تفسير سورة سورة الطور من كتاب تفسير القرآن الكريم
.
لمؤلفه
ابن عثيمين
.
المتوفي سنة 1421 هـ
ﰡ
﴿ والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور ﴾ هذه أشياء أقسم الله بها، الأول : الطور وهوالجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فإن الله تعالى كلمه أول ما كلمه على جبل الطور، فكان لهذا الجبل من الشرف والفضل ما سبق به غيره من الجبال، ولهذا أطلق كثير من العلماء أن جبل الطور أفضل الجبال وأشرفها، وعلى هذا يكون أشرف وأفضل من جبل حراء الذي ابتدأ فيه الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا ظاهر إطلاق كثير من العلماء، ولكن في هذا الظاهر نظراً، لأن جبل حراء كُلِّم منه الرسول عليه الصلاة والسلام لكن كلمه جبريل عليه السلام مرسلاً من عند الله، فمنه ابتدأت أفضل الرسالات على أفضل الرسل، وأيضاً حراء داخل الحرم المكي، لأنه من الحرم الذي لا يحل صيده ولا قطع شجره، وبقعة الحرم أفضل البقاع، ويمكن أن يحمل إطلاق كثير من العلماء على هذا، فيقال : إلا جبل حراء
﴿ وكتاب مسطور في رق منشور ﴾ الكتاب المسطور في الرق، اختلف فيه العلماء، وهذا الخلاف ينبني على كلمة ( رق ) هل الرق كل ما يكتب فيه من جلد وورق وعظم وحجر وغير ذلك ؟ أو هو خاص بما يكتب فيه من جلود ونحوها ؟ إن قلنا بالأول صار المراد بالكتاب عدة أشياء، منها اللوح المحفوظ، ومنها الكتب التي بأيدي الملائكة، ومنها القرآن الكريم، ومنها التوراة، فيشمل عدة كتب، وإذا قلنا إن الرق هو الورق وشبهه مما يكتب فيه عادة، فاللوح المحفوظ لا يدخل في هذا، وإنما المراد به إما التوراة، وإما القرآن، فالذين قالوا : إنه التوراة رجحوا قولهم بأنه قرن بالطور، والطور هو الذي كلَّم منه موسى عليه الصلاة والسلام، فكان الكتاب المسطور هو التوراة التي جاء بها موسى، ومن قال : إن المراد به القرآن الكريم رجح ذلك بأن الله ذكر الطور الذي أوحي منه إلى موسى، وذكر الكتاب الذي هو القرآن أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون الله تبارك وتعالى ذكر أشرف الرسالات في بني إسرائيل إيماء بذكر الطور، وذكر أشرف الرسالات التي بعث بها من بني إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيتعين أن يكون المراد بالكتاب المسطور القرآن الكريم ﴿ منشور ﴾ صفة لكتاب، ويحتمل أن تكون صفة لرق، والمعنى واحد، والمراد بالمنشور يعني المفرق الذي يكون بأيدي كل قارىء، وهذا يصدق تماماً على القرآن الكريم، فإنه - ولله الحمد - بين يدي كل قارىء حتى الصغار من المسلمين يقرؤونه.
﴿ والبيت المعمور ﴾ هذا هو الثالث مما أقسم الله به في هذه الآيات، وهو بيت في السماء السابعة يقال له : الضراح، هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه، فبناءً على هذا كم عدد الملائكة ؟ لا يحصيهم إلا الله، من يحصي الأيام ؟ ثم من يحصي سبعين ألفاً كل يوم يدخلون هذا البيت المعمور ولا يعودون إليه.
وقيل : إن المراد بالبيت المعمور بيت الله في الأرض وهو الكعبة ؛ لأنه معمور بالطائفين والعاكفين، والقائمين، والركع السجود، فهل يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعاً ؟ القاعدة في التفسير : أن الآية إذا احتملت معنيين على السواء، وليس بينهما منافاة وجب أن تحمل على كل منهما، لأن المتكلم بها وهو الله - جل وعلا - عالم بما تحتمله من المعاني، وإذا لم يبين أن المراد أحد المعاني فإنه يجب أن تحمل على كل ما تحتمله من المعاني الصحيحة لا المعاني الباطلة، وليس هناك منافاة بين أن يكون المقسم به الكعبة، أو البيت المعمور في السماء، لأن كلا البيتين معظم، ذاك معظم في أهل السماء، وهذا معظم في أهل الأرض، ولا مانع، فالصواب أن الآية شاملة لهذا وهذا، إلا إذا وُجد قرينة ترجح أن المراد به البيت المعمور في السماء
﴿ والسقف المرفوع ﴾ أقسم الله تعالى بالسقف المرفوع وهو السماء، قال الله تعالى :﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ﴾ وقال تعالى :﴿ وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن ءاياتها معرضون ﴾. فالسماء سقف، والسماء مرفوعة، إذن فالسقف المرفوع هو السماء، وسماه الله سقفاً لأنه قد غمر جميع الأرض من جميع الجوانب، كما يغمر السقف الحجرة من جميع الجوانب، وإنما أقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من الآيات العظيمة من نجوم وشمس وقمر، وإحكام وإتقان، قال الله عز وجل :﴿ الذي خلق سبع سماوات طباقًا ما ترى في خلق الرحمن من تفوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ﴾. يعني مرة بعد مرة ﴿ ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير ﴾ وأخبر أنه ليست للسماء فروج، وليس فيها تشقق وليس فيها عيب، وليس فيها تصدُّع، ولا تبلى على طول المدة، فهي جديرة بأن يقسم الله بها
﴿ والبحر المسجور ﴾ كلمة البحر قيل : إن المراد به البحر الذي عليه عرش الرحمن - عز وجل - كما قال تعالى، ﴿ وكان عرشه على الماء ﴾، وقيل : المراد به البحر الذي في الأرض لأنه المشاهد المعلوم الذي فيه من آيات الله ما يبهر العقول، والصحيح أن المراد به بحر الأرض، لأن ( ال ) في البحر للعهد الذهني، يعني البحر المعهود الذي تعرفونه، فأقسم الله به لما فيه من آيات الله العظيمة من أسماك وأمواج وغير هذا مما نعلمه وما لا نعلمه، ومن أعظم ما فيه من آيات الله ما أشار إليه تعالى في قوله :﴿ المسجور ﴾ يعني الممنوع، ومنه سجرت الكلب يعني ربطته حتى لا يهرب، فالبحر ممنوع بقدرة الله عز وجل، إننا نعلم جميعاً أن الأرض كروية، وهذا البحر لو نظرنا إليه بمقتضى الطبيعة لكان يفيض على الأرض، لأنه لا جدران تمنع، والأرض كروية مثل الكرة فلو نظرنا إلى هذا البحر بمقتضى الطبيعة، لقلنا : لابد أن يفيض على الأرض فيغرقها، ولكن الله تبارك وتعالى أمسكه بقدرته سبحانه وتعالى، فهو مسجور، أي : ممنوع من أن يفيض على الأرض فيغرق أهلها، وهذه آية من آيات الله، فلو صب فوق الكرة ماء، لذهب يغمرها يميناً وشمالاً، لكن هذا البحر لا يمكن أن يفيض على الأرض بقدرة الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى الحكمة تأتي أيام المد والجزر، نفس البحر يمتد امتداداً عظيماً لعدة أمتار وربما أميال، ثم ينحسر، مَن الذي مده ؟ ولو شاء لبقي ممتداً حتى يغرق الأرض، ومن الذي رده ؟ هو الله، ولهذا كان هذا البحر جديراً بأن يقسم الله به، وفي البحر آيات عظيمة، يقال : إنه ما من شيء على البر من حيوان وأشجار إلا وله نظير في البحر بل أزيد، لأن البحر بالنسبة لليابس يمثل أكثر من سبعين في المائة، وفيه أشياء لا نرى لها نظيراً في البر، وهذا من آيات الله عز وجل، وأعظم آية في البحر هو أنه مسجور، أي ممنوع من أن يفيض على الأرض فيغرق أهلها.
