ﰡ
وموضع ﴿ أَن تَقُولُواْ ﴾ رُفِعَ، وانتصبَ قوله ﴿ مَقْتاً ﴾ على التمييزِ.
وذكرَ الكلبيُّ :(أنُّ الْمُسْلِمِينَ كَانُواْ يَقُولُونَ قَبْلَ فَرْضِ الْجِهَادِ : لَوْ عَلِمْنَا أيَّ الأَعْمَالِ أحَبُّ إلَى اللهِ لَفَعَلْنَاهُ، فَدَلَّهُمُ اللهُ عَلَى ذلِكَ بقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[الصف : ١٠]، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا هِيَ، فَمَكَثُوا عَلَى ذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالُواْ : يَا لَيْتَنَا نَعْلَمُ مَا هِيَ فَنُسَارعُ إلَيْهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[الصف : ١١] إلَى آخِرِ الآيَاتِ).
وقال قتادةُ :(كَانَ الرَّجُلُ إذا خَرَجَ إلَى الْجِهَادِ ثُمَّ رَجَعَ قالَ : قُلْتُ وَفَعَلْتُ، وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾.).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ ؛ أي بإيذائِهم أمَالَها عن الحقِّ وخذلَها ومنعَها الهدى مجازاةً لهم بايذائهم، ﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ إلى ثوابهِ وجنَّتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّصَدِّقاً ﴾ نُصب على الحالِ ؛ أي في حالِ تصديقي بالتَّوراةِ التي أوتِيها موسَى عليه السلام مِن قبلي، وفي حالِ تبشيري برسولٍ من بعدي يأتِي اسمهُ أحْمَدُ.
وذلك أنَّ الْحَوَاريِّينَ قَالُوا لِعِيسَى عليه السلام : يَا رُوحَ اللهِ هَلْ مِنْ بَعْدِنَا مِنْ أُمَّةٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ أُمَّةُ أحْمَدَ. قَالُواْ : يَا رُوحَ اللهِ وَمَا أُمَّةُ أحْمَدَ ؟ قَالَ : حُكَمَاءٌ عُلَمَاءٌ أبْرَارٌ أتْقِيَاءٌ ؛ كَأَنَّهُمْ مِنَ الْفِقْهِ أنْبيَاءُ، يَرْضَوْنَ مِنَ اللهِ بالْيَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ، وَيَرْضَى اللهُ مِنْهُمْ بالْيَسِِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بـ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ.
وفي تسميةِ نبيِِّنا عليه السلام أحمدَ قولان : أحدُهما : أنَّ الأنبياء كانوا حَمَّادِينَ للهِ تعالى، ونبيُّنا ﷺ أحمدُ ؛ أي أكثرُ حَمْداً للهِ منهم، فيكون معنى أحمدَ المبالغةَ في الفاعلِ.
والثاني : الأنبياءُ كلهم مَحمُودُونَ، ونبيُّنا عليه السلام أكثرُ مناقباً للفضائلِ، فيكون معناهُ مبالغةٌ من المفعولِ، يعني إنه يُحْمَدُ بما فيه من الأخلاقِ والمحاسنِ أكثرَ مما يُحمَدُ غيرهُ.
قال ﷺ :" إنَّ لِي أسْمَاءً : أنَا أحْمَدُ ؛ وَأنَا مُحَمَّدُ ؛ وَأنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بيَ الْكُفْرَ، وَأنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبيٌّ ".
وقولهُ تعالى قبلَ هذه الآية ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ يريدون ليَغلِبُوا دينَ اللهِ مع ظهورهِ وقوَّته بتكذيبهم بألسنتهم، كمَن أرادَ إطفاءَ نُور الشمسِ بأخفِّ الأشياءِ وهو الريحُ التي يُخرِجُها من فيهِ ﴿ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ﴾ أي هداهُ ومظهرُ دينهِ، وغالبُ أعدائهِ وناصرُ أوليائهِ على عدوهم من الكفار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي التجارةُ التي دلَلتُكم عليها خيرٌ من التجارةِ في الأموال، ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ ثوابَ الله، لأن تلك التجارةِ تؤدِّي إلى ربحٍ لا يزولُ ولا يَبيدُ بخلافِ التجارة في الأموالِ في أمُور الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ﴾ ؛ المساكن الطيِّبةُ هي المنازلُ التي طيَّبَها اللهُ بالْمِسْكِ والرياحينِ، ﴿ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ ؛ أي في بساتينِ إقامةٍ، يقالُ : عَدَنَ بالمكانِ إذا أقامَ به. وقولهُ تعالى :﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ؛ أي ذلك الذي ذكرتُ لكم هو التجارةُ العظيمة، والنعيمُ المقيم.
وقرئَ (أنْصَارَ اللهِ) من غير تنوينٍ. والأنصارُ : جمعُ نَاصِرٍ، كصاحبٍ وأصحابٍ، والحواريُّون : خُلَصَاءُ الأنبياءِ الذين نُقُّوا من كلِّ عيبٍ، ومنه الدَّقيقُ الحواريُّ وهو الْمُنَقَّى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾ أي معَ اللهِ كما في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾[النساء : ٢].
وقولهُ تعالى :﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ؛ أي صدَّقت جماعةٌ منهم بعيسى، ﴿ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ ﴾ ؛ وذلك أنه لَمَّا رُفِعَ عيسى عليه السلام تفرَّقَ قومهُ ثلاثَ فرقٍ :
فرقةٌ قالوا كان اللهَ فارتفعَ، وفرقةٌ قالوا كان ابنَ اللهِ فرفعَهُ اللهُ، وفرقةٌ قالوا : كان عبدَ اللهِ ورسولَهُ فرفعَهُ الله إليه وهم المؤمنون. فاتَّبعَ كلَّ فريق منهم طائفةٌ من الناسِ، فاقتَتَلوا فظهرَ الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ فظهرت الفرقةُ المؤمنة على الكافرةِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾ ؛ أي غالِبين، والمعنى : فاصبحت حُجَّةُ مَن آمنَ بعيسى ظاهرةً بتصديقِ مُحَمَّدٍ ﷺ أنَّ عيسى عبدُ اللهِ، وكلمتهُ وروحَهُ والتأييد.
وعن الحسنِ قال :(سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَأبَا هُرَيْرَةَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾، فَقَالَ أبُو هُرَيْرَة :" سَأَلْتُ عَنْ ذلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ :" قَصْرٌ مِنْ لُؤلُؤَةٍ فِي الْجَنَّةِ، فِي ذلِكَ الْقَصْرِ سَبْعُونَ دَاراً مِنْ يَاقُوتٍ أحْمَرَ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتاً مِنْ زُمُرُّدٍ أخْضَر، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً وَسَبْعُون فِرَاشاً، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ امْرَأةٌ مِنَ الْحُور الْعِين، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْناً مِنْ طَعَامٍ، يُعْطِي اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَأْتِي عَلَى ذلِكَ كُلِّهِ " ".