هذه السورة مدنية وآياتها أربع عشرة آية. وهي مبدوءة بالإيذان من الله بأن كل شيء في الوجود مسبح لله فهو مقدّسه ومنزّهه عن كل نقيصة أو عيب.
وفي السورة ينهى الله عن القول الذي لا يتبعه فعل. أو الوعد الذي لا يعقبه وفاء. ثم يندد الله تنديدا شديدا بالذين يتحدثون عن الخير أو المعروف ولا يأتونه أو يأتون خلافه من المعاصي.
وفي السورة تأنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يبين الله له ما لقيه موسى كليمه من أذى قومه وسوء فعالهم وكذلك ما لقيه عيسى ابن مريم من المكاره والأذى وسوء القول فتحمل واصطبر ولم يتزعزع.
ثم يبين الله لعباده أفضل تجارة فيها التنجية والاستنقاذ من سوء العذاب، وهي الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس.
ﰡ
﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ١ ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ٢ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ٣ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ﴾.
كل شيء في هذا الكون ذاكر لله بتسبيحه وتنزيهه والإذعان له بالإلهية والربوبية، ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ الله القوي الغالب الذي لا يغالب. وهو سبحانه الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبيره أمور خلقه.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٥٧ وتفسير القرطبي جـ ١٨ ص ٧٨- ٨٢..
يعني واذكر يا محمد قول موسى بن عمران لقومه بني إسرائيل : لم تفضون إلي بالأذى وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من النبوة والرسالة. وفي هذا تأنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من المشركين من قومه، وتخضيض له على الصبر.
قوله :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ أي لما مالوا عن الحق أو عن سبيل الله المستقيم فجنحوا للشرك والضلال والباطل، وهم يعلمون صدق نبيهم موسى ﴿ أزاغ الله قلوبهم ﴾ أي أمالها عن الهداية والحق وأثار فيها الشك والخذلان.
قوله :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ أي لا يجعل الله الهداية والسداد والتوفيق للخارجين عن طاعة ربهم، الذين يختارون الكفر على الإيمان.
ونبوته صلى الله عليه وسلم حقيقة لا شك فيها. إنها حقيقة ساطعة بلجة استيقنتها قلوب أهل الكتاب أنفسهم فما يجحدها الجاحدون منهم إلا استكبارا وحسدا ونفورا من الحق واليقين ورغبة في الضلال والشر، وإذعانا للهوى الذي يركب النفس المريضة.
قوله :﴿ فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ﴾ لما جاء أحمد صلى الله عليه وسلم قومه بالدلالات الظاهرة والحجج الباهرة بادروه التكذيب وقالوا : إن ما جاءهم به إن هو إلا سحر ظاهر. ذلك قولهم بألسنتهم التي تصطنع الكذب والجحود اصطناعا، وهم موقنون أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ويقين، ليس بالعبث ولا باللغو أو الهزل. فهم لا يكذبون إلا عتوّا ومكابرة وظلما١.
ذلك نكير شديد من الله على أعدائه الظالمين الذين يريدون للإسلام أن يتبدد ويتداعى، ويعلمون في كل الأحايين لإطفاء نور الإسلام كيما تغيب شمسه وينقشع ضياؤه عن وجه الأرض فما يبقى بعد ذلك إلا الظلم والظلام، والشر والباطل والعدوان. فقال سبحانه :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام ﴾ يعني ليس من أحد أشد نكاوة وظلما وتلبسا بالباطل ممن اختلق الكذب على الله فأشرك به سبحانه واتخذ معه الآلهة والأنداد، أو طعنوا في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنه ساحر، أو إن ما جاءهم به كهانة أو شعر ﴿ وهو يدعى إلى الإسلام ﴾ أي يفتري الكذب على الله وهو يدعى إلى دين الحق والتوحيد، دين الإسلام.
قوله :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ لا يجعل الله الهداية والتوفيق للذين يجنحون للشر والباطل ويختارون الشرك والجحود على الإيمان بالله وحده.
على أن المراد بنور الله، القرآن أو الإسلام أو نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، أو آيات الله من الدلائل والحجج الظاهرة. والأظهر أن يكون المراد بنور قرآنه الحكيم وما يصدر عنه من دين عظيم شامل وهو الإسلام بعقيدته الراسخة السمحة، ونظامه الوارف الشاسع الذي جاء متضمنا لكل معاني الخير والرحمة والعدل والبر والفضيلة وفيه من أسباب العلاج والهداية والتوفيق ما تهتدي به البشرية على مرّ الزمن، لتكون آمنة سالمة راضية مطمئنة. وذلكم هو نور الله الذي يريد الظالمون الخاسرون من دعاة الشر والرذيلة والباطل أن يطفئوه بأفواههم لتتبدد حقيقته ومعالمه، وتنمحي عينه وظواهره وآثاره، وتنكسر شوكته أيما انكسار، وذلك بمختلف الأساليب من التشويه والتشكيك والافتراء والأراجيف وغير ذلك من أسباب القمع والتنكيل والتقتيل للمسلمين.