وقيل : المراد بالمسجور الذي سيسجر، أي : يوقد كما قال الله تعالى :﴿ وإذا البحار سجرت ﴾. أي : أوقدت. وهذا يكون يوم القيامة، هذا الماء الذي نشاهده الآن والذي لو سقطت فيه جمرة، أو مر على جمرة لأطفأها، يوم القيامة يكون ناراً يسجر، وهذا من آيات الله - عز وجل - والمراد به المعنيان جميعاً ؛ لأنه لا منافاة بين هذا وهذا، فكلاهما من آيات الله - عز وجل - أي سواء قلنا المسجور الممنوع من أن يفيض على الأرض، أو المسجور الذي سيسجر أي يوقد، فكل ذلك من آيات الله،
﴿ إن عذاب ربك لواقع ﴾ هذا هو جواب القسم، وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات : القسم بخمسة أشياء، وإذا كان قسماً بخمسة أشياء صار كأنه أقسم عليها خمس مرات، والثاني : بأن، والثالث : باللام، ﴿ إن عذاب ربك لواقع ﴾ يعني لابد أن يقع عذاب الله الذي وعد به، هذه والله جملة عظيمة مؤثرة، لكنها لا تؤثر إلا على قلب لين كلين الزبد أو أشد، أما القلب القاسي فلا يهتم بها، تمر عليه وكأنه حجارة، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآية يمرض حتى يعُاد، يمرض من شدة ما يقع على قلبه من التأثر حتى يُعاد، فإذا كان واقعاً وليس له دافع أليس الجدير بنا أن نخاف ؟ بلى والله، هذا هو الجدير.
وقوله :﴿ إن عذاب ربك لواقع ﴾ يعني لابد أن يقع، ولكن هل هذا التأكيد بالنسبة لعذاب المؤمنين أو لعذاب الكافرين ؟ لننظر قال الله تعالى :﴿ سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج ﴾. فضم هذه الآية إلى الآية التي في الطور تجد أن قوله :﴿ إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ﴾. على الكافرين، فعذاب الله على الكافرين ليس له دافع، لا أحد يدفعه، لا قبل وقوعه ولا بعد وقوعه، ولهذا لا تنفعهم الشفاعة فيرفع عنهم العذاب، أما عذاب الله للمؤمن المذنب فإن الأصل أنه واقع، كل ذنب توعد الله عليه بالعذاب فالأصل أنه واقع، لكنه مع ذلك قد يرفع بفضل من الله - عز وجل - وقد يرفع بالشفاعة، وقد يرفع بأعمال صالحة تغمر الأعمال السيئة، أما ترى أن الله يقول :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾. ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه » فيرتفع عنه العذاب. وعلى هذا نقول : عذاب الله واقع على الكافرين لا محالة، ولا دافع له، أما على عصاة المؤمنين فإن الأصل الوقوع، وقد أنذر الله العباد وخوَّفهم، وبيَّن لهم، لكن مع ذلك قد يرتفع بأسباب متعددة، ﴿ إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ﴾، ( ما ) نافية، و( دافع ) مبتدأ مؤخر، دخلت عليها ( من ) الزائدة للتوكيد، يعني ما من أحد ولو عظمت منزلته وقوته يدفع أو يرفع عذاب الله - عز وجل - لأن ( دافع ) هنا تشمل المنع قبل الوقوع، والرفع بعد الوقوع، لا أحد يدفع عذاب الله ولا يمنعه عن أن ينزل ولا يرفعه إذا نزل، وإنما ذلك إلى الله وحده، نسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه، وأن يغفر لنا ما سلف من ذنوبنا وما حضر، إنه على كل شيء قدير.
﴿ يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً فويل يومئذ للمكذبين ﴾ هذه الآية :﴿ يوم تمور السماء موراً ﴾ متعلقة بقوله :﴿ إن عذاب ربك لواقع ﴾ يعني أن العذاب يقع في ذلك اليوم، قوله :﴿ يوم تمور السماء موراً ﴾ قد يظن الظانّ أن المصدر هنا ( موراً ) لمجرد التوكيد، ولكنه ليس كذلك، بل هو لبيان تعظيم هذا المور، والمور بمعنى الاضطراب، يعني أن السماء تضطرب وتتشقق، وتتفتح وتختلف عما هي عليه اليوم، كما قال تعالى :﴿ إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت ﴾. ولا إنسان يتصور أو يعلم حقيقة ذلك اليوم، ولكننا نعلم المعنى بما أخبر الله به عنه، أما الحقيقة فهي شيء فوق ما نتصوره الآن.
﴿ وتسير الجبال سيراً ﴾ أي : تسير سيراً عظيماً، وذلك أن الجبال تكون هباءً منثوراً، وتتطاير كما تتطاير الغيوم، وتسير سيراً عظيماً هائلاً، لشدة هول ذلك اليوم، وهذه الآية تدل على أن قول الله تبارك وتعالى في سورة النمل :﴿ وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون ﴾. فإن هذه الآية هي نفس هذه الآية التي في الطور من حيث المعنى، فيكون قوله تبارك وتعالى :﴿ وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب ﴾ يعني يوم القيامة ولا شك، ومن فسرها بأن ذلك في الدنيا وأنه دليل على أن الأرض تدور فقد حرَّف الكَلم عن مواضعه، وقال على الله ما لا يعلم، وتفسير القرآن ليس بالأمر الهين، لأن تفسير القرآن يعني أنك تشهد على أن الله أراد به كذا وكذا، فلابد أن يكون هناك دليل : إما من القرآن نفسه، وإما من السنة، وإما من تفسير الصحابة - رضي الله عنهم - أما أن يحول الإنسان القرآن على المعنى الذي يراه بعقله أو برأيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ». والمهم أن تفسير قوله :﴿ وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب ﴾ يراد به ما في الدنيا، تفسير باطل لا يجوز الاعتماد عليه، ولا المعول عليه، أما كون الأرض تدور أو لا تدور، فهذا يعلم من دليل آخر، إما بحسب الواقع، وإما بالقرآن، وإما بالسنة، ولا يجوز أبداً أن نحمل القرآن معاني لا يدل عليها من أجل أن نؤيد نظرية أو أمراً واقعاً، لكنه لا يدل عليه اللفظ، لأن هذا أمر خطير جداً.
