تفسير سورة القدر

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة القدر من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة القدر مكية، حروفها مائة وعشرون، كلمها ثلاثون، آياتها خمس ).

(سورة القدر)
(مكية حروفها مائة وعشرون كلمها ثلاثون آيها خمس)
[سورة القدر (٩٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)
القراآت
شهر تنزل بتشديد التاء: البزي وابن فليح مَطْلَعِ بكسر اللام: علي وخلف.
الوقوف
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ هـ ج للنفي والاستفهام والوصل أولى لاتصال المبالغة في التعظيم به ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ هـ ط لأن ما بعدها مبتدأ شَهْرٍ هـ ط لأن ما بعده مستأنف رَبِّهِمْ ج لاحتمال تعلق مِنْ كُلِّ بقوله تَنَزَّلُ ولاحتمال تعلقه بقوله سَلامٌ أي هي من كل عقوبة سلام أو من كل واحد من الملائكة سلام من المؤمنين قاله ابن عباس: وعلى هذا يوقف على أَمْرٍ ويوقف على سَلامٌ وقيل: لا يوقف على سَلامٌ أيضا والتقدير: هي سلام من كل أمر حتى مطلع الْفَجْرِ هـ
التفسير:
الضمير في إِنَّا أَنْزَلْناهُ للقرآن إما لأن القرآن كله في حكم سورة واحدة وإما لشهرته ومن نباهة شأنه كأنه مستغن عن التصريح بذكره، وقد عظم القرآن في الآية من وجوه أخر هي إسناد إنزاله إلى نفسه دون غيره كجبرائيل مثلا، وصيغة الجمع الدالة على عظم رتبة المنزل، إذ هو واحد في نفسه نقلا وعقلا والرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه وهو ليلة القدر. وهاهنا مسائل الأولى: كيف حكم بأنه أنزل في هذه الليلة مع أنه أنزل نجوما في نيف وعشرين سنة؟ والجواب كما مر في البقرة في قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: ١٨٥] أي أنزل فيها من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها إلى الأرض نجوما، ووجه حسن المجاز أنه إذا أنزل إلى السماء الدنيا فقد شارف النزول إلى الأرض فيكون من فوائد التشويق كما قيل:
535
وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام
وقال الشعبي: ابتدئ بإنزاله في هذه الليلة لأن المبعث كان في رمضان. وقيل: أراد إنا أنزلنا القرآن يعني هذه السورة في فضل ليلة القدر والقدر بمعنى التقدير. قال عطاء عن ابن عباس: إن الله تعالى قدر كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية نظيره قوله فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: ٤] في أحد الوجوه والمراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة فإن المقادير من الأزل إلى الأبد ثابتة في اللوح المحفوظ، وهذا قول أكثر العلماء. ونقل عن الزهري أنه قال: ليلة القدر يعني ليلة الشرف والعظمة من قولهم «لفلان قدر عند فلان» أي منزلة وخطر، ويؤيد هذا التأويل قوله لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ثم هذا الشرف ما أن يرجع إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعة صار ذا قدر وشرف. وإما أن يرجع إلى الفعل لأن الطاعة فيها أكثر ثوابا وقبولا. وعن أبي بكر الوراق: من شرفها أنه أنزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر إلى أمة ذوي قدر. ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظ القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب. وقيل: القدر الضيق وذلك أن الأرض في هذه الليلة تضيق عن الملائكة. الثانية هذه الليلة هل تضاف إلى يومها الذي بعدها؟ قال الشعبي: نعم يومها كليلتها لقوله ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم: ١٠] وفي موضع، ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران: ٤١] ولهذا لو نذر أن يعتكف ليلتين ألزمناه يومهما. الثالثة قال الخليل: من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول:
انقطعت وكان مرة والجمهور على أنها باقية. ثم إنه روي عن ابن مسعود أنها في جميع السنة فمن حافظ على الليالي كلها أدركها. وعن عكرمة أنها ليلة البراءة. والأكثرون على أنها في رمضان لقوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: ١٨٥] وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فيجب من الآيتين أن تكون ليلة القدر في رمضان. ثم في تعيينها خلاف فقال ابن رزين: هي الليلة الأولى من رمضان لما روي عن وهب أن كتب الأنبياء كلهم إنما نزلت في رمضان وكانت الليلة الأولى منه في غاية الشرف. وعن الحسن البصري: السابعة عشرة لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها. وعن أنس مرفوعا: التاسعة عشرة. وقال محمد بن إسحق: هي الحادية والعشرون لما روي من حديث الماء والطين.