قوله :﴿ والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ﴾ الله مظهر دينه الإسلام. دين الحق والعدل والتوحيد. مظهره في العالمين ليشرق ضياؤه في الآفاق وليشعشع نوره الساطع يملأ الدنيا. وذلكم وعد من الله غير مكذوب ولن يخلف الله وعده، فلقد ملأ الإسلام الأرض والآفاق وشاعت معانيه وأحكامه وكلماته حتى عمت سائر أنحاء العالم. وإذا ما انتكس المسلمون في كثير من الأحوال والمراحل فخبا بانتكاسهم نور الإسلام، فإن هذا الدين العظيم ما يلبث – بخصائصه المميزة الكبرى- أن يعلو ويشيع ويستطير ليتجدد فيه الظهور والاستعلاء والشموخ من جديد فيعم الدنيا بنوره وعدله وفضله. وذلك بالرغم من كراهية المشركين الظالمين المتربصين. وبالرغم مما يكيدونه للإسلام من مختلف المكائد والمؤامرات والحيل لإضعافه وتدميره. فما يبوء تربصهم اللئيم ومكائدهم وأساليبهم الماكرة الخبيثة إلا بالخسران والفشل.
ذكر أن هذه الآية نزلت في عثمان بن مظعون. وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أذنت لي فطلقت خولة وترهّبت، واختصيت وحرّمت اللحم ولا أنام بليل أبدا ولا أفطر بنهار أبدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. ومن سنتي أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، فمن رغب عن سنتي فليس مني " فقال عثمان : والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتّجر فيها : فنزلت، الآية خطابا للمؤمنين ﴿ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ﴾ فقد شبه الله الأعمال الصالحة التي تفضي إلى الخير والنجاء وحسن المصير – بالتجارة السليمة القويمة التي تفضي إلى البركة والربح الكبير. وقد فسر التجارة بقوله :﴿ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ﴾.
قوله :﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ الإشارة عائدة إلى ما ذكر من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وذلك، في موضع رفع مبتدأ وخبره، ﴿ خير لكم ﴾ يعني هذا الذي أشير إليه خير لكم وأنفع وأدوم، ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ فإن كنتم من أهل التفكر والبصر فأنتم موقنون بذلك، وإن كنتم من أهل العماية والضلال وانغلاق البصيرة فإنكم لا توقنون بما ذكر.
قوله :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ أي بشر يا محمد المؤمنين بالنصر والفتح القريب في الدنيا، والجنة في الآخرة. ٢.
٢ تفسير النسفي جـ ٤ ص ٢٥٣ وفتح القدير جـ ٥ ص ٢٢٣..
يأمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا أنصارا لله. أي ينصرون دينه بأقوالهم وأفعالهم وأموالهم وفي كل أحوالهم وبكل ما يستطيعون كما استجاب الحواريون لعيسى ابن مريم، إذ قال لهم :﴿ من أنصارى إلى الله ﴾ أي من ينصرني ويعينني على طاعة الله والدعوة إلى دينه ﴿ قال الحواريّون نحن أنصار الله ﴾ الحواريون جمع، ومفرده الحواري وهو الناصر، أو ناصر الأنبياء، والحميم، والقصار١.
والمراد بالحواريين في الآية، أتباع عيسى ( عليه السلام ) وهم أعوانه ومؤيدوه وكانوا اثني عشر رجلا. فاستجابوا لدعائه مؤيدين ﴿ نحن أنصار الله ﴾ يعني نحن الذين ينصرون الله فيؤيدون دينه وينشرون دعوته، دعوة الحق والتوحيد.
قوله :﴿ فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ﴾ ذهب الحواريون في البلاد يدعون بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده والإيمان بما جاءهم به نبيهم عيسى ( عليه السلام ) فاهتدى بهديهم وآمن بدعوتهم طائفة من بني إسرائيل، وكفر آخرون ﴿ فأيّدنا الذين آمنوا على عدوهم ﴾ كتب الله النصر والظفر للفئة المؤمنة بتأييد من لدنه، والله ( عز وعلا ) مع المؤمنين الصابرين، إذ يجعل النصر لعباده الذين يؤمنون به وينصرون دينه ﴿ فأصبحوا ظاهرين ﴾ صار المؤمنون الذين نصروا دين الله بأقوالهم وأفعالهم هم الغالبين المنصورين، وذلك بتأييد الله لهم ونصره إياهم٢.
٢ تفسير النسفي جـ ٤ ص ٢٥٤ وتفسير البيضاوي ص ٧٣٤..