قال الله تعالى :﴿ فويل يومئذ للمكذبين ﴾ ويل كلمة وعيد وتهديد، وإن كان قد روي أنها واد في جهنم، لكن الصواب أنها كلمة تهديد ووعيد، ﴿ فويل يومئذ للمكذبين ﴾ أي : المكذبين لله ورسوله، الجاحدين لما قامت الأدلة على ثبوته فإنهم سيجدون في ذلك اليوم من العذاب والنكال ما لا يخطر لهم على بال
﴿ الذين هم في خوض يلعبون ﴾ أي في الدنيا ﴿ في خوض ﴾ أي : في كلام باطل ﴿ يلعبون ﴾ أي : لا يقولون الجد ولا يعملون بالجد، وإنما أعمالهم كلها لعب ولهو، ولذلك تجد أعمارهم ليس فيها بركة، تمر بهم الليالي والأيام لا يستفيدون شيئا
ً ﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ﴾ هذه متعلقة بما سبق أيضاً، ويُدَعُّون بمعنى يدفعون بعنف وشدة إلى نار جهنم دعًّا ؛ لأنهم - والعياذ بالله - تمثل لهم النار كأنها سراب، أي كأنها حوض نهر، وهم على أشد ما يكونوا من العطش، فيذهبون إليها سراعاً، يريدون أن يشربوا منها حتى يزول عنهم العطش، فإذا بلغوها وإذا هي النار - والعياذ بالله - فكأنهم - والله أعلم - يتوقفون لئلا يتساقطوا فيها، فيدعُّون إليها دعًّا، أي يُدفعون بعنف وشدة فيتساقطون فيها - أجارنا الله من ذلك
ويقال لهم :﴿ هذه النار التى كنتم بها تكذبون ﴾ كانوا في الدنيا يقولون : لا بعث ولا جزاء، ولا عقوبة ولا نار، وإنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع ولا بعث، فيقال لهم توبيخاً على هذا الإنكار :﴿ هذه النار التى كنتم بها تكذبون ﴾ فما أشد حسرتهم إذا وُبِّخوا على أمر كان في إمكانهم أن يتخلوا عنه، ولكنهم الآن لا يستطيعون لذلك سبيلاً، يقولون إذا وقفوا على النار :﴿ ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ﴾. قال الله تعالى :﴿ بل بدالهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ﴾. أي : حتى لو ردوا إلى الدنيا عادوا وكذبوا، فلن يستقيموا على أمر الله، لكن يقولون هذا تمنياً.
﴿ أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ﴾ يعني أفهذا الذي ترون اليوم سحر كما كنتم تقولون ذلك في الدنيا، حيث يقولون : إن ما جاءت به الرسل سحر، ويصفون الرسول بأنه ساحر، فيقال : أسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، يعني لا تبصرون بعين البصيرة، بل أنتم عمي عن الحق - والعياذ بالله –
﴿ اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون ﴾ أي : احترقوا بها، والأمر هنا للإهانة، كقوله تعالى :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون ﴾. فانظر إلى هؤلاء كيف تتهكم بهم الملائكة وتذلهم وتخزيهم - والعياذ بالله - وتهينهم، ﴿ اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ﴾ يعني أن الصبر وعدمه سواء عليكم، ومعنى هذا أنه لن يفرج عنكم، سواء صبرتم أم لم تصبروا، مع أنه في الدنيا إذا أصيب الإنسان بشيء وصبر فإنه يفرج عنه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :«واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ». ﴿ إنما تجزون ما كنتم تعملون ﴾ يعني ما تجزون إلا ما عملتم فلم تُظلموا شيئاً،
ثم ذكر الله تعالى جزاء المؤمنين فقال :﴿ إن المتقين في جنات ونعيم ﴾ هذه الجملة خبرية مؤكدة بإن، والتوكيد أسلوب من أساليب اللغة العربية، مستعمل عند العرب، وهذا القرآن نزل بلغة العرب، وإلا ففي الواقع أن خبر الله - عز وجل - لا يحتاج إلى توكيد ؛ لأنه أصدق القول، فالرب - عز وجل - إذا أخبر بخبر فإنه لا يحتاج إلى أن يؤكد، لأن خبر الله صدق، لكن لما كان القرآن العظيم نزل بلسان عربي صار جارياً على ما كان يعرفه العرب في لغتهم، فهنا أكد الله - عز وجل - هذه الجملة :﴿ إن المتقين في جنات ونعيم ﴾ والمتقون هم الذين قاموا بطاعة الله امتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه، هذه هي التقوى، فالتقوى طاعة الله في امتثال أمره واجتناب نهيه، فالذي يصلي امتثالاً لأمر الله نقول : هو متق، والذي يدع الزنا نقول : هو متقٍ بترك الزنا، وإنما سمي ذلك تقوى لأنه وقاية من عذاب الله، فإن الإنسان إذا قام بطاعة الله فقد اتخذ وقاية من عذاب الله - عز وجل - هؤلاء المتقون يقول الله - عز وجل - :﴿ في جنات ونعيم ﴾، وجنات جمع جنة، وهي الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين في الآخرة، بدليل قول الله تبارك وتعالى :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأَرض أعدت للمتقين ﴾ وإذا قلنا : إن الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى لعباده في الدار الآخرة، فهل يمكن أن تكون في الدنيا ؟ نقول : أما بالنسبة لدخول الجنة التي هي الجنة فهذا لا يمكن في الدنيا، أما بالنسبة لكون الإنسان يأتيه من نعيم الجنة ما يأتيه، فهذا يمكن، وذلك في القبر إذا سُئل الإنسان عن ربه، ودينه، ونبيه، فأجاب الصواب، فإنه يفرش له فراش من الجنة، ويُفتح له باب إلى الجنة، ويُفسح له في قبره مُدَّ البصر، وجمعت الجنات في الآية لأنها أنواع، ذكر الله في سورة الرحمن أربعة أنواع ﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾. ثم قال :﴿ ومن دونهما جنتان ﴾. هذه الجنان الأربع تختلف بما جاء في وصفها في سورة الرحمن، ﴿ إن المتقين في جنات ونعيم ﴾ أي نعيم البدن، ونعيم القلب، فهم في سرور دائم، وهم في صحة دائمة، وهم في حياة دائمة، فجميع أنواع النعيم كاملة لهم، نسأل الله أن يجعلنا منهم
﴿ فاكهين بمآ ءاتهم ربهم ﴾، الفاكه هو المسرور، كما في قوله تعالى :﴿ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ﴾. أي : مسرورين ﴿ بمآ ءاتهم ربهم ﴾ أي : بما أعطاهم ربهم من النعيم، ﴿ ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ﴾ فحصلوا على السلامة من الشرور بوقاية الجحيم، وعلى تمام السرور في جنات النعيم
﴿ كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون ﴾ ( كلوا واشربوا ) فعل أمر، وهذا الأمر ليس تكليفاً وإنما الأمر هنا للتكريم، أي يقال لهم : كلوا من كل ما في الجنة من النعيم ﴿ فيهما من كل فاكهة زوجان ﴾. ﴿ فيهما فاكهة ونخل ورمان ﴾. وفيها من كل النعيم، ﴿ واشربوا ﴾ مما فيها من الأنهار، وأنهار الجنة ذكرها الله تعالى أربعة في سورة القتال ﴿ مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم ﴾. هذه أربعة أنهار : من ماء غير آسن، أي : غير متغير، والمياه في الدنيا إذا لم يأتها ما يمدها وبقيت راكدة لابد أن تتغير فتكون آسنة، وماء الجنة لا يتغير، غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، واللبن في الدنيا إذا أبقي يتغير ويفسد، لكن في الآخرة لا يتغير، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وخمر الدنيا فيه رائحة كريهة ثم أنه يقلب العاقل إلى مجنون، وفيه أيضاً الصداع، وفيه فساد المعدة، لكنه في الجنة أنهار من خمر لذة للشاربين، وقد قال الله تعالى في سورة الصافات :﴿ لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ﴾. والرابع ﴿ وأنهار من عسل مصفى ﴾ ﴿ هنيئاً بما كنتم تعملون ﴾ الهنيء هو الذي لا يكون له عاقبة سيئة، ولا تبعة من تجاوز، أو إسراف ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ أي : بسبب ما كنتم تعملون، ( فالباء ) هنا للسببية، وليست الباء للعوض، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :«لن يدخل الجنة أحد بعمله ».