ومعظم الأقوال أنها السابعة والعشرون. وذكروا فيها أمارات ضعيفة منها أن السورة ثلاثون كلمة وقوله هِيَ السابعة والعشرون منها، روي هذا عن ابن عباس. وعنه أيضا أنّ ليلة القدر تسعة أحرف وهي مذكورة ثلاث مرات وروي أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام فقال: يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه في ليلة من الشهر فقال: إذا كان تلك الليلة فأعلمني
536
فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان. قلت: ومن الأمارات التي يحتمل اعتبارها أن الضعيف مؤلف الكتاب وصل إلى تفسير هذه السورة في السابعة والعشرين من رمضان سنة تسع وعشرين وسبعمائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل لله سبحانه فيه سرا ما لا يطلع عليه إلا هو وحده وأنا أرجو من فضله العميم أن يجعل ذلك سببا لبركات الدارين لي ولمن نظر في هذا الكتاب من إخواني في الدين وما الاعتصام إلا بحوله. وقيل: هى الليلة الأخيرة لأن الطاعات في الشهر تتم وقتئذ بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد صلى الله عليه وسلم
وقد جاء في الحديث «يعتق في في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر»
وأول الليالي ليلة شكر وآخرها ليلة فراق وصبر وكم بين الشكر والصبر، فإن الصبر أمر من الصبر. الرابعة الحكمة في إخفاء ليلة القدر في الليالي كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة ويوم القيامة حتى يرغب المكلف في الطاعات ويزيد في الاجتهاد ولا يتغافل ولا يتكاسل ولا يتكل.
يروى أنه ﷺ دخل المسجد فرأى نائما فقال: يا علي نبهه ليتوضأ فأيقظه علي ثم قال: يا رسول الله إنك سابق إلى الخيرات فلم نبهته بنفسك؟ فقال: لأن رده على كفر ورده عليك ليس بكفر ففعلت ذلك لتخف جنايته لورد.
فإذا كان هذا رحمة الرسول ﷺ فقس عليه رحمة الله تعالى عليه وكأنه سبحانه يقول: إذا عرفت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ورفع العقاب أولى من جلب الثواب، فالإشفاق أن لا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا. وأيضا إذا اجتهد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة باهى الله تعالى ملائكته ويقول: كنتم تقولون فيهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فهذا جدهم في الأمر المظنون، فكيف لو جعلتها معلومة لهم فهنالك يظهر سر قوله إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: ٣٠]. الخامسة معنى كونها خيرا من ألف شهر أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة، وذلك لما فيها من الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق والمنافع الدينية والدنيوية.
وقال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي، فعل ذلك ألف شهر، فتعجب رسول الله ﷺ والمؤمنون من ذلك فأنزل الله تعالى السورة فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي
ويؤيده ما
روي عن مالك ابن أنس أن رسول ﷺ وسلم أري أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم، فأعطاه الله ليلة هي خير من ألف شهر لسائر الأمم.
وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يستحق اسم العابد حتى يعبد الله ألف شهر.
وذكر القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنه: يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعته. يعني معاوية فقال: إن رسول
537
الله ﷺ أري في منامه بني أمية يطؤن منبره واحدا بعد واحد وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ إلى قوله خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني ملك بني أمية. قال القاسم: فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص،
وزيف بأن أيامهم كانت مذمومة فكيف تذكر في مقام التعظيم؟ وأجيب بأنها كانت أياما عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يمتنع أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك الأيام في بابها. السادسة في الآية بشارة عظيمة للمطيعين وتهديد بليغ للعاصين. أما الأول فلأنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير من ألف شهر ولم يبين قدر الخيرية وهذا
كقوله ﷺ «مبارزة علي مع عمرو بن عبد ودّ أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة»
وكأنه قال: هذا لك بذلك والباقي عليّ أعطيتك به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فمن أحيا ليلة القدر فكأنه عبد الله نيفا وثمانين سنة، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعمارا كثيرة، ومن أحيا ليالي الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ليلة القدر ثلاثين قدرا.
يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة، ويجاء برجل من هذه الأمة وقد عبد الله أربعين سنة، فيكون ثوابه أكثر. فيقول الإسرائيلي: أنت العدل وأرى ثوابه أكثر فيقول: لأنكم تخافون العقوبة المعجلة فعبدتموني وأمة محمد ﷺ كانوا آمنين لقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: ٣٣] ثم إنهم كانوا يعبدونني فلهذا السبب كانت عباداتهم أفضل،
وأما التهديد فلأن الظالم لا يخلصه من المظلوم أحد وإن أحيا مائة ليلة من القدر وكذا من عنده مظلمة لأحد وإن كانت بتطفيف حبة. السابعة أنه صح عن رسول الله
قوله «أجرك على قدر نصبك»
ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة فما التوفيق بين الحديث والآية؟ والجواب أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الاعتبارات الشرعية أو العقلية. فصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بكذا درجة لأجل شرف الاجتماع. ولو قلت: لمن يرجم إنما يرجم لأنه زان فهو قول حسن، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزير، ولو قلته للمحصن فهو موجب للحد، ولو قلته في حق عائشة كان كفرا وبهتانا عظيما وذلك لأنه طعن في حق عائشة التي كانت رجلا في العلم لقوله: «خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء» وطعن في صفوان وهو رجل بدري وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كافرا، بل طعن في النبي ﷺ الذي هو أشرف المخلوقات، بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية، فتبين أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب باختلاف الجهات وبحسب الأزمنة والأمكنة، وذلك من فضل الله وعنايته
538
بمخلوقاته على حسب مشيئته وإرادته، قول سبحانه تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ ظاهره يقتضي نزول كل الملائكة إما إلى سماء الدنيا وإما إلى الأرض وهو قول الأكثرين وعلى التقديرين فإن المكان لا يسعهم إلا على سبيل التناوب والنزول فوجا فوجا كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة أفواجا. وعن كعب: إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي، فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، ومقام جبرائيل في وسطها ليس فيها ملك إلا وقد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين، ينزلون مع جبرائيل ليلة القدر فلا يبقى بقعة في الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، وجبرائيل لا يدع أحدا من الناس إلا صافحهم، وعلامة ذلك أن يقشعر جلده ويرق قلبه وتدمع عيناه، من قال فيها لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر له بواحدة ونجاه من النار بواحد وأدخله الجنة بواحدة، وأول من يصعد جبرائيل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من يوم تلك الليلة ثم يدعو ملكا ملكا فيصعد الكل فيجتمع نور الملائكة ونور جناح جبرائيل فيقيم جبرائيل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشتغلين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين، ولمن صام رمضان احتسابا، فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة حتى يقولوا: ما فعل فلان كيف وجدتموه؟ فيقولون:
وجدناه عام أول مبتدعا وفي هذا العام متعبدا وفي بعضهم بالعكس، فيدعون للأول دون الآخر. ووجدنا فلانا تاليا وفلانا راكعا وفلانا ساجدا، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا إلى السماء الثانية، وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة المنتهى، فتقول لهم السدرة: يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقا وإني أحب من أحب الله. وتقول الجنة: عجلهم اللهم إليّ، والملائكة وأهل السدرة يقولون: آمين. وإنما نزول الملائكة على فضيلة هذه الليلة لأن الجماعة كلما كانت أكثر كان نزول الرحمة أوفر والطاعة في حضور الملائكة الذين هم العلماء بالله والعباد له تكون أدخل في الإخلاص وأجلب لأسباب القبول. أما الروح فالأظهر أنه جبرائيل، خص بالذكر لزيادة شرفه. وقيل: ملك يقوم صفا والملائكة كلهم صفا، وقيل: طائفة من الملائكة لا يراهم غيرهم إلا في هذه الليلة. وقيل: خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ولعلهم خدم أهل الجنة. وقيل: عيسى عليه السلام ينزل في جماعة من الملائكة ليطالع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: القرآن وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وقيل:
الرحمة. وقيل: هم كرام الكتابين.
