْ» صفتها، وأمَّا على مذهبِ سيبويه، فلا يتأتَّى ذلك «ثم ذكر مذهبَ سيبويه.
والوجه الثالث من أوجه»
أنْ سَخِطَ «: أنه في محلِّ رفع على البدلِ من» مَا «، وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية، إلا أن مكِّيًّا حكاه عن غيره، قال:» وقيل: في موضعِ رفع على البدلِ من «مَا» في «لَبِئْسَ» على أنها معرفةٌ «، قال أبو حيان - بعد ما حكى هذا الوجه عن ابن عطيَّة -:» ولا يَصِحُّ هذا، سواءٌ كانت «مَا» تامَّةً أو موصولةً؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه، و «أنْ سَخِطَ» لا يجوزُ أنْ يكونَ فاعلاً ل «بِئْسَ» ؛ لأنَّ فاعل «بِئْسَ» لا يكونُ أن والفِعْلَ «وهو إيرادٌ واضحٌ كما قاله.
الوجه الرابع: أنه في محلِّ نصْبٍ على البدلِ من»
مَا «، إذا قيل بأنها تمييزٌ، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء، وهذا لا يجوزُ ألبتة؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين
471
أن يكون نكرةً، و» أنْ «وما في حيِّزها عندهم من قبيل أعرف المعارفِ؛ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ، وقد تقدم تقريرُ ذلك، فكيف يَقعُ تمييزاً؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدَلِ منه؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ المبدَلِ منه؛ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّهم لا يجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خُصُوصاً أنْ والفعل.
الخامس: أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من الضمير المنصوب ب «قَدَّمَتْ»
العائدِ على «مَا» الموصولةِ أو الموصوفة؛ على حسبِ ما تقدَّم، والتقديرُ: قدَّمَتْهُ سُخْطَ الله؛ كقولك: «الذي رَأيْتُ زَيْداً أخُوكَ» وفي هذا بحثٌ يذكَرُ في موضعه.
السادس: أنه في موضع نصب على إسقاط الخافض؛ إذ التقديرُ: لأنْ سخطَ، وهذا جارٍ على مذهب سيبويه والفراء؛ لأنهما يَزْعُمان أنَّ محل «أنْ» بعد حذْفِ الخافض في محلِّ نصب.
السابع: أنه في محلِّ جرٍّ بذلك الخافضِ المقدَّرِ، وهذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائيِّ؛ لانهما يَزْعُمان أنَّها في محل جرٍّ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرَّةٍ، وعلى هذا، فالمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، أي: لَبِئْسَمَا قدَّمَتْ لَهُمْ أنفُسُهُمْ عَملُهُمْ أو صُنْعُهُمْ، ولامُ العلَّةِ المقدَّرة معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ، أي: سببُ ذَمِّهِمْ سُخْطُ اللَّهِ عليهم، أو بمحذوفٍ بعده، أي: لأنْ سخطَ اللَّهُ عليْهِمْ كَانَ كَيْتَ وكَيْتَ.
و «تَرَى» يجوز أنْ تكونَ مِنْ رؤية البَصَر، ويكونُ الكثيرُ المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن تكونَ العلميَّةَ، والكثيرُ على هذا أسلافُهم، فمعنى «تَرَى» : تَعْلَمُ أخبارَهم وقصَصَهم بإخبارنا إيَّاك، فعلى الأوَّل يكون قوله «يَتَوَلَّوْن» في محلِّ نصبٍ على الحال، وعلى الثَّاني يكون في محلِّ نصبٍ على المفعول الثاني.
قوله تعالى: «ولو كانوا» : الظاهرُ أنَّ اسم «كَانَ» وفاعل «اتَّخَذُوهُمْ» عائدٌ على «كَثِيراً» من قوله: « ﴿ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ﴾، والضميرُ المنصوب في» اتَّخَذُوهمْ «يعودُ على» الَّذِينَ كَفَرُوا «في قوله: ﴿يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ﴾.
والمعنى: لوْ كانُوا يُؤمِنُون باللَّه، والنَّبِيِّ، وهو مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وما أُنْزِلَ إليهِ ما اتَّخَذُوا المُشْركين أوْلِيَاء؛ لأنَّ تَحْريمَ ذلك مُتَأكدٌ في التَّوْرَاة، وفي شَرْع مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلمَّا فَعَلُوا ذلك، ظَهَرَ أنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ تَقْرِير دين مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بل مرادُهُمُ الرِّياسَةُ والجَاهُ، ويسعونَ في تَحْصيلهِ بأيِّ طريقٍ قدروا عليه، وبهذا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بالفِسْقِ، فقالَ تعالى: ﴿ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
وأجاز القفَّالُ أن يكون اسم»
كَانَ «يعودُ على» الَّذِينَ كَفَروا «، وكذلك الضميرُ المنصوبُ في» اتَّخَذُوهُمْ «، والضميرُ المرفوعُ في» اتَّخَذُوهُمْ «يعودُ على اليهود، والمرادُ
472
بالنبيِّ [محمدٌ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتقديرُ: ولو كان الكافرون المُتَولَّوْنَ مؤمنينَ بمحمَّدٍ والقرآنِ، ما اتخذَهُمْ هؤلاء اليهودُ أولياءَ، والأولُ أوْلَى؛ لأن الحديثَ عن كثيرٍ، لا عن المتولَّيْنَ، وجاء جواب» لَوْ «هنا على الأفصحِ، وهو عدمُ دخولِ اللام عليه؛ لكونه منفيًّا؛ ومثله قول الآخر: [البسيط]
٢٠٣٠ - لَوْ أنَّ بالعْلمِ تُعْطَى مَا تَعِيشُ به لَمَا ظَفِرْت مِنَ الدُّنْيَا بِثُفْرُوقِ
وقوله تعالى: ﴿ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ﴾ هذا الاستدراكُ واضحٌ بما تقدَّم، وقوله تعالى:»
كَثِيراً «هو من إقامةِ الظاهرِ مقام المضمر؛ لأنه عبارةٌ عن» كَثِيراً منهم «المتقدِّم؛ فكأنه قيل: تَرَى كثيراً مِنْهُمْ، ولكنَّ ذلك الكَثِيرَ، ولا يريدُ، ولكنَّ كثيراً من ذلك الكَثِيرِ فَاسِقُون.
473
قوله تعالى :﴿ وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ قيل : مِنَ اليَهُود كَعْبُ بنُ الأشْرَف، ﴿ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ مُشْرِكي مَكَّةَ حين خَرَجُوا إليهم يجيشون على النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وقال ابنُ عبَّاس والحَسَنُ ومُجَاهِد - رضي الله عنهم - :" مِنْهُمْ " يعني المُنَافِقِين يَقُولُون لِلْيَهُود :" لِبِئْسَ ما قدَّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ " ١، بِئسَ مَا قَدَّموا من العَملِ لمعَادِهِم في الآخِرَة.
قوله تعالى :﴿ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ في محلِّه أوجهٌ :
أحدها : أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصُوصِ بالذمِّ، والمخصوصُ قد حُذِفَ، وأُقيمَتْ صفتُه مقامه، فإنك تُعْرِبُ " مَا " اسماً تامّاً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الذمِّ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، و ﴿ قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ جملةٌ في محلِّ رفع صفةً له، والتقديرُ : لَبِئْسَ الشيءُ شَيءٌ قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أنْفُسُهمْ، ف ﴿ أنْ سَخِطَ اللَّهُ عليْهِمْ ﴾ بدلٌ من " شَيْء " المحذوفِ، وهذا هو مذهبُ سيبويه٢ ؛ كما تقدَّم تقريرُه.
الثاني : أنه هو المخصوصُ بالذمِّ، فيكونُ فيه الثلاثةُ أوجه المشهورة :
أحدها : أنه مبتدأٌ، والجملةُ قبله خبرُه، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك، أو لا يحتاج إلى رابط ؛ لأن الجملةَ عينُ المبتدأ.
الثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ؛ لأنك لمَّا قلت :" بِئْسَ الرَّجُلُ " قيل لك : مَنْ هو ؟ فقلتَ : فلانٌ، أي : هُوَ فلانٌ.
الثالث : أنه مبتدأ، خبرُه محذوفٌ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ، ولم يذكر غيره، قال :﴿ أن سخطَ اللَّهُ عليْهِمْ ﴾ هو المخصوصُ بالذمِّ ؛ كأنه قيل : لبِئْسَ زادُهُمْ إلى الآخرة سخطُ اللَّهِ تعالى عليْهِمْ، والمعنى : مُوجِبُ سُخط الله، قال شهاب الدين٣ : وفي تقدير هذا المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفَى على متأمِّلِهِ ؛ فإنَّ نفسَ السُّخْطِ المضاف إلى الباري تعالى لا يقالُ هو المخصوصُ بالذمِّ، إنما المخصوصُ بالذمِّ أسبابُه، وذهبَ إليه أيضاَ الواحديُّ ومكي٤ وأبو البقاء٥، إلاَّ أنَّ أبا حيان٦ بعد أنْ حكى هذا الوجه عن أبي القاسم الزمخشريِّ قال :" ولَمْ يَصِحَّ هذا الإعرابُ إلا على مذهبِ الفرَّاءِ والفارسيِّ في جَعْلِ " مَا " موصولةً، أو على مذهب من يجعلُ " مَا " تمييزاً، و " قَدَّمَتْ لَهُمْ " صفتها، وأمَّا على مذهبِ سيبويه، فلا يتأتَّى ذلك " ثم ذكر مذهبَ سيبويه.
والوجه الثالث من أوجه " أنْ سَخِطَ " : أنه في محلِّ رفع على البدلِ من " مَا "، وإلى ذلك ذهب مكي٧ وابنُ عطية٨، إلا أن مكِّيًّا حكاه عن غيره، قال :" وقيل : في موضعِ رفع على البدلِ من " مَا " في " لَبِئْسَ " على أنها معرفةٌ "، قال أبو حيان٩ - بعد ما حكى هذا الوجه عن ابن عطيَّة - :" ولا يَصِحُّ هذا، سواءٌ كانت " مَا " تامَّةً أو موصولةً ؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه، و " أنْ سَخِطَ " لا يجوزُ أنْ يكونَ فاعلاً ل " بِئْسَ " ؛ لأنَّ فاعل " بِئْسَ " لا يكونُ أن والفِعْلَ " وهو إيرادٌ واضحٌ كما قاله.
الوجه الرابع : أنه في محلِّ نصْبٍ على البدلِ من " مَا "، إذا قيل بأنها تمييزٌ، ذكر ذلك مكي١٠ وأبو البقاء١١، وهذا لا يجوزُ ألبتة ؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين أن يكون نكرةً، و " أنْ " وما في حيِّزها عندهم من قبيل أعرف المعارفِ ؛ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ، وقد تقدم تقريرُ ذلك، فكيف يَقعُ تمييزاً ؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدَلِ منه ؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك ؛ لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ المبدَلِ منه ؛ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك ؛ لأنَّهم لا يجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خُصُوصاً أنْ والفعل.
الخامس : أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من الضمير المنصوب ب " قَدَّمَتْ " العائدِ على " مَا " الموصولةِ أو الموصوفة ؛ على حسبِ ما تقدَّم، والتقديرُ : قدَّمَتْهُ سُخْطَ الله ؛ كقولك :" الذي رَأيْتُ زَيْداً أخُوكَ " وفي هذا بحثٌ يذكَرُ في موضعه.
السادس : أنه في موضع نصب على إسقاط الخافض ؛ إذ التقديرُ : لأنْ سخطَ، وهذا جارٍ على مذهب سيبويه١٢ والفراء١٣ ؛ لأنهما يَزْعُمان أنَّ محل " أنْ " بعد حذْفِ الخافض في محلِّ نصب.
السابع : أنه في محلِّ جرٍّ بذلك الخافضِ المقدَّرِ، وهذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائيِّ ؛ لأنهما يَزْعُمان أنَّها في محل جرٍّ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرَّةٍ، وعلى هذا، فالمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، أي : لَبِئْسَمَا قدَّمَتْ لَهُمْ أنفُسُهُمْ عَملُهُمْ أو صُنْعُهُمْ، ولامُ العلَّةِ المقدَّرة معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ، أي : سببُ ذَمِّهِمْ سُخْطُ اللَّهِ عليهم، أو بمحذوفٍ بعده، أي : لأنْ سخطَ اللَّهُ عليْهِمْ كَانَ كَيْتَ وكَيْتَ.
و " تَرَى " يجوز أنْ تكونَ مِنْ رؤية البَصَر، ويكونُ الكثيرُ المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تكونَ العلميَّةَ، والكثيرُ على هذا أسلافُهم، فمعنى " تَرَى " : تَعْلَمُ أخبارَهم وقصَصَهم بإخبارنا إيَّاك، فعلى الأوَّل يكون قوله " يَتَوَلَّوْن " في محلِّ نصبٍ على الحال، وعلى الثَّاني يكون في محلِّ نصبٍ على المفعول الثاني.
١ انظر: تفسير القرطبي (٦/١٦٠)..
٢ ينظر: الكتاب ١/٤٧٦..
٣ ينظر: الدر المصون ٢/٥٨٨..
٤ ينظر: المشكل ١/٢٤٢..
٥ ينظر: الإملاء ١/٢٢٣..
٦ ينظر: البحر المحيط ٣/٥٤٩..
٧ ينظر: المشكل ١/٢٤٢..
٨ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٢٥..
٩ ينظر: البحر المحيط ٣/٥٤٩..
١٠ ينظر: المشكل ١/٢٤٢..
١١ ينظر: الإملاء ١/٢٢٣..
١٢ ينظر: الكتاب ١/١٧١..
١٣ ينظر: معاني القرآن ١/١٤٨، ٢/٢٣٨..
قوله تعالى :" ولو كانوا " : الظاهرُ أنَّ اسم " كَانَ " وفاعل " اتَّخَذُوهُمْ " عائدٌ على " كَثِيراً " من قوله :﴿ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾، والضميرُ المنصوب في " اتَّخَذُوهمْ " يعودُ على " الَّذِينَ كَفَرُوا " في قوله :﴿ يَتوَلَّوْنَ الذين كفرُوا ﴾.
والمعنى : لوْ كانُوا يُؤمِنُون بِاللَّه، والنَّبِيِّ، وهو مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وما أُنْزِلَ إليهِ ما اتَّخَذُوا المُشْركين أوْلِيَاء ؛ لأنَّ تَحْريمَ ذلك مُتَأكدٌ في التَّوْرَاة، وفي شَرْع مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فَعَلُوا ذلك، ظَهَرَ أنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ تَقْرِير دين مُوسى - عليه الصلاة والسلام - بل مرادُهُمُ الرِّياسَةُ والجَاهُ، ويسعونَ في تَحْصيلهِ بأيِّ طريقٍ قدروا عليه، وبهذا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بالفِسْقِ، فقالَ تعالى :﴿ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
وأجاز القفَّالُ أن يكون اسم " كَانَ " يعودُ على " الَّذِينَ كَفَروا "، وكذلك الضميرُ المنصوبُ في " اتَّخَذُوهُمْ "، والضميرُ المرفوعُ في " اتَّخَذُوهُمْ " يعودُ على اليهود، والمرادُ بالنبيِّ [ محمدٌ ] صلى الله عليه وسلم والتقديرُ : ولو كان الكافرون المُتَولَّوْنَ مؤمنينَ بمحمَّدٍ والقرآنِ، ما اتخذَهُمْ هؤلاء اليهودُ أولياءَ، والأولُ أوْلَى ؛ لأن الحديثَ عن كثيرٍ، لا عن المتولَّيْنَ، وجاء جواب " لَوْ " هنا على الأفصحِ، وهو عدمُ دخولِ اللام عليه ؛ لكونه منفيًّا ؛ ومثله قول الآخر :[ البسيط ]
لَوْ أنَّ بالعْلمِ تُعْطَى مَا تَعِيشُ به لَمَا ظَفِرْت مِنَ الدُّنْيَا بِثُفْرُوقِ١
وقوله تعالى :﴿ ولكنَّ كثيراً منهُمْ ﴾ هذا الاستدراكُ واضحٌ بما تقدَّم، وقوله تعالى :" كَثِيراً " هو من إقامةِ الظاهرِ مقام المضمر ؛ لأنه عبارةٌ عن " كَثِيراً منهم " المتقدِّم ؛ فكأنه قيل : تَرَى كثيراً مِنْهُمْ، ولكنَّ ذلك الكَثِيرَ، ولا يريدُ، ولكنَّ كثيراً من ذلك الكَثِيرِ فَاسِقُون.
١ ينظر: البحر ٣/٥٥٠، والدر المصون ٢/٥٨٩..
لما ذكرَ عداوةَ اليهُودِ للمُسْلِمِين، فلذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرناءَ للمشركين في شدَّةِ العداوةِ، بل نَبَّه على أنَّهُمْ أشدُّ في العداوةِ من المُشْركين، لكونه - تعالى - قدَّم ذكرَهُم على ذِكْر المُشْرِكِين.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ما خَلاَ يَهُودِيانِ بِمُسْلِمٍ إلاَّ هَمَّا بِقَتْلِهِ»، وذكر تعالى أنَّ النَّصارى ألَيْنَ عِرِيكَة مِنَ اليهُودِ، وأقْرَبَ إلى المُسْلِمِين منهم، والمقصود من بَيَانِ هذا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أمْرِ اليَهُود على الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - و «اللاَّمُ» في قوله: «لتَجدنَّ» هي لامُ القسم.
473
وقد تقدّم إعْرَابُ هذا في نحو قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦]، فأغْنَى عن إعادته وقال ابنُ عطيَّة: «اللامُ للابْتداءِ»، وليس بشيء، بل هي لامٌ يُتلَقَّى بها القسمُ، و «أشدَّ النَّاسِ» مفعولٌ أوَّل، و «عَدَاوَةً» نصب على التمييز، و «لِلَّذِينَ» متعلِّقٌ بها، قَوِيَتْ باللامِ؛ لمَّا كانت فَرْعاً في العمل على الفعل، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها؛ فهي كقوله: [الطويل]
٢٠٣١ -................... وَرَهْبَةٌ... عِقَابَكَ...................
ويجوزَ أن يكون «لِلَّذِينَ» صفةً ل «عَدَاوَةً» فيتعلَّقَ بمحذوف، و «اليَهُودَ» مفعولٌ ثانٍ، وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكون» اليهُودَ «هو الأولَ، و» أشَدَّ «هو الثاني» وهذا هو الظاهرُ؛ إذ المقصودُ أنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركينَ بأنَّهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناس موَدَّةً لهم، وليس المرادُ أنْ يخبرَ عن أشدِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ بكَوْنِهِم من اليهودِ والنصارى، فإنْ قيل: متى استوَيَا تعْرِيفاً وتنْكيراً، وجبَ تقديمُ المفعولِ الأول وتأخيرُ الثاني؛ كما يجب في المبتدأ والخبرِ، وهذا من ذاك، فالجوابُ: أنه إنما يجب ذلك حيث ألْبَسَ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك، جاز التقديمُ والتأخيرُ؛ ومنه قول: [الطويل]
٢٠٣٢ - بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا، وبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ
ف «بَنُو أبْنَاء» هو المبتدأ، و «بَنُونَا» خبره؛ لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء؛ ومثلُه قول الآخر: [البسيط]
474
٢٠٣٣ - قَبِيلَةٌ الأمُ الأحْيَاءِ أكْرَمُهَا وَأَغْدَرُ النَّاسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا
«أكْرمُهَا» هو المبتدأ و «الأمُ الأحْيَاءِ» خبرُه، وكذا «وَافِيهَا» مبتدأ و «أغْدَرُ النَّاس» خبره، والمعنى على هذا، والآيةُ من هذا القبيلِ فيما ذكرنا وقوله: «والذينَ أشْرَكُوا» عطفٌ على اليَهودِ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها.

فصل


تَقْدِيرُ الكلام قَسَماً: إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكينَ أشَدّ عَدَاوةً مع المُؤمنين، وقدْ شَرَحْتُ لك أنَّ هذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَة عادةٌ قَدِيمَةٌ، ففرِّغْ خَاطِرَك عنهم، ولا تُبَالِ بمكْرِهِم وكيْدهِم.
وقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى﴾.
قال ابُن عباسٍ وسعيد بن جبير وعطاء والسُّدِّيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - المُرادُ به: النَّجَاشِي وقومه الذين قَدِمُوا من الحَبَشَةِ، وآمَنُوا به، ولم يُرِدْ جَمِيعَ النَّصارى؛ لأنَّهُمْ في عَداوتِهِم للمُسْلِمين، كاليَهُودِ في قَتْلِهمْ المُسْلِمِين وأسْرِهِمْ، وتَخْريبِ بلادِهِمْ، وهَدْمِ
475
مَسَاجِدِهِمْ، وإحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ، ولا كَرَامَةَ لَهُمْ، بَل الآيَةُ فيمَنْ أسْلَمَ مِنْهُم.
وقال آخرون: مَذْهَبُ اليَهُود الفَاسِد، أنَّهُ يَجِبُ إيصَالُ الشّرِّ إلى من يُخَالِفُهُمْ في الدِّين بأيِّ طريقٍ كان، فإن قَدَرُوا على القَتْل فذلِكَ، وإلاَّ فنهب المالِ والسَّرِقَة، أو بِنَوْع من المَكْرِ والكَيْدِ والحِيلَةِ، وأمَّا النَّصَارى فليس مذهبهم ذلك، بل الإيذَاءُ في دينهم حَرَامٌ فهذا وَجْهُ التَّفاوُتِ، ثمَّ ذكر - سبحانه - سَبَبَ التَّفَاوُتِ، فقال ﴿اذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً﴾.
فإن قِيلَ: لِم أسند تسمية النَّصَارى إليهم، بقوله تعالى: ﴿الذين قالوا إِنَّا نصارى﴾ ؛ ولمَّا ذكر اليهود سمَّاهم بقوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود﴾ ولم يُسْنِدِ التَّسْمِيّةَ إلَيْهم.
فالجوابُ: لأنَّ تسميتهم باليَهُود إن كانت لِكَوْنِهِمْ من أوْلادِ يَهُوذَا بْنِ يَعقُوبَ فَهِيَ تسْمِيَةٌ حَقِيقَةٌ أيضاً، وإن كانت من التَّحَرُّكِ في دِرَاسَتِهِمْ، فكذلك أيْضاً، والنَّصَارَى فَهُم الذين سَمُّوا أنفُسَهُمْ حين قال لهم عيسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله﴾ [الصف: ١٤]، فلذلك أسْنَدَ التَّسْمِيَة إليْهِم، وإنْ كانوا إنَّمَا سُمُّوا نصارَى؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْكُنُون قَرْيَةً يقال لها: «نَاصِرَة»، فكُلُّهُمْ لمْ يكُونُوا سَاكِنِين فيها، بَلْ بعضُهُم أوْ أكثرُهُمْ، فالحقيقة لم تُوجَدْ فيهم.
وقد تقدَّمَ الكلامُ في تَسْمِيَتهِم عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ﴾ [الآية: ٦٢] في البقرة.
قوله تعالى: «ذَلِكَ بأنَّ» مبتدأ وخبرٌ، وتقدم تقريره، و «مِنْهُمْ» خبر «أنَّ»، و «قِسِّيسِينَ» اسمها، وأن واسمُها وخبرها في محلِّ جرِّ بالباء، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر «ذَلِكَ»، والقِسِّيسِينَ جمع «قِسِّيس» على فَعِّيلٍ، وهو مثالُ مُبالغة ك «صدِّيقٍ»، وقد تقدَّم، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابدُهُمْ، وأصلُه من تَقَسَّس الشَّيْء، إذا تَتَّبَعَهُ وطلبَهُ باللَّيْلِ، يقال: «تَقَسَّسْتُ أصْواتَهُم»، أي: تَتَبَّعْتهَا باللَّيْلِ، ويُقال لرئيس النصارى: قِسٌّ وقِسِّيسٌ، وللدليلِ بالليلِ: قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ، قاله الراغب، وقال غيرُه: القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ، ومنه سُمِّيَ عالم النصارى؛ لتتبُّعِه العِلْمَ، قال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاجِ: [الرجز]
٢٠٣٤ - أصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الأذَى غَوَافِلاَ يَمْشِينَ هَوْناً خُرُداً بَهَالِلا
ويقال: قَسَّ الأثَرَ وقصَّهُ بالصَّاد أيضاً، ويقال: قَسٌّ وقِسٌّ بفتح القاف وكسرها، وقِسِّيس، وزعم ابن عطية أنه أعجميٌّ مُعَرَّبٌ، وقال الواحديُّ: «وقد تكلَّمتِ العربُ
476
بالقسِّ والقِسِّيسِ» وأنشد المازنيُّ: [الرجز]
٢٠٣٥ - لَوْ عَرَفَتْ لأيْبُلِيِّ قَسِّ... أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ... حَنَّ إليها كَحَنين الطَّسِّ...
وأنشد لأميةَ بْنِ الصَّلْتِ: [البسيط]
٢٠٣٦ - لَوْ كانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ يُحْييهِمُ اللَّهُ فِي أيْديهِمُ الزُّبُرُ
هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ، ثم قال: «وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ: ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ» يعني: بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه، قيل له: «قِسِّيسٌ»، وقال قطربٌ: القَسُّ والقِسِّيسُ: العَالِمُ بلغة الرُّوم؛ قال وَرَقَةُ: [الوافر]
٢٠٣٧ - أ - بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا
فعلى هذا: القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان، قلتُ: وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ «القُسّ» بضم القاف، لا مصدراً ولا وصْفاً، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ، فهو عَلَمٌ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية، ويكون أصلُه «قَسٌّ» أو «قِسٌّ» بالفتح أو الكسر؛ كما نقله ابن عطية، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ، وهو الذي قال فيه عليه السلام: «يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ»، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ، فجمعُ تصحيحٍ؛ كما في الآية الكريمة، قال الفراء: «ولو جُمِعَ قَسُوساً»، كان صواباً؛ لأنهما في معنًى واحدٍ «، يعني: قِسًّا» و «قِسِّيساً»، قال: ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على «قَسَاوِسَة» جمعوه على مثال المَهَالبَة، والأصلُ: قَسَاسِسَة، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً، وأنشدوا لأميَّة: [البسيط]
٢٠٣٧ - ب - لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ............................
قال الواحديُّ: «والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس»، قلت: كأنه جعل هذا المصدر
477
مشتقًّا من هذا الاسْمِ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً، قال شهاب الدين: ولا أدري ما حملَ مَنْ قال: إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم؟.
والرُّهْبَانُ: جمعُ رَاهِبٍ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ، وقال أبو الهيثمِ: «إنَّ رُهْبَاناً يكُونُ واحِداً ويكون جَمْعاً» ؛ وأنشد على كونه مفرداً قول الشاعر: [الرجز]
٢٠٣٨ - لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ
ولو كان جمعاً، لقال: «يَعْدُونَ» و «نَزَلُوا» بضمير الجمع، وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ؛ لتأوُّله بواحدٍ؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ [النحل: ٦٦]، فالهاء في «بُطُونِهِ» تعود على الأنعامِ؛ وقال: [الرجز]
٢٠٣٩ - وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ... في «بَرَدَ» ضميرٌ يعودُ على «ألْبَان»، وقالوا: «هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه» ؛ وقال الآخر: [الرجز]
٢٠٤٠ - لَوْ أنَّ قَوْمِي حِينَ أدْعُوهُمْ حَمَلْ على الجِبَالِ الشُّمِّ لانْهَدَّ الْجَبَلْ
إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعاً؛ وقال كثيرٌ: [الكامل]
٢٠٤١ - رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا
قيل: ولا حُجَّة فيه؛ لأنه قال: «والَّذِينَ» فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ؛ لأجلِ هذا الجمعِ، لا لكونِ «رُهْبَانٍ» جمعاً، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ: [الكامل]
٢٠٤٢ - رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ
قال أبو الهيثم: وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ «رَهابين ورَهَابَنَة»، جاز، وإنْ قلت: رَهَبانِيُّونَ كان صواباً؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ، وهي المخافةُ،
478
وقال الراغب، «والرُّهْبَانُ يكون واحداً وجمعاً، فمنْ جعلهُ واحداً، جَمعه على رَهَابِينَ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ»، يعين: أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة، وقال الليث: «الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب: التعبُّد في صَوْمَعَة»، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس، ولا حاجةَ إلى هذا، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِن وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ، وهو الخوفُ، ولذلك قال الراغب: «والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة»، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠].
وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ: أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا، قال: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ [البقرة: ٩٦] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ، لأن من كان حَرِيصاً على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالاً وَجَاهاً، وأمَّا النَّصَارى، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ، سَهْل الانقِيَاد له، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن، وهو المرادُ بقوله تعالى: ﴿ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ، واليَهُودُ: لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى﴾.
وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ خَطِيئةٍ».
479
فإن قيل: كيف مدَحَهُم اللَّه تعالى بذلك، مع قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها﴾ [الحديد: ٢٧]، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا رَهْبَانِيَّة في الإسلام» ؛ فالجواب: أنَّ ذَلِكَ صار مَمْدُوحاً في مُقابلةِ اليهُودِ في القَسَاوَةِ، والغِلْظَةِ، ولا يَلْزَمُ من هذا كونُهُ مَمْدُوحاً على الإطلاق.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ نسقٌ على «أنَّ» المجرورةِ بالباء، أي: ذلك بما تقدَّم، وبأنَّهم لا يستكبرون.

فصل


المراد بقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى﴾ يَعْنِي: وفْدَ النَّجَاشِي الذين قدمُوا مع جعفر، وهم السَّبْعُون، وكانوا أصْحاب الصَّوامعِ.
وقال مُقَاتِل والكَلْبِي: كَانُوا أرْبَعينَ رَجُلاً، اثنَانِ وثلاثُون من الحَبَشَةِ، وثمانِيَةٌ من الشَّام. وقال عطاء: كانوا ثَمَانِين رجُلاً، أرْبَعُون مِنْ أهْلِ نَجْرَان من بَنِي الحارثِ بن كَعْب، واثنان وثلاثُون من الحَبَشَةِ، وثمانِيَة رُومِيُّون مِنْ أهْلِ الشَّام.
وقال قتادة: نزلت في ناسٍ من أهْلِ الكتابِ، كانُوا على شَرِيعَةٍ من الحقِّ مِمَّا جَاءَ بِه عيسى - عليه السلام -، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - صَدَّقوه، وآمَنُوا به، فأثْنَى اللَّهُ عليهم بقوله: تعالى: ﴿ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً﴾ أي: عُلَمَاء.
قال قُطْرُب: القِسُّ والقِسِّيسُ: العَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ.
قوله تعالى: «وإذَا سَمِعُوا» «إذَا» شرطيةٌ جوابُها «تَرَى»، وهو العاملُ فيها، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان:
أظهرهما: أنَّ محلَّها الرفعُ؛ نسقاً على خبر «أنَّهُم» الثانية، وهو «لا يَسْتَكْبِرُونَ»، أي: ذلك بأنَّ منهم كذا، وأنهم غيرُ مستكْبرينَ، وأنهم إذا سمعُوا: فالواو عطفتْ مُفْرَداً على مثله.
والثاني: أنَّ الجملةَ استئنافية، أي: أنه تعالى أخْبَرَ عنهم بذلك، والضميرُ في «سَمِعُوا» ظاهرُه: أنْ يعود على النصارى المتقدِّمين؛ لعمومهم، وقيل: إنما يعودُ لبعضِهمْ، وهم مَنْ جاء من «الحبشةِ» إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
480
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في روايَةِ عطاء: يريد النَّجاشي وأصحابه، قرأ عليْهِمْ جَعفرُ بالحبَشَةِ «كهيعص» فأخَذَ النجاشِيُّ نَبْتَةً من الأرض، وقال: واللَّه ما زَادَ على ما قال في الإنْجِيلِ مِثْل هذه مثلاً، فما زالوا يَبْكُون، حتى فََرَغَ جَعْفَرُ من القراءة، واختارَه ابْنُ عَطِيَّة، قال: «لأنَّ كل النصارى ليسوا كذلك».
و «مَا» في «مَا أنْزِلَ» تحتملُ الموصولةَ، والنكرةَ الموصوفة، وقوله تعالى: «تَرَى» بصَريَّةٌ، فيكون قوله ﴿تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ.
وقرئ شاذًّا: «تُرَى» بالبناء للمفعول، «أعْيُنُهُمْ» رفعاً، وأسند الفيض إلى الأعين؛ مبالغةً، وإن كان الفائضُ إنَّمَا هو دمعها لا هِيَ؛ كقول امرئِ القيسِ: [الطويل]
٢٠٤٣ - فَفَاضَتْ دُمُوعُ العيْنِ مِنِّي صَبَابَةً عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي
والمرادُ: المبالغةُ في وصفهم بالبكاءِ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهُمْ تمتلئُ حتى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ ناشئٌ عن الامتلاءِ؛ كقوله: [الطويل]
٢٠٤٤ - قَوَارِصُ تَأتِينِي وَتَحْتَقِرُونَهَا وَقَدْ يَمْلأ المَاءُ الإنَاءَ فَيُفْعَمُ
وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «فإنْ قلت: ما معنى ﴿تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ ؟ قلتُ: معناه تَمْتَلِئُ من الدمْع حتَّى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملئَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء، فجعلْتَ أعينهم، كأنها تفيضُ بأنفسها، أي: تسيلُ من الدمعِ؛ من أجلِ البكاءِ، من قولك، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً».
قوله تعالى «مِنَ الدَّمْعِ» فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه متعلِّقٌ ب «تَفِيضُ»، ويكون معنى «مِن» ابتداء الغاية، والمعنى: تَفِيضُ من كثرة الدمع.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في «تَفِيضُ» قالهما أبو البقاء، وقَدَّر الحالَ بقولك: «مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ»، وفيه نظر؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ، ولا يجوزُ ذلك، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً، أي: تفيضُ كائنةً من الدمْعِ، وليس المعنى على ذلك، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي، فإن قيل: هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون «مِنَ الدَّمْعِ»
481
تمييزاً؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز، والأصل: تفيض دمعاً؛ كقولك: «تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً»، فهو من المنتصب عن تمام الكلام؟ قيل: إن ذلك لا يجوزُ، لأنَّ التمييز، إذا كان منقولاً من الفاعلية، امتنع دخولُ «مِنْ» عليه، وإن كانت مقدَّرة معه، فلا يجوز: «تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ»، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ ب «مِنْ» ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [الآية ٩٢] جعله تمييزاً في قوله تعالى: ﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ﴿تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ كقولك: «تَفِيضُ دَمْعاً»، وهو أبلغُ من قولِك: يفيضُ دَمْعُها؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ، و «مِنْ» للبيان؛ كقولك: «أفديكَ مِنْ رَجُلٍ»، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز «؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ، وهو كونُه معرفةً، وكونُه جُرَّ ب» مِنْ «وهو فاعلٌ في الأصْل، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ؛ فعلى هذا: تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده، وهو الوجهُ الثالث.
الرابع: أنَّ»
مِنْ «بمعنى الباء، أي: تفيضُ بالدمْعِ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى: ﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥] أي: بِطَرْفٍ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى» مِنْ «؛ كقوله: [الطويل]
٢٠٤٥ - شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ ترفَّعَتْ مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
أي: مِنْ مَاء البَحْرِ.
قوله: ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾ «مِنْ» الأولَى لابتداءِ الغاية، وهي متعلقةٌ ب «تَفِيضُ»، والثانيةُ يُحْتملُ أن تكونَ لبيانِ الجنس، أي: بَيَّنَتْ جنس الموصولِ قبلَها، ويُحتملُ أن تكون للتبعيضِ، وقد أوضح الزمخشريُّ هذا غايةَ الإيضاح؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فإنْ قلتَ: أيُّ فَرْقٍ بين» مِنْ «و» مِنْ «في قوله: ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾ ؟ قلتُ: الأولَى لابتداء الغاية؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، وكان من أجله وبسببه، والثانيةُ: لبيان الموصول الذي هو» ما عَرَفُوا «، وتحتمل معنى التبعيض؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كلَّه، وقرَءُوا القرآن، وأحاطُوا بالسنة». انتهى، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحاً، و «مِن» الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ؛ على أنها حال من «الدَّمْع»، أي: في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئاً من معرفةِ الحقِّ، وهو معنى قول الزمخشريِّ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق ب «تَفِيضُ» ؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى بعامل واحد؛ فإنَّ «مِنْ» في «مِنَ الدَّمْعِ» لابتداءِ الغاية؛ كما تقدَّم، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ «مِنْ» في «مِنَ الدَّمْعِ» للبيانِ، أو بمعنى الباء، فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضُوحِ
482
كالأول، وأمَّا «مِنَ الحَقِّ» فعلى جعله أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف، أي: أعْنِي من كذا، وعلى جعله أنَّها للتبعيض تتعلَّق ب «عَرَفُوا»، وهو معنى قوله: «عَرَفُوا بَعْضَ الحقِّ».
وقال أبو البقاء في «مِنَ الحَقِّ» : إنه حالٌ من العائد المحذوف على الموصولِ، أي: مِمَّا عرفوه كائناً من الحق، ويجوزُ أن تكون «مِنْ» في قوله تعالى: «مِمَّا عَرَفُوا» تعليليةً، أي: إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانِهِمُ الحقَّ؛ ويؤيِّدُه قول الزمخشري: «وكان من أجله وبسببه»، فقد تحصل في «من» الأولى أربعةُ أوجه، وفي الثالثةِ ضعفٌ، أو منعٌ؛ كما تقدَّم، وفي «مِن» الثانية أربعةٌ أيضاً: وجهان بالنسبة إلى معناها: هل هي ابتدائية أو تعليليةٌ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلًَّق به: هل هو «تَفِيضُ»، أو محذوفٌ؛ على أنها حالٌ من الدمع، وفي الثالثة: خمسةٌ: اثنان بالنسبة إلى معناها: هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ؟ وثلاثةٌ بالنسبة إلى متعلَّقها: هل هو محذوفٌ، وهو «أعْنِي»، أو نفسُ «عَرَفُوا»، أو هو حالٌ، فتتعلَّق بِمَحْذُوفٍ أيضاً؛ كما ذكره أبو البقاء.
وقوله تعالى: ﴿ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيماناً.
قوله تعالى: «يَقُولُون» الآية. فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه مستأنفٌ، فلا محلَّ له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ.
الثاني: أنها حال من الضمير المجرور في «أعْيُنَهُمْ»، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ؛ فهو كقوله تعالى: ﴿مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً﴾ [الحجر: ٤٧].
الثالث: أنه حالٌ من فاعل «عَرَفُوا»، والعاملُ فيها «عَرَفُوا»، قال أبو حيان لمَّا حكى كونه حالاً: «كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يُبَيِّنا ذا الحال، ولا العامل فيها»، قال شهاب الدين: أمَّا أبو البقاء، فقد بَيَّنَ ذا الحال، فقال: «يَقُولُونَ» حالٌ من ضمير الفاعل في «عَرَفُوا»، فقد صرَّح به، ومتى عُرِفَ ذو الحال، عُرِفَ العالمُ فيها؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها، فالظاهرُ: أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالاً من الضمير في «أعْيُنَهُمْ» ؛ بما معناه: أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه، وإن كان المضافُ جُزْأهُ، وجعله خطأ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته، ورَدَّ كونها حالاً أيضاً من فاعل «عَرَفُوا» ؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي
483
غيرِها، قال: «فالأوْلَى: أن يكون مستأنفاً»، قال شهاب الدين: أمَّا ما جعله خطأ، فالكلام معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا، وأمَّا قوله: «يَلْزَمُ التَّقييدُ»، فالجوابُ: أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم، وقوله تعالى: «رَبَّنا آمَنَّا» في محلِّ نصب بالقول، وكذلك: «فاكْتُبْنَا» إلى قوله سبحانه: «الصَّالِحِينَ».

فصل


المعنى: يَقُولُون ربَّنَا آمنَّا بما سَمِعْنَا وشَهِدْنَا بأنَّهُ حقٌّ، ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ يريد: أمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لقوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [البقرة: ١٤٣].
وقيل: كُلُّ مَنْ شَهِدَ من أنْبِيَائِك ومُؤمِنِي عِبَادك بأنَّكَ لا إله غَيْرك.
قوله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين﴾ :«مَا» استفهاميَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و «لَنَا» جارٌّ ومجرورٌ خبرهُ، تقديرُه: أيُّ شيءٍ اسْتَقَرَّ لنا، و «لا نُؤمِنُ» جملة حالية، وقد تقدَّم الكلام على نظير هذه الآية، وأنَّ بعضهم قال: إنها حالٌ لازمةٌ لا يتمُّ المعنى إلا بها؛ نحو:
﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩]، وتقدَّم ما قلتُه فيه، فأغْنَى ذلك عن إعادته، وقال أبو حيان هنا: «وهي المقصودُ وفي ذكرهَا فائدةُ الكلامِ؛ وذلك كما تقول:» جَاء زَيْدٌ رَاكِباً «لِمَنْ قال: هَلْ جَاءَ زَيْدٌ مَاشِياً أو رَاكِباً؟».

فصل


قوله: «وَمَا جَاءَنَا» في محلِّ «مَا» وجهان:
أحدهما: أنه مجرور نسقاً على الجلالة، أي: بالله وبِمَا جَاءَنَا، وعلى هذا فقوله: «مِنَ الحَقِّ» فيه احتمالان:
أحدهما: أنه حالٌ من فاعل «جَاءَنَا»، أي: جاء في حال كونه من جِنْسِ الحقِّ.
والاحتمال الآخر: أن تكونَ «مِنْ» لابتداء الغاية، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى، وتتعلَّقُ «مِنْ» حينئذ ب «جَاءَنَا» ؛ كقولك: «جَاءَنَا فلانٌ مِنْ عِنْدِ زَيْدٍ».
والثاني: أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء، والخبر قوله: «مِنَ الحَقِّ»، والجملةُ في موضع الحال، كذا قاله أبو البقاء، ويصيرُ التقدير: وما لَنَا لا نُؤمِنُ بالله، والحالُ أنَّ الذي جاءنا كَائِنٌ من الحَقِّ، و «الحقُّ» يجوز أن يُرادَ به القرآنُ؛ فإنه حقٌّ في نفسه، ويجوزُ أن يُرادَ به الباري تعالى - كما تقدمَ - والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تَضَمَّنَهُ قولُه «لَنَا».
484
قوله: «وَنَطْمَعُ» في هذه الجملة ستَّة أوجه:
أحدها: أنها منصوبة المحلِّ؛ نسقاً على المحكيِّ بالقول قبلها، أي: يقولُونَ كذا ويقولون نطمعُ وهو معنًى حسنٌ.
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو «لَنَا» ؛ لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ، فرفع الضمير وعملَ في الحال، وإلى هذا ذهب الزمخشري؛ فإنه قال: «والواوُ في» ونَطْمَعُ «واوُ الحال، فإن قلتَ: ما العاملُ في الحال الأولى والثانية؟ قلتُ: العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ؛ كأنه قيل: أيُّ شيءٍ حَصَل لنا غَيْرَ مؤمِنينَ، وفي الثانية معنى هذا الفعل، ولكن مقيَّداً بالحال الأولى؛ لأنك لو أزَلْتَها، وقلت:» مَا لَنَا وَنَطْمَعُ «، لم يكنْ كلاماً». قال شهاب الدين: وفي هذا الكلام نظرٌ، وهو قولُه: «لأنَّكَ لَوْ أزَلْتَه... إلى آخره» ؛ لأنَّا إذا أزَلْنَاها وأتَيْنَا ب «نَطْمَعُ»، لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف، بل مجرَّدة منه؛ لنحلَّها محلَّ الأولى؛ ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضَعُوا المعطوفَ موضعَ المعطُوف عليه، وضعوه مجرَّداً من حرفِ العطف، ورأيتُ في بعض نسخ الكشَّافِ: «مَا لَنَا نَطْمَعُ» من غير واوٍ مقترنةٍ ب «نَطْمَعُ» ولكن أيضاً لا يَصِحُّ؛ لأنك لو قلت: «مَا لَنَا نَطْمَعُ» كان كلاماً؛ كقوله تعالى:
﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩]، ف «نَطْمَعُ» واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال، كما لو قلت: مَا لَكَ طَامِعاً، وما لَنَا طَامِعِين، وردَّ عليه أبو حيان هذا الوجه بشيئينِ: أحدهما: أن العامل لا يقتضي أكثر من حالٍ واحدة، إذا كان صاحبُه مفرداً دون بدل أو عطف، إلا أفعل التفضيل على الصَّحيح.
والثاني: أنه يلزم دخولُ الواو على مضارعٍ مُثْبَتٍ. وذلك لا يجُوز إلا بتأويل تقدير مبتدأ، أي: ونحْنُ نَطْمَعُ.
الثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل «نُؤمِنُ»، فتكون الحالان متداخلَتَيْنِ، قال الزمخشريُّ: «ويجوز أن يكون» ونَطْمعُ «حالاً من» لا نُؤمِنُ «على معنى: أنهم أنْكَرُوا على أنفسهم؛ أنهم لا يوحِّدون الله، ويطمعُون مع ذلك أن يَصْحَبُوا الصالحين»، وهذا فيه ما تقدَّم من دخول واو الحال على المضارع المثْبَت، وأبو البقاء لمَّا أجاز هذا الوجْهَ، قدَّر مبتدأ قبل «نَطْمَعُ»، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل «نُؤمِنُ» ؛ ليخلصَ من هذا الإشكال؛ فقال: ويجوزُ أن يكون التقديرُ: «ونَحْنُ نَطْمَعُ»، فتكون الجملةُ حالاً من فاعل «لا نُؤمِنُ».
الرابع: أنها معطوفةٌ على «لا نُؤمِنُ»، فتكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ذلك
485
الضمير المستترِ في «لَنَا»، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلها.

فصل


فإن قيل: هذا هو الوجه الثاني المتقدِّم، وذكرت عن أبي حيان هناك؛ أنه منع مجيء الحالين لِذِي حالٍ واحدةٍ، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع، فما الفرقُ بين هذا وذاك؟ فالجوابُ: أنَّ الممنوع تعدُّدُ الحالِ دُونَ عاطف، وهذه الواوُ عاطفةٌ، وأنَّ المضارع إنما يمتنعُ دخولُ واوِ الحال عليه، وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ؛ فحَصَلَ الفرقُ بينهما من جهة الواو؛ حيثُ كانت في الوجه الثاني واوَ الحال، وفي هذا الوجه واو عطف، ولَمَّا حكى الزمخشريُّ هذا الوجه، أبدى له معنيين حسنين؛ فقال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وأن يكون معطوفاً على» لا نُؤمِنُ «على معنى: وما لنا نَجْمَعُ بَيْنَ التثْليثِ وبين الطَّمَع في صُحْبَةِ الصَّالحينَ، أو على معنى: ومَا لَنَا لا نَجْمَعُ بينهما بالدُّخُولِ في الإسلام؛ لأنَّ الكَافِرَ ما ينبغي له أن يطمعَ في صُحْبَة الصَّالحِينَ».
الخامس: أنها جملة استئنافية، قال أبو حيان: الأحسنُ والأسهلُ: أن يكون استئناف إخبارٍ منهم؛ بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم؛ بإدخالهم مع الصالحين، فالواوُ عطافةٌ هذه الجملة على جملة ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ﴾، قال شهاب الدين: وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكيِّ بالقول قبلها - شيءٌ واحدٌ - فإن [فيه] الإخبار عنهُمْ بقولهم كَيْتَ وكَيْتَ.
السادس: أن يكون «وَنَطْمَعُ» معطوفاً على «نُؤمِنُ»، أي: وما لنا لا نَطْمَعُ، قال أبو حيان هنا: «ويظهر لي وجهٌ غيرُ ما ذكرُوه، وهو أن يكون معطوفاً على» نُؤمِنُ «، التقديرُ: وما لَنَا لا نُؤمِنُ ولا نَطْمَعُ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاءِ إيمانهمْ وانتفاءِ طمعهِمْ مع قدرتهم على تحصيل الشيئين: الإيمان والطَّمع في الدخول مع الصالحين»، قال شهاب الدين: قوله: «غَيْرُ ما ذَكَرُوهُ» ليس كما ذَكَرَهُ، بل ذكر أبو البقاء فقال: «ونَطْمَعُ» يجُوزُ أن يكون معطوفاً على «نُؤمِنُ»، أي: «وما لَنَا لا نَطْمَعُ»، فقد صرَّحَ بعطفه على الفعل المنفيِّ ب «لاَ»، غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بَسْطاً.
والطَّمَعُ قال الراغب: «هو نزوعُ النَّفْسِ إلى الشَّيْءِ شَهْوَةً له»، ثم قال: «ولَمَّا كَانَ أكْثَرُ الطَّمَعِ من جهةِ الهوى، قيل: الطَمَعُ طَبعٌ والطمعُ يدنِّسُ الإهَابَ»، وقال أبو حيان: «الطمعُ قَرِيبٌ من الرَّجَاءِ يقال منه طَمِعَ يَطْمَعُ طَمعاً» ؛ قال تعالى: {خَوْفاً
486
وَطَمَعاً} [السجدة: ١٦] وطماعةً وطماعيةً كالكراهِيَة؛ قال: [الطويل]
٢٠٤٦ -.......................... طَمَاعِيَةً أنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرُهْ
فالتشديدُ فيها خطأٌ، واسمُ الفاعِلِ منه طَمِعٌ ك «فَرِحٍ» و «أشرٍ»، ولم يَحْكِ أبو حيان غيرَه، وحكى الراغب: طَمِعٌ وطَامِعٌ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين؛ كقولهم «فَرِحٌ» لمن شأنه ذلك، و «فَارِحٌ» لمن تجدَّد له فَرَحٌ.
قوله: «أنْ يُدْخِلَنَا»، أي: «في أنْ» فمحلُّها نصبٌ أو جرٌّ؛ على ما تقدَّم غير مرة. و «مَعَ» على بابها من المصاحبة، وقيل: هي بمعنى «في» ولا حاجة إليه؛ لاستقلال المعنى مع بقاءِ الكلمة على موضوعها.

فصل


قال المُفَسِّرُون -[رحمهم الله]- إنَّ اليَهُودَ عَيَّرُوهم، وقالُوا لَهُمْ: لِمَ آمَنْتُم؟ فأجابُوهُم بِهَذا.
والمراد: يدْخِلُنَا ربُّنَا مع القَوم الصَّالحِيِنَ جَنَّتَهُ، ودارَ رِضوانه قال - تعالى -: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ﴾ [الحج: ٥٩]، إلا أنه حَسُنَ الحَذْف لِكَوْنه مَعْلُوماً.
قوله تعالى: ﴿فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ﴾ [المائدة: ٨٥].
وقرأ الحسن: «فآتاهُمُ اللَّهُ» : من آتاه كذا، أي: أعطاهُ، والقراءةُ الشهيرةُ أوْلَى؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجْلِ عملٍ؛ بخلاف الإيتاء؛ فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره، وقوله تعالى: «جَنَّاتٍ» مفعولٌ ثانٍ ل «أثَابَهُمْ»، أو ل «آتاهُمْ» على حسب القراءتَيْنِ. و ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «جَنَّاتٍ». و «خَالِدِينَ» حالٌ مقدرةٌ.
فإن قيل: ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ على أنَّهُم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذلك الثَّوابَ بمُجَرَّدِ القوْلِ؛ لأنَّهُ - تعالى - قال: ﴿فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ﴾، وذَلِكَ غير مُمْكِن؛ لأنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ لا يُفيدُ الثَّوَابَ.
فالجوابُ مِنْ وجهين:
الأوَّلُ: أنَّهُ قد سَبَقَ من وَصْفِهِم مَا يدلُّ على إخلاصِهِمْ فيما قالوا وهُو المعرفَةُ، وذلك قوله - تعالى -: ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾، وكُلَّما حصلتِ المعْرِفَةُ والإخْلاصُ وكمَال
487
الانْقِيَادِ، ثُمَّ انْضَافَ إليْه القَوْلُ، لا جَرَمَ كمل الإيمان.
الثاني: روى عطاءُ عن ابْن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال: قوله - تعالى -: «بِمَا قَالُوا» يُرِيدُ بما سَألُوا، يعني قولهُمْ: «فاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين».

فصل


دَلَّتِ الآيَةُ على أنَّ المُؤمِنَ الفَاسِقَ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ من وجْهَيْن:
أحدهما: أنَّهُ - تعالى - قال: ﴿وذلك جَزَآءُ المحسنين﴾، وهذا الإحْسَانُ لا بُدَّ وأنْ يكُونَ هُوَ الذي تقدَّم ذِكْرُه من المَعْرِفَةِ، وهُوَ قوله - تعالى -: ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾، ومِنَ الإقْرَارِ به، وهو قولُهُ - تعالى -: ﴿فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ﴾، وإذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا أنْ يُقال: إنَّ هذه الآيَةُ دالَّةٌ على أنَّ المعرفة، وهُوَ إقرارٌ يوجِبُ هذا الثَّواب، فإمَّا أنْ يُنقل من الجَنَّةِ إلى النَّارِ، وهذا بَاطِلٌ بالإجْمَاع، أو يُقَال: يُعاقَبُ على ذَنْبِهِ، ثمَّ يُنْقَلُ إلى الجَنَّةِ، وهُوَ المَطْلُوب.
الثاني: أنَّهُ - تعالى - قال: ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجحيم﴾، فقولُهُ تعالى: ﴿أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾ يُفِيدُ الحصر، أي: أولَئِكَ أصْحَابُ الجحيمِ لا غَيْرهِم، والمُصَاحِبُ للشَّيءِ المُلازِم له الذي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وهذا يقتضي تَخْصِيصُ الكُفَّارِ بالدَّوَام.
قوله تعالى: «وذَلِكَ جَزَاءُ» مبتدأ وخبرٌ، وأُشِيرَ ب «ذَلِكَ» إلى الثواب أو الإيتاء، و «المُحْسنين» يُحتمل أن يكون من باب إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، والأصل: «وذَلِكَ جَزَاؤهُمْ»، وإنما ذُكِر وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَةَ محصِّلة جزائِهِمْ بالخَيْرِ، ويُحْتَمَلُ أن يرادَ كلُّ مُحْسِنٍ، فيندرجُون اندراجاً أوليًّا.
والمُرَادُ بالمُحْسِنينَ: المُوَحِّدين المُؤمِنِين.
488
قوله تعالى :" وإذَا سَمِعُوا " " إذَا " شرطيةٌ جوابُها " تَرَى "، وهو العاملُ فيها، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّ محلَّها الرفعُ ؛ نسقاً على خبر " أنَّهُم " الثانية، وهو " لا يَسْتَكْبِرُونَ "، أي : ذلك بأنَّ منهم كذا، وأنهم غيرُ مستكْبرينَ، وأنهم إذا سمعُوا : فالواو عطفتْ مُفْرَداً على مثله.
والثاني : أنَّ الجملةَ استئنافية، أي : أنه تعالى أخْبَرَ عنهم بذلك، والضميرُ في " سَمِعُوا " ظاهرُه : أنْ يعود على النصارى المتقدِّمين ؛ لعمومهم، وقيل : إنما يعودُ لبعضِهمْ، وهم مَنْ جاء من " الحبشةِ " إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في روايَةِ عطاء : يريد النَّجاشي وأصحابه١، قرأ عليْهِمْ جَعفرُ بالحبَشَةِ " كهيعص " فأخَذَ النجاشِيُّ نَبْتَةً من الأرض، وقال : واللَّه ما زَادَ على ما قال في الإنْجِيلِ مِثْل هذه مثلاً، فما زالوا يَبْكُون، حتى فَرَغَ جَعْفَرُ من القراءة، واختارَه ابْنُ عَطِيَّة٢، قال :" لأنَّ كل النصارى ليسوا كذلك ".
و " مَا " في " مَا أنْزِلَ " تحتملُ الموصولةَ، والنكرةَ الموصوفة، وقوله تعالى :" تَرَى " بصَريَّةٌ، فيكون قوله ﴿ تَفِيضُ مِن الدَّمْعِ ﴾ جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ.
وقرئ٣ شاذًّا :" تُرَى " بالبناء للمفعول، " أعْيُنُهُمْ " رفعاً، وأسند الفيض إلى الأعين ؛ مبالغةً، وإن كان الفائضُ إنَّمَا هو دمعها لا هِيَ ؛ كقول امرئِ القيسِ :[ الطويل ]
فَفَاضَتْ دُمُوعُ العيْنِ مِنِّي صَبَابَةً عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي٤
والمرادُ : المبالغةُ في وصفهم بالبكاءِ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهُمْ تمتلئُ حتى تفيضَ ؛ لأنَّ الفيضَ ناشئٌ عن الامتلاءِ ؛ كقوله :[ الطويل ]
قَوَارِصُ تَأتِينِي وَتَحْتَقِرُونَهَا وَقَدْ يَمْلأ المَاءُ الإنَاءَ فَيُفْعَمُ٥
وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال٦ :" فإنْ قلت : ما معنى ﴿ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾ ؟ قلتُ : معناه تَمْتَلِئُ من الدمْع حتَّى تفيضَ ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملئَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء، فجعلْتَ أعينهم، كأنها تفيضُ بأنفسها، أي : تسيلُ من الدمعِ ؛ من أجلِ البكاءِ، من قولك، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً ".
قوله تعالى " مِنَ الدَّمْعِ " فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه متعلِّقٌ ب " تَفِيضُ "، ويكون معنى " مِن " ابتداء الغاية، والمعنى : تَفِيضُ من كثرة الدمع.
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف ؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في " تَفِيضُ " قالهما أبو البقاء٧، وقَدَّر الحالَ بقولك :" مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ "، وفيه نظر ؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ، ولا يجوزُ ذلك، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً، أي : تفيضُ كائنةً من الدمْعِ، وليس المعنى على ذلك، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي، فإن قيل : هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون " مِنَ الدَّمْعِ " تمييزاً ؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز، والأصل : تفيض دمعاً ؛ كقولك :" تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً "، فهو من المنتصب عن تمام الكلام ؟ قيل : إن ذلك لا يجوزُ، لأنَّ التمييز، إذا كان منقولاً من الفاعلية، امتنع دخولُ " مِنْ " عليه، وإن كانت مقدَّرة معه، فلا يجوز :" تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ "، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ ب " مِنْ " ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [ الآية ٩٢ ] جعله تمييزاً في قوله تعالى :﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه ؛ قال - رحمه الله تعالى - :﴿ تفيضُ من الدَّمْعِ ﴾ كقولك :" تَفِيضُ دَمْعاً "، وهو أبلغُ من قولِك : يفيضُ دَمْعُها ؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ، و " مِنْ " للبيان ؛ كقولك :" أفديكَ مِنْ رَجُلٍ "، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز ؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ، وهو كونُه معرفةً، وكونُه جُرَّ ب " مِنْ " وهو فاعلٌ في الأصْل، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ ؛ فعلى هذا : تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده، وهو الوجهُ الثالث.
الرابع : أنَّ " مِنْ " بمعنى الباء، أي : تفيضُ بالدمْعِ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى :﴿ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾ [ الشورى : ٤٥ ] أي : بِطَرْفٍ ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى " مِنْ " ؛ كقوله :[ الطويل ]
شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ ترفَّعَتْ مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ٨
أي : مِنْ مَاء البَحْرِ.
قوله :﴿ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحقِّ ﴾ " مِنْ " الأولَى لابتداءِ الغاية، وهي متعلقةٌ ب " تَفِيضُ "، والثانيةُ يُحْتملُ أن تكونَ لبيانِ الجنس، أي : بَيَّنَتْ جنس الموصولِ قبلَها، ويُحتملُ أن تكون للتبعيضِ، وقد أوضح الزمخشريُّ هذا غايةَ الإيضاح ؛ قال٩ - رحمه الله - :" فإنْ قلتَ : أيُّ فَرْقٍ بين " مِنْ " و " مِنْ " في قوله :﴿ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ﴾ ؟ قلتُ : الأولَى لابتداء الغاية ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، وكان من أجله وبسببه، والثانيةُ : لبيان الموصول الذي هو " ما عَرَفُوا "، وتحتمل معنى التبعيض ؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كلَّه، وقرَءُوا القرآن، وأحاطُوا بالسنة ". انتهى، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحاً، و " مِن " الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ ؛ على أنها حال من " الدَّمْع "، أي : في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئاً من معرفةِ الحقِّ، وهو معنى قول الزمخشريِّ ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق ب " تَفِيضُ " ؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى بعامل واحد ؛ فإنَّ " مِنْ " في " مِنَ الدَّمْعِ " لابتداءِ الغاية ؛ كما تقدَّم، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ " مِنْ " في " مِنَ الدَّمْعِ " للبيانِ، أو بمعنى الباء، فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضُوحِ كالأول، وأمَّا " مِنَ الحَقِّ " فعلى جعله أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف، أي : أعْنِي من كذا، وعلى جعله أنَّها للتبعيض تتعلَّق ب " عَرَفُوا "، وهو معنى قوله :" عَرَفُوا بَعْضَ الحقِّ ".
وقال أبو البقاء١٠ في " مِنَ الحَقِّ " : إنه حالٌ من العائد المحذوف على الموصولِ، أي : مِمَّا عرفوه كائناً من الحق، ويجوزُ أن تكون " مِنْ " في قوله تعالى :" مِمَّا عَرَفُوا " تعليليةً، أي : إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانِهِمُ الحقَّ ؛ ويؤيِّدُه قول الزمخشري١١ :" وكان من أجله وبسببه "، فقد تحصل في " من " الأولى أربعةُ أوجه، وفي الثالثةِ ضعفٌ، أو منعٌ ؛ كما تقدَّم، وفي " مِن " الثانية أربعةٌ أيضاً : وجهان بالنسبة إلى معناها : هل هي ابتدائية أو تعليليةٌ ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلَّق به : هل هو " تَفِيضُ "، أو محذوفٌ ؛ على أنها حالٌ من الدمع، وفي الثالثة : خمسةٌ : اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ ؟ وثلاثةٌ بالنسبة إلى متعلَّقها : هل هو محذوفٌ، وهو " أعْنِي "، أو نفسُ " عَرَفُوا "، أو هو حالٌ، فتتعلَّق بِمَحْذُوفٍ أيضاً ؛ كما ذكره أبو البقاء.
وقوله تعالى :﴿ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ﴾، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفَةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيماناً.
قوله تعالى :" يَقُولُون " الآية. فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مستأنفٌ، فلا محلَّ له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ.
الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في " أعْيُنَهُمْ "، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه ؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ ؛ فهو كقوله تعالى :﴿ مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً ﴾ [ الحجر : ٤٧ ].
الثالث : أنه حالٌ من فاعل " عَرَفُوا "، والعاملُ فيها " عَرَفُوا "، قال أبو حيان١٢ لمَّا حكى كونه حالاً :" كذا قاله ابن عطية١٣ وأبو البقاء، ولم يُبَيِّنا ذا الحال، ولا العامل فيها "، قال شهاب الدين : أمَّا أبو البقاء، فقد بَيَّنَ ذا الحال، فقال١٤ :" يَقُولُونَ " حالٌ من ضمير الفاعل في " عَرَفُوا "، فقد صرَّح به، ومتى عُرِفَ ذو الحال، عُرِفَ العاملُ فيها ؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها، فالظاهرُ : أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالاً من الضمير في " أعْيُنَهُمْ " ؛ بما معناه : أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه، وإن كان المضافُ جُزْأهُ، وجعله خطأ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته، ورَدَّ كونها حالاً أيضاً من فاعل " عَرَفُوا " ؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي غيرِها، قال :" فالأوْلَى : أن يكون مستأنفاً "، قال شهاب الدين : أمَّا ما جعله خطأ، فالكلامُ معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا، وأمَّا قوله :" يَلْزَمُ التَّقييدُ "، فالجوابُ : أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم، وقوله تعالى :" رَبَّنا آمَنَّا " في محلِّ نصب بالقول، وكذلك :" فاكْتُبْنَا " إلى قوله سبحانه :" الصَّالِحِينَ ".

فصل


المعنى : يَقُولُون ربَّنَا آمنَّا بما سَمِعْنَا وشَهِدْنَا بأنَّهُ حقٌّ، ﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ يريد : أمَّةَ مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - لقوله - تعالى - :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
وقيل : كُلُّ مَنْ شَهِدَ من أنْبِيَائِك ومُؤمِنِي عِبَادك بأنَّكَ لا إله غَيْرك.
١ تقدم..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٢٦..
٣ ينظر: البحر المحيط ٤/٨، والدر المصون ٢/٥٩٣..
٤ ينظر: ديوانه (٩)، شرح القصائد للتبريزي ٨٥، البحر المحيط ٤/٧، الدر المصون ٢/٥٩٣..
٥ البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٦٥٧، البحر ٤/٥ اللسان، قرص، ابن يعيش ١/٢١ الدر المصون ٢/٥٩٣..
٦ ينظر: الكشاف ١/٦٦٩..
٧ ينظر: الإملاء ١/٢٢٤..
٨ تقدم..
٩ ينظر: الكشاف ١/٦٧٠..
١٠ ينظر: الإملاء ١/٢٢٤..
١١ ينظر: الكشاف ١/٦٧٠..
١٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٨..
١٣ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٢٧..
١٤ ينظر: الإملاء ١/٢٢٤..
" مَا " استفهاميَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و " لَنَا " جارٌّ ومجرورٌ خبرهُ، تقديرُه : أيُّ شيءٍ اسْتَقَرَّ لنا، و " لا نُؤمِنُ " جملة حالية، وقد تقدَّم الكلام على نظير هذه الآية، وأنَّ بعضهم قال : إنها حالٌ لازمةٌ لا يتمُّ المعنى إلا بها ؛ نحو :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ]، وتقدَّم ما قلتُه فيه، فأغْنَى ذلك عن إعادته، وقال أبو حيان١ هنا :" وهي المقصودُ وفي ذكرهَا فائدةُ الكلامِ ؛ وذلك كما تقول :" جَاء زَيْدٌ رَاكِباً " لِمَنْ قال : هَلْ جَاءَ زَيْدٌ مَاشِياً أو رَاكِباً ؟ ".

فصل


قوله :" وَمَا جَاءَنَا " في محلِّ " مَا " وجهان :
أحدهما : أنه مجرور نسقاً على الجلالة، أي : بالله وبِمَا جَاءَنَا، وعلى هذا فقوله :" مِنَ الحَقِّ " فيه احتمالان :
أحدهما : أنه حالٌ من فاعل " جَاءَنَا "، أي : جاء في حال كونه من جِنْسِ الحقِّ.
والاحتمال الآخر : أن تكونَ " مِنْ " لابتداء الغاية، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى، وتتعلَّقُ " مِنْ " حينئذ ب " جَاءَنَا " ؛ كقولك :" جَاءَنَا فلانٌ مِنْ عِنْدِ زَيْدٍ ".
والثاني : أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء، والخبر قوله :" مِنَ الحَقِّ "، والجملةُ في موضع الحال، كذا قاله أبو البقاء٢، ويصيرُ التقدير : وما لَنَا لا نُؤمِنُ بالله، والحالُ أنَّ الذي جاءنا كَائِنٌ من الحَقِّ، و " الحقُّ " يجوز أن يُرادَ به القرآنُ ؛ فإنه حقٌّ في نفسه، ويجوزُ أن يُرادَ به الباري تعالى - كما تقدمَ - والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تَضَمَّنَهُ قولُه " لَنَا ".
قوله :" وَنَطْمَعُ " في هذه الجملة ستَّة أوجه :
أحدها : أنها منصوبة المحلِّ ؛ نسقاً على المحكيِّ بالقول قبلها، أي : يقولُونَ كذا ويقولون نطمعُ وهو معنًى حسنٌ.
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو " لَنَا " ؛ لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ، فرفع الضمير وعملَ في الحال، وإلى هذا ذهب الزمخشري٣ ؛ فإنه قال :" والواوُ في " ونَطْمَعُ " واوُ الحال، فإن قلتَ : ما العاملُ في الحال الأولى والثانية ؟ قلتُ : العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ ؛ كأنه قيل : أيُّ شيءٍ حَصَل لنا غَيْرَ مؤمِنينَ، وفي الثانية معنى هذا الفعل، ولكن مقيَّداً بالحال الأولى ؛ لأنك لو أزَلْتَها، وقلت :" مَا لَنَا وَنَطْمَعُ "، لم يكنْ كلاماً ". قال شهاب الدين٤ : وفي هذا الكلام نظرٌ، وهو قولُه :" لأنَّكَ لَوْ أزَلْتَه. . . إلى آخره " ؛ لأنَّا إذا أزَلْنَاها وأتَيْنَا ب " نَطْمَعُ "، لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف، بل مجرَّدة منه ؛ لنحلَّها محلَّ الأولى ؛ ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضَعُوا المعطوفَ موضعَ المعطُوف عليه، وضعوه مجرَّداً من حرفِ العطف، ورأيتُ في بعض نسخ الكشَّافِ :" مَا لَنَا نَطْمَعُ " من غير واوٍ مقترنةٍ ب " نَطْمَعُ " ولكن أيضاً لا يَصِحُّ ؛ لأنك لو قلت :" مَا لَنَا نَطْمَعُ " كان كلاماً ؛ كقوله تعالى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ]، ف " نَطْمَعُ " واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال، كما لو قلت : مَا لَكَ طَامِعاً، وما لَنَا طَامِعِين، وردَّ عليه أبو حيان٥ هذا الوجه بشيئينِ : أحدهما : أن العامل لا يقتضي أكثر من حالٍ واحدة، إذا كان صاحبُه مفرداً دون بدل أو عطف، إلا أفعل التفضيل على الصَّحيح.
والثاني : أنه يلزم دخولُ الواو على مضارعٍ مُثْبَتٍ. وذلك لا يجُوز إلا بتأويل تقدير مبتدأ، أي : ونحْنُ نَطْمَعُ.
الثالث : أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل " نُؤمِنُ "، فتكون الحالان متداخلَتَيْنِ، قال الزمخشريُّ٦ :" ويجوز أن يكون " ونَطْمعُ " حالاً من " لا نُؤمِنُ " على معنى : أنهم أنْكَرُوا على أنفسهم ؛ أنهم لا يوحِّدون الله، ويطمعُون مع ذلك أن يَصْحَبُوا الصالحين "، وهذا فيه ما تقدَّم من دخول واو الحال على المضارع المثْبَت، وأبو البقاء٧ لمَّا أجاز هذا الوجْهَ، قدَّر مبتدأ قبل " نَطْمَعُ "، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل " نُؤمِنُ " ؛ ليخلصَ من هذا الإشكال ؛ فقال : ويجوزُ أن يكون التقديرُ :" ونَحْنُ نَطْمَعُ "، فتكون الجملةُ حالاً من فاعل " لا نُؤمِنُ ".
الرابع : أنها معطوفةٌ على " لا نُؤمِنُ "، فتكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ذلك الضمير المستترِ في " لَنَا "، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلها.

فصل


فإن قيل : هذا هو الوجه الثاني المتقدِّم، وذكرت عن أبي حيان هناك ؛ أنه منع مجيء الحالين لِذِي حالٍ واحدةٍ، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع، فما الفرقُ بين هذا وذاك ؟ فالجوابُ : أنَّ الممنوع تعدُّدُ الحالِ دُونَ عاطف، وهذه الواوُ عاطفةٌ، وأنَّ المضارع إنما يمتنعُ دخولُ واوِ الحال عليه، وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ ؛ فحَصَلَ الفرقُ بينهما من جهة الواو ؛ حيثُ كانت في الوجه الثاني واوَ الحال، وفي هذا الوجه واو عطف، ولَمَّا حكى الزمخشريُّ هذا الوجه، أبدى له معنيين حسنين ؛ فقال٨ - رحمه الله - :" وأن يكون معطوفاً على " لا نُؤمِنُ " على معنى : وما لنا نَجْمَعُ بَيْنَ التثْليثِ وبين الطَّمَع في صُحْبَةِ الصَّالحينَ، أو على معنى : ومَا لَنَا لا نَجْمَعُ بينهما بالدُّخُولِ في الإسلام ؛ لأنَّ الكَافِرَ ما ينبغي له أن يطمعَ في صُحْبَة الصَّالحِينَ ".
الخامس : أنها جملة استئنافية، قال أبو حيان٩ : الأحسنُ والأسهلُ : أن يكون استئناف إخبارٍ منهم ؛ بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم ؛ بإدخالهم مع الصالحينَ، فالواوُ عاطفةٌ هذه الجملة على جملة ﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ ﴾، قال شهاب الدين١٠ : وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكيِّ بالقول قبلها - شيءٌ واحدٌ - فإن [ فيه ] الإخبار عنهُمْ بقولهم كَيْتَ وكَيْتَ.
السادس : أن يكون " وَنَطْمَعُ " معطوفاً على " نُؤمِنُ "، أي : وما لنا لا نَطْمَعُ، قال أبو حيان١١ هنا :" ويظهر لي وجهٌ غيرُ ما ذكرُوه، وهو أن يكون معطوفاً على " نُؤمِنُ "، التقديرُ : وما لَنَا لا نُؤمِنُ ولا نَطْمَعُ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاءِ إيمانهمْ وانتفاءِ طمعهِمْ مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطَّمعِ في الدخول مع الصالحين "، قال شهاب الدين١٢ : قوله :" غَيْرُ ما ذَكَرُوهُ " ليس كما ذَكَرَهُ، بل ذكر أبو البقاء١٣ فقال :" ونَطْمَعُ " يجُوزُ أن يكون معطوفاً على " نُؤمِنُ "، أي :" وما لَنَا لا نَطْمَعُ "، فقد صرَّحَ بعطفه على الفعل المنفيِّ ب " لاَ "، غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بَسْطاً.
والطَّمَعُ قال الراغب١٤ :" هو نزوعُ النَّفْسِ إلى الشَّيْءِ شَهْوَةً له "، ثم قال :" ولَمَّا كَانَ أكْثَرُ الطَّمَعِ من جهةِ الهوى، قيل : الطَمَعُ طَبعٌ والطمعُ يدنِّسُ الإهَابَ "، وقال أبو حيان١٥ :" الطمعُ قَرِيبٌ من الرَّجَاءِ يقال منه طَمِعَ يَطْمَعُ طَمعاً " ؛ قال تعالى :﴿ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ [ السجدة : ١٦ ] وطماعةً وطماعيةً كالكراهِيَة ؛ قال :[ الطويل ]
. . . *** طَمَاعِيَةً أنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرُهْ١٦
فالتشديدُ فيها خطأٌ، واسمُ الفاعِلِ منه طَمِعٌ ك " فَرِحٍ " و " أشرٍ "، ولم يَحْكِ أبو حيان غيرَه، وحكى الراغب١٧ : طَمِعٌ وطَامِعٌ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين ؛ كقولهم " فَرِحٌ " لمن شأنه ذلك، و " فَارِحٌ " لمن تجدَّد له فَرَحٌ.
قوله :" أنْ يُدْخِلَنَا "، أي :" في أنْ " فمحلُّها نصبٌ أو جرٌّ ؛ على ما تقدَّم غير مرة. و " مَعَ " على بابها من المصاحبة، وقيل : هي بمعنى " في " ولا حاجة إليه ؛ لاستقلال المعنى مع بقاءِ الكلمة على موضوعها.

فصل


قال المُفَسِّرُون١٨ - [ رحمهم الله ] - إنَّ اليَهُودَ عَيَّرُوهم، وقالُوا لَهُمْ : لِمَ آمَنْتُم ؟ فأجابُوهُم بِهَذا.
والمراد : يدْخِلُنَا ربُّنَا مع القَوم الصَّالحِيِنَ جَنَّتَهُ، ودارَ رِضوانه قال - تعالى - :
﴿ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ﴾ [ الحج : ٥٩ ]، إلا أنه حَسُنَ الحَذْف لِكَوْنه مَعْلُوماً.
١ ينظر: البحر المحيط ٤/٨..
٢ ينظر: الإملاء ١/٢٢٤..
٣ ينظر: الكشاف ١/٦٧٠..
٤ ينظر: الدر المصون ٢/٥٩٦..
٥ ينظر: البحر المحيط ٤/٩..
٦ ينظر: الكشاف ١/٦٧٠..
٧ ينظر: الإملاء ١/٢٢٤..
٨ ينظر: الكشاف ١/٦٧٠..
٩ ينظر: البحر المحيط ٤/٨..
١٠ ينظر: الدر المصون ٢/٥٩٧..
١١ ينظر: البحر المحيط ٤/٩..
١٢ ينظر: الدر المصون ٢/٥٩٧..
١٣ ينظر: الإملاء ١/٢٢٤..
١٤ ينظر: المفردات ٣١٦..
١٥ ينظر: البحر المحيط ٤/٤..
١٦ البيت ينظر: اللسان "وبل" الدر المصون ٢/٥٩٧..
١٧ ينظر: المفردات ٣٠٧..
١٨ ينظر: تفسير البغوي ٢/٥٨..
قوله تعالى :﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ ﴾ [ المائدة : ٨٥ ].
وقرأ الحسن١ :" فآتاهُمُ اللَّهُ " : من آتاه كذا، أي : أعطاهُ، والقراءةُ الشهيرةُ أوْلَى ؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجْلِ عملٍ ؛ بخلاف الإيتاء ؛ فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره، وقوله تعالى :" جَنَّاتٍ " مفعولٌ ثانٍ ل " أثَابَهُمْ "، أو ل " آتَاهُمْ " على حسبِ القراءتَيْنِ. و﴿ تجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ﴾ في محلِّ نصبٍ صفةً ل " جَنَّاتٍ ". و " خَالِدِينَ " حالٌ مقدرةٌ.
فإن قيل : ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ على أنَّهُم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذلك الثَّوابَ بمُجَرَّدِ القوْلِ ؛ لأنَّهُ - تعالى - قال :﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ ﴾، وذَلِكَ غير مُمْكِن ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ لا يُفيدُ الثَّوَابَ.
فالجوابُ مِنْ وجهين :
الأوَّلُ : أنَّهُ قد سَبَقَ من وَصْفِهِم مَا يدلُّ على إخلاصِهِمْ فيما قالوا وهُو المعرفَةُ، وذلك قوله - تعالى - :﴿ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ﴾، وكُلَّما حصلتِ المعْرِفَةُ والإخْلاصُ وكمَال الانْقِيَادِ، ثُمَّ انْضَافَ إليْه القَوْلُ، لا جَرَمَ كمل الإيمان.
الثاني : روى عطاءُ عن ابْن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال : قوله - تعالى - :" بِمَا قَالُوا " يُرِيدُ بما سَألُوا، يعني قولهُمْ :" فاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين " ٢.