فإن قيل : إن الله تعالى قال :﴿ كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون ﴾، فجعل الله تعالى ذلك بسبب العمل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :«لن يدخل الجنة أحد بعمله » مع أن الله يقول :﴿ بما كنتم تعملون ﴾ ؟
والجواب على هذا الإشكال أن يقال : الباء تأتي للسببية، وتأتي للبدلية، فإذا قيل : دخل الرجل الجنة بعمله، فالمعنى السببية، وإذا قال : لن يدخل الجنة أحد بعمله، فالمعنى البدلية، وأضرب مثلاً يبين هذا : بعتك الثوب بدرهم، فالباء للبدلية، لأن الدرهم صار عوضاً عن الثوب، وإذا قلت : أدبت الولد بعبثه، هذه للسببية، إذن كلنا لن يدخل الجنة بعمله ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو حاسبنا على عملنا ما قابل عملنا نعمة من نعم الله، نعمة واحدة. فالنفس الآن الذي هو من ضرورة الحياة يخرج منك ويدخل بدون تعب، وبدون مشقة، وكم يتنفس الإنسان في الدقيقة ؟ ! فلو أننا حوسبنا على أعمالنا بالمعاوضة والمبادلة لكانت نعمة واحدة تستوعب جميع العمل، ونحن الآن لا نحس بنعمة النفس لكن لو أصيب أحد منا بكتم النفس لوجد أن النفس من أكبر نعم الله، لذلك نقول : إن الباء في قوله :﴿ بما كنتم تعملون ﴾ للسببية وليست للبدلية، وفي قوله :﴿ بما كنتم تعملون ﴾ شمول لكل العمل : الجوارح، والقلب، واللسان. فالجوارح : كالأفعال، كالركوع، والسجود. والأقوال : كالأذكار. والقلوب : كالخوف، والرجاء، والتوكل وما أشبه ذلك، فكل هذه تسمى أعمالنا.
﴿ متكئين على سرر ﴾ متكئين حال، أي : حال كونهم متكئين، والمتكىء تدل هيئته على أنه في سرور وانشراح وطمأنينة، لأن الاتكاء يدل على ذلك، والسرر جمع سرير، وهي الكراسي الفخمة المهيئة أحسن تهيئة للجالس عليها، ﴿ مصفوفة ﴾ أي مصفوف بعضها إلى بعض، يصفها الخدم والولدان، ﴿ وزوجنهم بحور عين ﴾، أي : قرناهم بحور عين، والحور جمع حوراء، والعين جمع عيناء، والأصل الحور هو البياض، وأما العيناء فهي التي كانت جميلة العين في سوادها وبياضها، فهن حسان الوجوه، حسان الأعين.
ثم قال - عز وجل –﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمن ألحقنا بهم ذريتهم ﴾ أي : الذين آمنوا واتبعتهم الذرية بالإيمان، والذرية التي يكون إيمانها تبعاً هي الذرية الصغار، فيقول الله -عز وجل - ﴿ ألحقنا بهم ذريتهم ﴾ أي : جعلنا ذريتهم تلحقهم في درجاتهم، وأما الكبار الذين تزوجوا فهم مستقلون بأنفسهم في درجاتهم في الجنة، لا يلحقون بآبائهم، لأن لهم ذرية فهم في مقرهم، أما الذرية الصغار التابعون لآبائهم فإنهم يرقون إلى آبائهم، وهذه الترقية لا تستلزم النقص من ثواب ودرجات الآباء، ولهذا قال :﴿ ومآ ألتنهم من عملهم من شيء ﴾ أي : نقصناهم، يعني أن ذريتهم تلحق بهم، ولا يقال : أخصم من درجات الآباء بقدر ما رفعت من درجات الذرية، ﴿ كل امرىء بما كسب رهين ﴾ هذه قاعدة عامة في جميع العاملين أن كل واحد فإنه رهين بعمله لا ينقص منه شيء، أما الزيادة فهي فضل من الله تبارك وتعالى على من شاء من عباده
﴿ وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون ﴾ أمدهم الله تعالى، أي : أعطاهم عطاء مستمراً إلى الأمد وإلى الأبد بفاكهة وهي ما يتفكه به من المأكولات، ﴿ ولحم مما يشتهون ﴾ أي : مما يشتهونه ويستلذونه، وقد بين الله تبارك وتعالى نوع هذا اللحم بأنه لحم طير، وهو أشهى ما يكون من اللحم وأبرأه وأمرأه
﴿ يتنزعون فيها كأساً ﴾ أي : أن أهل الجنة ينازع بعضهم بعضاً على سبيل المداعبة، وعلى سبيل الأنس والانشراح ﴿ كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم ﴾ والمراد بها كأس الخمر، ومعنى ﴿ لا لغو فيها ولا تأثيم ﴾ أنه لا يحصل بها ما يحصل من خمر الدنيا، فإن خمر الدنيا يحصل بها السكر والهذيان، ولكن خمر الآخرة ليس فيها لغو ولا تأثيم، أي : لا يلغو بعضهم على بعض، ولا يتكلمون بالهذيان، ولا يعتدي بعضهم على بعض
﴿ ويطوف عليهم ﴾ أي : يتردد على أهل الجنة وهم على سررهم متكئين ﴿ غلمان لهم ﴾ أي : غلمان مهيئون لهم في الخدمة التامة المريحة ﴿ كأنهم ﴾ أي : الغلمان ﴿ لؤلؤ مكنون ﴾ أي : محفوظ عن الرياح وعن الغبار وعن غير ذلك مما يفسده،
﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ أي صار بعضهم يسائل بعضاً، لكنه على وجه الأدب يتكلم معه وهو مقابل له لوجهه فلا يصعر خده له ولا يستدبره، بل يتكلم معه بأدب ومقابلة تامة
﴿ قالوا ﴾ أي : قال بعضهم لبعض :﴿ إنا كنا قبل ﴾ أي : في الدنيا ﴿ في أهلنا مشفقين ﴾ أي خائفين من عذاب الله
﴿ فمن الله علينا ﴾ أي : أنعم علينا بنعمة عظيمة، ﴿ ووقانا عذاب السموم ﴾ أي : عذاب النار