يروى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلفين مفصلة فإذا وصلوا إلى معاصيهم أرخى الستر فلا يرونها فحينئذ يقولون: سبحان من أظهر
539
الجميل وستر القبيح، ويشتاقون إلى لقائهم فينزلون لذلك.
ومن فوائد نزولهم أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروها في سكان السموات ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى الله من زجل المسبحين فيقولون: تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا. ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا. وفي قوله بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إشارة إلى أنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذن الله لقوله وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم:
٦٤] وفي قوله رَبِّهِمْ توبيخ للعصاة وتعظيم لشأن الملائكة كأنه قال: كانوا لي فكنت لهم.
يروى أن داود عليه السلام في مرض الموت قال: إلهي كن لسلمان كما كنت لي فنزل الوحي قل لسليمان: فليكن لي كما كنت لي.
وقوله مِنْ كُلِّ أَمْرٍ إشارة عند الأكثرين إلى فائدة نزولهم أي من أجل كل أمر قدر في تلك الليلة إلى قابل. ومعنى العدول من لام التعليل إلى «من» أن السائل كأنه يقول: من أين جئتم؟ فيقولون: ما لكم وهذا السؤال ولكن قولوا لأي أمر جئتم لأنه حظكم. وقيل: من كل أمر أي من أجل كل مهم فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود وبعضهم للتسليم.
يروى أنهم لا يتلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه.
عن النبي ﷺ «إن الله يقدر المقدر في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها.»
وقيل: يقدر ليلة البراءة للآجال والأرزاق وليلة القدر للخير والبركة. وقيل: يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به صلاح معاش المكلف ومعاده، ويكتب في ليلة البراءة أسماء من يموت فتسلم إلى ملك الموت. ومعنى سَلامٌ هِيَ أن هذه الليلة ما هي إلا سلامة وخير، فأما سائر الليالي فيكون فيها بلاء وسلامة أو ما هي إلا سلام لكثرة سلام الملائكة على المؤمنين. وقال أبو مسلم: يعني أن هذه الليلة ما هي إلا سلامة عن الرياح المزعجة والصواعق ونحوها، أو هي سلامة عن تسلط الشيطان وجنسه، أو سالمة عن تفاوت العبادة في شيء من أجزائها بخلاف سائر الليالي فإن الفرض فيها يستحب في الثلث الأول. والنفل في الأوسط، والدعاء في السحر، والمطلع بالفتح المصدر بمعنى الطلوع، وبالكسر اسم زمان أو مصدر عند بعضهم، ومنهم أبو علي. هذا ما تقرر عندنا وعند سائر العلماء في تفسير هذه السورة الشريفة، وأقول أيضا في تأويله: يمكن أن يفهم من ليلة القدر طرف الأزل من الامتداد الوهمي الزماني قدر فيه ما كان وما سيكون إلى يوم الدين بل إلى الأبد وإنما عبر عنه بالليلة لأن الأشياء كلها إذ ذاك في حيز العدم أو الخفاء
«كنت كنزا مخفيا»
وإنما كانت خيرا من ألف شهر بل من ثلاثين ألف ليلة بل من ثلاثين ألف سنة كما قال وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: ٤٧] وهي الدور الأعظم دور الثواب لما
540
تقرر في المعقول والأصول أن العناية الأزلية هي الكفاية الأبدية، ولهذا كانت الأمور بخواتيمها
«وكل ميسر لما خلق له» «١»
فلو لم يكن للشخص سعادة مقدرة في الأزل لم تفده الطاعة ثلاثين ألف سنة وأكثر، فإنزال القرآن في هذه الليلة عبارة عن الإحصاء في اللوح المحفوظ والإمام المبين، وهو في وقت صدور الروح الأعظم والملائكة المقربين بسبب كل أمر هو كن من غير توسط مادة ومدة ولكنها سالمة عن شوائب الجسمانية والعلائق الجرمانية إلى ظهور فجر عالم الأشباح الظاهرة للحواس المعرضة للتعهد والقوى وإليه المصير والمآب.
(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٩٢ باب ٣، ٥، ٧. مسلم في كتاب القدر حديث ٦- ٨.
أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠. أحمد في مسنده (١/ ٦، ٢٩، ٨٢) (٢/ ٥٢، ٧٧) (٣/ ٢٩٣).
541
Icon