فصل


دَلَّتِ الآيَةُ على أنَّ المُؤمِنَ الفَاسِقَ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ من وجْهَيْن :
أحدهما : أنَّهُ - تعالى - قال :﴿ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾، وهذا الإحْسَانُ لا بُدَّ وأنْ يكُونَ هُوَ الذي تقدَّم ذِكْرُه من المَعْرِفَةِ، وهُوَ قوله - تعالى - :﴿ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ﴾، ومِنَ الإقْرَارِ به، وهو قولُهُ - تعالى - :﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ ﴾، وإذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا أنْ يُقال : إنَّ هذه الآيَةُ دالَّةٌ على أنَّ المعرفة، وهُوَ إقرارٌ يوجِبُ هذا الثَّواب، وصاحبُ الكَبِيرَةِ لَهُ هذه المعْرِفَةُ وهذا الإقْرَارُ، فوجَبَ أن يَحْصُلَ لَهُ هذا الثَّوابُ، فإمَّا أنْ يُنقل من الجَنَّةِ إلى النَّارِ، وهذا بَاطِلٌ بالإجْمَاع، أو يُقَال : يُعاقَبُ على ذَنْبِهِ، ثمَّ يُنْقَلُ إلى الجَنَّةِ، وهُوَ المَطْلُوب.
الثاني : أنَّهُ - تعالى - قال :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾، فقولُهُ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ يُفِيدُ الحصر، أي : أولَئِكَ أصْحَابُ الجحيمِ لا غَيْرهِم، والمُصَاحِبُ للشَّيءِ المُلازِم له الذي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وهذا يقتضي تَخْصِيصُ الكُفَّارِ بالدَّوَام.
قوله تعالى :" وذَلِكَ جَزَاءُ " مبتدأ وخبرٌ، وأُشِيرَ ب " ذَلِكَ " إلى الثواب أو الإيتاء، و " المُحْسنين " يُحتمل أن يكون من باب إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، والأصل :" وذَلِكَ جَزَاؤهُمْ "، وإنما ذُكِر وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَةَ محصِّلة جزائِهِمْ بالخَيْرِ، ويُحْتَمَلُ أن يرادَ كلُّ مُحْسِنٍ، فيندرجُون اندراجاً أوليًّا.
والمُرَادُ بالمُحْسِنينَ : المُوَحِّدين المُؤمِنِين.
١ ينظر: البحر المحيط ٤/٩، الدر المصون ٢/٥٩٨..
٢ ينظر: تفسير القرطبي (٦/١٦٧)..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٥:قوله تعالى :﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ ﴾ [ المائدة : ٨٥ ].
وقرأ الحسن١ :" فآتاهُمُ اللَّهُ " : من آتاه كذا، أي : أعطاهُ، والقراءةُ الشهيرةُ أوْلَى ؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجْلِ عملٍ ؛ بخلاف الإيتاء ؛ فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره، وقوله تعالى :" جَنَّاتٍ " مفعولٌ ثانٍ ل " أثَابَهُمْ "، أو ل " آتَاهُمْ " على حسبِ القراءتَيْنِ. و﴿ تجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ﴾ في محلِّ نصبٍ صفةً ل " جَنَّاتٍ ". و " خَالِدِينَ " حالٌ مقدرةٌ.
فإن قيل : ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ على أنَّهُم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذلك الثَّوابَ بمُجَرَّدِ القوْلِ ؛ لأنَّهُ - تعالى - قال :﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ ﴾، وذَلِكَ غير مُمْكِن ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ لا يُفيدُ الثَّوَابَ.

فالجوابُ مِنْ وجهين :

الأوَّلُ : أنَّهُ قد سَبَقَ من وَصْفِهِم مَا يدلُّ على إخلاصِهِمْ فيما قالوا وهُو المعرفَةُ، وذلك قوله - تعالى - :﴿ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ﴾، وكُلَّما حصلتِ المعْرِفَةُ والإخْلاصُ وكمَال الانْقِيَادِ، ثُمَّ انْضَافَ إليْه القَوْلُ، لا جَرَمَ كمل الإيمان.
الثاني : روى عطاءُ عن ابْن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال : قوله - تعالى - :" بِمَا قَالُوا " يُرِيدُ بما سَألُوا، يعني قولهُمْ :" فاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين " ٢.

فصل


دَلَّتِ الآيَةُ على أنَّ المُؤمِنَ الفَاسِقَ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ من وجْهَيْن :
أحدهما : أنَّهُ - تعالى - قال :﴿ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾، وهذا الإحْسَانُ لا بُدَّ وأنْ يكُونَ هُوَ الذي تقدَّم ذِكْرُه من المَعْرِفَةِ، وهُوَ قوله - تعالى - :﴿ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ﴾، ومِنَ الإقْرَارِ به، وهو قولُهُ - تعالى - :﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ ﴾، وإذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا أنْ يُقال : إنَّ هذه الآيَةُ دالَّةٌ على أنَّ المعرفة، وهُوَ إقرارٌ يوجِبُ هذا الثَّواب، وصاحبُ الكَبِيرَةِ لَهُ هذه المعْرِفَةُ وهذا الإقْرَارُ، فوجَبَ أن يَحْصُلَ لَهُ هذا الثَّوابُ، فإمَّا أنْ يُنقل من الجَنَّةِ إلى النَّارِ، وهذا بَاطِلٌ بالإجْمَاع، أو يُقَال : يُعاقَبُ على ذَنْبِهِ، ثمَّ يُنْقَلُ إلى الجَنَّةِ، وهُوَ المَطْلُوب.
الثاني : أنَّهُ - تعالى - قال :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾، فقولُهُ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ يُفِيدُ الحصر، أي : أولَئِكَ أصْحَابُ الجحيمِ لا غَيْرهِم، والمُصَاحِبُ للشَّيءِ المُلازِم له الذي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وهذا يقتضي تَخْصِيصُ الكُفَّارِ بالدَّوَام.
قوله تعالى :" وذَلِكَ جَزَاءُ " مبتدأ وخبرٌ، وأُشِيرَ ب " ذَلِكَ " إلى الثواب أو الإيتاء، و " المُحْسنين " يُحتمل أن يكون من باب إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، والأصل :" وذَلِكَ جَزَاؤهُمْ "، وإنما ذُكِر وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَةَ محصِّلة جزائِهِمْ بالخَيْرِ، ويُحْتَمَلُ أن يرادَ كلُّ مُحْسِنٍ، فيندرجُون اندراجاً أوليًّا.
والمُرَادُ بالمُحْسِنينَ : المُوَحِّدين المُؤمِنِين.
١ ينظر: البحر المحيط ٤/٩، الدر المصون ٢/٥٩٨..
٢ ينظر: تفسير القرطبي (٦/١٦٧)..

لما اسْتَقْصَى في المُنَاظَرَةِ مع اليَهُودِ والنَّصَارى، عَادَ إلى بيان الأحْكَامِ، وذكر منها جُمْلَةً:
أوَّلُهَا: ما يتعلَّقُ بالمطَاعِمِ والمَشَارِب واللَّذَاتِ، وهي هَذِه الآيَةُ، والمراد بالطَّيِّبَاتِ: ما تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ، وتميلُ إلَيْه القُلُوب وفيه قولان:
488
الأول: قال المُفَسِّرون -[رحمهم الله]- «ذكَّرَ النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - النَّاسَ يَوْماً في بَيْتِ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فوَصَفَ القِيَامَة، وبالغ في الإنْذَارِ والتَّحْذِيرِ، فَرَقَّ له النَّاسُ وبَكَوْا، فاجْتَمَعَ عَشْرَةٌ مِنَ الصَّحَابَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين - وهُمْ: أبُو بَكْر، وعَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ، وعبْدُ الله بن مَسْعُود، وعَبْدُ الله بن عُمَر، وأبُو ذَرٍّ الغِفَاري، وسَالِم مَوْلى أبِي حُذَيْفَة والمِقْدَادُ بنُ الأسْوَد، وسَلْمَان الفَارِسِي، ومَعْقِلُ بنُ مقرّن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وتَشاوَرُوا على أنْ يَتَرَهَّبُوا، ويَلْبِسُوا المُسُوحَ، ويُجْبُوا مَذَاكِيرهِمْ، ويصُومُوا الدَّهْرَ، ويقُومُوا اللَّيْل، ولا ينَامُونَ على الفُرُش، ولا يَأكُلُونَ اللَّحْمَ والوَدَكَ، ولا يَقْرَبُون النِّسَاء والطِّيب، ويَسِيحُوا في الأرْض، وحَلَفُوا على ذَلِكَ، فَبَلَغ النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -[ذلك]، فأتَى دَارَ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ الجُمحِي، فَلَمْ يُصَادِفْهُ، فقالَ لامْرَأتِهِ أمِّ حَكِيم بِنْت أبِي أمَيَّة - واسمُهَا» الحَوْلاَء «، وكانت عطَّارَة -: أحقٌّ ما بَلَغَنِي عن زَوْجِكِ وأصْحَابِه؟ فَكَرِهَتْ أنْ تَكْذِبَ، وكَرِهَتْ أنْ تُبْدِيَ على زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: يا رسُول اللَّهِ: إن كانَ أخْبَرَكَ عُثْمَانُ فَقَدْ صَدَقَ، فانْصَرَفَ رسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فلَّما دَخَلَ عُثْمَانُ أخْبَرَتُهُ بذلك، فأتى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - هُوَ وأصْحَابهُ، فقالَ لَهُمُ رسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -: ألَمْ أُنَبَّأْ أنَّكُم اتَّفَقْتُمْ على كَذَا وكَذَا، قَالُوا: بَلَى يا رسُول اللَّهِ، ما أرَدْنَا إلا الخَيْرَ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: إنِّي لَمْ أؤمَرْ بِذلِكَ، ثُمَّ قال: إنَّ لأنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حقًّا، فصُومُوا وأفْطِرُوا، وقُومُوا ونَامُوا، فَإنِّي أقُومُ وأنَامُ، وأصُومُ وأفْطِر، وآكُل اللَّحْم والدَّسم، وآتِي النِّسَاء، فَمَنْ رَغِب عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. ثمَّ جمع إليه النَّاس وَخَطَبَهُمْ فقَالَ: ما بَالُ أقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّساء والطَّعام، والطِّيب والنَّوم، وشهوات الدُّنيا؟! أما إنِّي لَسْتُ آمُرُكُمْ أنْ تكُونُوا قِسِّيسِينَ ورُهْبَاناً، فإنَّه ليْسَ في دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ، ولا اتِّخاذ الصَّوَامِعِ، وأنَّ سِيَاحةَ أمَّتِي الصَّومُ، ورهبَانِيَّتُهُمُ الْجِهَادُ، اعبُدُوا اللَّه ولا تُشْرِكُوا به شَيْئاً، وحجُّوا واعتَمِرُوا وأقِيموا الصَّلاة وآتُوا الزَّكاة، وصُومُوا رمضَانَ، واستَقِيمُوا يستقمْ لَكُمْ، فإنَّمَا هَلَكَ من كان قَبْلَكُم بالتَّشْديدِ، شَدَّدُوا على أنْفُسِهِم، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِم، فأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَار والصَّوَامِعِ»، فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة.
وعن عُثْمَانَ بنِ مَظْعُون - رضي الله تعالى عنه
«- أنَّه أتَى النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال: ائْذَنْ لنا في الاخْتِصَاء، فقال رسول اللَّهِ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: ليس منا من خَصَى أو اخْتَصَا، إنَّ خِصَاءَ أمَتِّي الصِّيَامُ، فقال يا رسُولَ اللَّه: ائْذَنْ لنا في السِّيَاحَةِ، فقال: إنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه، قال يا رسُول اللَّه: ائْذَنْ لنا
489
في التَّرَهُّبِ فقال: إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي الجُلُوسُ في المَسَاجِدِ، وانْتِظَار الصَّلاة».
وعلى هذا ظَهَر وجه النَّظْم بين هذه الآية، وبَيْنَ ما قَبْلَها، وذلك أنَّهُ تعالى مدحَ النَّصَارى، بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِين ورُهْبَاناً، وعادَتُهُم الاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا ولذَّاتِها، فلمَّا مَدَحَهم أوْهَمَ ذلك المدحُ ترغيب المسلمين في مِثْلِ تِلْكَ الطَّريقَةِ، فَذَكَرَ تعالى عَقِيبَهُ هذه الآيَة، إزالةً لذلك الوَهْمِ؛ ليظْهَرَ لِلْمُسْلِمِين أنَّهُمْ ليْسُوا مَأمُورين بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ؛ واللَّه أعلم.
فإن قيل: ما الحكْمَةُ في هذا النَّهْي؟ ومن المعْلُومِ أنَّ حبَّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ على الطَّبَاع والقُلُوبِ، فإذا تَوَسَّع الإنْسَانُ في اللَّذَّاتِ والطَّيِّبَاتِ: اشتدَّ مَيْلُهُ إليها وعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فيها، وكُلَّمَا أكْثر التَّنْعِيم ودَامَ كان ذلك المَيْلُ أقْوَى وأعْظَم، وكُلَّمَا ازدَادَ المَيْلُ قوَّةً ورغْبَةً، ازدَادَ حِرْصُهُ في طَلَبِ الدُّنْيَا، واسْتِغْرَاقُهُ في تحصيلهَا، وذلك يمنعه عن الاستغراقِ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ - تعالى - وطاعَتِهِ، ويمنَعُهُ عن طلب سَعَادَات الآخِرَةِ، وأمَّا إذا أعْرَضَ عن
490
لَذَّاتِ الدُّنيا وطيِّبَاتها، فكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الإعْرَاض أتَمَّ وأدْوَمَ، كان ذلك المَيْلُ أضْعَف، وحينئذٍ تتفرَّغُ النَّفْسُ لطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تعالى، والاسْتِغْرَاق في خدمَتِهِ، وإذا كان الأمْرُ كَذَلِكَ فما الحكمة في نَهْيِ اللَّهِ تعالى عَنِ الرَّهْبَانِيَّة؟.
فالجواب من وجوه:
الأولُ: أنَّ الرَّهْبَانِيَّة المفرطة، والاحتِرَاز التَّامَّ عن الطَّيِّبَاتِ واللَّذَّاتِ، ممَّا يوقع الضَّعْفَ في الأعْضَاء الرَّئِيسيَّة - التي هي القَلْبُ والدِّمَاغُ -، وإذا وَقَعَ الضَّعْفُ فيهما اخْتلت الفِكْرَة وتَشَوَّش العَقْلُ.
ولا شَكَّ أنَّ أكْمَل السَّعَاداتِ وأعظمَ القُرُبَات، إنَّما هو مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، فإذَا كانتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الشَّديدةُ مِمَّا يوقع الخَلَلَ في ذلِكَ، لا جَرَمَ وقعَ النَّهْي عَنْهُ.
الثاني: سَلَّمنَا أنَّ اشْتِغَال النَّفْسِ باللَّذاتِ يَمْنَعُهَا عن الاشْتِغَال بالسَّعَادَاتِ العَقْلِيَّة، ولكن في حقِّ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ أمَّا النُّفُوسُ المسْتَعْلِيَةُ الكامِلَةُ، فإنَّه لا يَكُونُ اشتِغَالُها في اللَّذاتِ الحِسِّيَّةِ مانِعاً من الاشْتِغَالِ بالسَّعَادَات العَقْلِيَّة، فإنَّا نُشَاهِدُ بعض النُّفُوس قد تكون ضَعِيفَة، بِحَيْثُ متى اشْتَغَلَتْ بِمُهِمٍّ امْتَنَعَ عليها الاشْتِغَالُ بِمُهِمٍّ آخر، وكُلَّما قَويَتِ النَّفسُ كانت هذه الحَالَةُ أكْمَل، وإذا كانَ كذَلِكَ، فالمرادُ الكَمَالُ في الوَفَاءِ بالجهَتَيْنِ.
الثالث: أنَّ من اسْتَوْفَى اللَّذَاتِ الحِسِّيَّةَ، وإن غرضُهُ بذلك الاسْتِعَانَة على استِيفَاء اللَّذَّاتِ العَقْلِيَّةِ، فإنَّ مجاهَدَتَهُ أتَّمُّ مِنْ مُجَاهَدَة من أعْرَض عَنِ اللَّذَاتِ الحِسَّيَّةِ.
الرابع: أنَّ الرَّهْبَانِيَّةِ مع المُواظَبَةِ على المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ والطَّاعة، فإنَّه عِمَارةُ الدُّنْيَا والآخِرَة، فكانَتْ هَذِهِ الحال أكْمَل القول.
الثاني في تفْسِير هذه الآية ذَكَرَهُ القَفَّال -[رَحِمَهُ اللَّهُ]- وهو أنَّهُ تعالى قال في أوَّل السُّورةِ:
﴿أَوْفُواْ
بالعقود
[المائدة: ١] فبيَّنَ أنَّهُ لا يجُوزُ استحلاَلُ المُحرَّمِ، كذلك لا يجُوزُ تَحْرِيمُ المُحَلَّلِ، وكانت العرب تُحرِّمُ من الطَّيِّبَاتِ ما لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تعالى، وهو: البَحيرة، والسَّائِبَةُ، والوَصِيلةُ، والحامُ، وكانُوا يُحَلِّلُون المَيْتَةَ والدَّمَ وغيْرهما، فأمَرَ اللَّه تعالى أن لا يُحرِّمُوا ما أحَلَّهُ اللَّهُ، ولا يُحَلِّلُوا ما حَرَّمهُ اللَّهُ، حتى تَدْخُلوا تَحْتَ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ [المائدة: ١].
فقوله تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ يحتمل وُجُوهاً:
الأول: ألا تَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
وثانيها: لا تُظْهِرُوا باللِّسان تَحرِيمَ ما أحلَّ الله لَكُمْ.
491
وثالثها: لا تَجْتَنِبُوهَا اجْتِنَاباً يُشبِهُ الاجْتِنَابَ عن المُحَرَّمَاتِ، فهذه الوُجُوه الثلاثَةُ مَحْمُولَةٌ على الاعتِقَاد والقول والعَملِ.
ورابعها: لا تُحَرِّمُوا على غَيْرِكم بالفَتْوَى.
وخامسها: لا تَلْتَزِمُوا تحريمها بِنَذْرٍ أو يَمِينٍ، ونَظِيرُهُ قوله تعالى: ﴿ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ [التحريم: ١].
وسادسها: أن يخلطَ المغصُوبَ بالمَمْلُوكِ اختِلاَطاً لا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ، وحينئذٍ يَحْرُمُ الكُلُّ، ذلك الخَلْطُ سببٌ لتحريم ما كان حلالاً، وكذلِكَ إذا خَلَطَ النَّجِسَ بالطَّاهِر، فالآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لكُلِّ هذه الوجوه، ولا يَبْعُدُ حَمْلُهَا على الكُلِّ.
قوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ فقيل: لا تجاوزُوا الحلال إلى الحرام، وقيل: لا تُسْرِفُوا وقيل: هو جَبُّ المذاكيرِ، وجعل تَحْرِيم الطَّيِّبَات اعتِدَاءً وتَعَدٍّ عما أحلَّهُ اللَّهُ، فنهى عن الاعتِدَاء؛ ليدخل تَحْتَ النَّهْيِ عن تحريمهَا.
قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً﴾.
في نصب «حَلاَلاَ» : ثلاثة أوجه:
أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: كُلُوا شَيْئاً حلالاً، [وعلى هذا الوجه، ففي الجَارِّ، وهو قوله: «مِمَّا رَزَقَكُمْ» وجهان:
أحدهما: أنه حالٌ من «حَلاَلاً» ؛] لأنه في الأصل صفةٌ لنكرَةٍ، فلمَّا قُدِّم عليها، انتصبَ حالاً.
والثاني: أنَّ «مِنْ» لابتداء الغاية في الأكْل، أي: ابتدِئُوا أكْلَكُمْ الحلالَ من الذي رزَقَهُ الله لكُمْ.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدِّمة: أنه حالٌ من الموصول أو من عائده المحذوف، أي: «رَزَقَكُمُوهُ» فالعاملُ فيه «رَزَقَكُمْ».
الثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: أكْلاً حلالاً، وفيه تجوُّزٌ.
وقال: ﴿كلوا مما رزقكم الله﴾ ولَمْ يَقُلْ: ما رزقكم؛ لأنَّ «مِنْ» للتَّبْعِيضِ، فكأنَّه قال: اقْتَصِرُوا في الأكْلِ على البَعْضِ واصرفُوا البَقِيَّةَ إلى الصَّدقَاتِ والخَيْرَاتِ، وأيضاً إرْشَاد إلى تَرْكِ الإسْرَاف، كقوله: ﴿وَلاَ تسرفوا﴾ [الأعراف: ٣١].
قال عبدُ الله بن المُبَارَك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الحَلاَلُ ما أخَذْتَهُ من وجهه، والطَّيِّبُ: ما غُذِيَ وأنْمِي.
فأمَّا الجَوَامِدُ: كالطِّينِ والتُّرَابِ وما لا يُغذِّي، فمكرُوه إلاَّ على وجْهِ التَّدَاوِي.
492
قالت عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «كان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يُحِبُّ الحَلْوَاءَ والعَسَلَ».
قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ» تأكيد للوصيَّةِ بما أمَرَ به، وزادَهُ تَأكِيداً بقوله تعالى: ﴿الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ ؛ لأنَّ الإيمان به يُوجِبُ التَّقْوَى في الانْتِهَاء.
493
قوله تعالى :﴿ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾.
في نصب " حَلاَلاَ " : ثلاثة أوجه :
أظهرُها : أنه مفعولٌ به، أي : كُلُوا شَيْئاً حلالاً، [ وعلى هذا الوجه، ففي الجَارِّ، وهو قوله :" مِمَّا رَزَقَكُمْ " وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من " حَلاَلاً " ؛ ] لأنه في الأصل صفةٌ لنكرَةٍ، فلمَّا قُدِّم عليها، انتصبَ حالاً.
والثاني : أنَّ " مِنْ " لابتداء الغاية في الأكْل، أي : ابتدِئُوا أكْلَكُمْ الحلالَ من الذي رزَقَهُ الله لكُمْ.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدِّمة : أنه حالٌ من الموصول أو من عائده المحذوف، أي :" رَزَقَكُمُوهُ " فالعاملُ فيه " رَزَقَكُمْ ".
الثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي : أكْلاً حلالاً، وفيه تجوُّزٌ.
وقال :﴿ كلوا مما رزقكم الله ﴾ ولَمْ يَقُلْ : ما رزقكم ؛ لأنَّ " مِنْ " للتَّبْعِيضِ، فكأنَّه قال : اقْتَصِرُوا في الأكْلِ على البَعْضِ واصرفُوا البَقِيَّةَ إلى الصَّدقَاتِ والخَيْرَاتِ، وأيضاً إرْشَاد إلى تَرْكِ الإسْرَاف، كقوله :﴿ وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾ [ الأعراف : ٣١ ].
قال عبدُ الله بن المُبَارَك٥ - رضي الله عنه - : الحَلاَلُ ما أخَذْتَهُ من وجهه، والطَّيِّبُ : ما غُذِّيَ وأنْمِي.
فأمَّا الجَوَامِدُ : كالطِّينِ والتُّرَابِ وما لا يُغذِّي، فمكرُوه إلاَّ على وجْهِ التَّدَاوِي.
قالت عَائِشَة - رضي الله عنها - :" كان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يُحِبُّ الحَلْوَاءَ والعَسَلَ " ٦.
قوله تعالى :" اتَّقُوا اللَّهَ " تأكيد للوصيَّةِ بما أمَرَ به، وزادَهُ تَأكِيداً بقوله تعالى :﴿ الَّذي أَنْتُم بِهِ مُؤْمِنُون ﴾ ؛ لأنَّ الإيمان به يُوجِبُ التَّقْوَى في الانْتِهَاء.
وهذا النَّوْعُ الثَّانِي من الأحْكام المذْكُورَةِ، ووَجْهُ المُنَاسَبَةِ بَيْنَ هذا الحُكْم والَّذِي قَبْلَهُ حتى حَسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ، أنَّا ذكرنَا أنَّ سبب نزول الآية: أنَّ قوماً من الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين - حرَّموا على أنْفُسِهِمُ المطاعِمَ والمَلاَذَّ، واخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وحَلَفُوا على ذلك، فلما نَهَاهُمُ اللَّهُ تعالى عنْ ذلك قالُوا: يا رسُول اللَّه، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيْمَانِنَا؟ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة، وقدْ تقدَّم إعرابُ نَظيرهَا في البَقَرةِ واشْتِقَاق مُفْرَدَاتِها.
قوله تعالى: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾.
قرأ حمزة والكسائيُّ وأبو بكْرٍ عن عاصم: «عَقَدتُمْ» بتخفيف القاف دون ألف بعد العين، وابن ذَكْوَان عن ابن عامر: «عَاقَدتُّمْ» بزنة «فاعَلْتُمْ» والباقون: «عَقَّدتُّمْ» بتشديد القاف، فأمَّا التخفيفُ، فهو الأصل، وأمَّا التشديدُ، فيحتمل أوجهاً:
أحدها: أنه للتكثير؛ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ.
والثاني: أنه بمعنى المجرَّدِ، فيوافِقُ القراءة الأولى، ونحوه: قَدَّرَ وقَدَرَ.
والثالث: أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين، نحو: «واللَّهِ الَّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ».
والرابع: أنه يدلُّ على تأكيد العزم بالالتزام.
الخامس: أنه عِوَضٌ من الألف في القراءة الأخرى، وقال شهاب الدين: ولا أدري ما معناه ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين، فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمَرَّةٍ واحدةٍ.
وقد تَجَرَّأ أبو عُبَيْدٍ على هذه القراءةِ وزيَّفَها، فقال: «التشديدُ للتكريرِ مرةً من بعد مرَّة، ولستُ آمَنُ أن تُوجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفَّارةِ في اليمينِ الواحدة؛ لأنها لم
493
تُكَرَّرْ». وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدِّمة.
وأجَاب الواحِدِي بوجْهَيْن:
الأول: أنَّ بعضَهُم قال: عَقَدْتُم بالتَّخفيفِ وبالتَّشْديدِ واحدٌ في المعنى.
والثاني: هَبْ أنَّها تُفِيدُ التكرير، كَمَا في قوله تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الأبواب﴾ [يوسف: ٢٣]، إلاَّ أنَّ هذا التكريرَ يحصل بأن يَعْقِدَهَا بقَلْبِهِ ولِسَانِه، ومتَى جَمَعَ بَيْنَ القَلْبِ واللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ، أمَّا لَوْ عُقِدَ اليَمِينُ بأحَدِهِمَا دُونَ الآخَر لَمْ يَكُن منعقداً لَهَا فَسَلِمَتِ القِرَاءَةُ تِلاوَةً ولِلَّهِ الحَمْدُ.
وأمَّا «عَاقَدَتْ»، فيُحتملُ أن تكون بمعنى [المجرَّد نحو] :«جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ»، وقال الفارسيُّ: «عَاقَدتُمْ» يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون بمعنى «فَعَلَ»، كطَارَقْتُ النَّعْلَ، وعَاقَبْتُ اللِّصَّ.
والآخر: أن يُرَادَ به «فاعَلْتُ» التي تقتضي فاعلين؛ كأن المعنى: بما عَاقَدتُّمْ علَيْهِ الأيْمَانَ، عَدَّاه ب «عَلَى» لمَّا كان بمعنى عَاهَدَ، قال: ﴿بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله﴾ [الفتح: ١٠] ؛ نحو: ﴿نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ [المائدة: ٥٨] ب «إلَى»، وبابُها أن تقول: نَادَيْتُ زَيْداً؛ نحو: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور﴾ [مريم: ٥٢] لمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا، قال: ﴿مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله﴾ [فصلت: ٣٣] ثم اتُّسِعَ فحُذِفَ الجارُّ، ونُقِلَ الفعلُ إلى المفعْول، ثم حُذِفَ من قوله:
﴿فاصدع
بِمَا تُؤْمَرُ﴾
[الحجر: ٩٤]، قال شهاب الدين: يريد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يبيِّنَ معنى «المُفَاعَلَةِ»، فأتى بهذه النظائر للتضمين، ولحذفِ العائدِ على التدريج، والمعنى: بِمَا عَاقَدتُّمْ عليه الأيْمَانَ، وعاقَدَتْكُمُ الأيْمَانُ عليه، فنَسَبَ المعاقَدَةَ إلى الأيْمَانِ مجازاً، ولقائل أن يقول: قد لا نَحْتَاجُ إلى عائدٍ حتَّى نحتاجَ إلى هذا التكلُّفِ الكثير، وذلك بأن نجعل «مَا» مصدريةً، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: بِمَا عَاقَدتُّمْ غيْرَكُمُ الأيْمَانَ، أيْ: بمُعَاقدتِكُمْ غيرَكُمُ الأيْمَانَ، ونخلُصُ من مجازٍ آخر، وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان؛ فإنَّ في هذا الوجه نسبة المعاقَدَةِ للغَيْرِ، وهي نسبةٌ حقيقية، وقد نَصَّ على هذا الوجه - جماعةٌ.
قالُوا: «مَا» مَعَ الفِعْلِ بِمَنْزِلةِ المصْدَرِ، ولكِن يُؤاخِذُكُم بِعَقْدِكُمْ، أوْ بِتَعْقِيدِكُمْ، أو بِمُعَاقَدَتِكُم الأيْمَان إذا خنتم، فحذف وقتاً لمؤاخَذَة؛ لأنَّه مَعْلُومٌ، أو يَنْكُثُ ما عَاقَدْتُمْ، فَحَذَفَ المُضَافَ.
وقد تعقَّبَ أبو حيان على أبي عليٍّ كلامَهُ؛ فقال: «قوله: إنَّه مثل» طارَقْتُ النَّعْلَ «و» عَاقَبْتُ اللِّصَّ «، ليس مثله؛ لأنَّك لا تقول: طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ، وتقول: عاقدتُّ
494
اليمينَ، وعقدُّهَا»، وهذا غيرُ لازم لأبي عليٍّ؛ لأنّ مرادَه أنه مثلُه من حَيْثُ إنَّ «المُفَاعَلَةَ» بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه؛ كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ، أمَّا كونُه يقالُ فيه أيضاً كذا، فلا يضُرُّه ذلك في التشبيه، وقال أيضاً: «تقديرُه حذف حَرْفِ الجرِّ، ثم الضمير على التدرُّج - بعيدٌ، وليس بنظيرِ: ﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤] ؛ لأن» أمَرَ «بتعدَّى بنفسِه تارةً، وبحرف الجرِّ أخرى، وإن كان الأصلُ الحَرْفَ، وأيضاً ف» مَا «في» فَاصْدَعْ بِمَا «لا يتعيَّن أن تكون بمعنى» الَّذي «بل الظاهر أنها مصدريَّةٌ، [وكذلك ههنا الأحسنُ: أن تكون مصدريةً] لمقابلتها بالمصْدرِ، وهو اللَّغْوُ».
قال الوَاحِدِي: يُقَالُ: عَقَدَ فلانٌ اليمينَ والعهدَ والحبلَ عَقْداً، إذَا وكَّده وأحْكَمَهُ، ومثل ذلك أيضاً «عَقَّدَ» بالتَّشْديد إذا وكَّدَ، ومثله: عَاقَد بالألفِ.
وقد تقدم الكلامُ في سورة النِّساء عند قوله تعالى: ﴿والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [الآية: ٣٣] و «عاقَدت»، وذُكِرَ في هذه ثلاثُ قراءاتٍ في المشْهُور، وفي تِيكَ قراءتانِ، وقد تقدم في النساء أنه رُوِيَ عن حمزة: «عَقَّدَتْ» بالتشديد فيكون فيها أيضاً ثلاثُ قراءاتٍ، وهو اتفاقٌ غريبٌ، فإنَّ حمزة من أصحابِ التخفيفِ في هذه السورة، وقد رُوِيَ عنه التثقيلُ في النساء.
والمرادُ بقوله: «عقَّدتم، وعاقَدْتُم» أي: قَصَدْتُم وتَعمَّدْتُم، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سُورةِ البَقَرةِ.
قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ﴾ مبتدأ وخبر، والضميرُ في «فَكَفَّارتُهُ» فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه يعودُ على الحِنْثِ الدَّالِّ عليه سياقُ الكلام، وإنْ لم يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، أي: فكفَّارةُ الحِنْثِ.
الثاني: أنه يعود على «مَا» إنْ جَعَلْنَاهَا موصولةً اسميَّةً، وهو على حذف مضافٍ، أي: فكفارة نُكْثِهِ، كذا قدَّره الزمخشريُّ.
والثالث: أنه يعودُ على العَقْدِ؛ لتقدُّمِ الفعْلِ الدالِّ عليه.
الرابع: أنه يعود على اليمين، وإن كانت مؤنثة؛ لأنها بمعنى الحَلْفِ، قالهما أبو البقاء، وليسا بظاهَرْين.
و «إطْعَامُ» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، وهو مقدَّرٌ بحرفٍ وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل، أي: فكفَّارته أن يُطْعِمَ الحَانِثُ عشرة، وفاعلُ المصدرِ يُحْذَفُ كثيراً، ولا ضرورة تدعو إلى تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ، أي: أن يُطْعَمَ عشرةٌ؛ لأنَّ في ذلك خلافاً تقدَّم التنبيه عليه؛ فعلى
495
الأول: يكونُ محلُّ «عشرة» نصباً؛ وعلى الثاني: يكون محلُّها رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، ولذلك فائدةٌ تَظْهر في التابع، فإذا قلت: «يُعْجِبُنِي أكْلُ الخُبْزِ» فإن قدَّرته مبنياً للفاعل، فتتبع «الخُبْز» بالجرِّ على اللفظ، والنَّصْبِ على المحلِّ، وإنْ قَدَّرْتَه مبنيًّا للمفعول، أتْبَعْتَهُ جرًّا ورفعاً، فتقول: «يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ والسَّمْنِ والسَّمْنَ والسَّمْنُ»، وفي الحديث: «نَهَى عن قَتْلِ الأبْتَرِ وذُو الطُّفَيَتَيْنِ» برفع «ذُو» على معنى: أنْ يُقْتَلَ الأبْتَرُ، قال أبو البقاء: «والجَيِّدُ أن يُقَدَّرَ - أي المصدرُ - بفعلٍ قد سُمِّي فاعلُه؛ لأنَّ ما قبله وما بعده خطاب»، يعني: فهذه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك؛ لأنَّ المعنى: فكفَّارَتُهُ أنْ تُطْعِمُوا أنْتُمْ أيها الحَالِفُونَ، وقد تقدم أنَّ تقديره بالمبنيِّ للفاعلِ هو الراجحُ، ولو لم تُوجَدُ قرينةٌ؛ لأنه الأصلُ.
قوله تعالى: «مِنْ أوسطِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلِّ رفعِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ يبيِّنه ما قبله، تقديرُه: طعامُهُمْ مِنْ أوسطِ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عِنْدَ قوله: «مَسَاكِينَ»، وسيأتي له مزيد بيان قريباً إن شاء الله تعالى.
والثاني: أنه في موضعِ نصْبٍ؛ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني، والتقديرُ: قوتاً أو طعاماً كائناً من أوسطِ، وأما المفعولُ الأوَّل فهو «عَشَرَة» المضافُ إليه المصدرُ، و «مَا» موصولةٌ اسميَّةٌ، والعائدُ محذوفٌ، أي: من أوْسَطِ الذي تطعمُونَهُ، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً ب «مِنْ»، فقال: «الَّذِي تُطْعَمُونَ مِنْهُ»، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ من شرط العائد المجرورِ في الحذف: أنْ يتَّحِدَ الحرفانِ والمتعلَّقانِ، والحرفان هنا، وإن اتفقا وهما «مِنْ» و «مِنْ» إلا أنَّ العامل اختلف؛ فإنَّ «مِن» الثانيةَ متعلِّقةٌ ب «تُطْعِمُون»، والأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ، وهو الكون المطلقُ؛ لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف، وقد يقالُ: إنَّ الفعلَ لَمَّا كان مُنْصَباً على قوله: «مِنْ أوْسَطِ»، فكأنه عاملٌ فيه، وإنما قدَّرْنَا مفعولاً لضرورة الصِّناعة، فإن قيل: الموصولُ لم ينجرَّ ب «مِنْ» إنما انجرَّ بالإضافةِ، فالجوابُ: أنَّ المضافَ إلى الموصول كالموصولِ في ذلك؛ نحو: «مُرَّ بِغُلامٍ الَّذي مَرَرْتُ».
و «أهلِيكُمْ» مفعولٌ أول ل «تُطْعِمُونَ»، والثاني محذوفٌ؛ كما تقدم، أي: تُطْعِمُونَهُ أهْلِيكُمْ، و «أهْلِيكُمْ» جمعُ سلامةٍ، ونَقَصَهُ من الشروط كونُه ليس عَلَماً ولا صفةً، والذي حسَّن ذلك: أنه كثيراً ما يُستعملُ استعمال «مُسْتَحِقٌّ لِكَذَا» في قولهم: «هُوَ أهْلٌ لِكَذَا»، أي: مُسْتَحِقٌّ له، فأشبه الصفاتِ، فجُمِعَ جمعَها، وقال تعالى: ﴿شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ [الفتح: ١١] ﴿قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ [التحريم: ٦]، وفي الحديث: «إنَّ لله أهلينَ» قيل: يا رسُول الله: مَنْ هُمْ؟ قال: «قُرَّاء القرآن هم أهلُو الله وخاصَّتُه»، فقوله: «أهلُو الله» جمعٌ حُذِفَتْ
496
نونُه للإضافة، ويُحتمل أن يكون مفرداً، فيكتب: «أهْلُ الله»، فهو في اللفظِ واحدٌ.
وقرأ جَعْفَرٌ الصَّادقُ: «أهَالِيْكُمْ» بسكونِ الياء، وفيه تخريجانِ:
أحدهما: أنَّ «أهَالِي» جمعُ تكسيرٍ ل «أهْلَة»، فهو شاذٌّ في القياس؛ ك «لَيْلَةٍ وليالٍ»، قال ابنُ جِني: «أهَالٍ» بمنزلةِ «لَيَالٍ» واحدها أهلاَة ولَيْلاَة، والعربُ تقول: أهْلٌ وأهْلَة؛ قال الشاعر: [الطويل]
٢٠٤٧ - وَأهْلَةِ وُدٍّ سُرِرْتُ بِوُدِّهِمْ.......................
وقياسُ قولِ أبي زيدٍ: أن تجعله جمعاً لواحدٍ مقدَّرٍ؛ نحو: أحَادِيث وأعَارِيض، وإليه يشير قولُ ابن جنِّي: «أهالٍ بمنزلة ليالٍ واحدُها أهلاة وليْلاَة»، فهذا يحتمل أن يكونَ [بطريق] السماعِ، ويحتملُ أن يكون بطريقِ القياس؛ كما يقول [أبو زيد.
والثاني: أنَّ هذا اسمُ جمعٍ ل «أهْلٍ» قال الزمخشريُّ: «كَالليالي في جمع لَيْلَة والأرَاضِي في جمع أرْضٍ» ]. قوله «في جَمْعِ لَيْلَةٍ، وجمعِ أرضٍ» أرادَ بالجمعِ اللغويَّ؛ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى، ولا يريد أنه جمعُ «لَيْلَة» و «أرْض» صناعةً؛ لانه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ، فكيف يجعلُه جمعاً اصطلاحاً؟.
وكان قياسُ قراءةِ جعفرٍ تحريكَ الياءِ بالفتحة؛ لخفَّتها، ولكنه شَبَّه الياء بالألف، فقدَّر فيها الحركةَ، وهو كثيرٌ في النظْمِ؛ كقول النابغة: [البسيط]
٢٠٤٨ - رَدَّتْ عَلَيْهِ أقَاصِيهِ وَلَبَّدَهُ ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ في الثَّأدِ
وقول الآخر: [الرجز]
٢٠٤٩ - كَأنَّ أيْديهِنَّ بِالْقَاعِ القَرِقْ أيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ
وقد مضى ذلك.

فصل


اختَلَفُوا في قَدْرِ هذا الإطعامِ، فقالَ قَوْمٌ: يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُداً من طعام بمُدِّ النَّبِيِّ -
497
صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو رَطلٌ وثُلُثٌ مِنْ غالبِ قُوتِ البَلْدَة، وكذَلِكَ في جَمِيعِ الكفَّارَاتِ، وهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابتٍ، وابْن عبَّاس، وابن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وبه قال سعيدُ بْنُ المُسَيِّب والحَسَن والقَاسِم، وسُلَيْمَان بنُ يَسَار، وعطاء، والشَّافِعيُِّ - رضي الله تعالى عنهم - وقال أهْلُ العِرَاقِ: عليه لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ - وهو نصف صاع، ويُرْوَى ذلِكَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: إنْ أطعم من الحِنْطَةِ فنِصْفُ صَاعٍ، وإنْ أطعم من غيرها فصاعٌ، وهو قول الشَّعْبِيِّ، والنَّخْعِيِّ، وسعيد بن جُبَيْرٍ، ومُجَاهِد، والحكم - رحمهم الله - ولو غدَّاهم وعشَّاهُمْ لا يجُوزُ، وجوَّزهُ أبُو حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ويُروَى ذَلِكَ عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ولا يَجُوزُ الدَّرَاهِمُ والدَّنَانِيرُ، ولا الخُبْزُ، والدَّقِيقُ، بل يَجِبُ إخْرَاجُ الحَبِّ إليْهِم، وجوَّز أبُو حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كُلَّ عشرةٍ إلى مسكينٍ واحدٍ في عشرة أيام ولا يَجُوزُ أن يُصرَف إلا إلى مُسْلِمٍ حر مُحْتَاج، فإن صُرِفَ إلى ذِمِّيٍّ أوْ عَبْدٍ أو غَنِيٍّ لَمْ يَجُزْ، وجوَّز أبُو حنيفةَ صرْفَهُ إلى أهْلِ الذَّمَّةِ، واتَّفَقُوا على أنَّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلى أهْلِ الذَّمَّة لا يَجُوزُ.

فصل


واختلفُوا في الوسط.
فقيل: مِنْ خَيْر قُوتِ عيالِكُمْ، والوسَطُ: الخُبْزُ [وتقدم في البقرة في] قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ [البقرة: ١٤٣].
وقال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: الأوْسَطُ الخُبْزُ والْخَلُّ، والأعلى الخُبْزُ واللَّحْم، والأدْنَى الخُبْزُ البحْتُ، والكُلُّ يُجْزِئُ.
قوله تعالى: «أوْ كِسْوَتُهُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه نَسَقٌ على «إطْعَام»، أي: فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسْوَة تلك العشرة.
والثاني: أنه عطفٌ على محلِّ «مِنْ أوْسَط» [وهو أن يكون «مِنْ أوسط» خبراً لمبتدأ محذوفٍ يدُلُّ عليه ما قبله، تقديرُه: طعامُهُمْ مِنْ أوْسَط]، فالكلامُ عنده تامٌّ على قوله «عَشرةِ مساكِينَ»، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكونُ من أوسط كذا وأمَّا إذا قلنا: إنَّ «مِنْ أوْسَطِ» هو المفعولُ الثاني، فيستحيل عطف «كِسْوَتُهُمْ» عليه؛ لتخالفهما إعراباً.
498
وقرأ الجمهور: «كِسْوتُهُمْ» بكسر الكاف. وقرأ إبراهيمُ النخعيُّ وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ وسعيدُ بنُ المُسَيِّب بضمِّها، وقد تقدَّم في البقرة [الآية ٢٣٣] أنهما لغتان في المصدر، وفي الشيء المَكْسُوِّ، قال الزمخشريُّ: «كالقِدْوَة في القُدْوَة، والإسْوَة في الأسْوَة» إلا أن الذي قرأ في البقرة بضَمِّها هو طلحة فلم يذكُرُوه هنا، ولا ذكَرُوا هؤلاء هناك.
وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر وابنُ السَّميفع: «أوْ كأسْوتِهِمْ» بكاف الجر الداخلة على «أُسْوَة» قال الزمخشريُّ: «بمعنى: أو مِثْلُ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ، إسْرَافاً أو تَقْتيراً، لا تُنْقصونَهُمْ عن مقْدارِ نفقتِهِمْ، ولكنْ تواسُونَ بينهم، فإنْ قُلْتَ: ما محلُّ الكافِ؟ قلتُ: الرفعُ، تقديرُه: أو طعَامُهُمْ كأسوتِهِمْ، بمعنى: كَمِثْلِ طعامهم، إن لَمْ يُطْعِمُوهُم الأوْسَطَ». انتهى، وكان قد تقدم أنه يجعل «مِنْ أوسَطِ» مرفوع المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً؛ عطفاً على «مِنْ أوْسَطِ»، وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال: «فالكاف في موضعِ رفعٍ أي: أو مِثْلُ أسْوَةِ أهْلِيكُمْ»، وقال أبو حيان: «إنه في موضع نصْبٍ عطفاً على محلِّ: مِنْ أوْسطَ» ؛ لأنه عنده مفعولٌ ثان، إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسْوةَ من الكَفَّارةِ، وقد أجمعَ الناسُ على أنها إحدى الخصَالِ الثلاثِ، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول: «اسْتُفيدتِ الكسْوةُ من السُّنَّةِ»، أمَّا لو قام الإجماعُ على أن مستندَ الكسْوَة في الكفَّارة من الآية؛ فإنه يَصِحُّ الردُّ على هذا القارئ.
والكِسْوَةُ في اللُّغَةِ معناهُ اللِّبَاسُ، وهو كُلُّ ما يُكْتَسَى بِه.

فصل


كُلُّ مَنْ لَزمتْهُ كَفَّارَةُ يمينٍ فهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أطْعَمَ عشْرَة مساكين، وإن شاءَ كَسَاهُم، وإن شاء أعْتَقَ رقبَةً، فإن اخْتَارَ الكِسْوَة، فاخْتَلَفُوا في قدرهَا، فذهبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يَكْسُوا كُلَّ مِسْكينٍ ثوباً واحداً مِمَّا يَقَعُ عليه اسم الكِسْوَةِ، إزَارٌ، أوْ رِدَاءٌ، أو قميصٌ، أو سراويل، أو عمامة مقَنَّعَة، أو كِسَاء أو نَحْوها، وهُو قولُ ابن عبَّاس والْحَسَن ومُجاهد وعطاء وطاوُس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وإليه ذهبَ الشَّافِعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يَجِبُ لِكُلِّ إنسان ما يجُوزُ فيه صلاتُهُ، فيكْسُوا الرجُلَ ثَوْباً والمرْأةُ ثَوْبَيْن دِرْعاً وخِمَاراً.
499
وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبُ: «لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَان».
قوله تعالى: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ عطف على «إطعامُ» وهو مصدر مضاف لمفعوله، والكلامُ عليه كالكلام على [ «إطعامُ] عشرَةِ» من جوازِ تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك، [وقوله: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ كقوله في النساء: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ [النساء: ٩٢]]، وقد تقدَّم ذلك.

فصل


المُرَادُ بالرَّقَبَةِ الجملة.
قيل: الأصْلُ في هذا المجازِ، أنَّ الأسِير في العربِ كان يجمع إلى رقبتِهِ بحبْلٍ، فإذا أطلقَ حلَّ ذلك الحَبْل، فسُمِّيَ الإطلاقُ مِنَ الرَّقبَةِ فَكُّ رقبة، وأجازَ أبُو حنيفَةَ والثَّوْرِي إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَة في جَميعهَا، إلاَّ كَفارَة القَتْل؛ لأنَّ اللَّه تعالى قَيَّدَ الرَّقَبة فيها بالإيمان، قُلْنَا: المُطْلَقُ يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ، كما أنَّ اللَّهَ تعالى قَيَّدَ الشَّهَادَة بالعَدَالَةِ في موضعٍ فقال تعالى: ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢]، وأطلق في موضعٍ فقال تعالى: ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، ثم العدالةُ مشروطةٌ في جميعها حَمْلاً للمُطْلَقِ على المُقَيَّدِ، كذلك هذا.
ولا يجُوزُ إعْتَاقَ المُرْتَدِّ بالاتِّفَاقِ عن الكَفَّارة، ويُشْتَرَطُ أن يكونَ سليمَ الرِّقِّ، حتَّى لو أعْتَقَ عن كَفَّارتِهِ مُكَاتباً، أوْ أمَّ ولدٍ، أوْ عبداً اشْتَراه بِشَرْطِ العَتْقِ، أو اشْتَرَى قَرِيبَهُ الذي يُعْتَقُ عليه بِنيَّةِ الكَفَّارة يعتق، ولا يجُوزُ عن الكفَّارة.
وجوَّز أصْحَابُ الرَّأي عِتْق المُكَاتِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ أدَّى شيئاً من النُّجُومِ، وعِتْق القَرِيبِ عن الكَفَّارة.
ويُشترطُ أن تكُون الرَّقَبَةُ سليمةً من كُلِّ عَيْبٍ يَضِرُّ بالعمل ضَرَراً بَيِّناً، حتَّى لا يجُوزُ مَقْطُوع إحْدَى اليَدَيْنِ، أو إحْدَى الرِّجْلَيْن، ولا الأعمَى، ولا الزَّمِن، ولا المجْنُونُ المُطْبَقُ، ويجُوزُ الأعْوَرُ، والأصَمُّ والمقْطُوعُ الأُذَنَيْنِ، والأنْفِ؛ لأنَّ هذهِ العُيُوبَ لا تَضِرُّ بالعَمَلِ إضْرَاراً بَيِّناً وعند أبي حنيفَة - رضي الله تعالى عنه - كُلُّ عَيْبٍ يُفَوَّتُ جِنْساً من المَنْفَعَةِ يَمْنَعُ الجَوازَ، حَتَّى جوَّزَ مَقْطُوعَ إحْدَى اليَدَيْن، ولم يجوِّز مَقْطُوعَ إحْدى الأذُنَيْنِ.

فصل


معنى الواجب المخيَّر: هُوَ أنَّهُ لا يَجِبُ عليه الإتْيان بكُلِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ،
500
ولا يجُوزُ له تَرْكُ جَميعها، ومتى أتى بأيِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ خَرَجَ عن العُهْدَة، فإذا اجْتَمَعَتْ هذه القُيُود الثلاثةُ، فذلك هو الواجِبُ المُخَيَّرُ.
وقال بعض الفُقَهَاءِ: الواجِبُ واحدٌ لا بِعَيْنِه، وهذا الكلامُ يَحْمِلُ أمْرَيْن:
501
الأوَّلُ: أنْ يُقَال: الواجِبُ عليه أن يُدخِلَ واحداً من هذه الثلاثة لا بِعَيْنِهِ، وهذا مُحَالٌ في العُقُولِ؛ لأنَّ الشَيْء الذي يَكُونُ مُعَيَّناً في نَفْسِه يَكُونُ مُمْتَنِع الوُجُودِ لذاتِهِ، وما كان كذلك، فإنَّهُ لا يَرِدُ به التَّكْلِيف.
والثاني: أن يُقَال: الوَاجِبُ عليه واحدٌ مُعَيَّنٌ في نَفْسِهِ وفي عِلْم الله تعالى، إلاَّ أنَّهُ مَجْهُولُ العيْنِ عند الفاعلِ، وذلك أيْضاً مُحَالٌ؛ لأنَّ كون ذلك الشَّيْء واجباً بِعَيْنِه في عِلْم الله تعالى هو أنَّهُ لا يجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ، واجْتَمَعتِ الأمَّةُ على أنَّهُ يجُوزُ له تركُهُ بتَقْييدِ الإتْيَان بِغَيْرِه، والجَمْعُ بَيْنَ هذيْنِ القوْلَيْن جمعٌ بين النَّفي والإثْبَات، وهُو مُحَال، وتمامُ هذا البَحثِ مَذْكُورٌ في أصُولِ الفِقْه.
فإنْ قِيلَ: أيُّ فائدةٍ لِتَقْدِيمِ الإطعامِ على العِتْقِ مع أنَّ العتقَ أفْضَلُ؟ فالجوابُ من وُجُوه:
أحدها: أنَّ المقصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيه على أنَّ هذه الكَفَّارَة وَجَبَتْ على التَّخْيِير لا عَلَى التَّرْتيب، لأنها لوْ وَجَبَتْ على التَّرْتِيبِ لوجَبَتِ البدَايَةُ بالأغْلَظِ.
وثانيها: قدَّم الإطعام؛ لأنَّه أسْهَلُ، ولكَوْنِ الطَّعامِ أعمّ وُجُوداً، والمقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ على أنَّهُ تعالى يُراعِي التَّخْفِيفَ والَّسْهِيلَ في التَّكالِيفِ.
وثالثها: أنَّ الإطعامَ أفْضَلُ؛ لأن الحُرَّ الفَقِيرَ قَدْ لا يَجِدُ طعاماً، ولا يكونُ هُنَاكَ مَنْ يُعْطِيه الطَّعام، فَيقعَ في الضُّرِّ.
وأمَّا العَبدُ فَيَجِبُ على مَولاَهُ إطعامُهُ وكِسْوَتُهُ.
قوله تعالى: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ﴾ إذا عَجزَ الذي لَزِمَتْهُ كفَّارةُ اليمينِ عَنِ الإطْعَامِ، أو الْكِسْوَةِ، أو تَحْرِيرِ رقبةٍ، يجبُ عليهِ صوْمُ ثلاثةِ أيَّامٍ، والعاجزُ ألا يَفْضُل من مالهِ عن قُوتِهِ، وقُوتِ عيالِهِ وحاجَتِهِ ما يُطْعِمُ، أو يَكْسُو، أو يَعْتِقُ، فإنَّهُ يصومُ ثلاثة أيام، وقال بعضهم: إذا مَلكَ ما يمكنه الإطْعَامُ، وإنْ لم يَفضُل عن كِفَايتِهِ، فليس له صِيَامٌ، وهو قوْلُ الحَسَن، وسعيد بن جُبَيْر.
واختلفُوا في وجوب التَّتَابعُ في هذا الصِّيَام، فذهب جماعةٌ إلى أنَّه لا يجب فيه التَّتَابُعُ، بل إنْ شاء تابع وإن شاء فرَّقَ، والتَّتَابعُ أفْضَلُ، وهُو أحد قولي الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وذهب قوم إلى وُجوبِ التَّتَابع فيه، قِيَاساً على كَفَّارةِ القَتْلِ والظِّهَارِ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِي وأبي حنيفةَ - رضي الله تعالى عنهما - وتدلُّ عليه قِرَاءة ابن مَسْعُود - رضي الله تعالى عنه - «فصِيَام ثلاثةِ أيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ».
502
وأُجِيبُ: بأنَّ القراءةَ الشَّاذَّةَ مردُودَةٌ، إذ لَوْ كانَتْ قُرْآناً، لنُقِلَتْ نَقْلاً مُتَوَاتراً، ولو جوَّزنا في القُرْآن ألا ينقل متواتراً، لَزِمَ طَعْن الرَّوَافِضِ والملاحِدَة في القُرْآن، وذلك بَاطِلٌ، فعِلمْنَا أن القراءة الشَّاذَّة مردُودةٌ، فلا تَصْلحُ أنْ تكون حُجَّةً.
وأيضاً نُقِلَ عن أبَيِّ بن كعب أنَّهُ قرأ: «فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر مُتَتَابِعَات»، مع أنَّ التَّتَابع هُناكَ ما كان شَرْطاً وأجابُوا عَنْهُ أنَّهُ رُوِي عن النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - «أنَّ رَجُلاً قال لَهُ: عَلَيَّ أيَّامُ رمضانَ أفَأقْضِيهَا مُتفَرِّقاتٍ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» أرأيْتَ لوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَ الدِّرْهِمَ بِالدِّرْهَم أمَا كان يُجْزِيك؟ قال: بلَى قال: فاللَّه تعالى أحَقُّ أن يَغْفِرَ ويَصْفَحَ «وهذا الحَدِيثُ وإن وَقَعَ جواباً عن هذا السُّؤال في صَوْم رمضان، إلاَّ أنَّ لَفْظَهُ عامٌّ، وتَعْلِيلُهُ عَامٌّ في جَميعِ الصِّيَامَاتِ، وقد ثبتَ في الأصُولِ أنَّ العِبْرة بعُمُوم اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السبب، فهذا من أقوى الدَّلائلِ على جَوازِ التَّفْرِيق هاهُنَا.
قوله تعالى: ﴿ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾، ذلك إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الإطْعَام والكِسْوَة، وتحْرِيرِ الرَّقَبَة يُكفِّر عنكم حِنْثَ اليَمِين وقْتَ حَلْفِكُمْ و»
إذَا حَلَفْتُمْ «قال أبو البقاء:» منصوبٌ على الظَّرْف وناصبُه «كَفَّارة»، أي: ذلك الإطعامُ، أو ما عُطِفَ عليه يُكَفِّر عنْكُمْ كَفَّارةُ «، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء، أو التأنيث للكفَّارة، والمعنى:» إذَا حَلَفْتُمْ حَنْثْتُم، فترك ذِكْرَ الحِنْثِ؛ لوقوع العلْمِ بأن الكفَّارة، إنما تَجِبُ بالحِنْثِ بالحَلِفِ لا بنَفْسِ الحَلِفِ، كقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] أي: فأفْطَرَ «. ؟ ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشريُّ، وهو تقديرُ الحِنْثِ، ولذلك عِيبَ على أبي البقاء قوله:» العَامِلُ في «إذَا» كفارةُ أيْمانِكُمْ؛ لأن المعنى: ذلك يُكَفِّرُ أيْمَانكُمْ وَقْتَ حَلْفِكُمْ «، فقيل له: الكفَّارةُ ليستْ واقعةً في وقْتِ الحَلْفِ، فكيف يَعْمَلُ في الظرْفِ ما لا يقعُ فيه؟ وظاهرُ الآية أنَّ» إذَا «متمحِّضَة للظرفيَّةِ، وليس فيها معنى الشرطِ، وهو غيرُ الغالبِ فيها، وقد يجوزُ أن تكون شرطاً، ويكونُ جوابُها محذوفاً على قاعدةِ البصريِّين يدُلُّ عليه ما تقدَّم، أو هو نفسُ المتقدِّم عند أبي زَيْدٍ والكوفيين، والتقدير: إذا حَلَفْتُمْ وحَنِثْتُم، فذلك كفارةُ إثْمِ أيْمَانِكُمْ؛ كقولهم:» أنْتَ ظَالِمٌ إنْ فَعَلْتَ «.

فصل


اخْتَلَفُوا في تقديم الكَفَّارة على الحنْثِ؛ فذَهَبَ قَوْمٌ إلى جَوَازِهِ لقَوْل النَّبِيِّ - صلَّى
503
الله عليه وعلى آله وسلَّم -: «من حَلَفَ بِيَمِينٍ، فَرأى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَل الذي هُو خَيْر» وهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَر، وابْنِ عبَّاس وعائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وبه قال الحَسَنُ وابنُ سيرين، وإليه ذهبَ مالِكٌ، والأوْزَاعِيُّ، والشَّافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، إلاَّ أنَّ الشَّافعيَّ يقُولُ: إن كَفَّرَ بالصَّوْمِ قبل الحنْثِ لا يَجُوزُ، لأنه بدَنِيٌّ، إنَّمَا يجوزُ الإطْعَامُ والكسْوَة والعِتْقُ؛ لأنَّه مَالِيٌّ، فأَشْبَه تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ، كما يجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ على الحَوْل، ولا يجُوزُ تَعْجِيلُ صَوْمِ رمضانَ.
قالوا: وقوله: «إذَا حَلَفْتُم» فيه دَقِيقَةٌ، وهو التَّنْبِيهُ على أنَّ تقْدِيم الكَفَّارة قبْل اليَمِين لا يجُوز، وأمَّا بعد اليمين وقبل الحنْثِ فيجُوز، لانعِقَادِ سببها وهو اليمينُ، فصارت كمِلْكِ النِّصاب.
وقال أبو حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يجُوزُ تقديم الكَفَّارَة على الحنْثِ.
قوله تعالى: ﴿واحفظوا أَيْمَانَكُمْ﴾ قيل: المرادُ به تَرْكُ الحَلْفِ، أي: لا تحلِفُوا، وقِيل: المُرَادُ تَقْلِيلُ الأيْمان، أي: لا تُكثِروا مِنْهَا.
قال الشَّاعر: [الطويل]
٢٠٥٠ - قَليلُ الأَلايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ فإنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ
والصحيحُ: أنَّ المُرَادَ: حِفْظُ اليمينِ على الحنْثِ، هذا إذا لم يكن حلف بِيَمينِهِ على ترْكِ مَنْدُوبٍ أو فعلٍ مكرُوهٍ، فإن حَلَفَ على تَرْكِ مَنْدُوبٍ أو فِعْلِ مَكْرُوهٍ، فالأفْضَلُ أن يُحنِثَ نَفْسَهُ ويُكَفِّر للحَدِيثِ المُتقدِّم.
قوله تعالى: «كَذِلِكَ» هذه الكاف نعتٌ لمصدر محذوف عند جماهير المُعْربين، أي: يبيِّن الله آياته تبييناً مثل ذلك التبيين، وعند سيبويه أنه حالٌ من ضميرِ ذلك المصْدَرِ على ما عُرِفَ.
504
هذا هو النَّوْعُ الثَّالثُ من الأحْكَامِ المذكُورَةِ هُنَا، ووجهُ اتِّصاله بما قبله، أنَّه - تعالى - قال: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧]، إلى قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا
504
رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} [المائدة: ٨٨]، ثم كان من جُمْلَةِ الأمُورِ المستَطَابَة للجُمْهُورِ الخَمْرُ والمَيْسِرُ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّهُمَا غير دَاخِلَيْن في المُحَلَّلات، بل في المُحرَّمَات، وقد تقدَّم بَيَانُ الخَمْرِ والمَيْسِر في سُورة البَقرَة [البقرة ٢١٩]، وبيان الأنْصَاب والأزلام في أوَّل هذه السُّورة [المائدة ٣].
وفي اشتِقَاقَ الخَمْرِ وجهان:
أحدهما: سُمِّيَ خَمْراً لِمُخَامَرَته العقل، أي: خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ.
الثاني: قال ابنُ الأعْرَابِي: تُرِكَتْ فاخْتَمَرَتْ، أي: تَغَيَّر رِيحُهَا.

فصل


قال القُرْطُبِي: تحريمُ الخَمْرِ كان بالتَّدْرِيج ونَوازِلَ كَثِيرة، لأنَّهُمْ كانوا مُولَعِينَ بشُرْبِهَا، وأوَّلُ ما نزلَ في أمْرِهَا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩]، أي: في تِجَارَتِهِم، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ تركَهَا بَعْضُ النَّاس، وقالُوا: لا حَاجَةَ لنا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصلاة، وشَرِبَهَا بَعْضُهُمْ في غَيْرِ أوقاتِ الصَّلاة، حتى نَزَلَتْ هذه الآيَةُ، فصارتْ حَرَاماً عَلَيْهم، وذلك في ستة ثلاث من الهِجْرَة بعد وَقْعَةِ أُحُد.
قوله تعالى: «رجسٌ» : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدِّمة، فيقال: كيف أخبر عن جَمْع بمفردٍ؟ فأجاب الزمخشريُّ بأنه على حَذْف مضافٍ، أي: إنما شأنُ الخَمْرِ، وكذا وكذا، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضَّميرِ في «فاجْتَنِبُوهُ» كما سيأتي، وكذا قدَّره أبو البقاء، فقال: «لأنَّ التقدير: إنما عَمَلُ هذه الأشياء». قال أبو حيان بعد حكايته كلامَ الزمخشريِّ: ولا حاجة إلى هذا، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف؛ كقوله: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨]، وهو كلامٌ حسن، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أن يكونَ «رِجْسٌ» خبراً عن «الخَمْر»، وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ؛ لدلالةِ خبر الأولِ عليها، قال شهاب الدين: وعلى هذا: فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخر، وحُذِفَ خبرُ ما قبله؛ لدلالةِ خبر ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قوله تعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] هذين التقديرين، وقد تقدَّم تحقيقُهما مراراً.
505
والرجسُ قال الراغب: «هو الشيْءُ القَذِرُ، رجلٌ رِجْسٌ، ورِجَالٌ أرْجَاسٌ»، ثم قال: «وقيل: رِجْسٌ ورِجْزٌ للصَّوْت الشديد، يقال: بَعِيرٌ رَجَّاسٌ: شديدُ الهدير، وغمامٌ راجِسٌ ورجَّاسٌ: شديدُ الرعْد»، وقال الزجَّاج: هو اسمٌ لكلِّ ما استُقْذِرَ من عمل قبيحٍ، يقال: رَجِسَ ورَجَسَ بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساً إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصله من الرَّجْسِ بفتح الراء، وهو شدة صوت الرعد؛ قال: [الرجز]
٢٠٥١ - وَكُلُّ رَجَّاسٍ يَسُوقُ الرَّجْسَا... وفرَّق ابن دُرَيْدٍ بين الرِّجْسِ والرِّجْزِ والرِّكْسِ، فجعل الرِّجْسَ: الشرَّ، والرِّجْزَ: العذابَ، والرِّكْسَ: العَذِرةَ والنَّتْنَ، ثم قال: «والرِّجْسُ يقال للاثْنَيْنِ»، فتحصَّلَ من هذا؛ أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتنِ، أو أنه في الأصل مصدرٌ.
وقوله تعالى: ﴿مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «رِجْس».
وهذا أيْضاً مُكَمِّلٌ لكونِهِ رجْساً؛ لأنَّ الشَّيطان نَجْسٌ خَبِيثٌ؛ لأنه كَافِرٌ، والكَافِرُ نَجسٌ لقوله تعالى ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] والخبيث لا يَدْعُو إلاَّ إلى الخَبِيثِ لقوله تعالى: ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ﴾ [النور: ٢٦] والهاء في «فَاجْتَنِبُوهَ» تعودُ على الرِّجْس، أي: فاجتنبُوا الرِّجْسَ الذي أخْبَرَ به مما تقدَّم من الخَمْر وما بعدها، وقال أبو البقاء: «إنها تعود على الفِعْلِ»، يعني الذي قدَّره مضافاً إلى الخَمْر وما بعدها، وإلى ذلك نحا الزمخشريُّ أيضاً، قال: «فإنْ قلتَ: إلامَ يَرْجِعُ الضميرُ في قوله: فاجتنبُوهُ؟ قلت: إلى المضافِ المحذوفِ، أو تعاطيهمَا، أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ»، وقد تقدَّم أن الأحْسَنَ: أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرِّجْسِ مبالغةً.
قوله تعالى: «فِي الخَمْرِ» : فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «يُوقِعَ»، أي: يُوقعَ بينكم هذين الشيئينِ في الخمر، أي: بسبب شرْبها، و «في» تفيد السسببيةَ؛ كقوله عليه السَّلام: «إنَّ امرأةً دخلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ».
الثاني: أنها متعلِّقة بالبغضاء؛ لأنه مصدر معرف ب «ألْ».
الثالث: أنه متعلقٌ ب «العداوة»، وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن تتعلَّق» في «بالعداوة، أو ب» البَغْضَاء «، أي: [أنْ] تَتَعادَوْا وأنْ تَتَبَاغَضُوا بسبَبِ شُرْبِ الخَمْرِ» ؛ وعلى هذا الذي ذكره: تكونُ المسألةُ من باب التنازعِ، وهو الوجهُ الرابع، إلاَّ أنَّ في ذلك
506
إشكالاً، وهو أنَّ من حقِّ المتنازعين؛ أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعملِ، وهذا العاملُ الأولُ، وهو العداوة، لو سُلِّط على المتنازعِ فيه، لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو المعطوف، وقد يقال: إنه في بعضِ صُورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ، إذا تنازعا معمولاً فيه، وقد تقدَّمَ مُشْبَعاً في البقرة.

فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية


اعلم أنَّه تعالى لمّا أمَرَ باجْتِنَابِ هذه الأشياءِ، ذكر فِيهَا نوعَيْنِ من المَفْسَدَة:
الأول: ما يتعلَّقُ بالدُّنْيَا وهُوَ قولُهُ تعالى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر﴾.
والثاني: المَفْسَدَةُ المُتعلِّقَةُ بالدِّين، وهو قولُهُ تعالى: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة﴾.
فأمَّا شَرْحُ هذه العداوة [والبغضاء أولاً في الخَمْر ثمَّ في المَيْسِر] : وأمَّا الخَمْرُ، فاعْلَم: أنَّ الظَّاهر فيمَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ، أنَّه يَشْرَبُهَا مع جَمَاعةٍ، ويكونُ غَرَضُهُ الاسْتِئْنَاس برُفَقَائِهِ، ويفرحُ بِمُحَادثَتِهمْ، ويكون بذلك الاجْتِمَاع تأكيدُ المَحَبَّةِ والألْفَةِ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ في الأغْلَبِ ينقلبُ إلى الضِّدِّ؛ لأنَّ الخَمْرَ يُزيلُ العَقْلَ، وإذا أزَالَ العَقْلَ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ من غير مُدَافَعَةِ العقل، وعند اسْتِلائِهما تَحْصُلُ المُنازَعَةُ بين أولَئِكَ الأحْبَاب، وتِلْكَ المُنَازَعَةُ رُبَّما أدَّتْ إلى الضَّرْبِ والقَتْلِ، والمُشافَهَةِ بالفُحْشِ، وذلك يُورِثُ أشَدَّ العداوةِ والبَغْضَاء، كما فعل الأنْصَارِيُّ الذي شَجَّ رأسَ سَعْد بن أبي وقّاص بلحي الجَمَل.
ورُوِيَ أن قَبيلَتَيْنِ من الأنْصَارِ شَرِبُوا الخَمْرَ، وانْتَشَوْا فَعَبَث بعضُهم على بَعْض، فلما [صَحَوْا رأى بعضُهُم في وجْهِ] بعْضٍ آثَار ما فَعلُوا، وكانوا إخْوَةً ليْسَ في قُلُوبِهِمْ ضَغَائِن، فجعل بَعْضُهُم يقُولُ: لو كان أخي بي رَحيماً ما فعل بِي هذا، فحدثَتْ بَيْنَهُم الضَّغَائِنُ، فالشَّيطان يُسَوِّلُ أنَّ الاجتماعَ على الشُّرْبِ يوجِبُ تَأكِيدَ الألْفَةِ والمَحَبَّةِ بين الأخوة، فينْقَلِبُ الأمْرُ، وتحصُلُ العداوَةُ والبَغْضَاءُ.
وأمَّا المَيْسِرُ، ففيه بإزَاءِ التَّوْسِعَةِ على المُحْتَاجِينَ من الإجْحَافِ بأرْبَابِ الأمْوالِ؛ لأنَّ من صارَ مَغْلُوباً في القُمَارِ مَرَّةً، دَعَاهُ ذلك إلى اللِّجَاحِ فيه، يَرْجُو بذلِكَ إلى أنْ يَصِيرَ غَالِباً، وقد يتَّفِقُ أنَّه لا يَحْصُلُ لَهُ ذلك، إلى أن لا يَبْقَى لَهُ شيءٌ من المَالِ، وإلى أن يُقَامِرَ على لحْيَتِهِ وأهْلِهِ وَوَلَدِهِ.
قال قتادةُ: كان الرَّجُلُ يُقامِرُ على الأهْلِ والمالِ، ثم يَبْقَى مَسْلُوبَ الأهْل والمالِ، ولا شكَّ أنَّه يَبْقَى بعد ذلك فَقِيراً مِسْكِيناً، ويصيرُ من أعْدَى الأعْدَاءِ لأولئكَ الذين غلبُوه،
507
فَظَهَر أنَّ الخَمْرَ والمَيْسِر سبَبَانِ عَظِيمَان في إثَارَةِ العَدَاءِ والبغْضَاءِ بين النَّاسِ، والعداوةُ والبَغضَاءُ تُفْضِي إلى أحْوالٍ مَذْمُومَةٍ من الهرَج والمَرجِ والفِتَنِ، وذلك مُضَادٌّ لمصالِحِ العِبَادِ.
فلو قِيلَ: لما جمع الخَمْرَ والمَيْسر مع الأنْصَاب والأزلامِ، ثم أفرَدَهُمَا في آخر الآية.
قلنا: لأنَّ لهذه الآيَةِ خِطَابٌ مع المُؤمنين، لقوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ والمقصُودُ نَهْيُهُم عن الخَمْرِ والميْسِر، وإنَّما ضمَّ الأنْصَابَ والأزْلاَم إلى الخَمْرِ والميْسِرِ، إظهاراً أنَّ هذه الأرْبَعَة مُتَقَارِبةٌ في القُبْح والمفْسَدَة، فلما كان المَقْصُودُ من الآيَةِ النَّهْي عن الخَمْرِ والميْسِر، لا جَرَم أفَردهُمَا في آخِرِ الآيَةِ بالذِّكْرِ.
قال شهاب الدين: ويظهرُ شيءٌ آخرُ، وهو أنه لم يُفْردِ الخَمْرَ والميْسِرَ بالذِّكْر [آخراً]، بل ذَكَرَ مَعهُمَا شيئاً يَلْزَمُ منه عدمُ الأنصاب والأزلام [فكأنه] تكملة ذكر الجميع، بيانه أنه قال: «في الخَمْرِ والميسِرِ ويَصُدُّكُمْ عنْ ذِكْرِ الله» بعبادة الأنْصَاب أو بالذبحِ عليها للأصنام على ما علم تفسيره أوَّلَ السُّورة، و «عن الصلاةِ» باشتغالِكم بالأزْلام، وقد تقدَّم فَذِكْرُ الله والصَّلاة مُنَبِّهَانِ على الأنْصَاب والأزلام.
وأمَّا النَّوع الثَّانِي من المفاسِد الموجُودة في الخَمْرِ والميْسِر: المفَاسِدُ المتعلِّقةُ بالدِّينِ، وهو قوله تعالى: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة﴾، أمَّا كَوْنُ شُرْبِ الخَمْرِ يَمْنَعُ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة، فظاهرٌ؛ لأنَّ شُرْبَ الخَمْرِ يُورِثُ الطَّربَ واللَّذَّة الجُسْمَانيَّة، والنَّفسُ إذا اسْتَغْرَقَت في اللَّذَّات الجُسْمانِيَّة، غَفلَتْ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة، وأمَّا كونُ الميْسِر مانِعاً عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، إنْ كانَ غَالِباً صارَ استغراقُهُ في لذَّةِ الغلبَةِ من أنْ يَخْطُر بِبَالِه شيءٌ سِوَاه، وإن صَارَ مَغْلُوباً صار شِدَّة اهتمامِه بأنْ يحْتَال بحِيلَةٍ، حتَّى يَصِيرَ غَالِباً مَانِعاً من أنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيءٌ سواه، ولا شكَّ أنْ هذه الحالةَ مما يَصُدُّ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وعن الصَّلاة، ولمَّا بيَّن تعالى اشْتِمَال شُرْبِ الخَمْرِ، واللَّعِب بالميْسِر على هذه المفاسِدِ العَظِيمَةِ في الدِّينِ، قال تعالى ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾.