﴿ إنا كنا من قبل ﴾ أي : قبل أن نصل إلى هذا المقر، وذلك في الدنيا ﴿ ندعوه ﴾ أي : نعبده ونسأله، لأن الدعاء يطلق على معنيين : على العبادة، وعلى السؤال، فمن إطلاقه على العبادة قول الله تبارك وتعالى :﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين ﴾. وأما الدعاء بمعنى السؤال ففي قوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون ﴾. فقولهم :﴿ إنا كنا من قبل ندعوه ﴾ يشمل دعاء العبادة كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج، وبر الوالدين وصلة الأرحام، كل هذا دعاء، وإن كان هو عبادة، فلو سألت الداعي لماذا تعبد الله، ولو سألت العابد لماذا تعبد الله ؟ لقال : أرجو رحمته وأخاف عذابه، فتكون هذه العبادة بمعنى الدعاء، كذلك ندعوه دعاء مسألة، لا يسألون غير الله ولا يلجئون إلا إلى الله، لأنهم يعلمون أنهم مفتقرون إليه، وأنه هو القادر على كل شيء ﴿ إنه هو البر الرحيم ﴾ ( البر ) بمعنى الواسع الإحسان والرحمة، ومن ذلك البرية، للمكان الخالي من الأبنية، فالمعنى أنه جل وعلا واسع الإحسان والعطاء والجود ( الرحيم ) أي ذو الرحمة البالغة، يرحم بها من يشاء من عباده تبارك وتعالى، وفي هذه الآيات بيان نعيم أهل الجنة، وفيها أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر عذاب أهل النار ذكر نعيم أهل الجنة، لأن هذا القرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، إذا ذكر فيه الخير ذكر فيه الشر، وإذا ذكر فيه نعيم المتقين ذكر فيه جحيم الكافرين، وهكذا حتى يكون قارىء القرآن بين الخوف والرجاء، إن قرأ آيات النعيم رجا، وإن قرأ آيات العذاب خاف، فيعبد الله تبارك وتعالى بهذا وهذا، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الجنات الناجين من الدركات، إنه على كل شيء قدير.
﴿ فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ﴾، الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمذكر محذوف، والتقدير : ذكر الناس، أو إن شئت فقل : ذكر من أرسلت إليهم من الجن والإنس، ﴿ فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ﴾ هذا نفي لما ادعاه المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن أو مجنون، قال الله تعالى :﴿ فذكر فمآ أنت بنعمة ربك ﴾ أي بإنعام ربك عليك بما أنزل عليك، من الوحي لست ﴿ بكاهن ولا مجنون ﴾، والكاهن هو الذي يخبر عن الغيبيات في المستقبل، وكانت الكهانة في الجاهلية مشهورة، يكون للإنسان رئي من الجن يصحبه ويخدمه، ثم يصعد الجني إلى السماء يستمع ما يقال في السماء، وينزل به على هذا الكاهن، فيكون هذا علم غيب عن أهل الأرض، لكن الكاهن يزيد عليه أشياء كثيرة يتخرصها، فإذا وقع ما سمعه من السماء صار عظيماً في قومه، لأنه أخبر عن شيء مستقبل فوقع، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جاء بالوحي رده المشركون وكذبوه، وقالوا : إنما جاء به محمد من الكهانة، لأن الكهان يخبرون عن الشيء فيقع، ولأن الكهان أيضاً يأتون بكلام مسجوع يشبه القرآن، والقرآن آيات مفصلة، أتى بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في كلام حمل بن النابغة الذي قال :( يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«إنما هو من إخوان الكهان » من أجل سجعه الذي سجع، فهم يقولون : إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاهن، فنفى الله ذلك، ثم قالوا : إنه مجنون يأتي بما لا يعرف، فكذبهم الله فقال :﴿ فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ﴾ هذه الجملة منفية مؤكدة بالباء، الباء الزائدة إعراباً، المفيدة معنى، وأصلها ( فما أنت بنعمة ربك كاهناً ولا مجنوناً ) لكن زيدت الباء توكيداً للنفي،
ثم قال الله تعالى :﴿ أم يقولون شاعر ﴾ يعني بل أيقولون، و( أم ) هذه تسمى عند المعربين منقطعة، يعني لا عاطفة، لأن ( أم ) تأتي عاطفة وتأتي منقطعة، فهنا منقطعة، والتقدير ( بل أيقولون شاعر ؟ ) والاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار عليهم، والشاعر هو الذي يأتي بكلام مقفى ويتضمن شعره أحياناً حكماً، ولهذا جاء في الحديث :«إن من البيان لسحراً » «وإن من الشعر لحكمة » فيقولون : محمد شاعر ﴿ نتربص به ﴾ أي ننتظر به ﴿ ريب المنون ﴾ أي : حوادث الدهر وقوارعه، فيهلك كما هلك الشعراء من قبله، ولا يكون له أثر، فانظر - والعياذ بالله - كيف يترقبون موت الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون : هذا شاعر من جنس الشعراء يهلك وينتهي أمره، وقوله :﴿ ريب المنون ﴾، قيل : إن المنون هو الدهر، وقيل : إن المنون هو الموت، وهما متلازمان، والمراد بذلك حوادث الدهر المهلكة المبيدة.
﴿ قل ﴾ في جوابهم ﴿ تربصوا ﴾ والأمر هنا للتهديد والتحدي أيضاً، تربصوا بهذا الشاعر ريب المنون، وانظروا هل يموت وتموت دعوته، أو أنكم أنتم تموتون وتموت معارضتكم، ﴿ فإني معكم من المتربصين ﴾ يعني فأنا منتظر أيضاً، انتظروا أنتم، وأنا أنتظر لمن تكون العاقبة، وصارت العاقبة والحمد لله للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم،
﴿ أم تأمرهم ﴾ أم هنا نقول : إنها منقطعة، وأم المنقطعة تقدر ببل، والتقدير : بل أتأمرهم ؟ وهذا انتقال من الأول إلى الثاني ﴿ أم تأمرهم أحلمهم بهذآ ﴾ فيقولون : إنه مجنون إنه كاهن، إنه شاعر، هل عقولهم تأمرهم بهذا ؟ الجواب :﴿ أم تأمرهم أحلمهم بهذآ ﴾ أي بل لا تأمرهم عقولهم بهذا، وكثير منهم يعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، لكن غلبتهم الكبرياء - والعياذ بالله - فأنكروا وكذبوا ولهذا قال :﴿ أم هم قوم طاغون ﴾ أي : بل هم قوم طاغون معتدون ظالمون، وأصل الطغيان مجاوزة الحد، كما في قوله تعالى :﴿ إنا لما طغا الماء ﴾ أي : ازداد وارتفع عن عادته ﴿ حملناكم في الجارية ﴾ بل هم قوم طاغون.