فصل


قال القُرْطُبِي: فَهِمَ الجُمْهُورِ من تَحْرِيم الخَمْرِ، وإطلاقِ الرِّجْس عليها، والأمْر باجْتِنَابِهَا، الحكم بِنَجَاسَتِهَا، وخَالَفَهُمْ في ذلك رَبيعَةُ، واللَّيْثُ بنُ سَعْد، والمُزَنِيُّ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِين من البَغْدَادِيِّين والقَرَويِّين، وقالُوا: إنَّها طَاهِرَةٌ وأنَّ المُحرَّمَ إنما هو شُربُهَا؛ لأنَّ المَيْسِر والأنْصَاب والأزْلامَ ليسوا بِنَجسٍ، فكذلِكَ الخَمْرُ، ولجواز سَكْبِهَا [
508
في] طُرُقِ المدينَةِ، مع نَهْيِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن التَّخَلِّي في الطريق.
قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر، أي: انْتَهُوا.
رُوِيَ أنَّه لمَّا نزلَ قوْلُ اللَّهِ تعالى: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ [النساء: ٤٣] قال عُمَر بنُ الخطَّابِ - رضي الله تعالى عنه -: «اللَّهُمَ بيِّن لَنَا في الخَمْرِ بَيَاناً شافياً» فلما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ قال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «انْتَهَيْنَا يا رَبِّ، انْتَهَيْنَا يَا ربِّ» ويدلُّ على أن المراد منه الأمر أيضاً: عطفُ الأمر الصَّريحِ عليه في قوله «وأطيعُوا»، كأنه قيل: انتهوا عن شُرْبِ الخَمْرِ، وعن كذا، وأطِيعُوا، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرة باسْم مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعلٍ دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره - أبلغُ من صريح الأمر.
قال ابنُ الخطيب: وإنما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ هذه الأفعالَ، وأظْهَرَ قُبْحَهَا للمُخَاطَبِ، فلما استفهم بَعْدَ ذَلِكَ عن تَرْكِهَا، لم يَقْدِر المُخَاطبُ إلاَّ على الإقْرَارِ بالتَّرْكِ، وكأنَّه قِيلَ لَهُ: أتَفْعَلُه وقَدْ ظَهَر من قُبحهِ ما ظَهَر؛ فصار ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ ؛ جَارِياً مُجْرَى تنصِيصِ اللَّهِ تعالى على وُجُوبِ الانْتِهَاءِ، مَقْرُوناً بإقْرَارِ المُكَلَّفِ بوجوبِ الانْتِهَاءِ.
واعلم: أنَّ هذه الآيةُ دالَّةٌ على وُجوبِ تحريم شُرْبِ الخَمْرِ من وُجُوهٍ:
أحدها: تَصْدِيرُ الجُمْلَة ب «إنَّما» وهي لِلْحَصْرِ، فَكَأنَّهُ قال: لا رِجْسَ ولا شَيءَ من أعْمَالِ الشَّيْطَانِ إلاَّ هذِهِ الأربَعَةُ.
وثانيها: أنَّهُ تعالى قَرَنَ الخَمْرَ والميْسِر بِعبَادةِ الأوْثَان، ومنه قولُهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «شَارِبُ خَمْرٍ كَعَابدٍ وثَنٍ».
وثالثها: قال «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون»، جعلَ الاجْتِنَاب من الفلاحِ، وإذا كان الاجْتِناب فَلاَحاً، كان الارْتِكَابُ خَيْبَةً.
ورابعها: ما تقدَّم من اشْتِمَال الاسْتِفْهَامِ على المَنْفِي.
509
قوله تعالى :" فِي الخَمْرِ " : فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب " يُوقِعَ "، أي : يُوقعَ بينكم هذين الشيئينِ في الخمر، أي : بسبب شرْبها، و " في " تفيد السببيةَ ؛ كقوله عليه السَّلام :" إنَّ امرأةً دخلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ ".
الثاني : أنها متعلِّقة بالبغضاء ؛ لأنه مصدر معرف ب " ألْ ".
الثالث : أنه متعلقٌ ب " العداوة "، وقال أبو البقاء١٤ :" ويجوزُ أن تتعلَّق " في " بالعداوة، أو ب " البَغْضَاء "، أي :[ أنْ ] تَتَعادَوْا وأنْ تَتَبَاغَضُوا بسبَبِ شُرْبِ الخَمْرِ " ؛ وعلى هذا الذي ذكره : تكونُ المسألةُ من باب التنازعِ، وهو الوجهُ الرابع، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً، وهو أنَّ من حقِّ المتنازعين ؛ أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعملِ، وهذا العاملُ الأولُ، وهو العداوة، لو سُلِّط على المتنازعِ فيه، لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو المعطوف، وقد يقال : إنه في بعضِ صُورِ التنازع يُلتَزَمُ إعمالُ الثاني، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ، إذا تنازعا معمولاً فيه، وقد تقدَّمَ مُشْبَعاً في البقرة.

فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية


اعلم أنَّه تعالى لمّا أمَرَ باجْتِنَابِ هذه الأشياءِ، ذكر فِيهَا نوعَيْنِ من المَفْسَدَة :
الأول : ما يتعلَّقُ بالدُّنْيَا وهُوَ قولُهُ تعالى ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾.
والثاني : المَفْسَدَةُ المُتعلِّقَةُ بالدِّين، وهو قولُهُ تعالى :﴿ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ ﴾.
فأمَّا شَرْحُ هذه العداوة [ والبغضاء أولاً في الخَمْر ثمَّ في المَيْسِر ]١٥ : وأمَّا الخَمْرُ، فاعْلَم : أنَّ الظَّاهر فيمَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ، أنَّه يَشْرَبُهَا مع جَمَاعةٍ، ويكونُ غَرَضُهُ الاسْتِئْنَاس برُفَقَائِهِ، ويفرحُ بِمُحَادثَتِهمْ، ويكون بذلك الاجْتِمَاع تأكيدُ المَحَبَّةِ والألْفَةِ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ في الأغْلَبِ ينقلبُ إلى الضِّدِّ ؛ لأنَّ الخَمْرَ يُزيلُ العَقْلَ، وإذا أزَالَ العَقْلَ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ من غير مُدَافَعَةِ العقل، وعند اسْتِلائِهما تَحْصُلُ المُنازَعَةُ بين أولَئِكَ الأحْبَاب، وتِلْكَ المُنَازَعَةُ رُبَّما أدَّتْ إلى الضَّرْبِ والقَتْلِ، والمُشافَهَةِ بالفُحْشِ، وذلك يُورِثُ أشَدَّ العداوةِ والبَغْضَاء، كما فعل الأنْصَارِيُّ الذي شَجَّ رأسَ سَعْد بن أبي وقّاص بلحي الجَمَل.
ورُوِيَ أن قَبيلَتَيْنِ من الأنْصَارِ شَرِبُوا الخَمْرَ، وانْتَشَوْا فَعَبَث بعضُهم على بَعْض، فلما [ صَحَوْا رأى بعضُهُم في وجْهِ ] بعْضٍ آثَار ما فَعلُوا، وكانوا إخْوَةً ليْسَ في قُلُوبِهِمْ ضَغَائِن، فجعل بَعْضُهُم يقُولُ : لو كان أخي بي رَحيماً ما فعل بِي هذا، فحدثَتْ بَيْنَهُم الضَّغَائِنُ، فالشَّيطان يُسَوِّلُ أنَّ الاجتماعَ على الشُّرْبِ يوجِبُ تَأكِيدَ الألْفَةِ والمَحَبَّةِ بين الأخوة، فينْقَلِبُ الأمْرُ، وتحصُلُ العداوَةُ والبَغْضَاءُ.
وأمَّا المَيْسِرُ، ففيه بإزَاءِ التَّوْسِعَةِ على المُحْتَاجِينَ من الإجْحَافِ بأرْبَابِ الأمْوالِ ؛ لأنَّ من صارَ مَغْلُوباً في القُمَارِ مَرَّةً، دَعَاهُ ذلك إلى اللِّجَاحِ فيه، يَرْجُو بذلِكَ إلى أنْ يَصِيرَ غَالِباً، وقد يتَّفِقُ أنَّه لا يَحْصُلُ لَهُ ذلك، إلى أن لا يَبْقَى لَهُ شيءٌ من المَالِ، وإلى أن يُقَامِرَ على لحْيَتِهِ وأهْلِهِ وَوَلَدِهِ.
قال قتادةُ : كان الرَّجُلُ يُقامِرُ على الأهْلِ والمالِ، ثم يَبْقَى مَسْلُوبَ الأهْل والمالِ، ولا شكَّ أنَّه يَبْقَى بعد ذلك فَقِيراً مِسْكِيناً، ويصيرُ من أعْدَى الأعْدَاءِ لأولئكَ الذين غلبُوه، فَظَهَر أنَّ الخَمْرَ والمَيْسِر سبَبَانِ عَظِيمَان في إثَارَةِ العَدَاءِ والبغْضَاءِ بين النَّاسِ، والعداوةُ والبَغضَاءُ تُفْضِي إلى أحْوالٍ مَذْمُومَةٍ من الهرَج والمَرجِ والفِتَنِ، وذلك مُضَادٌّ لمصالِحِ العِبَادِ.
فلو قِيلَ : لما جمع الخَمْرَ والمَيْسر مع الأنْصَاب والأزلامِ، ثم أفرَدَهُمَا في آخر الآية.
قلنا : لأنَّ لهذه الآيَةِ خِطَابٌ مع المُؤمنين، لقوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ﴾ والمقصُودُ نَهْيُهُم عن الخَمْرِ والميْسِر، وإنَّما ضمَّ الأنْصَابَ والأزْلاَم إلى الخَمْرِ والميْسِرِ، إظهاراً١٦ أنَّ هذه الأرْبَعَة مُتَقَارِبةٌ في القُبْح والمفْسَدَة، فلما كان المَقْصُودُ من الآيَةِ النَّهْي عن الخَمْرِ والميْسِر، لا جَرَم أفَردهُمَا في آخِرِ الآيَةِ بالذِّكْرِ.
قال شهاب الدين١٧ : ويظهرُ شيءٌ آخرُ، وهو أنه لم يُفْردِ الخَمْرَ والميْسِرَ بالذِّكْر [ آخراً ]، بل ذَكَرَ مَعهُمَا شيئاً يَلْزَمُ منه عدمُ الأنصاب والأزلام [ فكأنه ] تكملة ذكر الجميع، بيانه أنه قال :" في الخَمْرِ والميسِرِ ويَصُدُّكُمْ عنْ ذِكْرِ الله " بعبادة الأنْصَاب أو بالذبحِ عليها للأصنام على ما علم تفسيره أوَّلَ السُّورة، و " عن الصلاةِ " باشتغالِكم بالأزْلام، وقد تقدَّم فَذِكْرُ الله والصَّلاة مُنَبِّهَانِ على الأنْصَاب والأزلام.
وأمَّا النَّوع الثَّانِي من المفاسِد الموجُودة في الخَمْرِ والميْسِر : المفَاسِدُ المتعلِّقةُ بالدِّينِ، وهو قوله تعالى :﴿ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ ﴾، أمَّا كَوْنُ شُرْبِ الخَمْرِ يَمْنَعُ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة، فظاهرٌ ؛ لأنَّ شُرْبَ الخَمْرِ يُورِثُ الطَّربَ واللَّذَّة الجُسْمَانيَّة، والنَّفسُ إذا اسْتَغْرَقَت في اللَّذَّات الجُسْمانِيَّة، غَفلَتْ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة، وأمَّا كونُ الميْسِر مانِعاً عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، إنْ كانَ غَالِباً صارَ استغراقُهُ في لذَّةِ الغلبَةِ من أنْ يَخْطُر بِبَالِه شيءٌ سِوَاه، وإن صَارَ مَغْلُوباً صار شِدَّة اهتمامِه بأنْ يحْتَال بحِيلَةٍ، حتَّى يَصِيرَ غَالِباً مَانِعاً من أنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيءٌ سواه، ولا شكَّ أنْ هذه الحالةَ مما يَصُدُّ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وعن الصَّلاة، ولمَّا بيَّن تعالى اشْتِمَال شُرْبِ الخَمْرِ، واللَّعِب بالميْسِر على هذه المفاسِدِ العَظِيمَةِ في الدِّينِ، قال تعالى ﴿ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾.

فصل


قال القُرْطُبِي١٨ : فَهِمَ الجُمْهُورِ من تَحْرِيم الخَمْرِ، وإطلاقِ الرِّجْس عليها، والأمْر باجْتِنَابِهَا، الحكْم بِنَجَاسَتِهَا، وخَالَفَهُمْ في ذلك رَبيعَةُ، واللَّيْثُ بنُ سَعْد، والمُزَنِيُّ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِين من البَغْدَادِيِّين والقَرَويِّين، وقالُوا : إنَّها طَاهِرَةٌ وأنَّ المُحرَّمَ إنما هو شُربُهَا ؛ لأنَّ المَيْسِر والأنْصَاب والأزْلامَ ليسوا بِنَجسٍ، فكذلِكَ الخَمْرُ، ولجواز سَكْبِهَا [ في ]١٩ طُرُقِ المدينَةِ، مع نَهْيِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن التَّخَلِّي في الطريق.
قوله تعالى :﴿ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر، أي : انْتَهُوا.
رُوِيَ أنَّه لمَّا نزلَ قوْلُ اللَّهِ تعالى :﴿ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] قال عُمَر بنُ الخطَّابِ - رضي الله تعالى عنه - :" اللَّهُمَ بيِّن لَنَا في الخَمْرِ بَيَاناً شافياً " فلما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ قال عُمَرُ - رضي الله عنه - :" انْتَهَيْنَا يا رَبِّ، انْتَهَيْنَا يَا ربِّ " ويدلُّ على أن المراد منه الأمر أيضاً : عطفُ الأمر الصَّريحِ عليه في قوله " وأطيعُوا "، كأنه قيل : انتهوا عن شُرْبِ الخَمْرِ، وعن كذا، وأطِيعُوا، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرة باسْم مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعلٍ دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره - أبلغُ من صريح الأمر.
قال ابنُ الخطيب٢٠ : وإنما حَسُنَ هذا المجازُ ؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ هذه الأفعالَ، وأظْهَرَ قُبْحَهَا للمُخَاطَبِ، فلما استفهم بَعْدَ ذَلِكَ عن تَرْكِهَا، لم يَقْدِر المُخَاطبُ إلاَّ على الإقْرَارِ بالتَّرْكِ، وكأنَّه قِيلَ لَهُ : أتَفْعَلُه وقَدْ ظَهَر من قُبحهِ ما ظَهَر ؛ فصار ﴿ فَهَلْ أَنْتُم مُنتَهُونَ ﴾ ؛ جَارِياً مُجْرَى تنصِيصِ اللَّهِ تعالى على وُجُوبِ الانْتِهَاءِ، مَقْرُوناً بإقْرَارِ المُكَلَّفِ بوجوبِ الانْتِهَاءِ.
واعلم : أنَّ هذه الآيةُ دالَّةٌ على وُجوبِ تحريم شُرْبِ الخَمْرِ من وُجُوهٍ :
أحدها : تَصْدِيرُ الجُمْلَة ب " إنَّما " وهي لِلْحَصْرِ، فَكَأنَّهُ قال : لا رِجْسَ ولا شَيءَ من أعْمَالِ الشَّيْطَانِ إلاَّ هذِهِ الأربَعَةُ.
وثانيها : أنَّهُ تعالى قَرَنَ الخَمْرَ والميْسِر بِعبَادةِ الأوْثَان، ومنه قولُهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - :" شَارِبُ خَمْرٍ كَعَابدٍ وثَنٍ ".
وثالثها : قال " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون "، جعلَ الاجْتِنَاب من الفلاحِ، وإذا كان الاجْتِناب فَلاَحاً، كان الارْتِكَابُ خَيْبَةً.
ورابعها : ما تقدَّم من اشْتِمَال الاسْتِفْهَامِ على المَنْفِي.
وخامسها: قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا﴾ وظاهرُ الأمْرِ بالطَّاعَةِ، فيما تقدَّم ذكرُه من أمرهم بالاجْتِنَابِ عَنِ الخمْرِ والميْسِر.
وقوله «واحْذَرُوا» أي: احْذَرُوا عن مُخَالَفتهِمَا في هذا التَّكْلِيفِ.
509
وسادسها: قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ﴾، وهذا تَهْدِيد عَظِيمٌ ووعيدٌ شَدِيدٌ في حقِّ من خَالَفَ في هذا التَّكْلِيفِ، وأعْرَضَ عن حُكْمِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ مَعْنَاه إنْ تَوَلَّيْتُم فالحُجَّةُ قد قَامَتْ عَلَيْكُمْ، والرَّسُول قد خَرَجَ عن عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ والإعْذَارِ، فأمَّا ما وراء ذلِكَ من عِقَابِ من خَالَفَ هذا التَّكْلِيف وأعرض، فذَلِكَ إلى اللَّهِ تعالى، وهذا تَهْديدٌ عظيمٌ، وهذا نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّ كلَّ مُسكرٍ حرَامٌ؛ لاشْتِمَالِهِ على ما تَشْتَمِلُ عليه الخَمْرُ.
قال - عليه الصَّلاة والسلام -: «كلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وإن حتماً على اللَّهِ أنْ لا يَشْرَبَهُ عبْدٌ في الدُّنيا إلاَّ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَة من طِينَةِ الخَبَالِ، هَلْ تَدْرُونَ مَا طِيْنَةُ الخَبَالِ؟» قلنا: لا. قال: «عَرَقُ أهْلِ النَّارِ»، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا في الآخِرَةِ».
وعن ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ قال: أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو يقُولُ: «لَعَنَ اللَّهُ الخَمْرَ وشَاربَهَا وساقِيهَا وبَائِعَهَا ومُبْتَاعَهَا وعاصِرهَا ومُعْتَصِرهَا وحَامِلَهَا والمحمولةَ إلَيْه وآكِلَ ثَمَنِهَا».
510
سبَبُ نزولِ هذه الآيَةِ: أنَّ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أجمعين، لمَّا نزلَ تَحْريمُ الخَمْرِ، قالوا: يا رسُول اللَّهِ كَيْفَ بإخوَانِنَا الَّذِين مَاتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، ويأكُلُون من مالِ الميْسِر؛ فنزلت هذه الآيةُ، والمعنى لا إثْمَ عليْهم؛ لأنَّهُم شَرِبُوها حال ما كَانَتْ مُحَلَّلَةً، وهذه الآيةُ مُشَابِهَةٌ لقوله تعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ من بَيْتِ المقْدِسِ لِلْكَعْبَةِ: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] أي: أنَّكُم حين اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِس، اسْتَقْبَلْتُمُوه بأمْرِي، فلا أضَيِّعُ ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَمُ من الجملة السابقة، وهي: «لَيْسَ» وما في حَيِّزها، والتقدير: لا يَأثَمُونَ، ولا يُؤاخَذُونَ وقْتَ اتِّقائهم، ويجوزُ أن يكون ظَرْفاً محْضاً، وأن يكونَ فيه معنى الشرط، وجوابه محذوفٌ، أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ.

فصل


الطعَامُ في الأغْلَبِ من اللُّغَةِ خلاف الشَّرَاب، ولذلك يُقَالُ: الطعم خلافُ الشُّرْب، إلاَّ أن اسم الطعام يقعُ على المَشْرُوبات، كقوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ [البقرة: ٢٤٩]، وعلى هذا يجُوزُ أن يكون قوله: «فِيمَا طَعِمُوا» أي: شَرِبُوا الخَمْرَ،
510
ويجوزُ أن يَكُونَ معنى الطَّعْمِ راجعاً إلى التَّلَذُّذِ بما يُؤكَلُ ويُشْرَبُ.
وقد تقُولُ العربُ: تطعّم حتى تطعم أي: ذُق حتى تَشْتَهِيَ، فإذا كانَ مَعْنَى الكَلِمَة راجِعاً إلى الذَّوقِ، صَلُحَ لِلْمأكُولِ والمشْرُوبِ معاً.
فإن قيل: إنهُ تعالى شَرَطَ نَفْيَ الجناح بِحُصُولِ التَّقْوَى والإيمان مرَّتَيْن، وفي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ: بحُصُولِ التَّقْوَى والإحْسَان.
وللنَّاس في هذا قولان:
أحدهما: أنَّ هذا من باب التوكيد، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر: ٣، ٤]، حتى إنَّ ابن مالكٍ جعل هذا من التوكيدِ اللفظيِّ المبوبِ له في النحو.
والثاني: أنه للتأسيس، إلا أنَّه جعل التغايُرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلّقاتِ.
واختلفُوا في تَفْسِير هذه المراتبِ الثَّلاثةِ على وجوه:
أحدها: قال الأكْثَرُونَ: الأوَّل: عَمَلُ الاتِّقَاء.
والثاني: دوامُ الاتِّقاء والثبَات عليه.
والثالث: اتقاء ظُلم العباد مع ضم الإحسان إليه.
وثانيها: أن الأول اتِّقَاء جميع المعاصِي قَبْلَ نُزُول هذه الآيَة.
والثاني: اتِّقَاء الخَمْرِ والميْسِر وما في هذه الآية.
والثالث: اتِّقَاء ما يَجِبُ تَحْرِيمُهُ بعد هذه الآية [وهذا قول الأصَمِّ].
وثالثها: اتَّقُوا الكُفْرَ ثمَّ الكبائِر، ثُمَّ الصَّغَائر.
ورابعها: قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: التَّقْوى الأولى عبارةٌ عن الاتقاء من القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ؛ وذلك لأنَّ اليَهُود يقولُون: النَّسخ يدُلُّ على البداء، فأوْجَبَ على المُؤمنين عند سمَاع تَحْرِيم الخَمْر، بَعْدَ أنْ كانَتْ مُبَاحَة أنْ يَتَّقوا عن هذه الشُّبْهَةِ الفَاسِدَةِ.
والتقوى الثانية: الإتْيَان بالعَمَلِ المُطَابِق لهذه الآيَة وهي الاحتِرَاز عن شُرْبِ الخَمْرِ. والتقوى الثالثة: عِبَارة عن المُداومةِ على التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأولى والثانِية، ثم يَضُمُّ إلى هذه التَّقْوى الإحسَان إلى الخَلْقِ.
وخامسها: أنَّ المَقْصُود من هذا التَّكْرير التَّأكيدُ، والمُبالغَةُ في الحَثِّ على الإيمانِ،
511
فإن قيل: لِمَ شرطَ دَفْعِ الجُنَاحِ عن تناوُلِ المطْعُومات بِشَرْط الإيمان والتَّقْوى؛ مع أنَّ المَعْلُوم أن من لم يُؤمِن ومن لَمْ يتَّقِ، ثُمَّ تناول شَيْئاً من المُبَاحَاتِ فإنَّه لا جُناح عليْه في ذلك التَّنَاوُلُ، بل إنما عليه جُنَاحٌ في تَرْكِ التَّقْوى والإيمَان، إلاَّ أن ذلك لا تعلُّق له بِتَنَاوُل ذلِكَ المُبَاح، فذكرُ هذا الشَّرْط في هذا المَعْرِض غَيْرُ جَائِزٍ.
فالجوابُ: لَيْسَ هذا اشْتِرَاطٌ، بل لِبَيَانِ أنّ أولَئِكَ الأقْوَام الذين نَزَلَتْ فيهِمْ هذه الآيَةُ، كَانُوا على هذه الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِم، وحَمْداً لأحْوَالهم في الإيمَان والتَّقْوَى والإحْسَان. ومثَالُهُ أنْ يُقال لك: «هَلْ عَلَى زَيْدٍ فيما فَعَل جُنَاحٌ»، وقد عَلِمْتَ أنَّ ذلك الأمْرَ مُبَاحٌ؛ فتقول: ليس على أحَدٍ جُنَاح في المُبَاحِ إذا اتَّقَى المَحَارِمَ وكان مُؤمِناً مُحْسِناً، تريدُ أنَّ زَيْداً إنْ بَقِي مُؤمِناً مُحْسِناً، فإنَّه غير مُؤاخَذٍ بما فَعَل.

فصل


قال ابن الخطيب: زَعَم بَعْضُ الجُهَّال: أنَّ [اللَّه] تعالى لمَّا بيَّن في الخَمْرِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عِنْدَما تكُون مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَة والبَغْضَاء، وصَادَّة عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة، بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّه لا جُنَاح على من طَعمَها، إذا لم يَحْصُل مَعَهُ شَيْءٌ من تلك المفاسِدِ، بل حَصَّل أنْواع المَصَالِح من التَّقْوَى والطَّاعَة والإحْسَانِ إلى الخَلْقِ، قالوا: ولا يُمْكِنُ حَمْلُه على أحْوالٍ من شُرْب الخَمْرِ قبل نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيم؛ لأنه لو كان المُرَادُ ذلك لقالَ: ما كان جُنَاحٌ على الَّذِين طَعِمُوا، كما ذكر مِثْل ذلك في آيَة تحْويل القِبْلَةِ، فقال: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] ولكنه لم يَقُلْ ذلك، بل قال: ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾، إلى قوله تعالى: ﴿إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ﴾، وهذا للمُسْتَقْبَلِ لا لِلْمَاضِي، وهذا القولُ مردودٌ بإجْماعِ الأمَّةِن وقولهم: إنَّ كَلِمَة «إذَا» للمُسْتَقبلِ، فجوابه: ما رَوَى أبُو بَكْر الأصَمّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنَّه لمَّا نزل تَحْرِيم الخَمْرِ، قال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يا رسُول الله كيف بإخْوانِنَا الَّذِين ماتُوا، وقد شَرِبُوا الخَمْرَ، وفَعَلُوا القُمَار، وكيف بالغائبين عَنَّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرونَ أنَّ اللَّهَ حرَّم الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَهَا؛ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة، لكن في حَقِّ الغَائِبين الذين لَمْ يَبْلُغْهُم هذا النَّصُّ.
قوله تعالى: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ أي: أنَّه تعالى ما جَعَلَ الإحْسَان شَرْطاً في نَفْيِ الجُنَاح فقط، بل وَفِي أنْ يحبَّهُ اللَّهُ، وهذا أشْرَفُ الدرَجَات.
512
اللام جواب قسم محذوفٍ، أي: واللَّهِ، ليَبْلُونَّكُمْ، وقد تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونَيْن في مثل هذا الجواب واللام في «لَيْبلونَّكُمْ» مفتوحة لالتقاء الساكنين. قوله تعالى: «بِشَيءٍ» متعلِّقٌ ب «لَيَبلُونَّكُمْ» أي: لَيَخْتبرنَّكُمْ بشيءٍ؛ وقوله تعالى: «مِنَ الصَّيْدِ» : في محلِّ جرٍّ صفةً ل «شَيْء» فيتعلَّقُ بمحذوف، و «مِن» الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ؛ لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال، ولا صيدَ الحِلِّ، ولا صيد البْحرِ، وقيل: إنها لبيان الجِنْسِ، وقال مكيٌّ: «وقيل» مِنْ «لبيان الجنس، فلما قال» بِشَيء «لم يُعْلَمْ من أي جنْسٍ هو: فبيَّن، فقال:» مِنَ الصَّيْدِ «؛ كما تقولُ: لأعْطِيَنَّكَ شَيْئاً مِنَ الذَّهَب»، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، ثم قال: «وقيل: إنَّها للتبعيض»، وكونُها للبيان فيه نظرٌ؛ لأنَّ الصَّحيحَ أنها لا تكونُ للبيان، والقائلُ بأنها للبيان يُشْترطُ أنْ يكونَ المُبَيَّنُ بها معرَّفاً بألِ الجنسيَّة؛ كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠]، وبه قال ابن عطيَّة أيضاً، والزَّجَّاج هو الأصل في ذلك، فإنه قال: وهذا كما تقولُ: «لأمْتَحِنَنَّكَ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ»، وكما قال تعالى: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠].
والمرادُ بالصَّيْد: المَصِيدُ، لقوله تعالى: ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ والصَّيْدُ إذا كان بِمَعْنَى المصدرِ يكون حدثاً، وإنما يُوصفُ بِنَيْلِ الأيْدِي والرِّمَاحِ ما يكونُ عَيْناً.
قوله تعالى: «تَنَالُهُ» في محلِّ جر؛ لأنَّه صفةٌ ثانيةٌ ل «شَيْء»، وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً: إمَّا من الصَّيْد، وإمَّا من «شَيْء»، وإن كان نكرة؛ لأنه قد وُصِفَ فتخصَّصَ، واستبعدَ أبو حيان جَعْلَه حالاً من الصَّيْد، ووجهُ الاستبعادِ: أنه ليس المقصودَ بالحديثِ عنه، وقرأ الجُمْهُور: «تَنَالُهُ» بالمنقوطةِ فوقُ؛ لتأنيثِ الجمع، وابنُ وثَّاب والنخعي بالمنقوطةِ من تحْتُ؛ لأنَّ تأنيثه غيرُ حقيقيٍّ.
فإن قيل: نزلتْ هذه الآيةُ عام «الحُدَيْبِيَةِ»، وكانوا مُحْرِمِينَ ابتلاهُمُ اللَّه بالصَّيْد، وكانت الوُحُوش تَغْشَى رحالَهُم من كَثْرَتِها، فهمُّوا بأخْذِهَا، فنَزَلَتْ هذه الآيَةُ أي: لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ.
وفائِدَةُ البَلْوَى: إظْهَارُ المُطِيعِ من العَاصِي، وإنَّما بَعَّضَ الصَّيْد؛ لأنه ابتلاهُم بِصَيْدِ البَرِّ خاصَّةً، وقيل: صَيْد الإحْرامِ دونَ صَيْدِ الإحلالِ.
وقوله تعالى: «تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ» يعني: الفَرْخَ والبَيْضَ، وما لا يَقْدِرُ أن يضِرَّ من صِغَارِ
513
الصَّيْدِ، و «رِمَاحُكُمْ» يعني: الكِبَار من الصَّيْدِ «لِيَعْلَمَ اللَّهُ» قاله الواحدي وغيره، وقال مُقَاتِل بن حيان: كانت الوُحُوشُ والطَّيْر تَغْشَاهُم في رِحَالِهِم، حتى يَقْدِرُون على أخْذِهَا بالأيدي، وصَيْدِهَا بالرِّمَاحِ.
وقال بعضهم: هذا غَيْر جَائزٍ؛ لأن الصَّيْد المُتوحِّش هو المُمْتَنِعُ دون ما لاَ يَمْتَنِع.
«ليَعْلَمَ اللَّهُ» قيل: اللامُ متعلِّقةٌ ب «لَيَبْلُونَّكُمْ»، والمعنى: ليتميَّزَ أو ليظهر لكم، وقد مضى تحقيقُه في البقرة، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي، وقرأ بعضهم: «لِيُعْلِمَ» بضم الياء وكسر اللام من «أعْلَمَ»، والمفعول الأوَّل على هذه القراءة محذوفٌ، أي: لِيُعْلِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ، والمفعول الثاني هو قوله: «مَنْ يَخَافُهُ» فَ «أعْلَمَ» منقولةٌ بهمزة التعدية لواحدٍ بمعنى «عَرَفَ» وهذا مجازٌ؛ لأنَّه - تعالى - عَالِمٌ لَمْ يَزَلْ ولا يَزَالُ، واخْتَلَفُوا في معناه، فَقِيلَ، يعامِلُكُم مُعَامَلَةَ من يَطْلُبُ أنْ يَعْلَمَ، وقيل: لِيظهر المَعْلُوم، وهو خَوْفُ الخَائِفِ، وقيل: هذا بِحَذْفِ المُضَافِ والتَّقْدِيرٌ: لِيَعْلَمَ أوْلِيَاءُ اللَّهِ من يَخَافُهُ بالغَيْبِ، وقِيلَ: ليرى اللَّه لأنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ.
وقوله تعالى: «بالغَيْبِ» أي: يَخَافُ اللَّه ولمْ يَرَه، كقوله تعالى: ﴿الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب﴾ [الأنبياء: ٤٩] أي: يَخَافُون، فلا يَصْطَادُون في حال الإحرامِ، وكقوله تعالى: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ [البقرة: ٣]، وقيل: معنى يَخَافُهُ بالغَيْبِ أي: بإخلاصٍ وتحْقِيقٍ، ولا يختلف الحالُ بسِبَبِ حضُورِ واحدٍ أو غَيْبَتِهِ، كما في حقِّ المُنَافِقِين الذين ﴿إِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ﴾ [البقرة: ١٤]. قوله تعالى: «بالغَيْبِ» في محلِّ نصب على الحال من فاعل «يَخَافُهُ»، أي: يخافُه مُلْتَبِساً بالغيبِ، وقد تقدَّم معناه في البقرة [الآية ٣].
والمعنى: من يخافُهُ حال كونهِ غَائباً عن رُؤيتِهِ، كقوله تعالى: ﴿مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب﴾ [ق: ٣٣].
وجوَّز أبو البقاء ثلاثة أوجه:
أحدها: ما ذكرناه.
والثاني: أنه حالٌ مِنْ «مَنْ» في «مَنْ يَخَافُهُ».
والثالث: أنَّ الباءَ بمعنى «في»، والغيب مصدرٌ واقعٌ موقع غائبٍ، أي: يخافه في المكانِ الغائب عن الخَلْقِ، فعلى هذا يكونُ متعلِّقاً بنفْسِ الفعل قبله، وعلى الأوَّلَيْن يكونُ متعلِّقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف.
514
قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: اصْطَادَ بعد تَحْرِيمِهِ، فله عذابٌ أليمٌ، والمراد: عذابُ الآخرة، والتَّعْزيرُ في الدُّنْيَا.
قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: هذا العذابُ هَوْ أنْ يُضَرب ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضرباً وجيعاً، ويُنْتَزَع ثِيَابُه.
قال القَفَّالُ: وهذا غير جائزٍ؛ لأن اسم العذابِ قد يقعُ على الضَّرْبِ، كما سُمِّيَ جَلْدُ الزَّانِيين عذاباً ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا﴾ [النور: ٢]، وقال تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب﴾ [النساء: ٢٥] وقال تعالى حَاكياً عن سُلَيْمان - عليه السلام - في الهُدْهُدِ ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً﴾ [النمل: ٢١].
515
في المرادِ بالصَّيْدِ قولان:
الأوَّلُ: الذي توحَّشَ، سواءً كان مَأكُولاً أو لم يَكُنْ، فعلى هذا المُحْرِم إذا قتل سَبُعاً لا يُؤكَلُ لَحْمُهُ ضَمِن، ولا يجاوزُ به قِيمَة شَاةٍ، وهو قولُ أبِي حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وقال زُفَر: [يجب] قيمَتُهُ بَالِغاً ما بَلَغَ.
الثاني: أنَّ الصَّيْدَ هو ما يُؤكَل لَحْمُهُ، فعلى هذا لا يجبُ الضَّمانُ ألْبَتَّةُ في قَتْلِ السَّبُع، وهو قولُ الشَّافعيِّ [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -] وغيره، وحكم أبو حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه لا يَجِبُ الجَزَاءُ في قَتْلِ الفواسِقِ الخَمْس، وفي قَتْل الذِّئْبِ، واسْتَدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ [المائدة: ٩٦]، فأحلَّ الصَّيْدَ خَارِجَ الإحْرَام، فَثَبَت أنَّ الصيد هو ما أحِلَّ أكْلُهُ.
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «خَمْسٌ فواسقٌ يُقْتَلن في الحلِّ والحَرَم:» الغُرَابُ، والحدَأةُ، والحَيَّةُ، والعقرَبُ، والكَلْبُ العَقُورُ «وفي روايةٍ» والسَّبُع العَادِي «،
515
فوصَفُوهَا بِكَوْنِهِا فواسق، فدل على أنّ كونهَا فواسِق عِلَّة لِحِلِّ قَتْلِها.
ومعنى كونِها فواسِق كونُها مُؤذِيَة، والأذَى في السِّبَاع أقْوى مِنْهَا، فوجَبَ جَوَازُ قَتْلِهَا.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ : في محلِّ نصب على الحال من فاعل» تَقْتُلُوا «، و» حُرُمٌ «جمع حرام، وحرامٌ يكون للمُحْرِمِ، وإنْ كان في الحلِّ، ولِمَنْ في الحرمِ، وإنْ كان حلالاً، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد وهل يدخل فيه المحرمُ بالعُمْرة؟ فيه خلافٌ، وهذه الآيةُ نَزَلَتْ في رَجُلٍ يُقَالَ لَهُ: أبو اليَسَرِ شدَّ على حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وهو مُحْرِمٌ فَقَتلَهُ، وهذا يَدُلُّ على المنْعِ من القَتْلِ ابتداء، والمَنْعُ مِنْه تَسَبُّباً، فَلَيْسَ لهُ أنْ يتعَرَّضَ للصَّيْد ما دامَ مُحْرِماً، لا بالسِّلاح ولا بالجَوارِحِ من الكلابِ والطَّيْرِ، سواء كان الصَّيْدُ صَيْد الحِلِّ أو الحَرَمِ، وأمَّا الحلالُ فلَهُ أنْ يَتَصيَّدَ في الحلِّ وفي الحَرَم.
قوله تعالى:»
مِنْكُمْ «في محل نصبٍ على الحال من فاعل» قَتَلَهُ «، أي: كائناً منْكُمْ، وقيل:» مِنْ «للبيان، وليس بشيء؛ لأنَّ كُلَّ من قتل صَيْداً حكمُه كذلك، فإن قُلْتَ: هذا واردٌ أيضاً على جعله حالاً، فالجواب: لم يُقْصَدْ لذلك مفهومُ؛ حتَّى إنه لو قتله غيرُكُمْ، لم يكن عليه جزاءٌ؛ لأنَّه قصد بالخطابِ معنًى آخرَ، وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد.
قوله:»
مُتَعَمِّداً «حالٌ أيضاً من فاعل» قَتَلَهُ «، فعلى رأي مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال، يُجيز ذلك هنا، ومن منع يقول: إنَّ» مِنْكُمْ «للبيانِ؛ حتَّى لا تتعدَّد الحالُ، و» مَنْ «يُجَوِّزُ أنْ تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وموصولةً، والفاءُ لشبهها بالشرطيةِ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع.
قوله تعالى: «فَجَزَاءٌ»
الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ؛ لشبه المبتدأ بالشرط؛ فعلى الأوَّل: الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ؛ وعلى الثاني: في محلِّ رفعٍ، وما بعد «مَنْ» على الأولِ في محلِّ جزمٍ؛ لكونه شرطاً؛ وعلى الثاني: لا محلَّ له لكونه صلةً، وقرأ الكوفيُّون: «فَجَزاءٌ مثلُ» بتنوين «جَزَاء» [ورفعه] ورفع «مِثْلُ»، وباقي السبعة برفعه مضافاً إلى «مِثْل»، ومحمَّد بن مُقاتِل بتنوين «جَزَاءً»، ونصبه، ونصب «مِثْلَ»، والسُّلَمِي برفع «جَزَاءٌ» منوناً، ونصب «مِثل»، وقرأ عبد الله «فَجَزَاؤهُ» برفع «جَزَاء» مضافاً لضمير «مِثْل» رفعاً.
516
فأمَّا قراءةُ الكوفيِّين فواضحةٌ لأنَّ «مِثْل» صفةٌ ل «جَزَاء»، أي: فعليْه «جَزَاءٌ» موصوفٌ بكونه «مِثْلَ ما قَتَلَهُ» أي مماثله.
قالوا: ولا يَنْبَغِي إضافَةُ جزاءٍ إلى المثْلِ، ألا ترى أنَّهُ ليْسَ عليْه جَزَاءُ مثل ما قتلَ في الحقيقَةِ، إنَّمَا عليه جَزَاءُ المقْتُولِ لا جَزَاء مثل المقَتُول الذي لم يَقْتُلْه.
وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أنْ يرتفعَ «مِثْل» على البدلِ، وذكر الزجَّاج وجْهاً غريباً، وهو أن يرتفع «مِثْلُ» على أنه خبرٌ ل «جَزَاءٌ»، ويكونُ «جزَاءٌ» مبتدأ، قال: «والتقديرُ: فجزاءُ ذلك الفعلِ مِثْلُ ما قتل» ؛ قال شهاب الدين: ويؤيِّد هذا الوجه قراءةُ عبد الله: «فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ»، إلاَّ أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوف ضميراً يعودُ على المقتول، لا أنْ يُقَدِّره: «فَجَزَاءُ ذلك الفِعْلِ» و «مِثْلُ» بمعنى مماثل قال مكيٌّ: قاله الزمخشريُّ، وهو معنى اللَّفْظِ، فإنَّها في قُوَّةِ اسم فاعل، إلاَّ أنَّ مَكِّيًّا تَوَهَّم أن «مِثْلاً» قد يكون بمعنى غير مماثل؛ فإنه قال: «ومثل» في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُمَاثِل، والتقديرُ: فَجَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لما قَتَل، يعني في القيمةِ، أو في الخِلْقَةِ؛ على اختلافِ العلماء، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً بعيْنِهِ لا جَزَاءٌ مِثْلُه؛ لأنه إذا ودى جزاءً مثل المقْتُولِ، صار إنما ودى جزاء ما لم يُقْتَلْ؛ لأنَّ مثل المقتولِ لم يَقْتُلْهُ، فصَحَّ أن المعنى: فعليه جزاءٌ مماثِلٌ أبداً، فكيف يقول «ولَوْ قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفْظه؟» وأيضاً فقوله: «لصار المعنى إلى آخره» هذا الإشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذه القراءة أصْلاً، وإنما ذَكَرَهُ الناسُ في قراءةِ الإضَافَة؛ كما سيأتي، وكأنه نَقَلَ هذا الإشكالَ من قراءةِ الإضافةِ إلى قراءةِ التنوين.
وأمَّا قراءة باقي السَّبْعة، فاستبعَدَهَا جماعةٌ، قال الواحِدِيُّ: «ولا ينبغي إضافةُ الجزاءِ إلى المثلِ؛ لأنَّ عليه جزاءَ المقتولِ لا جزاءَ مِثلِه، فإنه لا جزاءَ عليه لَمَّا لم يقتلْه».
وقال مكيٌّ بعد ما تقدَّم عنه: «ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإضافة عند جماعةٍ؛ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيْدِ المقْتُولِ» ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ؛ فإنَّ أكثر القراء عليها، وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجْوبةٍ سديدةٍ، لمَّا خفيتْ على أولئكَ طَعنُوا في المُتَوَاتِرِ، منْها: أنَّ «جَزَاء» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله؛ تخفيفاً، والأصلُ: فعليه جزاءٌ مِثْلُ ما قَتلَ، أي: أن يَجْزِيَ مثل ما قتلَ، ثم أُضيفَ، كما تقول: «عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبٍ زَيْداً» ثم «مِنْ
517
ضَرْبٍ زَيْدٍ» ذكر ذلك الزمخشريُّ وغيره، وبَسْطُ ذلك؛ أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء، والأصلُ: فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيْدِ مثله من النَّعَمِ، ثم حُذِف المفعولُ الأوَّلُ؛ لدلالة الكلامِ عليه، وأُضيفَ المَصْدَرُ إلى ثانيهما؛ كقولك: «زَيْدٌ فَقِيرٌ ويُعْجِبُنِي إعْطَاؤُكَ الدِّرْهم»، أي: إعطاؤكَ إيَّاه، ومنها: أنَّ «مِثْل» مُقْحَم؛ كقولهم: «مِثْلُكَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ»، [أي: أنْتَ لا تفعَلُ ذلك] وأنَا أكْرِمُ مثلك أيْ: أنا أكْرِمُكَ، ونحو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧] أي: بِمَا آمَنْتُمْ به، وكقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، والتقديرُ ليس كهو شيءٌ ف «مِثْل» زائدةٌ. وقوله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات﴾ [الأنعام: ١٢٢]، ومِنْهَا أن يكونَ المعنى «فَجَزَاءٌ من مِثْلِ ما قَتَلَ من النَّعَم» كقولك: «خَاتِمُ فضَّة» أي: «خاتمٌ من فضةٍ»، وهذا خلاف الأصْلِ فالجوابُ ما تقدَّم و «مَا» يجوزُ أن تكون موصولةً اسميَّة، أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ محذوفٌ على كلا التقديرين، أي: مثلُ ما قَتَلَهُ من النَّعَمِ.
فَمَنْ رفع «جَزَاء» ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: فعليه جزاء.
والثاني: أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، تقديرُه: فالواجبُ جزاء.
والثالث: أنه فاعلٌ بفعل محذوف، أي: فيلزَمُه الجزاءُ، أو يَجِبُ عليه جزاءٌ.
الرابع: أنه مبتدأ وخبره «مِثْل»، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسْحَاق الزجَّاج، وتقدم أيضاً رفع «مِثْل» في قراءة الكوفيين؛ على أحدِ ثلاثةِ أوجه: النعْتِ، والبدلِ، والخبرِ؛ حيث قلنا: «جَزَاء» مبتدأٌ عند الزجَّاج.
وأمَّا قراءةُ «فَجَزَاؤه مِثْلُ»، فظاهرةٌ أيضاً، وأمَّا قراءة «فَجَزَاءٌ مِثْلَ» برفع «جَزَاءٌ» وتنوينه، ونصب «مِثْل»، فعلى إعمال المصدر المنوَّنِ في مفعوله، وقد تقدَّم أنَّ قراءة الإضافة منه، وهو نظيرُ قوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤ - ١٥] وفاعلُه محذوف، أي: فجزاءُ أحدِكُمْ أو القاتلِ، أي: أنْ يُجْزَى القاتلُ للصَّيْدِ، وأما قراءة: «فَجَزَاءً مِثْلَ» بنصبهما ف «جَزَاءً» منصوبٌ على المصدر، أو على المفعول به، و «مِثْلَ» صفتُه بالاعتبارين، والتقدير: فَلْيَجْزِ جَزَاءً مِثْلَ، أو: فَلْيُخْرِجْ جَزاءً، أو فليُغَرَّمْ جَزَاءً مِثْلَ.
قوله: «مِنَ النَّعَمِ» فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه صفةٌ ل «جَزَاء» مطلقاً، أي: سواءً رُفِعَ أم نُصِبَ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ، أي: إنَّ ذلك الجزاءَ يكونُ من جنسِ النَّعَمِ، فهذا الوجهُ لا يمتنع بحالٍ.
الثاني: أنه متعلق بنفسِ «جَزَاء» ؛ لأنه مصدرٌ، إلا أنَّ ذلك لا يجوزُ إلا في قراءة من
518
أضاف «جَزَاء» إلى «مثْل»، فإنه لا يلزمُ منه محذورٌ؛ بخلافِ ما إذا نَوَّنْتَهُ، وجعلتَ «مِثْلَ» صفته، أو بدلاً منه، أو خبراً له؛ فإنَّ ذلك يمتنع حينئذ، لأنَّك إنْ جَعلْتَه موصوفاً ب «مِثْل» كان ذلك ممنوعاً من وجهين:
أحدهما: أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعملُ، وهذا قد وُصِفَ.
والثاني: أنه مصدر، فهو بمنزلةِ الموصولِ، والمعمولُ من تمامِ صلته، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبَعُ الموصولُ إلا بعد تمام صلته؛ لئلا يلزمَ الفصلُ بأجنبيٍّ، وإنْ جعلْتَه بدلاً، لَزِم أن يُتْبَعَ الموصولُ قبل تمام صلته، وإنْ جَعَلْتَه خبراً، لزم الإخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلته، وذلك كلُّه لا يجوزُ.
الثالث: ذكره أبو البقاء وهو أنْ يكون حالاً من عائدِ الموصولِ المحذوفِ؛ فإنَّ التقدير: فجزاءً مثل الذي قتله حالَ كونه من النَّعَم، وهذا وَهْمٌ؛ لأن الموصوف بكونه من النَّعم، إنما هو جزاءُ الصيد المقتولِ، وأمَّا الصيد نفسُه، فلا يكونُ من النعم، والجمهورُ على فَتْحِ عَيْن «النَّعَم»، وقرأ الحسن بسكُونها، فقال ابنُ عطيَّة: «هي لغةٌ»، وقال الزمخشريُّ: استثقَلَ الحركةَ على حرفِ الحلق، كما قالوا: «الشَّعْرُ» في «الشَّعَرِ».

فصل


اخْتَلَفُوا في هذا العَمْد: فقال قَوْمٌ: هو تَعَمُّدُ قتْل الصَّيْد مع نسْيَان الإحْرَام، أمَّا إذا قَتَلَهُ عَمْداً وهو ذَاكِرٌ لإحْرَامِهِ، فلا حُكْمَ عليه، وأمْرُهُ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنَّه أعْظَمُ مِنْ أنْ يكون له كفَّارةٌ، وهو قوْلُ مُجَاهِد والحَسَن.
وقال آخَرُون: هُنَاكَ فَرْقٌ بين أن يَعْمَدَ المُحْرِمُ قَتْلَ الصَّيْد ذاكراً لإحْرَامِهِ، فعليه الكَفَّارَةُ، واخْتَلَفُوا فيمَا لو قَتَلَهُ خَطَأً، فذهَبَ أكْثَرُ الفُقَهَاء إلى أنَّ العَمْدَ والخَطَأ وَاحِدٌ في لُزُومِ الكَفَّارَةِ.
قال الزُّهرِي: على المُتَعَمِّدِ بالكِتَاب، وعلى المُخْطِئ بالسُّنَّةِ وقال سَعِيدُ بن جُبَيْر: لا تجبُ كفَّارةُ الصَّيْد بِقَتْلِ الخَطَأ، وهُوَ قول دَاوُد.
519

فصل


المُرَادُ بالمِثْلِ ما يَقْرُبُ من الصَّيدِ المقْتُولِ شَبَهاً من حيث الخِلْقَةِ، لا من حَيْثُ القِيمَة.
وقال محمَّدٌ بنُ الحسنِ: الصَّيدُ ضرْبَانِ: مَا لَهُ مِثلٌ، وما لا مِثْلَ له.
فما له مثلٌ يُضْمَنُ بِمِثْلِه من النَّعَمِ، وما لا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بالقِيمَة.
وقال أبو حَنيفَةَ وأبو يُوسُف: المِثْلُ الواجبُ هو القِيمَةُ.

فصل


إذا قَتَل المُحْرِمُ الصَّيْدَ وأدَّى جَزاءَه، ثم قتل صَيْداً آخَر لَزِمَه جَزَاء آخَر، وقال دَاوُدُ: لا يَجِبُ، وحجَّةُ الجُمْهُورِ هذه الآيَةُ، فإنَّ ظَاهِرَهَا يقْتَضِي أن يكُون علَّةُ وُجُوب الجَزَاءِ هو القَتْلُ، فوجَبَ أنْ يتكرَّر الحُكْمُ بِتكْرَارِ العِلَّةِ، فإن قيل: إذا قَالَ الرَّجُل لِنِسَائِهِ من دَخَلَتْ مِنْكنَّ الدَّارَ فِهِي طَالِقٌ، فدخلت واحِدَةٌ مرَّتَيْنِ، لم يقع الطَّلاق مرَّتَيْن.
فالجوابُ أنَّ القَتْلَ عِلَّة لوُجُوبِ الجَزَاء، فيلْزَمُ تكْرَار الوُجُوبِ لِتكْرارِ العِلَّةِ، وأمَّا دُخُولُ الدَّارِ فهو شَرْطٌ لوُقُوعِ الطَّلاق، فلَمْ يَلْزَم تكْرَارُ الحُكْم عند تكْرارِ الشَّرْط، واحْتَجَّ داوُدُ بقوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ فجَزَاءُ العَائِدِ الانْتِقَامُ لا الكَفَّارةُ.
قوله: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ﴾ في موضع نصْبٍ على الحال منه، أو على النَّعْتِ ل «جَزَاء» فيمَنْ نَصَبه، وخصَّصَ أبو البقاء كونه صفةً بقراءةِ تنوين «جَزَاء»، والحالَ بقراءةِ إضافته، ولا فرقَ، بل يجوزُ أنْ تكون الجملةُ نعتاً أو حالاً بالاعتبارين؛ لأنه أذا أُضيفَ إلى «مِثْل»، فهو باقٍ على تنكيرِه؛ لأنَّ «مِثْلاً» لا يتعرَّفُ بالإضافة، وكذا خَصَّصَ مكي الوصفَ بقراءةِ إضافةِ الجزاء إلى «مِثْل» فإنه قال: «ومِنَ النَّعَم في قراءةِ مَنْ أضافَ الجَزَاء إلى» مِثْل «صفةً ل» جَزَاء «، ويَحْسُنُ أنْ تتعلَّق» مِنْ «بالمصدر، فلا تكونُ صفةً، وإنما المصدرُ مُعَدى إلى» مِنَ النَّعَمِ «، وإذا جعلته صفةً، ف» مِنْ «متعلِّقةٌ بالخبرِ المحذوف، وهو فَعَلَيْهِ»، وفي هذا الكلامِ نظرٌ مِنْ وجهَيْن:
أحدهما: قد تقدَّم، وهو التخصيصُ بقراءةِ الإضافة.
والثاني: أنه حين جعل «مِنَ النَّعَم» صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لِمَا تضمَّنه من الاستقرار؛ وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ، إذا وقعَ صفةً تعلَّقَ بمحْذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقةِ، وهذا الذي جعله متعلَّقاً لهذه الصفةِ ليس صفةً للموصوف في الحقيقةِ، بل هو خبرٌ عنه؛ ألا ترى أنك لو قلت: «عِنْدِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ» أنَّ «مِنْ
520
بَنِي» متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة، لا بقولِكَ «عِنْدِي»، ويمكن أن يُقال - وهو بعيدٌ جِدًّا - إنه أراد التعلُّقَ المعنويَّ؛ وذلك أنَّ العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفته، و «عَلَيْهِ» عاملٌ في «جَزَاء»، فهو عاملٌ في صفته، فالتعلُّقُ من هذه الحَيْثِيَّةِ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جعلنا الخبرَ عاملاً في المبتدأ، أو قلنا: إنَّ الجارَّ يرفع الفاعلَ، ولو لم يعتمدْ وإنما ذكر هنا التوجيهاتِ؛ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولهم بالكلية.
والألفُ في «ذَوَا» علامةُ الرفع؛ لأنه مثنى، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظةِ وتصاريفها [الآية ١٧٧ البقرة]، وقرأ الجمهورُ: «ذَوَا» بالألف، وقرأ محمد بن جعفر الصادق: «ذُو» بلفظِ الإفراد، قالوا: ولا يريدُ بذلك الوَحْدة، بل يريدُ: يحكُمُ به مَنْ هو مِنْ أهْلِ العدل، وقال الزمخشريُّ: «وقيل: أراد الإمام» فعلى هذا تكونُ الوحْدَةُ مقصودةً، و «مِنْكُمْ» في محلِّ رفع صفةً ل «ذَوَا»، أي: إنهما يكونان من جنْسِكُمْ في الدِّين، ولا يجوزُ أن تكونَ صفةً ل «عَدْل» ؛ لأنه مصدرٌ قاله أبو البقاء، يعني: أن المصدرَ ليس مِنْ جنْسِهِمْ، فكيف يُوصَفُ بكونه منهم؟

فصل


المعنى يَحْكُمُ للجِزْاءِ رَجُلان عَدْلان قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد يَحُكم به في جَزَاءِ الصَّيْدِ رجُلانِ صالِحَان مِنْكُم، مِنْ أهلِ قِبْلَتِكُم ودينِكُمْ، فَقيهان عدْلان، فَيَنْظُرَان إلى أشْبَه الأشْيَاءِ من النَّعَم، فَيَحْكُمَان به، ومِمَّن ذَهَبَ إلى إيجَابِ المِثْلِ من النَّعَمِ: عُمَرُ، وعُثمَانُ، وعَلِيٌّ، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْف، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عبَّاسٍ، وغَيْرِهِمْ من الصَّحَابَة حَكَمُوا في بُلْدَان مخْتَلِفَة، وأزْمان شَتَّى بالمِثْل من النَّعَمِ، فحكمَ حَاكِمُهُم في النَّعَامةِ بِبدَنَة، وهي لا تُسَاوي بَقَرَةً، وفي الضَّبعِ كَبْشٌ وهو لا يساوي كَبْشاً، فدلَّ على أنهم نَظَرُوا إلى ما يَقْرُب من الصَّيْد شَبَهاً من حَيْث الخِلْقَة.
ورُوِي عن عُمرَ، وعُثْمَان، وابن عباس: أنَّهم قَضَوْا في حَمَامِ مَكَّةَ بِشَاةٍ.
ورَوَى جَابِر بنُ عبد اللَّه: أنَّ عُمَرَ بن الخَطَّابِ قَضَى في الضَّبعِ بكَبْشٍ، وفي الغَزَالِ بِعَنْزٍ، وفي الأرْنَبِ بِعنَاقٍ، وفي اليَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ.
521
وقال مَيْمُونُ بن مَهْرَان: جاءَ أعْرَابيٌّ إلى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنه - فقال: إنِّي أصيْتُ من الصَّيْد كَذَا وكَذَا، فسَألَ أبُو بكرٍ أبَيَّ بن كَعْبٍ، فقال الأعْرَابِيُّ: أتَيْتُكَ أسْألُكَ، وأنْتَ تَسألُ غَيْرَك، فقال أبُو بَكْرٍ: وما أنكَرْت من ذلك؟ قال تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ فشاوَرْتُ صَاحِبي، فإذا اتَّفَقْنَا على شَيءٍ أمَرْناكَ بِهِ.
وعن قُبَيْصَة بن جَابِرٍ؛ أنه كان مُحْرِماً، فضرب ظْبياً فماتَ، فسأل عُمَرَ بن الخَطَّابِ، وكان إلى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْف، فقال عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَن: ما ترى، قال: عليه شاةٌ، قال: وأنا أرى ذَلِكَ، قال اذْهَبْ فأهْدِ شاةً، قال قُبَيْصَةُ: فَخَرَجْتُ إلى صَاحِبِي، وقُلْتُ: إنَّ أمير المُؤمنين لم يَدْرِ ما يقُولُ، حتى سألَ غَيْرَهُ.
قال فَفَجَأنِي عُمَرُ، وعلانِي بالدرَّة، وقال: أتَقْتُلُ في الحَرَمِ وتُسَفِّهُ الحُكْمَ؟ قال تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ فأنا عُمَرُ، وهذا عَبْدُ الرحمن بنُ عوف. واحْتَجَّ أبُو حنيفَة في إيجَابِ القيمة بأنَّ التَّقْوِيمَ هو المُحْتَاجُ إلى النَّظَرِ والاجتِهَادِ، وأما الخِلْقَةُ والصُّورةُ فَظَاهِرةٌ لا يُحْتَاجُ فيها إلى الاجتهاد.
وأجيبُ: بأنَّ المُشَابَهَة بَيْنَ الصَّيْد وبين النَّعَمِ مخْتَلِفَةُ وكَثِيرة، فلا بد من الاجْتِهَادِ في تَمْييزِ الأقْوَى عن الأضْعَفِ.

فصل


الذي له مِثْل ضربان: فما حكمت فيه الصَّحَابَةُ بِحُكْمٍ، لا يُعْدَلُ إلى غَيْرِه؛ لأنَّهم شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وحَضرُوا التَّأويل، وما لَمْ يَحْكُمْ فيه الصحابة، يُرْجَعُ إلى اجْتِهَادِ عَدْلَيْن.
وقال مَالِكٌ: يجب التَّحكيمُ فيما حَكَمَتْ به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وفيما لم تَحْكُمْ فِيهِ.

فصل


يجُوزُ أنَّ القَاتِلَ أحَدُ العَدْلَيْن، إن كان أخْطَأ فيه، فإنْ تَعمَّدَ فلا يجُوزُ؛ لأنه يُفَسَّقُ به.
وقال مالكٌ: لا يجُوزُ في تَقْويم المُتْلَفَاتِ، وأجيب: بأن اللَّه تعالى أوْجَبَ أن يَحْكُمَ به ذَوَا عدلٍ، وإذا صدرَ عَنْهُ القَتْلُ خَطَأ كان عدْلاً، فإذا حكمَ هُوَ وغَيْرُهُ، فَقَدْ حكمَ به ذوا عَدْل.
وقد رُوِيَ أنَّ بعضَ الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أوْطَأ فرسهُ ظَبْياً، فسأل عُمَرَ عَنْهُ، فقال عُمَرُ: احْكُمْ، فقال: أنْتَ أعْدَلُ يا أمِيرَ المُؤمنين، فاحْكُمْ، فقال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ
522
عَنْه - إنَّما أمرتُكَ أنْ تَحْكُمَ، وما أمَرْتُكَ أن تُزَكِّيني، فقال: أرى فيه جَدْياً جمع الماء والشَّجَر، فقال: افْعَل ما تَرَى.

فصل


لو حكم عَدْلان بِمِثْلٍ، وحكم عدلان آخران بِمِثْلٍ آخر ففيه وجهان:
أحدهما: يَتَخَيَّرُ.
والثاني: يأخُذُ بالأغْلَظِ.

فصل


استدلَّ بهذه الآيَةِ بَعْضُ مُثْبِتِي القِيَاس، قالوا: لأنَّه تعالى فرضَ تَعْيِين المِثْل إلى اجْتِهَاد النَّاسِ وظنهم، وهذا ضَعِيفٌ؛ لأن الشَّارع تَعَبَّدنا بالعملِ بالظَّنِّ في صُورٍ كثيرة: منها الاجْتِهادُ في القِبْلَةِ، والعَمَلُ بِتَقْويمِ المُقَوِّمِين في قِيم المُتْلَفَاتِ، وأرُوشِ الجِنايَاتِ، والعملُ بِحُكْمِ الحَاكِمِين في مِثْلِ جَزَاءِ الصَّيْد، وعَمَلُ القَاضِي بالفَتْوى، والعملُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ في مصالحِ الدُّنْيَا، إلاَّ أنَّا نَقُولُ: إذا دُعِيتُم إلى تَشْبيهِ صورةٍ بصُورةٍ شرعيَّةٍ في الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وهو عينُ هذه المسائِلِ الَّتي عدَدْنَاهَا، فذلك باطلٌ في بَديهَةِ العَقْل، فإذا سَلَّمْتُمُ المُغَايَرة، ولمْ يلزم من كَوْنِ الظَّنِّ حُجَّةً في تلك الصُّوَر؛ كونهُ حُجَّةً في مَسْألةِ القياسِ، إلاَّ إذا قِسْنَا هذه المسألة على تِلْكَ المسائِل، وذلك يقتضي إثْبَات القياس بالقياس، وهو باطلٌ، وأيضاً فالفَرْقُ ظَاهِرٌ بين البَابَيْنِ؛ لأنَّ في جميع الصُّور المَذْكُورة الحُكْمُ إنَّما ثبت في حقِّ شَخْصٍ واحدٍ، في زمان واحدٍ، في واقِعَةٍ واحِدة.
وأمَّا الحُكْمُ الثَّابِتُ بالقياسِ، فإنه شَرْعٌ عامٌّ في جَمِيع المُكَلَّفين، باقٍ على وجْهِ الدَّهْر، والتَّنْصِيصُ على أحْكَامِ الأشخاص الجُزْئيَّةِ مُتَعذرٌ.
أمَّا التَّنْصِيصُ على الأحْكام الكُلِّيَّةِ العامَّةِ، البَاقِيَةِ إلى آخر الدَّهْر غير مُتعذّر، فظهر الفَرْقُ.
قوله: «هَدْياً» فيه ستةُ أوجهٍ:
أظهرُها: أنه حالٌ من الضمير في «به» قال الزجاج: «هو منصوبٌ على الحالِ، المعنى: يحكم به مقدَّراً أن يُهْدَى» يعني أنه حال مقدَّرةٌ، لا مقارنةٌ، وكذا قال الفارسيُّ كقولك: «مَعَهُ صَقْرٌ صَائِداً به غداً»، أي مُقَدَّراً الصَّيْدَ.
الثاني: أنه حالٌ من «جَزَاء» سواءٌ قُرئَ مرفوعاً أم منصوباً، منوناً أم مضافاً، وقال الزمخشريُّ: «هدْياً» حالٌ من «جزَاء» فيمَنْ وصفه ب «مِثل» ؛ لأنَّ الصفةَ خَصَّصَتْه، فقرُبَ من المعرفة، وكذا خصَّصه أبو حيان، وهذا غير واضحٍ، بل الحاليةُ جائزةٌ مطلقاً؛ كما تقدَّم.
523
الثالث: أنه منصوبٌ على المصدْرِ، أي: يُهْدِيهِ هَدْياً، ذكره مكي وأبو البقاء.
الرابع: أنه منصوبٌ على التَّمْييزِ، قال أبو البقاء ومكيٌّ، إلا أنَّ مَكِّياً، قال: «على البيانِ»، وهو التمييزُ في المعنى، وكأنهما ظَنَّا أنه تمييزٌ لِما أبْهِمَ في المِثْلية؛ إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييزِ غيرَها، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يَرْفَع الإبهامَ عن الذَّواتِ، لا عن الصفاتِ، وهذا كما رأيْتَ إنما رفع إبهاماً عن صفة؛ لأنَّ الهدي صفةٌ في المعنى؛ إذ المرادُ به مُهْدى.
الخامس: أنه منصوبٌ على محلِّ «مِثْل» فيمَنْ خَفَضه؛ لأنَّ محلَّه النصبُ بعملِ المصدرِ فيه تقديراً؛ كما تقدَّم تحريرُه.
السادس: أنه بدلٌ من «جَزَاء» فيمن نصبه. و «بَالِغَ الكَعْبَةِ» صفةٌ ل «هَدْياً»، ولم يتعرَّفْ بالإضافة؛ لأنه عاملٌ في الكعبة النصبَ تقديراً، ومثله: ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] وقولُ الآخَرِ: [البسيط]
٢٠٢٥ - يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كانَ يَطْلُبُكُمْ لاقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وحِرْمَانَا
في أنَّ الإضافة فيها غيرُ مَحْضَةٍ، وقرأ الأعْرج: «هَدِيًّا» بكسر الدال وتشديد الياء.

فصل


المعنى: يَحْكُمَانِ بِهِ هَدْياً يُسَاقُ إلى الكَعْبَة، فَيُنْحَرُ هُنَاك، وهذا يُؤيِّد قول من أوْجَبَ المِثْلَ من طريق الخِلْقَةِ؛ لأنه تعالى لَمْ يَقُلْ: يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ، وإنَّما قال: يَحْكُمان به هَدْياً، وهذا صَرِيحٌ في أنَّهما يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ، وإنَّما قال: يَحْكُمَان به شيئاً يُشْتَرى به ما يَكُونُ هَدْياً وهذا بعيد عن الظَّاهِر.
وسمِّيت الكَعْبَةُ كَعْبَةً لارتفاعها، والعَرَبُ تُسَمِّي كل بَيْتٍ مرتفعٍ كَعْبَةً، والكَعْبَةُ هنا إنَّما أُريدَ بها كلُّ الحَرَم؛ لأنَّ الذبْحَ والنَّحْر لا يُفعَلان في الكَعْبَة، ولا عندها ملاصِقاً لها، ونَظِيرُهُ قوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾ [الحج: ٣٣]، والمُرَادُ بِبُلُوغِهِ للكَعْبة: أنْ يَذْبَح بالحرم، ويتصدَّق باللَّحْمِ على مساكينِ الحَرَمِ.
524
وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: له أنْ يتصدَّق به حيث شاءَ، كما أنَّ لَهُ أن يصُومَ حيْثُ شاء، وحجَّةُ القولِ الأوَّل: أنَّ الذَبْحَ إيلامٌ، فلا يجُوزُ أن يكُون قُرْبَةً، بل القُرْبَةُ إيصَالُ اللَّحْم إلى الفقَراءِ.
قوله: «أو كَفَّارةٌ» عطفٌ على قوله: «فَجَزَاءٌ»، و «أوْ» هنا للتخيير، ونُقِل عن ابن عباس؛ أنها ليسَتْ للتخيير، بل للترتيب، وهذا على قراءةِ مَنْ رفع «فَجَزَاءٌ»، وأمَّا مَنْ نصبه، فقال الزمخشريُّ: جعلها خَبَرَ مبتدأ محذوفٍ؛ كأنه قيل: أو الواجبُ عليه كفَّارةٌ، ويجوزُ أن تُقَدَّرَ: فعليه أن يجْزِي جزاءً، أو كفارةً، فتعطفَ «كَفَّارة» على «أنْ يَجْزِيَ»، يعني أنَّ «عليه» يكونُ خبراً مقدَّماً، و «أن يَجْزِيَ» مبتدأ مؤخَّراً، فعطفت «الكفَّارة» على هذا المبتدأ، وقرأ نافع وابنُ عامرٍ بإضافة «كَفَّارة» لما بعدها، والباقون بتنوينها، ورفع ما بعدها.
فأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فواضحةٌ، ورفعُ «طَعَامُ» على أحد ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من «كَفَّارةٌ» ؛ إذ هي من جنسه.
الثاني: أنه بيانٌ لها؛ كما تقدَّم، قاله الفارسيُّ. وردَّه أبو حيان؛ بأنَّ مذهبَ البصريِّين اختصاصُ عطفِ البيانِ بالمعارفِ دون النكرات، قال شهاب الدين: أبو عَلِيٍّ يُخالِفُ في ذلك، ويستدلُّ بأدلَّة، منها قوله تعالى: ﴿شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ [النور: ٣٥]، ف «زَيْتُونَةٍ» عنده عطفُ بيان ل «شَجَرَة»، وكذا قوله تعالى: ﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٦]، ف «صَدِيد» عنده بدلٌ من «مَاءٍ»، والبدلُ فيهما محتملٌ؛ فلا حُجَّةَ له، والبدل قد يجيء للبيان.
الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هي طعام، أي: تلك الكفارة.
وأمَّا قراءة نافع وابن عامرٍ، فوجهها: أنَّ الكفارة، لمَّا تنوَّعَتْ إلى تكفير الطعام، وتكفير بالجزاء المماثل، وتكفير بالصيام، حسُنَ إضافتها لأحَدِ أنواعها تبييناً لذلك، والإضافةُ تكون بأدْنَى ملابسة؛ كقوله: [الطويل]
٢٠٥٣ - إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لاحَ بِسُحْرةٍ سُهَيْلٌ أذَاعَتْ غَزْلَهَا فِي القَرَائِبِ
أضاف الكوكبَ إليها؛ لقيامها عند طلوعه؛ فهذا أولى، ووجَّهَها الزمخشريُّ فقال: «وهذه الإضافةُ مبيِّنةٌ، كأنه قيل: أو كفارةٌ من طعامِ مساكين؛ كقولك:» خَاتَمُ
525
فِضَّةٍ «بمعنى مِنْ فِضَّةٍ»، قال أبو حيان: «أمَّا ما زعمه، فليْسَ من هذا الباب؛ لأنَّ» خَاتَم فِضَّةٍ «من باب إضافة الشيء إلى جنْسه، والطعامُ ليس جنساً للكفارةِ، إلا بتجَّوزٍ بعيدٍ جدًّا». انتهى، قال شهاب الدين: كان مِنْ حَقِّه أن يقول: والكفَّارةُ ليستْ جنْساً للطَّعامِ؛ لأنَّ الكفارةَ في التركيب نظيرُ «خَاتَم» في أنَّ كلاًّ منهما هو المضافُ إلى ما بعده، فكما أن «خَاتَماً» هو المضافُ إلى جنسه ينبغي أن يُقالَ: الكفَّارةُ ليستْ جنْساً للطعام؛ لأجل المقابلةِ، لكنْ لا يمكنُ أن يُقال ذلك، فإنَّ الكفارةَ كما تقدَّم جنسٌ للطعامِ، والجزاءِ، والصَّومِ، فالطريقُ في الردِّ على الزمخشريِّ أن يُقال: شرطُ الإضافةِ بمعنى «مِنْ» : أن يُضاف جزءٌ إلى كلٍّ بشرطِ صدقِ اسم الكلِّ على الجزءِ؛ نحو: «خَاتَمُ فِضَّةٍ»، و «كَفَّارةُ طعَامٍ» ليس كذلك، بل هي إضافة «كُلّ» إلى جزء، وقد استشكل جماعةٌ هذه القراءة؛ من حَيْثُ إنَّ الكفارةَ ليست للطعامِ، إنما هي لقتلِ الصيدِ، كذا قاله أبو عليٍّ الفارسيُّ وغيره، وجوابُه ما تقدَّم.
ولم يختلف السبعةُ في جمع «مَسَاكِينَ» هنا، وإن اختلفوا في البقرة، قالوا: والفرقُ بينهما أنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ لا يُجْزئُ فيه إطعامُ مِسْكِينٍ واحدٍ، على أنه قد قرأ عيسى بْنُ عُمَرَ والأعْرَجُ بتنوين «كَفَّارة»، ورفع «طَعَامُ مسْكِينٍ» بالتوحيد، قالوا: ومرادُهما بيانُ الجِنْسِ، لا التوحيدُ.
قوله: «أوْعَدْلُ» نسقٌ على «فَجَزاءٌ»، والجمهورُ على فتحِ العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مُصَرِّف والجَحْدَرِي بكَسْرِهِا.
قال الفرَّاءُ: «العِدْل» بالكسر: ما عادَل الشَّيْء من جِنْسِهِ، والعدل: المِثْلُ، تقول: عندي عِدلُ غُلامِكَ أو شَاتِكَ إذا كان غلامٌ بِعِدْل غُلامه، أو شاةٌ تَعْدِلُ شَاتَهُ، أمَّا إذا أرَدْتَ قِيمَتَهُ من غير جِنْسِه نَصَبْتَ العَيْن، فقُلْت: عَدْل.
وقال أبو الهَيْثَم: العدل: المِثْل، والعِدْل: القِيمَةُ، والعَدْلُ: اسم مَعْدُولٌ بحمل آخر مُسَوى به، والعَدْل: تَقْوِيمُك الشَّيْء بالشيء من غير جِنْسِهِ.
وقال الزَّجَّاج، وابنُ الأعْرَابِيّ: العَدل والعِدْل سواءٌ، وقد تقدَّم الكلام عَلَيْه في البَقَرة: عند قوله: ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [الآية: ٤٨].
قوله: «صِيَاماً» نصْبٌ على التميز كقولك: «عندي رَطلان عَسَلاً» لأنَّ المعنى: أو قَدْرُ ذلك صِياماً، والأصْلُ فيه إدْخَالُ حَرْفَيْنِ تقُولُ: رطلانِ من العَسَلِ، وعَدْلُ ذلك من الصِّيَام. [وأصل «صِياماً» :«صِوَاماً» فأعِلَّ كما تقدَّم مراراً].
526

فصل


معنى الآية: أنَّه في جَزَاءِ الصَّيْد مُخَيَّرٌ بَيْن أن يَذْبَح المِثْلَ من النَّعَمِ، فيتَصدَّق باللَّحْم على مَساكِينِ الحَرَم، وبيْنَ أنْ يُقَوِّم المِثْلَ بِدَرَاهِم ويَشْتَرِي بالدَّرَاهِم طَعَاماً، فيتصدَّق بالطَّعَام على مساكينِ الحَرَمِ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ من طعام، أو يَصُوم عن كُلِّ مُدٍّ يَوْماً، وله أنْ يَصُومَ حَيْث شَاءَ؛ لأنَّه لا نَفْعَ فيه لِلْمَسَاكِين.
وقال مَالِكٌ: إنْ لم يخْرِجِ المثلَ يُقَوَّمُ الصَّيدُ، ثمَّ تُجْعَلُ القِيمَةُ طَعَاماً، فيتصَدَّقُ به أوْ يَصُوم.
وقال أبُو حَنِيفَةَ: لا يَجِبُ المِثْلُ مِنَ النَّعَم، بل يُقَوَّمُ الصَّيْدُ، فإن شاء صَرَفَ تلك القِيمَةَ إلى شَيء مِنَ النَّعَمِ، وإن شَاءَ إلى الطَّعَام فيتَصَدَّق بِهِ، وإنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كلِّ نِصْفِ صَاعٍ من بُرٍّ أو صَاعٍ من غَيْرِه يَوْماً.
وقال الشَّعْبِي، والنَّخْعِي: جَزَاءُ الصَّيْدِ على التَّرْتِيب، والجُمْهُور على التَّخْيير، وأنَّ قاتلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ في تَعْيين أحَدِ هذه الثلاثة، وقال مُحَمَّد بن الحسن: التَّخْيِير إلى الحَكَمَيْن، لقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً﴾ أي: كَذَا، أوْ كَذَا.
وجوابُه: أن اللَّه أوْجَبَ على قَاتِلِ الصَّيْدِ أحَدَ هذه الثلاثة على التَّخْييرِ، فوجَبَ أنْ يكونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مُخيَّراً بَيْن أيِّها شاء، وأمَّا الذي يَحْكُمُ بِه ذوا العَدْل، فهو تَعْيينُ المِثْلِ الخِلْقَة أو القِيمَة.
قوله: «لِيَذُوقَ» فيه ستةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلقٌ ب «جزاء» قاله الزمخشريُّ، وقال أبو حيان: إنما يتأتَّى ذلك حيثُ يضاف إلى «مِثْل»، أو يُنَوَّن «جَزَاء»، ويُنْصَبُ «مِثْل»، وعَلَّلَ ذلك بأنه إذا رَفَعَ مثلاً، كان صفةً للمصْدَرِ، وإذا وُصِفَ المصدرُ، لم يعمل إلا أن يتقدَّم المعمولُ على وصْفِه؛ نحو: «يُعْجِبُنِي الضَّرْبُ زَيْداً الشَّديدُ»، فيجوز: قال شهاب الدين: وكذا لو جعله بدلاً أيضاً أو خبراً؛ لما تقدَّم من أنه يلزمُ أن يُتْبَعَ الموصولُ أو يُخْبَر عنه قبل تمامِ صلته، وهو ممنوعٌ، وقد أفْهَمَ كلامُ الشيخِ بصريحِهِ؛ أنه على قراءةِ إضافة الجزاءِ إلى «مِثْل» يجوزُ ما قاله الزمخشري، وأنا أقول: لا يجوزُ ذلك أيضاً؛ لأنَّ «لِيَذُوقَ» مِنْ تمامِ صلةِ المصدرِ، وقد عُطِفَ عليه قولُه «أوْ كفَّارَةٌ أو عَدْلٌ» ؛ فليزمُ أنْ يُعْطَفَ على الموصُولِ قبل تمام صلته؛ وذلك لا يجوزُ لو قلْتَ: «جَاءَ الذي ضربَ وعَمرٌو زَيْداً» لم يَجُزْ للفصْلِ بين الصِّلَة - أو أبعاضِهَا - والموصوُلِ بأجنبيٍّ، فتأمَّلْه.
الثاني: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه قُوَّةُ الكلامِ؛ كأنه قيل: جُوزيَ بذلِكَ لِيَذُوقَ.
527
الثالث: أنه متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ قبل قوله: «فَجَزَاء» ؛ إذ التقديرُ: فعليهِ جزاءٌ لِيَذُوقَ.
الرابع: أنه متعلِّقٌ ب «صِيَام»، أي: صَوْمُهُ لِيَذُوقَ.
الخامس: أنه متعلِّقٌ ب «طَعَام»، أي: طعام لِيَذُوقَ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء، وهي ضعيفةٌ جدًّا، وأجودُها الأولُ.
السادس: أنها تتعلَّقُ ب «عَدْلُ ذَلِكَ»، نقله أبو حيان عن بعضِ المُعْرِبين، قال: «غَلَطٌ».
والوَبَالُ: سوءُ العاقبةِ وما يُخاف ضَرَرُهُ، قال الراغبُ: والوَابِلُ: المطرُ الثقيلُ القَطْرِ، ولمراعاة الثِّقَلِ، قيل للأمرِ الذي يُخاف ضَرَرُه: وَبَال، قال تعالى: ف ﴿ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ [الحشر: ١٥]، ويقال: «طَعَام وَبِيلٌ»، و «كَلأٌ وَبِيلٌ» يُخافُ وبالُه؛ قال تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً﴾ [المزمل: ١٦]، وقال غيره: «والوبَالُ في اللغةِ؛ ثِقَلُ الشيءِ في المْكُروهِ، يقال:» مَرْعى وبَيلٌ «، إذا كان يُسْتَوْخَمُ، و» مَاءٌ وَبِيلٌ «إذا كان لا يُسْتَمْرَأ، واسْتَوْبَلْتُ الأرضَ: كرهتُها خَوْفاً من وبالِها». والذَّوْقُ هنا استعارةٌ بليغةٌ.
وإنَّما سمَّى اللَّهُ تعالى ذلك وبالاً؛ لأنَّه خيَّره بين ثلاثةِ أشياء، اثْنَانِ منها تُوجبُ تَنْقيصَ المالِ، وهو ثَقِيلُ على الطَّبْعِ، وهما الجَزَاءُ بالمِثْلِ والإطْعَام، والثَّالِثُ يُوجِبُ إيلامَ البَدَنِ وهو الصَّوْم، وذَلِك أيْضاً يَثْقُلُ على الطَّبْع، وذلك حتَّى يَحْتَرِز عَنْ قَتْل الصَّيْد في الحَرَمِ، وفي حَالِ الإحْرَام.
قوله: ﴿عَفَا الله عَمَّا سَلَف﴾ يَعْنِي: قَبْلَ التَّحْرِيم، ونُزُولِ الآيَة وقال السدِّيُّ: عَمَا سَلَفَ في الجاهِليَّةِ.
وقيل: هذا إبْدَال على قَوْلِ من لا يُوجِبُ الجزاءَ، إلاَّ في المرَّةِ الأولَى، أمَّا في المرَّةِ الثَّانِية: فإنه لا يُوجِبُ الجَزَاءَ عليْه، ويقول: إنَّه أعْظمُ من أنْ يُكَفِّره التَّصَدُّق بالجَزَاءِ، فعلى هذا المُراد عَفَا اللَّهُ عما سَلَفَ في المرَّة الأولى بِسبَبِ أداءِ الجَزَاءِ، ومن عادَ إليه مرَّةً ثَانِية، فلا كفَّارة لجُرْمِهِ، بل اللَّهُ يَنْتَقِمُ منه، وحُجَّةُ هذا القول: أنَّ «الفاءَ» في قوله: ﴿فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ فاءُ الجزَاءِ، والجَزَاء هو الكَافِي، فهذا يَقْتَضِي أنَّ هذا الانْتِقَامَ كما في هذا الذَّنْبِ، وكونهُ كَافِياً يَمْنَع من وجوبِ شَيْءٍ آخَر، فلا يَجِبُ عليه الجَزَاءُ.
528
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ «منْ» يجوز أن تكون شرطيةً، فالفاءُ جوابُها، و «يَنْتَقِمْ» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي: فهو يَنْتَقِمُ، ولا يجوز الجزمُ مع الفاءِ ألبتة، قال: سيبويه: «الفَاءُ» في قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ﴾ [البقرة: ١٢٦]، و ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً﴾ [الجن: ١٣] إنَّ في هذه الآيات إضْمَاراً مُقَدَّراً، والتَّقدير: ومَنْ عادَ فهو ينتَقِمُ اللَّه منه ومن كفر فأنا أمتِّعُهُ، ومن يُؤمِن بربه فهو لا يَخَافُ، وبالجُمْلَةِ فلا بد من إضْمَارِ مبتدأ يكونُ ذَلِكَ الفِعْلُ خَبَراً عنه؛ لانَّ الفِعْلَ يَصِيرُ بِنَفْسِهِ جزاءً، فلا حاجَةَ إلى إدْخَال حَرْفِ الجزاءِ عليه، فيَصِيرُ إدْخال حَرْفِ «الفَاءِ» على الفِعْلِ لَغْواً، أما إذَا أضْمَرْنا المُبْتَدَأ، احْتَجْنَا إلى إدخال «الفَاءِ» عليه؛ ليَرْتَبِطَ بالشَّرْط فلا تَصِير «الفَاء» لَغْواً.
ويجُوزُ أن تكون «مَنْ» موصولةً، ودخلتِ الفاءُ في خبر المبتدأ، لَمَّا أشبه الشرطَ، فالفاءُ زائدةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ، ولا حاجَةَ إلى إضمارِ مبتدأ بعد الفاء؛ بخلافِ ما تقدَّمَ. قال أبو البقاء: «حَسَّنَ دُخُولَ الفاءِ كونُ فِعْلِ الشرطِ مَاضِياً لَفْظاً».

فصل


معنى الآية: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ : في الآخِرَة ﴿والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾.
واعلمْ: أنَّه إذا تَكرَّرَ من المُحْرِمِ قَتْلُ الصَّيْدِ، فيتكرر عليْه الجزاء عند عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إذا قتلَ المُحْرِمُ صَيْداً مُتَعَمِّداً، يُسألُ هل قَتَلْتَ قَبْلَها شَيْئاً من الصَّيْد؟ فإنْ قال: نَعْم، لم يُحْكَمْ عليه، ويقالُ: اذْهَبْ فينتقم اللَّهُ مِنْك.
وإنْ قال: لم أقْتُل قَبْلَهُ شَيْئاً حُكِمَ عليه [فإن عاد بعد ذلك، لم يُحْكَمْ عليه]، ولكن يُمْلأ ظَهْرُهُ وصدْرُه ضَرْباً وجيعاً، وكذلك حكم رسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صيد «وَجٍّ» - وهو وادٍ بالطَّائف -، واخْتَلَفُوا في المُحْرِمِ، هل يُجُوزُ لَهُ أَكْلُ لَحْمِ الصَّيْدِ؟
فذهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّه لا يَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ، يُرْوَى ذَلِكَ عن ابنِ عبَّاسٍ، وهو قولُ طاوُس، وبه قال سُفْيَانُ الثَّوْرِي، لما روى عبدُ الله بن عبَّاس عن الصَّعْب بن جُثَامَة اللَّيْثِيِّ: «أنَّهُ أهْدَى لرسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حِمَاراً وحْشيّاً، وهُوَ في الأبْوَاءِ أو بودان، فردَّه رسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: فلَمَّا رَأى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مَا في وَجْهِي، قال:» إنَّا لم نَرُدَّهُ عَلَيْك إلاَّ أنَّا حُرم «.
529
وذهب الأكْثَرُون إلى أنَّهُ يجُوزُ لِلْمُجْرِم أكْلُهُ، إذا لَمْ يَصْطَدْ بِنْفِسه، ولا صِيدَ لأجْلِه أو بإشَارَتِه، وهو قولُ عُمَرَ، وعُثَمَان، وأبِي هُرَيْرَةَ، وبه قالَ عَطَاء، ومُجَاهِد، وسعيدُ بنُ جُبَيْر، وهو مذهَبُ مالكٍ، والشَّافِعيِّ، وأحْمَد، وإسْحاق، وأصحاب الرَّأي، وإنَّما رَدَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصَّعبِ بن جُثَامة؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّه صِيد من أجْله.
ويدلُّ على الجوازِ، ما روى نَافِعٌ - مولى أبِي قتادة بن ربْعِيٍّ الأنْصَارِي: «أنَّه كان مع رسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتَّى إذا كان بِبَعْضِ طريقِ مَكَّةَ، تَخلَّف مع أصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِين - وهو غير مُحْرِم -، فرأى حِمَاراً وحْشياً، فاسْتَوى على فرسهِ، فسأل أصْحَابَهُ أنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطاً فَأبَوْا، فَسَألَهُمْ رُمْحَهُ فأبَوا، فأخَذه، ثُمَّ شَدَّ على الحِمَار فَقَتَلَهُ، فأكل مِنْهُ بَعْضُ أصحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأبَى بعضُهُمْ، فلمَّا أدْرَكوا رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألُوه عن ذلك فقال: إنَّما هي طُعْمَةٌ أطْعَمَكُمُوها اللَّهُ» وروى جَابِرُ بن عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ رسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَحمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الإحْرَامِ حلالٌ، مَا لم تَصِيدُوه أو يُصَاد لَكُمْ».

فصل


وإذَا أتْلَفَ المُحْرِمُ شَيْئاً من الصَّيْدِ لا مِثْلَ لهُ مِن النَّعَمِ، مثل بَيْضٍ أو طَائرٍ دُون
530
الحمامِ، ففيه قيمَتُهُ يَصرفُهَا إلى الطَّعامِ، فيتصَدَّق به، أو يَصُوم عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْماً، واخْتَلَفُوا في الجَرَادِ: فَرَخَّصَ فيه بَعْضُهُمْ، وقال: هُو صَيْد البَحْرِ، والأكثرون على تَحْرِيمهِ، وإنْ أصابَهَا فَعَليْهِ صَدَقَةٌ، قال عُمَرُ: في الجَرَادَةِ تَمْرَةٌ.
ورُوِيَ عنه، وعن ابْنِ عَبَّاس: قَبْضَة من طَعَامٍ.
531
والمرادُ بالبَحْر: جَمِيعُ المِيَاهِ، قال عُمَرٌ: صَيْدُه ما اصْطِيدَ، وجَميعُ ما يُصْطَادُ من البَحْرِ ثلاثةُ أجْنَاسٍ: الحِيتَانُ وجَمِيعُ أنْوَاعِها حلالٌ، والضَّفَادِعُ وجميع أنواعها حَرَامٌ، واختلَفُوا فيما سِوَى هَذَيْنِ.
فقال أبو حنيفة: إنَّه حَرَامٌ، وقال الأكثرُون: إنَّه حلالٌ لِعُمُومِ هذه الآيَة.
قوله: «وطعَامُهُ» : نسقٌ على «صَيْدُ»، أي: أحِلَّ لكمُ الصيدُ وطعامُهُ، فالصَّيْدُ الاصْطِيَادُ، والطَّعامُ بمعنى الإطعامِ، أي: إنه اسمُ مصدرٍ، ويُقَدَّرُ المفعولُ حينئذٍ محذوفاً، أي: إطعامُكُمْ إياه أنفسكُمْ، ويجوز أن يكون الصَّيْدُ بمعنى المَصِيد، والهاءُ في «طَعَامُهُ» تعودُ على البَحْر على هذا أي: أُحِلَّ لكُمْ مَصِيدُ البَحْرِ وطعامُ البَحْر؛ فالطعامُ على هذا غَيْرُ الصَّيْدِ وعلى هذا ففيهِ وجوهٌ:
أحسنها ما ذكرهُ أبو بَكْر الصِّدِّيق، وعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنَّ الصَّيدَ ما صِيدَ بالْحِيلَةِ حال حِيَاتِهِ - والطَّعَامُ ما رَمَى بِهِ البَحْرُ، أو نضبَ عَنْهُ المَاءُ مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ.
وقال سعيدُ بنُ جُبَيْر، وسعيدُ بنُ المُسَيِّب، ومُقَاتِلُ، والنَّخْعِي، وعِكْرِمَةُ، وقتادَةُ: صَيْدُ البَحْرِ هو الطَّرِيُّ، وطعامَهُ هُو المُمَلَّحُ مِنْهُ، وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ المملَّحُ كان طَرِيّاً وصَيْداً في أوَّلِ الأمْرِ فَيَلْزَمُ التكْرَارُ.
وأيضاً: فإنَّ الاصْطِيَادَ قد يَكُون للأكْل، وقد يَكُون لِغَيْرِه كاصْطِيَادِ الصَّدف لأجْلِ اللُّؤلُؤِ، واصْطِيَاد بَعْضِ الحيواناتِ البَحرِيَّة لأجل عِظَامِها وأسْنَانِهَا، فَحَصَل التَّغَايُر بين الاصْطِيَاد من البَحْرِ، وبين الأكْل مِنْ طعامِ البَحْر.
رُوِيَ عن ابن عبَّاس - وابن عُمَرَ، وأبي هُرَيْرَة: طَعَامُهُ ما قَذَفَهُ المَاءُ إلى السَّاحِل
531
مَيْتاً، ويجوزُ أن تعود الهاءُ على هذا الوجهِ أيضاً على الصيْدِ بمعنى المصيدِ، ويجوز أن يكون «طعام» بمعنى مَطْعُوم، ويَدُلُّ على ذلك قراءة ابن عبَّاس وعبد الله بن الحارث: «وطَعْمُهُ» بضم الميم وسكون العين.
قوله تعالى: «متاعاً لَكُمْ» في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وإليه ذهب مكي وابن عطيَّة وأبو البقاء وغيرهم، والتقدير: مَتَّعَكُمْ به متاعاً تَنْتَفِعُونَ وتَأتَدِمُونَ به، وقال مكيٌّ: لأنَّ قوله: «أُحِلَّ لَكُمْ» بمعنى أمْتَعْتُكُمْ به إمْتَاعاً؛ كقوله: ﴿كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤].
والثاني: أنه مفعول من أجله، قال الزمخشري: «أي: أحلَّ لكُمْ تمتيعاً لكم، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [الأنبياء: ٧٢] في باب الحال؛ لأنَّ قوله» مَتَاعاً لكُمْ «مفعولٌ له مختصٌّ بالطعام؛ كما أنَّ» نَافِلَةً «حالٌ مختصٌّ بيعقوب، يعني أُحِلَّ لكم طعامُه تمتيعاً لتَنَائِكُمْ تأكلونه طَرِيًّا ولسيَّارَتِكُمْ يتزوَّدونه قديداً». انتهى، فقد خصَّصَ الزمخشريّ كونه مفعولاً له بكون الفعْلِ، وهو «أُحِلَّ» مسنداً لقوله: «طَعَامهُ»، وليس علَّةً لحِلِّ الصيدِ، وإنما هو علَّةٌ لحِلِّ الطعام فقط، وإنما حملهُ على ذلك مذهبُهُ - وهو مذهبُ أبي حنيفةَ -؛ من أنَّ صيدَ البَحْرِ مُنْقَسِمٌ إلى ما يُؤكَلُ، وإلى ما لا يُؤكَلُ، وأن طعامه هو المأكُولُ منه، وأنه لا يقع التمثيلُ إلا بالمأكُول منه طريًّا وقَدِيداً، وقوله «نَافِلَةً»، يعني أنَّ هذه الحالَ مختصةٌ بيعقوبَ؛ لأنه ولدُ ولدٍ؛ بخلافِ إسحاقَ، فإنه ولدُه لصُلْبه، والنافلةُ إنما تُطْلَقُ على ولد الولدِ، دونَ الولد، فكذا «متاعاً»، إلاَّ أنَّ هذا يؤدِّي إلى أنَّ الفعل الواحدَ يُسْنَدُ لفاعلين متعاطفَيْن [يكونُ] في إسناده إلى أحدهما معلَّلاً وإلى الآخر ليْسَ كذلك، فإذا قلت: «قَامَ زَيْدٌ وعَمْرٌو إجلالاَ لَكَ»، فيجوز أن يكون «قِيَامُ زيدٍ» هو المختصَّ بالإجلال، أو بالعكْسِ، وهذا فيه إلباسٌ، وأمَّا ما أورده من الحالِ في الآية الكريمة، فَثمَّ قرينةٌ أوْجَبَتْ صرْفَ الحالِ إلى أحدهما، دون ما نحْنُ فيه من الآية الكريمة، وأمَّا غيرُ مذهبه؛ فإنه يكونُ مفعولاً له غير مختص بأحدِ المتعاطفيْنِ وهو ظاهرٌ جَلِيٌّ، و «لَكُمْ» إنْ قلنا: «مَتَاعاً» مصدرٌ، فيجوز أن يكونَ صفةً له، ويكونُ مصدراً مبيِّناً لكونه وُصِفَ، وإن قلنا: إنه مفعولٌ له، فيتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ، أي: أعني التقديرُ: لأنْ أمَتِّعَكُمْ، ولأنْ أمَتِّعَكُمْ، ولأنْ أجلَّكَ، وهكذا ما جاء من نظائره.
532

فصل


معنى «مَتَاعاً لَكُمْ» أي: منْفَعَةً لكم، وللسَّيَّارة يعني: المَارَّة، وجُمْلَةُ حيواناتِ الماءِ على قسْمَيْن: سمك، وغيره، أمَّا السَّمَكُ فَمَيْتَتُهُ حلالٌ مع اخْتِلاَف أنْوَاعِهَا، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ والجَرَادُ»، ولا فرق بين أنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ أو بِغَيْرِ سَبَبٍ.
وعِنْدَ أبي حنيفةَ: لا يحلُّ إلا أن يمُوت بِسبَبٍ من وُقوع على حَجَرٍ، أو انحِسَارِ المَاءِ عَنْهُ، ونحو ذلك.
وأمَّا غير السَّمكِ فَقِسْمَان:
قِسْمٌ يَعيشُ في البَرِّ، كالضفْدَعِ والسَّرطان، فلا يحل أكْلُهُ.
وقال مالِكٌ، وأبو مجلز، وعطاء، وسعيدُ بن جُبَيْر، وغَيْرهم: كُلُّ ما يعيشُ في البَرِّ، وله فيه حَيَاةٌ، فهو صَيْدُ البَرِّ إنْ قتلهُ المُحْرِمُ ودَاهُ، وزادَ أبو مجْلَز في ذَلِكَ الضفْدعَ، والسَّلاحِفَ، والسَّرَطَان.
وقسم يعيشُ في المَاءِ، ولا يَعِيشُ في البَرِّ إلاَّ عَيْشَ المَذْبُوح، فاخْتُلِفَ فيه، فقيل: لا يَحِلُّ شيءٌ منْهُ إلاَّ السَّمَك، وهو قولُ أبِي حَنِيفَة.
وقيل: إنَّ مَيْتَ المَاءِ كُلّها حَلالٌ، لأنَّ كُلَّهَا سَمَكٌ، وإن اخْتَلَفَتْ صورَتُهَا كالجرِيثِ، يُقَال: إنَّه حَيَّةُ المَاء، وهو على شَكْلِ الحَيَّةِ، وأكْلُهُ مُبَاح بالاتِّفَاقِ، وهو قولُ أبي بَكْرٍ، وعُمَر، وابنِ عبَّاسٍ، وزَيْدِ بن ثَابِت، وأبِي هُرَيْرَة، وبه قال شُرَيْحٌ، والحسنُ وعطاء، وهو قولُ مالكٍ، وظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافعي.
وذهبَ قومٌ إلى أنَّ ما لَهُ نظير في البرِّ يُؤكَل، فَمَيْتَتُهُ من حيوانَاتِ البَحْرِ حلالٌ، مثل بقر الماءِ ونحْوِه، وما لا يُؤكلُ نَظِيرُهُ في البرِّ لا تَحِلُّ ميْتَتُهُ من حيواناتِ البَحْر، مثل كَلْبِ المَاءِ والخِنْزِيرِ والحِمَارِ ونحْوهَا.
وقال الأوزَاعِيُّ: كلُّ شَيْءٍ عَيْشُهُ في المَاءِ فَهُوَ حلالٌ قيل: والتِّمْسَاحُ؟ قال نَعَمْ.
وقال الشِّعْبِي: لَوْ أنَّ أهْلِي أكَلُوا الضَّفَادِعَ لأطعمتهم.
وقال سُفْيانُ الثَّوْرِي: أرجو ألاَّ يَكُونَ بالسَّرَطَان بَأسٌ، وظاهِرُ الآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ أبَاحَ جَمِيعَ حَيَوانَاتِ البَحْرِ، وكذلك الحَدِيثُ، وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «هُوَ الطَّهُورُ ماؤهُ والحِلُّ مَيْتَتُهُ».
533
وقوله: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ ذكر تعالى تَحْرِيم الصَّيْدِ على المُحْرِم في ثلاثة مواضع من هذه السُّورة، وهي قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١] إلى قوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ [المائدة: ٢]، وقوله: ﴿لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ٩٥]، وقوله: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾، واتَّفَقَ المُسْلِمُون على تَحْرِيم الصَّيْدِ على المُحْرِم، وهو الحيوان الوَحْشِيُّ الذي يَحِلُّ أكلُهُ، فأمَّا ما لا يَحِلُّ أكْلُهُ، فلا يَحْرُم بالإحْرَامِ، ويَحْرُمُ أخْذُه وقَتلُهُ، ولا جَزَاء على من قَتَلَه، لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «خَمْسٌ من الدَّوَابِّ لَيْسَ على المُحْرِمِ في قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الغُرَابُ، والحدَأةُ، والعَقْرَبُ، والفَأرَةُ، والكَلْبُ العَقُورُ».
وقال - عليه السلام -: «يَقْتُلُ المُحْرِمُ السَّبُعَ العادِي».
وقال سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَة: الكَلْبُ العَقُورُ: كلُّ سَبُع يعْقر ومِثْلُه عن مَالِكٍ، وذهبَ أصْحَابُ الرَّأي إلى وُجُوبِ الجَزَاءِ في قَتْلِ ما لا يُؤكَل لَحْمُهُ، كالفَهْدِ، والنمرِ، والخِنْزِيرِ، ونحوها إلاَّ الأعيان المَذكُورة في الخَبَرِ، وقَاسُوا عليْهَا: الذِّئْبَ، ولَمْ يوجِبُوا فيه الكَفَّارَة.
فأمَّا المُتَولِّد من المأكُولِ وغيره، فَيَحْرُمُ أكْلُهُ، ويَجِبُّ فيه الجَزَاءُ؛ لأنَّ فيه جَزَاءً من الصَّيْدِ، واختَلَفُوا في الصَّيْدِ الذي يَصِيدُه الحلالُ هل يُحَرَّمُ على المُحْرِمِ؟
فقال عليٌّ، وابنُ عباسٍ، وابنُ مَسْعُود، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وطاوُسٌ: إنَّه حرامٌ على المُحْرِم بكُلِّ حالٍ، وهو قولُ الثَّوْرِي وإسْحَاق، لظاهِرِ الآية.
ورُويَ: أنَّ الحَارِثَ كان خَليفَة عُثْمَان على الطَّائِفِ، فَصَنَعَ لِعُثْمَان طَعاماً وصنع فيه الحَجَلَ: واليَعَاقِيبَ، ولُحُومَ الوُحُوشِ، فبعَثَ إلى عليٍّ بن أبي طالبٍ، فجاءه الرَّسُولُ فقال عَلِيٌّ: أطعمُونا قُوتاً حلالاً [فإنا حُرُم]، ثم قال علي: أنْشِدُ اللَّهَ من كان هَا هُنَا مِنْ أشْجَع، أتعلَمُون أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهْدَى إليه رجلٌ حِمَاراً وَحْشياً، وهو مُحْرِمٌ فأبَى أن يأكُلَهُ، فَقَالُوا: نعم.
534
وقال الشَّافِعِيُّ: لَحْمُ الصَّيدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِم بِشَرْط ألاَّ يَصْطَادَهُ المُحْرِم، ولا يُصْطَادُ لَهُ، كقوله - عليه السلام -: «صَيْدُ البَرِّ لَكُم حلالٌ مَا لَمْ تصيدُوهُ أوْ يُصَاد لَكُم».
وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «إذا صِيْدَ للمُحْرِمِ بغير إعانتهِ وإشارته حَلَّ له؛ لأنَّ أبا قتادةَ اصْطَاد حِمَاراً وحشيّاً، وهو حَلاَلٌ في أصحابِ مُحْرِمينَ، فَسَألُوا رسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: فيكم أحَدٌ أَمَر أن يحْمِل عَلَيْهَا أو أشَارَ إلَيْهَا، قالوا: لا. قال: فَكُلُوا ما بَقِي مِنْ لَحْمِهَا».
وفي رِوَايَةٍ: «هَلْ بَقِي مَعَكُم منه شَيءٌ؟» قالوا: نَعَمْ، فَنَاولْتُهُ العَضُدَ فأكَلَهَا «، وهذا يَدُلُّ على تَخْصِيصِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ.
قوله: ﴿مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ »
ما «مصدريةٌ، و» دمتم «صلتها وهي مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: حُرِّم عليكم صيدُ البر مدةَ دوامِكم مُحْرمين. والجمهور على ضمِّ دال» دمتم «من لغة من قال: دام يدوم. وقرأ يحيى:» دِمتم «بكسرها من لغة من يقول: دام يدام كخاف يخاف، وهما كاللغتين في مات يموتُ ويمات، وقد تقدَّم [الآية ٥٧ آل عمران]. والجمهورُ على» وحُرِّم «مبنياً للمفعول،» صيدُ «رفعاً على قيامه مقام الفاعل، وقرئ:» وحَرَّم «مبنياً للفاعل،» صيدَ «نصباً على المفعول به. والجمهورُ أيضاً على» حُرُماً «بضم الحاء والراء جمعُ» حَرام «بمعنى مُحْرِم ك» قَذَال «و» قُذُل «. وقرأ ابن عباس» حَرَماً «بفتحهما، أي: ذوي حَرَم أي إحرام، وقيل: جعلهم بمنزلة المكان الممنوع منه، والأحسنُ أن يكون من باب» رجل عدل «جعلهم نفسَ المصدرِ فإنَّ» حَرَما «بمعنى إحرام، وتقدم أن المصدر يقع للواحدِ فما فوقُ بلفظٍ واحد. والبَرُّ معروفٌ، قال الليث:» ويستعمل نكرة يقال: جلست بَرَّا، وخرجْتُ برًّا «. قال الأزهري:» وهو من كلام المولدين «وفيه نظر لقول سلمان الفارسي:» إنَّ لكلِّ امرئ جَوَّانِيًّا وبَرَّانياً «أي باطنٌ وظاهرٌ، وهو من تغيير النسب، وقد تقدم استيفاء هذه المادة في البقرة [الآية ٤٤] ثمَّ قال: ﴿واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ والمقصُودُ مِنْهُ التَّهْديدُ، ليكون المَرْءُ موَاظِباً على الطَّاعَة مُحْتَرِزاً عن المَعْصِيَة وقدَّم» إليه «على» تُحْشرون «للاختصاص أي: تُحشرون إليه لا إلى غيره، أو لتناسُبِ رؤوس الآي.
535
لمَّا حرَّم الله تعالى الاصْطِيَاد على المُحْرِمين، وبيَّن أنَّ الإحْرَام سَبَب لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر، بيَّن هاهُنَا أنَّ ذلِكَ التَّحْرِيم الذي حَرَّمَهُ الإحرام؛ إنَّما سببُه حُرْمَة هذا البيت الحرامِ، فكما أنَّه سَبَبٌ لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر، فكذلك هُوَ سَبَبٌ لأمْن النَّاسِ عن الآفات والمخافات.
قوله: «جَعَلَ اللَّهُ» : فيها وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى «صَيَّرَ» فتتعدَّى لاثنين، أولهما «الكَعْبَة» والثاني «قِيَاماً».
والثاني: أن تكون بمعنى «خَلَقَ»، فتتعدَّى لواحد، وهو «الكَعْبَة»، و «قِياماً» نصبٌ على الحال، وقال بعضُهُمْ: إنَّ «جَعَلَ» هنا بمعنى «بَيَّنَ» و «حَكَمَ»، وهذا ينبغي أن يُحْمَلَ على تَفْسير المعنى لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية؛ أنها تكونُ بمعنى «بَيَّنَ» ولا «حَكَمَ»، ولكن يلزمُ من الجَعْلِ البيانُ، وأمَّا «البَيْتَ»، فانتصابُه على أحد وجهين: إما البدلِ، وإما عطفِ البيان، وفائدةُ ذلك: أن بعض الجاهليَّة - وهم خَثْعَم - سَمَّوْا بيتاً الكعبة اليمانية، فجيء بهذا البدلِ، أو البيانِ، تبييناً له من غيره، وقال الزمخشريُّ: «البَيْتَ الحَرَامَ» عطف بيانٍ على جهة المدحِ، لا على جهة التوضيحِ؛ كما تجيء الصفةُ كذلك «، واعترض عليه أبو حيان بأن شرط البيانِ الجمودُ، والجمودُ لا يُشْعِرُ بمَدْحٍ، وإنما يُشْعِرُ به المشتقُّ، ثم قال:» إلاَّ أنْ يُريد أنه لَمَّا وُصِفَ البيْتُ بالحرامِ اقْتَضَى المجموعُ ذلك فيمكنُ «.
والكَعْبَةُ لغةً: كلُّ بيْتٍ مربَّعٍ، وسُمِّيَت الكعبةُ كَعْبَةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكعبِ الذي هو أحَدُ أعضاءِ الآدميِّ، قال الراغب:»
كَعْبُ الرَّجُلِ «العَظْم الذي عند مُلْتَقى الساق والقَدَم، والكَعْبةُ كُلُّ بَيْتٍ على هَيْئَتِهَا في التَّرْبِيع، والعربُ تُسَمِّي كلَّ بَيْت مُرَبَّع كَعْبةً؛ لانفرادها من البِنَاءِ.
وقيل: سُمِّيَت كَعْبَةً لارتفَاعِهَا من الأرْض، وأصْلُها من الخُرُوج والارتِفَاع، وسُمِّيَ الكعبُ لِنُتُوئِهِ، وخُرُوجه من جَانِبي القَدم، ومنه قِيلَ لِلْجَارية إذا قاربتِ البُلُوغَ وخَرَجَ ثَدْياهَا تكعَّبَتْ والكعبة لمَّا ارتفع ذِكْرُها سُمِّيَتْ بهذا الاسْم، ويقولون لِمَنْ عَظُمَ أمْرُه»
فلانٌ عَلاَ كَعْبُهُ «وذُو الكعبات: بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة، وتقدَّم الكلام في هذه المادةِ أول السورة [آية ٦].
536

فصل


قَالُوا: بُنِيَتِ الكَعْبةُ الكَريمَةُ خَمْسَ مَرَّاتٍ:
الأولى: بناءُ الملائِكَة قبلَ آدَمَ - عليه السلام -.
والثانية: بِنَاءُ إبراهيم - عليه السلام -.
والثالثة: بناءُ قُرَيْشٍ في الجاهليَّة، وحضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا البِنَاء.
والرابعة: بناءُ ابنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
والخامسة: بناءُ الحَجَّاج وهو البِنَاءُ الموجُودُ اليَوْمَ، وهكذا كانَتْ في زمَنِ الرَّسُولِ - عليه السلام - قال المارودي في» الأحْكَام السُّلطَانِيَّة «: كانت الكَعْبَةُ بَعْدَ إبراهيم - عليه السلام - مع» جُرْهُم «والعمَالِقَة إلى أن انْقَرَضُوا، وخلفتهم فيها قريشُ بعد استيلائِهِم على الحَرَمِ لِكَثْرتِهِم بعد القِلَّةِ، وعِزهِم بَعْدَ الذِّلَّةِ، فكان أوَّلُ من جَدَّدَ بِنَاءَ الكَعْبَةِ بعد إبْراهيمَ - عليه السلام - قُصَيّ بن كِلاَب، وسَقَّفَها بخَشَبِ الدومِ وجريد النَّخْل، ثُمَّ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ بَعْدَهُ، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابنُ خمْسٍ وعشرين سَنَةً، وشَهِدَ بِنَاءَهَا، وكان بابُها بالأرْض، فقال أبُو حُذَيْفَة بنُ المُغِيرة: يا قَوْمُ، ارفعُوا باب الكَعْبَةِ حتَّى لا يَدْخُلَ [أحدٌ] إلاَّ بسُلَّمِ، فإنَّه لا يدخلها حينئذٍ الآنَ إلاَّ ما أَرَدْتُمْ، فإن جاء أحَدٌ ممن تَكْرَهُون، رَمَيْتُم به فَسَقَطَ، وصار نكالاً لمن يَرَاهُ، ففعلت قُرَيْشُ ذلك، وكان سببُ بِنَائها أنَّ الكَعْبَة استُهْدِمَتْ وكانَتْ فَوْقَ القَامَةِ، فأرَادُوا تَعْلِيَتَهَا.
قوله: «قِياماً»
[قراءة الجمهورُ بألفٍ بعد الياء، وابنُ عامرٍ: «قِيَماً» دون ألف بزنة «عِنَبٍ»، والقيامُ هنا يحتملُ أن يكون مصدراً ل «قَامَ - يَقُومُ»، والمعنى: أنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكعبةَ سَبَباً لقيام النَّاسِ إليها، أي: لزيارتها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهِمْ ودُنْيَاهُمْ، فيها يَقُومُونَ، ويجوزُ أنْ يكونَ القيامُ بمعنى القوامِ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لانكسارِ ما قبلها، كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ إذ لا موجبَ لإعلاله؛ إذ هو: «السِّوَاكِ»، فينبغي أن يقال: إنَّ القيامَ والقوامَ بمعنًى واحدٍ؛ قال: [الرجز]
٢٠٥٤ - قِوَامُ دُنْيَا وقِوَامُ دِينِ... فأمَّا إذا دخلها تاءُ التأنيث، لَزِمَتِ الياءُ؛ نحو: «القِيَامَة»، وأمَّا قراءةُ ابن عامر، فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أنْ يكون مصدراً على فعلٍ، وإما أن يكون على
537
فعالٍ، فإن كان الأوَّل، فينبغي أن تصِحُّ الواوُ ك «حِوَلٍ» و «عوَرٍ»، وإن كان الثاني، فالقصر لا يأتي إلا في شِعْرٍ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ: «قَيِّماً» بتشديد الياء، وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أوَّلَ النساء [الآية ٥]].

فصل في معنى الآية


معنى كونه قِيَاماً للنَّاسِ أي: سَبَبٌ لقوَامِ مصالِح النَّاسِ في أمر دينهم ودُنيَاهم أمَّا الدِّين؛ فلأنَّ به يقوم الحَجُّ والمَنَاسِكُ، وأمَّا الدُّنْيَا: فبما يُجْبَى إليه من الثَّمَرَات، وكانوا يَأمَنُونُ فيه من النَّهْبِ والغَارَةِ، فلا يتعرَّضُ لهم أحَدٌ من الحرمِ، فكأنَّ أهلَ الحرمِ آمِنين على أنْفُسِهِم وأمْوَالِهِم، حتَّى لو لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِل أبيه وابنِهِ لم يتعرَّضْ لَهُ، ولو جَنَى الرَّجُلُ أعظم الجِنَايَاتِ ثُمَّ التَجَأ إلى الحَرَمِ، لُمْ يُتعَرَّضْ له، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧].
والمرادُ بقوله: «قِيَاماً للنَّاس» أي: لِبَعْضِ النَّاسِ وهم العرب، وإنَّما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ أهْلَ كلِّ بَلَدٍ إذا قالُوا: النَّاسُ فَعَلُوا [وصنعُوا] كذا «، فهُم لا يُرِيدُون إلاَّ أهْلَ بلدِهمْ، فلهَذَا السَّبَب خُوطِبُوا بهذا الخطاب على وفقِ عادَتِهِم.
قوله: ﴿والشهر الحرام والهدي والقلائد﴾ عطف على «الكَعْبَة»
، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ، لفهم المعنى، أي: جعل الله أيضاً الشَّهْرَ والهَدْيَ والقلائِدَ قِيَاماً.
واعلم: أنَّه تعالى جعل هذه الأرْبَعَةَ أشْيَاء أسْبَاباً لِقِيام النَّاسِ وقوامِهِم، فأحَدُهَا: الكَعْبَةُ كما تقدَّم بيَانُهُ. وثانيها: الشَّهْرُ الحرامُ، ومعنى كونه سَبَباً لِقيامِ النَّاسِ: هو أنَّ العرب كان يَقْتُلُ بعضهم بعضاً، ويُغِير بعضُهُمْ على بعضٍ في سائرِ الأشْهُرِ، فإذا دخلَ الشَّهْرُ الحرامُ زال الخَوْفُ، وسافَرُوا للتِّجاراتِ، وأمِنُوا على أنْفُسِهِمْ وأمْوَالِهِم، وحَصَّلوا في الشَّهْرِ الحرامِ قُوتَهُمْ طُول السَّنةِ، فلولا الشَّهْرُ الحرام لفَنَوْا وهَلَكُوا من الجُوعِ والشِّدَّةِ، فكان الشَّهْرُ الحَرَامُ سَبَباً لِقوَامِ مَعيشَتِهِمْ.
والمُرادُ بالشَّهْرِ الحرامِ: الأشْهُرُ الحُرُمُ وهي: ذُو القعْدَةِ وذُو الحِجَّة ورَجَب.
وثالثها: الهَدْيُ، ومعنى كونه سَبَباً لقيام النَّاس: لأنَّ الهدْيَ ما يُهْدَى إلى البيتِ، ويُذْبَحُ هُناكَ ويُفَرَّقُ لَحْمُهُ على الفُقَراءِ فيكُونُ ذلِكَ نُسُكاً للمهدي، وقواماً لمعيشَة الفُقراء.
ورابعها: القلائِدُ، ومعنى كونها قواماً للناس: أنَّ من قصدَ البَيْتَ في الشَّهْرِ الحرامِ أوْ فِي غيرِ الشَّهْرِ الحرامِ، معه هديٌ قد قلَّدَه، وقلَّدَ نَفْسَهُ من لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ، لم يتعرَّضْ لَهُ أحَدٌ، حتَّى إنَّ أحَداً من العرب يلقَى الهديَ مُقلَّداً، وهو يموتُ من الجُوعِ فلا
538
يتعرَّضُ له ألْبتَّةَ، ولم يتعرَّضْ لها صاحِبُها أيضاً، وكلُّ ذلِكَ إنَّما كان؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أوْقَعَ في قُلُوبِهم تَعْظيمَ البيْتِ الحَرَامِ.

فصل


قال القُرْطُبِي: ذكر العُلمَاءُ في جعل اللَّه تعالى هذه الأشياء قِيَاماً للناس، أنَّ اللَّه تعالى خلق الخَلْقَ على سَليقَةِ الآدَميِّين، من التَّحَاسُدِ، والتَّنَافُرِ، والتَّقَاطُعِ، والتدابر، والسَّلْبِ، والغَارَةِ، والقَتْل، والثَّأرِ، فلم يكن بُدٌّ في الحِكْمَة الإلهيَّة أنْ يكُونَ مع الحالِ وازعٌ يُحْمَد معهُ المآلُ، فقال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] فأمرهُم الله تعالى بالخلافَةِ، وجعل أمُورهُمْ إلى واحدٍ يَمْنَعُهُم من التَّنَاوشِ، ويَحْملُهُم على التَّآلُف من التَّقَاطُعِ، وردِّ المظالِمِ عن المَظْلُومِ، ويقَرِّر كلَّ يدٍ على ما تَسْتَوْلي عليه.
واعلم: أنَّ جوْرَ السُّلطان عام واحِدٌ أقَلُّ أذاه كونُ النَّاسِ فَوْضَى لحظَةً واحدة، فأنْشَأ اللَّهُ تعالى الخَليقَةَ لهذه الفَائِدَة، لتجرِيَ على رأيه الأمُور، ويَكُف اللَّهُ تعالى به عاديَة الأمُورِ فعظَّم اللَّهُ تعالى في قُلُوبِهِم البَيْتَ الحرامَ، [وأوقع في قُلُوبهم هَيْبَتَه] وعظَّم بينهم حُرْمَتَهُ، فكان من لجأ إليه مَعْصُوماً قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧].
قوله «ذَلِكَ» فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: الحُكْمُ الذي حكمْنَاهُ ذلك لا غيرُه.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره.
الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها؛ لتعلُّقِ لام العلَّة به، و «تَعْلَموا» منصوبٌ بإضمار «أنْ» بعد لام كَيْ، لا بها، و «أنَّ اللَّه» وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولينِ أو أحدهما على حسبِ الخلافِ المتقدِّم، و ﴿وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ نسقٌ على «أنَّ» قبلها.
فإن قيل: أيُّ اتِّصَالٍ لهذا الكلامِ بمَا قَبْلَهُ.
قيل: لمَّا عَلِمَ في الأزَل أنَّ مُقْتَضَى طِبَاعِ العَرَب الحرص الشَّديد على القَتْلِ والغارَةِ، وعلمَ أنَّ هذه الحالة لو دَامَتْ بهم، لَعَجَزُوا عن تَحْصيلِ ما يَحْتَاجُونَ إليه، وأدَّى ذلك إلى فَنَائِهِم وانْقِطَاعِهِم بالكُلِّيَّة، دَبَّرَ في ذلك تَدْبِيراً لَطِيفاً، وهو أنَّه تعالى ألْقى في قُلُوبِهمْ تَعْظيمَ البَيْتِ الحَرَامِ وتَعْظِيمَ مَنَاسِكهِ، فصار ذلك سبباً لحصُول الأمْن في البلدِ
539
الحرامِ وفي الشَّهْر الحرام، فلمَّا حصل الأمْنُ في هذا المكانِ، وفي هذا الزَّمَانِ، قَدَروا على تَحْصِيلِ ما يَحْتَاجُون إليه في هذا المكانِ، فاسْتَقَامَتْ مصالح مَعَايِشهم، وهذا التَّدْبِيرُ لا يُمكن إلاَّ إذا كان في الأزَلِ عالماً بِجَمِيع المعلُومَاتِ من الكُلِّيَّاتِ والجُزْئِيَّاتِ، وأنَّهُ بِكُلِّ شَيء عليم.
وقيل في الجوابِ: أنَّ الله جعل الكَعْبَة قياماً للنَّاسِ، لأنَّه يَعْلَمُ صلاح العِبَاد، كما يَعْلَمُ ما في السَّماءِ وما في الأرْضِ.
وقال الزَّجَّاج: وقد سبق في هذ السُّورةِ الإخْبَارُ عن الغُيُوبِ، والكَشْف عن الأسْرَارِ، مثل قوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [المائدة: ٤١]، ومثلُ إخبارِهِ بِتَحْرِيفِهم الكُتُبَ فقوله ذلك ليَعْلَمُوا أنَّ اللَّه يعلمُ ما في السَّموات وما في الأرْض راجِعٌ إليه.
وقوله تعالى: ﴿اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، لمَّا ذكر تعالى أنواع رَحْمَتِه لعبادِه، ذكر بَعْدَهُ شِدَّة العقابِ؛ لأنَّ الإيمان لا يَتِمٌُّ إلا بالرَّجَاء والخَوْفِ.
قال - عليه السلام -: «لو وُزِنَ المُؤمِنِ ورَجَاؤُهُ لاعتدَلاَ»، ثُمَّ ذكر بعدهُ ما يَدُلُّ على الرَّحْمَةِ، وهو كونُهُ غَفُوراً رَحِيماً، وهذا يَدُلُّ على أنَّ جانبَ الرَّحْمَةِ أغْلَبُ؛ لأنَّهُ تعالى ذكر فيما قَبْلُ أنْواع رَحْمَتِهِ وكرمِهِ، ثُمَّ ذكرَ أنَّه شَدِيدُ العِقَابِ، ثُمَّ ذكر عَقِيبَهُ وصْفَيْنِ من أوْصَافِ الرحمةِ، وهُوَ كَوْنُهُ غَفُوراً رحيماً، وهذا يَدُلُّ على تَغْلِيبِ جانبِ الرَّحمَةِ على جَانِب العذابِ.
قوله تعالى: ﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ لما قدَّم التَّرْغيبَ والتَّرْهيبَ بقوله: ﴿أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، أتبعه بذِكْرِ التَّكْليفِ، فقال تعالى: ﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ يَعْنِي: أنَّهُ مُكَلَّفٌ بالتَّبليغِ، فلما بلَّغ خرجَ عن العُهْدَةِ، وبَقِيَ الأمْرُ من جانِبِنَا، وإذا عَلِمَ بما تُبْدُونَ وما تَكْتُمُونَ فإن خَالَفْتُمْ، فاعلموا أنَّ اللَّهَ شديدُ العقاب، وإنْ أطَعْتُمْ فاعلمُوا أنَّ اللَّه غفورٌ رحيمٌ.
قوله: «إلاَّ البلاغُ» : في رفعه وجهان:
أحدهما: أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النفي، أي: ما استقرَّ على الرَّسُول إلا البلاغُ.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وعلى التقديرين، فالاستثناء مفرَّغٌ.
والبلاغُ يُحْتَمَلُ أن يكون مصدراً [ل «بَلَّغَ» مشدَّداً، أي: ما عليه إلا التبليغُ، فجاء على حذفِ الزوائدِ، ك «نَبَات» بعد «أنْبَتَ»، ويحتمل أن يكون مصدراً] ل «بَلَغَ» مُخَفَّفاً
540
بمعنى البُلُوغ، ويكون المعنى: ما عليه إلا البُلُوغُ بتبليغه، فالبلوغُ مُسْتلزمٌ للتبليغِ، فعبَّر باللاَّزمِ عن الملزوم.
قوله تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب﴾ لمَّا رغَّب - سبحانه وتعالى - في الطَّاعةِ، والتَّنَزُّهِ عن المَعْصِيَةِ بقوله: ﴿اعْلَمُواْ أَنَّ اللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ثمَّ أتْبَعَهُ بالتَّكليفِ بقوله تعالى: ﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾، أتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَر من التَّرْغيبِ في الطَّاعَةِ وتَرْكِ المعْصِيَةِ، فقال: ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب﴾.
قال المُفَسِّرُون: أي: الحَلالُ والحرَامُ.
وقال السدِّيُّ: المُؤمِنُ والكَافِرُ، وقيل: المُطِيع والعَاصِي، وقيل: الرَّدِيءُ والجيِّد.
قال القرطبي: وهذا على ضَرْبِ المثال، والصَّحِيحُ أنَّهُ عَامٌّ، فيتَصَوَّر في المكاسبِ، والأعمالِ، والنَّاس، والمعارف من العُلُومِ وغيْرِها، فالخَبِيثُ [من هذا كُله لا يُفلح ولا يُنجِبُ، ولا تَحْسن له عَاقِبةٌ] وإنْ كثُرَ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ نافعٌ.
[قوله تعالى] :﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث﴾.
نزلت في شُرَيْج بن ضُبَيْعَة البَكْري، وحجَّاجِ بن بكرِ بن وائل، «فاتَّقُوا اللَّه» ولا تتعرَّضُوا للحجَّاج وإنْ كانُوا مُشرِكِين، وقد مَضَتِ القِصَّةُ أوَّلَ السُّورَة ﴿ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وجواب ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ﴾ : محذوفٌ، أي: ولو أعْجبكَ كَثْرةُ الخبيثِ، لَما استوى مع الطَّيِّبِ، أو: لما أجْدَى شيئاً في المساواة.
541
وقوله تعالى :﴿ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، لمَّا ذكر تعالى أنواع رَحْمَتِه لعبادِه، ذكر بَعْدَهُ شِدَّة العقابِ ؛ لأنَّ الإيمان لا يَتِمُّ إلا بالرَّجَاء والخَوْفِ.
قال - عليه السلام - :" لو وُزِنَ المُؤمِنِ ورَجَاؤهُ لاعتدَلاَ " ١، ثُمَّ ذكر بعدهُ ما يَدُلُّ على الرَّحْمَةِ، وهو كونُهُ غَفُوراً رَحِيماً، وهذا يَدُلُّ على أنَّ جانبَ الرَّحْمَةِ أغْلَبُ ؛ لأنَّهُ تعالى ذكر فيما قَبْلُ أنْواع رَحْمَتِهِ وكرمِهِ، ثُمَّ ذكرَ أنَّه شَدِيدُ العِقَابِ، ثُمَّ ذكر عَقِيبَهُ وصْفَيْنِ من أوْصَافِ الرحمةِ، وهُوَ كَوْنُهُ غَفُوراً رحيماً، وهذا يَدُلُّ على تَغْلِيبِ جانبِ الرَّحمَةِ على جَانِب العذابِ.
١ تقدم..
قوله تعالى :﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾ لما قدَّم التَّرْغيبَ والتَّرْهيبَ بقوله :﴿ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، أتبعه بذِكْرِ التَّكْليفِ، فقال تعالى :﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾ يَعْنِي : أنَّهُ مُكَلَّفٌ بالتَّبليغِ، فلما بلَّغ خرجَ عن العُهْدَةِ، وبَقِيَ الأمْرُ من جانِبِنَا، وإذا عَلِمَ بما تُبْدُونَ وما تَكْتُمُونَ فإن خَالَفْتُمْ، فاعلموا أنَّ اللَّهَ شديدُ العقاب، وإنْ أطَعْتُمْ فاعلمُوا أنَّ اللَّه غفورٌ رحيمٌ.
قوله :" إلاَّ البلاغُ " : في رفعه وجهان :
أحدهما : أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله ؛ لاعتماده على النفي، أي : ما استقرَّ على الرَّسُول إلا البلاغُ.
والثاني : أنه مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وعلى التقديرين، فالاستثناء مفرَّغٌ.
والبلاغُ يُحْتَمَلُ أن يكون مصدراً [ ل " بَلَّغَ " مشدَّداً، أي : ما عليه إلا التبليغُ، فجاء على حذفِ الزوائدِ، ك " نَبَات " بعد " أنْبَتَ "، ويحتمل أن يكون مصدراً ] ل " بَلَغَ " مُخَفَّفاً بمعنى البُلُوغ، ويكون المعنى : ما عليه إلا البُلُوغُ بتبليغه، فالبلوغُ مُسْتلزمٌ للتبليغِ، فعبَّر باللاَّزمِ عن الملزوم.
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ﴾ لمَّا رغَّب - سبحانه وتعالى - في الطَّاعةِ، والتَّنَزُّهِ عن المَعْصِيَةِ بقوله :﴿ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، ثمَّ أتْبَعَهُ بالتَّكليفِ بقوله تعالى :﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾ ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾، أتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَر من التَّرْغيبِ في الطَّاعَةِ وتَرْكِ المعْصِيَةِ، فقال :﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ﴾.
قال المُفَسِّرُون١ : أي : الحَلالُ والحرَامُ.
وقال السدِّيُّ : المُؤمِنُ والكَافِرُ٢، وقيل : المُطِيع والعَاصِي، وقيل : الرَّدِيءُ والجيِّد.
قال القرطبي٣ : وهذا على ضَرْبِ المثال، والصَّحِيحُ أنَّهُ عَامٌّ، فيتَصَوَّر في المكاسبِ، والأعمالِ، والنَّاس، والمعارف من العُلُوم وغيْرِها، فالخَبِيثُ [ من هذا كُله لا يُفلح ولا يُنجِبُ، ولا تَحْسن له عَاقِبةٌ ]٤ وإنْ كثُرَ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ نافعٌ.
[ قوله تعالى ]٥ :﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾.
نزلت في شُرَيْج بن ضُبَيْعَة البَكْري، وحجَّاجِ بن بكرِ بن وائل، " فاتَّقُوا اللَّه " ولا تتعرَّضُوا للحجَّاج وإنْ كانُوا مُشرِكِين، وقد مَضَتِ القِصَّةُ أوَّلَ السُّورَة ﴿ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ وجواب ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ﴾ : محذوفٌ، أي : ولو أعْجبكَ كَثْرةُ الخبيثِ، لَما استوى مع الطَّيِّبِ، أو : لما أجْدَى شيئاً في المساواة.
١ ينظر: تفسير القرطبي ٦/٢١١..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٥/٨١)عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٢/٥٩٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٣ ينظر: تفسير القرطبي ٦/٢١١..
٤ في أ: ما يقع فيه..
٥ سقط في أ..
في اتِّصال [هذه الآية] بما قَبْلَها وجوه:
أحدها: أنَّه تعالى لمَّا قال ﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ [المائدة: ٩٩] كأنَّه قال: ما بلَّغَهُ الرَّسُول إلَيْكُم، فَخُذُوهُ وكونوا مُنْقَادِين لَهُ، وما لم يُبَلِّغْهُ إليكم، فلا تسْألوا عنه، ولا تخُوضُوا فيه، فإنَّكُم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عَلَيْكم، فربَّما جَاءَكُمْ بسبب ذلك الخَوْضِ من التَّكْلِيف ما يَثْقُل عليْكم ويَشُقُّ.
541
وثانيها: أنَّه تعالى لما قال ﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ [المائدة: ٩٩] وهذا ادعَاءٌ منهُ للرِّسالةِ، ثُمَّ الكُفَّار كانوا يُطالِبُونَهُ بعدَ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ بمُعْجِزاتٍ أُخَر على سبيلِ التَّعَنُّتِ، كما حَكَى عَنْهُم قولهمُ: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾ [الإسراء: ٩٠]، إلى قوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٣]، والمعنى: أنِّي رسولٌ أمِرْتُ بتبْليغِ الشَّرائِعِ والأحْكَام إلَيْكُم، واللَّه تعالى قد أقامَ الدلالة على صِحَّةِ دعْوَى الرِّسالة بإظْهَارِ أنواعٍ كثيرةٍ من المُعْجِزَات، وطلبُ الزِّيادة بَعْدَ ذلك من بابِ التَّعَنُّتِ، وذلك لَيْس في وُسْعِي، ولعلَّ إظْهَارَها يوجبُ ما يَسُوؤكُم، مثل أنَّها لو ظَهَرَتْ فكُلُّ من خالفَ بعد ذلك، اسْتَوْجَبَ العِقَابَ في الدُّنيا، ثُمَّ إنَّ المُسْلِمِينَ لمَّا سَمِعُوا مُطالبَةَ الكُفَّار للرَّسُولِ بهذه المُعْجِزَات، وقع في قُلوبِهِم مَيْلٌ إلى ظُهُورها، فَعَرفُوا في هذه الآية أنَّهم لا يَنْبَغِي أن يُطالِبُوا ذلك، فربما كان ظُهُورها يُوجبُ ما يَسُوؤهُم.
وثالثها: أنَّ هذا مُتَّصِلٌ بقوله: ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ [المائدة: ٩٩]، فاتركُوا الأمُورَ على ظَوَاهِرِهَا، ولا تَسْألُوا عن أحْوال مُخِيفَةٍ إنْ تُبْدَ لَكُم تَسُؤكُمْ.
قوله تعالى: «عَنْ أشْيَاءَ» : متعلق ب «تَسْألُوا». واختلف النحويُّون في «أشْيَاء» على خمسة مذاهب:
أحدها - وهو رأي الخليل وسيبويه والمازنيِّ وجمهور البصريين -: أنها اسمُ جمعٍ من لفظ «شَيْء»، فهي مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنًى؛ ك «طَرْفَاء»، و «قَصْبَاء»، وأصلها: «شَيْئاًء» بهمزتين بينهما ألفٌ، ووزنها فعلاء؛ ك «طَرْفَاء»، فاستثقلوا اجتماع همزتين بينهما ألفٌ، لا سيما وقد سبقها حرفُ علَّة، وهي الياءُ، وكَثُر دورُ هذه اللفظةِ في لسانهم، فقلبوا الكلمةَ بأنْ قَدَّمُوا لامَها، وهي الهمزةُ الأولى على فائها، وهي الشين؛ فقالوا «أشْيَاء» فصارَ وزنُها «لَفْعَاء»، ومُنِعَتْ من الصرف؛ لألف التأنيث الممدودة، ورُجِّح هذا المذهبُ بأنه لم يلزمْ منه شيءٌ غيرُ القَلْب، والقلبُ في لسانهم كثيرٌ ك «الجَاهِ، والحَادِي، والقسيِّ، وناءَ، وآدُرٍ، وآرَامٍ، وضِئَاء في قراءة قُنْبُل، وأيِسَ»، والأصل: «وَجهٌ، وواحِدٌ، وقُووسٌ، ونَأى، وأدْوُرٌ، وأرَامٌ، وضِيَاء، ويَئِسَ»، واعترضَ بعضُهم على هذا بأن القلْبَ على خلافِ الأصْلِ، وأنه لم يَرِدْ إلا ضرورةً، أو في قليلٍ من الكلام، وهذا مردودٌ بما قدَّمْتُه من الأمثلةِ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مُطَّردٍ؛ وأما الشاذُّ القليلُ، فنحو قولهم: «رَعَمْلِي» في «لَعَمْرِي»، و «شَوَاعِي» في «شَوَائع» ؛ قال: [الكامل]
542
[يريد شَوَائِع].
وأمَّا المذاهبُ الآتية، فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ، هذا المذهبُ سالمٌ منها؛ فلذلك اعتبره الجُمْهُور دون غيره.
وقال ابنُ الخطيبِ: منعَ الصَّرْفُ لثلاثة أوجهٍ:
أحدها: ما تقدَّم، وهو أنَّ هذه الكلمةَ لمَّا كانَتْ في الأصْلِ على وزن «فَعْلاء» مثل «حَمْرَاء»، فلم يتَصَرَّفْ كَحَمْرَاء.
وثانيها: لمَّا كانَتْ في الأصْل «شيآء»، ثُمَّ جُعِلَت أشْيَاء مَنَعَ ذَلِكَ الصَّرْف.
وثالثها: أنَّا لمَّا قَطَعْنَا الحَرْفَ الأخِيرَ منهُ، وجَعَلْنَاهُ أوَّلَه، والكَلِمَةُ إذا قُطِع منها الحرْفُ الأخيرُ صارت كنصْفِ كَلِمَة، ونِصْفُ الكلمةِ لا تَقْبَلُ الإعراب، ومن حيث إنَّ ذلك الحَرْفَ الذي قَطَعْنَاهُ، لم نحذِفْهُ بالكُلِّيَّة، بل ألصَقْنَاهُ بأوَّلِ الكَلِمَةِ، فَكَأنَّها بَاقِيَةٌ بِتَمامِهَا، فلا جرم مَنْعْنَاهُ في بَعْضِ وُجُوه الإعراب دون البَعْض.
الثاني - وبه قال الفراء -: أن «أشْيَاء» جمع ل «شَيْء»، والأصل في «شَيْء» :«شَيِّئ» على «فَيْعِلٍ» ك «لَيِّن»، ثم خُفِّفَ إلى «شَيْء» ؛ كما خففوا لَيناً، وهَيِّناً، وميِّتاً إلى لَيْنٍ، وهيْنٍ، وميْتٍ، ثم جمعه بعد تخفيفه، وأصله «أشْيِئَاء» بهمزتين بينهما ألفٌ بعد ياءٍ بزنة «أفْعِلاء»، فاجتمع همزتان: لامُ الكلمة والتي للتأنيث، والألف تشبهُ الهمزة والجَمْعُ ثقيلٌ، فخَفَّفُوا الكلمة؛ بأن قلبوا الهمزة الأولى ياءً؛ لانكسار ما قبلها، فيجتمع ياءان، أولاهما مكسورةٌ، فحذفوا الياء التي هي عينُ الكلمة تخفيفاً، فصارت «أشْيَاء»، ووزنها الآن بعد الحذف «أفْلاء» فمَنْعُ الصرف؛ لأجْلِ ألفِ التأنيثِ، وهذه طريقةُ بعضهم في تَصْريف هذا المذهب؛ كمكي بن ابي طالب، وقال بعضهم كأبي البقاء: لمَّا صارت إلى أشْيِئَاء، حُذِفَتِ الهمزة الثانيةُ التي هي لام الكلمة؛ لأنَّها بها حصل الثِّقَلُ، وفُتِحَتِ الياءُ المكسورةُ؛ لتسلمَ ألف الجَمْعِ، فصار وزنُها: أفْعَاء.
المذهب الثالث - وبه قال الأخفش -: أنَّ أشْياء جمعُ «شَيْءٍ» [بزنة فَلْسٍ، أي: ليس مخفَّفاً من «شَيِّئ»، كما يقوله الفرَّاء، بل جمع «شَيْء» ]، وقال: إنَّ فَعْلاً يجمعُ على أفْعِلاَء، فصار أشْيِئَاء بهمزتَيْنِ بينهما ألفٌ بعد ياء، ثم عُمِلَ فيه ما عُمِلَ في مذْهَب الفرَّاء، والطريقانِ المذْكُوران عن مَكِّيٍّ وأبي البقاء في تصريف هذا المذهب جاريان هنا، وأكثر المصنِّفين يذكرون مذهب الفرَّاء عنه وعن الأخفش، قال مكي: «وقال الفرَّاء والأخفش؛ والزياديُّ:» أشْيَاء «وزنها» أفْعِلاء «، وأصلها» أشْيِئَاء «؛ ك» هَيِّنٍ وأهْوِنَاء «،
543
لكنه خُفِّفَ».
ثم ذكر تصريفَ الكلمةِ إلى آخره، وقال أبو البقاء: «وقال الأخفشُ والفراء: أصلُ الكلمةِ» شَيِّئ «مثل» هَيِّنٍ «، ثم خُفِّف بالحذف»، وذكر التصريف إلى آخره، فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً، والحقُّ ما ذكرته عنهُما؛ ويدلُّ على ما قلته ما قاله الواحديُّ؛ فإنه قال: «وذهبَ الفرَّاء في هذ الحرف مذهب الأخفش»، غير أنه خلطَ حين ادَّعى أنها كهَيْنٍ وليْنٍ حين جمعا على أهْوِنَاء وألْيِنَاء، وهَيْنٍ تخفيف «هَيِّن» ؛ فلذلك جاز معه على أفْعِلاء، وشَيْء ليس مخفَّفاً من «شَيِّئ» حتى يُجْمَعَ على أفْعِلاء، وهذان المذهَبَان - أعني مذهب الفراء والأخفشِ - وإن سَلِمَا من منع الصَّرْف بغير علَّة، فقد ردَّهُمَا الناس، قال الزجَّاج: «وهذا القَوْلُ غَلَطٌ؛ لأنَّ» شَيئاً «فعلٌ، وفعلٌ لا يجمعُ على أفْعِلاء، فأما هَيِّنٌ وليِّنٌ، فأصلُه: هَيِينٌ ولَيِينٌ، فجُمِعَ على أفعلاء، كما يُجْمَعُ فَعِيلٌ على أفعلاء؛ مثل: نَصِيب وأنْصِبَاء» قال شهاب الدين: وهذا غريبٌ جدًّا، أعني كونه جعل أنَّ أصلَ «هيِّن» «هَيِين» بزنة فعيلٍ، وكذا ليِّنٌ ولَيِينٌ، ولذلك صرح بتشبيههما بنصيبٍ، والناسُ يقولون: إنَّ هَيِّناً أصله هَيْونٌ، كميِّتٍ أصله مَيْوتٌ، ثم أعِلَّ الإعلال المعروف، وأصل ليِّنٍ: لَيْينٌ بياءين، الأولى ساكنة والثانية مكسورةٌ، فأدغمتِ الأولى، والاشتقاقُ يساعدُهم؛ فإن الهيِّنَ من هانَ يَهُونُ، ولأنَّهم حين جمعوه على أفعلاء أظْهَرُوا الواو، فقالوا: أهْوِنَاء. وقال الزجَّاج: «إنَّ المازنيَّ ناظر الأخفش في هذه المسألة، فقال له: كيف تُصَغِّرُ أشْيَاء؟ قال: أقول فيها أُشيَّاء. فقال المازنيُّ: لو كانت أفعالاً، لرُدَّتْ في التصغير إلى واحدهَا، وقيل: شُيَيْئَات، مثل شُعَيْعات، وإجماعُ البصريِّين أن تصغير» أصدقَاء «إن كان لمؤنث» صُدَيِّقَات «، وإن كان لمذكر:» صُدَيقُونَ «فانقطع الأخْفَشُ»، وبَسْطُ هذا أنَّ الجمع المُكَسَّرَ، إذا صُغِّرَ: فإمَّا أن يكون من جموع القلَّة، وهي أربعٌ على الصحيح: أفْعِلَةٌ وأفْعُل وأفْعَالٌ وفِعْلَةٌ، فيُصَغَّرُ على لفظه، وإن كان من جموع الكثرة فلا يُصغَّر على لفظه على الصحيح، وإنْ وردَ منه شيءٌ، عُدَّ شَاذًّا ك «أصَيْلان» تصغير «أصْلاَن» جمع «أصيل»، بل يُرَدُّ إلى واحده؛ فإن كان من غير العقلاء، صُغِّرَ وجُمِعَ بالألف والتاء، فتقول في تصغير حُمُرٍ جمع حِمارٍ: «حُمَيْرات»، وإن كان من العقلاء صُغِّرَ وجمع بالواو والنون، فتقول في تصغير «رِجَال» :«رُجَيْلُونَ»، وإن كان اسم جمعٍ ك «قَوْم» و «رَهْط» أو اسم جنسٍ، ك «قَمَر» و «شَجَر» صُغِّر على لفظه كسائر المفردات، رجعنا إلى «أشْيَاء»، فتصغيرُهم لها على لفظها يَدُلُّ على أنها اسمُ جمع؛ لأنَّ اسم الجمع يُصَغَّر على لفظه، نحو: «رُهَيْط» و «قُوَيْم»، وليس بجمعِ تكسيرٍ؛ إذ هي من جموعِ الكثرة، ولم تُرَدَّ إلى واحدها، وهذا لازمٌ للأخفشِ؛ لأنه بصريٌّ، والبصريُّ لا بدَّ وأن يفعل ذلك، وأصَيْلان عنده شاذٌ، فلا يقاسُ عليه، وفي عبارة مَكِّيٍّ قال: «وأيضاً فإنه
544
يلزمُهُم أن يُصَغِّروا» أشْيَاء «على» شُوَيَّات «، أو على» شُيَيْئَات «، وذلك لم يَقُلْه أحد».
قال شهاب الدين: قوله «شُوَيَّات» ليس بجيِّد؛ فإن هذا ليس موضع قلب الياء واواً، ألا ترى أنك إذا صغَّرْتَ بيتاً، قلت: بُيَيْتاً لا بُوَيْتاً، إلاَّ أنّ الكوفيِّين يُجيزُونَ ذلك، فيمكنُ أن يُرَى رأيهم، وقد ردَّ مكيٌّ أيضاً مذهب الفراء والأخفش بشيئين:
أحدهما: أنه يلزمُ منه عدمُ النظير؛ إذ لم يقع «أفْعِلاء» جمعاً ل «فَيْعِل» فيكون هذا نظيرهُ، وهَيِّن وأهْوِنَاء شاذٌّ لا يقاس عليه.
والثاني: أن حذفه واعتلاله مُجْرى على غير قياسٍ، فهذا القولُ خارجٌ في جمعه واعتلاله عن القياس والسَّماع.
المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي حاتم -: أنها جمعُ شيءٍ على أفعالٍ ك «بَيْتٍ» و «أبْيَاتٍ» و «ضَيْفٍ» و «أضْيَافٍ»، واعترض الناس هذا القول؛ بأنه يلزم منه منعُ الصرفِ بغير علته؛ إذ لو كان على «أفْعَال»، لانصرفَ كأبْيَاتٍ، قال الزجَّاج «أجمع البصريُّون وأكثر الكوفيِّين على أن قول الكسائيِّ خطأ، وألزموه ألاَّ يصرفَ أنْبَاء وأسْمَاء». قال شهاب الدين: والكسائيُّ قد استشعر بهذا الردِّ، فاعتذر عنه، ولكن بما لا يُقْبَلُ، قال الكسائيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «هي - أي أشياء - على وزن أفعالٍ، ولكنها كَثُرَتْ في الكلام، فأشبهَتْ فعلاء، فلم تُصْرَف كما لم يُصْرَفْ حَمْرَاء»، قال: «وجَمَعُوهَا أشَاوَى، كما جمعوا عذرَاء وعَذارَى، وصَحْرَاء وصَحَارى، وأشْيَاوَات كما قيل حَمْرَاوَات»، يعني أنهم عاملوا «أشْيَاء»، وإن كانت على أفعالٍ معاملةَ حَمْرَاء وعَذْرَاء في جمعي التكسير والتصحيح، إلا أن الفرَّاء والزجَّاج اعترضا على هذا الاعتذار، فقال الفرَّاء: «لو كان كما قال، لكان أملكَ الوجهين أنْ تُجْرَى؛ لأن الحرْفَ إذا كَثُرَ في الكلام، خَفَّ وجاز أن يُجْرَى كما كَثُرَتِ التسميةُ ب» يَزِيدَ «، وأجروه في النَّكرة، وفيه ياءٌ زائدةٌ تَمْنَعُ من الإجراء». والمراد بالإجراء الصرْفُ، وقال الزجَّاج: «أجمع البصريون وأكثر الكوفيِّين» وقد تقدَّم آنفاً، وقال مكي: «وقال الكسائيُّ وأبو عُبَيْد: لم تَنْصَرِفْ - أي أشياء -؛ لأنها أشبهت» حَمْرَاء «؛ لأن العرب تقول:» أشْيَاوَات «كما تقول:» حَمْرَاوَات «قال:» ويلزمُهما ألاَّ يَصْرِفَا في الجمْعِ أسْمَاء وأبْنَاء لقول العرب فيهما: أسْمَاوَات وأبْنَاوَات «، وقد تقدَّم شرح هذا، ثم إنَّ مَكِّيًّا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر عن الكسائيِّ ما تقدَّم، ونقل مذهب الأخفشِ والفرَّاء، قال:» قال أبو حاتم: أشياء أفعال جمع شَيءٍ كأبياتٍ «فهذا يُوهِمُ أن مذهب الكسائيِّ المتقدِّمَ غيرُ هذا المذهب، وليس كذلك، بل هو هو، وقد أجاب بعضهم عن الكسائيِّ بأن النحويِّين قد اعتبروا في باب ما لا يَنصرِفُ الشبه اللفظيَّ،
545
دون المعنويَّ، يَدُلُّ على ذلك مسألةُ» سَراويلَ «في لغةِ مَنْ يمنعُه؛ فإنَّ فيه تأويليْن: أحدهما: أنه مفردٌ أعجميٌّ، حُمِلَ على مُوازنِهِ في العربيَّة، أي صيغة مصابيح مثلاً؛ ويدُلُّ له أيضاً أنهم أجروا ألف الإلحاقِ المقْصُورة مُجْرَى ألف التأنيث المقْصُورة، ولكن مع العلميَّة، فاعتبروا مُجَرَّدَ الصُّورة.
المذهب الخامس: أنَّ وزنها «أفْعِلاء»
أيضاً جَمْعاً ل «شَييءٍ» بزنة «ظَرِيفٍ»، وفعيلٌ يجمع على أفْعِلاء، ك «نَصِيبٍ وأنْصِبَاء»، و «صَديقٍ وأصْدِقَاء»، ثم حُذِفت الهمزة الأولى التي هي لامُ الكلمة، وفُتحتِ الياءُ؛ لتسلمَ ألفُ الجمع؛ فصارت أشياء، ووزنُها بعد الحذف أفْعَاء، وجعله مَكِّيٌّ في التصريف كتصريف [مذهب] الأخفشِ؛ من حيث إنه تُبْدَلُ الهمزة ياءً، ثم تُحْذفُ إحدى الياءين، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وحَسَّنَ الحذفَ في الجمع حَذْفُها في الواحد، وإنما حُذِفَتْ من الواحد؛ تخفيفاً لكثرة الاستعمال؛ إذ» شَيْء «يقعُ على كل مُسَمًّى من عرضٍ، أو جوهرٍ، أو جسمٍ، فلم ينصرفْ لهمزةِ التأنيثِ في الجمع»، قال: «وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجَمْعِ، وتُرِكَ الصرفُ على القياس، لولا أنَّ التصغير يعترضُهُ، كما اعترض الأخْفَش». قال شهاب الدين: قوله «هذا قول حسن»، فيه نظر؛ لكثرة ما يَرِدُ عليه، وهو ظاهر ممَّا تقدَّم، ولمَّا ذكر أبو حيان هذا المذهب، قال في تصريفه: «ثمَّ حذفتِ الهمزة الأولى، وفتحت ياءُ المدِّ؛ لكون ما بعدها ألفاً»، قال: «وَزْنُهَا في هذا القولِ إلى» أفْيَاء «، وفي القول قبله إلى» أفْلاء «، كذا رأيته» أفْيَاء «، بالياء، وهذا غلطٌ فاحشٌ، ثم إنِّي جوَّزتُ أن يكون هذا غلطاً عليه من الكاتبِ، وإنما كانت» أفْعَاء «بالعين، فصحَّفها الكاتب إلى» أفْيَاء «، وقد ردَّ الناس هذا القول: بأنَّ أصل شَيْء:» شَيِيءٌ «بزنة» صديقٍ «دعوى من غير دليل، وبأنه كان ينبغي ألاَّ يُصَغَّر على لفظه، بل يُرَدُّ إلى مفرده؛ كما تقدم تحريره.
وقد تلخص القول في «أشْيَاء»
: أنها هَلْ هي اسمُ جمعٍ، وأصلها «شَيْئَاء» ؛ كطَرْفَاء، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها، فصار وزنُها «لَفْعَاء» أو جمعٌ صريحٌ؟ وإذا قيل بأنها جمعٌ صريحٌ، فهل أصلها «أفْعِلاء» ثم تحذفُ، فتصير إلى «أفْعَاء» أو «أفْلاَء»، أو أنَّ وزنها «أفْعَال» ؛ كأبْيَات.
قوله تعالى: «إنْ تُبْدَ» شرط، وجوابه «تَسُؤكُمْ»، وهذه الجملة الشرطية في محلِّ جرِّ صفةً ل «أشْيَاء»، وكذا الشرطيَّة المعطوفة أيضاً، وقرأ ابن عبَّاس: «إنَّ تَبْدُ لَكُمْ تَسُؤكُمْ» ببناء الفعليْنِ للفاعلِ، مع كون حرف المضارعةِ تاءً مثنَّاةً من فوقُ، والفاعل ضميرُ «أشْياء»، وقرأ الشعبي - فيما نقله عنه أبو محمَّد بن عطيَّة: «إنْ يَبْدُ» بفتح الياء من
546
تحتُ، وضم الدال، «يَسُؤكُمْ» بفتح الياء من تحتُ، والفاعل ضميرٌ عائدٌ على ما يليق تقديره بالمعنى، أي: إنْ يَبْدُ لكُمْ جوابُ سؤالكُمْ أو سُؤلُكُمْ، يَسُؤكُمْ، ولا جائزٌ أن تعود على «أشْيَاء» ؛ لأنه جارٍ مجرَى المؤنَّث المجازيِّ، ومتى أسند فعلٌ إلى ضمير مؤنَّثٍ مطلقاً، وجبَ لَحَاقُ العلامة على الصحيح، ولا يُلتفتُ لضرورة الشعر، ونقل غيره عن الشعبيِّ؛ أنه قرأ: «يُبْدَ لَكُمْ يَسُؤكُمْ» بالياء من تحت فيهما، إلا أنه ضمَّ الياء الأولى وفتح الثانية، والمعنى: إن يُبْدَ - أي يُظْهَر - السؤالُ عَنْهَا، يَسُؤكُمْ ذلك السُّؤالُ، أي: جوابُهُ، أو هُوَ؛ لأنه سببٌ في ذلك والمُبْدِيه هو اللَّهُ تعالى، والضميرُ في «عَنْهَا» يحتمل أن يعود على نوعِ الأشياءِ المنهِيِّ عنها، لا عليها أنفسها، قاله ابن عطيَّة، ونقله الواحديُّ عن صاحب «النَّظمِ»، ونظَّرهُ بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] يعني آدم، «ثُمَّ جعلْنَاهُ» قال «يعني ابنَ آدَمَ» فعاد الضميرُ على ما دلَّ عليه الأول، ويحتملُ أن يعود عليها أنْفُسِها، قاله الزمخشريُّ بمعناه.
قوله: ﴿حِينَ يُنَزَّلُ القرآن﴾ في هذا الظرفِ احتمالان:
أظهرهما: أنه منصوبٌ ب «تسْألُوا»، قال الزمخشريُّ: «وإنْ تَسْألُوا عنها: عن هذه التكاليفِ الصعبةِ، حين يُنَزَّلُ القرآنُ: في زمانِ الوحي، وهو ما دام الرسولُ بين أظْهُرِكُمْ يُوحَى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليفُ التي تَسُؤكُمْ وتُؤمَرُوا بتحمُّلِها، فَتُعَرِّضُوا أنفسكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ؛ لتفريطكم فيها»، ومن هنا قلنا: إنَّ الضمير في «عَنْهَا» عائدٌ على الأشياءِ الأولِ، لا على نوعها.
والثاني: أنَّ الظرف منصوبٌ ب «تُبْدَ لَكُمْ»، أي: تَظْهَرْ لكم تلك الأشياءُ حين نُزُولِ القرآنِ، قال بعضهم: «في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ؛ لأنَّ التقدير: عن أشياءَ، إنْ تُسْألوا عَنْهَا، تُبْدَ لكم حين نُزولِ القرآنِ، وإن تُبْدَ لَكُمْ، تَسُؤكُمْ»، ولا شك أن المعنى على هذا الترتيب، لا أنه لا يقالُ في ذلك تقديمٌ وتأخيرٌ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً، فلا فرق، ولكن إنما قُدِّم هذا أولاً على قوله: «وإنْ تَسْألُوا» ؛ لفائدةٍ، وهي الزجرُ عن السؤالِ؛ فإنه قدَّم لهم أنَّ سؤالهم عن أشياء متى ظهرتْ، أساءتهم قبل أن يُخْبِرَهم بأنهم إنْ سألُوا عنها، بدتْ لهم لينزجرُوا، وهو معنًى لائقٌ.
قوله: ﴿عَفَا الله عَنْهَا﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ أخرى ل «أشياء»، ولا حاجة إلى ادِّعاء التقديم والتأخيرِ في هذا؛ كما قاله بعضهم، قال: «تقديرُه: لا تَسْألُوا عن أشْيَاءَ عفا الله عَنْهَا إنْ تُبْدً لَكُمْ إلى آخر الآية» ؛ لأنَّ كلاًّ من الجملتين الشرطيَتَيْنِ وهذه الجملة صفةٌ ل «أشْيَاء»، فمِنْ أين أنَّ هذه الجملةَ مستحقةٌ للتقديمِ على ما
547
قبلها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قدَّرَها متقدِّمةً؛ ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ.
والثاني: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، والضميرُ في «عَنْهَا» على هذا يعودُ على المسألةِ المدُلولِ عليها ب «لا تَسألُوا»، ويجوزُ أنْ تعودَ على «أشْيَاء»، وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا؛ لضرورةِ الربطِ بين الصفةِ والموصوف.