﴿ أم يقولون تقوله ﴾ أم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة، والمعنى بل أيقولون تقوله أي : اختلقه وكذب به، وهذاقسم منهم، قالوا : محمد عليه الصلاة والسلام تقوَّل هذا القرآن واختلقه من عنده، وبعضهم يقولون : إنما يعلمه بشر ﴿ بل لا يؤمنون ﴾ يعني بل هم لا يؤمنون، ولو آمنوا لعلموا أن القرآن لا يمكن أن يتقوَّله بشر، لأن كلام الله عز وجل لا يشبهه أي كلام.
ثم تحداهم فقال :﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾ يعني إذا كنت أنت تقوَّلته فأنت مثلهم بشر تتكلم كما يتكلمون، وتخطب كما يخطبون، وتقول كما يقولون، فإذا كنت متقوِّلاً له وهو من عندك فليأتوا بحديث مثله، لأن البشر يمكن أن يأتي بكلام يشبه كلام البشر الآخر، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم تقوَّله فهاتوا مثله ﴿ فليأتوا ﴾، اللام هنا للأمر، والمقصود به التحدي والتعجيز، ﴿ إن كانوا صادقين ﴾، وهذا غاية التحدي، فعجزوا وما استطاعوا أن يأتوا بحديث مثله، مع أنهم أمراء البلاغة، وسلاطين الفصاحة، لكن عجزوا، فدل عجزهم على أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من كلام الله - عز وجل - ولهذا قال :﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾ ومع قوة المعارضة وقوة البلاغة والفصاحة عجزوا أن يأتوا بحديث مثله فما استطاعوا، فدل ذلك على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتقوله، ولن يستطيع أن يأتي بمثله، وفي قوله :﴿ فليأتوا بحديث مثله ﴾ كلمة ( حديث ) نكرة، والنكرة تدل على الإطلاق، لكن جاء في آية أخرى أن الله قال :﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾. ﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾. وجاء في آية أخرى الإخبار بأنه لن يستطيع أحد أن يعارض القرآن، فقال تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ﴾. فتبين بطلان قولهم : إنه تقوَّله ؛ لأن الله تحداهم أن يأتوا بمثله، إن كانوا صادقين في دعواهم أنك تقوَّلته فليأتوا بحديث مثله ولكنهم عجزوا.
ثم قال الله تعالى مستدلاً بربوبيته على ألوهيته قال :﴿ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ﴾ بمعنى بل، والهمزة ( بل أخلقوا من غير شيء ) أي : من غير خالق، أم هم الخالقون، والجواب : لا خلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون، أما كونهم لم يخلقوا من غير خالق، فلأن القاعدة العقلية الحسية التي أجمع عليها العقلاء أن كل محدث لابد له من محدث، فإذا كان كل محدث لابد له من محدث، فإذا نظرنا في أنفسنا فنحن حادثون قال الله تعالى :﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ﴾. فالواحد منا الذي له عشرون سنة، هو قبل اثنتين وعشرين سنة ليس شيئاً مذكوراً، ولا يعرف ولا يدرى عنه، إذن نحن حادثون، وكل حادث لابد له من مُحدث، فهل أنتم خلقتم بغير محدث ؟ الجواب : لا، وهذا جواب عقلي لا ينكر، أم هم الخالقون لأنفسهم ؟ الجواب : لا، لأنهم قبل أن يوجدوا عدم، وكيف يمكن للعدم أن يخلق ؟ لا يمكن هذا، فإذا تبين أنهم لم يخلقوا من غير خالق، وأنهم لم يخلقوا أنفسهم تعين أن يكون لهم خالق قادر على إيجادهم وهو الله عز وجل، ولا يستطيع أحد منهم أن يقول : إن الذي خلقني أبي أو أمي، فإذا لم يكن كذلك تعين أن يكون لهم خالق وهو الله تبارك وتعالى، وإذا كان لهم خالق وهم مخلوقون مربوبون مدبرون، فالواجب أن يخضعوا لهذا الخالق، وأن يعبدوه وحده، كما أنه هو الخالق وحده، وهذه الآية سمعها جبير بن مطعم وكان قد قدم إلى المدينة وهو مشرك، على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الفداء لأسرى بدر، وغزوة بدر انتصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم والحمد لله - وقتلوا من قريش سبعين رجلاً، وأسروا سبعين رجلاً، وجاءوا بهم إلى المدينة، وانقسموا إلى أقسام، منهم من أطلقه النبي عليه الصلاة والسلام، ومنّ عليه، ومنهم من فداه بمال، ومنهم من فداه بأسير ومنهم من فداه بتعليم أهل المدينة الكتابة، وجبير بن مطعم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب فداء أسرى بدر لأنه من صميم قريش، والأسرى أيضاً من قريش، ويظهر لي - والله أعلم - أن جبيراً سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم :«لو كان المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له ». وذلك أن مطعم بن عدي لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الطائف أجاره، وصار يمشي معه من حين دخل مكة إلى أن وصل إلى الكعبة، وأمر أبناءه وهم متقلدي السيوف أن يقف كل واحد على ركن من أركان الكعبة حتى لا يعتدي على الرسول أحد، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : طف. واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف فأقبل أبو سفيان إلى مطعم، فقال : أمجير أم تابع ؟ قال : لا بل مجير. قال : إذاً لا تُخْفَر. فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه. فهو أحسن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام وهو أوفى الناس عليه الصلاة والسلام بكرمه قال :«لو كان المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى » أي : الأسرى، ووصفهم بأنهم نتنى ؛ لأن المشركين نجس، والنتن هو الرائحة الكريهة «في هؤلاء النتنى لتركتهم له » وجبير ابنه فلعله - والله أعلم - سمع بهذه المقالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب فداء الأسرى، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بسورة الطور ولما بلغ هذه الآية :﴿ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ﴾ قال جبير :( كاد قلبي يطير ) لأن هذه حجة ملزمة لا يمكن أن يتخلص منها أحد، قال :( ووقر الإيمان في قلبي ) يعني معناه أنه دخل الإيمان في قلبه، سبحان الله، فانظر تأثير القرآن الكريم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما دعاه في تلك الساعة، لكن سمع هذه الآية العجيبة العظيمة، فكاد قلبه يطير، ﴿ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ﴾ والجواب بكل سهولة : لا، في الأمرين، لا خلقوا من غير شيء، ولا هم الخالقون، بل لهم خالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يمكن أن ينكر هاتين المقدمتين كلها حجة قطعية تدمغ كل كافر، يعني إذا قال : نعم لي خالق خلقني قلنا : إذن لماذا لا تعبده، لأنك عبد له مملوك له
﴿ أم خلقوا السماوات والأَرض ﴾ انتقل من الأدنى إلى الأعلى خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، فانتقل من الأدنى إلى الأعلى ﴿ أم خلقوا السماوات والأَرض ﴾ والجواب : لا، لأن أم هنا مثل سابقاتها، بل أخلقوا السموات والأرض، والجواب : لا، وهم يقرون بهذا ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأَرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ﴾. ولكن مع ذلك لا يعترفون بالرسالة، ولهذا قال :﴿ بل لا يوقنون ﴾، يعني ليس عندهم إيقان في خلق السموات والأرض أن الذي خلقهم هو الله، لأنه لو كان عندهم يقين لحملهم هذا اليقين على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار برسالته. وهذه الإلزامات العظيمة التي ألزم الله تعالى بها قريشاً كل هذا من أجل إقامة الحجة عليهم، ولو شاء سبحانه وتعالى لعاقبهم بدون أن تكون هذه المجادلة وهذه المناقشة.