فصل في سبب نزول الآية


في سببِ نزولِ الآية: ما روى [قتادة] عن أنسْ: «سألوا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى أحفوه بالمسْئَلَةِ، فغضِبَ فصَعَد المِنْبَر، قال:» لا تَسْألُونِي اليَوْمَ عن شَيْءٍ إلاَّ بَيَّنْتُهُ لكم «، فجعلتُ أنظر يميناً وشمالاً، فإذا كلّ رَجُل لاف رأسَهُ في ثوبِه يَبكِي، فإذا [رَجُلٌ] كان [إذا] لاقى الرِّجالَ يُدْعَى لغير أبيه، فقال: يا رسُول اللَّهِ، من أبِي؟ قال:» حُذافَةُ «، ثم أنشأ عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: رضينا باللَّه رَبًّا وبالإسْلام ديناً، وبمُحَمَّدٍ رسُولاً، نعوذُ باللَّه من الفِتَنِ، فقال رسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ما رأيتُ في الخَيْرِ والشَّرِّ كاليَوْمِ قَطّ، إنه صُوِّرتْ لي الجنَّةُ والنَّارُ حتَّى رَأيْتُهُمَا ورَاءَ الحَائِطِ «وكان قتادةُ يَذْكُر عِنْدَ هذا الحديثِ هذه الآية.
وقال يونُسُ عن [ابن] شهابٍ: أخْبَرَنِي عُبَيْد الله بن عبد الله قال: قالتْ أمُّ عبد الله بن حُذافةَ لعبد الله بن حُذافَة: ما سمعت بابْن قَطُّ أعقَّ منك أأمنت أن تكُونَ أمُّكَ قد فارقت بعْضَ ما يُفارق نساء الجاهليَّةِ، فتَفْضَحَهَا على أعْيُنِ النَّاسِ؟ قال عبد الله بن حُذَافة:»
واللَّهِ لَوْ ألْحَقَنِي بعبْدٍ أسْوَد [لَلَحِقْتُه] «.
ورُوِيَ أنَّ عُمَر قال: «يا رسُول الله، أنا حَدِيثُ عُهْدٍ [بجاهلية]، فاعفُ عنَّا يَعْفُ اللَّهُ عَنْكَ، فسكَنَ غَضَبُهُ»
.
وروى ابْنُ عبَّاسٍ قال: كان قومٌ يَسْألُون رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استهْزَاءً، فيقول الرجل مَنْ أبِي؟ ويقولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أين نَاقَتِي؟ فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية.
548
ورُوِيَ عن عَلِيٍّ بن أبِي طالبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لمَّا نزلت ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ [آل عمران: ٩٧]، قال سُرَاقَةُ بن مالكٍ: - «ويروى عكاشَةُ بن محصن - يا رسُول اللَّهِ أفي كُلِّ عامٍ؟ فأعْرَضَ عنهُ، فعاد مَرَّتَيْنِ أوْ ثلاثاً، فقال رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَا يُؤمنكَ أنْ أقُولَ: نَعَمْ، واللَّهِ لو قُلْتُ: نَعَمْ لوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبَتْ ما استطعْتُم، فاتْركُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِم، واخْتِلافِهِم على أنْبِيَائِهم، فإذا أمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ، وإذا نَهَيْتُكُم عَنْ شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ «فأنْزَل اللَّهُ هذه الآية.
فإنَّ من سألَ عن الحَجِّ لَمْ يَأمَنْ أنْ يُؤمَرَ به في كُلِّ عامٍ فَيَسُوؤه، ومن سألَ عن نَسَبِهِ لمْ يَأمَنْ أن يُلْحِقَه بِغيرِهِ، فَيَفْتَضِحَ.
وقال مُجَاهِد: نزلت حين سَألُوا رسُول اللَّهَ إنْ أحَلَّ أحِلُّوا، وإن حرَّمَ اجْتَنِبُوا، ولو تَرَكَ بين ذلك أشياءَ لم يُحَلِّلْهَا ولمْ يُحَرِّمها، فذلك عَفْوٌ من اللَّهِ، ثمَّ يَتْلُو هذه الآية.
وقال أبُو ثَعْلَبَة الخشني: إنَّ اللَّه إنْ أحَلَّ تعالى بيَّنَ في الآية الأولى فرضَ فرائِضَ فلا تُضَيِّعُوهَا، ونَهَى عن أشياء فلا تَنْتَهِكُوهَا، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها، وعَفَا عن أشْيَاءَ من غير نِسْيَانٍ فلا تَبْحَثُوا عنها، ثم إنَّ تلك الأشياء التي سألُوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم.
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:»
إن من أعْظَمِ المُسْلِمين في المُسْلِمين جُرْماً، من سألَ عن شَيْءٍ لَمْ يُحرَّم فَحُرِّم من أجْلِ مَسْألَتِهِ «.
وقوله: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ﴾ معناه: إن صَبَرْتُمْ حتَّى [ينزل] القرآنُ بحكم من فرضٍ أو نهيٍ، وليسَ في ظاهرهِ شَرْح ما بكم فيه حَاجَةٌ، ومَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إليه، فإذَا سَألْتُم عَنْهَا حينئذْ تُبْدَ لَكُم ﴿عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
واعلم أنَّ السُّؤالَ على قسمَيْن:
أحدهما: السُّوالُ عن شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ ذكْرُه في الكتابِ والسُّنَّة بوجه من الوُجُوه، فهذا السُّؤالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لهذه الآية.
549
والقسم الثاني: السُّؤال عن شيء نزل به القُرآنُ، لكنَّ السَّامِع لَمْ يَفْهَمْهُ كما يَنْبَغِي، فَههُنَا يَجِبُ السُّؤالُ عنه، وهُوَ مَعْنَى قوله: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ﴾.
والفائِدَةُ في ذِكْرِ هذا القسْمِ؛ أنَّه لما منعَ في الآيَةِ الأولَى من السُّؤالِ، أوْهَمَ أنَّ جَمِيع أنْوَاع السُّؤال مَمْنُوع منه، فذكرَ ذلك تَمْيِيزاً لهذا القِسْمِ عن ذَلِكَ.
فإن قيل: قوله: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا﴾، هذا الضَّمِيرُ عائدٌ إلى الأشياء المذكُورَة في قوله: ﴿لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ﴾، فكيف يُعقلُ في» أشْياء «بأعْيَانِهَا أن يكون السُّؤال عنهَا مَمْنُوعاً وجَائِزاً معاً؟.
فالجوابُ من وَجْهَيْن:
الأول: جاز أن يكون السُّؤالُ عنها مَمْنُوعاً قَبْلَ نُزُولِ القُرْآنِ بِهَا، ومأمُوراً بها بَعْدَ نُزُولِ القُرْآنِ بها.
الثاني: أنَّهُمَا وإن كانا نَوْعَيْن مُخْتلِفَين، إلاَّ أنَّهُمَا في كوْنِ كلٍّ منهما واحدٌ مَسْؤولٌ عنه شَيْءٌ واحِدٌ، فلهذا الوجه حَسُنَ اتِّحَاد الضَّمِير، وإن كان في الحَقيقَةِ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْن.
فإن قيل: ما ذكر من كراهةِ السُّؤالِ والنَّهْي عنْهُ يُعَارِضُهُ قوله تعالى: ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧] فالجواب: هذا الذي أمَرّ اللَّهُ به عِبَادَهُ، هو ما تَقرَّرَ وثَبَتَ وُجُوبُهُ، مِمَّا يَجِبُ عليهم العملُ به، والَّذِي نَهَى عنه هو ما لَمْ يَقْصِد اللَّهُ به عِبَاده، ولم يَذْكُرْهُ في كِتَابِهِ.
قوله: «قَدْ سَألَهَا»
: الضميرُ في «سَألَهَا» ظاهرُه يعود على «أشْيَاء»، لكن قال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف قال: لا تَسْألُوا عنْ أشْيَاء، ثم قال:» قَدْ سَألَهَا «ولم يقل سأل عنها؟ قلت: ليس يعودُ على أشياء؛ حتى يتعدَّى إليها ب» عَنْ «، وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله:» لا تَسْألُوا «، أي: قد سأل المَسْألَةَ قومٌ، ثم أصبحُوا بها - أي بمَرْجُوعِهَا - كافِرِين»، ونحا ابن عطية منْحَاهُ، قال أبو حيان: «ولا يتَّجِه قولُهما إلا على حذفِ مضافٍ، وقد صَرَّحَ به بعضُ المفسِّرين، أي: قد سأل أمثالها، أي: أمثالَ هذه المسألةِ، أو أمثال هذه السؤالاتِ»، وقال الحُوفِيُّ في «سَألَهَا» :«الظاهرُ عَوْدُ الضَّميرِ على» أشْيَاء «ولا يتّجه حَمْلُه على ظاهره، لا من جهة اللفظ العربيِّ، ولا من جهةِ المعنى، أمَّا من جهة اللفظ: فلأنه كان ينبغي أن يُعَدَّى ب» عَنْ «كما عُدِّيَ في الأوَّل، وأمَّا من جهة المعنى، فلأنَّ المسئُول عنه مختلفٌ قَطْعَاً؛ فإنَّ سؤالهم غيرُ سؤالِ من قبلهم؛ فإنَّ سؤال هؤلاء مثلُ من سَألَ: أيْنَ نَاقَتِي، وما فِي بَطْنِ نَاقَتِي، وأيْنَ أبِي، وأيْنَ مَدْخَلِي؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا؛ نَحْو: ﴿أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً﴾ [المائدة: ١١٤] {أَرِنَا الله
550
جَهْرَةً} [النساء: ١٥٣] ﴿اجعل لَّنَآ إلها﴾ [الأعراف: ١٣٨] وسؤال ثمود الناقة، ونحوه». وقال الواحديُّ - ناقلاً عن الجرجانيِّ -: وهذا السؤالُ في هذه الآيات يخالفُ معنى السؤال في قوله: ﴿لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ﴾ ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا﴾ ؛ ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى قد عُدِّيَ بالجارِّ، وها هنا لم يُعَدَّ بالجارِّ؛ لأن السؤالَ ها هنا طلبٌ لعينِ الشيء؛ نحو: «سَألْتُكَ دِرْهَماً» أي طلبته منْكَ، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ عن حالِ الشيء وكيفيَّتِهِ، وإنما عطف بقوله ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ﴾ على ما قبلَها وليستْ بمثلِها في التأويل؛ لأنه إنما نهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفُوا، وهو مرفوعٌ عنْهم فهُمَا يَشْتَرِكَانِ في وصفٍ واحدٍ، وهو أنَّه خوضٌ في الفُضُولِ، وفيما لا حَاجَةَ إلَيْه.
وقيل: يجوز أن يعود على «أشْيَاء» لفظاً لا معنًى؛ كما قال النحويُّون في مسألة: «عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ»، أي: ونِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، ومنه: [الطويل]
٢٠٥٥ - وكَأنَّ أوْلاَهَا كِعَابُ مُقَامِرٍ ضُرِبَتْ على شُزُنٍ فَهُنَّ شَوَاعِي
٢٠٥٦ - وَكُلُّ أُناسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ

فصل


وقرأ النَّخَعِيُّ: «سَالَهَا» بالإمالة من غير همزٍ وهما لغتان، ومنه يتساولان فإمالتُه ل «سَألَ» كإمالة حمزة «خَافَ»، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند قوله ﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: ٦١] و ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: ٢١١].
قال المُفَسِّرُون: يَعْنِي قوْمَ صَالِح، سَألُوا النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا، وقومَ مُوسى، قالوا: أرنَا اللَّهَ جَهْرةً، فصارَ ذلِكَ وَبَالاً عليهم، وبَنُوا إسْرَائيل قالوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ: ﴿ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٦] وقالوا: ﴿أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ﴾ [البقرة: ٢٤٧] فسَألُوا ثمَّ كَفَرُوا، فكأنَّه تعالى يَقُول: أولَئِكَ سَألُوا، فلما أعْطُوا سُؤلَهُم ساءَهُم ذلك، فلا تَسْألوا شيئاً فَلَعَلُّكم إنْ أعطيتُمْ سُؤلكم، ساءكم ذلك.
قوله: «مِنْ قَبْلِكُمْ» متعلق بقوله: «سَألَهَا»، فإنْ قيل: هَلْ يجوزُ أن يكون صفةً ل «قوم» ؟ فالجواب: منعَ من ذلك جماعة معتلِّين بأنَّ ظَرْفَ الزمان لا يقعُ خبراً، ولا صفةً،
551
ولا حالاً عن الجُثَّة، وقد تقدَّم نحوُ هذا في أوَّلِ البقرة عند قوله: ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١]، فإنَّ الصلةَ كالصفة، و «بِهَا» متعلِّق ب «كَافرينَ»، وإنما قُدِّم لأجْلِ الفواصل.
552
قوله :" قَدْ سَألَهَا " : الضميرُ في " سَألَهَا " ظاهرُه يعود على " أشْيَاء "، لكن قال الزمخشري١ :" فإن قلتَ : كيف قال : لا تَسْألُوا عنْ أشْيَاء، ثم قال :" قَدْ سَألَهَا " ولم يقل سأل عنها ؟ قلت : ليس يعودُ على أشياء ؛ حتى يتعدَّى إليها ب " عَنْ "، وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله :" لا تَسْألُوا "، أي : قد سأل المَسْألَةَ قومٌ، ثم أصبحُوا بها - أي بمَرْجُوعِهَا - كافِرِين "، ونحا ابن عطية٢ منْحَاهُ، قال أبو حيان٣ :" ولا يتَّجِه قولُهما إلا على حذفِ مضافٍ، وقد صَرَّحَ به بعضُ المفسِّرين، أي : قد سأل أمثالها، أي : أمثالَ هذه المسألةِ، أو أمثال هذه السؤالاتِ "، وقال الحُوفِيُّ في " سَألَهَا " :" الظاهرُ عَوْدُ الضَّميرِ على " أشْيَاء " ولا يتّجه حَمْلُه على ظاهره، لا من جهة اللفظ العربيِّ، ولا من جهةِ المعنى، أمَّا من جهة اللفظ : فلأنه كان ينبغي أن يُعَدَّى ب " عَنْ " كما عُدِّيَ في الأوَّل، وأمَّا من جهة المعنى، فلأنَّ المسئُول عنه مختلفٌ قَطْعَاً ؛ فإنَّ سؤالهم غيرُ سؤالِ من قبلهم ؛ فإنَّ سؤال هؤلاء مثلُ من سَألَ : أيْنَ نَاقَتِي، وما فِي بَطْنِ نَاقَتِي، وأيْنَ أبِي، وأيْنَ مَدْخَلِي ؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا ؛ نَحْو :﴿ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً ﴾ [ المائدة : ١١٤ ] ﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [ النساء : ١٥٣ ] ﴿ اجْعَل لَّنَآ إِلَهاً ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ] وسؤال ثمود الناقة، ونحوه ". وقال الواحديُّ - ناقلاً عن الجرجانيِّ - : وهذا السؤالُ في هذه الآيات يخالفُ معنى السؤال في قوله :﴿ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أشْيَاءَ ﴾ ﴿ وَإِن تَسْألُوا عنها ﴾ ؛ ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى قد عُدِّيَ بالجارِّ، وها هنا لم يُعَدَّ بالجارِّ ؛ لأن السؤالَ ها هنا طلبٌ لعينِ الشيء ؛ نحو :" سَألْتُكَ دِرْهَماً " أي طلبته منْكَ، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ عن حالِ الشيء وكيفيَّتِهِ، وإنما عطف بقوله ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ ﴾ على ما قبلَها وليستْ بمثلِها في التأويل ؛ لأنه إنما نهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفُوا، وهو مرفوعٌ عنْهم فهُمَا يَشْتَرِكَانِ في وصفٍ واحدٍ، وهو أنَّه خوضٌ في الفُضُولِ، وفيما لا حَاجَةَ إلَيْه.
وقيل : يجوز أن يعود على " أشْيَاء " لفظاً لا معنًى ؛ كما قال النحويُّون في مسألة :" عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ "، أي : ونِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، ومنه :[ الطويل ]
وَكُلُّ أُناسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ٤

فصل


وقرأ النَّخَعِيُّ٥ :" سَالَهَا " بالإمالة من غير همزٍ وهما لغتان، ومنه يتساولان فإمالتُه ل " سَألَ " كإمالة حمزة " خَافَ "، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند قوله ﴿ فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ ﴾ [ البقرة : ٦١ ] و﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [ البقرة : ٢١١ ].
قال المُفَسِّرُون٦ : يَعْنِي قوْمَ صَالِح، سَألُوا النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا، وقومَ مُوسى، قالوا : أرنَا اللَّهَ جَهْرةً، فصارَ ذلِكَ وَبَالاً عليهم، وبَنُو إسْرَائيل قالوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ :﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٤٦ ] وقالوا :﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ [ البقرة : ٢٤٧ ] فسَألُوا ثمَّ كَفَرُوا، فكأنَّه تعالى يَقُول : أولَئِكَ سَألُوا، فلما أعْطُوا سُؤلَهُم ساءَهُم ذلك، فلا تَسْألوا شيئاً فَلَعَلُّكم إنْ أعطيتُمْ سُؤلكم، ساءكم ذلك.
قوله :" مِنْ قَبْلِكُمْ " متعلق بقوله :" سَألَهَا "، فإنْ قيل : هَلْ يجوزُ أن يكون صفةً ل " قوم " ؟ فالجواب : منعَ من ذلك جماعةٌ معتلِّين بأنَّ ظَرْفَ الزمان لا يقعُ خبراً، ولا صفةً، ولا حالاً عن الجُثَّة، وقد تقدَّم نحوُ هذا في أوَّلِ البقرة عند قوله :﴿ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ]، فإنَّ الصلةَ كالصفة، و " بِهَا " متعلِّق ب " كَافرينَ "، وإنما قُدِّم لأجْلِ الفواصل.
١ ينظر: الكشاف ١/٦٨٤..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٤٧..
٣ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٧..
٤ تقدم..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٤٦، قال ابن عطية: وذلك على لغة من قال: سلت تسال، وحكي عن العرب: "هما يتساولان"، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة، فالإمالة إنما أريدت، وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في "خاء" خفت.
وينظر: البحر المحيط ٤/٣٧، والدر المصون ٢/٦٢٠..

٦ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٢/٨٩..
لمَّا منع النَّاسَ من البَحْثِ عن أمُورٍ لَمْ يُكَلَّفُوا بالبَحْثِ عنها، كذلك مَنعَهُم من التزامِ أمُورٍ لَمْ يُكَلَّفُوا بالتِزَامِهَا، ولمَّا كان الكُفَّار يحرِّمُون على أنْفُسِهِم الانْتِفَاعَ بهَذِهِ الحيوانات، وإنْ كَانُوا في غاية الحَاجَة إلى الانْتِفَاع بها، بيَّنَ اللَّهُ - تعالى - أنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ.
«جَعَلَ» يجوز أن يكون بمعنى «سَمَّى» ويتعدَّى لمفعولَيْن، أحدهما محذوف، والتقدير: ما جَعَلَ - أي ما سَمَّى - اللَّهُ حيواناً [بَحِيرَةً].
قاله أبو البقاء. وقال ابن عطيَّة والزمخشريُّ وأبو البقاء: «إنَّها تكونُ بمعنى شرَعَ ووضَعَ، أي: ما شَرَعَ اللَّهُ ولا أمَرَ»، وقال الواحديُّ - بعد كلامٍ طويلٍ - «فمعنى ما جعل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ: ما أوْجَبَهَا ولا أمَرَ بِهَا»، وقال ابنُ عطيَّة: «وجَعَلَ في هذه الآيةِ لا تكُونُ بمعنى» خَلَقَ «؛ لأنَّ الله خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها، ولا بمعنى» صَيَّرَ «؛ لأن التصْييرَ لا بُدَّ له من مفعولٍ ثانٍ، فمعناه: ما سَنَّ الله ولا شَرَعَ». ومنع أبو حيان هذه النقولاتِ كلَّها بأنَّ «جَعَلَ» لم يَعُدُّ اللغويُّون من معانيها «شَرَعَ»، وخرَّجَ الآية على التَّصْييرِ، ويكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً، أي: ما صيَّّر الله بَحِيرَة مَشْرُوعَةً، وفي قوله لم يَعُدَّ اللغويُّون في معانيها «شَرَعَ» نظرٌ؛ لأن الآية المتقدمة تدل على ذلك وهي قوله: ﴿جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ﴾ [المائدة: ٩٧].
والبَحِيرَة: فعيلَةٌ بمعنى مفعُولَة، فدخولُ تاءِ التأنيثِ عليها لا ينقاس، ولكن لَمَّا جَرَتْ مَجْرَى الأسماءِ الجَوَامِد أُنِّثَتْ، وقد تقدم إيضاح هذا في قوله ﴿والنطيحة﴾ [المائدة: ٣]، واشتقاقُها من البَحْرِ، والبَحْرُ: السَّعَةُ، ومنه «بَحْرُ المَاءِ» لِسَعَتِه وَهِيَ النَاقَةُ المَشْقُوقَةُ الأُذُنِ، يُقَالُ: بَحَرتُ أذن النَّاقَة إذَا شَقَقْتهَا شقّاً واسعاً، والنَّاقَةُ بَحِيرةٌ ومَبْحُورَةٌ.
واختلف أهلُ اللغة في البحيرةِ عند العرب ما هي اختلافاً كثيراً، فقال أبو عُبَيْدٍ: «هي الناقةُ التي تُنْتَجُ خمسةَ أبطنٍ في آخِرِهَا ذكرٌ، فتُشَقٌّ أذُنُهَا، وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مَرْعىً ولا ماءٍ، وإذا لَقِيَهَا المُعْيي لم يركبْهَا» ورُوِيَ ذلك عن ابن
552
عبَّاس، إلا أنه لم يذكُرْ في آخرها ذَكَراً، وقال بعضُهُمْ: «إذَا أُنْتِجَتِ الناقَةُ خَمْسَةَ أبْطُنٍ، نُظِر في الخامس: فإن كان ذَكَراً، ذبحوه وأكَلُوه، وإن كان أنثى، شَقُّوا أذنها وتركُوها تَرْعَى وتَرِدُ ولا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ فهذه هي البَحِيرَةُ»، ورُوِيَ هذا عن قتادة، وقال بعضهم: «البحيرَةُ: الأنثى الَّتِي تكونُ خَامِسَ بطنٍ؛ كما تقدَّم بيانُه، إلاَّ أنها لا يَحِلُّ للنساءِ لَحْمُها ولا لَبَنُها، فإن ماتَتْ حَلَّتْ لهن»، وقال بعضُهُم: «البَحِيرَةَ: بِنْتُ السَّائبة»، وسيأتي تفسيرُ «السَّائِبَة»، فإذا ولدَتِ السائبةُ أنْثَى شقُّوا أذنها وتركُوها مع أمِّها ترعى وتَرِدُ ولا تُحْلَبُ ولا تُرْكَبُ حتَّى لِلْمُعْيِي، وهذا قولُ مجاهدٍ، وابنِ جُبَيْر، وقال بعضُهُمْ: «هِيَ التي مُنِعَ دَرُّهَا - أي لَبَنُهَا - لأجْلِ الطَّواغِيتِ، فلا يَحْلِبُهَا أحَدٌ» وقال بهذا سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وقيل: هي التي تُتْرَكُ في المَرْعَى بلا راعٍ، قاله ابنُ سيدة، وقيل: إذا ولدَتْ خَمْسَ إنَاثٍ شَقُّوا أذُنَهَا وتَرَكُوهَا.
نَقَلَ القُرْطِبِي عن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أنَّهُ قال: إذا أنْتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةُ أبْطُنٍ إناثٍ بُحِرَتْ أذُنُهَا، فحَرُمَتْ، قال: محرمة لا يَطْعمُ النَّاسُ لَحْمَها وقال بعضُهُمْ - ويُعْزَى لِمَسْرُوقٍ -: «إنَّهَا إذا وَلَدَتْ خَمْساً، أو سَبْعاً، شَقُّوا أذُنَهَا»، وقيل: «هي الناقةُ تَلِدُ عَشرةَ أبْطُنٍ، فَتُشَقُّ أذنُها طُولاً بنصْفَيْن، وتُتْرَك؛ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مرعى ولا ماءٍ، وإذا ماتَتْ، حَلَّ لحمها للرجالِ دون النساء»، نقله ابن عطية، وكذا قاله أبو القاسم الرَّاغب، وقيل: البَحِيرَةُ السَّقْبُ، إذا وُلِدَ، نَحَرُوا أذنه، وقالُوا: اللَّهُمَّ، إنْ عاشَ، فَقَنِيٌّ، وإن مات، فَذَكِيٌّ، فإذا مات، أكلُوه، ووجه الجمع بين هذه الأقوالِ الكثيرة: أنَّ العربَ كانت تختلفُ أفعالُها في البحيرة.
والسائبةُ قيل: كان الرَّجُل إذا قَدِمَ من سفرٍ أو شُكْرِ نعمةٍ، سَيَّبَ بعيراً فلم يُرْكَبْ ويفعل به ما تقدَّم في البحيرَة، وهذا قول أبي عُبَيْد، وقيل: هي الناقة تُنْتَجُ عَشْرَة إناثٍ، قال القرطبيُّ: ليْس بينهن ذكرٌ؛ فلا تُرْكبُ ولا يَشْرَب لبنهَا إلا ضَيْفٌ أو ولدٌ، قاله الفراء، وقيل: ما تُرِكَ لآلهتهم، فكان الرجُلُ يجيء بماشيتهِ إلى السَّدنة فيتركه عندهم ويسيل لبنه، وقيل: هي الناقَةُ تُتْرَكُ ليُحَجَّ عليها حَجَّة، ونُقِلَ ذلك عن الشافعيِّ، وقيل: هو العبدُ يُعْتَقُ على ألاَّ يَكُونَ عليه ولاءٌ، ولا عَقْلٌ ولا ميراثٌ قاله عَلقَمَةُ.
والسَّائِبَةُ هنا: فيها قولان:
أحدهما: أنها اسمُ فاعلٍ على بابه، من سَابَ يَسِيبُ، أي يَسْرَحُ، كسَيَّبَ المَاءَ، وهو مطاوعُ سَيَّبْتُهُ، يقال: سَيَّبْتُهُ فَسَابَ وانْسَابَ.
553
والثاني: أنه بمعنى مفعُول؛ نحو: «عِيشَة رَاضِيَة»، ومجيءُ فاعل بمعنى مفعول قليلٌ جدًّا؛ نحو: «ماء دافق»، والذي ينبغي أن يُقال: إنه فاعلٌ بمعنى ذي كذا، أي: بمعنى النَّسَب، نحو قولهم: لابنٌ، أي: صَاحِبُ لبنِ، ومنه في أحدِ القولَيْن: «عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ، ومَاءٌ دَافِقٌ»، أي: ذاتُ رِضاً، وذو دَفْقٍ، وكذا هذا، أي: ذَاتُ سَيْبٍ.
والوصِيلَةُ هنا فعليةٌ بمعنى فاعلةٍ على ما سيأتي تفسيرُهُ، فدخولُ التاءِ قياسٌ، واختلف أهلُ اللغةِ فيها، هَلْ هي من جنْسِ الغَنَم، أو من جنْسِ الإبلِ؟ ثم اختلَفُوا بعد ذلك أيضاً، فقال الفرَّاء: «هي الشَّاةُ تُنْتَجُ سبعةَ ابطُنٍ عَناقَيْنِ عَناقَيْنِ، فإذا ولدتْ في آخرِهَا عَنَاقاً وجَدْياً، قيل: وصلتْ أخَاهَا، فجَرَتْ مَجْرَى السَّائبة»، وقال الزجَّاج: «هي الشَّاة إذا ولدتْ ذكراً، كان لآلهتهمْ، وإذا ولدتْ أنثى، كانت لهم»، وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «هِيَ الشَّاةُ تُنْتَجُ سبْعَةَ أبْطُنٍ، فإذا كان السابعُ أنْثَى، لم تنتفعِ النساء منها بشَيْء، إلا أنْ تموتَ فيأكُلَهَا الرجَالُ والنِّسَاء، وإنْ كانَتْ ذَكَراً ذبحُوه وأكلُوه جميعاً، وإنْ كان ذكراً وأنثى، قالوا: وصلتْ أخَاهَا، فيتركُونَها معهُ لا تُذْبَحُ ولا ينتفعُ بها إلا الرجالُ، دون النِّساء، فإن ماتتِ، اشتركْنَ مع الرجالِ فيها»، وقال ابن قُتَيْبَةَ: إن كان السابعُ ذَكَراً، ذُبِحَ وأكله الرجال، دون النساء، وقالوا:
﴿خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٩] وإنْ كانَتْ أنثى، تُرِكَتْ في الغنمِ، وإن كان ذَكَرَاً وأنْثَى فكقَوْلِ ابن عبَّاس، وقيل: «هي الشَّاةُ تنتجُ عشْرَ إناثٍ متوالياتٍ في خَمْسة أبطنٍ، ثم ما ولدتْ [بعد ذلك، فللذكورِ دون الإناث» وبهذا قال أبو إسحاق، وأبو عُبَيْدَة، إلا أن أبا عُبَيْدَة قال: «وإذَا وَلَدَتْ] ذكراً وأنثى معاً، قالوا: وَصَلَتْ أخَاهَا، فلم يذبَحُوه لمكانِهَا»، وقيل: هي الشَّاة تُنْتَجُ خَمْسَةَ أبطنٍ أو ثلاثةً، فإن كان جَدْياً ذَبَحُوه، وإن كان أنثى أبْقَوْهَا، وإن كان ذَكراً وأنثى، قالوا: وصلَتْ أخاها، هذا كلُّه عند من يَخُصُّها بجنْسِ الغَنَمِ، وأما من قال: إنها من الإبل فقال: «هي النَّاقَةُ تبتكرُ، فتلدُ أنثى، ثم تُثَنِّي بولادةِ أنثى أخرى، ليس بينهما ذكَرٌ، فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وصلتْ أنثى بأنثى، ليس بينهما ذكرٌ».
والحَامِي: اسمُ فاعلٍ من حَمَى يَحْمِي أي: مَنَعَ، واختلف فيه أهلُ اللغة، فعن الفرَّاء: «هو الفحْلُ يُولَدُ لولدِ ولدِه، فيقولون: قد حَمَى ظهرَه، فلا يُرْكبُ ولا يُستعملُ ولا يُطْرَدُ عن ماءٍ ولا شجرٍ»، وقال بعضهم: «هو الفحْلُ يُنْتجُ من بَيْن أولاده ذكُورَها وإناثَهَا عشْر إنَاثٍ»، روى ذلك ابن عطيَّة. وقال بعضهم: هو الفحْلُ يُولَدُ مِنْ صُلْبهِ عَشَرَةُ أبْطُنٍ، فيقولون قد حَمَى ظهرَهُ، فيتركونَهُ كالسائبةِ فيما تقدَّم، وهذا قول ابن عبَّاس
554
وابنِ مسْعُود، وإليه مال أبو عُبَيْدَة والزجَّاج، ورُوِيَ عن الشافعيِّ: أنه الفَحْلُ يَضْرِبُ في مال صاحبِهِ عَشْرَ سنينَ، وقال ابن زَيْدٍ: هو الفحلُ يُنْتَجُ له سَبْعُ إناثٍ متوالياتٍ، فيَحْمِي ظهره، فيُفْعَلُ به ما تقدَّم، فهذا منشأ خلاف أهْلِ اللغة في هذه الأشياءِ؛ أنه باعتبار اختلافِ مذاهب العرب وآرائهم الفاسِدَة فيها، وقد أنشد أهل اللغة في كلِّ واحدٍ من هذه الألفاظ معنًى يخُصُّه؛ فأنْشَدُوا في البحيرةِ قوله: [الطويل]
٢٠٥٧ - مُحَرَّمَةٌ لا يَطْعَمُ النَّاسُ لَحْمَهَا ولا نَحْنُ فِي شيءٍ كَذاكَ البَحَائِرُ
وأنشدوا في السَّائبةِ قوله: [الطويل]
٢٠٥٨ - وَسَائِبَةٍ لله مالِي تَشَكُّراً إن اللَُّ عَافَى عَامِراً أوْ مُجَاشِعَا
ونشدوا في الوصيلةِ لتَأبَّطَ شَرًّا: [الطويل]
٢٠٥٩ - أجِدَّكَ أمَّا كُنْتَ فِي النَّاسِ نَاعِقاً تُرَاعِي بأعْلَى ذِي المَجَازِ الوَصَايلا
وأنشدوا في الحَامِي قوله: [الطويل]
٢٠٦٠ - حَمَاهَا أبُو قَابُوسَ فِي عِزِّ مُلْكِهِ كَمَا قَدْ حَمَى أوْلادَ أولادِهِ الفَحْلُ

فصل


قال سعيدُ بن المُسَيِّبِ: البَحِيرَةُ الَّتِي دَرُّها للطَّواغِيتِ، فلا يَحْلِبُها أحدٌ من النَّاسِ، والسَّائِبَةُ كانوا يسيبّونها لآلهتهم لا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شيء.
قال أبو هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَأيْتُ عَمْرو بن عَامرٍ الخُزَاعِي يجر قُصْبَهُ في النَّار؛ وكان أوَّل من سَيَّبَ السَّوَائِبِ».
وروى أبو هريرة قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأكثم بن الجون الخُزَاعِي «يَا أكثَمُ، رَأيْتُ عَمْرو بن لحي بن قمعة بن خِنْدف يَجُرُّ قصبَهُ في النَّار؛ فما رَأيْتُ من رَجُلٍ أشْبَه من رَجُلٍ مِنْكَ به، ولا بِه مِنْكَ؛ وذلك لأنَّه أوَّل من غَيَّر دينَ إسْمَاعيل، ونَصَبَ الأوْثَانِ، وبَحَر البَحَائِر، وسَيَّبَ السَّائِبَة، ووصلَ الوصِيلَةَ، وحمى الحَامِي، ولقد رَأيْتُه في النَّار
555
يؤذِي أهْلَ النَّار بريح قصبِهِ» فقال أكْثَم أيَضُرُّنِي شَبَهُهُ يا رسُول اللَّهِ؟ قال: «لا. إنَّك مُؤمِنٌ وهو كَافِرٌ».
فإن قيل: إذا جَاز إعْتَاقُ العَبيدِ والإماء، فَلِمَ لا يجوزُ إعْتَاقُ هذه البهائِمِ من الذَّبْحِ والإيلامِ؟ فالجوابُ من وجهين:
الأوَّل: إنَّ الإنسانَ مَخْلُوقٌ لِخِدْمة اللَّه وعُبُودِيَّتِهِ، فإذا تمرَّد عن الطَّاعَةِ، عُوقِبَ بضَرْب الرِّقِّ عَلَيْه، فإذا أُزِيلَ الرِّقُ عنه تَفَرَّغَ لعِبَادة اللَّهِ تعالى، وكان ذَلِكَ عِبَادَة مُسْتَحْسَنَة، وأمَّا هذه الحيوانَات، فإنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافعِ المُكَلَّفين، فَتَرْكُهَا وإهمالُها يَقْتَضِي فوات مَنْفَعَةٍ على مَالِكَها، مِنْ غير أنْ يَحْصُلَ في مُقَابلَتِهَا فَائِدة.
والثاني: أنَّ الإنْسَان إذا أُعْتِق، قدَر على تَحْصِيل مَصَالِح نَفْسِه، والبَهِيمَةُ إذا عُتِقَتْ وتُرِكَت، لم تَقْدِرْ على تَحْصِيل مَصَالِحِ نَفْسِها، بل تَقَعُ في أنْواعٍ من المِحْنَة أشَدّ وأشَقّ مما كانت فيها حَالَ ما كانَتْ مَمْلوكةً، فافْتَرقَا.

فصل


قال القرطبي: تَعَلَّقَ أبُو حنيفَةَ في منعه الأحْبَاس وردِّ الأوْقَافِ، بأنَّ اللَّه تعالى عَابَ على العَرَبِ أفْعَالَهُم في تَسييب البَهَائِم وحِمَايتهَا، وحَبْس أنْفسها عَنْهَا، وقاسَ ذَلِكَ على البَحِيرَةِ والسَّائِبَةِ.
قال القُرْطُبِيُّ: والفرْقُ بَيِّنٌ، قال عَلْقَمَةُ لمن سألَهُ عن هَذِه الأشْيَاء، ما تُريدُ إلى شَيْء كان من عَمَلِ الجاهلية؟! وقد ذهب جُمْهُور العُلَمَاءِ على جَوَازِ الأحْبَاسِ والأوْقَاف، لما رَوَى نَافِعٌ، عن ابن عُمَر: «أنَّه اسْتَأذَنَ رسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بأن يَتَصَدَّق بسَهْمِه بِخَيْبَر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» احْبِسِ الأصْل أو سبل الثَّمَرَة «.
ثم قال تعالى ﴿ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب﴾.
قال ابنُ عبَّاس: يريدُ عَمْرو بن لُحَيّ وأعوانه، ﴿يَفْتَرُونَ على الله﴾ هذه الأكَاذِيب، ويقولون: أمرْنا بِهَا، قالُوا: وساءَ ما يَفْتَرُون على اللَّهِ الكذب، والأتْبَاعُ والعوام أكَثرهُمُ لا يَعْقِلُون.
556
قوله ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول﴾ أي] في تحليل الحَرْثِ والأنعامِ، وبيان الشرائع والأحكام، قالُوا: حَسْبُنَا ما وجدنَا عليه آباءَنَا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون وهذا رد على أصحاب التقليد.
قوله تعالى: ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ﴾ «حَسْبُنَا» مبتدأ، وقد تقدَّم أنه في الأصلِ مصدرٌ، والمرادُ به اسمُ الفاعل، أي: كَافِينَا، وتفسيرُ ابن عطية له ب «كَفَانَا» تفسيرُ معنًى، لا إعراب، و «مَا وَجَدْنَا» هو الخبر، و «مَا» ظاهرُها أنها موصولة اسميةٌ، ويجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، أي: كَافِينَا الذي وجدنا، و «وَجَد» يجوز أن يكون بمعنى المُصَادفة، ف «عَلَيْهِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «وَجَدْنَا» وأنه متعدٍّ لواحد.
والثاني: أنه حال من «آباءَنَا»، أي: وجدناهم مُسْتَقِرينَ عليه، ويجوز أن يكون بمعنى العلْمِ، فيتعدَّى لاثنين ثانيهما «عَلَيْهِ».
وقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ﴾ قد تقدَّم إعراب هذا في البقرة [الآية ١٧٠]، وأنَّ «لَوْ» هنا معناها الشرط، وأنَّ الواوَ للحال، وتقدَّم تفسيرُ ذلك كلِّه؛ فأغنى عن إعادته، إلاَّ أنَّ ابن عطيَّة قال هنا: «ألِفُ التوقيفَ دخلَتْ على واو العَطْف» قال شهاب الدين: تسميةُ هذه الهَمْزةِ للتوقيفِ فيه غرابةٌ في الاصطلاحِ، وجعلَ الزمخشريُّ هذه الواو للحالِ، وابنُ عطيَّة جعلها عاطفةً، وتقدَّم الجمعُ بين كلامهما في البقرة، واختلافُ الألفاظِ في هاتين الآيتينِ - أعْنِي آيةَ البقرةِ، وآية المائِدَة - مِنْ نَحْو قوله هناك: «اتَّبِعُوا» وهنا «تَعَالَوْا» وهناك «ألْفَيْنَا» وهنا «وَجَدْنَا» من باب التفنُّن في البلاغة.
واعلم: أنَّ الاقْتِدَاء إنَّما يَجُوزُ بالعالِمِ المُهْتَدِي، وهو الذي قولُهُ مَبْنِيٌّ على الحُجَّةِ والدَّليل، فإن لمْ يكُنْ كذلِكَ لم يَكُنْ عالماً مهتدياً، فلا يَجُوزُ الاقْتِدَاءُ به.
لمَّا بين أنَّ هؤلاء الجُهَّالِ لم ينتَفِعُوا بِشَيءٍ ممَّا تقدَّم من التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، بل بَقُوا مُصِرِّين على جَهْلهم وضَلالِهم، قال: فَلا تُبَالوا أيّها المُؤمِنُون بجهالاتِهِم، بل كُونُوا مُنْقَادِين لتَكَالِيفِ اللَّهِ تعالى، فلا يضُّرُّكم ضلالَتُهُم.
557
قوله: «عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ» : الجمهورُ على نَصْب «أنْفُسَكُمْ» وهو منصوب على الإغْرَاء ب «عَلَيْكُمْ» ؛ لأنَّ «عَلَيْكُمْ» هنا اسمُ فعلٍ؛ إذ التقديرُ: الزمُوا أنْفُسَكُمْ، أي: هَدايَتَهَا وحِفْظَهَا مِمَّا يُؤذِيَها، ف «عَلَيْكُمْ» هنا يرفعُ فاعلاً، تقديره: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ؛ ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوعٌ؛ نحو: «عَلَيْكُمْ أنْتُمْ وزَيْدٌ الخَيْرَ» ؛ كأنك قُلْتَ: الزَمُوا أنتم وزَيْدٌ الخَيْرَ، واختلف النحاةُ في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتها؛ نحو: إلَيْكَ ولدَيْكَ ومَكَانَكَ، فالصحيحُ أنه في موضع جرٍّ؛ كما كان قبلَ أن تُنْقَلَ الكلمةُ إلى الإغراء، وهذا مذهب سيبويه، واستدلَّ له الأخفشُ بما حكى عن العرب «عَلَى عَبْدِ الله» بجرِّ «عَبْدِ الله» وهو نصٌّ في المسألة، وذهب الكسائيُّ إلى أنه منصوبُ المحلِّ، وفيه بُعْدٌ؛ لنصبِ ما بعدهما، أعني «عَلَى» وما بعدها كهذه الآية، وذهب الفرَّاء إلى أنه مرفوعُه.
وقال أبو البقاء - بعد أن جعل «كُمْ» في موضع جرّ ب «عَلَى» بخلافِ «رُوَيْدَكُمْ» -: «فإن الكاف هناك للخطَابِ، ولا موضع لها، فإن» رُوَيْد «قد استُعملتْ للأمر المواجه من غير كافِ الخطابِ، وكذا قوله تعالى: ﴿مَكَانَكُمْ﴾ [يونس: ٢٨] » كُمْ «في محل جَرٍّ»، وفي هذه المسألة كلامٌ طويلٌ، صحيحُه أنَّ «رُوَيْد» تارةً يكون ما بعدها مَجْرُورَ المحلّ وتارةً منصوبَهُ، وقد تقدَّمَ في سورةِ النساءِ الخلافُ في جواز تقديمِ معمُولِ هذا البابِ عليه.
قال ابنُ الخطيب: قال النَّحْوِيُّونَ: «عَلَيْك، وعِنْدَك، ودُونَك» من جُمْلة أسْماءِ الأفْعَال، فَيُعدُّونَهَا إلى المَفْعُول، ويُقِيمُونَهَا مقامَ الفِعْلِ، وينصِبُون بِهَا، فإذا قال: «عَلَيْك [زيداً] » كأنه قال: خُذْ زيْداً [فقد عَلاَك، أي أشْرَفَ عليْك]، وعِنْدَك زَيْداً، أي: حَضَرَك فَخُذْهُ، و «دُونَك» أي: قَرُبَ مِنْكَ فَخُذْهُ، فهذه الأحرف الثلاثَةُ لا خِلاَف بَيْن النُّحَاة في جوازِ النَّصْب بِهَا.
وقرأ نافعُ بن أبي نُعَيْمٍ: «أنْفُسُكُمْ» رفعاً فيما حكاه عنه صاحبُ «الكشَّاف»، وهي مُشْكَلِةٌ، وتخريجُها على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، و «عَلَيْكُمْ» خبره مقدَّم عليه، والمعنى على الإغْراء أيضاً؛ فإنَّ الاغراء قد جاء بالجملة الابتدائيَّة، ومنه قراءةُ بعضهم ﴿نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا﴾ [الشمس: ١٣]، وهذا تحذيرٌ نظيرُ الإغراء.
والثاني من الوجهين: أن تكون توكيداً للضميرِ المُستترِ في «عَلَيْكُمْ» ؛ لأنه كما تقدَّم تقديره قائمٌ مقام الفعْلِ، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيدٍ بضمير منفصلٍ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ أنْفُسُكُمْ صَلاحَ حالِكُمْ وهدايَتَكُمْ.
558
قوله: «لا يَضُرُّكُمْ» قرأ الجمهور بضمِّ الراء مشددة، وقرأ الحسن البصريُّ: «لا يَضُرْكُمْ» بضم الضادِ وسكُونِ الراء، وقرأ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: «لا يَضِرْكُمْ» بكسر الضادِ وسكون الراءِ، وقرأ ابو حيوة: «لا يَضْرُرُكُمْ» بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية.
فأمَّا قراءةُ الجمهور: فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الفعلُ فيها مَجْزُوماً على جوابِ الأمر في «عَلَيْكُمْ»، وإنما ضُمَّتِ الراءُ إتباعاً لضمَّةِ الضَّادِ، وضمةُ الضادِ هي حركةُ الراء الأولى، نُقِلَتْ للضَّادِ [لأجلِ] إدغامها في الراء بعدها، والأصْلُ: «لا يَضْرُرْكُمْ»، ويجوز أن يكون الجزمُ لا على وجه الجواب للأمرِ، بل على وجهِ أنه نهي مستأنفٌ، والعملُ فيه ما تقدَّم؛ وينصُرُ جواز الجزمِ هنا على المعنيين المذكورينِ من الجواب والنهْيِ: قراءةُ الحسنِ والنخَعِيِّ؛ فإنهما نَصٌّ في الجزْمِ، ولكنهما محتملتان للجَزْمِ على الجوابِ أو النهي.
والوجه الثاني: أن يكون الفعلُ مرفوعاً، وليس جواباً ولا نهياً، بل هو مستأنفٌ سِيقَ للإخبار بذلك، وينصرُه قراءةُ أبي حَيْوَةَ المتقدِّمةُ.
وأمَّا قراءةُ الحسن: فَمِنْ «ضَارَهُ يَضُورُهُ» كصَانَهُ يَصُونُهُ، وأما قراءة النخَعِيِّ فمِنْ «ضَارَهُ يَضِيرُهُ» كَبَاعَهُ يبيعُهُ، والجزم فيهما على ما تقدَّم في قراءة العامة من الوجهين، وحكى أبو البقاء: «لا يَضُرَّكُمْ» بفتح الراء، ووجهها على الجزم، وأن الفتح للتخفيفِ، وهو واضح، والجزم على ما تقدَّم أيضاً من الوجهين، وهذه كلُّها لغاتٌ قد تقدَّم التنبيهُ عليها في آل عمران [الآية ١٤٤].
و «مَنْ ضَلَّ» فاعلٌ، و «إذَا» ظرفٌ محضٌ ناصبه «يَضُرُّكُمْ»، أي: لا يَضُرُّكُمُ الذي ضَلَّ وقتَ اهْتِدَائِكُمْ، ويجوز أن تكون شرطية، وجوابُها محذوفٌ؛ لدلالةِ الكلام عليه، وقال أبو البقاء: «ويبعُدُ أن تكون ظرفاً ل» ضَلَّ «؛ لأنَّ المعنى لا يَصِحُّ معه»، قال شهاب الدين: لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّنْ يضلُّ وقْتَ اهتدائهم، فقد يُتَوَهَّم أنه لا ينتفي عنهم ضَرَرُ من ضلَّ في غيرِ وقْتِ اهتدائِهِمْ، ولكنَّ هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذكره.

فصل في سبب نزول الآية


في سببِ نُزُولِ الآيَةِ وُجُوهٌ:
559
أحدها: رَوَى الكَلْبِيُّ عن أبِي صالح عن ابْنِ عبَّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قَبِلَ من أهْلِ الكِتَابِ الجِزْيَة، من بَعْضِ الكُفَّار دُون بَعْض، نزلتْ هذه الآية، والمعنى: لا يَضُركُم ملامة اللاَّئِمِين إذا كُنْتُم على الهُدى.
وثانيها: أنَّ المُؤمنين كان يشْتَدُّ عليهم بَقَاءُ الكُفَّارِ على كُفْرِهمْ وضَلاَلتِهِم، فقيل لَهُم: عَلَيْكُم أنْفسكُم بإصلاحِهَا، والمَشْي بها في طريقِ الهُدَى، لا يَضُرُّكُم ضلال الضَّالِّين، ولا جَهْلُ الجَاهِلِين.
وثالثها: أنَّهُم كانوا يَغْتَمُّونَ لِعَشَائِرِهمْ لمَّا مَاتُوا على الكُفْرِ، فَنُهُوا عن ذلك.
قال ابن الخَطيبِ: والأقربُ عِنْدِي، أنَّه تعالى لما حَكَى عَنْ بَعْضِهم أنَّه إذا قِيلَ لَهُمْ: ﴿تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ﴾ [المائدة: ١٠٤] بيَّن تعالى بهذه الآية، أنَّه لا يَنْبَغِي للمُؤمِنِينَ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ في هذه الطَّريقَةِ الفَاسِدَةِ، بل يَنْبَغِي أنْ يَصْبِروا على دينهِم، وأنْ يَعْلَمُوا أنَّه لا يَضُرُّهُمْ جَهْلُ أولَئِك.

فصل


رُوِي عن أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال: يا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمُ تَقْرَؤُون هذه الآية ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم﴾ فإنِّي سَمِعْتُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنَّ النَّاس إذا رَأوا مُنْكَراً فَلَمْ يُغيّروه، يُوشِكُ أن يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِه».
وفي رواية: «لَتَأمُرُنَّ بالمعرُوفِ، ولتنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أو لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فليَسُومُونكمْ سُوءَ العذابِ، ثُمَّ ليَدْعون اللَّه خيارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ».
قال أبُو عُبَيْدة: خاف الصِّدِّيق أن يتأوَّل النَّاسُ الآية غير مُتَأوّلها، فيَدْعُوهم إلى تَرْكِ الأمْرِ بالمعرُوف، فأعْلَمَهُم أنَّها لَيْسَتْ كذلك، وأنَّ الذي أذِنَ في الإمْسَاكِ عن تَغْييرِه من المُنْكر، هو الشِّرْكُ الذي يَنْطِقُ به المُعَاهدُون من أجل أنَّهُم يَتَديَّنُون به، وقد صُولِحُوا عليه، فأمَّا الفُسُوق والعِصْيَان والذَّنْبُ من أهْل الإسلام، فلا يَدْخُلُ فيه.
وعن ابن مسعودٍ قال في هذه الآية: مُرُوا بالمعْرُوف وانْهَوْا عن المُنْكَرِ ما قُبِلَ مِنْكُم، فإن رُدَّ عَلَيْكم فَعَليْكُم أنْفُسَكُمْ.
560
ثُمَّ قال: إنَّ القُرآنَ نزلَ مِنْهُ آيٌ قد مضى تَأويلهُنَّ قَبْلَ أن يَنْزِلْن، ومِنْهُ آي: وقعَ تَأويلُهُنَّ على عَهْد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومِنْهُ آيٌ: وقعَ تَاوِيلُهُنَّ بَعْدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِيَسِيرٍ، ومنه آي: وقعَ تأويلهن في آخِرِ الزَّمَانِ، ومنه آي: وقعَ تَأويلُهُنَّ يوم القيامة، وهو ما ذُكِرَ من الحِسَابِ والجَنَّةِ والنَّارِ، فما دَامَتْ قلوبُكُمْ وأهْوَاؤكُمْ وَاحِدَةٌ، ولم تلْبسُوا شِيَعاً، ولم يَذُقْ بَعْضُكم بأسَ بَعْض، فأمُرُوا وانْهَوْا، فإن اخْتَلَفت القُلُوبُ والأهْوَاء وألْبِسْتُم شيعاً، وذاقَ بَعْضُكم بأسَ بعض، فامرؤ ونفسهُ، فعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَنَا تَأوِيلُ هذه الآيَة.
قال ابنُ الخَطيبِ: وهذا التَّأويلُ عندي ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الآيَةَ خِطَابٌ عامٌّ لِلْحَاضِرِ والغَائِبِ، فكيف يُخرجُ الحَاضِر، ويُخَصُّ الغَائِب. ورَوى أبُو أمَيَّة الشَّعبانِيِّ قال: «أتَيْتُ أبا ثَعْلَبَة، فقُلْتُ: كيف نَصْنَعُ في هذه الآية؟ فقال: أيُّ آيةٍ؟ قلت: قَوْلُ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، فقال: أمَا واللَّهِ لَقَدْ سألْتَ عنها خَبِيراً، سألتُ عَنْهَا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: بَلْ ائتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ وتَنَاهوا عن المُنْكَر، حتَّى إذَا رَأيْتَ شُحَّاً مُطَاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً، ودُنْيا مُؤثرة، وإعْجَاب كُلِّ ذِي رأيٍ برأيِهِ، ورَأيتَ أمْراً لا بُدَّ لَكَ مِنْهُ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ ودَعْ أمْرَ العَوَامِّ، وإنَّ وراءَكُم أيام الصَّبر، فَمَنْ صَبَرَ فيْهنَّ قبض على الجَمْر للعامل فيهنَّ مِثْلُ أجر خَمْسِين رجلاً يعملون مثله»
، قال ابن المبارك: وزادني غيره، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجرُ خمسين منكم.
فإن قيل: ظَاهِرُ الآيةِ يُوهِمُ أنَّ الأمر بالمَعْرُوفِ، والنَّهْي عن المُنْكَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
فالجَوَابُ من وُجُوهٍ:
أحدها: أنَّ الآيَةَ لا تَدُلُّ على ذلك، بل تَدلُّ على أنَّ المُطِيعَ لا يُؤاخَذُ بِذُنُوبِ العَاصِي، وأمَّا وُجُوب الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، فَثَبت بما تقدَّم من الدَّلائلِ وغَيْرِها.
وثانيها: أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بالكُفَّار المُصرِّين على الكُفْرِ، ولا يَتْرُكُون الكُفْر بسببِ الأمْر بالمَعْرُوفِ، فَهَهُنَا يَجِبُ على الإنْسَانِ مُخَالَفَةُ الأمْرِ بالمَعْرُوفِ.
وثالثها: أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا إذا خَافَ الإنْسَانُ عند الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ على نَفْسِهِ وعِرضه وماله.
ورابعها: المعنى: لا يَضُرُّكُمْ إذا اهْتَدَيْتُم، فأمَرْتُمْ بالمَعْرُوف ونَهَيْتُم عَنِ المُنْكَر ضلالُ مَنْ ضَلَّ، فَلَمْ يقبَل ذَلِكَ.
وخامسها: أنَّه تعالى قال لرسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ
561
إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: ٨٤]، وذَلِكَ لم يَدُلَّ على سُقُوطِ الأمْرِ بالمَعْرُوف عن الرَّسُولِ، فَكَذَا هَاهُنَا.
ثم قال تعالى: ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾، أي: الضَّال والمُهْتَدِي ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي يُجَازيكُمْ بأعمالِكُمْ.
562
لَمَّا أمَر اللَّه تعالى بِحِفْظِ النَّفْسِ في قوله «عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ»، أمر بِحفْظِ المالِ في هذه الآية.
قال القُرْطُبِي: وردَ لَفْظُ الشَّهَادة في القُرآنَ على أنْوَاع مُخْتَلِفَةٍ:
الأول: بِمَعْنَى الحُضُور، قال تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥].
الثاني: بمعنى قَضَى، أي: أعلم قال تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨].
قال أبو عُبَيْدَة: الثالث: بمعنى أقرَّ، قال تعالى: ﴿والملاائكة يَشْهَدُونَ﴾ [النساء: ١٦٦].
الرابع: شَهِدَ بمعنى حَكَم، قال تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ [يوسف: ٢٦].
الخامس: شَهِدَ بمعنى حَلَف، قال تعالى ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ﴾ [النور: ٦] أي: أنْ يَشْهَدَ أرْبَع شَهَادَاتٍ باللَّهِ.
السادس: شَهِدَ بمعنى وصَّى، قال تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾، وقيل مَعْنَاهَا هنا الحُضُور للوصيَّة، يقال: «شَهِدْتُ وصيَّةَ فلانٍ» أي: حَضَرْتُ، وذهَب الطَّبَري إلى أنَّ الشَّهَادةَ بِمَعْنَى اليمين، فيكُونُ المَعْنَى: يَمِينُ مَا بَيْنَكُم أنْ يَحْلِفَ اثْنَان، ويَدُلُّ على ذَلِك، أنَّهُ يُعْلَمُ للَّه حُكْم يَجِبُ فيه على الشَّاهِدِ يَمِينٌ، وهذا
562
القَوْلُ اخْتَارَهُ القَفَّال، وسُمِّيتِ اليَمِينُ شَهَادَة؛ لأنَّها يثبت بِهَا الحُكْمُ بِمَا يَثْبُتُ بالشَّهَادَةِ، واخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّة هُنَا أنَّهَا الشَّهَادة التي تُحْفَظُ فَتُؤدَّى.

فصل في سبب نزول الآية


وسبَبُ نُزُولِها مَا رُوِي: أنَّ تَمِيمَ بن أوْسٍ الدَّارِيِّ وعَدِيّ بن زَيْدٍ كَانَا نَصْرانيينِ، خرجا من المدينةِ إلى الشَّامِ للتِّجَارَة، ومَعهُمَا بديل مَوْلَى عَمْرو بن العَاص، وكان مُسْلِماً مُهَاجراً، فلمَّا قَدِمُوا إلى الشَّام مَرِضَ بَدِيل، فكَتَبَ كِتَاباً فيه جَمِيعُ ما مَعَهُ من المَتَاعِ، وألْقَاهُ في جَوَالِق، ولم يُخبِر صَاحِبَيْه بِذلِك، فلمَّا اشْتَدّ مَرَضُهُ، أوْصَى إلى تَميم وعَدِيّ، وأَمَرَهُمَا أن يَدْفَعَا مَتَاعهُ إذا رجعا إلى أهْلِهِ، ومات «بَدِيل» فَفَتَّشَا متَاعَهُ، وأخَذَا مِنْهُ إناء فضَّةٍ مَنْقُوشاً بالذَّهَبِ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ من فِضَّةٍ فغيَّبَاه، ثم قَضَيَا حَاجَتَهُمَا وانْصَرَفا إلى المدينةِ، فَدَفَعا المتاع إلى أهْلِ البَيْتِ، فَفَتَّشُوا وأصَابُوا الصَّحِيفَة، فيها تَسْمِيَةُ ما كان مَعَهُ، فَجَاءوا تَمِيماً وعَدِيًّا، فقالُوا: هل باع صَاحِبُنَا شَيْئاً من مَتَاعِهِ؟ قالاَ: لاَ، قالوا: فهل اتَّجَرَ تِجَارَةً؟ قَالاَ: لاَ، قالُوا: فَهَلْ طَالَ مَرَضُهُ فأنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ؟ قالاَ: لاَ، فقالُوا: إنَّا وَجَدْنَا في متاعِهِ صَحِيفَةً فيها تَسْمِيَةُ ما مَعَهُ، وإنَّا قَدْ فَقَدْنَا منها إنَاءً من فِضَّةٍ مُمَوَّهاً بالذَّهِبِ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ فِضَّة فقالا: ما نَدْري، إنَّما أوْصَى لنا بِشَيْء، وأمَرَنَا أن نَدْفعه إلَيْكم فَدَفَعْنَاه، وما لنا عِلْمٌ بالإنَاء، فاخْتَصَمُوا إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأصَرَّا على الإنْكَار، وحَلَفَا فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ : هذه الآية وما بعدها من أشْكَلِ القُرآنِ حُكْماً وإعْراباً وتَفْسيراً، ولم يَزَلِ العلماءُ يستشكلُونَها حتى قال مكيُّ بنُ أبي طالبٍ في كتابه المسمَّى ب «الكشف» :«هذه الآيةُ في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصْعَب آي في القُرْآن وأشْكلِها، قال: ويحتملُ أن يُبْسَطَ ما فيها من العلوم في ثلاثينَ ورقةً أو أكثر» ؛ قال: «وقد ذكرنَاهَا مشروحةً في كتاب مفردٍ»، وقال ابن عطية: «وهذا كلامُ من لم يَقَعْ له الثَّلَجُ في تَفْسيرها، وذلك بَيِّنٌ من كتابه»، وقال السَّخَاوِيُّ: «لم أر أحداً من العلماء تَخَلَّصَ كلامُه فيها من أولها إلى آخرها»، وقال الواحديُّ: «وهذه الآية وما بعدها من أعوص ما في القرآن معنًى وإعراباً وتفسيراً» قال شهاب الدين: وأنا أستعينُ الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفةِ تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع، وبالله الحول والقوة.
563
قرأ الجمهورُ «شَهَادَة بَيْنِكُمْ» برفع «شَهَادةُ» مضافةً ل «بَيْنِكُمْ»، وقرأ الحسنُ والأعرجُ والشَّعْبِيُّ برفعها منوَّنةً «بَيْنَكُمْ» نصباً، والسُّلَميُّ والحسنُ والأعرجُ - في رواية عنهما -: «شَهَادَةً» منونَّةً منصوبة، «بَيْنَكُمْ» نصباً، فأمَّا قراءة الجمهور، ففي تخريجها خمسةُ أوجه:
أحدها: أنها مرفوعةٌ بالابتداءِ، وخبرُها «اثْنَانِ»، ولا بدَّ على هذا الوجه من حذفِ مضافٍ: إمَّا من الأوَّل، وإمَّا من الثاني، فتقديرُه من الأول: ذَوَا شَهَادَةِ بَيْنكُمُ اثنانِ، أي صَاحِبَا شهادةِ بينكم اثنانِ، وتقديرُه من الثاني: شهادةُ بينكم شهادةُ اثنين، وإنما اضطررْنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبرُ على شيءٍ واحدٍ؛ لأنَّ الشهادة معنًى، والاثنان جُثَّتَانِ، ولا يجيء التقديران المذكورانِ في نحو: «زَيْدٌ عَدْلٌ» وهما جعله نفس المصدرِ مبالغةً أو وقوعُه موقع اسم الفاعل؛ لأنَّ المعنى يَأبَاهُمَا هنا، إلا أنَّ الواحديَّ نقل عن صاحب «النَّظْم» ؛ أنه قال: «شَهَادَة» مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ الأسْمَاء. يريدُ بالشهادة الشهود؛ كما يقال: رَجُلٌ عَدْلٌ ورِضاً، ورجالٌ عَدْلٌ ورِضاً وزَوْر، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشُّهُود، كان على حذف المضاف، ويكون المعنى: عدَّة شهودٍ بينكم اثنانِ، واستشهد بقوله: ﴿الحج أَشْهُرٌ﴾ [البقرة: ١٩٧]، أي: وقتَ الحجِّ، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل: «الحَجُّ في أشْهُرٍ»، فعلى ظاهر هذا أنه جعل المصدر نفس الشهود مبالغةً، ولذلك مثله ب «رِجَال عَدْل»، وفيه نظر.
الثاني: أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها محذوفٌ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام، و «اثْنَان» على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو «شهادة»، والتقدير: فيما فَرَضَ عليْكُمْ أن يشهد اثْنَانِ، كذا قدَّره الزمخشريُّ وهو أحد قولي الزَّجَّاج، وهو ظاهرٌ جدًّا، و «إذَا» على هذين الوجهين ظرف ل «شَهَادَةُ»، أي ليُشْهَد وقتُ الموت - أي أسبابه - و «حِينَ الوصيَّةِ» على هذه الأوجه؛ فيه ثلاثة أوجه:
أوجهها: أنه بدلٌ من «إذَا»، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره، قال: «وفي إبداله منه دليلٌ على وجوب الوصية».
الثاني: أنه منصوبٌ بنَفْسِ الموت، أي: يقع المَوْتُ وقْتَ الوصية، ولا بُدَّ من تأويله بأسباب الموت؛ لأنَّ وقتَ الموتِ الحقيقيِّ لا وصيةَ فيه.
الثالث: أنه منصوبٌ ب «حَضَرَ»، أي: حَضَر أسباب الموتِ حين الوصيَّة.
الثالث: أنَّ «شَهَادَةُ» مبتدأ، وخبره: «إذَا حضَر»، أي: وقوعُ الشهادة في وقتِ
564
حضُورِ الموتِ، و «حِينَ» على ما تقدَّم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً، ولا يجوزُ فيه، والحالةُ هذه: أن يكون ظرفاً للشهادة؛ لئلا يلزمَ الإخبارُ عن الموصول قبل تمامِ صلته، وهو لا يجوزُ؛ لما مرَّ، ولمَّا ذكر أبو حيَّان هذا الوجه، لم يستدركْ هذا، وهو عجيبٌ منه.
الرابع: أنَّ «شَهَادَةُ» مبتدأ، وخبرُها «حِين الوصيَّةِ»، و «إذَا» على هذا منصوبٌ بالشَّهَادَةِ، ولا يجوز أن ينتصب ب «الوصيَّة»، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ المصدر المؤوَّلَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريِّين، ولو كان ظرفاً، وأيضاً: فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأن تقديم المعمول يُؤذِنُ بتقديمِ العامل، والعاملُ لا يتقدَّم، فكذا معمولُه، ولم يجوِّزوا تقديم معمُولِ المضافِ إلَيْه على المضاف إلا في مسألة واحدة، وهي: إذا كان المضافُ لفظةَ «غَيْر» ؛ وأنشدوا: [البسيط]
٢٠٦١ - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ
ف «عِنْدِي» منصوبٌ ب «مَكفُور» ؛ قالوا: لأنَّ «غَيْر» بمنزلة «لاَ»، و «لاَ» يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها، وقد ذكر الزمخشريُّ ذلك آخرَ الفاتحةِ، وذكر أنه يجوزُ «أنَا زَيْداً غَيْرُ ضَارِبٍ» دون «أنَا زَيْداً مِثْلُ ضَارِبٍ»، و «اثنان» على هذين الوجهين الأخيرين يرتفعان على أحد وجهين: إمَّا الفاعلية أي: «يَشْهَدُ اثْنَانِ» يدل عليه لفظ «شَهَادة»، وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب «شهادة» أيضاً أي: الشاهدان اثنان.
الخامس: أنَّ «شهَادَةُ» مُبْتدأ، و «اثْنَانِ» فاعلٌ سدَّ مَسدَّ الخبَر، ذكره أبُو البقاء وغيره، وهو مذهبُ الفرَّاء، إلا أنَّ الفرَّاء قدَّر الشَّهادةَ واقِعةً موقعَ فِعْلِ الأمْر؛ كأنه قال: «لِيَشْهَدِ اثْنَانِ»، فجعلُه من باب نِيَابةِ المصْدَرِ عن فِعْل الطَّلَبِ، وهو مثل «الحَمْدُ لله» و ﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ [هود: ٦٩] ؛ من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ ضعيفٌ ردَّه النَّحْوِيُّون، ويخصُّون ذلك بالوصْفِ المعتمد على نَفْيٍ أو استفهامٍ؛ نحو: «أقَائِمٌ أبَواكَ» وعلى هذا المذهب ف «إذَا» و «حِينَ» ظرفان مَنْصُوبان على ما تقرَّر فيهمَا في غير هذا الوجه؛ وقد تَحَصَّلْنا فيما تقدَّم أنَّ رفع «شَهَادَةُ» من وجْهِ واحدٍ؛ وهو الابتداءُ، وفي خبرها خَمْسَة أوجه تقدَّم ذكرُها مُفَصَّلَةً، وأنَّ رفع «اثْنَان» من خَمْسة أوْجُه:
الأول: كونه خَبَراً ل «شَهَادَةُ» بالتَّأويل المذكُور.
الثاني: أنه فاعلٌ ب «شَهَادَةُ».
الثالث: أنه فاعلٌ ب «يَشْهَدُ» مقدَّراً.
565
الرابع: أنه خبر مُبْتدأ، أي: الشَّاهدان اثْنَانِ.
الخامس: أنه فاعلٌ سَدَّ مسدَّ الخبر، وأنَّ في «إذَا» وجهين: إمَّا النَّصْبَ على الظرفيَّة، وإمَّا الرفع على الخَبَرِيَّة ل «شَهَادَةُ»، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبلُ، وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدَّم في قراءة الجُمْهور من غير فَرْقٍ.
وأمَّا قراءةُ النصبِ، ففيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها - وإليه ذهب ابن جنِّي -: أنها منصوبةٌ بفعل مضمرٍ، و «اثْنَان» مرفوعٌ بذلك الفعل، والتقدير: ليُقِمْ شهادةَ بَيْنكُمُ اثْنَانِ، وتبعه الزمخشريُّ. وقد ردَّ أبو حيان هذا؛ بأن حذف الفعل وإبقاء فاعله، لم يُجِزْهُ النحويون، إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله؛ كقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦ - ٣٧] في قراءة ابن عامر وأبي بَكْرٍ، أي: يُسَبِّحُهُ رجال؛ ومثله: [الطويل]
٢٠٦٢ - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ
وفيه خلافٌ: هل يَنْقاسَ أو لا؟ أو يُجَابَ به نَفْيٌ؛ كقوله: [الطويل]
٢٠٦٣ - تَجَلَّدْتَ حَتَّى قِيلَ: لَمْ يَعْرُ قَلْبَهُ... مِنَ الوَجْدِ شَيْءٌ قُلْتُ: بَلْ أعْظَمُ الوَجْدِ
أي: بَلْ عراه أعظمُ الوجْدِ، وما نحْنُ فيه ليس من الأشياء الثلاثة.
الثاني: أن «شَهَادَةً» بدل من اللفظ بفعل، أي: إنها مصدر ناب مناب الفعلِ، فيعملُ عملَه، والتقدير: لِيَشْهد اثْنَانِ، ف «اثْنَانِ» فاعل بالمصدر، لنيابته منابَ الفعلِ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ، على حسبِ الخلاف في أصل المسألة، وإنما قدَّرْتُه «لِيَشْهَدِ اثْنَانِ»، فأتيتُ به فعلاً مضارعاً مقروناً بلام الأمر، ولم أقدِّرْهُ فِعْلَ أمر بصيغة «افْعَلْ» ؛ كما يُقَدِّرُه النحويُّون في نحو: «ضَرْباً زَيْداً»، أي: «اضْرِبْ» لأنَّ هذا قد رفع ظاهراً وهو «اثنانِ»، وصيغةُ «افْعَلْ» لا ترفع إلا ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً؛ ومثلُه قوله: [الطويل]
٢٠٦٥ -................................... فَنَدْلاً زُرَيْقُ المَالَ نَدْلَ الثَّعَالِبِ
566
ف «زُرَيْقُ» يجوز أن يكون منادًى، أي: يا زُرَيْقُ، والثاني: أنه مرفوع ب «نَدْلاً» على أنه واقعٌ «لِيَنْدَلْ»، وإنما حُذِف تنوينه؛ لالتقاء الساكنين؛ على حَدِّ قوله: [الطويل]
٢٠٦٦ -................................... وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
الثالث: أنَّ «شَهَادَةً» بدل من اللفظ بفعلٍ أيضاً، إلا أنَّ هذا الفعل خبريٌّ، وإن كان أقلَّ من الطلبيِّ، نحو: «حَمْداً وشُكْراً لا كُفْراً»، و «اثْنَانِ» أيضاً فاعلٌ به، تقديرُه: يَشْهَدُ شَهَادَةً اثنانِ، وهذا أحسنُ التخاريجِ المذكُورة في قولِ امرئ القيس: [الطويل]
٢٠٦٧ - وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ...................................
«وُقُوفاً» مصدرٌ بدلٌ من فعلٍ خبريٍّ رفع «صَحْبِي» ونصب «مَطِيَّهُمْ» تقديره: وقف صَحْبِي، وقد تقدَّم أنَّ الفرَّاء في قراءة الرفع قدَّرَ أن «شَهَادَة» واقعةٌ موقع فعلٍ، وارتفع «اثْنَان» بها، وقد تقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكون مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر، و «بَيْنَكُمْ» في قراءةِ مَنْ نوَّن «شَهَادَة» نصبٌ على الظرف، وهي واضحةٌ.
وأمَّا قراءةُ الجرِّ فيها، فَمِنْ باب الاتِّساعِ في الظُّروفِ، أي: بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ، ومثله: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] وكقوله تعالى: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] فيمن رفع، قال أبو حيان: «وقال الماتُرِيديُّ - وتبعه الرازيُّ -: إنَّ الأصلَ» مَا بَيْنَكُمْ «فحذف» مَا «، قال الرازيُّ: و» بَيْنَكُمْ «كنايةٌ عن التنازُعِ؛ لأنه إنما يُحْتَاجُ إلى الشهود عند التنازع، وحَذْفُ» مَا «جائزٌ عند ظهوره؛ ونظيرُه كقوله تعالى: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] في قراءة مَنْ نصب» قال أبو حيان: «وحَذفُ» مَا «الموصولةِ غيرُ جائز عند البصريِّين، ومع الإضافة لا يَصِحُّ تقديرُ» مَا «ألبتة، وليس قوله ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] نظيرَ ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] لأن هذا مضافٌ، وذلك باقٍ على ظرفيته فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ» مَا «؛ بخلاف ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] و» شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ «؛ فإنه لا يُتَخَيَّلُ فيه تقديرُ» مَا «؛ لأنَّ الإضافة أخْرَجَتْهُ عن الظرفيَّة وصَيَّرَتْهُ مفعولاً به على السَّعَة»، قال شهاب الدين: هذا الذي نقله الشيخ عنهما قاله أبو عليٍّ الجُرْجَانِيُّ بعينه، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾، أي: ما بَيْنكُمْ، و «مَا بَيْنَكُمْ» كنايةٌ عن التنازُع والتشاجر، ثم أضافَ الشهادة إلى التنازعِ؛ لأن الشهودَ إنَّما يُحْتَاجُ إليهم في التنازُعِ الواقعِ فيما بين القوم، والعربُ تُضيفُ الشيْءَ إلى الشيءِ، إذا كان منه بسبب؛ كقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [الرحمن: ٤٦]،
567
أي: مقامه بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذكر «مَا» و «مَنْ» في الموضِعِ الذي يُحْتَاجُ إليهما فيه؛ كقوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ [الإنسان: ٢٠] أي: ما ثَمَّ، وكقوله: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] و ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] أي ما بَيْنِي، ومَا بَيْنَكُمْ، وقول أبي حَيَّان «لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ» مَا «إلى آخره» ممنوعٌ؛ لانَّ حالة الإضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف، ولا يَلْزمُ من ذلك: أنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى، لا من حيث الإعرابُ؛ نظراً إلى الأصْلِ، وأمَّا حَذْفُ الموصُولِ، فقد تقدَّم تحقيقُه.

فصل


واخْتَلَفُوا في هَاتَيْن الآيتين، فقالَ قَوْمٌ: هما الشَّاهِدِانِ يَشْهَدَان على وِصيَّةٍ.
وقال غَيْرُهُم: هُمَا الوصيَّان؛ لأنَّ الآيَة نَزَلَتْ فيهما؛ ولأنَّه قال: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ﴾، ولا يَلْزَمُ الشَّاهِدُ يَمِين، وجَعَلَ الوَصِيَّ اثْنَيْن تَأكيداً، فعلى هذا تكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى: الحُضُور، كقولك: «شَهِدْتُ وصيَّة فُلانٍ»، بِمَعْنَى: حَضَرتُ وشَهِدْتُ العَيْن، وقوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ [النور: ٢] يُريدُ الحُضُور.

فصل


وقوله: «ذَوا» صفةٌ لاثنين، أي: صاحِبَا عدْلٍ، وكذلك قوله «مِنْكُمْ» صفة أيضاً لاثنين، وقوله: «أوْ آخَرَانِ» نسقٌ على اثنين، و «مِنْ غَيْرِكُمْ» صفةٌ لآخَرَيْنِ، والمراد ب «مِنْكُمْ» من قرابتكم وعترَتِكُم، ومن غيركم من المسلمين الأجانب، وقيل: «مِنْكُمْ» من أهل دينكم، و «مِنْ غَيْرِكُمْ» من أهل الذمة، ورجَّح النحَّاسُ الأولَ، فقال: «هذا يَنْبَنِي على معنًى غامضٍ في العربية، وذلك أنَّ معنى» آخَرَ «في العربية من جنْسِ الأوَّلِ تقولُ:» مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وكَرِيمٍ آخَرَ «ولا يجوز» وخَسِيسٍ آخَرَ «ولا:» مَرَرْتُ بِحِمَارٍ ورَجُلٍ آخَرَ «، فكذا هاهنا يجب أن يكون» أو آخَرَانِ «: أو عَدْلاَن آخَرَان، والكفارُ لا يكونونَ عُدُولاً» وردَّ أبو حيان ذلك؛ فقال: «أمَّا ما ذكرَهُ من المُثُلِ، فصحيحٌ؛ لأنه مثَّل بتأخير» آخَرَ «، وجعله صفةً لغير جنسِ الأوَّل، وأمَّا الآيةُ، فمن قبيل ما يُقدَّم فيه» آخَر «على الوصف، واندرج» آخَر «في الجنْس الذي قبله، ولا يُعْتَبَرُ وصْفُ جنس الأول، تقول:» مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ وآخَرَ كَافِرٍ، واشْتَرَيْتُ فَرَساً سَابِقاً، وآخَرَ بَطِيئاً «، ولو أخَّرْتَ» آخَرَ «في هذين المثالين، فقلت:» مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ كَافِرٍ آخَرَ «، لم يَجُزْ، وليس الآيةُ من هذا؛ لأن تركيبها ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ ف» آخَرَانِ «من جنسِ قوله» اثْنَانِ «، ولا سيما إذا قَدَّرْته:» رَجُلانِ اثْنَانِ «ف» آخَرَانِ «هما من جنْس قوله» رَجُلانِ اثْنَانِ «، ولا
568
يُعْتَبَرُ وصف قوله: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾، وإن كان مغايراً لقوله» مِنْ غَيْركُمْ «، كما لا يُعتبر وصفُ الجنْسِ في قولك:» عِنْدِي رَجُلانِ اثْنَانِ مُسْلِمَانِ وآخَرَانِ كَافِرَانِ «؛ إذ ليس من شرطِ» آخَرَ «إذا تقدَّم أن يكون من جنْس الأول بقيدِ وصفه، وعلى ما ذكرته جاء لسانُ العربِ؛ قال الشاعر: [البسيط]
٢٠٦٨ - كَانُوا فَرِيقَيْنِ يُصْفُونَ الزِّجَاجَ عَلَى... قُعْسِ الكَوَاهِلِ في أشْدَاقِهَا ضَخَمُ
وآخرِينَ تَرَى المَاذِيَّ فَوْقَهُمُ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ أوْ مَا أوْرَثَتْ إرَمُ
التقديرُ: كانوا فريقين: فريقاً - أو ناساً - يُصْفُونَ الزجاج، ثم قال: «وآخرين تَرَى الماذِيَّ، ف»
آخَرِينَ «من جنْس قولك» فَرِيقاً «، ولم يعتبره بوصفه بقوله» يُصْفُونَ الزِّجاج «؛ لأنه قَسَّم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنْسِ»، قال: «وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُهُ؛ فَضْلاً عَمَّنْ يَعْرفُهُ».
وقوله: «أو» الظاهرُ أنها للتخْيير، وهو واضحٌ على القول بأن معنى «مِنْ غَيْرِكُمْ» : مِنْ غير أقارِبكُمْ من المسلمين، يعني: المُوصِي مُخَيَّرٌ بيْنَ أنْ يُشْهِدَ اثنَيْنِ من أقاربه، أو من الاجانب المسلمين وقيل: «أوْ» للترتيب: أي: لا يُعْدَلُ عن شاهدين منْكُمْ إلا عِنْدَ فَقْدِهِمَا، وهذا لا يجيءُ إلا إذا قلنا: «مِنْ غَيْرِكُمْ» : من غير أهْلِ مِلَّتِكُمْ.
قوله: «إن أنْتُمْ» «أنْتُمْ» مرفوعٌ بمحذوفٍ يفسِّره ما بعده، وهي مسألة الاشتغالِ، والتقديرُ: إنْ ضَرَبْتمْ، فلما حُذِفَ الفعلُ، انفصلَ الضميرُ، وهذا مذهبُ جمهور البصريِّين، وذهب الأخْفَشُ منهم والكوفيُّون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد «إن» الشرطيَّةِ؛ كما أجازوه بعد «إذَا» أيضاً، ف «ضَرَبْتُمْ» لا محلَّ له عند الجمهور؛ لكونه مفسِّراً، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش؛ لكونه خبراً؛ ونحوه: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك﴾ [التوبة: ٦]، ﴿إِذَا الشمس كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١]. وجوابُ الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ﴾، ولكنَّ تقدير هذا الجوابِ يتوقَّف على خلافٍ في هذا الشرط: هل هو قيدٌ في أصْلِ الشهادة، أو قيدٌ في ﴿آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فقط؟ بمعنى: أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصيَّة إلى أهلِ الذمةِ، إلا بشَرْطِ الضرب في الأرض، وهو السفر، فإن قيل: هو شرطٌ في أصْلِ الشهادةِ، فتقديرُ الجواب: إنْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ، فليشهد اثنانِ منْكُمْ أو من غَيْرِكُمْ، وإنْ كان شرطاً في العدُولِ إلى آخَرَيْنِ من غير الملَّة، فالتقدير: فأشْهِدُوا آخَرَيْنِ من غَيْركم، أو فالشاهِدُ آخَرَانِ من غَيْرِكُمْ، فقد ظهر أنَّ الدَّالَّ على جوابِ الشرط: إمَّا مجموعُ قوله: «اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ... إلى آخره» على القولِ الأوَّل، وإمَّا ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فقط على القولِ الثاني.
569
والفاء في «فَأصَابتكم» عاطفةٌ هذه الجملة على نَفْسِ الشرط، وقوله تعالى: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنها في محلِّ رفع صفة ل «آخَرَانِ» ؛ وعلى هذا: فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفها؛ فإنَّ قوله «تَحْبسُونَهُمَا» صفةٌ لقوله «آخَرَانِ»، وإلى هذا ذهب الفارسيُّ، ومكِّي بنُ أبِي طالبٍ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء، وابن عطيَّة، وقد أوضحَ الفارسيُّ ذلك بعبارةٍ خاصَّةٍ، فقال: «تَحْبِسُونَهُمَا» صفة ل «آخَرَانِ» واعترض بقوله: ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾، وأفاد الاعتراضُ: أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة، أو القرابة حَسَبَ اختلافِ العُلَمَاء فيه؛ إنما يكون مع ضرورة السَّفَر، وحلول المَوْت فيه، واستغني عن جواب «إنْ» ؛ لِما تقدَّم في قوله ﴿آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾، فقد ظهر من كلامه: أنه يجعلُ الشرط قيداً في ﴿آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فقط لا قيداً في أصْلِ الشهادة، فتقديرُ الجوابِ على رأيه؛ كما تقدَّم: «فاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْن مِنْ غَيْرِكُمْ» أو «فالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ».
والثاني: أنه لا محلَّ له؛ لاستئنافهِ، وإليه ذهب الزمخشريُّ؛ قال: «فإنْ قلت: ما موقعُ قوله:» تَحْبِسُونَهُمَا «؟ قلتُ: هو استئنافُ كلام، كأنه قيل بعد اشتراطِ العدالةِ فيهما: فكيفَ نَعْمَلُ، إن ارتَبْنَا فيهمَا؟ فقيل: تَحْبِسُونَهُمَا»، وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأوَّل الفصْلُ بكلام طويلٍ بين الصفة وموصوفها، وقال: «بعد اشتراط العدالة» ؛ بناءً على مختاره في قوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾، أي: أو عَدْلانِ آخرانِ من الأجانب.
قال أبو حيان: «في قوله:» إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُْ «إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، إذ لو جرى على لفظ ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾، لكان التركيب: إنْ هو ضَرَبَ في الأرْضِ، فأصابته، وإنما جاء الالتفاتُ جمعاً؛ لأنَّ» أحَدَكُمْ «معناه: إذا حضَرَ كُلَّ واحدٍ منكم المَوْتُ»، وفيه نظرٌ؛ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطابِ الأوَّل من قوله: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ إلى آخره، وقال ابن عبَّاس: «في الكلام حذفٌ، تقديرُه: فأصابتْكُمْ مصيبةُ الموتِ، وقد أشهدتُموهُمَا على الإيصاء»، وعن سعيد بن جُبير: تقديره «وقد أُوصيتُم»، قال بعضُهُم: «هذا أوْلَى؛ لأنَّ الوَصِيَّ يَحْلِفُ، والشَّاهدَ لا يَحْلِفُ». والخطابُ في «تَحْبِسُونَهُمَا» لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خُوطِبَ بإصابته المَوْتَ؛ لأنه يتعذَّر ذلك فيه، و «مِنْ بَعْدِ» متعلِّق ب «تَحْبِسُونَهُمَا»، ومعنى الحَبْسِ: المنعُ، يقال: حَبَسْتُ وأحْبَسْتُ فَرَسِي في سبيلِ الله، فَهُوَ مُحْبَسٌ وحَبِيسٌ، ويقال لمصْنَعِ الماءِ: «
570
حَبْسٌ» ؛ لأنه يمنعه، ويقال: «حَبَّسْتُ» بالتشديد أيضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل؛ نحو: «حَبَّسْتُ الرِّجَالَ»، والألف واللام في «الصَّلاة» فيها قولان:
أحدهما: أنها للجنْس، أي: بعد أيِّ صلاة كانت.
والثاني - وهو الظاهر - أنها للعَهْد كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.

فصل


معنى الآية: أنَّ الإنْسَان إذا حَضَرَهُ المْوتُ، أنْ يُشهِدَ اثنين ذَوَيْ عدلٍ أي: أمَانةٍ وعَقْلٍ.
ومعنى قوله: «مِنْكُم» أي: أهْل دِينكُمْ يا مَعْشَر المُؤمنين، ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾، من غَيْر دِينكُمْ قول أكثر المُفَسِّرين، قاله ابْنُ عبَّاس، وأبُو مُوسى الأشْعَرِي، وهو قَوْلُ سعيد بن المُسَيِّبِ، وإبراهيمِ النَّخْعِي، وسعيد بنِ جُبَيْرٍ [وشريح]، ومُجَاهِد، وعُبَيْدة، ثُمَّ اختلفَ هؤلاءِ في حُكْمِ الآيَةِ.
فقال النَّخْعي، وجماعةٌ: هي منسوخَةٌ، وكانَتْ شَهَادةُ أهْلِ الذَمَّةِ مَقْبُولَةً في الابْتِدَاء، ثُمَّ نُسِخَتْ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهَا ثَابِتَة، وقالُوا: إذا لم يَجِدْ مُسْلمَيْنِ يُشهِدُ كَافِريْنِ قَالَ شُرَيْح: مَنْ كان بِأرْض غُرْبَةٍ، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يَشْهدُ على وصِيَّتِهِ، فأشْهَدَ كَافِرَيْنِ على أيِّ دينٍ كَانَا من أهْلِ الكتابِ، أوْ عَبَدَةِ الأوْثان، فَشَهَادَتُهُم جَائِزةٌ، ولا تَجُوزُ شَهَادَةُ كافرٍ على مُسْلمٍ إلاَّ على وَصِيَّةٍ في سَفَرٍ.
وعن الشَّعْبِيِّ: أنَّ رَجُلاً من المُسْلِمين حَضَرَتُهُ الوَفَاةُ بدقوقا، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتِهِ، فأشْهَدَ رجُلَيْنِ من أهْلِ الكِتَابِ، فقدِمَا الكوفَةَ بتَرِكَتهِ وأتَيا أبَا مُوسَى الأشْعَرِي.
فقال الأشْعَرِيُّ: هذا أمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الذي كان على عَهْد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأحْلَفَهُمَا باللَّه ما خَانَا ولا كَذبَا، ولا بَدَّلا، ولا غيَّرا، وأنَّها لوصيَّة الرَّجُل وتركتِهِ، وأمْضَى شَهَادتَهُمَا وقال آخرُون: قوله: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ أي: من حَيّ المُوصِي، ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾، أي: من غَيْرِ حَيِّكُمْ وعَشِيرَتِكُمْ، وهو قول الحَسَن والزُّهرِي وعِكْرِمَة [
571
وجُمْهُور الفُقَهَاء]، وقالوا: لا يجوز شَهَادةُ كَافِرٍ في شَيْءٍ من الأحْكَامِ.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾، أي: إنْ وَقَعَ المَوْتُ في السَّفَرِ، ولم يَكُنْ مَعَكَمْ أحَدٌ من المُسْلِمِين، أوْ من أقَارِبُكُمْ، فاسْتَشْهِدُوا أجْنَبِيَّيْن على الوصيَّة، إمَّا من مِلتِكُم، أو من غَيْرِ مِلَّتِكُمْ على الخِلاف.
واحتَجَّ من قال: المُرَادُ بقوله: «مِنْ غَيْرِكُم» : الكُفَّار؛ بأنَّه تعالى قال في أوَّل الآيةِ: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ فعمَّ بهذا الخِطَابِ جَمِيعَ المُؤمنينَ، فلما قال بعده «مِنْ غَيْرِكُم» كان المُرادُ غَيْرَ المُؤمنين.
وأيضاً كما شَرَطَ هذا الاسْتِشْهَاد بحَالَة السَّفَرِ عَلِمْنَا أن المُراد بالآية: الكُفَّار؛ لأنَّ جواز الاسْتِشْهَادِ بالمُسْلِمِ غير مَشْرُوطٍ بالسَّفْر.
وأيضاً فالآية تَدُلُّ على وُجُوبِ تَحْلِيف الشَّاهدين بَعْد الصلاة، والإجْمَاع على أنَّ الشَّّاهِد المُسْلِم، لا يَجِبُ عَلَيْه الْحَلْفُ، فعَلِمْنَا أنَّ هذَيْن الشَّاهدَيْنِ ليسا من المُسْلِمين وأيضاً بسَببِ النُّزُول، ما ذكرنا من شَهَادَةِ النَّصْرَانِيَّيْن، وقِصَّة أبِي مُوسى الأشْعَرِي، إذ قَضَى بِشَهَادَةِ اليَهُوديَّيْن، ولَمْ يُنْكِرْ عليه أحَدٌ من الصَّحَابَة، فكان إجْماعاً، فهذه حالةُ ضَرُورَةٍ، والضَّرُورَاتُ قد تُبِيحُ المَحْظُورات، كَجَوازِ التَّيَمُّمِ، والقَصْرِ، والفِطْرِ في رمضان، وأكلِ المَيْتَةِ في حالِ الضَّرُورَة، والمُسْلِمُ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ في السَّفرِ، ولم يجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتهِ، ولم تكنْ شَهَادةُ الكافِرِين مَقْبُولَةٌ، فإنَّه يُضَيِّع أكثر مُهِمَّاتِه، ورُبَّما كان عِنْدَهُ ودَائِع ودُيُونٌ في ذِمَّتِهِ.
كما تُجُوزُ شَهادَةُ النِّساء فيما يتعلَّقُ بأحْوَالِهِنَّ، كالحَيْضِ والحَبَلِ والولادَةِ والاستِهْلاَلِ؛ لِعَدَم إمْكَانِ وقُوفِ الرِّجَال على هذه الأحْوَال، فاكتُفي بِشَهادةَ النِّسَاء فيها للضَّرُورة، فكَذَا هَاهُنَا، والقَوْلُ بأنَّ هذا الحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخاً بَعِيدٌ؛ لاتِّفَاقِ أكْثَرِ الأمَّةِ على أنَّ سُورة المَائِدَةِ من آخر ما نزل من القُرْآنِ، ولَيْسَ فيها مَنْسُوخٌ، واحْتَجَّ الآخَرون بقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢]، والكَافِرُ لا يكون عَدْلاً.
وأُجِيبَ بأنَّه لم لا يجُوز أنْ يكون المرادُ بالعَدْلِ مَنْ كَانَ عدْلاً في الاحْتَرازِ عَنِ الكذبِ، لا مَنْ كان عَدْلاً في الدِّين والاعتقاد؛ لإجْماعِنَا على قُبُول شَهَادِةِ أهْلِ الأهْوَاء والبِدَعِ، مع أنَّهم لَيْسُوا عُدُولاً في مَذَاهِبِهم عِنْدَنا لِكُفْرِهِم، [ولكنهم] لمَّا كانُوا عُدُولاً في الاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ، فكذا هَاهُنَا. سلَّمْنَا أنَّ الكَافِرَ لَيْسَ بعْدلٍ، إلاَّ أن قوله: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ عامٌّ، وقوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾ خَاصٌّ؛ فإنَّه أوْجَبَ شهادَة العَدْلِ منَّا في الحَضَرِ، واكْتَفَى بِشَهَادَةِ مَنْ لا يَكُونُ منَّا في السَّفَرِ، فَهَذِه الآيَةُ خَاصَّةٌ، والآيةُ التي ذكرُوهَا عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّم على العامِّ، لا سِيَّما
572
إذا كان الخَاصُّ مُتَأخِّراً في النُزُولِ، والمائِدَةُ مُتَأخِرَّةٌ، فكان تَقْدِيمُ هذه الآيَةِ الخَاصَّةِ وَاجِبٌ بالاتِّفَاقِ.
وقوله: «تَحْبِسُونَهُمَا» أي: تستوقفونهما مِنْ بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا.
وقال عامَّةُ المُفَسِّرين: من بعدِ صلاة العَصْرِ، قالَهُ الشَّعْبِي، والنَّخْعِي، وسعيدُ بن جُبير، وقَتادَةُ وغَيْرِهم؛ لأنَّ جَمِيعَ أهْلِ الأدْيَان يُعَظِّمُونَ ذلك الوَقْت، ويَجْتَنِبُون فيه الحَلْفَ الكَاذِبَ.
وقال الحَسَنُ: مِنْ بعد صلاة الظُّهْر.
واحتَجَّ الجُمْهُور بما تقدَّم، وبأنَّه رُوِي أنَّهُ لمَّا نَزلَتِ هذه الآيَةِ، صلَّى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة العَصْر، ودَعَا ب «عَدِيِّ» و «تَمِيمٍ» فأسْتَحلفَهُمَا عِنْد المِنْبَر.
وقال بعضهم: بَعْدَ أداءِ أيِّ صلاةٍ كانتْ؛ لأنَّ الصَّلاة تَنْهَى عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَر.
قال بَعْضُ العلماء: الأيمانُ تُغَلَّظ في الدِّماءِ، والطَّلاقِ، والعِتَاقِ، والمال إذا بلغ مائَتَيْ دِرْهم بالزَّمَانِ والمكَان، فَيُحْلَفُ بعد صلاة العَصْرِ بِمَكَّةَ بين الرُّكْنِ والمقام، وفي المدينَة عند المِنْبَر، وفي بَيْتِ المقْدِسِ عند الصَّخْرَةِ، وفي سَائِر البُلْدَانِ في أشْرَف المَسَاجِد.
وقال أبو حنيفة: لا يَخْتَصُّ الحَلفُ بِزَمَان ولا مكان.
قوله: «فَيُقْسِمَانِ» في هذه الفاء وجهان:
أظهرهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملة على جملة قوله: «تَحْبِسُونَهُمَا»، فتكون في محلِّ رفع، أو لا محلَّ لها حَسْبَمَا تقدَّم من الخلاف.
والثاني: أنها فاءُ الجزاءِ، أي: جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ، وقال الفارسيُّ: «وإنْ شئت، لَمْ تَجْعَلِ الفاء؛ لعطف جملة، بل تجعلُه جزاءً؛ كقول ذي الرُّمَّة: [الطويل]
٢٠٦٩ - وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارَةً فَيَبْدُو، وتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
تقديرُه عندهم: إذا حَسَرَ بَدَا، وكذا في الآية: إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا»
. [وقال
573
مكيٌّ نحوه؛ فإنه قال: «ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ جواب جزاءٍ؛ لأن» تَحْبِسُونَهُمَا «معناه الأمْرُ بذلك، وهو جوابُ الأمْر الذي دَلَّ عليه الكلامُ؛ كأنه قيل: إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا» ] قال شهاب الدين: ولا حاجةَ داعيةً إلى شيء من تقدير شرطٍ محذوفٍ، وأيضاً: فإنه يُحْوجُ إلى حذفِ مبتدأ قبل قوله «فَيُقْسِمَان»، أي: فهما يُقْسِمَانِ، وأيضاً ف «إنْ تَحْبِسُوهُمَا» تقدَّم أنها صفةٌ، فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر، والطَّلَبُ لا يقع وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليٍّ، فَخَرَّجَه النحويُّون على أنَّ «يَحْسِرُ الماءُ تَارَةً» جملةٌ خبرية، وهي وإن لم يكنْ فيها رابطٌ، فقد عُطِفَ عليها جملةٌ فيها رابطٌ بالفاء السَّببية، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتَيْنِ شيئاً واحداً.
و «بالله» متعلِّقٌ بفعل القسم، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهارُ فعلِ القسمِ إلا معها؛ لأنها أمُّ الباب، وقوله: ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ﴾ جوابُ القسم المضمرِ في «يُقْسِمَانِ»، فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به، وقوله: «إن ارْتَبْتُمْ» شرطٌ، وجوابه محذوفٌ، تقديرُه: إن ارتبتُمْ فيهما، فحلِّفُوهُمَا، وهذا الشرط وجوابه المقدَّرُ معترضٌ بين القسم وجوابه.
والمعنى: إن ارْتَبْتُمْ في شَأنِهِمَا فَحَلِّفُوهُمَا، وهذا الشَّرطُ حُجَّةُ من يقول: الآيةُ نَازِلةٌ في إشْهَادِ الكُفَّارِ؛ لأنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ المُسْلِم غير مَشْرُوعٍ.
ومن قال: الآيةُ نازلةٌ في المُسْلِمِ قال: إنها مَنْسُوخَةٌ.
وعن عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّهُ كان يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ والرَّاوي عند التُّهْمَةِ. وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ، فأُجيب سابقُهما، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ؛ لدلالةِ جوابه عليه؛ لأنَّ تلك المسألةَ شرطُها أن يكون جوابُ القسمِ صالحاً لأنْ يكون جواب الشرط؛ حتَّى يَسُدَّ مسدَّ جوابه؛ نحو: «والله إنْ تَقُمْ لأكْرِمَنَّكَ»، لأنك لو قَدَّرْتَ «إن تَقُمْ أكْرَمْتُكَ»، صَحَّ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسَم، بل يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسِه؛ ألا ترى أنَّ تقديره هنا: «إن ارْتَبْتُمْ، حَلِّفُوهُمَا» ولو قَدَّرْتَهُ: إن ارتبتُمْ، فلا نشتَرِي، لم يَصِحَّ، فقد اتفقَ هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ، وقد أجيب سابقهما، وحُذفَ جوابُ الآخَرِ، وليس من تيكَ القاعدةِ، وقال الجُرْجَانِيُّ: «إنَّ ثَمَّ قولاً محذوفاً، تقديرُه: يُقْسِمَانِ بالله ويقولانِ هذا القَوْلَ في أيْمَانِهمَا، والعربُ تُضْمِرُ القولَ كثيراً؛ كقوله تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤] أي: يقولُونَ سلامٌ عَلَيْكُمْ»، قال شهاب الدين: ولا أدْرِي ما حمله على إضمارِ هذا القَوْلِ؟.
قوله: «بِهِ» في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدها: أنها تعودُ على الله تعالى.
574
الثاني: أنها تعودُ على القسم.
الثالث: وهو قول أبي عليٍّ -: أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ، وهذا قوي من حيث المعنى، وقال أبو البقاء: «تعودُ على اللَّهِ، أو القَسَمِ، أو الحَلْفِ، أو اليمينِ، أو تحريفِ الشهادةِ، أو على الشهادة؛ لأنها قولٌ»، قال شهاب الدين: قوله «أو الحَلْفِ أو اليمينِ» لا فائدةَ فيه؛ إذ هما شيءٌ واحدٌ، وكذلك قولُ من قال: إنها تعودُ على الله تعالى، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً، أي: لا نَشْتَري بيمَينِ الله أوْ قسَمِه ونَحْوه؛ لأنَّ الذاتَ المقدَّسة لا يُقالُ فيها ذلك، وقال مكي: «وقيل: الهاءُ تعودُ على الشَّهادة، لكن ذُكِّرَتْ؛ لأنها قولٌ كما قال تعالى:
﴿فارزقوهم
مِّنْهُ﴾
[النساء: ٨] فردَّ الهاءَ على المقْسُومِ؛ لدلالة القسمة على ذلك «، والاشتراءُ هنا، هَلْ هو باقٍ على حقيقته، أو يُرَاد به البيع؟ قولان، أظهرهما الأول، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصْب»
ثَمَناً «، وهو منصوبٌ على المفعوليَّة، قال الفارسيُّ:» وتقديره: لا نَشْتَرِي به ذا ثَمَنٍ؛ ألا ترى أنَّ الثمن لا يُشْتَرى، وإنما يُشْتَرَى ذو الثمنِ «، قال:» وليس الاشتراءُ هنا بمعنى البيع، وإنْ جاء لغةً، لأنَّ البيع إبعادٌ عن البائع، وليس المعنى عليه، إنما معناه التمسُّكُ به والإيثارُ له على الحقِّ «، وقد نقل أبو حيان هذا الكلام بعينه ولم يعْزُه لأبِي عَلِيٍّ.
وقال مكيٌّ:»
معناه ذا ثَمَنٍ، لأنَّ الثمن لا يُشْتَرَى، إنما يُشْتَرى ذو الثمنِ، وهو كقوله: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً﴾ [التوبة: ٩]، أي ذا ثَمَنٍ «، وقال غيرُه:» إنه لا يَحْتاجُ إلى حذف مضاف «، قال أبو البقاء:» ولا حَذْفَ فيه؛ لأنَّ الثمنَ يُشْتَرَى كما يُشْتَرَى به، وقيل: التقديرُ: ذا ثَمَنٍ «، وقال بعضهم:» لا نَشْتَرِي: لا نبيعُ بعَهْدِ الله بغَرَضٍ نَأخُذُه؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [آل عمران: ٧٧]، فمعنى الآية: لا نَأخُذُ بعهد الله ثَمَناً؛ بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا «قال الواحديُّ:» ويُسْتَغْنَى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي عَلِيٍّ، وهذا معنى قول القُتَيْبِيِّ والجُرْجَانِيِّ «.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠] من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ، أو حاليةٌ، وأنَّ جملة الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مقدَّرةٍ؛ كقوله:»
أعْطُوا السَّائِلَ، ولوْ عَلَى فرسٍ «، فكذا هنا تقديرُه: لا نشتري به ثمناً في كلِّ حال، ولو كان الحالُ كذا، واسمُ» كَانَ «مضمرٌ فيها يعودُ على المشهُودِ له، أي: ولو كان المشهُودُ له ذَا قَرَابَةٍ.
قوله: ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله﴾ الجمهورُ على رَفْعِ ميمِ»
نَكْتُمُ «على أنَّ» لا «نافية، والجملةُ تحتمل وجهين:
575
أحدهما - وهو الظاهرُ -: كونُها نسقاً على جواب القسمِ، فتكونُ أيضاً مقسماً عليها.
والثاني: أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتمُون الشهادة؛ ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشَّعْبيِّ:» وَلاَ نَكْتُمْ «على النهْي، وهذه القراءةُ جاءتْ على القليل؛ من حيث إنَّ دخولَ» لاَ «الناهيةِ على فعلِ المتكلِّم قليلٌ؛ ومنه: [الطويل]
٢٠٧٠ - إذا مَا خرَجْنَا مِنْ دمشْقَ فَلاَ نَعُدْ بِهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجَرَاضِمُ
والجمهورُ على «شهادةَ الله»
بالإضافة، وهي مفعولٌ بها، وأضيفَتْ إليه تعالى؛ لأنه هو الآمرُ بها وبحفظها، وألاَّ تُكْتَمَ، ولا تُضَيَّعَ، وقرأ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ونعيمُ بْنُ مَيْسَرَة والشَّعْبِيُّ في رواية: «شهادةً الله» بتنوين شهادة، ونصبها، ونصب الجلالة، وهي واضحةٌ، ف «شَهَادَةً» مفعول ثان، والجلالةُ نصبٌ على التعظيم وهي الأوَّل، والأصلُ: ولا نَكْتُمُ اللَّهَ شهادةً؛ وهو كقوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] وإنما قُدِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها؛ فإنها المحدَّثُ عنها، وفيها وجهُ ثانٍ - نقله الزهراويُّ - وهو: أن تكون الجلالةُ نَصْباً على إسقاطِ حرفِ القسم، والتقديرُ: ولا نَكْتُمُ شهادةً واللَّهِ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر، نُصِب المُقْسَمُ به، ولا حاجةَ إليه؛ لأنه يَسْتَدْعِي حذف المفعولِ الأوَّل للكتمان، أي: ولا نَكْتُمُ أحداً شهادةً والله، وفيه تكلُّفٌ وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً قال: «على أنه منصوبٌ بفعْلِ القسم محذوفاً».
ويُروَى عن أبِي جَعْفَر «شَهادةً» مُنَونةً «أَللَّهِ» بِقَطْعِ الألف وكسَرْ الهَاءِ، من غير اسْتِفْهَام على ابْتِدَاء اليَمينِ، أي: واللَّهِ ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾، أي: إنْ كَتَمْنَاها نَكُونُ من الآثمين.
وقرأ عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسُّلمِيُّ والحسن البصريُّ: «شَهَادَةً» بالتنوين والنصب، «آلله» بمدِّ الألفِ التي للاستفهام، دَخَلَتْ للتقرير، وتوقيف نفوسِ الخَلْق الحالفين، وهي عوضٌ عن حَرْفِ القسمِ المقدَّرِ ثمّ. وهل الجرُّ بها أم بالحَرْفِ المحذوفِ؟ خلافٌ. وقرأ الشعبيُّ في رواية وغيره: «شَهَادَهْ» بالهاء ويقف عليها، ثم
576
يَبْتدئ «آللَّهِ» بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدِّم، وجَرِّ الجلالة، وهمزةُ القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة، تقول: يا زَيْدُ، أللَّهِ، لأفْعلَنَّ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصَّة ثلاثةٌ: ألفُ الاستفهام، وقطعُ همزة الوصلِ، وها التي للتنبيه؛ نحو: «ها اللَّهِ»، ويجوزُ مع «هَا» قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها، وهل الجرُّ بالحرف المقدَّر، أو بالعوض؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً، ولو قال قائلٌ: إن قولهم «الله، لأفْعَلَنَّ» بالجرِّ وقطع الهمزة؛ بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قوله، فإن قيل: همزةُ الاستفهام، إذا دخلَتْ على همزة الوصْلِ التي مع لام التعريف، أو ايْمُن في القَسَم، وجب ثبوتُ همزة الوصل، وحينئذ إمَّا: أنْ تُسَهَّلَ، وإمَّا أنْ تُبْدَلَ ألفاً، وهذه لم تَثْبُتْ بعدها همزةُ وصل، فتعيَّن أن تكونَ همزة وصْلٍ قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم، فالجواب: أنهم إنما أبْدلوا ألفَ الوصْلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ الاستفهام؛ فرقاً بين الاستفهام والخبر، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجرَّ في الجلالة يؤذِنُ بذلك؛ فلا حاجة إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدلةً أو مُسَهَّلةً، فعلى هذا قراءة: ألله، وآلله بالقصْر والمدِّ تحتمل الاستفهام، وهو تخريجٌ حسن، قال ابن جني في هذه القراءة: «الوقفُ على» شهَاده «بسكون الهاء، واستئنافُ القسم - حسنٌ؛ لأنَّ استئنافه في أولِ الكلامِ أوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ أنْ يدخُلَ في عرضِ القَوْل»، ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني: «ألله» بقطع الألف من غير مدٍّ وجرِّ الجلالة - عن أبي بكرٍ عن عاصمٍ وتقدَّم أيضاً أنها رويتْ عن أبي جعفرٍ، وقرئ: «شَهَادَةً اللَّهِ» بنصب الشهادة منونة، وجرِ الجلالة موصولة الهمزة، على أن الجرَّ بحرفِ القسمِ المقدَّرِ من غير عوضٍ منه بقَطْعِ، ولا همزةِ استفهام، وهو مختصٌّ بذلك.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾ هذه الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنها استئنافيةٌ، أخبروا عن أنفسهم بأنهم من الآثمين، إنْ كتموا الشهادة؛ ولذلك أتوا ب «إذَنِ» المُؤذِنَةِ بالجزاء والجواب، وقرأ الجمهور: «لَمِنَ الآثمينَ» من غير نقل، ولا إدغام، وقرأ ابن مُحَيصنٍ والأعمش: «لَمِلآّثمين» بإدغام نون «مِنْ» في لام التعريف، بَعْد أن نقل إليها حركة الهمزة في «آثمينَ»، فاعتدَّ بحركة النقل فأدغَمَ، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ: ﴿عَاداً لُّولَى﴾ [النجم: ٥٠] بالإدغام، على ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

فصل في معنى الآية


ومعنى الآية: إنكم إذا سَافَرْتُم في الأرْض، فأصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الموت، فأوصَيْتم
577
إلَيْهما، ودَفَعْتُم إليهمَا مالك، فاتَّهَمَهُمَا بعضُ الورثة، وادَّعَوْا عليهما خِيَانَة فما الحُكْمُ فيه؟
«أن تَحبِسُونَهُمَا» أي: تَسْتَوقِفُونَهُمَا بَعْدَ الصَّلاة.
قال السُّدي: بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا؛ لأنَّهُمَا لا يُبَالِيَان بِصلاةِ العَصْرِ، ولا صلاةِ الظُّهْرِ على ما تقدَّم، فيَحْلِفَان ﴿بالله إِنِ ارتبتم﴾ أي: شَكَكْتُم وَوقَعتْ لَكُم الرِّيبَةُ في قولِ الشَّاهدين وصدقهمَا، إذا كانا مِنْ غَيْرِ دينكُم، فإن كانا مُسْلِمَيْن فلا يَمِينَ عليهما ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً﴾، أي: لا نَحْلِفُ باللَّه كَاذِبين على عِوضٍ نأخُذُه، أو حَقٍّ نَجْحَدُهُ ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾، ولو كان المَشْهُودُ لَهُ ذَا قَرابَةٍ مِنَّا.
وقيل: لَوْ كان ذلك الشَّيْءُ حبوة في قُرْبى ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله﴾ وأضَافَ الشَّهادَةَ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه أمَرَ بإقَامَتِها ونَهَى عن كِتْمَانها ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾، إن كَتَمْنَا الشَّهَادَة.
رُوِي لما نَزَلت هذه الآيَةُ، صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاةَ العَصْرِ، ودعا تميماً وعِدياً، فاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ المِنْبَر باللَّه الذي لا إله إلاَّ هُو، أنَّهُمَا لم يَخْتَانَا شَيْئاً مما دُفع إليْهما، فَحَلَفا على ذَلِكَ، وخلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَبِيلَهُمَا.
قوله تعالى: «فإنْ عُثِرَ» : مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ فاعله الجارُّ بعده، أي: فإن اطُّلِعَ على اسْتِحْقَاقِهِمَا الإثْم يقالُ: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُوراً: إذا هَجَمَ على شيءٍ، لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ، وأعْثَرْتُهُ على كذا أطلعتُه عليه؛ ومنه قوله تعالى: ﴿أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الكهف: ٢١]، قال أهلُ اللغة: وأصلُه من «عَثْرَةِ الرجْلِ» وهي الوقوعُ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُرُ بِشَيْء كان لا يَرَاهُ، فإن عثر به، اطُّلَعَ عليه، ونظر ما هو، فقيل لكلِّ أمْرٍ كان خَفِيًّا، ثم اطُّلِعَ عليه: «عُثِرَ عَلَيْه»، وقال الليْثُ: «عَثَرَ يَعْثُرُ عُثُوراً هَجَمَ على أمرٍ لم يهجُمْ عليه غيرُه، وعَثَر يَعْثُرُ عثْرةً وقع على شيء» ففرَّقَ بين الفعلَيْنِ بمصدَرَيْهما، وفرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك؛ فقال: «عَثَرَ مصْدرُه العُثُور، ومعناه اطَّلَعَ، فأمَّا» عَثَرَ «في مَشْيهِ، ومنْطِقِهِ، ورأيه، فالعِثَارُ»، والراغب جعَلَ المصدَرَيْنِ على حدٍّ سواء؛ فإنه قال: «عَثَر الرَّجل بالشيءِ يَعْثُرُ عُثُوراً وعِثَاراً: إذا سقطَ عليه، ويُتَجَوَّزُ به فيمَنْ يطَّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه، يقال:» عَثَرْتُ على كذا «، وقوله: ﴿وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الكهف: ٢١]، أي: وَقَّفْنَاهُمْ عليهم من غَيْرِ أنْ طَلَبُوا».
قوله تعالى: «فآخَرَانِ» فيه أربعةُ أوجه:
578
الأول: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، تقديره: فالشَّاهدانِ آخرانِ، والفاء جوابُ الشرط، دخلت على الجملة الاسمية، والجملةُ من قوله: «يَقُومَانِ» في محلِّ رفعٍ صفةً ل «آخَرَانِ».
الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ، تقديرُه: فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ، ذكره مكيٌّ وأبو البقاء، وقد تقدَّم أن الفعل لا يُحْذَفُ وحْدَهُ إلاَّ في مواضعَ ذكَرْتُها عند قوله: ﴿حِينَ الوصية اثنان﴾ [المائدة: ١٠٦].
الثالث: أن خبرٌ مقدَّم، و «الأوْلَيَانِ» مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والتقديرُ: فالأوْليانِ بأمْرِ الميِّتِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، ذكر ذلك أبو عَلِيٍّ، قال: «ويكُونُ كقولك: تَمِيميٌّ أنَا».
الرابع: أنه مبتدأٌ، وفي الخبر حينئذ احتمالاتٌ:
أحدها: قوله: ﴿مِنَ الذين استحق﴾، وجاز الابتداءُ به؛ لتخصُّصِه بالوصْفِ، وهو الجملة من «يَقُومَانِ».
والثاني: أنَّ الخبر «يَقُومَانِ» و ﴿مِنَ الذين استحق﴾ صفةُ المبتدأ، ولا يََضُرُّ الفصْلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به: اعتمادُه على فاءِ الجزاء، وقال أبو البقاء، لمَّا حَكَى رفعه بالابتداء: «وجازَ الابتداءُ هنا بالنَّكِرَة؛ لحصولِ الفائدةِ»، فإن عنى أنَّ المسوِّغَ مجرَّدُ الفائدةِ من غير اعتبار مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها، فغيرُ مُسَلَّم.
الثالث: أنَّ الخبرَ قوله: «الأوْلَيَانِ» نقله أبو البقاء، وقوله «يَقُومَانِ» و ﴿مِنَ الذين استحق﴾ كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل «آخَرَانِ»، ويجوزُ أن يكون أحدُهما صفةً، والآخرُ حالاً، وجاءتِ الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِهَا بالوصفِ، وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ؛ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ، جَعَلْتَ المعرفةَ محدَّثاً عنها، والنكرةَ حديثاً، وعكسُ ذلك قليلٌ جدًّا أو ضرورةٌ؛ كقوله: [الوافر]
٢٠٧١ -............................................... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
وكقوله: [الطويل]
579
وقد فُهِمَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملة من قوله «يَقُومَانِ» والجارَّ من قوله: «مِنَ الَّذِينَ» : إمَّا مرفوعُ المحلِّ صفةً ل «آخَرَانِ» أو خبرٌ عنه، وإمَّا منصوبُهُ على الحالِ: إمَّا من نَفْسِ «آخَرَانِ»، أو مِنَ الضَّمِير المستكنِّ في «آخَرَانِ»، ويجوزُ في قوله «مِنَ الَّذِين» أنْ يكون حالاً من فاعلِ «يَقُومَانِ».
قوله: «استحقّ» قرأ الجمهور «استُحِقَّ» مبنيًّا للمفعول، «الأولَيَانِ» رفعاً، وقرأ حفص عن عاصم: «اسْتَحَقَّ» مبنيًّا للفاعل، «الأوليَانِ» كالجماعة، وهي قراءة عبد الله بن عبَّاس وأمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ورُوِيَتْ عن ابن كثيرٍ أيضاً، وحمزة وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: «استُحِقَّ» مبنيًّا للمفعول كالجماعة، «الأوَّلِينَ» جمع «أوَّل» جمع المذكر السَّالِم، والحسن البصريّ: «اسْتَحَقَّ» مبنيًّا للفاعل، و «الأوَّلانِ» مرفوعاً تثنية «أوَّل»، وابن سيرين كالجماعة، إلا أنه نَصَبَ الأوْلَيْينِ تثنية «أوْلَى»، وقرئ: «الأوْلَيْنَ» بسكون الواو وفتح اللام، وو جمع «أوْلَى» كالأعْلَيْنَ في جمعِ «أعْلََى»، ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع، قال: «هذا موضعٌ من أصْعَبِ ما في القرآن إعراباً». قال شهاب الدين: ولعَمْرِي، إنَّ القولَ ما قالَتْ حَذَامِ؛ فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسن تَلْخِيصٍ، ولا بدَّ من ذِكْرِ شَيْءٍ من معاني الآية؛ لنستعين به على الإعْراب؛ فإنه خادمٌ لها.
فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ، فرفعُ «الأوْلَيَان» فيها أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، وخبره «آخرَانِ»، تقديره: فالأوْلَيَانِ بأمر الميِّت آخَرَانِ، وتقدَّم شرحُ هذا.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هما الأوْليانِ؛ كأنَّ سائلاً يسأل فقال: «من الآخَرَانِ» ؟ فقيل: هما الأوْلَيَانِ.
الثالث: أنه بدلٌ من «آخَرَان»، وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه؛ نحو: «جَاءَ زَيْدٌ أخُوكَ» وهذا عندهم ضعيفٌ؛ لأنَّ الإبدالَ بالمشتقَّاتِ قليلٌ.
الرابع: أنه عطفُ بيان ل «آخَرَانِ» بيَّن الآخَرَيْنِ بالأوْلَيَيْنِ، فإن قلت: شرطُ عطفِ
580
البيانِ: أن يكون التابعُ والمتبوعُ متفقينِ في التعريفِ والتنكيرِ، على أنَّ الجمهور على عدم جريانه في النكرةِ؛ خلافاً لأبي عَليّ، و «آخَرَانِ» نكرةٌ، و «الأوْلَيَانِ» معرفةٌ، قُلْتُ: هذا سؤالٌ صحيحٌ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ، ويلزمُ الزمخشريَّ جوازُه: أمَّا الأخفشُ فإنه يُجيزُ أنْ يكون «الأوْلَيَانِ» صفةً ل «آخَرَانِ» بما سأقرره عنه عند تعرُّضِي لهذا الوجهِ، والنعتُ والمنعوتُ يُشترط فيهما التوافُقُ، فإذا جاز في النعْتِ، جاز فيما هو شبيهٌ به؛ إذْ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت، وأمَّا الزمخشريُّ، فإنه لا يشترطُ ذلك - أعني التوافُقَ - وقد نَصَّ عليه هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى:
﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] عطفُ بيان؛ لقوله ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ [آل عمران: ٩٧]، و «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» نكرةٌ؛ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ، قَرُبَتْ من المعرفة، كما تقدَّم عنه في موضعه، وكذا «آخَرَانِ» قد وُصِفَ بصفَتيْنِ، فقُرْبُه من المعرفة أشدُّ من «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» ؛ من حيثُ وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة.
الخامس: أنه بدلٌ من فاعلِ «يَقُومَانِ».
السادس: أنه صفةٌ ل «آخَرَانِ»، أجازَ ذلك الأخفشُ، وقال أبو عَلِيٍّ: «وأجازَ أبو الحسنِ فيها شيئاً آخَرَ، وهو أن يكُون» الأوْلَيَانِ «صفةً ل» آخَرَانِ «؛ لأنَّه لمَّا وُصِفَ، تخصَّصَ، فَمِنْ أجلِ وصفه وتخصيصه، وُصِفَ بوصف المعارف»، قال أبو حيان: «وهذا ضعيفٌ؛ لاستلزامِه هَدْم ما كَادُوا أن يُجْمعوا عليه؛ من أنَّ النكرة لا تُوصفُ بالمعرفةِ، ولا العَكْس»، قلتُ: لا شكَّ أن تَخَالُفَهُمَا في التعريفِ والتنْكيرِ ضعيفٌ، وقد ارتكَبُوا ذلك في مواضعَ، فمنها ما حكاه الخليلُ: «مَرَرْتُ بالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ» في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ، ومنها ﴿غَيْرِ المغضوب﴾ [الفاتحة: ٧] على القولِ بأنَّ «غَيْر» صفةُ ﴿الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧]، وقوله: [الكامل]
٢٠٧٢ - وَإنَّ حَرَاماً أنَّ أسُبَّ مُجَاشِعاً بَآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَام الْخََضَارِمِ
٢٠٧٣ - وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنِي فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي
وقوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ [يس: ٧٣]، على أنَّ «يَسُبُّنِي» و «نَسْلَخُ» صفتان لما قبلهما؛ فإنَّ الجمل نكراتٌ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه، فإنها تُؤوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفةِ؛ إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ، ويجوز أن يكون ما نحْنُ فيه من هذه المُثُلِ؛ فاعتبار أنَّ «الأوْلَيَيْنِ» لمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان، قَرُبَا من النكرةِ، فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي؛ فصار في ذلك مسوِّغان: قُرْبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ، وقُرْبُ المعرفةِ من النكرة بالإبهام؛ ويدلُّ لِما قلته ما قال أبو البقاء: «والخَامِسُ أن يكون صفة
581
ل» آخَرَانِ «؛ لأنه وإنْ كان نكرةً، فقد وُصِفَ، والأوْليانِ لم يَقْصِدْ بهما قَصْدَ اثنينِ بأعيانِهما».
السابع: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله ب «اسْتُحِقَّ»، إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا، قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً، واختلفتْ تقديراتُ المُعْرِبينَ، فقال مكي: «تقديرُه: استُحِقَّ عليهمْ إثْمُ الأوْلَيَيْنِ»، وكذا أبو البقاء وقد سَبقَهما إلى هذا التقدير ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ، وقدَّره الزَمَخْشَرِيُّ فقال: «مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ علَيْهِمُ انتدَابُ الأوْلَيَيْنِ منْهُمْ للشَّهادَةِ لاطِّلاعِهِمْ عَلَى حقيقةِ الحَالِ»، ومِمَّن ذهب إلى ارتفاعِ «الأوْلَيَانِ» ب «اسْتُحِقَّ» أبو عليٍّ الفارسِيُّ، ثم منعه؛ قال: «لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنَّمَا يكُونُ الوصيَّة أو شيئاً منها، وأمَّا الأوليَانِ بالمَيِّتِ، فلا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّا، فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما»، قلتُ: إنما منع أبو عليٍّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ؛ فإنَّ الأوْلَيَيْنِ لَمْ يستحقَّهما أحدٌ كما ذَكَر، ولكن يجوز أن يُسْنَدَ «اسْتُحِقَّ» إليهما؛ بتأويلِ حذف المضافِ المتقدِّم، وهذا [الذي] منعه الفارسيُّ ظاهراً هو الذي حمل النَّاس على إضمار ذلك المُضافِ، وتقديرُ الزمخشريِّ ب «انْتِدَاب الأوْلَيَيْنِ» أحسنُ من تقدير غيره؛ فإنَّ المعنى يُسَاعِدُهُ، وأمَّا إضمارُ «الإثْم» فلا يَظْهر إلا بتأويل بعيدٍ.
وأجازَ ابن عطيَّة أن يرتفعَ «الأوْلَيَانِ» ب «استُحِقَّ» أيضاً، ولكن ظاهرُ عبارته؛ أنه لم يُقَدَّر مضافاً؛ فإنه استشعر بإستشكالِ الفارسيِّ المتقدِّم، فاحتالَ في الجواب عنه، وهذا نَصُّه، قال ما ملخَّصُه: إنَّه «حُمِلَ» اسْتُحِقَّ «هنا على الاستعارةِ؛ فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً؛ لقوله:» اسْتَحَقَّا إثْماً «، وإنما معناه أنَّهم غَلَبُوا على المالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعدمه؛ لقرابته أو أهل دينه؛ فجعل تسوُّرَهُمْ عليه استحقاقاً - مجازَاً، والمعنى: من الجماعة التي غابت، وكان منْ حَقِّها أنْ تُحْضِرَ وليَّها، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصِي، استحقَّت هذه الحالَ، وهذان الشاهدانِ من غير أهْل الدِّين والولاية، وأمْرِ الأوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة، فبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعديِّي الفعلِ ب» عَلَى «لمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ، هَيَّأتْهُ الحالُ، ولا يُقال: اسْتَحَقَّ منه أو فيه إلاَّ في الاسْتِحْقَاقِ الحقيقيِّ على وجههِ، وأمَّا» اسْتَحَقَّ عليْهِ «فالبحَمْلِ والغلبةِ والاستحقاقِ المُسْتَعَارِ». انتهى، فقد أسند «اسْتَحَقَّ» إلى «الأوليان» من غير تقدير مضافٍ متأوِّلاً له بما ذكر، واحتملتُ طول عبارته؛ لتتَّضِحَ.
واعلم أنَّ مرفوع «اسْتُحِقَّ» في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غيرَ هذا الوجهِ، وهو إسنادُه إلى «الأوْليانِ» - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أو سياقاً، واختلفت عباراتُهم فيه، فقال الفارسيُّ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء والزمخشريُّ: إنه ضميرُ الإثْمِ، والإثمُ قد تقدَّمَ في
582
قوله: «اسْتَحَقَّا إثْماً»، وقال الفارسيُّ والحُوفِيُّ أيضاً: «اسْتُحِقَّ هو الإيصاءُ أو الوصيَّةُ» قال شهاب الدين: إضمارُ الوصيَّة مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِدَ الفعلُ إلى ضمير المؤنَّثِ مطلقاً، وَجَبَتِ التاءُ إلاَّ في ضرورة، ويُونُسُ لا يَخُصُّه بها، ولا جائزٌ أن يقال أضْمَرَا لفظ الوصيَّة؛ لأنَّ ذلك حُذِفَ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ، وقال النحَّاس مستحْسِناً لإضمارِ الإيصَاءِ: «وهذا أحسنُ ما قِيلَ فيه؛ لأنَّه لم يُجْعَلْ حرفٌ بدلاً من حرفٍ»، يعني أنه لا يقُول: إنَّ «عَلَى» بمعنى «فِي»، ولا بمعنى «مِنْ» كما قيل بهما، وسيأتي ذلك - إن شاء الله تعالى -.
وقد جمع الزمخشريُّ غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإعْرَابِ والمعنى بأوجز عبارةٍ، فقال: «ف» آخَرَانِ «، أي: فشَاهِدَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذينَ اسْتُحِقَّ عليهِم، أي: استُحِقَّ عليْهِمُ الإثمُ، ومعناه: مِنَ الذين جُنِيَ عليهمْ، وهم أهلُ الميِّتِ وعشيرتُهُ والأوليانِ الأحقَّانِ بالشَّهادةِ لقَرَابَتهِمَا ومَعْرِفَتِهِمَا، وارتفاعُهُمَا على:» هُمَا الأوْلَيَانِ «؛ كأنه قيل: ومَنْ هُمَا؟ فقيل: الأوْلَيَانِ، وقيل: هما بدلٌ من الضَّمير في» يَقُومَانِ «أو من» آخَرَانِ «، ويجوزُ أنْ يرتفِعَا ب» اسْتُحِقَّ «، أي: من الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ انتدابُ الأوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ للشهادة؛ لاطِّلاعهم على حقيقة الحَالِ».
وقوله «عَلَيْهِم» : في «عَلَى» ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها على بابها، قال أبو البقاء: «كقولك: وَجَبَ عليهم الإثْمُ»، وقد تقدَّم عن النحَّاس؛ أنه لمَّا أضْمَرَ الإيصاءَ، بَقَّاها على بابها، واستحْسَنَ ذلك.
والثاني: أنها بمعنى «فِي» أي: استُحِقَّ فيهم الإثمُ، فوقَعَتْ «عَلَى» موقع «فِي» كما تقعُ «فِي» موقعها؛ كقوله تعالى: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١] أي: على جُذُوعِ، وكقوله: [الكامل]
٢٠٧٤ - بَطَلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ
أي: على سَرْحةٍ، وقدَّره أبو البقاء فقال: «أي: استُحِقَّ فيهم الوصيَّةُ».
والثالث: أنها بمعنى «مِنْ» أي: استُحِقَّ مِنْهُمُ الإثْمُ؛ ومثلُه قولُه تعالى: ﴿إِذَا اكتالوا عَلَى الناس﴾ [المطففين: ٢] أي: مِنَ الناس، وقدَّره أبو البقاء فقال: «أي: استُحِقَّ منهم الأوْليَانِ» فحينَ جعلها بمعنى «فِي» قدَّر «اسْتُحِقَّ» مُسْنَداً للوصية؛ وحين جعلها بمعنى «
583
مِنْ»، قدَّره مُسْنِداً ل «الأوْلَيَانِ»، وكان لَمَّا ذكر القائمَ مقامَ الفاعلِ، لم يذكر إلا ضميرَ الإثم و «الأوْلَيَانِ»، وأجاز بعضهم أنْ يُسْنَدَ «اسْتُحِقَّ» إلى ضمير المالِ، أي: اسْتُحِقَّ عليْهِمُ المالُ المَوْرُوثُ، وهو قريبٌ.
فقد تقرَّر أنَّ في مرفوعِ «اسْتُحِقَّ» خمسة أوجه:
أحدُها: «الأوْلَيَانِ».
والثاني: ضميرُ الإيصاء.
والثالث: ضميرُ الوصية، وهو في المعنى كالذي قبله وتقدَّم إشكالُه.
والرابع: أنه ضميرُ الإثْمِ.
والخامس: أنه ضميرُ المالِ، ولم أرَهُمْ أجازوا أن يكون «عَلَيْهِم» هو القائمَ مقامَ الفاعلِ؛ نحو: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ [الفاتحة: ٧] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً.
وأمَّا قراءةُ حَفْص ف «الأوْلَيَانِ» مرفوعٌ ب «اسْتَحَقَّ» ومفعولُه محذوفٌ، قدَّره بعضهم «وصِيَّتَهُمَا»، وقدَّره الزمخشريُّ ب «أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة» ؛ فإنه قال: «معناهُ من الورثةِ الذين استَحَقَّ عليْهِمُ الأوْلَيَانِ من بينهم بالشهادة: أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة، ويُظْهِرُوا بها كذب الكاذبينَ»، وقال ابنُ عطيَّة: «الأوْلَيَانِ» رفعٌ ب «اسْتَحَقَّ»، وذلك أن يكون المعنى: مِنَ الَّذِينَ استحَقَّ عليْهِمْ مالَهُمْ وتركَتَهُمْ شَاهِدَا الزُّورِ، فَسُمِّيَا أوْلَيَيْنِ، أي: صَيَّرَهُمَا عَدَمُ الناس أوْلَيَيْنِ بالمَيِّت وتَرِكَتِهِ، فَخَانَا، وجَارَا فيها، أو يكونُ المعنى: من الذينَ حَقَّ عليهم أنْ يكون الأوليانِ منهم، فاستَحَقَّ بمعنى: حَقَّ، كاسْتَعْجَبَ وعَجِبَ، أو يكون استحقَّ بمعنى: سَعَى واستوجب، فالمعنى: من القوم الذين حَضَرَ أوْلَيَانِ مِنْهُمْ، فاستَحَقَّا عليهم، أي: استحقَّا لهُمْ وسعيا فيه، واستوجََبَاهُ بأيْمَانِهِمَا وقُرْبَانِهِمَا «، قال أبو حيان - بعد أنْ حكَى عن الزمخشريِّ، وأبي محمَّدٍ ما قدَّمْتُه عنهما -:» وقال بعضُهم: المفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: الذين استحقَّ عليهمُ الأوليانِ وصيَّتَهُمَا «، قال شهاب الدين: وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولي الزمخشريِّ وابن عطيَّة، وقد بَيِّنْتُهما ما هما، فهو عند الزمخشريِّ قوله:» أنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشَّهادة «، وعند ابن عطيَّة هو قوله:» مالَهُمْ وتَركَتَهُمْ «، فقوله:» وقال بعضهم: المفعولُ محذوفٌ «يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً، وممن ذهبَ إلى أن» اسْتَحَقَّ «بمعنى» حَقَّ «المجرَّدِ - الواحديُّ فإنه قال:» واسْتَحَقَّ هنا بمعنى حَقَّ، أي: وَجَبَ، والمعنى: فآخَرَانِ مِنَ الذين وجب عليهمُ الإيصَاءُ بتوصيتِهِ بينهم، وهم وَرَثَتُه «وهذا التفسيرُ الذي ذكره الواحديُّ أوضحُ من المعنى الذي ذكره أبو محمَّد على هذا الوجه، وهو ظاهرٌ.
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بَكْرٍ، فمرفوع»
استُحِقَّ «ضميرُ الإيصَاءِ، أو الوصيةِ، أو
584
المالِ، أو الإثمِ، حَسْبما تقدَّم، وأمَّا» الأوَّلَيْنِ «فجمعُ» أوَّل «المقابل ل» آخِر «، وفيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه مجرورٌ صفةً ل»
الَّذين «.
الثاني: أنه بدلٌ منه، وهو قليلٌ؛ لكونه مشتقًّا.
الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ في»
عَلَيهم «، وحسَّنَه هنا، وإن كان مشتقًّا عدمُ صلاحَيةِ ما قبله للوصف، نقل هذَيْن الوجهَيْن الأخيرَيْنِ مكيٌّ.
الرابع: أنه منصوبٌ على المَدْح، ذكره الزمخشريُّ، قال:»
ومعنى الأوَّلِيَّةِ التقدُّمُ على الأجَانب في الشَّهَادة؛ لكونهم أحَقَّ بها «، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّةَ بالتقدُّمِ على الأجَانِب؛ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره: أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أنَّهُمَا من الأجانب لا من الكُفَّارِ
وقال الواحديُّ:»
وتقديرُه من الأوَّلينَ الَّذينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ الإيصَاءُ أو الإثْمُ، وإنما قيل لهم «الأوَّلِينَ» من حيث كانوا أوَّلِينَ في الذِّكْرِ؛ ألا ترى أنه قد تقدَّم: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ وكذلك ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ﴾ ذُكِرَا في اللفظ قبل قوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾، وكان ابنُ عباسٍ يختارُ هذه القراءة، ويقول: «أرأيتَ إنْ كان الأوْليانِ صغيريْنِ، كيف يَقُومَانِ مقامهما» ؟ أراد: أنهما إذا كانا صغيريْنِ لم يقُومَا في اليمين مقامَ الحانِثَيْنِ، ونحا ابن عطية هذا المنحَى قال: «معناه: من القوْمِ الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهُمْ، أي: غُلِبُوا عليه، ثم وصفَهم بأنهم أوَّلون، أي: في الذكْرِ في هذه الآية».
وأمَّا قراءةُ الحَسَن فالأوَّلانِ مرفُوعَانِ ب «استَحَقَّ» فإنه يقرؤهُ مبنيًّا للفاعل، قال الزمخشريُّ: «ويَحْتَجُّ به مَنْ يَرَى ردَّ اليمينِ على المُدَّعِي»، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلاَنِ، والمرادُ بهما الاثْنَانِ المتقدِّمَانِ في الذكْرِ؛ وهذه القراءةًُ كقراءةِ حَفْصٍ، فيُقَدَّرُ فيها ما ذُكِرَ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفْعُولِ.
وأما قراءة ابن سيرينَ، فانتصابُها على المَدْحِ، ولا يجوزُ فيها الجَرُّ؛ لأنه: إمَّا على البدل، وإمَّا على الوصْف بجَمْعٍ، والأوْلَيَيْنِ في قراءته مثنًّى، فتعذر فيها ذلك، وأمَّا قراءة «الأوْلَيْنَ» كالأعلَيْنَ، فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذَّة لم يَعْزُها، قال: «ويُقْرَأ» الأوْلَيْنَ «جمع الأوْلَى، وإعرابه كإعراب الأوَّلينَ» يعني في قراءة حمزة، وقد تقدَّم أن فيها أربعةُ أوجه، وهي جارية هنا.
قوله: «فَيُقْسِمَانِ» نسقٌ على «يَقُومَانِ» والسببيَّةُ ظاهرٌة، و «لشَهَادَتُنَا أحَقُّ» : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله: «فَيُقْسِمَانِ».
585

فصل في معنى الآية


ومعنى الآية: فإن حصل العُثُور، والوقوف على أنَّهُمَا أتيا بِخِيَانة، استَحَقَّا الإثم بسبَبِ اليَمِينَ الكَاذِبَة، أو خِيَانَة في المَالِ، قام في اليَمِين مقَامَهُما رَجُلانِ من قرَابَة الميت، فَيَحْلِفَان باللَّهِ لقد ظَهَرْنا على خَبرِ الذِّمِّيَّين، وكذبهما وتَبْدِيلهما، وما اعْتَدَيَنْا في ذلك وما كَذبْنَا، وهو المُراد بقوله: ﴿فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم﴾، والمُرَادُ به موالِي الميِّتِ، قال ابنُ الخطيب: وقد أكثر النَّاسُ في أنَّهُ لِمَ وصف موالِي الميِّتِ بهذا الوَصْفِ؟ والأصَحُّ عندي فيه وَجْهٌ: وهو أنَّهُمْ إنَّما وُصِفُوا بذلك؛ لأنَّهُ لمَّا أخَذَ منهم مَالَهُمْ، فَقَدْ استَحَقَّ عليهم مَالَهُمْ، فإن أخَذَ مال غيره، فقد حاولَ أن يكون تَعَلُّقُهُ بذلك المَالِ مُسْتَعْلِياً على تَعَلُّق مالكه به، فصحَّ أن يوصف المَالِكُ بأنَّه قد استَحَقَّ عليه ذلك المال، وإنما وَصَفهُمَا بأنَّهُما أولَيَان لِوَجْهَيْن:
الأول: معنى الأوليان: الأقْرَبان إلى الميِّت.
الثاني: يَجُوزُ أن يكُون المَعْنَى الأوليان باليَمينِ؛ لأن الوصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ الميِّت قد باعَ الإنَاء الفِضَّة، فانْتَقَلَتِ اليَمِينُ إلى موالي الميِّت؛ لأنَّ الوَصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ مُورثَهُمَا باعَ الإنَاء، وهما أنْكَرَا ذلك، فكان اليَمِينُ حقًّا لهما؛ لأنَّ الوَصِيَّ إن أخَذَ شيئاً من مال الميِّت، وقال: إنه أوْصَى لِي به حَلَف لِلْوَارِثِ إذا أنْكَرَ ذلك، وكذا لو ادّعَى رجُلٌ سِلْعَةً في يدِ رجلٍ فاعْتَرَفَ، ثمَّ ادَّعى أنَّهُ اشْتَراها من المدَّعِي، حلف المُدَّعِي أنَّه لم يَبِعْها منه، وهذا كما لو أنَّ إنْسَاناً أقَرَّ لآخر بِدَيْنٍ، ثم ادّعى أنه قَضَاهُ، حُكِمَ بِرَدّ اليمينِ إلى الذي ادّعى الدَّيْن أوَّلاً؛ لأنَّه صارَ مُدَّعىً عليه أنه قد اسْتَوْفَاه.