﴿ أم عندهم خزآئن ربك أم هم المسيطرون ﴾ أم هنا بمعنى بل، والهمزة، يعني بل أعندهم خزائن الله، يعني خزائن رزق الله - عز وجل - حتى يمنعوا من شاءوا، ويعطوا من شاءوا، والجواب : ليس عندهم ذلك، ولا يملكون شيئاً من هذا، بل الذي يملك الرزق عطاء ومنعاً هو الله تبارك وتعالى، ولما نفى أن يكون عندهم خزائن الله، قال :﴿ أم هم المسيطرون ﴾ يعني بل أهم الذين لهم السيطرة والغلبة والسلطان والكلمة ؟ والجواب : لا، فإذا لم يكن لهم شيء من هذا صاروا مربوبين، وصاروا أذلاء أمام قوة الله - عز وجل -.
ثم قال تعالى :﴿ أم لهم سلم يستمعون فيه ﴾ يعني بل ألهم سلم يستمعون فيه، والسلم هو المصعد والمرقى، والمعنى : هل لهم سلم يصعدون فيه على السماء يستمعون ما يقال في السماء ؟ والجواب : لا، فإن ادعوا ذلك ﴿ فليأت مستمعهم بسلطان مبين ﴾ أي : بحجة بينة ظاهرة على أنه استمع ما يقال في السماء، والجواب : لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً، اللهم إلا الكهنة الذين لهم رئي من الجن يستمع إلى ما يقال في السماء، ثم يكذب مئة كذبة على ما سمع، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء،
ثم قال تعالى :﴿ أم له البنت ولكم البنون ﴾ وهذا أيضاً بمعنى بل، والاستفهام للتوبيخ والإنكار، يعني أيكون لله البنات ولهم البنون، لأنهم ادعوا أن جند الله تعالى بنات، وأن لهم البنين، ومعلوم أن من له البنين غالب على من له البنات، لأن جنده رجال ذكور، أقوى وأحزم وأقدم من النساء، وقد جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، كما قال الله تعالى عنهم ذلك قال :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إنثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون ﴾. يعني لم يشهدوا خلقهم حتى يقولوا : إنهم بنات ﴿ ستكتب شهادتهم ﴾ أي شهادتهم هذه التي هي زور وكذب، ﴿ ويسئلون ﴾، فهؤلاء المكذبون للرسول عليه الصلاة والسلام من قريش قالوا : لهم البنون ولله البنات، قال الله تعالى :﴿ ويجعلون لله البنت سبحانه ولهم ما يشتهون ﴾. والذين يشتهون هم الذكور حتى إن أحدهم إذا بُشِّر بالأنثى ﴿ ظل وجهه مسودا وهو كظيم ﴾. أي : مملوء غيظاً وغمًّا ﴿ يتوارى من القوم ﴾ يختبىء من القوم ﴿ من سوء ما بشر به ﴾. ثم يتردد ﴿ أيمسكه على هون ﴾ أي : على ذل وهوان ﴿ أم يدسه في التراب ﴾ يرميه فيه وهذه المؤودة ﴿ ألا ساء ما يحكمون ﴾.
﴿ أم تسئلهم أجراً فهم من مغرم مثقلون ﴾ يعني بل أتسألهم، والاستفهام هنا للنفي وكل ( أم ) هنا الاستفهام للنفي والتوبيخ، يعني هل أنت يا محمد حين دعوتهم إلى الله - عز وجل - هل أنت تقول أعطوني أجراً مثقلاً كبيراً لا يستطيعونه حتى يردوك، والجواب : لا، قال الله تعالى :﴿ قل مآ أسئلكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين ﴾. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأي واحد : أعطني أجراً على دعوتي إياك، بل هو صلى الله عليه وسلم يبذل المال ليؤلف القلوب، كما أعطى المؤلفة قلوبهم من الأموال شيئاً عظيماً، وليس يطلب من أحد أي عوض على ما جاء به من الرسالة، واستدل بعض أهل العلم على أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ أجراً على تعليم العلم بمعنى مؤاجرة، يقول الإنسان : لا أعلمك إلا بكذا وكذا، لكن هذا فيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ».
﴿ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ﴾ أي : ماغاب عن الناس فهم يحفظونه، والجواب : لا، ليس عندهم علم الغيب، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه لا يعلم شيئاً من الغيب، يكون الشيء في داره لا يعلمه، حتى إنه دخل ذات يوم والبرمة على النار تغلي باللحم، ولم يعلم ما هو، وحتى إن أبا هريرة كان معه فانخنس منه ولم يعلم لأي شيء ذهب، فالحاصل أن الرسول نفسه لا يعلم الغيب، فمن دونه من باب أولى، وقد أمره الله تعالى أن يعلن بأنه لا يعلم الغيب، فقال تعالى :﴿ قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ﴾. وهنا يقول تعالى لهؤلاء المكذبين ﴿ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ﴾، والجواب : لا،
ثم قال :﴿ أم يريدون كيداً ﴾ يعني أيريد هؤلاء أن يكيدوا لك يا محمد بإبطال دعوتك، وإهلاكك وإماتتك، الجواب : نعم، ولكن كيدهم ليس بشيء بالنسبة إلى كيد الله عز وجل، قال الله تعالى :﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾. وقد كادوا له أعظم كيد، فإنهم اجتمعوا ماذا يصنعون بمحمد لما رأوا دعوته تنتشر، وأنه لا قبل لهم بردها، اجتمعوا يتشاورون، وذكروا ثلاثة آراء : الحبس، والقتل والإخراج، ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ﴾ أي : يحبسوك ﴿ أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾، قال الله تعالى :﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ واستقر رأيهم على القتل، لكن من يستطيع أن يقتله، لأن بني هاشم سوف يطالبون ؟ قالوا : يجتمع عشرة شبان من قبائل متفرقة من العرب، ويعطى كل واحد منهم سيفاً صارماً، ويضربون محمداً ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل فتعجز بنو هاشم عن المطالبة، فعلوا ذلك، ولكنهم مكروا ومكر الله ﴿ والله خير الماكرين ﴾ فأنجاه الله منهم ثم أذن له أن يهاجر، فهاجر إلى المدينة، ﴿ أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون ﴾ الجملة هنا جملة اسمية معرف طرفاها مفصولة بضمير الفصل، مما يدل على التوكيد والحصر يعني فالكيد للذين كفروا. وهنا قال تعالى :﴿ أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون ﴾ لم يقل : أم يريدون كيداً فهم المكيدون، وهذا الأسلوب عند علماء البلاغة يسمى الإظهار في موضع الإضمار، ومعناه بدل أن يقال :( فهم المكيدون ) قال الله تعالى :﴿ فالذين كفروا ﴾ ولهذا فائدة بل أكثر، إذا قال ( فالذين كفروا ) معناه أن هؤلاء كفار، ومعناه أن من كان كافراً فهو المكيد، وإن كان من غير هؤلاء، هاتان فائدتان معنويتان، الفائدة الثالثة : تنبيه المخاطب، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد ربما يغفل الإنسان، لكن إذا جاء شيء يخرج الكلام عن النسق انتبه،
ثم قال تعالى :﴿ أم لهم إله غير الله ﴾ يعني بل ألهم إله غير الله ؟ والجواب حقيقة : لا. وادعاءً : نعم لهم آلهة غير الله يعبدونها : اللات والعزى ومناة، وهبل وغيرها من الأصنام المعروفة عند العرب، ولهذا قال :﴿ سبحان الله عما يشركون ﴾ فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عما يشرك به هؤلاء، ليبين أن هذه الأصنام باطلة، وأن الله منزه عن كل شريك.
﴿ وإن يروا كسفاً من السماء سقطاً يقولوا سحاب مركوم ﴾ الكسف معناه قطع العذاب، ﴿ يقولوا سحاب مركوم ﴾ وهذا يدل على أنهم يرون أنهم على حق، وأنهم غير مستحقين للعذاب، وأن هذا الكسف النازل قطع العذاب ما هي إلا سحب متراكمة، وهذا كقول عاد حين رأوا الرياح مقبلة عليهم قالوا :﴿ هذا عارض ممطرنا ﴾. لأن هؤلاء المكذبين - والعياذ بالله - معاندون يرون أنهم على حق، وأنهم غير مستحقين للعذاب، فإذا رأوا العذاب قالوا : هذا شيء عادي، ولن نهابه ولن نخافه،
قال الله تعالى :﴿ فذرهم ﴾ أتركهم ﴿ في خوضهم ﴾ بأقوالهم ﴿ يلعبون ﴾ بأفعالهم ويلهون في الدنيا ويرون أنهم على حق ﴿ حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ﴾ وهو يوم موتهم، يعني اترك هؤلاء فإن مآلهم إلى الموت وإن فروا، وهم إذا لاقوا يومهم الذي يوعدون عرفوا أنهم على باطل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق
﴿ يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون ﴾ فإذا جاءهم الموت ما أغنى عنهم كيدهم شيئاً ؛ لأنهم في قبضة الله، وقد انتهى استعتابهم، وليس أمامهم إلا العذاب
﴿ وإن للذين ظلموا ﴾ والمراد بهم الكفار، قال الله تعالى :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾. ﴿ عذاباً دون ذلك ﴾، يعني دون عذاب الموت، وهو ما أصيبوا به من الجدب والقحط والخوف والحروب وغير ذلك مما كان قبل الموت ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾، بل أكثرهم في غفلة عن هذا، ولا يظنون أن ذلك من العذاب في شيء.
﴿ واصبر لحكم ربك ﴾ اصبر يا محمد عليه الصلاة والسلام، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقوله ﴿ لحكم ربك ﴾ يشمل الحكم الكوني، والحكم الشرعي، يعني اصبر لما حكم به ربك من وجوب إبلاغ الرسالة وإن أصابك ما يصيبك، واصبر لحكم ربك القدري الكوني، وهو ما يقدره الله تعالى عليك من هؤلاء السفهاء من السخرية والعدوان والظلم، ولقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم كما أوذي إخوانه من المرسلين، أوذي إيذاءً عظيماً، وضع الكفار سلا الجزور على ظهره وهو ساجد تحت الكعبة، في أأمن مكان، وضرب، ورمي بالحجارة حين خرج إلى أهل الطائف حتى أدموا عقبه صلوات الله وسلامه عليه، ولم يفق إلا وهو في قرن الثعالب، ويلقون القاذورات والأنتان على عتبة بابه عليه الصلاة والسلام، ويقول :«أي جوار هذا » وهذا من امتثال أمر الله، حيث قال الله له :﴿ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ﴾ أي : فإننا نراك بأعيننا ونراقبك ونلاحظك، ونعتني بك، وهذا كما يقول القائل لمن أشفق عليه وأحبه : أنت في عيني، ومن المعلوم أن مثل هذا الأسلوب لا يعني أن مخاطبه حال في عينه، بل المعنى أنت مني على مرأى، وعلى رقابة، وعلى حماية. وفي هذه الآية إثبات العين لله - عز وجل - وهي حقيقية ولكنها لا تماثل أعين الخلق، لقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾.
﴿ وسبح بحمد ربك حين تقوم ﴾ أي : قل : سبحان الله وبحمده ﴿ حين تقوم ﴾ من أي شيء، حين تقوم من مجلسك، أو حين تقوم من منامك، فهي عامة، ولهذا كان كفارة المجلس أن يقول الإنسان :«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك »، فينبغي للإنسان كلما قام من مجلس أن يختم مجلسه بهذا :«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك »،
﴿ ومن الليل فسبحه ﴾ يعني وسبح ربك من الليل لا كل الليل، و( من ) هنا للتبعيض، ولهذا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بأقوام من أصحابه قال أحدهم :( أنا أقوم ولا أنام ) قال النبي صلى الله عليه وسلم :«أما أنا فأقوم وأنام، ومن رغب عن سنتي فليس مني » ولذلك يكره للإنسان أن يقوم الليل كله حتى لو كان فيه قوة ونشاط، فلا يقوم الليل كله إلا في العشر الأواخر من رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحيي ليلها كله، ﴿ وإدبار النجوم ﴾ يعني وقت أدبارها، وهل المراد أدبار ضوئها بانتشار نور الشمس، أو أدبار ذواتها عند الغروب ؟ فالجواب هذا وهذا، والمراد بذلك صلاة الفجر، لأن صلاة الفجر بها تدبر النجوم، وصلاة الفجر وصلاة العصر هما أفضل الصلوات الخمس، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا » والمراد بالصلاة قبل طلوع الشمس أي صلاة الفجر، وقبل غروبها صلاة العصر، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«من صلى البردين دخل الجنة » والبردان هما صلاة الفجر، وصلاة العصر، فصلاة الفجر براد الليل، وصلاة العصر براد النهار، ﴿ ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ﴾ وبهذا انتهى الكلام بما يسر الله عز وجل على سورة الطور، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.