فصل


اختلفوا في كَيْفِيَّة ظُهُور الإنَاء، فَرَوَى سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ: أنه وُجِدَ بمَكَّةَ، فقالوا: إنَّا اشْتَرَيْنَاه من تَمِيمٍ وعَدِيٍّ، وقيل: لما طَالَتِ المُدَّةُ أظهرُوهُ، فبلغ ذلك بني سَهْمٍ فَطَلَبُوهُمَا، فقالا: إنَّا كنا قد اشْتَرَيْنَاه منه، فقالُوا: ألم نَقُل لكم هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شيئاً من مَتاعِهِ، فَقُلْتُمَا: لا، قالا: لم يَكُنْ عندنا بيِّنةٌ، فكرهنا أن نُقِرَّ لَكُم بِهِ، فكَتَمْنَا لذلك، فرفَعُوهُمَا إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: ﴿فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا﴾ الآية، فقام عَمْرُو بنُ العَاصِ والمطَّلِبُ بن أبي وَداعة السَّهْمِيَّان، فحلفا باللَّهِ بعد العَصْرِ، فَرَفَع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الإنَاءَ لَهُما، وإلى أوْلِيَاء الميِّتِ، فكان تَمِيمٌ الداري يقول بعدما أسْلَمَ: صدقَ اللَّهُ ورسُولُه أنا أخَذْتُ فأنَا أتُوبُ إلى اللَّه تعالى.
586
وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ بقيت تلك الوَاقِعَةُ مَخْفِيَّةً إلى أن أسْلَمَ تَمِيمٌ الدَّاري، فلما أسْلَمَ أخْبَرَ بذلك، فقال: حَلَفْتُ كاذباً أنا وصَاحِبِي، بعْنَا الإنَاءَ بألفٍ وقَسَّمْنَا الثَّمنَ، ثمَّ دَفَعَ خمسمائة دِرْهَم من نفسه، ونزعَ من صاحبه خمسمائةً أخرى، ودفع الألْفَ إلى مَوَالِي الميِّت، فكذلك قوله: ﴿ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ﴾، أي: ذلك الذي حَكَمْنَا به من رَدِّ اليَمينِ، أجدر وأحْرَى أن يَأتِي الوَصِيَّان بالشَّهَادَة على وجهها، وأدْنَى معناه: أقْرَبُ إلى الإتيان بالشَّهَادَة على ما كانت ﴿أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي: أقْرَبُ إلى أن يَخَافُوا رَدَّ اليمينِ بعد يَمينهمْ على المُدَّعِي، فيحلفوا على خِيَانَتِهِم وكذبهم، فَيَفْتَضِحُوا ويغرمُوا، فلا يَحْلِفُون كَاذِبين إذا خَافُوا هذا الحُكْمَ، «واتَّقُوا اللَّهَ» : أنْ تَحْلِفُوا أيْماناً كَاذِبَةً، أو تَخُونُوا أمَانَةً، «واسْمَعُوا» : الموعظة، ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾، وهذا تَهْديدٌ ووعيدٌ لِمنْ يُخَالِفُ حُكْم اللَّهِ وأوَامِرِهِ.
روى الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في «البَسِيطِ»، عن عُمَر بن الخطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ قال: هذه الآية أعْضَلُ ما في هذه السُّورَةِ من الأحْكَامِ. ولنَرْجِع إلى إعرابِ بقيَّة الآيَة.
قوله «ذلك أدْنَى» لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لاستئنافِها، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيله، أي: ما تقدَّم ذكرُه من الأحْكَامِ أقربُ إلى حصولِ إقامةِ الشَّهادة على ما ينبغي، وقيل: المشارُ إليه الحَبْسُ بعد الصلاة، وقيل: تحليفُ الشاهدين، و «أنْ يَأتُوا» أصلُه: «إلى أنْ يأتُوا»، وقدَّره أبو البقاء ب «مِنْ» أيضاً، أي: أدْنَى من أن يأتُوا، وقدَّره مكيٌّ بالباء، أي: بِأنْ يَأتُوا، قال شهاب الدين: وليْسَا بواضحَيْنِ، ثم حذفَ حرفَ الجر، فَنَشَأ الخلافُ المشهور، و «عَلَى وَجْهِهَا» متعلِّقٌ ب «يَأتُوا»، وقيل: في محلِّ نَصْبٍ على الحال منها، وقدَّره أبو البقاء ب «محققة وصَحِيحَة»، وهو تفسيرُ معنًى؛ لما عرفْتَ غير مرة من أنَّ الأكوانَ المقيَّدة لا تُقَدَّر في مثله.
قوله: «أوْ يَخَافُوا» في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب؛ عطفاً على «يَأتُوا»، وفي «أوْ» على هذا تأويلان:
أحدهما: أنها على بابها من كونها لأحدِ الشيئين، والمعنى: ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي، أو خوفِ رَدِّ الأيمانِ إلى غيرهم، فتسقطُ أيمانهم، والتأويلُ الآخر: [أن] تكون بمعنى الواو، أي: ذلك الحُكْمُ كله أقربُ إلى أنْ يَأتُوا، وأقربُ إلى أن يَخَافُوا، وهذا مفهومٌ من قول ابن عبَّاسٍ.
587
الثاني من وجهي النصب: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» بعد «أوْ»، ومعناها هنا «إلاَّ» ؛ كقولهم: «لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَني حَقِّي»، تقديره: إلاَّ أنْ تَقْضِيني، ف «أوْ» حرفُ عطفٍ على بابها، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أنْ» وجوباً، و «أنْ» وما في حيِّزها مُؤوَّلةٌ بمصْدرٍ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعلِ قبله، فمعنى: «لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي» : لَيَكُونَنَّ منِّي لُزُومٌ لك أو قَضَاؤُكَ لِحَقِّي، وكذا المعنى هنا أي: ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادةِ على وجهها؛ وإلاَّ خَافُوا رَدَّ الإيمانِ، كذا قدَّره ابن عطية بواوٍ قبل «إلاَّ»، وهو خلافُ تقدير النحاة؛ فإنَّهمْ لا يقدِّرون «أوْ» إلا بلفظ «ألاَّ» وحدها دون واو، وكأن «إلاَّ» في عبارته على ما فهمه أبو حيان ليسَتْ «إلاَّ» الاستئنائيةَ، بل أصلُها «إنْ» شرطيةً دخلتْ على «لاَ» النافيةِ فأدْغِمَتْ فيها، فإنه قال: «أو تكون» أو «بمعنى» إلاّ إنْ «، وهي التي عبَّر عنها ابن عطيَّة بتلك العبارةِ من تقديرها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاءٍ». انتهى، وفيه نظرٌ من وجهَيْن:
أحدهما: أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ، أعني كون «أوْ» بمعنى الشرط.
والثاني: أنه بعد أنْ حَكَمَ عليْهَا بأنها بمعنى «إلاَّ إنْ» جعلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه.
و «أنْ تُرَدَّ» في محلِّ نَصْبٍ على المفعُولِ به، أي: أو يَخَافُوا رَدَّ أيمانهم. و «بَعْدَ أيْمَانِهِمْ» : إمَّا ظرفٌ ل «تُرَدَّ»، أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ على أنها صفةٌ ل «أيْمَان»، وجُمِعَ الضميرُ في قوله «يَأتُوا» وما بعده، وإنْ كان عائداً في المعنى على مثنى، وهو الشاهدان، فقيل: هو عائدٌ على صنفي الشاهدين، وقيل: بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كُلِّهِمْ، معناه: ذلك أولى وأجدرُ أنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ، فيَتَحَرَّوْا في شهادتهم؛ خَوْفَ الشناعةِ عليهم والفَضِيحةِ في رَدِّ اليمينِ على المُدَّعِي، وقوله: «واتَّقُوا الله» لم يذكر متعلَّق التقوى: إمَّا للعلْمِ به، أي: واتقوا اللَّهَ في شهادِتكُمْ وفي الموصينَ عليهم بأن لا تَخْتَلِسُوا لهم شيئاً؛ لأن القصَّةَ كانت بهذا السَّببِ، وإمَّا قَصْداً لإيقاع التقوى، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقَى منه، وكذا مفعولُ «اسْمَعُوا» إنْ شئتَ حذفته اقتصاراً أو اختصاراً، أي: اسْمَعُوا أوامِرَهُ من نَوَاهِيه من الأحكام المتقدِّمة، وما أفْصَحَ ما جيء بهاتَيْن الجملتَيْن الأمريتَيْن، فتباركَ اللَّهُ أصْدَقُ القائلِينَ.
588
قوله تعالى :" فإنْ عُثِرَ " : مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ فاعله الجارُّ بعده، أي : فإن اطُّلِعَ على اسْتِحْقَاقِهِمَا الإثْم يقالُ : عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُوراً : إذا هَجَمَ على شيءٍ، لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ، وأعْثَرْتُهُ على كذا أطلعتُه عليه ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ [ الكهف : ٢١ ]، قال أهلُ اللغة : وأصلُه من " عَثْرَةِ الرجْلِ " وهي الوقوعُ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُرُ بِشَيْء كان لا يَرَاهُ، فإن عثر به، اطُّلَعَ عليه، ونظر ما هو، فقيل لكلِّ أمْرٍ كان خَفِيًّا، ثم اطُّلِعَ عليه :" عُثِرَ عَلَيْه "، وقال الليْثُ :" عَثَرَ يَعْثُرُ عُثُوراً هَجَمَ على أمرٍ لم يهجُمْ عليه غيرُه، وعَثَر يَعْثُرُ عثْرةً وقع على شيء " ففرَّقَ بين الفعلَيْنِ بمصدَرَيْهما، وفرَّق أبو البقاء١ بينهما بغير ذلك ؛ فقال :" عَثَرَ مصْدرُه العُثُور، ومعناه اطَّلَعَ، فأمَّا " عَثَرَ " في مَشْيهِ، ومنْطِقِهِ، ورأيه، فالعِثَارُ "، والراغب٢ جعَلَ المصدَرَيْنِ على حدٍّ سواء ؛ فإنه قال :" عَثَر الرَّجل بالشيءِ يَعْثُرُ عُثُوراً وعِثَاراً : إذا سقطَ عليه، ويُتَجَوَّزُ به فيمَنْ يطَّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه، يقال :" عَثَرْتُ على كذا "، وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ [ الكهف : ٢١ ]، أي : وَقَّفْنَاهُمْ عليهم من غَيْرِ أنْ طَلَبُوا ".
قوله تعالى :" فآخَرَانِ " فيه أربعةُ أوجه :
الأول : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، تقديره : فالشَّاهدانِ آخرانِ، والفاء جوابُ الشرط، دخلت على الجملة الاسمية، والجملةُ من قوله :" يَقُومَانِ " في محلِّ رفعٍ صفةً ل " آخَرَانِ ".
الثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ، تقديرُه : فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ، ذكره مكيٌّ٣ وأبو البقاء٤، وقد تقدَّم أن الفعل لا يُحْذَفُ وحْدَهُ إلاَّ في مواضعَ ذكَرْتُها عند قوله :﴿ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ﴾ [ المائدة : ١٠٦ ].
الثالث : أن خبرٌ مقدَّم، و " الأوْلَيَانِ " مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والتقديرُ : فالأوْليانِ بأمْرِ الميِّتِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، ذكر ذلك أبو عَلِيٍّ، قال :" ويكُونُ كقولك : تَميميٌّ أنَا ".
الرابع : أنه مبتدأٌ، وفي الخبر حينئذ احتمالاتٌ :
أحدها : قوله :﴿ مِنَ الَّذينَ اسْتَحَقَّ ﴾، وجاز الابتداءُ به ؛ لتخصُّصِه بالوصْفِ، وهو الجملة من " يَقُومَانِ ".
والثاني : أنَّ الخبر " يَقُومَانِ " و ﴿ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ ﴾ صفةُ المبتدأ، ولا يَضُرُّ الفصْلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به : اعتمادُه على فاءِ الجزاء، وقال أبو البقاء٥، لمَّا حَكَى رفعه بالابتداء :" وجازَ الابتداءُ هنا بالنَّكِرَة ؛ لحصولِ الفائدةِ "، فإن عنى أنَّ المسوِّغَ مجرَّدُ الفائدةِ من غير اعتبار مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها، فغيرُ مُسَلَّم.
الثالث : أنَّ الخبرَ قوله :" الأوْلَيَانِ " نقله أبو البقاء٦، وقوله " يَقُومَانِ " و ﴿ مِنَ الَّذينَ اسْتَحَقَّ ﴾ كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل " آخَرَانِ "، ويجوزُ أن يكون أحدُهما صفةً، والآخرُ حالاً، وجاءتِ الحالُ من النكرةِ ؛ لتخصُّصِهَا بالوصفِ، وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ ؛ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ، جَعَلْتَ المعرفةَ محدَّثاً عنها، والنكرةَ حديثاً، وعكسُ ذلك قليلٌ جدًّا أو ضرورةٌ ؛ كقوله :[ الوافر ]
. . . *** يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ٧
وكقوله :[ الطويل ]
وَإنَّ حَرَاماً أنَّ أسُبَّ مُجَاشِعاً *** بَآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَام الْخَضَارِمِ٨
وقد فُهِمَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملة من قوله " يَقُومَانِ " والجارَّ من قوله :" مِنَ الَّذِينَ " : إمَّا مرفوعُ المحلِّ صفةً ل " آخَرَانِ " أو خبرٌ عنه، وإمَّا منصوبُهُ على الحالِ : إمَّا من نَفْسِ " آخَرَانِ "، أو مِنَ الضَّمِير المستكنِّ في " آخَرَانِ "، ويجوزُ في قوله " مِنَ الَّذِين " أنْ يكون حالاً من فاعلِ " يَقُومَانِ ".
قوله :" استحقّ " قرأ الجمهور " استُحِقَّ " ٩ مبنيًّا للمفعول، " الأولَيَانِ " رفعاً، وقرأ حفص عن عاصم١٠ :" اسْتَحَقَّ " مبنيًّا للفاعل، " الأوليَانِ " كالجماعة، وهي قراءة عبد الله بن عبَّاس وأمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنهم - ورُوِيَتْ عن ابن كثيرٍ أيضاً، وحمزة١١ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ :" استُحِقَّ " مبنيًّا للمفعول كالجماعة، " الأوَّلِينَ " جمع " أوَّل " جمع المذكر السَّالِم، والحسن١٢ البصريّ :" اسْتَحَقَّ " مبنيًّا للفاعل، و " الأوَّلانِ " مرفوعاً تثنية " أوَّل "، وابن سيرين١٣ كالجماعة، إلا أنه نَصَبَ الأوْلَيْينِ تثنية " أوْلَى "، وقرئ :" الأوْلَيْنَ " بسكون الواو وفتح اللام، وهو جمع " أوْلَى " كالأعْلَيْنَ في جمعِ " أعْلَى "، ولما وصل أبو إسحاق الزجاج١٤ إلى هذا الموضوع، قال :" هذا موضعٌ من أصْعَبِ ما في القرآن إعراباً ". قال شهاب الدين : ولعَمْرِي، إنَّ القولَ ما قالَتْ حَذَامِ ؛ فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسن تَلْخِيصٍ، ولا بدَّ من ذِكْرِ شَيْءٍ من معاني الآية ؛ لنستعين به على الإعْراب ؛ فإنه خادمٌ لها.
فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ، فرفعُ " الأوْلَيَان " فيها أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ، وخبره " آخرَانِ "، تقديره : فالأوْلَيَانِ بأمر الميِّت آخَرَانِ، وتقدَّم شرحُ هذا.
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، أي : هما الأوْليانِ ؛ كأنَّ سائلاً يسأل فقال :" من الآخَرَانِ " ؟ فقيل : هما الأوْلَيَانِ.
الثالث : أنه بدلٌ من " آخَرَان "، وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه ؛ نحو :" جَاءَ زَيْدٌ أخُوكَ " وهذا عندهم ضعيفٌ ؛ لأنَّ الإبدالَ بالمشتقَّاتِ قليلٌ.
الرابع : أنه عطفُ بيان ل " آخَرَانِ " بيَّن الآخَرَيْنِ بالأوْلَيَيْنِ، فإن قلت : شرطُ عطفِ البيانِ : أن يكون التابعُ والمتبوعُ متفقينِ في التعريفِ والتنكيرِ، على أنَّ الجمهور على عدم جريانه في النكرةِ ؛ خلافاً لأبي عَليّ، و " آخَرَانِ " نكرةٌ، و " الأوْلَيَانِ " معرفةٌ، قُلْتُ : هذا سؤالٌ صحيحٌ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ، ويلزمُ الزمخشريَّ جوازُه : أمَّا الأخفشُ١٥ فإنه يُجيزُ أنْ يكون " الأوْلَيَانِ " صفةً ل " آخَرَانِ " بما سأقرره عنه عند تعرُّضِي لهذا الوجهِ، والنعتُ والمنعوتُ يُشترط فيهما التوافُقُ، فإذا جاز في النعْتِ، جاز فيما هو شبيهٌ به ؛ إذْ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت، وأمَّا الزمخشريُّ، فإنه لا يشترطُ ذلك - أعني التوافُقَ - وقد نَصَّ عليه هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] عطفُ بيان ؛ لقوله ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾، و " آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ " نكرةٌ ؛ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ، قَرُبَتْ من المعرفة، كما تقدَّم عنه في موضعه، وكذا " آخَرَانِ " قد وُصِفَ بصفَتيْنِ، فقُرْبُه من المعرفة أشدُّ من " آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ " ؛ من حيثُ وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة.
الخامس : أنه بدلٌ من فاعلِ " يَقُومَانِ ".
السادس : أنه صفةٌ ل " آخَرَانِ "، أجازَ ذلك الأخفشُ١٦، وقال أبو عَلِيٍّ :" وأجازَ أبو الحسنِ فيها شيئاً آخَرَ، وهو أن يكُون " الأوْلَيَانِ " صفةً ل " آخَرَانِ " ؛ لأنَّه لمَّا وُصِفَ، تخصَّصَ، فَمِنْ أجلِ وصفه وتخصيصه، وُصِفَ بوصف المعارف "، قال أبو حيان١٧ :" وهذا ضعيفٌ ؛ لاستلزامِه هَدْم ما كَادُوا أن يُجْمعوا عليه ؛ من أنَّ النكرة لا تُوصفُ بالمعرفةِ، ولا العَكْس "، قلتُ : لا شكَّ أن تَخَالُفَهُمَا في التعريفِ والتنْكيرِ ضعيفٌ، وقد ارتكَبُوا ذلك في مواضعَ، فمنها ما حكاه الخليلُ :" مَرَرْتُ بالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ " في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ، ومنها ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الفاتحة : ٧ ] على القولِ بأنَّ " غَيْر " صفةُ ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾، وقوله :[ الكامل ]
وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنِي *** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي١٨
وقوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ﴾ [ يس : ٧٣ ]، على أنَّ " يَسُبُّنِي " و " نَسْلَخُ " صفتان لما قبلهما ؛ فإنَّ الجمل نكراتٌ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه، فإنها تُؤوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفةِ ؛ إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ، ويجوز أن يكون ما نحْنُ فيه من هذه المُثُلِ ؛ فاعتبار أنَّ " الأوْلَيَيْنِ " لمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان، قَرُبَا من النكرةِ، فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي ؛ فصار في ذلك مسوِّغان : قُرْبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ، وقُرْبُ المعرفةِ من النكرة بالإبهام ؛ ويدلُّ لِما قلته ما قال أبو البقاء١٩ :" والخَامِسُ أن يكون صفة ل " آخَرَانِ " ؛ لأنه وإنْ كان نكرةً، فقد وُصِفَ، والأوْليانِ لم يَقْصِدْ بهما قَصْدَ اثنينِ بأعيانِهما ".
السابع : أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله ب " اسْتُحِقَّ "، إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا، قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً، واختلفتْ تقديراتُ المُعْرِبينَ، فقال مكي٢٠ :" تقديرُه : استُحِقَّ عليهمْ إثْمُ الأوْلَيَيْنِ "، وكذا أبو البقاء٢١ وقد سَبقَهما إلى هذا التقدير ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ، وقدَّره الزَمَخْشَرِيُّ٢٢ فقال :" مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ علَيْهِمُ انتدَابُ الأوْلَيَيْنِ منْهُمْ للشَّهادَةِ لاطِّلاعِهِمْ عَلَى حقيقةِ الحَالِ "، ومِمَّن ذهب إلى ارتفاعِ " الأوْلَيَانِ " ب " اسْتُحِقَّ " أبو عليٍّ الفارسِيُّ، ثم منعه ؛ قال :" لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنَّمَا يكُونُ الوصيَّة أو شيئاً منها، وأمَّا الأوليَانِ بالمَيِّتِ، فلا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّا، فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما "، قلتُ : إنما منع أبو عليٍّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ ؛ فإنَّ الأوْلَيَيْنِ لَمْ يستحقَّهما أحدٌ كما ذَكَر، ولكن يجوز أن يُسْنَدَ " اسْتُحِقَّ " إليهما ؛ بتأويلِ حذف المضافِ المتقدِّم، وهذا [ الذي ] منعه الفارسيُّ ظاهراً هو الذي حمل النَّاس على إضمار ذلك المُضافِ، وتقديرُ الزمخشريِّ ب " انْتِدَاب الأوْلَيَيْنِ " أحسنُ من تقدير غيره ؛ فإنَّ المعنى يُسَاعِدُهُ، وأمَّا إضمارُ " الإثْم " فلا يَظْهر إلا بتأويل بعيدٍ.
وأجازَ ابن عطيَّة٢٣ أن يرتفعَ " الأوْلَيَانِ " ب " اسْتُحِقَّ " أيضاً، ولكن ظاهرُ عبارته ؛ أنه لم يُقَدَّر مضافاً ؛ فإنه استشعر باستشكالِ الفارسيِّ المتقدِّم، فاحتالَ في الجواب عنه، وهذا نَصُّه، قال ما ملخَّصُه : إنَّه " حُمِلَ " اسْتُحِقَّ " ه
١ ينظر: الإملاء ١/٢٣٠..
٢ ينظر: المفردات ٣٣٣..
٣ ينظر: المشكل ١/٢٥٢..
٤ ينظر: الإملاء ١/٢٣٠..
٥ ينظر: الإملاء ١/٢٣٠..
٦ ينظر: المصدر السابق..
٧ البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص (٧١)، والأشباه والنظائر ٢/٢٩٦، خزانة الأدب ٩/٢٢٤، الدرر ٢/٧٣، شرح أبيات سيبويه ١/٥٠، شرح شواهد المغني ص (٨٤٩)، شرح المفصل ٨/٩٣، الكتاب ١/٤٩، لسان العرب(سبأ)، (رأس)، (جنى)، المحتسب ١/٢٧٩، المقتضب ٤/٩٢، مغني اللبيب ص (٤٥٣)، همع الهوامع ١/١١٩، الدر المصون ٢/٦٣٤..
٨ تقدم..
٩ ينظر: السبعة ٢٤٨، ٢٤٩، والحجة ٣/٢٦٠، ٢٦١، وحجة القراءات ٢٣٨، والعنوان ٨٨، وإعراب القراءات ١/١٤٩، ١٥٠، وشرح شعلة ٣٥٥ وشرح الطيبة ٤/٢٣٧، وإتحاف ١/٥٤٣..
١٠ ورويت عن أبيّ كما في البحر المحيط ٤/٤٩، وينظر: الدر المصون ٢/٦٣٤..
١١ ينظر: التخريجات السابقة على القراءة..
١٢ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٥٤، والبحر المحيط ٤/٤٩، والدر المصون ٢/٦٣٤..
١٣ ينظر: السابق..
١٤ ينظر: معاني القرآن ٢/٢٣٩..
١٥ ينظر: معاني القرآن ١/٢٦٦..
١٦ ينظر: المصدر السابق..
١٧ ينظر: البحر المحيط ٤/٤٩..
١٨ تقدم..
١٩ ينظر: الإملاء ١/٢٣٠..
٢٠ ينظر: المشكل ١/٢٥٢..
٢١ ينظر: الإملاء ١/٢٣٠..
٢٢ ينظر: الكشاف ١/٦٨٩..
٢٣ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٥٥..
قوله " ذلك أدْنَى " لا محلَّ لهذه الجملةِ ؛ لاستئنافِها، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيله، أي : ما تقدَّم ذكرُه من الأحْكَامِ أقربُ إلى حصولِ إقامةِ الشَّهادة على ما ينبغي، وقيل : المشارُ إليه الحَبْسُ بعد الصلاة، وقيل : تحليفُ الشاهدين، و " أنْ يَأتُوا " أصلُه :" إلى أنْ يأتُوا "، وقدَّره أبو البقاء١ ب " مِنْ " أيضاً، أي : أدْنَى من أن يأتُوا، وقدَّره مكيٌّ٢ بالباء، أي : بِأنْ يَأتُوا، قال شهاب الدين٣ : وليْسَا بواضحَيْنِ، ثم حذفَ حرفَ الجر، فَنَشَأ الخلافُ المشهور، و " عَلَى وَجْهِهَا " متعلِّقٌ ب " يَأتُوا "، وقيل : في محلِّ نَصْبٍ على الحال منها، وقدَّره أبو البقاء٤ ب " محققة وصَحِيحَة "، وهو تفسيرُ معنًى ؛ لما عرفْتَ غير مرة من أنَّ الأكوانَ المقيَّدة لا تُقَدَّر في مثله.
قوله :" أوْ يَخَافُوا " في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب ؛ عطفاً على " يَأتُوا "، وفي " أوْ " على هذا تأويلان :
أحدهما : أنها على بابها من كونها لأحدِ الشيئين، والمعنى : ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي، أو خوفِ رَدِّ الأيمانِ إلى غيرهم، فتسقطُ أيمانهم، والتأويلُ الآخر :[ أن ] تكون بمعنى الواو، أي : ذلك الحُكْمُ كله أقربُ إلى أنْ يَأتُوا، وأقربُ إلى أن يَخَافُوا، وهذا مفهومٌ من قول ابن عبَّاسٍ.
الثاني من وجهي النصب : أنه منصوبٌ بإضمار " أنْ " بعد " أوْ "، ومعناها هنا " إلاَّ " ؛ كقولهم :" لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَني حَقِّي "، تقديره : إلاَّ أنْ تَقْضِيني، ف " أوْ " حرفُ عطفٍ على بابها، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار " أنْ " وجوباً، و " أنْ " وما في حيِّزها مُؤوَّلةٌ بمصْدرٍ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعلِ قبله، فمعنى :" لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي " : لَيَكُونَنَّ منِّي لُزُومٌ لك أو قَضَاؤُكَ لِحَقِّي، وكذا المعنى هنا أي : ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادةِ على وجهها ؛ وإلاَّ خَافُوا رَدَّ الإيمانِ، كذا قدَّره ابن عطية٥ بواوٍ قبل " إلاَّ "، وهو خلافُ تقدير النحاة ؛ فإنَّهمْ لا يقدِّرون " أوْ " إلا بلفظ " ألاَّ " وحدها دون واو، وكأن " إلاَّ " في عبارته على ما فهمه أبو حيان٦ ليسَتْ " إلاَّ " الاستثنائيةَ، بل أصلُها " إنْ " شرطيةً دخلتْ على " لاَ " النافيةِ فأدْغمَتْ فيها، فإنه قال :" أو تكون " أو " بمعنى " إلاّ إنْ "، وهي التي عبَّر عنها ابن عطيَّة بتلك العبارةِ من تقديرها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاءٍ ".
انتهى، وفيه نظرٌ من وجهَيْن :
أحدهما : أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ، أعني كون " أوْ " بمعنى الشرط.
والثاني : أنه بعد أنْ حَكَمَ عليْهَا بأنها بمعنى " إلاَّ إنْ " جعلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه.
و " أنْ تُرَدَّ " في محلِّ نَصْبٍ على المفعُولِ به، أي : أو يَخَافُوا رَدَّ أيمانهم. و " بَعْدَ أيْمَانِهِمْ " : إمَّا ظرفٌ ل " تُرَدَّ "، أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ على أنها صفةٌ ل " أيْمَان "، وجُمِعَ الضميرُ في قوله " يَأتُوا " وما بعده، وإنْ كان عائداً في المعنى على مثنى، وهو الشاهدان، فقيل : هو عائدٌ على صنفي الشاهدين، وقيل : بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كُلِّهِمْ، معناه : ذلك أولى وأجدرُ أنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ، فيَتَحَرَّوْا في شهادتهم ؛ خَوْفَ الشناعةِ عليهم والفَضِيحةِ في رَدِّ اليمينِ على المُدَّعِي، وقوله :" واتَّقُوا الله " لم يذكر متعلَّق التقوى : إمَّا للعلْمِ به، أي : واتقوا اللَّهَ في شهادِتكُمْ وفي الموصينَ عليهم بأن لا تَخْتَلِسُوا لهم شيئاً ؛ لأن القصَّةَ كانت بهذا السَّببِ، وإمَّا قَصْداً لإيقاع التقوى، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقَى منه، وكذا مفعولُ " اسْمَعُوا " إنْ شئتَ حذفته اقتصاراً أو اختصاراً، أي : اسْمَعُوا أوامِرَهُ من نَوَاهِيه من الأحكام المتقدِّمة، وما أفْصَحَ ما جيء بهاتَيْن الجملتَيْن الأمريتَيْن، فتباركَ اللَّهُ أصْدَقُ القائلِينَ.
١ ينظر: الإملاء ١/٢٣١..
٢ ينظر: المشكل ١/٢٥٣..
٣ ينظر: الدر المصون ٢/٦٣٩..
٤ ينظر: الإملاء ١/٢٣١..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٢٥٦..
٦ ينظر: البحر المحيط ٤/٥١..
اعلم: أنَّ عادةَ اللَّهِ تعالى في هذا الكِتَابِ الكَرِيم، أنَّه إذا ذَكَرَ أنْوَاعاً من الشَّرَائع والتَّكَالِيفِ والأحْكَام، أتْبَعها إمَّا بالإلهِيَّات، وإمَّا بشَرْح أحوَال الأنْبِيَاء، وإمَّا بِشَرْح أحوَال
588
القِيامَةِ، ليصير ذلك مُؤكداً لما ذكَرَهُ من التَّكَاليفِ والشَّرائع، فلا جَرَمَ ذكر هنا بعد ما تقدَّم من الشَّرائع أحْوالَ القِيامَةِ، ثمَّ ذكر أحْوالَ عيسى - عليه السلام -.
فأمَّا أحْوالُ القِيَامَةِ، فَهُو قَوْلُه: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾ : في نصب «يَوْمَ» أحدَ عشرَ وجهاً:
أحدها: أنه منصوبٌ ب «اتَّقُوا»، أي: اتَّقُوا اللَّهَ في يومِ جمعِهِ الرُّسُلَ، قاله الحُوفِيُّ، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ؛ لأنَّ أمرهم بالتقوى في يوم القيامةِ لا يكون؛ إذ ليس بيومِ تَكْليفٍ وابتلاءٍ، ولذلك قال الواحديُّ: ولم يُنْصَبِ اليومُ على الظرْفِ للاتِّقاء؛ لأنَّهم لم يُؤمَرُوا بالتقوَى في ذلك اليوم، ولكنْ على المفعول به؛ كقوله: ﴿واتقوا يَوْماً﴾ [البقرة: ٤٨].
الثاني: أنه منصوب ب «اتَّقُوا» مضْمَراً يدلُّ عليه «واتَّقُوا الله»، قال الزَّجَّاج: «وهو محمولٌ على قوله:» واتَّقُوا الله «، ثم قال:» يَوْمَ يَجْمَعُ «، أي: واتقوا ذلك اليومَ»، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاءِ في الأوَّل على الاتقاء في هذه الآية، ولا يكونُ منصوباً على الظَّرْف للاتقاء؛ لأنهم لم يُؤمَرُوا بالاتقاء في ذلك اليَوْم، ولكنْ على المفعول به؛ كقوله تعالى: ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ [البقرة: ٤٨].
الثالث: أنه منصوب بإضمار «اذْكُرُوا».
الرابع: بإضمار «احْذَرُوا».
الخامس: أنه بدلُ اشتمالٍ من الجلالة، قال الزمخشريُّ: «يَوْمَ يَجْمَعُ» بدلٌ من المنصوب في «واتَّقُوا الله»، وهو من بدلِ الاشتمال، كأنه قيل: «واتقُوا الله يَوْمَ جَمْعِهِ». انتهى، ولا بد من حذفِ مضافٍ على هذا الوجهِ؛ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليْسَ بجيدٍ؛ لأنَّ الاشتمالَ لا يُوصَفُ به الباري تعالى على أيِّ مذهبٍ فَسَّرنَاهُ من مذاهب النحويين في الاشتمالِ، والتقديرُ: واتقوا - عقاب الله - يَوْمَ يَجْمَعُ رُسُلَهُ، فإنَّ العقابَ مشتملٌ على زمانِه، أو زمانُه مشتملٌ عليه، أو عامِلُهُمَا مشتملٌ عليهما على حسب الخلاف في تفسير البدلِ الاشتماليِّ، فقد تبيَّن لك امتناعُ هذه العباراتِ بالنسبةِ إلى الجلالةِ الشريفة، واستبعد أبو حيان هذا الوجه بطُولِ الفصْلِ بجملتين، ولا بُعْدَ؛ فإنَّ هاتين الجملتَيْنِ من تمامِ معنى الجملة الأولى.
السادسُ: أنه منصوبٌ ب «لا يَهْدِي» قاله الزمخشريُّ وأبو البقاء؛ قال الزمخشريُّ: «أي: لا يهديهمْ طريقَ الجنَّة يومئذٍ كما يُفْعَلُ بغَيْرهِمْ»، وقال أبو البقاء: «
589
أي: لا يهدِيِهمْ في ذلك اليَوْمِ إلى حُجَّةٍ، أو إلى طريقِ الجنَّة».
السابع: أنه مفعولٌ به، وناصبُه «اسْمَعُوا»، ولا بد من حذف مضاف حينئذٍ، لأنَّ الزمان لا يُسْمَعُ، فقدَّره أبو البقاء: «واسمعوا خَبَرَ يَوْمِ يُجْمَعُ»، ولم يذكر أبو البقاء غير هذين الوجهَيْن، وبدأ بأولهما، وفي نصبه ب «لا يَهْدِي» نظرٌ؛ من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً، لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا، أعني المحْكُوم عليهم بالفسْقِ، وفي تقدير الزمخشريِّ «لا يَهْدِيهِمْ إلى طريقِ الجنَّة» نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنَّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوزُ على الله تعالى؛ ولذلك خَصَّصَ المُهْدَى إليه، ولم يذكر غيره، والذي سَهَّلَ ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تَكْلِيفَ فيه، وأما في دار التكليفِ فلا يُجيزُ المعتزليُّ أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً ألبتة.
الثامن: أنه منصوبٌ ب «اسْمَعُوا» قاله الحُوفِيُّ، وفيه نظرٌ؛ لأنهم ليسوا مكلَّفين بالسَّماعِ في ذلك اليومِ؛ إذ المُرادُ بالسماعِ السماعُ التكليفيُّ.
التاسع: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخِّرٍ، أي: يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكَيْتَ، قاله الزمخشريُّ.
العاشر: قال شهاب الدين: يجوز أن تكونَ المسألة من باب الإعْمَال؛ فإنَّ كُلاًّ من هذه العوامِلِ الثلاثةِ المتقدِّمة يَصِحُّ تسلُّطُه عليه؛ بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ عوامل، وهي «اتَّقُوا»، و «اسْمَعُوا»، و «لا يَهْدِي»، ويكونُ من إعمال الأخير؛ لأنه قد حُذِفَ من الأوَّلِينَ ولا مانعَ يمنع من الصناعة، وأمَّا المعنى فقد قَدَّمْتُ أنه لا يظهرُ نصْبُ «يَوْمَ» بشيء [من الثلاثة] ؛ لأنَّ المعنى يأباه، وإنما أجَزْتُ ذلك؛ جَرْياً على ما قالوه وجَوَّزوه، وكذا الحُوفِيُّ جَوَّز أن ينتصب ب «اتَّقُوا» وب «اسْمَعُوا» أو ب «لاَ يَهْدِي»، وكذا الحُوفِيُّ جَوَّز أن ينتصب ب «اتَّقُوا» وب «اسْمَعُوا».
الحادي عشر: أنه منصوبٌ ب «قَالُوا: لا عِلْمَ لَنَا» أي: قال الرسُلُ يوم جمْعِهِمْ، وقول الله لهم ماذ أجِبْتُمْ، واختاره أبو حيان على جميع ما تقدَّم، قال: وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ﴾ [البقرة: ٣٠]، وهو وجه حسنٌ.
قوله: «مَاذَا أجِبْتُمْ» فيه أربعةُ أقوال:
أحدها: أنَّ «مَاذَا» بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، فغلب فيه جانبُ الاستفهام، ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده، والتقديرُ: أيَّ إجابةٍ أجِبْتُم [قال الزمخشريُّ: «مَاذَا أجِبْتُمْ»
590
منتصبٌ انتصابَ مصدره على معنى: أيَّ إجابةٍ أجِبْتُمْ]، ولو أُريدَ الجوابُ، لقيل: بمَاذا أُجِبْتُمْ «، أي: لو أُريدَ الكلامُ المجابُ، لقيل: بماذا، ومِنْ مجيء» مَاذَا «كلِّه مصدراً قوله: [البسيط]
٢٠٧٥ - مَاذَا يَغِيرُ ابنَتَيْ رَبْعٍ عَوِيلُهُمَا لاتَرْقُدانِ وَلاَ بُؤسَى لِمَنْ رَقَدَا
الثاني: أن «مَا»
استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و «ذَا» خبره، وهي موصولةٌ بمعنى «الَّذي» ؛ لاستكمال الشرطَيْن المذكورَيْن، و «أُجِبْتُمْ» صلتُها، والعائدُ محذوفٌ، أي: ما الَّذي أجِبْتُمْ به، فحذفَ العائد، قاله الحُوفِيُّ، وهذا لا يجوزُ؛ لأنه لا يجوزُ حذفُ العائدِ المجرورِ، إلا إذا جُرَّ الموصولُ بحرف مثلِ ذلك الحرفِ الجارِّ للعائد، وأنْ يَتَّحِدَ متعلَّقاهُمَا؛ نحو: «مَرَرْتُ بالَّذي مَرَرْتَ»، أي: به: وهذا الموصولُ غير مَجْرُورٍ، لو قلتَ: «رَأيْتُ الذي مَرَرْتَ»، أي: مررتَ به، لم يجُزْ، اللهم إلا أنْ يُدَّعى حَذْفُهُ على التدريج أن يُحْذَفَ حرفُ الجرِّ، فيصلَ الفعلُ إلى الضمير، فيحذفَ؛ كقوله: ﴿وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩]، أي: في أحدِ أوجهه، وقوله: ﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤] في أحد وجهيه، وعلى الجملةِ فهو ضيعف.
الثالث: أنَّ «مَا» مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ، لمَّا حُذِفَ بقيتْ في محلِّ نصبٍ، ذكره أبو البقاء وضعَّف الوجه الذي قبله - أي كون ذا موصولةً - فإنه قال: «مَاذَا في موضعِ نصْبٍ ب» أُجبْتُمْ «، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، و» مَا «و» ذَا «هنا بمنزلةِ اسْمٍ واحدٍ، ويَضْعُفُ أنْ تُجْعَلَ» مَا «بمعنى» الَّذِي «؛ لأنه لا عائد هنا، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ». قال شهاب الدين أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفاً، فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه، فهو ضيعفٌ أيضاً، لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ؛ كقوله: [الطويل]
٢٠٧٦ - فَبِتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي.............................
وقوله: [الطويل]
٢٠٧٧ -............................. وأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأسَى لَقَضَانِي
591
وقوله: [الوافر]
٢٠٧٨ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا.............................
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، واستثناءُ المطَّرِد منه، فقد فرَّ من ضعيفٍ، ووقع في أضْعَفَ منه.
الرابع: قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «معناه: ماذا أجابَتْ به الأممُ»، فجعل «مَاذَا» كنايةً عن المُجَابِ به، لا المصدرِ، وبعد ذلك، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أنْ يكونَ مثل ما تقدَّمَ حكايتُهُ عن الحُوفِيِّ في جعله «مَا» مبتدأ استفهاميةً، و «ذَا» خبره؛ على أنها موصولةٌ، وقد تقدَّم التنبيهُ على ضعفه، ويُحْتملُ أن يكون «مَاذَا» كلُّه بمنزلةِ اسمِ استفهامٍ في محلِّ رفع بالابتداء، و «أُجِبْتُمْ» خبرُه، والعائدُ محذوفٌ؛ كما قدَّره هو، وهو أيضاً ضعيفٌ؛ لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ المبتدأ، وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها، لو قلت: «زَيْدٌ مَرَرْتُ» لم يَجُزْ، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ، رُجِّح الأول.
والجمهورُ على «أُجِبْتُمْ» مبنيًّا للمفعول، وفي حذفِ الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُهُ من الفصاحة والبلاغة؛ حيث اقتصرَ على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معَهُم غيرُهم؛ رفْعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً، وقرأ ابن عبَّاس وأبو حيوة «أجَبْتُمْ» مبنيًّا للفاعل، والمفعول محذوف، أي: ماذا أجَبْتُمْ أمَمَكُمْ حين كَذَّبُوكُمْ وآذَوْكُمْ، وفيه توبيخٌ للأمَمِ، وليستْ في البلاغةِ كالأولى.
فإن قيل: أيُّ فائِدَةٍ في هذا السُّؤال، فالجوابُ: توبيخُ قَوْلِهم كقوله: ﴿وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨، ٩]، المَقْصُودُ مِنْهُ تَوْبِيخُ من فعل ذَلِك الفِعْلَ.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾، كقوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم﴾ في البقرة [٣٢]. والجمهورُ على رفع «عَلاَّمُ الغُيُوبِ»، وقرئ بنصبه، وفيه أوجهٌ ذكرها الزمخشريُّ وهي: الاختصاصُ، والنداءُ، وصفةٌ لاسم «إنَّ» ؛ قال: «وقُرئ بالنصْب على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله» إنَّكَ أنْتَ «، أي: إنَّكَ الموصوفُ بأوصَافِكَ المعرُوفة من العلمِ وغيره، ثم انتصَبَ» علاَّمَ الغُيُوبِ «على الاختصاصِ، أو على النداء، أو هو صفةٌ لاسْمِ» إنَّ «، قال أبو حيان:» وهو على حذفِ الخبر لفهم المعنى، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله «إنَّك أنْتَ»، أي: إنَّك الموصوفُ بأوصافِكَ المعروفةِ من العلمِ وغيره «، ثم قال:» قال الزمخشريُّ: ثم انتصبَ، فذكره إلى آخره «فزعمَ أنَّ الزمخشريَّ قدَّر ل» إنَّكَ «خبراً
592
محذوفاً، والزمخشريُّ لا يريد ذلك ألبتة ولا يَرْتضيه، وإنما يريدُ أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة، لا انفكاكَ لها عنه، وهذا المعنى هو الذي تقتضيه البلاغةُ، والذي غاصَ [عليه] الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ما قدَّره أبو حيان مُوهِماً أنه أتى به من عنده، ويعني بالاختصاص النَّصْبَ على المدْحِ، لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء؛ فإنَّ شرطه أن يكون حَشْواً، ولكنَّ أبا حيَّان قد ردَّ على أبي القاسمِ قوله» إنه يجوزُ أن يكون صفةً لاسم إنَّ «بأنَّ اسمها هنا ضميرُ مخاطبٍ، والضمير لا يوصفُ مطلقاً عند البصريِّين، ولا يوصَف منه عند الكسائيِّ إلا ضميرُ الغائبِ؛ لإبهامه في قولهم» مَرَرْتُ بِهِ المِسْكِينِ «، مع إمكان تأويله بالبدلِ، وهو ردٌّ واضحٌ، على أنه يمكن أن يقال: أراد بالصفةِ البدل، وهي عبارةُ سيبويه، [يُطْلِقُ الصفةَ ويريد البدل، فله أسْوَةٌ بإمامه، واللازمُ مشترك، فما كان جواباً عن سيبويه]، كان جواباً له، لكن يَبْقَى فيه البدلُ بالمشتقِّ، وهو أسهلُ من الأول، ولم أرَهُمْ خرَّجُوها على لغةِ مَنْ ينصِبُ الجزأيْنِ ب» إنَّ «وأخواتِها؛ كقوله في ذلك: [الرجز]
٢٠٧٩ - إنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزَا... وقوله: [الطويل]
٢٠٨٠ -........................................... إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا
وقوله: [الكامل]
٢٠٨١ - لَيْتَ الشَّبَابَ هُوَ الرَّجِيعَ عَلَى الْفَتَى.................................
وقول الآخر: [الرجز]
٢٠٨٢ - كَأنَّ أُذْنَيْه إذَا تَشَوَّفَا قَادمَةً أوْ قَلَماً مُحَرَّفَا
ولو قيل به لكان صواباً.
593
و «علاَّمُ» مثالُ مبالغة، فهو ناصب لما بعده تقديراً، وبهذا أيضاً يُرَدُّ على الزمخشريِّ على تقدير تسليم صحَّة وصف الضمير من حيث إنه نكرةٌ؛ لأن إضافته غيرُ محضَةٍ وموصوفهُ مَعْرفةٌ. والجمهورُ على ضمِّ العينِ من «الغُيُوب» وهو الأصلُ، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو: «البُيُوت والجُيُوب والعُيُون والشُّيُوخ» وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر ﴿البيوت﴾ [البقرة: ١٨٩]، وستأتي كلُّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سُورِهَا - إن شاء الله تعالى - وجُمِعَ الغيبُ هنا، وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعه، وإن اريدَ به الشيءُ الغائب، أو قلنا: إنه مخفَّفٌ من فَيْعِل؛ كما تقدم تحقيقه في البقرة [الآية ٣]، فواضح.

فصل في معنى الآية


مَعْنَى الآية الكَرِيمة: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾، وهو يَوْمُ القِيَامَةِ ﴿فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ﴾ أممكم، وما الذي رَدَّ عليكم قومكم حين دَعوْتُمُوهم إلى تَوْحِيدِي وطَاعَتِي؟ فَيَقُولُون: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَآ﴾ بوجْهٍ من الحِكْمَةِ عن سُؤالِكَ إيَّانَا عن أمْرٍ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنَّا.
قال ابنُ جُرَيْج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «لا عِلْمَ لنا بِعَاقِبَةِ أمْرِهِمْ، وبما أحدثوا من بعد يدلُّ عليه قولهم: ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ أيْ: أنْتَ الذي تَعْلَمُ ما غَابَ، ونحن لا نَعْلَمُ ما غابَ إلاَّ ما نُشَاهِدُ.
فإن قيل: ظَاهِرُ قولهم: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ يَدُلُّ على أنَّ الأنْبِيَاء لا يَشْهَدُون لأمَمِهِمْ، والجمعُ بَيْن هذا وبين قوله تعالى ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١] مشكل، وأيضاً قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣]، فإذا كانت أمَّتُنَا تَشْهَدُ لسَائِر الأمَمِ، فالأنْبِيَاءُ أوْلَى بأنْ يَشْهَدُوا لأمَمِهِم.
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال ابنُ عباسٍ، والحسن، ومُجَاهد، والسدِّيُّ: إنَّ القِيَامَة زَلاَزِل وأهوالٌ، بحيث تَزُولُ القُلُوبُ عن مواضِعِهَا عند مُشاهَدَتِهَا، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة والسلام - عند مُشَاهَدَةِ تلك الأهوال يَنْسُون أكْثَرَ الأمُور، فَهُنَالِكَ يَقُولُون: لا عِلْمَ لَنَا، فإن عادَتْ قلوبُهُمْ إلِيْهِم، فعند ذلك يَشْهَدُون للأمَمِ.
قال ابنُ الخَطِيبِ: وهذا الجوابُ وإن ذَهَبَ إليه جَمْعٌ عَظِيمٌ من الأكَابِرِ فهو
594
عندي ضعيف؛ لأنه تبارك وتعالى قال في صِفَةِ أهْلِ الثَّوَاب: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣]، وقال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨، ٣٩]، بل إنَّه تبارك وتعالى قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٦٢]، فكيف يَكُون حَالُ الأنْبِيَاء والرُّسُل أقَلّ من ذلك، ومَعْلُومٌ أنَّهُم لو خَافُوا لكَانُوا أقَلَّ من مَنْزِلَةِ هؤلاءِ الَّذِين أخْبَرَ اللَّهُ عنْهُم أنَّهُم لا يَخَافُون ألْبَتَّةَ.
وثانيها: أنَّ المُرَاد مِنْه المُبَالغة في تَحِقيقِ فَضِيحَتِهِمْ، كمنْ يقول لِغَيْرِه: ما تقولُ في فُلانٍ؟ فَيَقُولُ: أنْتَ أعْلَمُ به مِنِّي، كأنَّه قيل: لا يَحْتَاجُ فيه إلى الشَّهادَة لِظُهُوره، وهذا أيضاً ليس بِقَوِيٍّ؛ لأنَّ السُّؤال إنَّما وقَع على كُلِّ الأمَّةِ، وكُلُّ الأمَّة ما كانوا كَافِرِين حتَّى يريدَ الرَّسُول بالنفي تَبْكِيتَهُمْ وفَضِيحَتهُم.
وثالثها: وهو الأصَحُّ، وهو اخْتِيَارُ ابن عبَّاسٍ: أنَّهم إنَّما قَالُوا: لا عِلْمَ لَنَا؛ لأنَّك تَعْلَمُ ما أظْهَرُوا وما أضْمَرُوا، ونحنُ لا نَعْلَمُ إلاَّ ما أظْهَرُوا، فَعِلْمُك فيهم أقْوَى من عِلْمِنَا؛ فلهذا المَعْنَى نَفوا العِلْمَ عن أنْفُسِهِم؛ لأنَّ عِلْمهم عند الله تعالى كلا عِلْمٍ، وهذا يُرْوَى عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ورابعها: ما تقدَّم أنَّ قولَهُم: لا عِلْمَ لنا إلا أنَّا عَلِمْنَا جوابهم لَنَا وَقْتَ حَيَاتِنَا، ولا نَعْلَم ما كان منهم بَعْدَ وَفَاتِنَا.
وخامسها: قال ابن الخطيب: ثَبَتَ في عِلْمٍ الأصُول أنَّ العِلْمَ غير، والظَّنَّ غَيْر، فالحَاصِلُ أنَّ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ من حالِ الغَيْرِ إنَّما هو الظَّنُّ لا العِلْم، وكذلك قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ، فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَكأنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة والسلام - قالُوا: لا عِلْمَ لَنَا ألْبَتَّة بأحْوالِهِم، إنَّما الحاصِلُ عِنْدَنا من أحوالهم هو الظَّنُّ، والظَّنُّ كانَ مُعْتَبراً في الدُّنيا لا في الآخِرَةِ، لأنَّ الأحْكَام في الدُّنْيَا كانت مَبْنِيَّةً على الظَّنِّ، أمَّا فِي الآخِرَة فلا التِفاتَ فيها إلى الظَّنِّ؛ لأنَّ الأحْكَام في الآخِرَة مَبْنِيَّةٌ على حَقائِقِ الأشْيَاء وَبَواطِنِ الأمُورِ، فلهذا السَّبَب قالوا: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ [البقرة: ٣٢] ولم يَذْكُرُوا ألْبَتَّة ما عندهم من الظَّنِّ؛ لأنَّ الظَّنَّ لا عِبْرَة به في القِيَامَةِ.
وسادسها: أنهم لمَّا عَلِمُوا أنَّهُ تعالى عالمٌ لا يَجْهَل، حكيمٌ لا يَسْفَهُ، عَادِلٌ لا يَظْلِم، عَلِمُوا أنَّ قولهم لا يفيد خَيْراً ولا يدفعُ شراً، فرأوْا أنَّ الأدَبَ في السكوت، وفي تَفْويضِ الأمْرِ إلى العَدْل الحَي الذي لا يَمُوتُ.
وسابعها: معناه: لا عِلْمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنَا فحذف، وهذا مَرْويٌّ عن ابن عبَّاسٍ، ومُجَاهد.
595
دَلَّت الآيَةُ الكَرِيمَةُ على جوازِ إطلاقِ لفظ العلاَّم عليه، كما جاز إطلاقُ لفظ الخلاَّقِ عليْه، وأمَّا العلاَّمة بالتاء فإنهم أجْمَعُوا على أنَّهُ لا يجوز إطلاقُها في حَقِّهِ، ولعلَّ السَّبَب ما فيه من لفظ التَّأنِيثِ.
596
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الله﴾ فيها أوجه:
أحدها: أنه بدل من «يَوْمَ يَجْمَعُ» قال الزمخشريُّ: «والمعنى: أنه يوبِّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسُلِ عن إجابَتِهِمْ، وبتعديدِ ما أظْهَرَ على أيديهم من الآياتِ العظامِ، فكذَّبهم بعضُهم وسمَّوْهُم سحَرةً، وتجاوزَ بعضُهُمُ الحَدَّ، فجعله وأمَّهُ إلَهَيْنِ»، ولمَّا ذكَر أبو البقاء هذا الوجه، تأوَّلَ فيه «قَالَ» ب «يَقُولُ»، وأنَّ «إذْ»، وإنْ كانت للماضي، فإنما وقعتْ هنا [على] حكاية الحال.
يقولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِه: «كَأنَّكَ بِنَا وقد دخَلْنَا بلْدة كذا، وصَنَعْنَا فيه كذا»، قال - تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ﴾ [سبأ: ٥١]، وقال غيْرُهُ: معناه الدَّلالة على قُرْبِ القِيَامَةِ كأنَّها قَدْ قَامَتْ، وكُلُّ ما هو آتٍ آتٍ، كما يُقالُ: الجَيْشُ قد أتَى، إذا قَرُبَ إتْيَانهم قال - تبارك وتعالى -: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١].
الثاني: أنه منصوبٌ ب «اذْكُرْ» مقدَّراً، قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «ويجوزُ أن يكون التقديرُ: اذْكُرْ إذْ يَقُولُ»، يعني أنه لا بد من تأويلِ الماضي بالمستقبلِ، وهذا كما تقرَّر له في الوجْهِ قبله، وكذا ابنُ عطيَّة تأوَّله ب «يَقُولُ» ؛ فإنه قال: «تقديرُه: اذْكُرْ يا محمَّد إذْ»، و «قَالَ» هنا بمعنى «يَقُولُ» ؛ لأنَّ ظاهر هذا القولِ، إنما هو في يوم القيامة؛ لقوله بعده ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦].
الثالث: أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي: ذلك إذْ قَالَ، ذكره الواحديُّ، وهذا ضعيفٌ؛ لأن «إذْ» لا يُتَصِرَّفُ فيها، وكذلك القولُ بأنها مفعولٌ بها بإضمار «اذْكُرْ»، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، اللهم إلا أنْ يريد الواحديُّ بكون خبراً؛ أنه ظرفٌ قائمٌ مقام خبرٍ، نحو: «زَيْدٌ عِنْدَكَ» فيجوز.
596
قوله: ﴿يا عيسى ابن مَرْيَمَ﴾ تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها، و «ابْنَ مَرْيَمَ» صفة ل «عِيسَى» نُصِب؛ لأنه مضاف، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفةَ الظاهرَ الضَّمَّةِ، إذا وُصِفَ ب «ابْن» أو «ابْنَة»، ووقع الابنُ أو الابنةُ بين علمَيْنِ أو اسمَيْنِ متفقَيْنِ في اللفظِ، ولم يُفْصَل بين الابْنِ وبيْنَ موصوفه بشيء، تثبت له أحكامٌ منها: أنه يجوزُ إتْبَاعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نُونِ «ابْن» ؛ فيُفتح؛ نحو: «يَا زَيْدَ [يا زَيْدُ] ابْنَ عَمْرٍو، ويَا هِنْدَ [يا هِنْدُ] ابْنَةَ بَكْرٍ» بفتح الدال من «زَيْد» و «هِنْد» وضمِّها، فلو كانت الضمةُ مقدَّرةً نحو ما نحن فيه، فإنَّ الضمة مقدَّرة على ألفِ «عيسَى» فهل يُقَدَّر بناؤُه على الفتْحِ إتباعاً كما في الضمَّة الظاهرة؟ فيه خلاف: الجمهورُ على عدمِ جوازه؛ إذْ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإتباع، وهذا المعنى مفقودٌ في الضمَّة المقدرة، وأجاز الفراء ذلك؛ إجراءً للمقدَّر مُجْرَى الظاهرِ، وتبعه أبو البقاء؛ فإنه قال: «يَجُوزُ أن يكون على الألِفِ من» عيسَى «فتحةٌ؛ لأنه قد وُصِفَ ب» ابْن «وهو بين عَلَمَيْنِ، وأن يكونَ عليها ضمَّةٌ، وهو مثلُ قولك:» يَا زَيْدَ [يا زَيْدُ] بْنَ عَمْرٍو «بفتح الدال وضمِّها»، وهذا الدي قالاه غيرُ بعيدِ، ويَشْهَدُ له مسألةٌ عند الجميع: وهو ما إذا كان المنادَى مبنيًّا على الكسرِ مثلاً؛ نحو: «يَا هَؤلاءِ»، فإنهم أجازوا في صفته الوجهيْن: الرفع والنصب، فيقولون: «يا هَؤلاءِ العُقلاَءِ والعُقَلاءُ» بنصب العقلاء ورفعها، قالوا: والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدَّرة في الإتباع، وإنْ كان ذلك فائتاً في اللفظ، وقد يُفَرَّقُ بأنَّ «هؤلاءِ» نحن مضطُّرون فيه إلى تقدير تلْكَ الحركةِ؛ لأنه مفرد معرفةٌ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا.
وقال الواحديُّ في «يَا عيسَى» ويجوزُ أن [يكونَ] في محلِّ النصب؛ لأنه في نية الإضافة، ثم جعل الابن توكيداً له، وكل ما كان مثل هذا؛ جَازَ فيه الوجهانِ؛ نحو: «يَا زَيْدَ [يا زَيْدُ] بْنَ عَمْرٍو» ؛ وأنشد: [الرجز] سُرَادِقُ المَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ... بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا، وقال التبريزيُّ: الأظهرُ عندي أنَّ موضع «عِيسَى» نصب؛ لأنك تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلمِ كالشيء الواحد المضافِ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلام النحاة أصلاً، بل يقولون: الفتحةُ للإتباعِ، ولم يُعْتَدَّ بالساكنِ؛ لأنه حاجزٌ غيرُ حَصِينٍ، كذا قال أبو حيان: قال شهاب الدين: الذي قد قاله الزمخشريُّ - وكونه ليس من النحاة مُكَابَرَةٌ في الضَّرُوريَّاتِ - عند قوله: {إِذْ قَالَ
597
الحواريون: يا عيسى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: ١١٢] :«عِيسَى في محل النصب على إتباع حركته حركة الابْنِ؛ كقولك:» يَا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو «، وهي اللغة الفاشيةُ، ويجوزُ أن يكون مضموماً؛ كقولك» يَا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو «، والدليل عليه قوله: [المتقارب]
٢٠٨٤ - أحَارُ بنَ عَمْرٍو كأنِّي خَمِرْ...............................
لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضموم»
. انتهى، فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة، واستشهد لها بالبيتِ؛ لمخالفتِها اللغة الشهيرة.
وقولنا: «المُفْرَد» تحرُّزٌ من المُطَوَّل، وقولنا «المَعْرِفَة» تحرُّز من النكرة؛ نحو: [ «يا رَجُلاً ابْنَ رَجُلٍ» إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه، وقولنا: «الظاهر الضَّمَّةِ» تحرُّزٌ من نحو:] «يَا مُوسَى بْنَ فُلانٍ»، وكالآية الكريمة، وقولنا ب «ابْن» تحرُّزٌ من الوصف بغيره؛ نحو: «يا زَيْدُ صَاحِبَنَا»، وقولنا: «بين عَلَميْنِ أو اسمَيْن متفقين لفظاً» تحرُّزٌ من نحو: «يَا زَيْدُ [بْنَ أخِينَا» ]، وقولنا: «غيرَ مَفْصُولٍ» تحرُّزٌ من نحو: «يَا زَيْدُ العَاقِلُ ابْنَ عَمْرٍو» ؛ فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضَّمُّ، وقولنا [ «وَصْفٌ» ] تحرُّزٌ من أن يكون الابْنُ خبراً، لا صفة؛ نحو: «زَيْدٌ ابْنُ عَمْرٍو»، وهل يجوزُ إتباعُ «ابن» له فيُضمُّ نحو: «يا زيد بنُ عمرو» بضم «ابن» ؟ فيه خلافٌ.
وقولنا: «أحْكَام»، وقد تقدَّم منها ما ذكرنَاه من جوازِ فتحهِ إتباعاً، ومنها: حَذْفُ ألفه خَطًّا، ومنها: حَذْفُ تنوينه في غير النداء؛ لأنَّ المنادى لا تنوينَ فيه وفي قوله: «ابْنَ مريمَ» ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه صفةٌ؛ كما تقدَّم، والثاني: أنه بدلٌ، والثالث: أنه بيانٌ؛ وعلى الوجهين الأخيرَيْن: لا يجوزُ تقديرُ الفتحة إتباعاً؛ إجماعاً، لأنَّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً، وقد تقدَّم أنَّ ذلك شرطٌ.
وأرَادَ بالنِّعْمَة: الجَمْع كقوله: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ﴾ [النحل: ١٨]، وإنَّمَا جاز ذلك؛ لأنَّهُ مضافٌ يَصْلُح للجِنْسِ.

فصل


قال القُرْطُبِي: إنما ذَكَّرَ الله - تبارك وتعالى - عيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -
598
نَعْمَته عليه وعلى وَالِدَتِهِ، وإن كان لَهُمَا ذاكراً لأمرين:
أحدهما: ليتلو على الأمَمِ بما خَصَّصَهَا به من الكرامةِ، ومَيَّزها به من عُلُوِّ المَنْزِلَة.
والثاني: ليُؤكِّد به حُجَّتَه، ويردّ به جَاحِدَهُ، وفَسَّرَ نِعْمَتَهُ عليه بأمور:
أوَّلُها: قوله تعالى: ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس﴾ في «إذْ» أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه منصوبٌ ب «نِعْمَتِي» ؛ كأنه قيل: اذكُرْ إذْ أنعمْتُ عليْكَ وعلى أمِّكَ في وقت تأييدي لك.
والثاني: أنه بدلٌ من «نِعْمَتِي» بدلُ اشتمال، وكأنه في المعنى يفسِّر النعمة.
والثالث: أنه حالٌ من «نِعْمَتِي»، قاله أبو البقاء.
والرابع: أن يكون مفعولاً به على السَّعَة، قاله أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أيضاً قال شهاب الدين: هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ -، وقرأ الجمهور «أيَّدتُّكَ» بتشديد الياء، وغيرهم «آيدتُّكَ» وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في سورة البقرة مُشْبَعاً، ومعنى الآية الكريمة: أي: قَوْمَك بِمَا يَجُوزُ من الأَيْدِ، وهو القُوَّة.

فصل


المرادُ بِرُوحِ القُدُسِ: جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والقُدُس: هو اللَّهُ تعالى، كأنَّه أضافَهُ إلى نَفْسِهِ تَعْظِيماً، وقيل: إنَّ الأرْوَاحَ مُخْتَلِفَةٌ بالماهِيَّةِ: فمنها طَاهِرَةٌ نُورَانيَّةٌ، ومنها خَبِيثة ظُلْمانيَّة، ومنها: مُشْرِقَة ومنها كَدِرة، ومنها خَيِّرَةٌ ومنها نَذِلَةٌ؛ ولهذا قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«الأرْواح جُنُودُ مُجَنَّدةٌ»، فاللَّهُ تعالى خصَّ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالرُّوح الطَّاهِرة النُّورَانِيَّة المُشْرقَة العُلويَّة الخيِّرةِ، ولقائل أن يقول: لما دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ تأييد عيسى إنَّما حَصَلَ من جِبْرِيل، أو بسبَبِ رُوحِهِ المُخْتَصَّةِ، وهذا يَقْدَحُ في دلالةِ المُعْجِزَات على صِدْقِ الرُّسُلِ - عليهم الصلاة والسلام -، ولم تُعْرفُ عِصْمَة الرُّسُل - عليهم السلام - قَبْلَ العِلْمِ بعصْمَةِ جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فيلزم الدَّوْر.
فالجواب: قال ابن الخطيب: ثبت من أصْلِنَا أنَّ الخَالِقَ ليْسَ إلاَّ اللَّهُ، وبه يَنْدَفِعُ السُّؤال.
599
قوله: ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً﴾ معناه: يُكَلِّمُ النَّاس في المَهْدِ صَبِيًّا، وكَهْلاً نبياً.
قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أرسلهُ اللَّهُ وهو ابنُ ثلاثينَ فَمَكَث في رسالته ثلاثين شَهْراً، ثُمَّ إنَّ الله رَفَعَهُ إلَيْهِ.
قال المُفَسِّرُون: يُكَلِّم النَّاسَ في المَهْد وكَهْلاً، في مَوْضِع الحال، والمعنى: يُكلِّمُ النَّاسَ طِفْلاً وكَهْلاً من غير أن يتفاوت كلامُهُ في هذين الوقْتَيْن، وهذه خَاصَّةٌ شَرِيفَةٌ لم تَحْصُلْ لأحدٍ من الأنْبِيَاء، وقد تقدَّم الكلام في [الآية ٤٦] آل عمران، ما فائدة قوله: ﴿فِي المهد وَكَهْلاً﴾.
قوله: ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ قيل: الكِتَابُ، الشَّريعةُ، وقيل: الخَطُّ، وأمَّا الكَلِمَةُ فقيل: هي العِلْمُ والفَهْمُ، وذكر التَّوْراة والإنجيلَ بعد الكِتَاب على سَبيلِ التَّشْرِيف، كقوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: ٧]، وقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨]، فإنَّما ذكر التَّوراة والإنجيلَ بعد ذِكْرِ الكتابِ؛ لأنَّ الاطِّلاع على أسْرَار الكُتُبِ الإلهِيَّة لا يحصلُ إلاَّ لمن كانَ ثَابِتاً في أصْنَافِ العُلُوم الشَّرْعِيَّةِ والفِعْلِيَّة.
فقوله: «التَّوْراة والإنْجِيلَ» : إشارةٌ إلى الأسْرَار التي لا يطَّلِعُ عليْهَا أحدٌ إلاَّ الأكَابِرَ من الأنْبِيَاء.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾.
قرأ ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «فَتَنْفُخُهَا» بحذف حرف الجر اتساعاً وقرأ الجمهور: «فتكونُ» بالتاء منقوطةً فوقُ، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ، أي: فيكونُ المنفوخُ فيه، والضمير في «فِيهَا» قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «اضطربَتْ فيه أقوال المفسِّرين» ؛ قال مكيٌّ: «هو في آل عمران [الآية ٤٩] عائدٌ على الطَّيْر، ولا على الطين، ولا على الهيئة؛ لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطِّين على هيئته، لا يُنْفَخُ فيه ألبتة، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصَّة به، وكذلك الطينُ إنَّما هو الطينُ العامُّ، ولا نفخَ في ذلك»، وقال الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «ولا يرجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها؛ لأنها ليست من خَلْقِه، ولا مِنْ نفخه في شيء، وكذلك الضميرُ في فَتَكُون»، ثم قال ابنُ
600
عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والوجهُ عودُ ضميرِ المؤنَّث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً، أي: صُوَراً، أو أشكالاً، أو أجْساماً، وعودُ الضمير المذكَّر على المخلوقِ المدلولِ عليه ب» تَخْلُقُ «، ثم قال:» ولَكَ أن تعيدَهُ على ما تَدُلُّ عليه الكافُ من معنى المثل؛ لأنَّ المعنى: وإذ تَخْلُقُ من الطِّينِ مثل هيئته، ولك أن تعيده على الكاف نَفْسِهَا، فتكون اسماً في غيرِ الشِّعْر «.
انتهى، وهذا القولُ هو عينُ ما قبله، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مثل، وكونُها اسماً في غير الشعرِ، لم يَقُلْ به غيرُ الأخْفَشِ.
واستشكل الناسُ قولَ مكيٍّ المتقدِّمَ؛ كما قدَّمْتُ حكايته عن ابن عطية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. ويمكنُ أن يُجابَ عنه بأنَّ قوله «عائدٌ على الطَّائِرِ»
لا يريدُ به الطائِرَ الذي أُضيفَتْ إليه الهيئةُ، بل الطائرُ المُصَوَّرُ، والتقدير: وإذ تخلُقُ من الطِّينِ طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقيِّ، فتنفخُ فيه، فيكونُ طائراً حقيقيًّا، وأنَّ قوله «عائدٌ على الهيئة» لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف، بل الموصوفة بالكاف، والتقدير: وإذ تخلُقُ من الطِّينِ هيئةً مِثْلَ هيئةِ الطَّائر، فتنفخُ فيها، أي: في الموصُوفَة بالكاف الَّتِي نُسِبَ خَلْقُهَا إلى عيسى - عليه السلام - وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكَّر على هيئةٍ، وضميرٌ مؤنثٌ على الطائرِ [لأنَّ قوله: «ويجُوزُ عكْسُ هذا» يؤدي إلى ذلك؟ فجوابُه أنه جازَ بالتأويل؛ لأنه تُؤوَّلُ الهيئةُ بالشكْل، ويُؤوَّل الطائرُ] بالهيئةِ؛ فاستقام، وهو موضعُ تَأمُّلٍ، وقال هنا «بإذْنِي» أربعَ مراتٍ عَقِيبَ أربع جمل، وفي آل عمران «بإذْنِ الله» مرتَيْن؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ، فناسَبَ الإيجازَ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ، فناسبَ الإسهابَ؛ وقوله «بإذْنِي» حالٌ: إمَّا من الفاعلِ، أو من المفعول.
قوله: ﴿وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي﴾ قال الخَلِيلِيُّ: من وُلِدَ أعْمَى، ومَنْ وُلِدَ بصيراً ثُمَّ أعْمِي.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى﴾ : من قُبُورِهِم أحْيَاء «بإذْنِي»، أي: بفِعْلي ذلك عند دُعائِك، أي: عند قولِكَ للميِّت: اخْرُجْ بإذْنِ اللَّهِ، وذلك الإذْنُ في هذه الأفاعِيلِ، إنَّما هُو على مَعْنَى إضافَةِ حَقيقَةِ الفِعْلِ إلى الله - تبارك وتعالى - كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [آل عمران: ١٤٥] أي: إلاَّ بِخَلْقِ اللَّهِ الموْتَ فيها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات﴾ يعني: الوَاضِحَة والمُعْجِزَات الظَّاهِرَة، وقيل: المُرادُ بالبَيِّنات الظَّاهِرَةِ هذه البَيِّناتُ التي تقدَّم ذكرُها، فيكون الألفُ واللاَّمُ لِلْمَعْهُود.
رُوِي أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أظْهَرَ هذه المُعْجِزات العَجِيبَة، قَصَدَ اليهُود قَتْلَه، فخلَّصَهُ اللَّهُ تعالى مِنْهم، حَيْثُ رفَعَهُ إلى السَّمَاء.
601
قوله: ﴿فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.
قرأ الأخوانِ هنا وفي هودٍ [الآية ٧] وفي الصَّف [الآية ٦] «إلاَّ سَاحِرٌ» اسم فاعل، والباقون: «إلاَّ سِحْرٌ» مصدراً في الجميع، والرسمُ يحتمل القراءتَيْنِ، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فتحتملُ أن تكون الإشارةُ إلى ما جاءَ به من البيِّنات، أي: ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارِق إلا سِحْرٌ، ويُحْتمل أن تكون الإشارةُ إلى عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جَعَلُوه نفس السحْر مبالغةً؛ نحو: «رَجُلٌ عَدْلٌ»، أو على حذفِ مضافٍ، أي: إلاَّ ذُو سِحْرٍ، وخَصَّ مكي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - هذا الوجه بكون المرادِ بالمشار إليه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبيِّ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على تقدير حَذْفِ مضافٍ، أي: إنْ هذا إلاَّ ذُو سِحْرٍ». قال شهاب الدين: وهذا غَيْرُ جائزٍ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو لَمْ يكن في زَمَنِ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والحواريِّين؛ حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيدٍ؟ وأمَّا قراءةُ الأخوَيْن، فتحتمل أن يكون «سَاحِرٌ» اسم فاعلٍ، والمشارُ إليه «عيسى»، ويُحتمل أن يكونَ المرادُ به المصدرَ؛ كقولهم: عَائِذاً بِكَ وعَائِذاً بالله مِنْ شَرِّهَا، والمشارُ إليه ما جاء به عيسَى من البيِّنات والإنجيلِ، ذكر ذلك مَكي، وتبعَهُ أبو البقاء، إلا أنَّ الواحديَّ مَنَعَ مِنْ ذلك؛ فقال - بعد أنْ حَكَى القراءتَيْنِ -: وكلاهُمَا حَسَنٌ؛ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَهُ قد تقدَّم، غير أنَّ الاختيار «سِحْر» ؛ لجوازِ وقوعه على الحَدَثِ والشَّخْص، أمَّا وقُوعه على الحدث، فسهلٌ كثير، ووقُوعه على الشخْصِ يريدُ ذُو سحْرٍ؛ كقوله تعالى: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ [البقرة: ١٧٧]، وقالوا: «إنما أنت سيرٌ» و «ما أنت إلا سيرٌ»، و [البسيط]
٢٠٨٥ -.................................... فَإنَّما هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ
قلتُ: وهذا يرجِّحُ ما قدَّمْتُه من أنه أطْلَقَ المصْدر على الشخص؛ مبالغةً؛ نحو: «رَجُلٌ عَدْلٌ»، ثم قال: «ولا يجوزُ أنْ يُرادَ بساحرٍ السِّحْرُ، وقد جاء فاعل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير، نحو:» عَائِذاً بالله من شَرِّهِ «، أي: عِيَاذاً، ونحو» العافية «ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيثُ يسوغُ القياس عليها».
وإن قيل: إنَّهُ - تعالى - عدَّدَ هُنَا نِعمَ اللَّه تعالى على عيسى - عليه السلام -، وقولُ الكُفَّار في حقه ﴿إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، ليس من النِّعَمِ، فكيف ذكره هنا؟.
فالجوابُ إنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ، فَطَعْن الكُفَّار في عيسى - عليه السلام -
602
بهذ الكلام، يَدُلُّ على أنّ نِعْمَةِ الله كانت في حقِّه عَظِيمَة، فَحَسُنَ ذِكْرُه عند تعديد النِّعم من هذا الوجه.
603
من قال: إنهم كانُوا أنْبِيَاء، قال: المُرَادُ هذا الوَحْيُ الذي يُوحَى إلى الأنبياء، ومن قال: إنَّهُمْ ما كانوا أنْبِيَاء، قال: المُرَادُ بذلك: الوَحْيُ والإلْهَام، كقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾ [القصص: ٧] وقوله: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل﴾ [النحل: ٦٨]، وإنما ذُكِرَ هذا في مَعْرضِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ؛ لأنَّ صَيْرُورة الإنْسَان مقبُولَ القَوْل عِنْدَ النَّاسِ، محبوباً في قُلوبِهِم من أعْظَمِ نِعَمِ اللَّه - تبارك وتعالى - على الإنسان، وذكر - تبارك وتعالى - إنَّما ألْقَى ذلك الوحي في قلوبهم فآمَنُوا وأسْلَمُوا، وإنَّما قدَّم ذِكْرَ الإيمان على الإسْلام؛ لأنَّ الإيمان صِفَةُ القَلْبِ والإسلام عبارةٌ عن الانْقِيادِ والخُضُوع في الظَّاهِرِ، يعني: آمَنُوا بِقُلُوبِهِم وانْقَادُوا بِظَواهِرِهِم.
فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر في الآية: ﴿اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ﴾ [المائدة: ١١٠] أنَّ جميعَ ما ذكر اللَّهُ - تعالى - من النِّعَمِ مُخْتَصٌّ بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وليس لأمِّهِ بشيء منها تَعَلُّقٌ.
فالجوابُ: كُلّ ما حَصَلَ لِلْوَلَدِ من النِّعَمِ الجَلِيلَةِ، والدَّرَجَات العالِيةَ، فهو حَاصِلٌ للأمِّ على سبيلِ التضمّنِ والتَّبع، قال - تبارك وتعالى -: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠]، فجعلهما معاً آيَةً واحِدَةً؛ لشِدَّةِ اتِّصَال كُلِّ واحدٍ مِنْهُما بالآخر.
رُوِي أنَّهُ - تعالى - لمَّا قال لعيسى: ﴿اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ﴾ [المائدة: ١١٠] من لِبْسِ الشَّعْرِ وأكْلِ الشَّجَرِ، لم يَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَد، ويقول مع كل يومٍ رِزْقُهُ، ولم يَكُنْ له بَيْتٌ فَيُخَرَّب، ولا وَلدٌ فَيَمُوت، أيْنَمَا أمْسَى باتَ.
قوله تعالى: ﴿أَنْ آمِنُواْ بِي﴾ : في «أنْ» وجهان:
أظهرهما: أنها تفسيرية؛ لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القولِ، لا حروفه.
والثاني: أنها مصدريَّةٌ بتأويلٍ متكلَّف، أي: أوْجبْتُ إليهم الأمر بالإيمان، وهنا قالوا «آمَنَّا» ولم يُذْكَر المُؤمنُ به، وهناك ﴿آمَنَّا بالله﴾ [آل عمران: ٥٢] فذكره، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذكرُ الله تعالى فقط، فأُعيدَ المؤمَنُ به، فقيل: «بالله» وهنا ذُكِرَ شيئان قبل ذلك، وهما: ﴿أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾، فلم يُذْكَر؛ ليشمل المذكورين، وفيه نظرٌ، وهنا قال «بأنَّنَا» وهناك قال «بِأنَّا» بحذف «نَا»، وقد تقدَّم غيره مرة: أنَّ هذا هو الأصل، وإنما جِيءَ هنا بالأصل؛ لأنَّ المُؤمنَ به متعدِّدٌ، فناسَبَه التأكيد. _ _
في «إذ» وجهان:
أحدهما: أوحيتُ إلى الحواريِّين، إذ قال الحَوَارِيُّونَ.
الثاني: اذكر إذْ قال الحوارِيُّون.
قرأ الجمهورُ «يَسْتَطِيعُ» بياء الغيبة «رَبُّكَ» مرفوعاً بالفاعلية، والكسائيُّ: «تَسْتَطِيعُ» بتاء الخطاب لعيسى، و «رَبَّكَ» بالنصب على التعظيم، وقاعدتُه أنه يُدْغِمُ لام «هلْ» [في أحرف منها هذا المكان، وبقراءة الكسائيِّ قرأتْ عائشةُ، وكانت تقول: «الحواريُّونَ أعْرَفُ بالله] مِنْ أن يقولوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» وإنما قالوا: هَلْ تستطيعُ أن تَسْأل رَبَّكَ؛ كأنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - نَزهَتْهُمْ عن هذه المقالةِ الشنيعة أنْ تُنْسَبَ إليهم، وبها قرأ معاذٌ أيضاً وعليٌّ وابن عبَّاس وسعيدُ بنُ جُبَيْر قال معاذ رضي الله تعالى عنه: أقرأنِي رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «هل تَسْتَطِيعُ رَبكَ» بالتَّاء.
وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة: هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أم لا؟ فجمهور المُعْربين يقدِّرونَ: هل تستطيع سُؤال رَبِّكَ، وقال الفارسيُّ: «وقد يُمْكِنُ أنْ يُسْتغنَى عن تقدير» سُؤالَ «على أن يكون المعنى: هَلْ تستطيعُ أنْ يُنَزِّلَ رَبُّكَ بدُعَائِكَ، فيردُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدلُّ عليه ما ذُكِر من اللفظ»، قال أبو حيان: «وما قاله غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّ فعله تعالى، وإنْ كان مسبَّباً عن الدعاءِ، فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى». واختار أبو عُبَيْد هذه القراءةَ، قال: «لأنَّ القراءة الأخرى تُشْبِهُ أن يكونَ الحواريُّون شَاكِّينَ، وهذه لا تُوهِمُ ذلك»، قال شهاب الدين: وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمِنينَ، وهذا هو الحَقُّ.
قال ابن الأنباري: «لا يجوزُ لأحد أن يتوَهَّم على الحواريِّين؛ أنهم شَكُّوا في قُدْرة الله تعالى»، وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشريِّ أنهم ليسوا مؤمنينَ ليس بجيِّدٍ، وكأنه خارقٌ للإجْماعِ، قال ابن عطية: «ولا خلاف أحفظُه أنَّهم كانوا مُؤمِنِينَ»، فأمَّا القراءةُ الأولى، فلا تَدُلُّ له؛ لأن الناس أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ، منها: أنَّ معناه: هل يَسْهُلُ عليكَ أن تَسْألَ رَبَّكَ؛ كقولك لآخر: هَلْ تستطيعُ أن تَقُومَ؟ وأنت تعلمُ استطاعته لذلك، ومنها: أنهم سألُوهُ سؤال مستَخْبِرٍ: هل يُنَزِّلُ أم لا، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا، ومنها: أنَّ المعنى هل يفعلُ ذلك، وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زَيْدٍ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيني كيف كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَتَوضَّأُ؟ أي: هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل المعنى: هل يَطْلُب ربُّكَ الطاعةَ من نُزُولِ المائدةِ؟ قال أبو شَامَة: «مثلُ ذلك في الإشْكال ما رواه الهَيْثَمُ -
604
وإن كان ضعيفاً - عن ثابتٍ عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -
«أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عادَ أبا طالبٍ في مرض، فقال: يَا ابْنَ أخِي، ادعُ رَبَّكَ الذي تَعْبُدُهُ فَيُعَافيني، فقال: اللهُمَّ اشْفِ عَمِّي، فقام أبو طالبٍ، كأنما نَشِطَ من عقالٍ، فقال: يا ابْنَ أخِي، إنَّ ربَّكَ الذي تَعْبُدُ ليُطِيعُكَ، قال: وأنْتَ يا عَمَّاه، لو أطَعْتَهُ، أو: لَئِنْ أطَعْتَ اللَّهَ، لَيُطِيعَنَّكَ»، أي: لَيجيبَنَّكَ إلى مقْصُودك، قال شهاب الدين: والذي حَسَّنَ ذلك المقابلةُ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للفْظِ عَمِّهِ، كقوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤] وقيل: التقدير: هَلْ يُطِيعُ؟ فالسينُ زائدة؛ كقولهم: اسْتَجَابَ وأجَابَ، قال: [الطويل]
٢٠٨٣ - يَا حَكَمَ ُ بنَ المُنْذِرِ بْنِ الجَارُودْ أنْتَ الجَوادُ ابْنُ الجَوَادِ ابْنُ الْجُودْ
٢٠٨٦ - وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ من قال: «إنَّ» يَسْتَطِيع «زائدةٌ»، والمعنى: هل يُنَزِّلُ رَبُّكَ؛ لأنَّه لا يُزادُ من الأفعال إلاَّ [ «كَانَ» بشرطَيْنِ، وشَذَّ زيادةُ غيرها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب، على أنَّ الكوفيِّين يُجيزُون زيادةَ بعض الأفعال] مطلقاً، حَكَوْا: «قَعَدَ فلانٌ يَتَهَكَّمُ بِي» ؛ وأنشدوا: [الوافر]
٢٠٨٧ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغ فِي رَمَادِ
وحكى البصريُّون على وجْه الشُّذُوذِ: «مَا أصْبَحَ أبْرَدَهَا، ومَا أمْسَى أدْفَأهَا» يعنون الدُّنْيَا.
قال ابنُ الخطيبِ: وأمَّا القراءَةُ الثَّانِيَةُ ففيها إشْكَالٌ، وهو أنَّهُ تعالى حَكَى عنهُم أنَّهم قالُوا: «آمنَّا واشهدْ بأنَّا مُسْلمُون»، وبعد الإيمانِ كَيْفَ يَجُوزُ أن يقال: إنهم بقوا شاكِّين في اقتدار اللَّهِ على ذلك؟.
والجوابُ عنه من وُجُوهٍ:
الأول: أنَّهُ - تبارك وتعالى - ما وَصَفَهُم بالإيمان والإسلام بل حَكَى عنهم ادِّعَاءَهم لَهُمَا، ثمَّ تَبعَ ذلك بقوله - حِكَايةً عَنْهُم - ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء﴾ ؟ فدلَّ ذلك على أنَّهُم كَانُوا شاكِّين مُتَوقِّفِين، فإنَّ هذا اللَّفْظَ لا يَصْدُر مِمَّنْ كان كَامِلاً في الإيمان.
وقالوا: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ [المائدة: ١١٣]، وهذا يَدُلُّ على مَرَضٍ في القَلْب، وكذا قَوْلُ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهم: ﴿اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، يَدُلُّ على أنَّهُم ما كانوا كامِلِين في الإيمان.
605
الثاني: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين إلاَّ أنَّهُم طَلَبُوا هذه الآية لِيحْصُلَ لهم مَزِيد الطمأنينة، فلهذا السَّبِب قالوا: «وتَطْمئنَّ قُلُوبنا».
الثالث: أنَّ مُرادَهُمُ استفهام أن ذلك هل هو كافٍ في الحِكْمةِ أم لا؟ وذلك لأنَّ أفْعَال اللَّهِ تعالى لمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً على رِعايَةِ وجُوهِ الحكمة، فَفِي الموْضِع الَّذِي لا يَحْصُل فيه شَيْءٌ من وُجُوهِ الحِكْمَةِ يكونُ الفِعْلُ مُمْتَنِعاً، فإنَّ المُنَافيَ من جِهَةِ الحكمة كالمنافي جِهَة القُدْرَةِ، وهذا الجوابُ يَتَمَشَّى على قَوْلِ المُعْتَزِلَة.
وأمَّا على قَوْلِنا فهو مَحْمُولٌ على أنَّه تَبارك وتعالى هل قَضَى بذلك؟ وهل عَلِمَ وُقُوعه؟ فإن لَمْ يَقْضِ به، ولَمْ يعلم وُقُوعه كان ذلك محالاً غيْرَ مَقْدُورٍ؛ لأن خلافَ المَعْلُوم غَيْرُ مَقْدُورٍ.
الرابع: قال السديُّ: إن السِّين زَائِدةٌ، على أنَّ اسْتَطَاع بمعنى أطاعَ كما تقدَّم.
الخامس: لعل المُرادَ بالرَّبِّ جِبْرِيل؛ لأنَّهُ كان يُرَبِّيهِ ويَخُصُّهُ بأنْوَاع الإعَانَةِ، لقوله - تبارك وتعالى - في أوَّلِ الآية ﴿أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس﴾ [المائدة: ١١٠]، والمعنى: أنَّك تَدَّعِي أنه يُرَبِّيك، ويَخُصُّكَ بأنْوَاع الكَرَامَةِ، فهل يقدر على إنْزَالِ مَائِدَةٍ من السَّمَاءِ عَلَيْك؟.
السادس: ليْسَ المَقْصُود من هذا السُّؤال كونَهُم شاكِّين فيه، بل المَقْصُود تَقْرِير أن ذلك في غاية الظُّهُور، كمن يَأخُذُ بِيَدِ ضعيفٍ، ويقول: هل يَقْدِر السُّلْطَان على إشْبَاع هذا، وبكون غَرَضُه أنَّ ذلكَ أمْرق واضِحٌ لا يجُوزُ للعَاقِل أن يَشُكَّ فيه.
قوله «أن يُنَزِّلَ» في قراءةِ الجماعة في محلِّ نصب مفعولاً به، أي: الإنْزالَ، وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والتقدير: على أن يُنَزِّلَ، أو في أن يُنَزِّلَ، ويجوزُ ألاَّ يحتاج إلى حرف جرٍّ على أن يكون «يَسْتَطِيع» بمعنى «يُطِيقُ» [قلت: إنما احتاج إلى تقدير حَرْفي الجَرِّ في الأول؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة، وأمَّا قوله أخيراً: إنَّ «يَسْتَطيعُ» بمعنى «يُطِيقُ» ] فإنما يَظْهرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشريِّ من كونهم ليسوا بمؤمنين، وأمَّا على قراءةِ الكسائيِّ، فقالوا: هي في محلِّ نصْبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر، أي: هلْ تستطيعُ أنت أن تسألَ ربَّكَ الإنْزالَ، فيكون المصدرُ المقدَّرُ مضافاً لمفعوله الأوَّل، وهو «رَبُّكَ»، فلمَّا حُذِفَ المصدرُ، انتصب، وفيه نظرٌ؛ من أنهم أعمَلُوا المصدر مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين، يُؤوِّلُونَ ما وردَ ظاهرُه ذلك، ويجوز أن يكون «أنْ يُنَزِّلَ» بدلاً من «رَبُّكَ» بدل اشتمالٍ، والتقديرُ: هل تستطيعُ، أي: هل تُطِيقُ إنزال الله تعالى مائدةً بسببِ دعائِكَ؟ وهو وجهٌ حسن.
و «مَائِدَةً» مفعول «يُنَزِّلُ»، والمائدة: الخِوانُ عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ
606
فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال: «والمائدةُ: الطبقُ الذي عليه طعامٌ، ويقال لكلِّ واحدٍ منها مائدةٌ»، وهو مخالفٌ لما عليه المعظمُ، وهذه المسألة لها نظائرُ في اللغة، لا يقال للخوانِ مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ، وإلا فهو خوانٌ، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ، وإلا فهي قدحٌ، ولا يقال ذنُوبٌ وسَجْلٌ إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جرابٌ إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهابٌ، ولا قَلَمٌ إلاَّ وهو مَبْريٌّ وإلا فهو أنْبُوبٌ، واختلف اللغويون في اشتقاقها، فقال الزجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «هي من مَادَ يَمِيدُ إذا تحرَّك، ومنه قوله: ﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ [الأنبياء: ٣١] ومنه: مَيْدُ البَحْرِ»، وهو ما يُصِيبُ راكبَه، فكأنها تميدُ بما عليها من الطعام.
وقال أهلُ الكوفة: لأنها تميدُ بالآكِلِينَ، قال الزجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «وهي فاعِلةٌ على الأصلِ»، وقال أبو عُبَيْدٍ: «هي فَاعِلَةٌ بمعنى مفعُولَة مشتقَّةٌ من مادهُ بمعنى أعْطَاهُ، وامتادَهُ بمعنى اسْتَعْطَاهُ، فهي بمعنى مَفْعُولَة»، قال: «كَعِيشَةٍ راضيةٍ» وأصلُها أنها ميدَ بها صاحبُها، أي: أعْطِيَهَا، والعربُ تقول: مَادَنِي فلانٌ يَمِيدُنِي، إذا أدَّى إليَّ وأعْطَانِي «وقال أبو بَكْرِ بنُ الأنباريِّ:» سُمِّيتْ مائدةً؛ لأنها غياثٌ وعطاءٌ، من قول العرب: مَادَ فلانٌ فُلاناً إذا أحْسَنَ إلَيْه «وأنشد: [السريع]
٢٠٨٨ - إلى أميرِ المُؤمِنِينَ المُمْتَادْ... أي: المُحْسنِ لرعيَّته، وهي فاعلةٌ من المَيْدِ بمعنى مُعْطِيَةٍ، فهو قريبٌ من قولِ أبِي عُبَيْدٍ في الاشتقاقِ، إلا أنَّها عنده بمعنى فاعلةٍ على بابها، وابنُ قتيبة وافق أبا عُبَيْدٍ في كونها بمعنى مَفْعُولَة، قال:»
لأنَّها يُمَادُ بها الآكلُونَ أي يُعْطَوْنَهَا «، وقيل: هي من المَيْدِ، وهو الميلُ، وهذا هو معنى قول الزجَّاج. قوله تعالى:» مِنَ السَّماءِ «يجوز أنْ يتعلَّق بالفعلِ قبله، وأنْ يتعلَّق بمحذوف؛ على أنه صفةٌ ل» مَائِدَة «، أي: مائدةً كَائِنَةً من السَّماءِ، أي: نازلةً منها.
قوله تعالى: ﴿اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ : فلا تَشكُّوا في قُدْرَة الله - تعالى -.
وقيل: اتَّقُوا الله أن تَسْألُوه شَيْئاً لَمْ تسْأله الأمَمُ السَّابِقَة من قَبْلِكُم، فَنَهَاهم عن اقْتِراحِ الآيَات بَعْدَ الإيمان.
وقيل: أمَرَهُمْ بالتَّقْوى سَبَباً لِحُصُول هذا المَطْلُوب، كقوله - تبارك وتعالى -: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهُ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: ٣٥].
607
أي: أكْلُ تبرُّكٍ، لا أكْلُ حَاجَةٍ، وقال المارودِي: لأنَّهم لما احْتَاجُوا لم يُنْهَوا عن السُّؤال، وقيل: أرَادُوا الأكْلَ للحَاجَةِ.
وقوله: «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا» أي: إنَّا وإنْ عَلِمْنَا قُدْرةَ الله تعالى بالدَّليل، ولكنَّا إن شاهدنا نُزُولَ هذه المَائِدة ازداد اليقين، وقويت الطُّمَأنِينَةُ.
وقيل: المَعْنَى إنَّا وإن عَلِمْنَا صِدْقَكَ بِسَائِر المُعْجِزَات، ولكن إذا شَاهَدْنَا هذه المُعْجِزَة ازدَادَ اليَقِينُ والعِرْفَان، وهذا مَعْنَى قوله: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ : أنَّك رَسُولُ اللَّهِ.
قيل: إنَّ عيسَى ابن مَرْيم أمَرَهُمْ أن يَصُومُوا ثلاثين يَوْماً، فإذا أفْطَرُوا لا يَسْألُون الله شيئاً إلاَّ أعْطَاهُمْ، ففعلوا وسألُوه المَائِدَةَ، وقالوا: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ في قولك: «إنَّا إذا صُمْنَا ثلاثين يَوْماً لا نَسْألُ الله شَيْئاً إلاَّ أعْطَانَا».
وقيل: إنَّ جميعَ المُعْجِزَات التي أوْرَدْتَهَا كانت مُعْجَزَات أرْضِيَّة، وهذه سَمَاوِيَّة، وهي أعْجَبُ وأعْظَمُ، ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين﴾ نَشْهَدُ عليها عِنْد الذين لم يَحْضُرُوها من بَنِي إسرائيل، ويَكُونُوا شَاهِدِين لله تعالى بِكَمَال القُدْرَة.
وقرأ الجمهور: «وَنَعْلَمَ» : و «نَكُون» بنون المتكلم مبنيًّا للفاعل، وقرأ ابن جُبَيْر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فيما نقله عنه ابن عطيَّة - «وتُعْلَم» بضمِ التاء على أنه مبنيٌّ للمفعول، والضميرُ عائدٌ على القلوب، أي: وتُعْلَمَ قُلُوبُنَا، ونُقِلَ عنه «وَنُعْلَمَ» بالنون مبنيًّا للمفعول، وقرئ: «وَيُعْلَمَ» بالياء مبنيًّا للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل: ﴿أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ أي: ويُعْلَمَ صِدْقُكَ لنا، ولا يجوزُ أن يكُون الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضميرِ القلوبِ؛ لأنه جارٍ مَجْرَى المؤنَّثِ المجازيِّ، ولا يجوزُ تذكيرُ فِعْلِ ضميره، وقرأ الأعمشُ: [ «وتَعْلَمَ» ] بتاءٍ والفعلُ مبنيٌّ للفاعل، وهو ضمير القُلُوبِ، ولا يجوزُ أن تكون التاءُ للخطاب؛ لفسادِ المعنى، وروي: «وتِعْلَمَ» بكسر حرف المضارعة، والمعنى على ما تقدَّم، وقُرِئ: «وتكونَ» بالتاء والضمير للقلوب.
و «أنْ» في ﴿أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ مخفَّفةٌ، واسمُها محذوفٌ، و «قَدْ» فاصلةٌ؛ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرِّفةٌ غيرُ دُعَاءٍ، وقد عُرِفَ ذلك مما تقدَّم في قوله: {أَلاَّ تَكُونَ
608
فِتْنَةٌ} [المائدة: ٧١]، و «أنْ» وما بعدها سادَّةٌ مسدَّ المفعولَيْن، أو مَسَدَّ الأول فقط، والثاني محذوفٌ، و «عَلَيْهَا» متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «الشَّاهدين»، ولا يتعلَّقُ بما بعده؛ لأن «ألْ» لا يَعْمَلُ ما بعدها فيما قبلها عند الجمهور، ومنْ يُجِيزُ ذلك يقول: «هو متعلِّقٌ بالشاهدينَ، قُدِّم للفواصِل». وأجاز الزمخشريُّ أن تكون «عَلَيْهَا» حالاً؛ فإنه قال: «أو نَكُونَ من الشاهدينَ لله بالوحدانيَّة، ولك بالنبوَّةِ عاكِفِينَ عليها، على أن» عَلَيْهَا «في موضع الحال» فقوله «عَاكِفينَ» تفسيرُ معنًى؛ لأنه لا يُضْمَرُ في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة. وقرأ اليمانيُّ: «وإنَّهُ» ب «إنَّ» المشدَّدة، والضميرُ: إما للعيد، وإما للإنزال.
وبهذا لا يَرِدُ عليه ما قاله أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - فإنه غابَ عليه ذلك، وجعله متناقِضاً؛ من حيث إنه لَمَّا عَلَّقَهُ ب «عَاكِفِينَ» كان غيْرَ حال؛ لأنه إذا كان حالاً، تعلَّقَ بكون مُطْلَقٍ ولا أدْرِي ما معنى التناقُض.
609
«اللَّهُمَّ رَبَّنَا» تقدَّم الكلامُ عليه، قوله: «ربَّنا» نِدَاءٌ ثاني.
قوله تعالى: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيداً﴾ :[في «تَكُونُ» ضمير يعود على «مَائِدَة» هو اسمُها، وفي الخبر احتمالان:
أظهرهما: أنه عيد]، و «لَنَا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من «عِيداً» ؛ لأنها صفة له في الأصل.
والثاني: أنها حال من ضمير «تَكُونُ» عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالها في الحال.
والوجه الثاني: أنَّ «لَنَا» هو الخبر، و «عِيداً» حال: إمَّا من ضمير «تَكُونُ» عند مَنْ يَرَى ذلك، وإمَّا من الضمير في «لَنَا»، لأنه وقع خبراً فتحمَّل ضميراً، والجملةُ في محلِّ نَصْبٍ صفةً لمائدة.
وقرأ عبدُ الله: «تَكُنْ» بالجزمِ على جوابِ الأمرِ في قوله: «أنْزَلَ»، قال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهما نظيرُ» يَرِثُنِيَ [وَيَرِثُ «] يريد قوله تعالى: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي﴾ [مريم: ٥، ٦] بالرفع صفةً، وبالجزم جواباً، ولكن القراءتان هناك متواترتان، والجزمُ هنا في الشاذ.
والعيدُ هنا مشتقٌّ من العود؛ لأنه يعود كلَّ سنة، قاله ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ، وقال ابن الأنباريِّ:»
النحويُّون يقولون: يوم العيدِ؛ لأنَّه يعود بالفَرَحِ والسُّرورِ فهو يَوْمُ سُرُورِ الخَلْقِ كلهم، ألا ترى أنَّ المَسْجُونين في ذلك اليَوْم لا يُطَالَبُونَ ولا يُعَاقَبُون، ولا يُصادُ
609
الوَحْشُ ولا الطُّيُورُ، ولا تَغْدُو الصِّبْيَان إلى المَكَاتِب «. وقيل: هو عِيدٌ؛ لأنَّ كُلَّ إنْسَان يَعُودُ إلى قَدْرِ مَنْزِلَتهِ؛ ألا ترى إلى اختلافِ ملابِسهم وهَيْئَاتِهِم ومآكِلِهم، فمنهم من يُضيف ومنهم من يُضاف، ومنهم من يَرْحَم ومنهم من يُرْحَم.
وقيل: سُمِّي بذلك؛ لأنَّهُ يَوْمٌ شريف، تَشْبيهاً بالعيدِ وهو فحلٌ كريم مشهور عند العربِ ويَنْسِبُون إليه، فيقالُ: إبل عيدية.
قال الشاعر: [البسيط]
٢٠٨٩ -.............................. عِيدٌ بِهَا أزْهَرَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ
وقال الخليلُ: العيدُ كل يومٍ يَجْمَعُ، كأنَّهُم عَادُوا إلَيْه عند العرب؛ لأنه يعود بالفَرَح والحُزْن، وكلُّ ما عاد إليك في وقت، فهو عيد؛ حتَّى قالوا لِلطَّيْفِ عِيدٌ؛ قال الأعشى: [الطويل]
٢٠٩٠ - فَوَاكَبِدِي مِنْ لاعِجِ الحبِّ والهَوَى إذَا اعْتَادَ قَلْبِي مِنْ أمَيْمَةَ عِيدُهَا
أيْ: طَيْفُهَا، وقال تأبَّطَ شَرًّا: [البسيط]
٢٠٩١ - يَا عِيدُ مَا لَكَ مِنْ شَوْقٍ وإيرَاقِ... وقال أيضاً: [الخفيف]
٢٠٩٢ - عَاد قَلْبِي مِنَ الطَّوِيلَةِ عِيدُ............................
وقال الراغبُ: والعيدُ حالةٌ تُعاوِدُ الإنسانَ، والعائدَة: كلُّ نفْعٍ يرجع إلى الإنسانِ بشَيْء، ومنه»
العَوْدُ «للبعيرِ المُسِنِّ: إمَّا لمعاوَدَتِهِ السَّيْرَ والعمل فهو بمعنى فاعلٍ، وإمَّا
610
لمعاوَدَةِ [السنين] إياه [ومَرِّهَا] عليه، فهو بمعنى مفعول، قال امْرُؤُ القَيْسِ: [الطويل]
٢٠٩٣ - عَلَى لاحِبٍْ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ إذا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
وصَغَّروه على «عُيَيْدٍ» وكسَّروه على «أعْيَاد»، وكان القياسُ عُوَيْد وأعْوَاد؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبِ الواوِ ياء؛ لأنها إنما قُلبتْ لسكونها بعد كَسْرةٍ، ك «مِيزَانٍ»، وإنما فعلوا ذلك؛ قالوا: فرقاً بينه وبَيْن عُودِ الخَشَبِ.
قوله: «لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه وقع صفةً ل «عِيداً».
الثاني: أنه بدلٌ من «نَا» في «لَنَا»، قال الزمخشريُّ: «لأوَّلِنَا وآخِرِنَا» بدلٌ من «لَنَا» بتكرير العالمِ «، ثم قال:» وقرأ زيدُ بنُ ثابتٍ، وابن مُحَيْصِنٍ والجَحْدَرِيُّ: «لأولاَنَا وَأخْرَانَا» بدل «لَنَا»، والتأنيثُ على معنى الأمَّة «، وخَصّص أبو البقاء كلَّ وجْه بشيء؛ وذلك أنه قال:» فأمَّا «لأوَّلنَا وآخِرِنَا»، فإذا جعلت «لَنَا» خبراً أو حالاً من فاعل «تَكُونُ» فهو صفةٌ ل «عِيداً»، وإن جعلت «لَنَا» صفة ل «عِيد»، كان «لأوَّلِنَا» بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجَارِّ «. قال شهاب الدين: إنما فعل ذلك؛ لأنه إذا جعل» لَنَا «خبراً، كان» عِيداً «حالاً، وإن جعله حالاً، كان» عِيداً «خبراً؛ وعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ» لأوَّلِنَا «بدلاً من» لَنَا «؛ لئلا يلزم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه: إمَّا بالحال، وإما بالخبر، وهو» عِيد «، بخلافِ ما إذا جُعِل» لَنَا «صفةً ل» عِيد «، [ولكن يُقالُ: قوله: فإن جعلت» لَنَا «صفةً ل» عيداً «] كان» لأوَّلِنَا «بدلاً مُشْكِلٌ أيضاً؛ لأنَّ الفصل فيه موجود، لا سيما أنَّ قوله لا يُحْمل على ظاهره؛ لأنَّ» لَنَا «ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة، ولكنه نَظَرَ إلى الأصل، وأنَّ التقدير: عيداً لَنَا لأوَّلِنَا؛ فكأنه لا فَصْلَ، والظاهرُ جوازُ البدل، والفصلُ بالخبر والحال لا يَضُرُّ؛ لأنه من تمامه، فليس بأجنبيٍّ.
واعلم: أن البدل من ضمير الحاضر، سواءٌ كان متكلِّماً أم مخاطباً، لا يجوز عند جمهور البصريِّين في بدلِ الكلِّ من الكُلِّ، لو قلت:»
قُمْتُ زَيْدٌ «تعْني نَفْسَكَ، و» ضَرَبْتُكَ عَمْراً «، لم يَجُزْ، قالوا: لأنَّ البدل إنما يؤتى به للبيانِ غالباً، والحاضِرُ متميِّزٌ بنفسه؛ فلا فائدةَ في البدلِ منه، وهذا يَقْرُبُ من تعليلهم في مَنْعِ وصفه، وأجازَ الأخفشُ ذلك مُطْلَقاً مستدِلاًّ بظاهر هذه الآية الكريمة؛ لقول القائل: [الوافر]
٢٠٩٤ - أنَا سَيْفُ العَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا
ف»
حُمَيْداً «بدل من ياء» اعْرِفُوني «، وقولِ الآخر: [الطويل]
611
٢٠٩٥ - وَشَوْهَاءَ تَغْدُو بي إلى صَارِخ الوَغَى بِمُسْتَلْئِمٍ مِثْلِ الفَنِيقِ المُدَجَّلِ
وقول الآخر: [البسيط]
٢٠٩٦ - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ وأمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا
وفي الحديث: «أتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَفَرٌ مِنَ الأشْعَرِيين» والبصريون يُؤوِّلونَ جميعَ ذلك، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدَّم في الوجه الأول، وأمَّا «حُمَيْداً»، فمنصوبٌ على الاختصاص، وأمَّا «بِمُسْتَلئم»، فمن باب التجريدِ، وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيانِ، يعني أنه جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا، وأمَّا «قُرَيْشٍ» فالروايةُ بالرفع على أنه منادى نُوِّنَ ضرورةً؛ كقوله: [الوافر]
٢٠٩٧ - سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَ وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلامُ
وأمَّا «نفرٌ»، فخبر مبتدأ مضمرٍ، أي: نَحْنُ، ومنع ذلك بعضهم، إلا أنْ يُفيدَ البدلُ توكيداً، وإحاطة شمولٍ، واستدلَّ بهذه الآيةِ، وبقول الآخر: [الطويل]
٢٠٩٨ - فَمَا بَرِحَتْ أقْدَامُنَا فِي مُقَامِنَا ثَلاَثَتِنَا حَتَّى أزيرُوا المَنَائِيَا
بجر «ثَلاَثِينَا» بدلاً من «نَا»، ولا حُجَّة فيه؛ لأنَّ «ثَلاَثَتِنَا» توكيدٌ جارٍ مَجْرى «كُلّ».
قال القُرْطُبِي: وقرأ زَيْدُ بن ثابتٍ: «لأولَيْنَا وأُخْرَيْنَا» على الجَمْعِ قال ابنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يَأكُلُ منهما آخرُ النَّاس كما يَأكُل أوَّلهُم.
قوله: «وآيةً» : عطف على «عيداً»، و «منك».

فصل


رُوِي أنَّ عيسى - عليه السلام - اغتسلَ ولبس المسْحَ، وصلَّى ركْعَتَيْن، فَطَأطَأ رَأسَهُ، وغضَّ بصرَهُ وبَكَى وقال: «اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا» أي: عائِدَة من الله علينا حُجَّةً وبُرْهَاناً، والعيدُ يومُ السُّرورِ، سُمِّي به
612
لِلْعَوْدِ من التَّرَحِ إلى الفَرَح، وهو اسم لما اعتدته يَعُودُ إليك، وقد تَقدَّم.
وقال السدي: مَعْنَاهُ يُتَّخَذُ اليومُ الذي أنْزِلَتْ فيه عِيداً لأوَّلنا لأهلِ زماننا، وآخرنا لمن يجيء بَعْدَنا.
وقال ابنُ عباسٍ: يأكلُ منها آخِرُ النَّاسِ كما أكَلَ أوَّلُهُم.
قوله: «وآيةً مِنْكَ» دِلاَلَةً وحُجَّةً.
قيل: نَزَلَتْ يوم الأحد، فاتَّخَذَهُ النَّصَارى عِيداً. وقوله «وارْزُقْنَا» أي: طعاماً نَأكُلُه ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين﴾.
613
قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ: «مُنَزِّلُهَا» : بالتشديد، فقيل: إنَّ أنْزَلَ ونَزَّلَ بمعنًى، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وقيل: التشديدُ للتكثير، فإنها نزلت مرَّاتٍ متعددة.
قوله: «بَعْدُ» : متعلِّق ب «يَكْفُرْ»، وبُنِي؛ لقَطْعِه عن الإضافة؛ إذ الأصل: بَعْدَ الإنْزَالِ، و «مِنْكُمْ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل «يَكْفُرْ»، وقوله: «عَذَاباً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب، أو مصدرٌ على حذفِ الزوائد؛ نحو: «عَطَاء ونَبَات» ل «أعْطَى» و «أنْبَتَ»، وانتصابُهُ على المصدريَّة بالتقديرين المذكورين.
والثاني - أجازه أبو البقاء -: أن يكون مفعولاً به على السَّعَة، يعني: جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به على السَّعة؛ مبالغةً، وحينئذٍ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعول به عند النحاة ثلاثةُ أنواعٍ: معمولُ الصفةِ المشبهة، والمصدرُ، والظرفُ المتَّسَعُ فيهما:
أمَّا المصدرُ، فكما تقدَّم، وأمَّا الظرفُ، فنحو: «يَوْمَ الجُمُعَةِ صُمْتُهُ»، ومنه قوله في ذلك: [الطويل]
613
قال الزمخشريُّ: «ولو أُريدَ بالعذاب ما يُعَذَّبُ به، لكان لا بُدَّ من البَاءِ» قال شهاب الدين: إنما قال ذلك؛ لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّبُ به كثيرٌ، فخاف أن يُتوهَّمَ ذلك، وليس لقائلٍ أن يقول: كان الأصلُ: بِعَذَابٍ، ثم حذفَ الحرف؛ فانتصب المجرورُ به؛ لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع «أنْ» و «أنَّ» بشرطِ أمْنِ اللَّبْسِ.
قوله: «لاَ أعَذِّبُهُ» الهاءُ فيها ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها عائدة على «عَذَاب» الذي تقدَّم أنه بمعنى التعْذِيب، والتقدير: فإنِّي أعَذِّبُهُ تَعْذِيباً لا أعَذِّبُ مِثْلَ ذَلِكَ التَّعْذيبِ أحَداً، والجملة في محلِّ نَصْبٍ صفةً ل «عَذَاباً»، وهذا وجه سالمٌ من تَكَلُّفٍ ستَرَاهُ في غيره، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا لوجه - أعني عودَها على «عَذَاباً» المتقدِّم - قال: «وفيه على هذا وجهان:
أحدهما: على حَذْفِ حرف الجر، أي: لا أعَذِّبُ به أحداً، والثاني: أنه مفعولٌ به على السَّعة»
. قال شهاب الدين: أمَّا قوله «حُذِفَ الحَرْف»، فقد عرفْتَ أنه لا يجوز إلا فيما استثني.
الثاني - من أوجه الهاء -: أنها تعودُ على «من» المتقدِّمة في قوله: «فَمَنْ يَكْفُرْ»، والمعنى: لا أعَذِّبُ مِثْلَ عَذَاب الكَافِرِ أحَداً، ولا بُدَّ من تقدير هذين المضافَيْنِ؛ لِيَصِحَّ المعنى، قال أبو البقاء في هذا الوجهِ: «وفي الكلامِ حَذْفٌ أي: لا أعذِّبُ الكَافِرَ، أي: مثل الكافرِ، أي: مثل عذابِ الكَافر».
الثالث: أنها ضميرُ المصدرِ المؤكِّد؛ نحو: «ظَنَنْتُهُ زَيْداً قَائِماً»، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجه، اعترضَ على نفسه، فقال: «فإنْ قلْتَ:» لا أعَذِّبهُ «صفةٌ ل» عَذَاب «، وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصُوف شَيْءٌ، قيل: إنَّ الثانِيَ لما كان واقعاً موقعَ المصدر والمصدرُ جنْسٌ، و» عَذَاباً «نكرةٌ، كان الأوَّل داخِلاً في الثاني، والثاني مشتملٌ على الأوَّل، وهو مثل: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ». انتهى، فجعل الرابطَ العمومَ، وهذا الذي ذكرهُ من أنَّ الربْطَ بالعمومِ، إنما ذكره النحويُّون في الجملةِ الواقعةِ خبراً لمبتدأ، ولذلك نظَّره أبو البقاء ب «زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ»، وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه؛ لأن الربطَ يحصُلُ في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً، وهذا منها، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذكره واردٌ عليه في الوجه الثاني؛ فإنَّ الجملة صفةٌ ل «عَذَاباً»، وليس فيها ضميرٌ، فإن قيل: ليست هناك بصفة، قيل: يَفْسُدُ المعنى بتقدير الاستئناف، وعلى تقدير صحَّته، فلتكنْ هنا أيضاً مستأنفةً، و «أحَداً» منصوبٌ على المفعُول الصريحِ، و «مِنَ العَالمِينَ» صفةٌ ل «أحداً» فيتعلَّق بمحْذُوف.
614

فصل في معنى الآية


معنى الآية الكريمة ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ﴾ أي: بَعْد إنْزَال المَائِدَة، ﴿فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين﴾ أي: جنس عذابٍ لا أعَذِّبُهُ أحَداً من العالمين - يعني: على زمانه - فَجَحَد القَوْمُ وكَفَرُوا بعد نُزُولِ المَائِدَة.
قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: مُسِخُوا خَنَازِير، وقيل: قِرَدَةً، وقيل: جِنْساً من العَذَابِ، لا يُعذَّبُ به غَيْرُهُم.
قال الزَّجَّاج: ويجُوزُ أن يكون ذَلِكَ العذابُ مُعَجَّلاً في الدُّنْيا، ويجُوزُ أن يكُون مُؤخَّراً في الآخِرَةِ.
قال عَبْدُ الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «أنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُنَافِقُونَ، ومن كَفَر مِنْ أصْحَابِ المائدةِ وآلُ فِرْعَوْن».
واخْتَلَف العُلَماءُ - رضي الله تعالى عنهم - هَلْ نَزَلَتْ أمْ لا؟.
فقال مُجَاهِد، والحَسَن: لم تَنْزِلْ، فإنَّ الله تعالى لَمَّا أوْعَدَ على كُفْرِهم بَعْد نُزُولِ المائدة خافُوا أن يَكْفُر بَعْضُهُم، فاستعفوا وقالوا: لا نُرِيدُهَا؛ فلم تَنْزِلْ. وقوله: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ - يعني: إن سَألْتُم، والصَّحِيحُ الذي عَلَيْه الأكْثَرُون: أنَّها نَزَلَتْ لقوله تعالى: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ ولا خُلْفَ في خبره، ولِتَوَاتُرِ الأخْبَارِ فيه عن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّها نَزَلَت.
وقيل لهم: إنَّها مُقِيمَةٌ لكم ما لم تَخُونُوا وتخبؤوا؛ فما مضَى يومها حتَّى خَانُوا وخَبُّئوا، فَمسخُوا قِرَدَةً وخَنَازير.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إنَّ عيسى - عليه السلام - قال لهم: صُومُوا ثلاثينَ يَوْماً، ثم سَلُوا اللَّه ما شِئْتُم يُعْطِيكُمْ، فَصَامُوا، فلمَّا فَرغُوا قالوا: يا عيسى: إنَّا لو عَمِلْنَا لأحدٍ قَضَيْنَا عَمَلَهُ لأطْعَمَنَا، وسَألُوا اللَّهَ المَائِدَة، فأقْبَلَتِ المَلائِكَةُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بمائدةٍ يحمِلُونَهَا، عَلَيْهَا سَبْعَةُ أرْغِفَةٍ وسَبْعَة أخْوَان، حتَّى وضعتْهَا بين أيْدِيهِمْ، فأكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كما أكَلَ أوَّلُهُم.
قال كَعْبُ الأحْبار: نزلت مَنْكُوسَةً تطيرُ بها المَلائِكَةُ بين السماء والأرض، عليها كُلُّ الطَّعَامِ إلاَّ اللَّحْم.
615
وقال سَعِيدُ بن جُبَيْر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -، عن ابنِ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنْزَلَ على المَائِدَة كُلَّ شيءٍ إلاَّ الخُبْزَ واللَّحْمَ.
قال قَتَادَةُ: كان عليها ثَمَرٌ من ثِمَار الجَنَّةِ.
وقال عَطِيَّة العوفي: نَزَلَتْ من السَّمَاء سَمَكَةٌ فيها طَعْمُ كُلِّ شَيْء.
وقال الكَلْبِيُّ: كان عَلَيْهَا خُبْزُ رُزٍّ، وبَقْلٌ.
وقال وَهْبُ بن مُنَبِّه: أنْزَلَ اللَّهُ - تبارك وتعالى - قُرْصَةً من شَعِيرٍ وحِيتَاناً، فكان قَومٌ يأكُلُون ثم يَخْرجُون، ثُمَّ يَجِيءُ آخَرُون فَيَأكُلُون، حتَّى أكَل أجْمَعُهُم.
وقال الكَلْبِيُّ ومُقَاتِل: أنْزَلَ اللَّهُ سَمَكاً وخَمْسة أرْغِفَةٍ، فأكَلُوا ما شاء اللَّهُ، والنَّاسُ ألْفٌ ونَيفٌ، فلمَّا رَجَعُوا إلى قُرَاهُم، ونَشَرُوا الحَديث، ضحكَ مِنْهُم مَنْ لم يَشْهَد؛ وقالُوا: ويْحَكُم، إنَّما سَحَر أعْيُنَكُم، فمن أرَادَ اللَّهُ به تعالى الخَيْرَ ثَبَّتَهُ على بَصِيرتِهِ، ومن أرادَ فِتْنَتَهُ رجَعَ إلى كُفْرِه، فَمُسِخُوا خَنِازِيرَ ليْسَ صَبِيٌّ ولا امْرَأةٌ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثلاثةَ أيَّامٍ، ثم هَلَكُوا، ولم يَتَوالَدُوا، ولم يَأكُلوا، ولَمْ يَشْرَبُوا، وكذلك كُلُّ مَمْسُوخٍ وقال قتادةُ: كانت تَنْزِلُ عليهم بُكرةً وعَشِيًّا، كالمَنِّ والسَّلْوى لِبَنِي إسْرَائِيل.
وروَى عطاءُ بنُ أبي رباحٍ، عن سَلْمان الفَارِسِيّ: لما سَأل الحَوَارِيُّونَ المائدة، لَبِسَ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - صُوفاً وبَكَى، وقال: «اللهم أنزل علينا مائدة من السماء»، فنزلت سُفْرَةٌ حَمْراء بين غَمَامَتَيْنِ، غَمَامَة من تَحْتِهَا، وغَمَامَة من فَوْقِهَا وهُمْ يَنْظُرُون إلَيْهَا، وهي تَهْوي خَافِضَة، حتَّى سَقَطَتْ بين أيديهمْ، فَبَكَى عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي من الشَّاكرين، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رحْمَةً ولا تَجْعَلْهَا عُقُوبَةً، واليَهُود يَنْظُرون إلى شَيْء لم يَرَوا مِثْلَهُ قَطّ، ولم يَجِدُوا رِيحاً أطيب من ريحهِ، فقال عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: لِيَقُمْ أحسَنُكُم عَمَلاً، فيكشف عنها، ويذكر اسم اللَّهِ تعالى، فقال شَمْعُون الصَّفَّار رَأسٌ من الحَواريِّين أنْتَ أوْلَى بذلك مِنَّا، فَقَامَ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فَتَوَضَأ وصلَّى وبكَى كَثِيراً، ثم كَشَفَ المِنْدِيل، وقال: بِسْم الله خير الرَّازِقين، فإذا سَمَكةٌ مشْويَّةٌ ليس عليها فلوسها ولا شَوْك تَسِيل من دَسِمِهَا، وعند رأسِها ملح وعنْد ذَنَبِها خلٌّ، وحولَهَا من أنْوَاع البُقُول مَا خَلاَ الكُرَّاث، وإذا خَمْسَةُ أرْغِفَةٍ على واحدٍ زَيْتُونٌ، وعلى الثَّاني عَسَلٌ، وعلى الثَّالِثَ سَمْن، وعلى الرَّابع جُبْنٌ، وعلى الخَامس: قَدِيدٌ، فقال شَمْعُون: يا رُوحَ اللَّه أمن طعامِ الدُّنْيَا هذا أوْ مِنْ طعامِ الآخِرة؟ قال: لَيْسَ مِنْهُمَا، ولكنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ اللَّهُ بالقُدْرَة العَالِيَة، كلوا ما سَألْتُم واشْكُرُوا اللَّه يُمْدِدكم ويَزِدْكُمْ من فَضْلِهِ.
616
فقال الحَوَارِيُّون: يا رُوحَ الله كُنْ أوَّل من يَأكُلُ منها، فقال: مَعَاذ الله أنْ آكُلَ منها، ولكن يأكُلُ منها من سَألَهَا، فَخَافُوا أن يَأكُلُوا منها، فدَعَا أهْلَ الفَاقَةِ والمَرَضِ وأهْلَ البَرَصِ والجُذَامِ والمُقْعَدِين وقال: كُلُوا من رِزْقِ الله - عزَّ وجلَّ - لكم الهنَاءُ، ولِغَيْرِكُم البَلاَءُ، فأكَلُوا، وصدر عنها ألْفٌ وثلثمائة رَجُلٍ وامْرأةٌ من فَقِيرٍ، وزمن ومريضٍ، ومُبْتَلى كُل مِنْهُم شَبْعَان، وإذا السَّمَكَةُ كَهَيْئَتِهَا حين نزلت، ثُمَّ طارتِ المائدةُ صعداً وهم يَنْظُرُون إلَيْهَا حتَّى تَوَارَتْ، فلم يَأكُلْ منها زمنٌ ولا مَرِيضٌ ولا مُبْتَلى إلاَّ عُوفِي، ولا فَقِير إلاَّ اسْتَغْنَى، ونَدِمَ من لم يأكُلْ فلَبِثَتْ أرْبَعِين صَبَاحاً تَنْزِلُ ضُحًى، فإذا نَزَلَت اجْتَمَع الأغْنِيَاء والفُقَرَاء والصِّغَارُ والكبارُ والرِّجَال والنِّساءُ، ولا تزالُ منْصُوبةً يُؤكَلُ منها حتَّى إذا فاء الفيءُ طارت، وهم يَنْظُرُون في ظِلِّها حتى تَوَارَتْ عَنْهُم، فكانت تَنْزِلُ غِبّاً تَنْزِلُ يوماً ولا تَنْزِلُ يَوْماً كَنَاقَةِ ثَمُود، فأوْحى اللَّهُ - تبارك وتعالى - إلى عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: اجعل مَائِدَتِي ورِزْقِي للفُقَرَاءِ دُون الأغْنِيَاء، فعظم ذلِكَ الأغْنِيَاء حتى شَكُّوا وشَككُوا النَّاسَ فيها، وقالُوا: تَرَوْن المائدةَ حقاً تَنْزِلُ من السَّمَاء؟ فأوْحَى الله - تبارك وتعالى - إلى عيسى: إنِّي شَرَطْتُ أنَّ من كَفَرَ بَعْد نُزُولِها، عَذَّبْتُهُ عَذَاباً لا أعَذِّبُهُ أحَداً من العالمِين، فقال - عليه السلام -: «إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبَادُكَ، وإن تَغْفِرْ لَهُم فإنَّك أنْتَ العَزيز الحَكِيمُ» فَمَسَخ اللَّهُ منهم ثلاثمائة وثلاثِين رجُلاً من لَيْلَتِهِمْ على فُرُشِهِم مع نِسَائِهِم، فأصْبَحُوا خَنَازِير يَسْعَون في الطُّرُقَات والكنَّاسَات، ويأكُلُون العُذْرَة في الحشُوشِ، وعاشُوا ثلاثة أيَّامٍ ثُمَّ هلكوا والعياذ باللَّه.
617
اختلَفُوا في هذا القَوْلِ، هَلْ وقع وانْقَضَى، أو سيقع يوم القيامة؟ على قولين:
الأول: قال بعضُهم: لمَّا رفعهُ إليه، قال له ذلك، وعلى هذا ف «إذْ» و «قَالَ» على موضوعهما منَ المُضِيِّ، وهو الظاهر، وقال بعضُهم: سيقولُه له يَوْمَ القيامة؛ لقوله - تبارك وتعالى قبله ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾ [المائدة: ١٠٩] [الآية]، وقوله بعد هذا: ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: ١١٩] وعلى هذا ف «إذْ»، و «قَالَ» بمعنى «يَقُولُ»، وكونُها بمعنى «إذَا» أهونُ من قول أبي عُبَيْدٍ: إنها زائدةٌ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليْسَتْ بالسهلة.
قوله: «أأنْتَ قُلْتَ» دخلت الهمزةُ على المبتدأ؛ لفائدةٍ ذكرها أهل البيان، وهو: أن الفعل إذا عُلِمَ وجودُهُ، وشُكَّ في نسبته إلى شخص، أولِيَ الاسْمُ المشكوكُ في نسبة الفعْلِ إليه للهمْزة، فيقال: «أأنْتَ ضَرْبٌ زَيْداً»، فَضَرْبُ زَيْدٍ قد صدر في الوجود، وإنما
617
شُكَّ في نسبته إلى المخاطَبِ، وإنْ شُكَّ في أصل وقوعِ الفعلِ، أولِيَ الفعلُ للهمزة، فيقال: «أضَرَبْتَ زَيْداً»، لم تَقْطع بوقوعِ الضرب، بل شَكَكْتَ فيه، والحاصلُ: أنَّ الهمزةَ يليها المشكوكُ فيه، فالاستفهامُ في الآية الكريمة يُراد به التقريعُ والتوبيخ لغير عيسى - عليه السلام - وهم المتَّخِذُون له ولأمِّه إلهَيْنِ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه؛ لأن الاتخاذَ قد وقع ولا بُدَّ، واللام في «للنَّاس» للتبليغِ فقط، و «اتَّخِذُوني» يجوز أن تكون بمعنى «صَيَّرَ»، فتتعدَّى لاثنين، ثانيهما «إلَهَيْنِ»، وأن تكونَ المتعدية لواحدٍ ف «إلَهَيْنِ» حالٌ، و ﴿مِن دُونِ الله﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلقٌ بالاتخاذ، وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وبه بدأ - أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ؛ على أنه صفةٌ ل «إلَهَيْنِ».
فإن قيل: كَيْفَ يَلِيقُ الاسْتِفْهَامُ بعلاَّمِ الغُيُوب؛ وأيضاً النَّصَارَى لا يَقُولُون بإلهِيَّة عيسى [- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ومريم].
فالجوابُ عن الأول: أنَّه على سبيلِ الإنْكَارِ، وقَصْدُ هذا السُّؤال تَعْرِيفُهُ أنَّ قَوْمَهُ غيرُوا بعده، وادَّعَوْا عليه مَا لَمْ يَقُلْهُ.
والجوابُ عن الثَّانِي: أنَّ النَّصَارى يَعْتَقِدُون أنَّ المُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ على يَدِ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ومَرْيَم - عليها السَّلام - لم يَخْلُقْهَا الله تعالى، بل عيسى ابن مريم - عليهما الصَّلاة والسَّلام - فاللَّهُ ليس خَالِقُهمَا، فصحَّ أنهُم أثْبَتُوا في حَقِّ بَعْضِ الأشْيَاء كون عيسى - عليه السلام - ومريم إلهيْنِ من دُون الله، [مع أنَّ اللَّه لَيْس إلهاً لَهُ]، فصحَّ بهذا التَّأويلِ هذه الحِكايَةُ.
وقال القُرْطُبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قيل: النَّصَارَى لم يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إلهاً، فكَيْفَ قال ذَلِكَ فيهم؟.
فقيل: لمَّا كان من قَولِهِمْ أنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَراً، وإنَّما وَلَدَتْ إلهاً، لَزِمَهُم أنْ يقُولُوا: إنَّها لأجْل البَعْضِيَّة بمثابة من ولدَتْه، فصارُوا حين لزمهُم ذلك بمثابَةِ القائِلين لهُ.
فإن قيل: إنَّهُ - تبارك وتعالى - إن كان عَالِماً بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - لم يَقُلْ ذلك، فلم خاطَبَهُ به؟ فإن قُلْتُم: الغَرَضُ مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارى وتَقْرِيعُهُم، فنقُولُ: إنَّ أحَداً من النَّصَارى لَمْ يَذْهَبْ إلى القَوْلِ بإلهيَّةِ عيسى ومريم مع القول بنَفْي إلهيَّةِ الله تعالى، فكيْفَ يجُوزُ أن يُنْسَبَ هذا القوْلُ إليْهِمْ، مع أنَّ أحَداً منهم لَمْ يَقُلْ به؟.
فالجوابُ: أنَّ الله تعالى أرَادَ أنَّ عيسى يُقِرُّ على نَفْسِهِ بالعُبُودِيَّةِ فَيَسْمع قَوْمُهُ، ويَظْهَرُ كذبُهُمْ عليه أنَّه أمَرَهُم بذلك.
618
قوله: «سُبْحَانَك» أي: تنزيهاً لك، وتقدَّم الكلام عليه في البقرة [الآية: ٣٢]، ومتعلَّقُه محذوفٌ، فقدَّره الزمخشريُّ: «سُبْحانَكَ مِنْ أن يكُونَ لك شَرِيكٌ»، وقدَّره ابن عطية: «عَنْ أنْ يُقالَ هذا، ويُنْطَقَ به» ورجَّحَهُ أبو حيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لقوله بَعْدُ: ﴿مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ﴾. قوله: «أنْ أقُولَ» في محلِّ رفع؛ لأنه اسمُ «يكُونُ»، والخبرُ في الجارِّ قبله، أي: ما يَنْبَغِي لي قولُ كذا، و «مَا» يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ؛ فلا محلَّ لها، أو صفةٌ، فمحلُّها النصبُ، فإنَّ «مَا» منصوبةٌ ب «أقُولَ» نصب المفعول به؛ لأنها متضمِّنةٌ لجملة، فهو نظيرُ «قُلْتُ كلاماً»، وعلى هذا فلا يحتاج أن يؤوَّل «أقُولَ» بمعنى «أدَّعِي» أو «أذْكُرَ»، كما فعله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ وفي «لَيْسَ» ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمها، وفي خبرها وجهان:
أحدهما: أنه «لِي»، أي: ما لَيْسَ مستقرّاً لي وثابتاً، وأمَّا «بِحَقٍّ» على هذا، ففيه ثلاثةُ أوجه، ذكر أبو البقاء منها وجهين:
أحدهما: أنه حالٌ من الضمير في «لي».
قال: والثاني: أن يكون مفعولاً به، تقديره: ما ليس يَثْبُتُ لي بسببِ حقٍّ، والباءُ متعلِّقةٌ بالفعلِ المحذُوف، لا بنفسِ الجارِّ؛ لأنَّ المعانِيَ لا تعملُ في المفعول به. قال شهاب الدين: وهذا ليْسَ بجيِّدٍ؛ لأنه قدَّر متعلَّقَ [الخبر كوناً مقيَّداً، ثم حذفه، وأبقى معموله.
الوجه الثالث: أنَّ قوله «بحَقٍّ» متعلقٌ] بقوله: «عَلِمْتَهُ»، ويكون الوقْفُ على هذا على قوله «لِي»، والمعنى: فققد عَلِمْتَهُ بِحَقٍّ، [وقد رُدَّ] هذا بأنَّ الأصْل عدمِ التقديم والتأخير، وهذا لا ينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا، بل الذي منه من ذلك: أنَّ معمول الشرط أو جوابه لا يتقدَّم على أداة الشرط، لا سيَّما والمَرْوِيُّ عن الأئمةِ القُرَّاءِ الوقفُ على «بِحَقٍّ»، ويَبْتَدئُونَ ب ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ﴾، وهذا مَرْوِيٌّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجَبَ اتِّباعه.
والوجه الثاني في خبر «لَيْسَ» : أنه «بِحَقٍّ»، وعلى هذا، ففي «لِي» ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه «يَتَبيَّنُ» ؛ كما في قولهم: «سُقْياً لَهُ»، أي: فيتعلَّقُ بمحذوف.
والثاني: أنه حالٌ من «بِحَقٍّ» ؛ لأنه لو تأخَّر، لكان صفةً له، قال أبو البقاء: «وهذا مُخَرَّجٌ على قول من يجُوِّزُ تقديم حال المجرُورِ عليه» [قلتُ: قد تقدَّم لك خلافُ النَّاسِ فيه]، وما أوردوه من الشواهد، وفيه أيضاً تقديمُ الحالِ على عاملها المعنويِّ، فإنَّ «
619
بِحَقٍّ» هو العاملُ؛ إذ «لَيْسَ» لا يجوز أن تعمل في شيء، وإن قلنا: إنَّ «كان» أختها قد تعمل لأن «لَيْسَ» لا حدثَ لها بالإجماع.
والثالث: أنه متعلِّقٌ بنفسِ «حَقّ» ؛ لأنَّ الباءَ زائدةٌ، و «حَقّ» بمعنى «مُسْتَحقّ»، أي: ما لَيْسَ مستحِقًّا لي.

فصل


اعلم: أنَّه - تبارك وتعالى - لما سَألَ عيسى - عليه السلام - أنَّكَ هَلْ قُلتَ للنَّاسِ ذلك؟ لم يَقُلْ عيسى بأنِّي قُلْتُ، أو: ما قُلْتُ، بل قال: ما يكونُ لي أنْ أقُولَ هذا الكلام، وبدأ بالتَّسْبِيح قبل الجواب لأمرين:
أحدهما: تَنْزِيهاً لَهُ على أنْ يُضيفَ إليه.
والثاني: خُضُوعاً لِعِزَّتِه، وخَوْفاً من سَطْوتِهِ.
ثُمَّ قال: ﴿مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ أي: أن أدَّعِي لِنَفْسِي بما ليس من حقِّها يعني: أنِّي مَرْبُوبٌ ولسْتُ بِرَبٍّ، وعَابِدٌ، ولسْتُ بِمَعْبُودٍ، ولمَّا بيَّن أنَّه ليس له أنْ يقول هذا الكلام، شَرَعَ في بيانِ أنَّهُ هَلْ وقع منه هذا القولُ أمْ لا؟ ولمْ يَقُلْ بأنِّي ما قُلْتُه، بل فوَّضَه إلى علمه تعالى المحيط بالكُلِّ، فقال: «إن كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ عَلِمْتَه بعلْمِكَ»، وهذا مُبالغَةٌ في الأدبِ، وفِي إظهَارِ الذِّلَةِ والمَسْكَنَةِ في حَضْرَةِ الخلاَّقِ، وتَفْوِيض الأمْرِ بالكُلِّيَّةِ إلى الحقِّ - سُبحانَهُ وتعالى -.
قوله: ﴿إن كنت قلته﴾ :«كنت» وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى، والتقدير: إن تَصِحَّ دعواي لما ذُكر، وقدَّره الفارسي بقوله: «إن أكن الآن قلتُه فيما مضى» لأنَّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل. وقوله: «فقد عَلِمْتَ» أي: فقد تبيَّن وظهر علمُك به كقوله: ﴿فَصَدَقَتْ﴾ [يوسف: ٢٦] و ﴿فَكَذَبَتْ﴾ [يوسف: ٢٧] و ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار﴾ [النمل: ٩٠].
قوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾.
قوله: ﴿تعلمُ ما في نفسي﴾ هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، لأنَّ العرفان كما تقدم يستدعي سَبْقَ جهل، أو يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ، أي: تعلمُ ما في نفسي كائناً موجوداً على حقيقته لا يخفى عليك منه شيءٌ، وأمَّا: «ولا أعلم» فهي وإن كان يجوزُ أن تكون عرفانيةً، إلا أنها لمَّا صارت مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكون مثلها، والمرادُ بالنفس هنا ما قاله الزجاج أنها تُطْلقُ ويُراد بها حقيقةُ الشيء، والمعنى في قوله ﴿تعلم ما في نفسي﴾ إلى آخره واضحٌ.
620
وقال: المعنى: تعلمُ ما أخفيه من سِرِّي وغيبي، أي: ما غابَ ولم أظْهِرْه، ولا أعلمُ ما تُخْفيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه، فذكر النفس مقابلةً وازدواجاً، وهذا منتزع من قول ابن عباس، وعليه حام الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه قال: «تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومك»، وأتى بقوله: ﴿ما في نفسك﴾ على جهةَ المقابلةِ والتشاكلِ [لقوله: «ما في نفسي» فهو] كقوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤]، وكقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤، ١٥].
وقيل: المعنى: تعلمُ ما عندِي ولا أعلمُ ما عندكَ.
وقيل: تعلمُ ما في الدُّنْيَا، ولا أعلمُ ما يكونُ مِنْكَ في الآخِرَة.
وقيل: تعلمُ بما أقُولُ وأفْعلُ، ولا أعْلَمُ بما تقول وتفعل ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ وهذا تأكيدٌ للجملتَيْنِ المُتقدِّمتَيْنِ.
وتمسَّكتِ المُجسِّمَةُ بقوله «بِمَا في نفْسِكَ»، وقالوا: النَّفْسُ إنَّما تكون في الشَّخْصِ.
وأجيبُوا: بأنَّ النَّفْسَ عبارة عن الذاتِ، يقال: نَفْسُ الشَّيء وذاته بمعنى واحد، وأيضاً المراد: تعلم معْلُومِي ولا أعلم معلُومَك، ولكنَّه ذكر هذا الكلامَ على طريقِ المُقابلةِ والمُشاكلةِ.
قال الزَّجاج: النَّفْسُ عبارةٌ عن جُمْلَةِ الشَّيء وحقيقتِهِ.
قوله تعالى: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ «ما» منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما في حيِّزها في تأويلِ مقول. وقدَّر أبو البقاء القول بمعنى الذكر والتأدية. و «ما» يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً.
قوله تعالى: «أن اعبُدوا» في «أنْ» سبعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في «به» والتقديرُ: ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض.
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار «أعني»، أي: إنه فسَّر ذلك المأمور به.
الثالث: أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ «به» في ﴿ما أمرتني به﴾ لأن محلَّ المجرور نصب.
الرابع: أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ.
الخامس: أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به.
621
السادس: أنها بدلٌ من «ما» نفسها أي: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا.
السابع: أنَّ «أنْ» تفسيرية، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي. وممن ذهب إلى جواز أنَّ «أنْ» بدلٌ مِنْ «ما» فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج، وأجاز أيضاً أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها. وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي، وبدلاً من «ما» أو من الهاء في «به». قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أنْ» في قوله: ﴿أن اعبدوا الله﴾ إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر، والمفسِّر: إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له؛ أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير، وأما فعل الأمر فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى، فلو فسَّرْتَه ب ﴿اعبدوا الله ربي وربكم﴾ لم يستقم لأن الله لا يقول: اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها بدلاً لم يخلُ من أن تجعلها بدلاً من «ما» في ﴿ما أمرتني به﴾، أو من الهاء في «به»، وكلاهما غيرُ مستقيم؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه، ولا يُقال: ما قلتُ لهم إلا أن اعبدوا الله، أي: ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال، وكذلك لو جعلتها بدلاً من الهاء، لأنك لو أقَمْتَ «أن اعبدوا» مقام الهاء [فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله] لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته، فإن قلت: كيف تصنع؟ قلت: يُحْمل فعلُ القول على معناه، لأنَّ معنى ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به﴾ : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به، حتى يستقيم تفسيره ب ﴿أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾، ويجوزُ أن تكون «أنْ» موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً.
وتعقَّب عليه أبو حيان كلامه فقال: «أمَّا قوله وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع [وقوله:» لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم «فإنما لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر، ويستقيم أن يكون فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله:» اعبدوا الله «ويكون» ربي وربكم «من كلام عيسى على إضمار» أعني «أي:» أعني ربي وربكم «، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده، وأمّا] قوله:» لأن العبادة لا تُقال «فصحيحٌ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ مضاف أي: ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي: القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى، وأمَّا قوله» لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته «فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز النحويين:» زيد مررت به أبي عبد الله «ولو قلت:» زيدٌ مررتُ بأبي عبد الله «لم يجز إلا على رأي الأخفش.
وأما قوله: «عطفاً على بيان الهاء»
ففيه بُعْد، لأن عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ. وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا
622
يَصِحُّ، لأنها جاءت بعد «إلا»، وكلُّ ما كان بعد «إلا» المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكون له موضعٌ من الإعراب، و «أن» التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب «. انتهى.
قال شهاب الدين: أمَّا قوله:»
إن ربي وربكم من كلام عيسى «ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ» ربي «تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك، وهذا أشدُّ من قولهم» يؤدي إلى تهيئتة العامل للعمل وقطعه عنه «فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ» اعبدوا الله «من كلام الله تعالى و» ربي وربكم «من كلام عيسى، وكلاهما مفسِّرٌ ل» أمرتَ «المسند للباري تعالى. وأمَّا قوله» يَصِحُّ ذلك على حذف مضاف «ففيه بعض جودة، وأما قوله:» إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم «واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم، على أنه لا يجوز» جاء الذي مررت به أبي عبد الله «بجرِّ» عبد الله «بدلاً من الهاء، وعلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قدَّمْتُ التنبيه عليه، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل:» لا يجوزُ هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه «فيجعلون ذلك علةً مانعةً، يعرف ذلك من اطلع على كلامهم، قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى. وأمَّا قوله:» وكلُّ ما كان بعد «إلا» المستثنى به إلى آخره «فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها.
ويجوز في»
أنْ «الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله:» فَمَنِ اضْطُرَّ «في البقرة [الآية ١٧٣]. و» ربي «نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع رفعاً أو نصباً، فهذه خمسة [أوجهٍ] تقدَّم إيضاحُها.
قوله: «شهيداً»
خبر «كان»، و «عليهم» متعلق به، و «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان، و «دام» صلتها، ويجوز فيها التمامُ والنقصان، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة، ويكون «فيهم» متعلقاً بها، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال، والمعنى: وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم، فلم يحتج هنا إلى منصوب، وتكون حينئذٍ متصرفةً، وإن كانت الناقصة لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع، فيكون «فيهم» في محلِّ نصب خبراً لها، والتقديرُ: مدة دوامي مستقراً فيهم، وقد تقدم أنه يقال: «دِمْتُ تدام» كخِفْتُ تخاف. قوله: ﴿كنت أنت الرقيب عليهم﴾ يجوز في «أنت» أن تكون فصلاً وأن تكون تأكيداً. وقرئ «الرقيبُ» بالرفع على أنه خبر ل «أنت» والجملةُ خبرٌ ل «كان»، كقول القائل: [الطويل]
٢١٠٠ -................................
623
وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ
وقد تقدَّم اشتقاق «الرقيب». و «عليهم» معلَّقٌ به. و «على كلِّ شيء» متعلِّقٌ ب «شهيد» قُدِّمَ للفاصلة.

فصل


معنى الكلام ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ أي: كنتُ أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون، ما دمتُ مُقِيماً فيهم، «فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي» والمرادُ منهُ: الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥].
و ﴿كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾، قال الزجاج: الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم.
فالشَّهِيدُ: المُشاهِد، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة، ويجُوزُ حَمْلُهُ على العِلْمِ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة، فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ.
624
قوله تعالى :﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾ : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ " ما " منصوبةٌ بالقول ؛ لأنها وما في حيِّزها في تأويلِ مقول. وقدَّر أبو البقاء١٣ القول بمعنى الذكر والتأدية. و " ما " يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً.
قوله تعالى :" أن اعبُدوا " في " أنْ " سبعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في " به " والتقديرُ : ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض.
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار " أعني "، أي : إنه فسَّر ذلك المأمور به.
الثالث : أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ " به " في ﴿ ما أمرتني به ﴾ لأن محلَّ المجرور نصب.
الرابع : أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ.
الخامس : أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به.
السادس : أنها بدلٌ من " ما " نفسها أي : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا.
السابع : أنَّ " أنْ " تفسيرية، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي١٤. وممن ذهب إلى جواز أنَّ " أنْ " بدلٌ مِنْ " ما " فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج١٥، وأجاز أيضاً أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها. وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري، وأبو البقاء١٦ منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي، وبدلاً من " ما " أو من الهاء في " به ". قال - رحمه الله - :" أنْ " في قوله :﴿ أن اعبدوا الله ﴾ إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر، والمفسِّر : إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له ؛ أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير، وأما فعل الأمر فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى، فلو فسَّرْتَه ب ﴿ اعبدوا الله ربي وربكم ﴾ لم يستقم لأن الله لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها بدلاً لم يخلُ من أن تجعلها بدلاً من " ما " في ﴿ ما أمرتني به ﴾، أو من الهاء في " به "، وكلاهما غيرُ مستقيم ؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه، ولا يُقال : ما قلتُ لهم إلا أن اعبدوا الله، أي : ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال، وكذلك لو جعلتها بدلاً من الهاء، لأنك لو أقَمْتَ " أن اعبدوا " مقام الهاء [ فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله ] لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته، فإن قلت : كيف تصنع ؟ قلت : يُحْمل فعلُ القول على معناه، لأنَّ معنى ﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ﴾ : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به، حتى يستقيم تفسيره ب ﴿ أن اعبدوا الله ربي وربكم ﴾، ويجوزُ أن تكون " أنْ " موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً.
وتعقَّب عليه أبو حيان١٧ كلامه فقال :" أمَّا قوله وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع [ وقوله :" لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم " فإنما لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر، ويستقيم أن يكون فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله :" اعبدوا الله " ويكون " ربي وربكم " من كلام عيسى على إضمار " أعني " أي :" أعني ربي وربكم "، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده، وأمّا ] قوله :" لأن العبادة لا تُقال " فصحيحٌ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ مضاف أي : ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي : القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى، وأمَّا قوله " لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته " فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز النحويين :" زيد مررت به أبي عبد الله " ولو قلت :" زيدٌ مررت بأبي عبد الله " لم يجز إلا على رأي الأخفش. وأما قوله :" عطفاً على بيان الهاء " ففيه بُعْد، لأن عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ. وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ، لأنها جاءت بعد " إلا "، وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكون له موضعٌ من الإعراب، و " أن " التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب ". انتهى.
قال شهاب الدين١٨ : أمَّا قوله :" إن ربي وربكم من كلام عيسى " ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ " ربي " تابعٌ للجلالة ؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك، وهذا أشدُّ من قولهم " يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه " فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ " اعبدوا الله " من كلام الله تعالى و " ربي وربكم " من كلام عيسى، وكلاهما مفسِّرٌ ل " أمرتَ " المسند للباري تعالى. وأمَّا قوله " يَصِحُّ ذلك على حذف مضاف " ففيه بعض جودة، وأما قوله :" إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم " واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم، على أنه لا يجوز " جاء الذي مررت به أبي عبد الله " بجرِّ " عبد الله " بدلاً من الهاء، وعلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قدَّمْتُ التنبيه عليه، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل :" لا يجوزُ هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه " فيجعلون ذلك علةً مانعةً، يعرف ذلك من اطلع على كلامهم، قال شهاب الدين١٩ رحمه الله : فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى. وأمَّا قوله :" وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى به إلى آخره " فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها.
ويجوز في " أنْ " الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله :" فَمَنِ اضْطُرَّ " في البقرة [ الآية ١٧٣ ]. و " ربي " نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع رفعاً أو نصباً، فهذه خمسة [ أوجهٍ ] تقدَّم إيضاحُها.
قوله :" شهيداً " خبر " كان "، و " عليهم " متعلق به، و " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان، و " دام " صلتها، ويجوز فيها التمامُ والنقصان، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة، ويكون " فيهم " متعلقاً بها، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال، والمعنى : وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم، فلم يحتج هنا إلى منصوب، وتكون حينئذٍ متصرفةً، وإن كانت الناقصة لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع، فيكون " فيهم " في محلِّ نصب خبراً لها، والتقديرُ : مدة دوامي مستقراً فيهم، وقد تقدم أنه يقال :" دِمْتُ تدام " كخِفْتُ تخاف. قوله :﴿ كنت أنت الرقيب عليهم ﴾ يجوز في " أنت " أن تكون فصلاً وأن تكون تأكيداً. وقرئ٢٠ " الرقيبُ " بالرفع على أنه خبر ل " أنت " والجملةُ خبرٌ ل " كان "، كقول القائل :[ الطويل ]
. . . *** وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ٢١
وقد تقدَّم اشتقاق " الرقيب ". و " عليهم " متعلَّقٌ به. و " على كلِّ شيء " متعلِّقٌ ب " شهيد " قُدِّمَ للفاصلة.

فصل


معنى الكلام ﴿ وكُنتُ عليهمْ شَهِيداً ﴾ أي : كنتُ أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون، ما دمتُ مُقِيماً فيهم، " فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي " والمرادُ منهُ : الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ].
و ﴿ كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾، قال الزجاج٢٢ : الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم.
فالشَّهِيدُ : المُشاهِد، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة، ويجُوزُ حَمْلُهُ على العِلْمِ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة، فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ.
فيه سؤالٌ: وهُو أنَّهُ كيف طلبَ المغفِرَة وهم كُفَّارٌ، واللَّهُ لا يغْفِرُ الشِّرْكَ؟ والجوابُ من وُجُوه:
الأول: أنَّهُ تعالى لمَّا قال لعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: ١١٦]، عَلِمَ أنَّ قوماً من النَّصَارى حَكوا هذا الكلام عَنْهُ والحَاكِي هذا الكُفر لا يكُون كَافِراً، بل مُذْنِباً بكذبِهِ في هذه الحكايَةِ، وغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ، فلهذا طلبَ المَغْفِرَة.
والثاني: أنَّهُ يجُوزُ من الله - تعالى - أنْ يدخل الكُفَّارَ الجنَّة، ويدخل الزُّهَّاد النَّار؛ لأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، ولا اعْتِرَاض لأحدٍ عليه، فكان غَرَضُ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا الكلامِ تَفْويض الأمُور كُلّها إلى الله - تعالى، وترك الاعْتِرَاض بالكُلِّيَّةِ، ولذَلِك ختم الكلام بقوله ﴿فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ أي: القادرُ على ما تُريدُ، الحكيم فيما تفعل لا اعتراض لأحد عليْكَ، وما أحسن ما قِيلَ: فإن أتَيْتُ ذَنْباً عظِيماً فأنْتَ للعَفْوِ أهْلٌ، فإن غَفَرْتَ، ففضلٌ، وإن جَزَيْتَ فعَدْلٌ.
624
الثالث: معناهُ: «إن تُعذِّبْهُم» بإقامَتِهِم على كُفْرِهِمْ، و ﴿وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ بعد الإيمان، وهذا مستقيم على قَوْلِ السديِّ [رَحِمَهُ اللَّهُ] : إنَّ هذا السُّؤالَ عند رفعِهِ إلى السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ؛ لأن الإيمان لا يَنْفَعُ في القِيَامةِ.
الرابع: قيل هذا في فِرْقَتَيْنِ منهم، معناه: إن تُعذِّب مَنْ كفرَ مِنْهُم، وإن تغفر لِمَنْ آمَنَ منهم.
قال القُرْطُبِي -[رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى]- في الجوابِ عن هذا السُّؤال، بأنَّه قال ذَلِكَ على وَجْهِ الاسْتِعْطَافِ لَهُمْ والرَّأفَة، كعطف السَّيِّد لِعَبْدِه، ولهذا لم يَقُلْ: فإنْ عَصَوْكَ.
وقيل: قالهُ على وجْهِ التَّسليم لأمْرِه، والاسْتِجَارة من عَذَابه، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ.
وأمَّا قول من قال: إنَّ عيسى - عليه السَّلام - لا يَعْلَمُ أنَّ الكَافِرَ لا يُغْفَرُ له، فقولُ من يَتَجَرَّأ على كتابِ الله - تبارك وتعالى -؛ لأن الأخْبَارَ من الله - تبارك وتعالى - لا تُنْسَخُ.
وقيل: كان عند عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنَّهم أحْدَثُوا معَاصِي وعَمِلُوا بَعْدَهُ بما لم يأمُرْهُم به، إلاَّ أنَّهُم على عَمُودِ دينِهِ، فقال: ﴿وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ ما أحْدَثُوا بَعْدِي من المَعَاصِي.
قوله: ﴿فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ : تقدَّم نظيره [البقرة ٣٢]، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفهم «العزيزُ الحكيم»، وفي مصحف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقرأ بها جماعة: «الغفورُ الرحيم»، وقد عبث بعض من لا يفهم كلام العرب بهذه الآية، وقال: «إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود» وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري، فإنه نَقَلَ هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال: ومتى نُقِل إلى ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه، فإنه ينفرد «الغفور الرحيم» بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما: أولهما وآخرهما، إذ تلخيصه: إنْ تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفرْ لهم فأنت العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكأنَّ «العزيز الحكيم» أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلُحْ «الغفور الرحيم» أنْ يحتمل من العموم ما احتمله «العزيز الحكيم».
قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وكلامُه فيه دقةٌ، وذلك أنه لا يريد بقوله «إنه معروف بالشرطين إلى آخره» أنه جوابٌ لهما صناعةً، لأنَّ ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابه وهو «فإنهم عبادُك» وهو جوابٌ مطابقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرفه سيدُه كيف
625
شاء، وإنما يريد بذلك أنه متعلق بهما من جهة المعنى.

فصل


قوله: ﴿فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ قيل: فيه تَقْدِيمٌ وتأخِيرٌ تقديرُهُ: وإنْ تغفِرْ لهم فإنَّهُم عبادُكَ، وإن تُعذِّبْهُم، فإنَّك أنْتَ العزيزُ في المُلْكِ، الحكيمُ في القضاءِ، لا يَنْقُصُ من عزِّك شَيءٌ، ولا يَخْرجُ عَنْ حُكْمِكَ، ويدخُلُ في حُكْمِهِ، وسِعَتْ رَحْمَتُهُ مَغْفِرةُ الكُفَّارِ، ولكِنَّه أخْبَرَ أنَّه لا يَغْفِرُ لَهُمْ، وهُوَ لا يُخلِفُ خَبَرهُ.
روى عَمْرُو بنُ العَاصِ: «أنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - تَلاَ قولَهُ تبارك وتعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم: ٣٦] الآية، وقول عيسى - عليه السَّلام:» إنْ تُعَذِّبْهُم فإنَّهُمْ عِبَادُك وإنْ تَغْفِرْ لَهُم فإنَّك أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ «، فرفعَ يَديهِ وقال:» اللَّهُمَّ أمَّتِي، اللَّهُمَّ أمَّتِي «فقال اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: يا جِبْريلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وَرَبُّكَ أعْلَمُ، فسله ما يُبْكِيه، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فسألَه، فأخْبَرَهُ رَسُولُ الله، فقال اللَّهُ: يا جبريلُ اذهبْ إلى رسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخْبِرْهُ وقلْ لَهُ إنَّا سَنُرْضِيكَ في أمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ».
626
قرأ الجمهور «يومُ» بالرفع تنوين، ونافع بالنصب من غير تنوين واختاره أبو عبيدة ونقل الزمخشري عن الأعمش «يوماً» بنصبه منوناً، وابن عطية عن الحسن بن عياش الشامي: «يوم» برفعه منوناً، فهذه أربع قراءات. فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر، والجملةُ في محل نصب بالقول. وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه، أحدها: أنَّ «هذا» مبتدأ، و «يوم» خبره كالقراءة الأولى، وإنما بُنِي الظرفُ لإضافته إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماضٍ، وعليه قولُ النابغة: [الطويل]
٢١٠١ - عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشِيبَ على الصِّبَا... فَقُلْتُ: ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازعُ
626
وخَرَّجوا هذه القرءاة على أن «يوم» منصوبٌ على الظرف، وهو متعلق في الحقيقة بخبر المبتدأ أي: هذا واقعٌ أو يقع في يوم ينفع، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى. ومنهم من خرَّجه على أنَّ «هذا» منصوبٌ ب «قال»، وأشير به إلى المصدر فنصبه على المصدر، وقيل: بل أشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ: هل هو منصوبٌ نصب المفعول به أو نصبَ المصادر؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو: «قلت شعراً وخطبة» جَرَى فيه هذا الخلاف، وعلى كلِّ تقدير ف «يوم» منصوبٌ على الظرف ب «قال» أي: قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين، و «ينفع» في محلِّ خفضٍ بالإضافة، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل وأنه أحد ثلاثةِ أشياء. وأمَّا قراءة التنوين فرفعه على الخبريةِ كقراءة الجماعة، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لما قبلها، والعائدُ محذوفٌ، وهي نظيرَُ قوله تعالى: ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ [البقرة: ٤٨]، فيكونُ محلُّ هذه الجملة إما رفعاً أو نصباً.
قوله: «صِدْقُهم» مرفوع بالفاعلية، وهذه قراءة العامة، وقُرِئ شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المفعول من أجله أي: ينفعهم لأجلِ صدقهم، ذكر ذلك أبو البقاء، وتبعه أبو حيان وهذا لا يجوزُ لأنه فات شرطٌ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ النفع غيرُ فاعل الصدقِ، وليس لقائلٍ أن يقول: «يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل: الذين يَصْدُقون لأَجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل» لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه، وللقولِ فيه مجال. الثاني: على إسقاط حرف الجر أي: بصدقهم، وهذا فيه ما عرف من أن حذف الحرف لا يطَّرد.
الثالث: أنه منصوب على المفعول به، والناصب له اسم الفاعل في «الصادقين» أي: الذين صدقوا صدقهم، مبالغةً نحو: «صدقْت القتال» كأنك وعدتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له، والعامل فيه اسم الفاعل قبله. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل: الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول: «صَدَق الصدقَ»، وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ «ينفع» ضمير يعود على الله تعالى.

فصل في معنى الآية


أجْمَعُوا على أنَّ المُرادَ بِهَذَا اليَوْمِ هو يَوْمُ القِيَامةِ، والمَعْنَى: أنَّ صِدْقَهُم في الدُّنْيَا يَنْفَعُهُم في الآخِرَةِ؛ لأنَّ صِدْق الكُفَّار في القيامَةِ لا يَنْفَعُهُم، ألا ترى أنَّ إبْلِيس قال: ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢٢]، فَلَمْ يَنْفَعْهُ هذا الصِّدقُ، وهذا الكلامُ تَصْدِيقٌ من اللَّهِ تعالى لعيسى في قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ [المائدة: ١١٧].
627
وقيل: أرَادَ بالصَّادِقِين النَّبِيِّين.
وقال الكَلْبِيُّ: يَنْفَعُ المُؤمنين إيمانُهُمْ.
وقال قَتَادةُ: مُتَكَلِّمَان يَخْطُبَانِ يَوْمَ القيامةِ: عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وهو ما قَصَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - وعَدُوُّ الله إبْلِيس، وهو قوله: ﴿وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر﴾ [إبراهيم: ٢٢] فَصَدَقَ عَدُوُّ الله يومئذٍ، وكان قَبْلَ ذلك كَاذِباً، فلم يَنْفَعْهُ صِدْقُهُ، فأمَّا عيسى - عليه السَّلام - فكان صَادِقاً في الدُّنْيَا والآخِرَة فَنَفَعَهُ صِدْقُه.
وقال بَعْضُهُمْ: المرادُ صِدْقُهُمْ في العملِ للَّهِ في يومٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا؛ لأنَّ دَارَ الآخِرَة دارُ جَزَاءٍ لا دار عَمَلٍ.
وقيل: المراد صِدْقُهُمْ في الآخِرَة وذلك في الشَّهادةِ لأنْبِيَائِهِم بالبلاغِ، وفيما شَهِدُوا به على أنْفُسِهِمْ كالعَدَمِ من أعْمالِهِمْ، ويكُونُ وجْهُ النَّفْع فيه أن يَكُفُّوا المُؤاخَذَة بِتَرْكِهِم كَتم الشَّهادَة، فيُغفَرُ لهم بإقْرَارِهِم لأنْبِيَائِهِم على أنْفُسِهِم، ثُمَّ بين ثَوَابَهُم، فقال: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾، فبيَّن أنَّ ذلك النَّفْع هو الثَّوابُ، وهو حَقِيقَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بالتَّعْظِيم.
واعلم: أنَّه تبارك وتعالى إنَّما ذكر الثَّواب، قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾، فيذْكرُ معه لَفْظ التأبيد، وإنَّمَا ذكر عِقَابَ الفُسَّاقِ من أهْلِ الإيمان، فَيذْكرُ مَعَهُ لَفْظ الخُلُودِ، ولم يَذْكُرْ مَعَهُ لفظ التَّأبِيدِ وقوله: ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ﴾ معناه الدعاءُ.
﴿وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم﴾ الجُمْهُور على أنَّ قوله: ﴿ذلك الفوز العظيم﴾ عائِدٌ إلى جُمَلةِ ما تقدَّم من قوله: «لَهُمْ جَنَّاتٌ»، إلى قوله: «ورضُوا عَنْهُ».
قال ابنُ الخطيب: وعِنْدِي أنَّه يُحْتَمَل أنْ يكون مُخْتَصّاً بقوله: ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ ؛ لأنَّه ثَبَتَ عند أربَابِ العُقُولِ، أن جُمْلة الجنَّة بما فِيهَا بالنِّسْبَةِ إلى رضوان الله - تبارك وتعالى - بالنِّسْبَةِ إلى الوُجُودِ، وكيْفَ والجنَّة مَرْغُوبُ الشَّهْوَة، والرِّضْوَان صفةُ الحقِّ، وأيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا!
ثم قال - تبارك وتعالى - مُعَظِّماً لِنَفْسِهِ: ﴿للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
قيل: إنَّ هذا جواب عن سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كأنَّهُ قيل: من يُعْطِيهِمْ ذلك الفَوْز العَظِيم، فقيل: الذي لَهُ مُلْك السمواتِ والأرْضِ.
قال القرطبي: جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر
628
تعالى أن ملك السموات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السموات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده
واعلم: أنَّهُ - تبارك وتعالى - قال: «ومَا فِيهِنَّ» ولم يَقُلْ: مَنْ فيهِنَّ، فَغَلَّبَ غَيْرَ العُقَلاَءِ على العُقَلاَءِ لفائِدَةٍ وهي: التنْبِيهُ على أنَّ كُلَّ المَخْلُوقَاتِ مُسَخَّرُون في قَبْضَةِ قَهْرِهِ وقُدْرَتِهِ وقَضَائِهِ وقدرِه، وهُمْ في ذلك التَّسْخِيرِ كالجَمَادَاتِ الَّتِي لا قُدْرَةَ لَهَا، وكالْبَهَائِمِ الَّتِي لا عَقْلَ لَهَا، فعلْمُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِه كَلاَ عِلْم، وقُدْرَةُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ كَلاَ قُدْرَة.
رُوِي أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ سُورة المائدةِ في خُطْبَتِهِ يَوْمِ حجَّة الوَدَاع، وقال: «يا أيُّهَا النَّاسُ: إنَّ سُورة المائدةِ من آخِرِ القُرْآنِ نُزُولاً، فأحِلُّوا حَلاَلَهَا وحَرِّمُوا حَرَامَهَا».
وقال عَبْدُ الله بنُ عُمَر: أنْزِلَتْ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُورَةُ المَائِدةِ وهُو عَلَى راحِلَتِهِ، فَلمْ تَسْتَطِعْ أن تَحْمِلَهُ حَتَّى نَزَلَ عَنْهَا.
وعن أبيِّ بن كَعْبٍ قال: قال رسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرأ سُورَةَ المائِدةِ أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ يَهُوديٍّ ونَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ في دَارِ الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» واللَّهُ - تبارك وتعالى - أعلمُ بالصَّوَاب.
629
سورة الأنعام
وهي مائة وستون وخمس آيات، وكلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة، وحروفها اثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا. نزلت ب " مكة " [المشرفة] جملة ليلا، معها سبعون ألف ملك، قد سدوا الخافقين لهم، وهل بالتسبيح، والتحميد والتمجيد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظلم [وبحمده الكريم] وخر ساجدا. وروي عنه مرفوعا " من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره ". وقال الكلبي - رحمه الله تعالى -: عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت سورة الأنعام ب " مكة " إلا قوله: ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ [الأنعام: ٩١] إلى آخر ثلاث آيات، وقوله تعالى: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم﴾ [الأنعام: ١٥١] إلى قوله تعالى: " تتقون " فهذه الست آيات مدنيات. وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نزلت علي سورة من القرآن جملة واحدة
3
غير سورة الأنعام " [وما جمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها، ولقد بعث بها إلي مع جبريل - عليه السلام - ومعه خمسون ملكا أو خمسون ألف ملك ترفعها أو تحفها حتى أقروها في صدري كما أقر ماء في الحوض، ولقد أعزني الله بها وإياكم بها عزا لا يذلنا بعده أبدا وبها دحض حجج المشركين وعد من الله لا يخلفه. وعن المنكدر لما نزلت سورة " الأنعام " سبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ". قال الأصوليون: وسبب هذه الفضيلة أنها اشتملت على دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الرفعة]. بسم الله الرحمن الرحيم
4
ثم قال - تبارك وتعالى - مُعَظِّماً لِنَفْسِهِ :﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
قيل : إنَّ هذا جواب عن سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كأنَّهُ قيل : من يُعْطِيهِمْ ذلك الفَوْز العَظِيم، فقيل : الذي لَهُ مُلْك السماواتِ والأرْضِ.
قال القرطبي : جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السماوات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده.
واعلم : أنَّهُ - تبارك وتعالى - قال :" ومَا فِيهِنَّ " ولم يَقُلْ : مَنْ فيهِنَّ، فَغَلَّبَ غَيْرَ العُقَلاَءِ على العُقَلاَءِ لفائِدَةٍ وهي : التنْبِيهُ على أنَّ كُلَّ المَخْلُوقَاتِ مُسَخَّرُون في قَبْضَةِ قَهْرِهِ وقُدْرَتِهِ وقَضَائِهِ وقدرِه، وهُمْ في ذلك التَّسْخِيرِ كالجَمَادَاتِ الَّتِي لا قُدْرَةَ لَهَا، وكالْبَهَائِمِ الَّتِي لا عَقْلَ لَهَا، فعلْمُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِه كَلاَ عِلْم، وقُدْرَةُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ كَلاَ قُدْرَة.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٢٠٩٩ - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُهْ