تفسير سورة العنكبوت

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سورة العنكبوت
اشتهرت هذه السورة بسورة العنكبوت من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رواه عكرمة قال : كان المشركون إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بهما، أي بهذه الإضافة فنزل قوله تعالى ﴿ إنا كفيناك المستهزئين ﴾ يعني المستهزئين بهذا ومثله وقد تقدم الإلماع إلى ذلك عند قوله تعالى ﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ﴾ في سورة البقرة.
ووجه إطلاق هذا الاسم على هذه السورة أنها اختصت بذكر مثل العنكبوت في قوله تعالى فيها ﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ﴾.
وهي مكية كلها في قول الجمهور، ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة، وقيل بعضها مدني. روى الطبري والواحدي في أسباب النزول عن الشعبي أن الآيتين الأوليين منها أي إلى قوله ﴿ وليعلمن الكاذبين ﴾ نزلتا بعد الهجرة في أناس من أهل مكة اسلموا فكتب إليهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة أن لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا إلى المدينة فخرجوا مهاجرين فاتبعهم المشركون فردوهم.
وروى الطبري عن عكرمة عن ابن عباس أن قوله تعالى ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله ﴾ إلى قوله ﴿ وليعلمن المنافقين ﴾ نزلت في قوم بمكة وذكر قريبا مما روى عن الشعبي.
وفي أسباب النزول للواحدي : عن مقاتل نزلت الآيتان الأوليان في مهجع مولى عمر بن الخطاب خرج في جيش المسلمين إلى بدر فرماه عامر بن الحضرمي من المشركين بسهم فقتله فجزع عليه أبوه وامرأته فأنزل الله هاتين الآيتين. وعن علي ابن أبي طالب أن السورة كلها نزلت بين مكة والمدينة. وقيل : إن آية ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله ﴾ نزلت في ناس من ضعفة المسلمين بمكة كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم في باطن الأمر وأظهروا للمسلمين أنهم لم يزالوا على إسلامهم كما سيأتي عند تفسيرها.
وقال في الإتقان : ويضم إلى ما استثني من المكي فيها قوله تعالى ﴿ وكأين من دابة لا تحمل رزقها ﴾ لما أخرجه ابن أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة فقالوا كيف نقدم بلدا ليست لنا فيه معيشة فنزلت ﴿ وكأين من دابة لا تحمل رزقها ﴾.
وقيل هذه السورة آخر ما نزل بمكة وهو يناكد بظاهره جعلهم هذه السورة نازلة قبل سورة المطففين. وسورة المطففين آخر السور المكية. ويمكن الجمع بأن ابتداء نزول سورة العنكبوت قبل ابتداء نزول سورة المطففين ثم نزلت سورة المطففين كلها في المدة التي كانت تنزل فيها سورة العنكبوت ثم تم بعد ذلك جميع هذه السورة.
وهذه السورة هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الروم وقبل سورة المطففين، وسيأتي عند ذكر سورة الروم ما يقتضي أن العنكبوت نزلت في أواخر سنة إحدى قبل الهجرة فتكون من أخريات السور المكية بحيث لم ينزل بعدها بمكة إلا سورة المطففين.
وآياتها تسع وستون باتفاق أصحاب العدد من أهل الأمصار.
أغراض هذه السورة
افتتاح هذه السورة بالحروف المقطعة يؤذن بأن من أغراضها تحدي المشركين بالإتيان بمثل سورة منه كما بينا في سورة البقرة، وجدال المشركين في أن القرآن نزل من عند الله هو الأصل فيما حدث بين المسلمين والمشركين من الأحداث المعبر عنها بالفتنة في قوله هنا ﴿ أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون ﴾. فتعين أن أول أغراض هذه السورة تثبيت المسلمين الذين فتنهم المشركون وصدوهم عن الإسلام أو عن الهجرة مع من هاجروا.
ووعد الله بنصر المؤمنين وخذل أهل الشرك وأنصارهم وملقنهم من أهل الكتاب.
والأمر بمجافاة المشركين والابتعاد منهم ولو كانوا اقرب القرابة.
ووجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين وأن لهم في سعة الأرض ما ينجيهم من أذى أهل الشرك.
ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ما عدا الظالمين منهم للمسلمين.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على إبلاغ القرآن وشرائع الإسلام.
والتأسي في ذلك بأحوال الأمم التي جاءتها الرسل، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بمثل ما جاءوا به.
وما تخلل أخبار من ذكر فيها من الرسل من العبر.
والاستدلال على أن القرآن منزل من عند الله بدليل أمية من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم.
وتذكير المشركين بنعم الله عليهم ليقلعوا عن عبادة ما سواه.
وإلزامهم بإثبات وحدانيته بأنهم يعترفون بأنه خالق من في السماوات ومن في الأرض.
والاستدلال على البعث بالنظر في بدء الخلق وهو اعجب من إعادته.
وإثبات الجزاء على الأعمال.
وتوعد المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم يتهكمون باستعجاله.
وضرب المثل لاتخاذ المشركين أولياء من دون الله بمثل وهي بيت العنكبوت.

هَذِهِ السُّورَةِ تَثْبِيتُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَصَدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَنِ الْهِجْرَةِ مَعَ مَنْ هَاجَرُوا.
وَوَعْدُ اللَّهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَذْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَنْصَارِهِمْ وَمُلَقِّنِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَالْأَمْرُ بِمُجَافَاةِ الْمُشْركين والابتعاد مِنْهُم وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَ الْقَرَابَةِ.
وَوُجُوبُ صَبْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ لَهُمْ فِي سَعَةِ الْأَرْضِ مَا يُنْجِيهِمْ مِنْ أَذَى أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَمُجَادَلَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَا عَدَا الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّبَاتِ عَلَى إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَالتَّأَسِّي فِي ذَلِكَ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي جَاءَتْهَا الرُّسُلُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِمثل مَا جاؤوا بِهِ.
وَمَا تَخَلَّلَ أَخْبَارَ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الرُّسُلِ مِنَ الْعِبَرِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِدَلِيلِ أُمِّيَّةِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِيُقْلِعُوا عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.
وَإِلْزَامُهُمْ بِإِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ خَالِقُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الْأَرْضِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَعْثِ بِالنَّظَرِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَهُوَ أَعْجَبُ مِنْ إِعَادَتِهِ.
وَإِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَتَوَعُّدُ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ يَتَهَكَّمُونَ بِاسْتِعْجَالِهِ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ لِاتِّخَاذِ الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِمَثَلٍ وَهِيَ بَيْتُ العنكبوت.
[١]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعَانِي أَمْثَالِهَا مُسْتَوْفًى عِنْدَ مُفْتَتَحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّهَجِّيَ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّعْجِيزُ يَأْتِي فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَقَعَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ أَوِ الْكِتَابِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبَ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ مَا عَدَا ثَلَاثَ سُوَرٍ وَهِيَ فَاتِحَةُ سُورَةِ مَرْيَمَ وَفَاتِحَةُ هَذِهِ السُّورَةِ وَفَاتِحَةُ سُورَةِ الرُّومِ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَمْ تَخْلُ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى التَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: ٥١].
[٢]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢]
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)
الِاسْتِفْهَامُ فِي أَحَسِبَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ إِنْكَارِ حُسْبَانِ ذَلِكَ. وَحسب بِمَعْنَى ظَنَّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٤].
وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ كُلُّ الَّذِينَ آمَنُوا، فَالْقَوْلُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْمَقُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ أَحَسِبَ النَّاسُ وُقُوعَ تَرَكِهِمْ لِأَنْ يَقُولُوا آمَنَّا، فَقَوْلُهُ أَنْ يُتْرَكُوا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ حَسِبَ.
وَقَوْلُهُ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا شِبْهُ جُمْلَةٍ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ مَجْرُورٌ بِلَامِ جَرٍّ مَحْذُوفٌ مَعَ (أَنْ) حَذْفًا مُطَّرِدًا، وَالتَّقْدِيرُ: أَحَسِبَ النَّاسُ تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا، فَإِنَّ أَفْعَالَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ وَإِنَّمَا تَتَعَدَّى إِلَى الْأَحْوَالِ وَالْمَعَانِي وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُهَا وَاحِدًا دَالًّا عَلَى حَالَةٍ، وَلَكِنْ جَرَى اسْتِعْمَالُ الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهَا اسْمَ ذَاتٍ مَفْعُولًا، ثُمَّ يَجْعَلُوا مَا يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ لِلذَّاتِ مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَفْعُولَيْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ (أَيِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ) أَصْلُهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ.
وَالتَّرْكُ: عَدَمُ تَعَهُّدِ الشَّيْءِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ بِهِ.
وَالتَّرْكُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ كَانُوا مُخَالِطِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَمِنْ زُمْرَتِهِمْ، فَلَمَّا آمَنُوا اخْتَصُّوا بِأَنْفُسِهِمْ وَخَالَفُوا أَحْوَالَ قَوْمِهِمْ وَذَلِكَ مَظِنَّةُ أَنْ يَتْرُكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَشَأْنَهُمْ، فَلَمَّا أَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا مُنَازَعَتَهُمْ طَمَعًا فِي إِقْلَاعِهِمْ عَنِ
الْإِيمَانِ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْمُبَاغَتَةِ وَالتَّعَجُّبِ، وَتَقَدَّمَ التَّرْكُ الْمَجَازِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ أَوَائِلَ الْبَقَرَةِ [١٧].
وأَنْ يَقُولُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الَّذِي هُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
لِأَجْلِ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ حَالٌ، أَي لَا يحسبوا أَنَّهُمْ سَالِمُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ إِذَا آمَنُوا.
وَالْفِتَنُ وَالْفُتُونُ: فَسَادُ حَالِ النَّاسِ بِالْعُدْوَانِ وَالْأَذَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَهْلِينَ.
وَالِاسْمُ: الْفِتْنَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَبِنَاءُ فِعْلَيْ يُتْرَكُوا... ويُفْتَنُونَ لِلْمَجْهُولِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ لِظُهُورِ أَنَّ الْفَاعِلَ قَوْمٌ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَنْ يُتْرَكُوا خَالِينَ عَنْ فُتُونِ الْكَافِرِينَ إِيَّاهُمْ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ قُبَيْلَ نُزُولِهَا، وَلِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دَأْبِ النَّاسِ أَنْ يُنَاصِبُوا الْعَدَاءَ مَنْ خَالَفَهُمْ
فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَمَنْ تَرَفَّعَ عَنْ رَذَائِلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَحَسِبَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا أَنْ يَتْرُكَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ دُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُمْ. وَمَنْ فَسَّرُوا الْفُتُونَ هُنَا بِمَا شَمِلَ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ مِثْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْ مَهْيَعِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَنَاكَدُوا مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ٣].
وَإِنَّمَا لَمْ نُقَدِّرْ فَاعِلَ يُتْرَكُوا ويُفْتَنُونَ أَنَّهُ الله تَعَالَى تحاشا مَعَ التَّشَابُهِ مَعَ وُجُودِ مَنْدُوحَةٍ عَنْهُ.
وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ مَرَاتِبُ أَعْظَمُهَا التَّعْذِيبُ كَمَا فُعِلَ بِبِلَالٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسر وأبويه.
[٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣]
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)
انْتِقَالٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْفُتُونِ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي سَالِفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ اسْتَعْظَمُوا مَا نَالَهُمْ
203
مِنَ الْفِتْنَةِ من الْمُشْركين واستبطأوا النَّصْرَ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَذُهُولِهِمْ عَنْ سُنَّةِ الْكَوْنِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ مَنْ يُخَالِفُ الدَّهْمَاءَ فِي ضَلَالِهِمْ وَيَتَجَافَى عَنْ أَخْلَاقِهِمْ وَرَذَالَتِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ تَلْحَقَهُ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّنَنُ مِنْ آثَارِ مَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ عُقُولَ غَالِبِ الْبَشَرِ وَتَفْكِيرَهُمْ غَيْرَ الْمَعْصُومِ بِالدَّلَائِلِ وَكَانَ حَاصِلًا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كُلِّهَا أَسْنَدَ فُتُونَ تِلْكَ الْأُمَمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادًا مَجَازِيًّا لِأَنَّهُ خَالِقُ أَسْبَابِهِ كَمَا خَلَقَ أَسْبَابَ الْعِصْمَةِ مِنْهُ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْعِصْمَةِ مِنْ مِثْلِهِ، وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ أَسْبَابَ تِلْكَ الْفِتَنِ قَرِيبِهَا وَبَعِيدِهَا قَادِرٌ عَلَى صَرْفِهَا بِأَسْبَابٍ تُضَادُّهَا. وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ دُعَاءُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٨٨] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَخْلُقَ ضِدَّ الْأَسْبَابِ الَّتِي غَرَّتْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ وَغَشِيَتْ عَلَى قَلْبِهِ بِالضَّلَالِ.
وَالْمَقْصُودُ التَّذْكِيرُ بِمَا لَحِقَ صَالِحِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الْأَذَى وَالِاضْطِهَادِ كَمَا لَقِيَ صَالِحُو النَّصَارَى مِنْ مُشْرِكِي الرُّومَانِ فِي عُصُورِ الْمَسِيحِيَّةِ الْأُولَى، وَقَدْ قَصَّ الْقُرْآنُ بَعْضَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ.
وَحُكْمُهَا سَارٍ فِي حَالِ كُلِّ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْحَقِّ بَيْنَ قَوْمٍ يَسْتَخِفُّونَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ
نُكْرَانَ الْحَقِّ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ.
وَالْوَاوُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: ٢]، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: ٢] فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ وَالْحَالُ قَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا. فَلَكَ أَنْ تُسَمِّيَ تِلْكَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً. وَإِسْنَادُ فِعْلِ فَتَنَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقَصْدِ تَشْرِيفِ هَذِهِ الْفُتُونِ بِأَنَّهُ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: ٢]، أَيْ يُفْتَنُونَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا مِنْهُمْ وَالْكَاذِبِينَ. وَالْمُفَرَّعُ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ الْحَاصِلُ فِي
204
الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَوْكِيدُ فِعْلِ الْعِلْمِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الَّتِي لَا يُؤَكَّدُ بِهَا الْمُضَارِعُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا. وَهُوَ تَعَلُّقٌ بِالْمَعْلُومِ شَبِيهٌ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ لِصِفَتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ بِهَذَا الِاسْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالصِّدْقِ هُنَا ثَبَاتُ الشَّيْءِ وَرُسُوخُهُ، وَبِالْكَذِبِ ارْتِفَاعُهُ وَتَزَلْزُلُهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قَالُوا آمَنَّا [العنكبوت: ٢] لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ فِي إِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ اعْتَقَدَ عَقِيدَةَ الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، فَإِذَا لَحِقَهُمُ الْفُتُونُ مِنْ أَجْلِ دُخُولِهِمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَعْبَأْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتْرُكِ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ فَقَدْ تَبَيَّنَ رُسُوخُ إِيمَانِهِ وَرِبَاطَةُ عَزْمِهِ فَكَانَ إِيمَانُهُ حَقًّا وَصِدْقًا، وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ خَوْفَ الْفِتْنَةِ فَقَدِ اسْتَبَانَ مِنْ حَالِهِ عَدَمُ رُسُوخِ إِيمَانِهِ وَتَزَلْزُلُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أُولَئِكَ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ كَاذِبٍ وَقَوْلِ الْأَعْشَى فِي ضِدِّهِ يَصِفُ رَاحِلَتَهُ:
جُمَالِيَّةٍ تَغْتَلِي بِالرِّدَا فِ إِذَا كَذَّبَ الْآثِمَاتُ الْهَجِيرَا
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ [٢].
وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَنْ يَكُونُ إِيمَانُهُ صَادِقًا عِنْدَ الْفُتُونِ وَمَنْ يَكُونُ إِيمَانُهُ كَاذِبًا بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَقَرِّرًا فِي الْأَزَلِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحْصُلَ الْفُتُونُ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ فِعْلِ فَلَيَعْلَمَنَّ بِمَعْنَى: فَلَيَعْلَمَنَّ بِكَذِبِ إِيمَانِهِمْ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِحُصُولِ أَمْرٍ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ وَهُوَ شَبِيهٌ بِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ وَلَا مَانِعَ
مِنْ إِثْبَاتِ تَعَلُّقَيْنِ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى: أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ، وَالْآخَرُ تَنْجِيزِيٌّ حَادِثٌ. وَلَا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفٍ حَادِثٍ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الصِّفَةِ تَحَقُّقُ مُقْتَضَاهَا فِي الْخَارِجِ لَا فِي ذَاتِ مَوْصُوفِهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣]، وَقَوْلِهِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٤٠].
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْعِلْمَ هُنَا مُكَنًّى بِهِ عَنْ وَعْدِ الصَّادِقِينَ وَوَعِيدِ الْكَاذِبِينَ لِأَنَّ الْعِلْمَ سَبَبٌ لِلْجَزَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ فَكَانَتِ الْكِنَايَةُ مَقْصُودَةً وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَهَمُّ.
205
وَقَدْ عَدَلَ فِي قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ عَنْ طَرِيقِ التَّكَلُّمِ إِلَى طَرِيقِ الْغَيْبَةِ بِإِظْهَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى أُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ لِمَا فِي هَذَا الْإِظْهَارِ مِنَ الْجَلَالَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ جَزَاءُ مَالِكِ الْمُلْكِ.
وَتَعْرِيفُ الْمُتَّصِفِينَ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بِحِدْثَانِ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَأَنَّ صِدْقَهُمْ مُحَقَّقٌ.
وَأَمَّا تَعْرِيفُ الْمُتَّصِفِينَ بِالْكَذِبِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ وَبِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَلِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ عُهِدُوا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَمَيَّزُوا بِهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ وَالرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا إِلَى قَوْلِهِ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ١- ٣] فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ إِذْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي الله، أَي وَأَمْثَالِهِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ مِمَّنْ كَانُوا يُعَذَّبُونَ بِمَكَّةَ وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُمُ اللَّهَ بِالنَّجَاةِ لَهُمْ وَلِلْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ.
[٤]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤)
أُعْقِبَ تَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ فُتُونِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِزَجْرِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْظَمُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فُتُونُهُمُ الْمُسْلِمِينَ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ الْفَاتِنُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَهَذَا وَوَعِيدُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُفْلِتُهُمْ. وَفِي هَذَا أَيْضًا زِيَادَةُ تَثْبِيتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ.
فَ أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ وَيُقَدَّرُ بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيُّ.
والسَّيِّئاتِ: الْأَعْمَالُ السُّوءُ. وَهِيَ التَّنْكِيلُ وَالتَّعْذِيبُ وَفُتُونُ الْمُسْلِمِينَ.
وَالسَّبْقُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي النَّجَاةِ وَالِانْفِلَاتِ كَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ [الْوَاقِعَة: ٦٠، ٦١] وَقَوْلِهِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: ٣٩، ٤٠].
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٩].
وَالْمَعْنَى: أَمْ حَسِبُوا أَنْ قَدْ شَفَوْا غَيْظَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ بِذَلِكَ غَلَبُوا أَوْلِيَاءَنَا فَغَلَبُونَا.
وَجُمْلَةُ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ ذَمٌّ لِحُسْبَانِهِمْ ذَلِكَ وَإِبْطَالٌ لَهُ. فَهِيَ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الْإِنْكَارِ فِي جُمْلَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَلَهَا حُكْمُ التَّوْكِيدِ فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُسْبَانُ وَاقِعًا مِنْهُمْ. وَمَعْنَى وُقُوعِهِ: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا مَا يُسَاوِي هَذَا الْحُسْبَانَ لِأَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُؤْمِنُونَ رد فتنتهم قَدِ اغْتَرُّوا بِأَنَّهُمْ غَلَبُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ دُونَ الْأَصْنَامِ فَمَنْ غَلَبَهُمْ فَقَدْ حَسِبَ أَنَّهُ غَلَبَ مَنْ يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهَذَا الْحُسْبَانِ، فَافْهَمْهُ.
وَالْحُكْمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ تَهَكُّمًا بِهِمْ بِأَنَّهُمْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصِبَ الَّذِي يَحْكُمُ فَيُطَاعُ وَمَا يَحْكُمُونَ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ، أَيْ سَاءَ الْحُكْمُ الَّذِي يَحْكُمُونَهُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً فِي شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْذِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ تُشِيرُ إِلَى تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُشَابِهَتِهِمْ فِي اقْتِرَافِ السَّيِّئَاتِ اسْتِخْفَافًا بِوَعِيدِ اللَّهِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ يَأْخُذُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مُشَابَهَةِ حُسْبَانِ الِانْفِلَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ لَا يَظُنُّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّهُ لِإِعْرَاضِهِ عَنِ الْوَعِيدِ حِينَ يقترف السَّيئَة.
[٥]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٥]
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥)
هَذَا مَسُوقٌ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ، فَالْجُمْلَةُ مُفِيدَةٌ التَّصْرِيحَ بِمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: ٤] مِنَ الْوَعْدِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ
207
مُبَيِّنَةٌ لَهَا وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ. وَلَوْلَا هَذَا الْوَقْعُ لَكَانَ حَقُّ الْإِخْبَارِ بِهَا أَنْ يَجِيءَ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ.
وَرَجَاءُ لِقَاءِ اللَّهِ: ظَنُّ وُقُوعِ الْحُضُورِ لِحِسَابِ اللَّهِ.
ولِقاءَ اللَّهِ: الْحَشْرُ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَلَقَّوْنَ خِطَابَ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَ بِهِمْ، لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، مُبَاشَرَةً بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة:
٤٦] وَقَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣].
وأَجَلَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتَ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ فِي عِلْمِهِ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ فَيَكُونُ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ لَآتٍ فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ كَمَا فِي إِضَافَةِ أَجَلَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخْلَفُ. وَالْمَقْصُودُ الِاهْتِمَامُ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَجَلَ اللَّهِ الْأَجَلَ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَانْتِهَاءِ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ بِاسْتِئْصَالِ مَسَاعِيرِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ، وَهُمْ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ وَذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ مَا عَقِبَهُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَثْبِيتًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ حِينَ اسْتَبْطَأَ الْمُؤْمِنُونَ النَّصْرَ لِلْخَلَاصِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَعْبُدُوا اللَّهَ لَا يَفْتِنُوهُمْ فِي عِبَادَتِهِ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ إِيقَانًا يَنْبَعِثُ مِنْ تَصْدِيقِ وَعْدِ اللَّهِ بِهِ فَإِنَّ تَصْدِيقَكُمْ بِمَجِيءِ النَّصْرِ أَجْدَرُ لِأَنَّهُ وَعَدَكُمْ بِهِ، فَ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَجُعِلَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِعْلَ الْكَوْنِ لِلدَّلَالَةِ على تمكن هَذ الرَّجَاءِ مِنْ فَاعِلِ فِعْلِ الشَّرْطِ.
وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ جَوَابًا لِقَوْلِهِ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لِيَلْتَئِمَ الرَّبْطُ بَيْنَ مَدْلُولِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَمَدْلُولِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ.
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاخْتَلَّ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِذْ يُفْضِي إِلَى مَعْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ غَيْرُ آتٍ. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي مَجَارِي الْكَلَامِ فَلَزِمَ تَقْدِيرُ شَيْءٍ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلتَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ اللَّهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِقَصْدِ تَحْقِيقِ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَنْزِيلًا لِاسْتِبْطَائِهِ مَنْزِلَةَ التَّرَدُّدِ لِقَصْدِ إِذْكَاءِ يَقِينِهِمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ وَلَا يُوهِنُهُمْ طُولُ الْمُدَّةِ الَّذِي يُضَخِّمُهُ الِانْتِظَارُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَقْعُ التَّذْيِيلِ بِوَصْفَيِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ دُونَ غَيْرِهِمَا من الصِّفَات العلى لِلْإِيمَاءِ بِوَصْفِ السَّمِيعُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمِعَ
208
مَقَالَةَ بَعْضِهِمْ مِنَ الدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ النَّصْرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢١٤].
وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ»
. وَالْإِيمَاءُ بِوَصْفِ الْعَلِيمُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنِ اسْتِعْجَالِ النَّصْرِ وَلَوْ
كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَجَلَ اللَّهِ الْمَوْتَ لَمَا كَانَ وَجْهٌ لِلْإِعْلَامِ بِإِتْيَانِهِ بَلْهَ تَأْكِيدَهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْثَ لَكَانَ قَوْلُهُ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ كَافِيًا، فَهَذَا وَجْهُ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَاتُ بِالْمَنْطُوقِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْعُدُولُ بِهَا عَنْ هَذَا الْمَهْيَعِ وَإِلَى مَا فِي «الْكَشَّافِ» وَ «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» أَخْذًا مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ تَحْوِيلٌ لَهَا عَنْ مجْراهَا وَصرف كلمة الرَّجَاءِ عَنْ مَعْنَاهَا وَتَفْكِيكٌ لِنَظْمِ الْكَلَامِ عَنْ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بَعْضُهُ بِحُجَزِ بَعْضٍ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي جُمْلَةِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ مَعَ كَوْنِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارَ لِتَقَدُّمِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ مُعَادُ الضَّمِيرِ بِأَنْ يُعَادَ إِلَى مَنْ إِذِ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِأَجَلٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ وَقْتُ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: ٢٩، ٣٠].
وَعَبَّرَ بِفِعْلِ الرَّجَاءِ عَنْ تَرَقُّبِ الْبَعْثِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ مِمَّنْ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ الْبَعْثَ لِمَا يَأْمُلُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ فِيهِ. قَالَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ احْتِضَارِهِ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ بَعْضِ الْأَشْعَرِيِّينَ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
غَدًا أَلْقَى الْأَحِبَّهْ... مُحَمَّدًا وَصَحبه
[٦]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦]
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦)
أَيْ وَمَنْ جَاهَدَ مِمَّنْ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ، فَلَيْسَتِ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، وَلَيْسَ مَنْ
209
جاهَدَ بِقَسِيمٍ لِمَنْ كَانُوا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ بَلِ الْجِهَادُ مِنْ عَوَارِضِ مَنْ كَانُوا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ.
وَالْجِهَادُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهْدِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ جَهَدَ كَمَنَعَ، إِذَا جَدَّ فِي عَمَلِهِ وَتَكَلَّفَ فِيهِ تَعَبًا، وَلِذَلِكَ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْقِتَالِ فِي نَصْرِ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشَاقِّ وَالْأَذَى اللَّاحِقَةِ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَنَبْذِ دِينِ الشِّرْكِ حَيْثُ تَصَدَّى الْمُشْرِكُونَ لِأَذَاهُمْ. فَإِطْلَاقُ الْجِهَادِ هُنَا هُوَ مِثْلُ إِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي [العنكبوت: ٨]، وَمِثْلُ إِطْلَاقِهِ
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَفَلَ من إِحْدَى غزاوته «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»
. وَهَذَا الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جِهَادُ الْقِتَالِ فِي مَكَّةَ.
وَمَعْنَى فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ أَنَّ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْمَشَاقِّ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ لِيَتَأَتَّى لَهُ الثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي بِهِ يَنْجُو مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْجِهَادِ الْمَعْنَى الْمَنْقُولُ إِلَيْهِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ قِتَالُ الْكُفَّارِ لِأَجْلِ نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ، وَيَكُونُ ذكره هُنَا لإعداد نُفُوسِ الْمُسلمين لما سيلجأون إِلَيْهِ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرُّوا إِلَيْهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الْفَتْح: ١٦] ومناسبة التَّعَرُّض لَهُ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت: ٥] تَضَمَّنَ تَرَقُّبًا لِوَعْدِ نَصْرِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ جِهَادٍ شَدِيدٍ وَهُوَ مَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَمَعْنَى فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ عَلَى هَذَا الْمَحْمِلِ هُوَ مَعْنَاهُ فِي الْمَحْمِلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ يُدَافِعُ صَدَّ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الدَّوَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَزِيَادَةُ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ دِفَاعًا عَنْ دِينِ اللَّهِ فَهُوَ أَيْضًا بِهِ نَصْرُهُمْ وَسَلَامَةُ حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَأَسَاسُ سُلْطَانِهِمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
210
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: ٥٥]. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ شَيْبَانَ التَّمِيمِيُّ:
وَنُقَاتِلُ الْأَعْدَاءَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَعَلَى بَصَائِرِنَا وَإِنْ لَمْ نُبْصِرْ
وَالْأَوْفَقُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْمِلَانِ مُرَادَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) هُوَ قَصْرُ الْجِهَادِ عَلَى الْكَوْنِ لِنَفْسِ الْمُجَاهِدِ، أَيِ الصَّالِحِ نَفْسِهِ إِذِ الْعِلَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ بَلْ بِأَحْوَالِهَا، أَيْ جِهَادٍ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ لَا لِنَفْعٍ يَنْجَرُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَصْرُ الْحَاصِلُ بِأَدَاةٍ (إِنَّمَا) قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ- حِينَ يُجَاهِدُونَ الْجِهَادَ بِمَعْنَيَيْهِ- مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُنْجَرَّةِ إِلَى أَنْفُسِ الْمُجَاهِدِينَ وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الرَّدُّ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقَصْرِ بِتَعْلِيلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ من الْجِهَاد نَافِعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ نَفْعَهُ لِلْأُمَّةِ.
فَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّأْكِيدِ هُنَا هُوَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَتَقَدَّمَ غير مرّة.
[٧]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٧]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: ٤] لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا مَا هُوَ وَعْدٌ وَبِشَارَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَعَ مَا أَفْضَى إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْوَعْدِ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: ٦] فَإِنَّ مَضْمُونَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْآيَةَ يُفِيدُ بَيَانَ كَوْنِ جِهَادِ مَنْ جَاهَدَ لِنَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: ٦ وَسُلِكَ بِهَا طَرِيقُ الْعَطْفِ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ مِنْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْجَزَاءِ الْحَسَنِ
هُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِنُكْتَةِ هَذَا الْإِيمَاءِ.
فَالْجَزَاءُ فَضْلٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تَبِعَةَ الْعِصْيَانِ فَأَمَّا الْجَزَاءُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ فَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ الْمَوْلَى، وَغُفْرَانُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِأَنْ يُؤَاخَذُوا بِمَا عَمِلُوهُ وَبِأَنَّ إِقْلَاعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَقْتَضِي التَّجَاوُزَ عَنِ الْمَاضِي لَكِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْفَضْلِ.
وَانْتَصَبَ أَحْسَنَ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ فِعْلِ لَنَجْزِيَنَّهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ جَزَاءً أَحْسَنَ.
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ لِإِفَادَةِ عِظَمِ الْجَزَاءِ كُلِّهِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ عَنْ جَمِيعِ صَالِحَاتِهِمْ جَزَاءَ أَحْسَنِ صَالِحَاتِهِمْ. وَشَمِلَ هَذَا مَنْ يَكُونُونَ مُشْرِكِينَ فَيُؤْمِنُونَ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِه الْآيَة.
[٨- ٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)
لَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنُ فَاذَّةً مِنْ أَحْوَالِ عَلَائِقِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَيَّنَ وَاجِبَهُمْ فِيهَا الْمُنَاسِبَ لِإِيمَانِهِمْ، وَمِنْ أَشَدِّ تِلْكَ الْعَلَائِقِ عَلَاقَةُ النَّسَبِ فَالنَّسَبُ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَالْمُؤْمِنِ
يَسْتَدْعِي الْإِحْسَانَ وَطِيبَ الْمُعَاشَرَةِ وَلَكِنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَسْتَدْعِي الْمُنَاوَاةَ وَالْمُغَاضَبَةَ وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ وَمُشْفِقِينَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَسَاسِ دِينِهِمْ فَهُمْ يُلْحِقُونَ الْأَذَى بِالْمُسْلِمِينَ لِيُقْلِعُوا عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مُعَامَلَةِ أَنْسِبَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْهَا نَسَبَ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ نَسَبٍ فَيَكُونُ مَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ الَّذِي يُشْرَعُ لَهُ.
وَحَدَثَتْ قَضِيَّةٌ أَوْ قَضِيَّتَانِ دَعَتَا إِلَى تَفْصِيلِ هَذَا الْحُكْمِ.
رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ
212
أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ أَسْلَمَ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ حَمْنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ يَا سَعْدُ بَلَغَنِي أَنَّك صَبَأت، فو الله لَا يُظِلُّنِي سَقْفُ بَيْتٍ، وَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، وَبَقِيَتْ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَشَكَا سَعْدٌ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدَارِيَهَا وَيَتَرَضَّاهَا بِالْإِحْسَانِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ وَهَاجَرَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ وَكَانَا أَخَوَيْ عَيَّاشٍ لِأُمِّهِ فَنَزَلَا بِعَيَّاشٍ وَقَالَا لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَقَدْ تَرَكْتَ أُمَّكَ وَأَقْسَمَتْ أَنْ لَا تَطْعَمَ وَلَا تَشْرَبَ وَلَا تَأْوِي بَيْتًا حَتَّى تَرَاكَ وَهِيَ أَشَدُّ حُبًّا لَكَ مِنْهَا لَنَا، فَاخْرُجْ مَعَنَا. فَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ: هُمَا يَخْدَعَانِكَ، فَلَمْ يَزَالَا بِهِ حَتَّى عَصَى نَصِيحَةَ عُمَرَ وَخَرَجَ مَعَهُمَا. فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَيْدَاءِ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّ نَاقَتِي كَلَّتْ فَاحْمِلْنِي مَعَكَ. قَالَ عَيَّاشٌ: نَعَمْ، وَنَزَلَ لِيُوَطِّئَ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي جَهْلٍ. فَأَخَذَاهُ وَشَدَّاهُ وِثَاقًا وَذَهَبَا بِهِ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ لَهُ: لَا تَزَالُ بِعَذَابٍ حَتَّى تَرْجِعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ وَأَوْثَقَتْهُ عِنْدَهَا، فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا افْتُتِحَتْ بِ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً لِأَنَّهُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْمَقْصُودِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْوِصَايَةَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ لَا تَقْتَضِي طَاعَتَهُمَا فِي السُّوءِ وَنَحْوِهِ
لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»
(١). وَلِقَصْدِ تَقْرِيرِ حُكْمِ الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ الْإِشْرَاكِ حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِعِصْيَانِهِمَا إِذَا أَمَرَا بِالشِّرْكِ لِإِبْطَالِ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: أَلَيْسَ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ الْبَرُّ بِالْوَالِدَيْنِ وَنَحْوِهِ.
وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْجَدَلِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ، وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١٠، ١١] فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ
_________
(١) رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم بِهَذَا اللَّفْظ. وَمَعْنَاهُ ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِلَفْظ أطول.
213
الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبَيْنَ إِلْغَاءِ أَمْرِهِمَا بِمَا لَا يَرْجِعُ إِلَى شَأْنِهِمَا.
وَالتَّوْصِيَةُ: كَالْإِيصَاءِ، يُقَالُ: أَوْصَى وَوَصَّى، وَهِيَ أَمْرٌ بِفِعْلِ شَيْءٍ فِي مَغِيبِ الْآمِرِ بِهِ فَفِي الْإِيصَاءِ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: ١٨٠] وَقَوله وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ فِي الْبَقَرَةِ [١٣٢].
وَفِعْلُ الْوِصَايَةِ يَتَعَدَّى إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بِالْبَاءِ، تَقُولُ: أَوْصَى بِأَبْنَائِهِ إِلَى فُلَانٍ، عَلَى معنى أوصى بشؤونهم، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْبَاءِ أَيْضًا وَهُوَ الأَصْل مثل وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: ١٣٢]. فَإِذَا جُمع بَيْنَ الْمُوصَى عَلَيْهِ وَالْمُوصى بِهِ تَقول: أوصى بِهِ خيرا وَأَصله: أوصى بِهِ بِخَير لَهُ فَكَانَ أصل التَّرْكِيب بدل اشْتِمَال، وَغَلَبَ حَذْفُ الْبَاءِ مِنَ الْبَدَلِ اكْتِفَاءً بِوُجُودِهَا فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً تَقْدِيرُهُ: وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ بِحُسْنٍ، بِنَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالْحُسْنُ: اسْمُ مَصْدَرٍ، أَيْ بِإِحْسَانٍ. وَالْجُمْلَةُ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَصَّيْنَا وَهُوَ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ.
وَالْمُجَاهَدَةُ: الْإِفْرَاطُ فِي بَذْلِ الْجُهْدِ فِي الْعَمَلِ، أَيْ أَلَحَّا لِأَجْلِ أَنْ تُشْرِكَ بِي.
وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الْعِلْمُ الْحَقُّ الْمُسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ، أَيْ أَنْ تُشْرِكَ بِي أَشْيَاءَ لَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦]، أَيْ عِلْمٌ بِإِمْكَانِ حُصُولِهِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : إِنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَعْلُومِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، أَيْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ [٣٠] كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ (١).
وَجُمْلَةُ: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مُقَدِّمَةُ
الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ لَمَّا آذَنَتْ بِفَظَاعَةِ أَمْرِ الشِّرْكِ وَحَذَّرَتْ مِنْ طَاعَةِ الْمَرْءِ وَالِدَيْهِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ
_________
(١) فِي المطبوعة (من شَيْء).
214
سُؤَالًا فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ أَنَّهُمْ هَلْ يُعَامِلُونَ الْوَالِدَيْنِ بِالْإِسَاءَةِ لِأَجْلِ إِشْرَاكِهِمَا فَأُنْبِئُوا أَنَّ عِقَابَهُمَا عَلَى الشِّرْكِ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي يُجَازِي الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ.
وَالْمَرْجِعُ: الْبَعْثُ. وَالْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَخَفِيِّهَا، أَيْ مَا يُخْفُونَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يُكِنُّونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَفِي قَوْلِهِ فَأُنَبِّئُكُمْ كِنَايَتَانِ: أُولَاهُمَا إِيمَاءٌ، وَثَانِيَتُهُمَا تَلْوِيحٌ، أَيْ فَأُجَازِيكُمْ ثَوَابًا عَلَى عِصْيَانِهِمَا فِيمَا يَأْمُرَانِ، وَأُجَازِيهِمَا عَذَابًا عَلَى إِشْرَاكِهِمَا.
فَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ تَصْرِيحٌ بِبَعْضِ مَا أَفَادَتْهُ الْكِنَايَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، اهْتِمَامًا بِجَانِبِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى شَرَفِ هَذَا الْجَزَاءِ بِأَنَّهُ جَزَاءُ الصَّالِحِينَ الْكَامِلِينَ كَقَوْلِهِ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيئِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاء: ٦٩] أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ سُلَيْمَانَ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النَّمْل: ١٩].
وَمِنْ لَطِيفِ مُنَاسَبَةِ هَذَا الظَّرْفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا أُمِرَ بِعِصْيَانِ وَالِدَيْهِ إِذَا أَمَرَاهُ بِالشِّرْكِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ جَفَاءً وَتَفْرِقَةً فَجَعَلَ اللَّهُ جَزَاءً عَنْ وَحْشَةِ تِلْكَ التَّفْرِقَةِ أُنْسًا بِجَعْلِهِ فِي عِدَادِ الصَّالِحِينَ يأنس بهم.
[١٠]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠)
هَذَا فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ كَانَ حَالُهُمْ فِي عَلَاقَاتِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ حَالَ مَنْ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى فَإِذَا لَحِقَهُمْ أَذًى رَجَعُوا إِلَى الشِّرْكِ بِقُلُوبِهِمْ وَكَتَمُوا ذَلِكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانُوا مُنَافِقِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَارِثَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبَا قَيْسٍ بْنَ الْوَلِيدِ ابْن الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيَّ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنَ
215
مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ. فَهَؤُلَاءِ اسْتَنْزَلَهُمُ الشَّيْطَانُ فَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ بِقُلُوبِهِمْ لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَكَانَ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْأَذَى سَبَبًا
لِارْتِدَادِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا يُظْهِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ مَعَهم. وَلَعَلَّ هَذَا التَّظَاهُرَ كَانَ بِتَمَالُؤٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَرَضُوا مِنْهُمْ بِأَنْ يَخْتَلِطُوا بِالْمُسْلِمِينَ لِيَأْتُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ: فَعَدَّهُمُ اللَّهُ مُنَافِقِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَى أَنَّ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَرْسَخْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ مُعَذَّبُونَ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: ١١] إِلَى أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُمْ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [النَّحْل: ١٠٦]، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْفَرِيقِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: ١٠٦]. فَلَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَاتِ أَوَاخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ اخْتِلَافٌ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ سُكُوتِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ ذِكْرِهِمُ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنْ آيَاتِ سُورَةِ النَّحْلِ.
وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ أُوذِيَ فِي اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ، أَيْ أُوذِيَ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِ مَا دَعَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ يُرِيدُ جَعْلَهَا مُسَاوِيَةً لِعَذَابِ اللَّهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى أَصْلِ التَّشْبِيهِ، فَهَؤُلَاءِ إِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَقَدُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَمَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ: أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّشْبِيهِ فَتَوَقَّوْا فِتْنَةَ النَّاسِ وَأَهْمَلُوا جَانِبَ عَذَابِ اللَّهِ فَلَمْ يَكْتَرِثُوا بِهِ إِعْمَالًا لِمَا هُوَ عَاجِلٌ وَنَبْذًا لِلْآجِلِ وَكَانَ الْأَحَقُّ بِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا عَذَابَ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ أَذَى النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا نَبَذُوا اعْتِقَادَ الْبَعْثِ تَبَعًا لِنَبْذِهِمُ الْإِيمَانَ، فَمَعْنَى الْجَعْلِ: أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَعَذَابِ اللَّهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ.
فَالْخَبَرُ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ كَعَذابِ اللَّهِ مُكَنًّى بِهِ عَنِ الذَّمِّ وَالِاسْتِحْمَاقِ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ الذَّمُّ مُتَفَاوِتًا.
216
وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى نِيَّتَهِمْ فِي إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ عُدَّةً لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ بِأَخَارَةٍ فَيَجِدُونَ أَنَفْسَهُمْ مُتَعَرِّضِينَ لِفَوَائِدِ ذَلِكَ النَّصْرِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِقُرْبِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ أَمْرُهُ فِي ازْدِيَادٍ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَحْقِيقَ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ.
فَفِيهِ وَعْدٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَاصِرُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَائِلُونَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ حَصَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ ذَلِكَ مِنْ كَانَ حَيًّا مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَهُوَ قَوْلٌ يُرِيدُونَ بِهِ نَيْلَ رُتْبَةِ السَّابِقِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَسُهَيْلَ ابْن عَمْرٍو، وَجَمَاعَةً مِنْ وُجُوهِ الْعَرَبِ كَانُوا عَلَى بَابِ عُمَرَ يَنْتَظِرُونَ الْإِذْنَ لَهُمْ، وَكَانَ عَلَى الْبَابِ بِلَالٌ وَسَلْمَانُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَخَرَجَ إِذْنُ عُمَرَ أَنْ يَدْخُلَ سَلْمَانُ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ فَتَمَعَّرَتْ وُجُوهُ الْبَقِيَّةِ فَقَالَ لَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: «لَمْ تَتَمَعَّرْ وُجُوهُكُمْ، دُعُوا وَدُعِينَا فَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأَنَا وَلَئِنْ حَسَدْتُمُوهُمْ عَلَى بَابِ عُمَرَ لَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ».
وَقَوْلُهُ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَقَوْلَهُمْ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، لأَنهم قَالُوا قَوْلهم ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنْ يَرُوجَ كَذِبُهُمْ وَنِفَاقُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَكَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مُتَضَمِّنًا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلَيْهِمُ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَصْدِ إِسْمَاعِهِمْ هَذَا الْخِطَابَ فَإِنَّهُمْ يَحْضُرُونَ مَجَالِسَ النَّبِيءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيَسْتَمِعُونَ مَا يُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يُتْلَى مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِهِ، فَيَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا وَجَّهَ اللَّهُ بِهِ الْخِطَابَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ التَّقْرِيرِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ إِنْبَائِهِ بِأَحْوَالِ الْمُلْتَبِسِينَ بِالنِّفَاقِ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ شَائِعٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَكَثِيرًا مَا يَلْتَبِسُ بِالْإِنْكَارِيِّ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا الْمَقَامُ، أَيْ فَلَا تُصَدِّقْ مَقَالَهُمْ.
217
وَالتَّفْضِيلُ فِي قَوْلِهِ بِأَعْلَمَ مُرَاعًى فِيهِ عِلْمُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ مَا فِي صُدُورِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ أُوتُوا فِرَاسَةً وَصِدْقَ نَظَرٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ اسْمَ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، أَيْ أَلَيْسَ اللَّهُ عَالِمًا عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خافية.
[١١]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١١]
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
خُصَّ بِالذِّكْرِ فَرِيقَانِ هُمَا مِمَّنْ شَمِلَهُ عُمُومُ قَوْله الْعالَمِينَ [العنكبوت: ١٠] اهْتِمَامًا بِهَاذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَحَالَيْهِمَا: فَرِيقُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَفَرِيقُ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْفَرِيقَيْنِ من إِيمَان وَنِفَاقٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْمُنَاسِبُ لِحَالَيْهِمَا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَذَلِكَ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ.
وَوَجْهُ تَأْكِيدِ كِلَا الْفِعْلَيْنِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ رَدُّ اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُطْلِعُ رَسُولَهُ عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرَيْنِ هُوَ ثَانِيهُمَا أَعْنِي قَوْلَهُ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ وَتَنْصِيصٌ عَلَى عَدَمِ الْتِبَاسِ الْإِيمَانِ الْمَكْذُوبِ بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ.
وَفِي هَذَا أَيْضًا إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ مِنَ الْعِلْمِ وَهُوَ مُجَازَاةُ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ هَاذَيْنِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُسْتَقْبَلِ إِذْ نُونُ التَّوْكِيدِ لَا يُؤَكَّدُ بِهَا الْخَبَرُ الْمُثْبَتُ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ إِمَّا لِأَنَّ الْعِلْمَ مُكَنًّى بِهِ عَنْ لَازِمِهُ وَهُوَ مُقَابَلَةُ كُلِّ فَرِيقٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ بِحَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ وَالْمُجَازَاةُ أَمْرُ مُسْتَقْبَلٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ عِلْمٌ بِمُسْتَقْبَلٍ وَهُوَ اخْتِلَافُ أَحْوَالِهِمْ يَوْمَ يَجِيءُ النَّصْرُ، فَلَعَلَّ مَنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ يَوْمَ النَّصْرِ وَيَبْقَى قَوْمٌ عَلَى نِفَاقِهِمْ.
وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَوَّلِينَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ وَعَنِ الْآخَرِينَ بِطَرِيقِ اللَّامِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُولُ مِنِ اشْتِهَارِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْفِعْلُ الْمَاضِي مِنْ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَسَابِقِيَّتِهِ، وَمَا يُؤْذِنُ بِهِ
التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ مِنْ كَوْنِهِمْ عَهِدُوا بِالنِّفَاقِ وَطَرَيَانِهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَفِيهِ تَعْرِيفٌ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ ورعاية الفاصلة.
[١٢]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١٢]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢)
هَذَا غَرَضٌ آخَرُ مِنْ أَغْرَاضِ مُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْمُشْرِكِينَ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِينَ بِمُحَاوَلَاتِ فِتْنَةٍ بِالشَّكِّ وَالْمُغَالَطَةِ لِلَّذِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فِتْنَتِهِمْ بِالْأَذَى وَالْعَذَابِ: إِمَّا لِعِزَّتِهِمْ وَخَشْيَةِ بَأْسِهِمْ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قِيلَتْ لَهُ، وَإِمَّا لِكَثْرَتِهِمْ حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَعْيَتِ الْمُشْرِكِينَ حِيَلُ الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ: أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ (قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ) قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا
نُبْعَثُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ فَإِنْ عَسَى كَانَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَحْمِلُ عَنْكُمْ آثَامَكُمْ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ جَهْلًا وَغُرُورًا حَاوَلُوا بِهِمَا أَنْ يَحِجُّوا الْمُسْلِمِينَ فِي إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ كَانَ الْبَعْثُ وَاقِعًا فَسَيَكُونُونَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَهْلَ ذِمَامٍ وَحَمَالَةٍ وَنَقْضٍ وَإِبْرَامٍ شَأْنَ سَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ إِذَا شَفَعُوا شُفِّعُوا وَإِنْ تَحَمَّلُوا حُمِّلُوا.
وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ: لَئِنْ بَعَثَنِي اللَّهُ لِيَكُونَنَّ لِي مَالٌ فَأَقْضِيَكَ دَيْنَكَ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: ٧٧]. وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ طَرِيقَةٌ جَدَلِيَّةٌ إِنْ بُنِيَتْ عَلَى الْحَقِّ كَمَا يُنْسَبُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي ضِدِّ هَذَا:
زَعَمَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا لَا تُحْشَرُ الْأَجْسَادُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا
إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا
وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِلَامِ الْأَمْرِ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ لِبَلَاغَتِهِمْ، وَإِمَّا لِإِفَادَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مَقَالَتُهُمْ مِنْ تَأْكِيدِ تَحَمُّلِهِمْ
219
بِذَلِكَ. فَصِيغَةُ أَمْرِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْحَمْلِ آكَدُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ، وَمِنَ الشَّرْطِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَدْعِي الِامْتِثَالَ فَكَانَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ دَالَّةً عَلَى تَحْقِيقِ الْوَفَاءِ بِالْحَمَالَةِ.
وَوَاوُ الْعَطْفِ لِجُمْلَةِ وَلْنَحْمِلْ عَلَى جُمْلَةِ اتَّبِعُوا سَبِيلَنا مُرَادٌ مِنْهَا الْمَعِيَّةُ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْأَمْرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَمْعَ فِي الْحُصُولِ فَالْجُمْلَتَانِ فِي قُوَّةِ جُمْلَتَيْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْقَرِينَةِ.
فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَدَلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الِالْتِزَامِ بِالْحَالَةِ إِنِ اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ سَبِيلَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَتَّبِعُوا سَبِيلَنَا نَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ، بِصِيغَةِ الشَّرْطِ، أَوْ أَنْ يُقَالَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا فَنَحْمِلُ خَطَايَاكُمْ، بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ.
وَالْحَمْلُ: مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ لِحَالِ الْمُلْتَزِمِ بِمَشَقَّةِ غَيْرِهِ بِحَالِ مَنْ يَحْمِلُ مَتَاع غَيره فيؤول إِلَى مَعْنَى الْحَمَالَةِ وَالضَّمَانِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ خَطاياكُمْ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ.
وَقَوْلُهُ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ، نَقْضُ الْعُمُومِ فِي الْإِثْبَاتِ بِعُمُومٍ فِي النَّفْيِ، لِأَنَّ شَيْءٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، وَزِيَادَةُ حَرْفُ مِنْ تَنْصِيصٌ عَلَى الْعُمُومِ.
وَالْحَمْلُ الْمَنْفِيُّ هُوَ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ دَفْعَ التَّبِعَةِ عَنِ الْغَيْرِ وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ جِنَايَاتِهِ، فَلَا يُنَافِيهِ إِثْبَاتُ حَمْلٍ آخَرَ عَلَيْهِمْ هُوَ حَمْلُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى التَّضْلِيلِ فِي قَوْلِهِ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: ١٣].
وَالْكَذِبُ الْمُخْبَرُ بِهِ عَنْهُمْ هُوَ الْكَذِبُ فِيمَا اقْتَضَاهُ أَمْرُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ يَحْمِلُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَطَايَاهُمْ حَسَبَ زَعْمِهِمْ وَالْوَفَاءِ بِذَلِكَ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَذِبٌ لَا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ وَلِاعْتِقَادِهِمْ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ جُمْلَةَ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ تَضَمَّنَتْ عُرُوَّ قَوْلِهِمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ
عَنْ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ
220
يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا كَذِبٌ صَرِيحٌ، فَكَانَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ وَما هُمْ بِحامِلِينَ. وَلَيْسَ مَضْمُونُ الثَّانِيَةِ عَيْنَ مَضْمُونِ الْأُولَى بَلِ الثَّانِيةُ أَوْفَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كَذِبَهُمْ مُحَقَّقٌ وَأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُمْ فِي خَبَرِهُمْ هَذَا وَفِي غَيْرِهِ، وَوِزَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وِزَانُ بَيْتِ عِلْمِ الْمَعَانِي:
أَقُولُ لَهُ ارْحَلْ لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا إِذْ جعل الْأَئِمَّة جُمْلَةَ (لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا) بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ (ارْحَلْ) لِأَنَّ جُمْلَةَ (لَا تُقِيمَنَّ) أَوْفَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ وَطَلَبِ ارْتِحَالِهِ، وَلِهَذَا لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لِكَمَالِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ.
[١٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١٣]
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
بَعْدَ أَنْ كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: ١٢] وَكَشَفَ كَيْدَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا أَفَادَ أَنَّهُمْ غَيْرُ نَاجِينَ مِنْ حَمْلِ تَبِعَاتٍ لِأَقْوَامٍ آخَرِينَ وَهُمُ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ وَسَوَّلُوا لَهُمُ الشِّرْكَ وَالْبُهْتَانَ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ بِحَمْلِهِمْ ذَلِكَ. فَذِكْرُ الْحَمْلِ تَمْثِيلٌ. وَالْأَثْقَالُ مَجَازٌ عَنِ الذُّنُوبِ وَالتَّبِعَاتِ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلشَّقَاءِ وَالْعَنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَالِ الَّذِي يَحْمِلُ مَتَاعَهُ وَهُوَ مُوقَرٌ بِهِ فَيُزَادُ حَمْلُ أَمْتِعَةِ أُنَاسٍ آخَرِينَ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَقَامِ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ هَذَا حَمْلُ تَثْقِيلٍ وَزِيَادَةٍ فِي الْعَذَابِ وَلَيْسَ حَمْلًا يَدْفَعُ التَّبِعَةَ عَنِ الْمَحْمُولِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْأَثْقَالَ الْمَحْمُولَةَ مَعَ أَثْقَالِهِمْ هِيَ ذُنُوبُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ
وَلَيْسَ مَنْ بَيْنِهَا شَيْءٌ مِنْ ذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَالِمُونَ مِنْ تَضْلِيلِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ بهتانهم.
وَجُمْلَة وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِمُؤَاخَذَتِهِمْ بِجَمِيعِ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنَ الْإِفْكِ وَالتَّضْلِيلِ سَوَاءٌ مَا أَضَلُّوا بِهِ أَتْبَاعَهُمْ وَمَا حَاوَلُوا بِهِ بِتَضْلِيلِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَقَعُوا فِي أَشْرَاكِهِمْ، وَقَدْ شَمِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ لَفْظُ الِافْتِرَاءِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْ مُحَاوَلَتِهِمْ تَغْرِيرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ فِيهِ كاذبون.

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
سِيقَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَاللَّاتِي بَعْدَهَا شَوَاهِدَ عَلَى مَا لَقِيَ الرُّسُلُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُمْ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَ الْقِصَّتَيْنِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: ١٨] عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْآتِيَيْنِ.
وَابْتُدِئَتِ الْقِصَصُ بِقِصَّةِ أَوَّلِ رَسُولٍ بَعْثَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنَّ لِأَوَّلِيَّاتِ الْحَوَادِثِ وَقْعًا فِي نُفُوسِ الْمُتَأَمِّلِينَ فِي التَّارِيخِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَزَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّهُ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ مُدَّةُ رِسَالَتِهِ إِلَى قَوْمِهِ وَلَا غَرَضَ فِي مَعْرِفَةِ عُمُرِهِ يَوْمَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ مُصَابَرَتِهِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَدَوَامِهِ عَلَى إِبْلَاغِ الدَّعْوَةِ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُوثِرَ تَمْيِيزُ أَلْفَ بِ سَنَةٍ لِطَلَبِ الْخِفَّةِ بِلَفْظِ سَنَةٍ، وَمُيِّزَ خَمْسِينَ بِلَفْظِ عَامًا لِئَلَّا يُكَرَّرَ لَفْظُ سَنَةٍ.
وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ عَطْفٌ عَلَى أَرْسَلْنا كَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَلَبِثَ وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَخْذُهُمْ بِالطُّوفَانِ وَهُوَ اسْتِمْرَارُ تَكْذِيبِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ ظالِمُونَ حَالٌ، أَيْ أَخَذَهُمْ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالظُّلْمِ، أَيِ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ، تَلَبُّسًا ثَابِتًا لَهُمْ مُتَقَرِّرًا وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَأْخُذُهُمْ عَذَابٌ.
وَفَاءُ فَأَنْجَيْناهُ عَطْفٌ عَلَى فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَوْلُهُ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ الضَّمِيرُ لِلسَّفِينَةِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الطُّوفَانِ عَذَابًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُكَذِّبِينَ الرُّسُلَ، فَكَانَتِ السَّفِينَةُ آيَةً مَاثِلَةً فِي
222
عُصُورِ جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بَعْدَ نُوحٍ مَوْعِظَةً لِلْمُكَذِّبِينَ وَحُجَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَبْقَى اللَّهُ بَقِيَّةَ السَّفِينَةِ إِلَى صَدْرِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» :«قَالَ قَتَادَةُ: بَقِيَتْ بَقَايَا السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ حَتَّى نَظْرَتْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ». وَيُقَالُ إِنَّهَا دَامَتْ إِلَى أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ ثُمَّ غَمَرَتْهَا الثُّلُوجُ. وَكَانَ الْجُودِيُّ قُرْبَ (بَاقِرْدَى) وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ بِالْمَوْصِلِ شَرْقِيِّ دِجْلَةَ (وَبَاقِرْدَى بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ ثُمَّ قَافٌ مَكْسُورَةٌ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَدَالٌّ فَأَلِفٌ مَقْصُورَةٌ) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [١٥] وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
وَإِنَّمَا قَالَ لِلْعالَمِينَ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ سُكَّانِ الْأَرْضِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ بَقَايَا سَفِينَةِ نُوحٍ يُشَاهِدُ السُّفُنَ فَيَتَذَكَّرُ سَفِينَةَ نُوحٍ وَكَيْفَ كَانَ صُنْعُهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِإِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ نَجَاتَهُ، وَلِأَنَّ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهَا يُخْبِرُونَ عَنْهَا وتنقل أَخْبَارُهُمْ فَتَصِيرُ مُتَوَاتِرَةً.
هَذَا وَقَدْ وَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ «وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ»، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْبَاحِثُونَ فِي تَعْيِينِ جِبَالِ أَرَارَاطَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْمُ الْجُودِيِّ وَعَيَّنُوا أَنَّهُ مِنْ جِبَالِ بِلَادِ الْأَكْرَادِ فِي الْحَدِّ الْجَنُوبِيِّ لِأَرْمِينْيَا فِي سُهُولِ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ وَوَصَفُوهُ بِأَنَّ نَهْرَ دِجْلَةَ يَجْرِي بَيْنَ مُرْتَفَعَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْعُبُورُ بَيْنَ الْجَبَلِ وَنَهْرِ دِجْلَةَ إِلَّا فِي الصَّيْفِ، وَأَيَّدُوا قَوْلهم بِوُجُود بِقَيْد سَفِينَةٍ عَلَى قِمَّةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ. وَبَعْضُهُمْ زَعَمَ أَنْ (أَرَارَاطَ) فِي بِلَادِ أَرْمِينْيَا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِتَجَاوُرِ مُوَاطِنِ الْكُرْدِسْتَانِ وَأَرْمِينْيَا وَقَدْ تَخْتَلِفُ حُدُودُ الْمُوَاطِنِ بِاخْتِلَافِ الدُّوَلِ وَالْفُتُوحِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي وَجَعَلْناها عَائِدًا إِلَى الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ بِتَأْوِيلِ الْقِصَّةِ أَو الْحَادِثَة.
223

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]

وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧)
انْتَقَلَ مِنْ خَبَرِ نُوحٍ إِلَى خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ لِمُنَاسَبَةِ إِنْجَاءِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ كَإِنْجَاءِ نُوحٍ مِنَ الْمَاءِ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ إِلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ إِذْ أَنْجَتْ مِنَ الْمَاءِ وَمِنَ النَّارِ.
وإِبْراهِيمَ عطف على نُوحاً [العنكبوت: ١٤]. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ.
وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَرْسَلْنَا) الْمُقَدَّرِ، أَيْ فِي وَقْتِ قَوْلِهِ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِلَخْ وَهُوَ أَوَّلُ زَمَنِ دَعْوَتِهِ. وَاقْتَضَى قَوْلُهُ اعْبُدُوا اللَّهَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لِلَّهِ أَصْلًا.
وَجُمْلَةُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ. وَقَدْ أُجْمِلَ الْخَبَرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَفُصِّلَ بِقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً الْآيَةَ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَدِلَّةَ اخْتِصَاصِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَمَفْعُولُ الْعِلْمِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ فِعْلِ تَعْلَمُونَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ عِلْمٍ وَنَظَرٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ. وَقَصْرُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْرًا عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، أَيْ دُونَ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ إِذْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَالْقَصْرُ مُنْصَبٌّ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَالًا مِنْ أَوْثاناً، أَيْ حَالَ كَوْنِهَا مَعْبُودَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ دُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ لَكِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ وُصِفُوا بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٨] قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَهُمْ مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَالْقَصْرُ مُنْصَبٌّ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْمَوْصُوفَةِ بِالْوَثَنِيَّةِ، أَيْ مَا
224
تَعْبُدُونَ إِلَّا صُوَرًا لَا إِدْرَاكَ لَهَا، فَيَكُونُ قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ إِلَهِيَّةَ تِلْكَ الصُّوَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥].
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَخَرَّجُ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ دُونِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (غَيْرِ) فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً، وَالْمَعْنَى: تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا غَيْرَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ دُونِ اسْمًا لِلْمَكَانِ الْمُبَاعِدِ فَهِيَ إِذَنْ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُخَالَفَةِ فَتَكُونُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً، وَالْمَعْنَى: تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِصِفَاتِ اللَّهِ.
وَالْأَوْثَانُ: جَمْعُ وَثَنٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ مُجَسَّمَةٍ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ. وَالْوَثَنُ أَخَصُّ مِنَ الصَّنَمِ لِأَنَّ الصَّنَمَ يُطْلَقُ عَلَى حِجَارَةٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ مَثْلَ أَكْثَرِ أَصْنَامِ الْعَرَبِ كَصَنَمِ ذِي الْخَلَصَةِ لَخَثْعَمَ، وَكَانَتْ أَصْنَامُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صُوَرًا قَالَ تَعَالَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥]. وَتَقَدَّمَ وَصْفُ أَصْنَامِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وتَخْلُقُونَ مُضَارِعُ خَلَقَ الْخَبَرِ، أَيِ اخْتَلَقَهُ، أَيْ كَذَبَهُ وَوَضَعَهُ، أَيْ وَتَضَعُونَ لَهَا
أَخْبَارًا وَمَنَاقِبَ وَأَعْمَالًا مَكْذُوبَةً مَوْهُومَةً.
وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ [١١].
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً إِنْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ يَعْتَرِفُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْعِبَادَةِ لِيَكُونُوا لَهُمْ شُفَعَاءَ كَحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ شُكْرٌ عَلَى نِعَمِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يُثْبِتُونَ إِلَهِيَّةً لِغَيْرِ أَصْنَامِهِمْ كَانَتْ جُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً إِبْطَالًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَرْزُقُهُمْ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الِاحْتِمَالَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ التَّرَدُّدُ فِي حَالِ إِشْرَاكِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَتَنْكِيرُ رِزْقاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ نَفْيِ قُدْرَةِ أَصْنَامِهِمْ عَلَى كُلِّ رِزْقٍ وَلَوْ قَلِيلًا. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ إِبْطَالٌ لِظَنِّهِمُ الرِّزْقَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ
225
أَوْ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ، فَابْتِغَاءُ الرِّزْقِ مِنْهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْعِبَادَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ. وَقَدْ سَلَكَ إِبْرَاهِيمُ مَسْلَكَ الِاسْتِدْلَالِ بِالنِّعَمِ الْحِسِّيَّةِ لِأَنَّ إِثْبَاتَهَا أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ الْعُمُومِ.
وعِنْدَ ظَرْفُ مَكَانٍ وَهُوَ مُجَازٌ. شَبَّهَ طَلَبَ الرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ بِالْبَحْثِ عَنْ شَيْءٍ فِي مَكَانٍ يَخْتَصُّ بِهِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ عِنْدَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَكَانِ الْمُخْتَصِّ بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ الظَّرْفُ.
وَعُدِّيَ الشُّكْرُ بِاللَّامِ جَرْيًا عَلَى أَكْثَرِ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِقَصْدِ إِفَادَةِ مَا فِي اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ أَيِ الِاسْتِحْقَاقِ.
وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الرِّزْقَ لَامُ الْجِنْسِ الْمُفِيدَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فَاطْلُبُوا كُلَّ رِزْقٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنَ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ رِزْقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ إِعَادَةُ لَفْظِ الرِّزْقِ بِالتَّعْرِيفِ مُقْتَضِيَةً كَوْنَهُ غَيْرَ الْأَوَّلِ، فَلَا تَنْطَبِقُ هُنَا قَاعِدَةُ النَّكِرَةِ إِذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً كَانَتْ عَيْنَ الْأُولَى.
وَجُمْلَةُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، أَيْ لِأَنَّهُ الَّذِي يُجَازِي عَلَى ذَلِكَ ثَوَابًا وَعَلَى ضِدِّهِ عِقَابًا إِذْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مَرْجِعُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَفِي هَذَا إدماج تَعْلِيل بِالْعبَادَة بِإِثْبَات الْبَعْث.
[١٨]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١٨]
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ بَقِيَّةِ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَكُونَ رَأَى مِنْهُمْ مَخَائِلَ التَّكْذِيبِ فَفَرَضَ وُقُوعَهُ، أَوْ يَكُونَ سَبَقَ تَكْذِيبُهِمْ إِيَّاهُ مَقَالَتَهُ هَذِهِ، فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَازِمَ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ لَيْسَ بِعَجِيبٍ فَلَا يَضِيرُهُ وَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ يَضِيرُونَهُ بِهِ وَيَتَشَفَّوْنَ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدِ انْتَابَ الرُّسُلَ قَبْلَهُ مِنْ أُمَمِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ فِعْلِ تُكَذِّبُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ اخْتِلَافَهُمْ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ [العنكبوت: ١٩] إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاو اعتراضية وَاعْترض هَذَا الْكَلَامِ بَيْنَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَجَوَابِ قَوْمِهِ، فَهُوَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْتَفَتَ بِهِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ فَائِدَةِ سَوْقِ قِصَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةً بِرُسُلِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَهُ وَخَاصَّةً إِبْرَاهِيمُ جَدُّ الْعَرَبِ الْمَقْصُودِينَ بِالْخِطَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَجُمْلَةُ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إِعْلَامٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَا يَلْحَقُهُ مِنْهُ مَا فِيهِ تَشَفٍّ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ إِبْرَاهِيمُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِيذَانِ عُنْوَانِ الرَّسُولِ بِأَنَّ وَاجِبَهُ إِبْلَاغُ مَا أُرْسِلَ بِهِ بَيِّنًا وَاضِحًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ فِي الْقُرْآنِ مَعَ الْإِيذَانِ بِأَنَّ عُنْوَانَ الرِّسَالَةِ لَا يَقْتَضِي إِلَّا التَّبْلِيغ الْوَاضِح.
[١٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩)
يَجْرِي هَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: ١٨].
وَيَتَرَجَّحُ أَنَّ هَذَا مَسُوقٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَن الْجُمْهُور قرأوا أَوَلَمْ يَرَوْا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَلَمْ يَجْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: ١٨].
وَمُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِهَذَا هُوَ مَا جَرَى مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: ١٧] تَنْظِيرًا لِحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِحَالِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ يَرَوْا بِيَاءِ الْغَائِبِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [العنكبوت: ١٢] فِي قَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا [العنكبوت: ١٢]، أَوْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَعَلَى وَجْهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: ١٨] إِلَخْ خَارِجًا عَنْ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ يَكُونُ ضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا الْتِفَاتًا. وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِنُكْتَةِ إِبْعَادِهِمْ عَنْ شَرَفِ الْحُضُورِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ أَوَلَمْ تَرَوْا بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى
227
طَرِيقَةِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: ١٨] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ.
وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً (١)، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ تَجَدُّدِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حِينٍ بِالْوِلَادَةِ وَبُرُوزِ النَّبَاتِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ.
وَإِبْدَاءُ الْخَلْقِ: بَدْؤُهُ وَإِيجَادُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا. يُقَالُ: أَبْدَأَ بِهَمْزَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبَدَأَ بِدُونِهَا وَقَدْ وَرَدَا مَعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ قَالَ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ قَالَ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت: ٢٠] وَلم يجىء فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى إِلَّا الْمُبْدِئُ دُونَ الْبَادِئِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ (أَبْدَأَ) بِهَمْزٍ فِي أَوَّلِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ (يُعِيدُ) وَلَمْ أَرَ مَنْ قَيَّدَهُ بِهَذَا.
والْخَلْقَ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَخْلُوقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: ١١].
وَجِيءَ يُبْدِئُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ بَدْءِ الْخَلْقِ كُلَّمَا وَجَّهَ النَّاظِرُ بَصَرَهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْجُمْلَةُ انْتَهَتْ بِقَوْلِهِ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ. وَأَمَّا جُمْلَةُ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ فَلَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِفِعْلِ يَرَوْا لِأَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ بَعْدَ انْعِدَامِهِ لَيْسَتْ مَرْئِيَّةً لَهُمْ وَلَا هُمْ يَظُنُّونَهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ثُمَّ يُعِيدُهُ مُسْتَقِلَّةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا وَجُمْلَةِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ أَمْرَ إِعَادَةِ الْخَلْقِ أَهَمُّ وَأَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ بَدْئِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَلِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَهُ وَلَا يُنْكِرُونَ بَدْءَ الْخَلْقِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :
هُوَ كَقَوْلِك: مَا زلت أُوثِرُ فُلَانًا وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَى مَنْ أُخَلِّفُهُ» يَعْنِي فَجُمْلَةُ: وَأَسْتَخْلِفُهُ، لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: أُوثِرُ، وَلَا دَاخِلَةً فِي خبر: مَا زلت، لِأَنَّكَ تَقُولُهُ قَبْلَ أَنْ تَسْتَخْلِفَهُ فَضْلًا
_________
(١) سَيَجِيءُ مُقَابل هَذَا بعد بضعَة وَعشْرين سطرا.
228
عَنْ تَكَرُّرِ الِاسْتِخْلَافِ مِنْكَ. هَذِهِ طَرِيقَةُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ يَجْعَلُ مَوْقِعَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كَمَوْقِعِ التَّفْرِيعِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هذَيْن الْفِعْلَيْنِ (يبدىء وَيُعِيدُ) وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا مِمَّا جَرَى اسْتِعْمَالُهُمَا مُتَزَاوِجَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّبَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٩].
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ سَبَأٍ: فَجَعَلُوا قَوْلهم: لَا يبدىء وَلَا يُعِيدُ، مَثَلًا فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبِيدٍ:
فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ وَيُقَالُ: أَبْدَأَ وَأَعَادَ بِمَعْنَى تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا وَاسِعًا، قَالَ بِشَارٌ:
فَهُمُومِي مِظَلَّةٌ بَادِئَاتٍ وَعُوَّدَا
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً مُتَعَدِّيَةً إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهُمُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ الْمُوَصِّلَ إِلَى علم كَيفَ يبدىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِأَنَّ أَدِلَّةَ بَدْءِ الْخَلْقِ تُفْضِي بِالنَّاظِرِ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ الْخَلْقَ فَتَكُونُ ثُمَّ عَاطِفَةً فِعْلَ يُعِيدُهُ عَلَى فِعْلِ يُبْدِئُ وَالْجَمِيعُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ.
وكَيْفَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ وَهِيَ مُعَلِّقَةُ فِعْلِ يَرَوْا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَعْمُولِهِ أَوْ مَعْمُولَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ، أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنهُ. والاستفهام ب كَيْفَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ وَلَفْتِ النَّظَرِ لَا فِي طَلَبِ الْإِخْبَارِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ إِنْكَارِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِوُقُوعِ الْإِعَادَةِ، إِذْ أَحَالُوهَا مَعَ أَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَيْسَرَ مِنَ الْإِعَادَةِ فِي الْعُرْفِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهَا مُسَاوِيَةً لَهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧]. وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمُفَادِ مِنْ يُعِيدُهُ مِثْلَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧]. وَوَجَهُ تَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ رَدُّ دَعْوَاهُمْ أَنه مُسْتَحِيل.
229

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢٠]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
اعْتِرَاضٌ انْتِقَالِيٌّ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا هُوَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ، إِلَى إِرْشَادِهِمْ لِلِاسْتِدْلَالِ بِمَا هُوَ بَعِيدٌ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَعَاقُبِ الْأُمَمِ وَخَلْفِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ تَعَوُّدَ النَّاسِ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَصْرِفُ عُقُولَهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ دَقَائِقِهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِيُشَاهِدُوا آثَارَ خَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ عَدَمٍ فَيُوقِنُوا أَنَّ إِعَادَتَهَا بَعْدَ زَوَالِهَا لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنِ ابْتِدَاءِ صُنْعِهَا.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ السَّيْرَ يُدْنِي إِلَى الرَّائِي مُشَاهَدَاتٍ جَمَّةً مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَرَضِينَ بجبالها وأنهارها ومحويّاتها وَيَمُرُّ بِهِ عَلَى مَنَازِلِ الْأُمَمِ حَاضِرِهَا وَبَائِدِهَا فَيَرَى كَثِيرًا مِنْ أَشْيَاءَ وَأَحْوَالٍ لَمْ يَعْتَدْ رُؤْيَةَ أَمْثَالِهَا، فَإِذَا شَاهَدَ ذَلِكَ جَالَ نَظَرُ فِكْرِهِ فِي تَكْوِينِهَا بَعْدَ الْعَدَمِ جَوَلَانًا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ حِينَمَا كَانَ يُشَاهِدُ أَمْثَالَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي دِيَارِ قَوْمِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَشَأَ فِيهَا مِنْ زَمَنِ الطُّفُولَةِ فَمَا بَعْدَهُ قَبْلَ حُدُوثِ التَّفْكِيرِ فِي عَقْلِهِ اعْتَادَ أَنْ يَمُرَّ بِبَصَرِهِ عَلَيْهَا دُونَ اسْتِنْتَاجٍ مِنْ دَلَائِلِهَا حَتَّى إِذَا شَاهَدَ أَمْثَالَهَا مِمَّا كَانَ غَائِبًا عَنْ بَصَرِهِ جَالَتْ فِي نَفْسِهِ فِكْرَةُ الِاسْتِدْلَالِ، فَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ وَسِيلَةٌ جَامِعَةٌ لِمُخْتَلِفِ الدَّلَائِلِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ لِهَذَا الْغَرَضِ مِنْ جَوَامِعِ الْحِكْمَةِ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّ السَّائِرَ لَيْسَ لَهُ مِنْ قَرَارٍ فِي طَرِيقِهِ فَنَدَرَ أَنْ يَشْهَدَ حُدُوثَ بَدْءِ مَخْلُوقَاتٍ، وَلَكِنَّهُ يَشْهَدُ مَخْلُوقَاتٍ مَبْدُوءَةً مِنْ قَبْلُ فَيَفْطِنُ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَوْجَدَهَا إِنَّمَا أَوْجَدَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ أَمْثَالِهَا فَهُوَ بِالْأَحْرَى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهَا بَعْدَ عَدَمِهَا.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي مَضَتْ أَمْكَنُ لِأَنَّ لِلشَّيْءِ الْمُتَقَرِّرِ تَحَقُّقًا مَحْسُوسًا.
وَجِيءَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِ النَّظَرِ لِأَنَّ إِدْرَاكَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ حَاصِلٌ بِطَرِيقِ الْبَصَرِ وَهُوَ بِفِعْلِ النَّظَرِ أَوْلَى وَأَشْهَرُ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى إِدْرَاكِ أَنَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ.
وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِجُمْلَةِ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ فَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. (وَثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ [العنكبوت: ١٩].
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ ضَمِيرِهِ فِي قَوْلِهِ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُول: ثمَّ ينشىء. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ وَاقِعًا فِي الْإِعَادَةِ فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ فِي الْإِبْدَاءِ بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ إِنْشَاءٌ مِثْلَ الْإِبْدَاءِ، فَالَّذِي لَمْ يُعْجِزْهُ
الْإِبْدَاءُ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ أَنْ لَا تُعْجِزَهُ الْإِعَادَةُ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ ذَاكَ الَّذِي أَنْشَأَ النَّشْأَةَ الْأُولَى هُوَ الَّذِي ينشىء النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَبْرَزَ اسْمَهُ وَأَوْقَعَهُ مُبْتَدَأً اه. يُرِيدُ أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِتَسْجِيلِ وُقُوعِ هَذَا الْإِنْشَاءِ الثَّانِي، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً حَتَّى تَكُونَ عُنْوَانَ اعْتِقَادٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ لِأَنَّ فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ إِحْضَارًا لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي بِهَا التَّكْوِينُ، وَلِيُفِيدَ وُقُوعُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِمُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ مَعْنَى التَّقَوِّي.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ، أَيْ قَدِيرٌ عَلَى الْبَعْثِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذَا أَرَادَهُ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَكُونَ جُمْلَةُ التَّذْيِيلِ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَتَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ.
والنَّشْأَةَ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ: الْمَرَّةُ مِنَ النَّشْءِ وَهُوَ الْإِيجَادُ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ، عُبِّرَ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ لِأَنَّهَا نَشْأَةٌ دَفْعِيَّةٌ تُخَالِفُ النَّشْءَ الْأَوَّلَ وَيُقَالُ: النِّشَاءَةُ بِمَدٍّ بَعْدَ الشِّينِ بِوَزْنِ الْكَآبَةِ وَمِثْلُهَا الرَّأْفَةُ وَالرَّءَافَةُ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو النَّشَاءَةُ بِالْمَدِّ. وَوَصْفُهَا بِ الْآخِرَةَ إِيمَاءٌ بِأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلنَّشْأَةِ الْأُولَى فَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي إِحَالَةِ وُقُوعِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى [الْوَاقِعَة: ٦٢] فَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
[الْوَاقِعَة: ٦١] يَتَضَمَّنُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ فَعبر عَن مقابلتها بالنشأة.
[٢١]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢١]
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١)
لَمَّا ذَكَرَ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أَتْبَعَ ذِكْرَهَا بِذِكْرِ أَهَمِّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَمَا أُوجِدَتْ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَارٍ مَعَ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الَّذِينَ حَظُّهُمْ فِيهِ هُوَ التَّعْذِيبُ. وَمَفْعُولَا فِعْلَيِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفَانِ جَرْيًا عَلَى غَالِبِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِمَا. وَالتَّقْدِيرُ:
مَنْ يَشَاءُ تَعْذِيبَهُ وَمَنْ يَشَاءُ رَحْمَتَهُ. وَالْفَرِيقَانِ مَعْلُومَانِ مِنْ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَأَصْحَابُ الْوَعْدِ شَاءَ اللَّهُ رَحْمَتَهُمْ وَأَصْحَابُ الْوَعِيدِ شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ، فَمِنَ الَّذِينَ شَاءَ تَعْذِيبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَمِنَ الَّذِينَ شَاءَ رَحْمَتَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُمُ الْفَرِيقَانِ مَعًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ الْعَامُّ فِي قَوْلِهِ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ.
وَالْقَلْبُ: الرُّجُوعُ، أَيْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ لِلْحَصْرِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ اعْتِقَادٌ مَرْدُودٌ. وَفِي هَذَا إِعَادَةُ إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وتعريض بالوعيد.
[٢٢]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢٢]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت: ٢١] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ.
وَالْمُعْجِزُ حَقِيقَتُهُ: هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ عَاجِزًا عَنْ فِعْلٍ مَا، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْغَلَبَةِ وَالِانْفِلَاتِ مِنَ الْمُكْنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٤].
فَالْمَعْنَى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُفْلَتِينَ مِنَ الْعَذَابِ. وَمَفْعُولُ (مُعْجِزِينِ) مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ بِمُعْجِزِينَ اللَّهَ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ بِمُعْجِزِينَ، أَيْ لَيْسَ لَكُمُ انْفِلَاتٌ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَا تَجِدُونَ مَوْئِلًا يُنْجِيكُمْ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَيْكُمْ فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ سَهْلِهَا وَجَبَلِهَا، وَبَدْوِهَا وَحَضَرِهَا.
وَعَطْفُ وَلا فِي السَّماءِ عَلَى فِي الْأَرْضِ احْتِرَاسٌ وَتَأْيِيسٌ مِنَ الطَّمَعِ فِي النَّجَاةِ وَإِنْ كَانُوا لَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي الِالْتِحَاقِ بِالسَّمَاءِ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
فَلَوْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثَمَانِينَ قَامَةً وَرُقِّيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: ٢٢]، وَلَمْ تَقَعْ مِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي آيَةِ سُورَة الشورى [٣٠، ٣١] وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ جَمَعَتْ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠] إِذِ الْعَفْوُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا هُنَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَهِيَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمَقْبُولَةِ كَمَا فِي قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلَمِيٍّ الضَّبِّيِّ:
وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ
وَهِيَ أَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرَّحْمَن: ٣٣]. وَفِي هَذِه إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ اغْتِرَارِهِمْ بِتَأْخِيرِ
الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدُوهُ فِي الدُّنْيَا.
وَلَمَّا آيَسَهُمْ مِنَ الِانْفِلَاتِ بِأَنْفُسِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ أَعْقَبَهُ بِتَأْيِيسِهِمْ مِنَ الِانْفِلَاتِ مِنَ الْوَعِيدِ بِسَعْيِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَتَوَسَّطُونَ فِي دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ بِنَحْوِ السِّعَايَةِ أَوِ الشَّفَاعَةِ، أَوْ مِنْ نُصَرَاءٍ يُدَافِعُونَ عَنْهُمْ بالمغالبة وَالْقُوَّة.
[٢٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢٣]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ [العنكبوت: ٢١] وَإِنَّمَا عُطِفَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ وَأَنَّهُ يُصِيبُهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
وَالْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ: هُوَ كُفْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ. وَالْكُفْرُ بِلِقَائِهِ: إِنْكَارُ الْبَعْثِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفِيدُ أَنَّ مَا سَيَذْكُرُهُ بَعْدَهُ نَالَهُمْ مِنْ أَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَوْصَافٍ، أَيْ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْيَأْسَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَإِصَابَتَهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ عَلَى أُسْلُوبِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَأَخْبَرَ عَنْ يَأْسِهِمْ مِنْ رَحْمَة الله بِالْفِعْلِ الْمُضِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَالْمَعْنَى:
أُولَئِكَ سَيَيْأَسُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ بِآياتِ اللَّهِ دُونَ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْآيَاتِ حَيْثُ أُضِيفَتْ إِلَى الِاسْمِ الْجَلِيلِ لِمَا فِي الِاسْمِ الْجَلِيلِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا يَكْفُرَ بِآيَاتِهِ. وَالْعُدُولُ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ رَحْمَتِي الْتِفَاتٌ عَادَ بِهِ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ إِلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْكِيدِ التَّنْبِيهِ عَلَى استحقاقهم ذَلِك.
[٢٤]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢٤]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤)
لَمَّا تَمَّ الِاعْتِرَاضُ الْوَاقِعُ فِي خِلَالِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ مَا أَجَابَهُ بِهِ قَوْمُهُ.
وَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ [العنكبوت: ١٦].
وَجِيءَ بِصِيغَةِ حَصْرِ الْجَواب فِي قَوْلهم اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ
يَتَرَدَّدُوا فِي جَوَابِهِ وَكَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً فِي تَكْذِيبِهِ وَإِتْلَافِهِ وَهَذَا مِنْ تَصَلُّبِهُمْ فِي كُفْرِهِمْ.
ثُمَّ تَرَدَّدُوا فِي طَرِيقِ إِهْلَاكِهِ بَيْنَ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَالْإِتْلَافِ بِالْإِحْرَاقِ ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى إِحْرَاقِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وجَوابَ قَوْمِهِ خَبَرُ كانَ وَاسْمُهَا أَنْ قالُوا. وَغَالِبُ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُؤَخَّرَ اسْمُهَا إِذَا كَانَ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةُ وَصِلَتُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي آخِرِ سُورَةِ النُّورِ [٥١]، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْرَأْ الِاسْمُ الْمُوَالِي لِفِعْلِ الْكَوْنِ فِي أَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ إِلَّا مَنْصُوبًا.
وَقَدْ أُجْمِلَ إِنْجَاؤُهُ مِنَ النَّارِ هُنَا وَهُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الإنجاء الْمَأْخُوذ مِنْ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَجُعِلَ ذَلِكَ
الْإِنْجَاءُ آيَاتٍ وَلَمْ يُجْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ آيَةٌ لِكُلِّ مَنْ شَهِدَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَكَرَامَةِ رَسُولِهِ، وَتَصْدِيقِ وَعْدِهِ، وَإِهَانَةِ عَدُّوِهِ، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا جَلِيلَهَا وَحَقِيرَهَا مُسَخَّرَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَجِيء بِلَفْظ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. فَذَلِكَ آيَاتٌ عَلَى عَظِيمِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرُسُلِهِ فَصَدَّقَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ. فَفِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ لِشِدَّةِ مُكَابَرَتِهِمْ وَكَوْنِ الْإِيمَانِ لَا يخالط عُقُولهمْ.
[٢٥]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢٥]
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَقَالَتُهُ هَذِهِ سَابِقَةً عَلَى إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ وَأَنْ تَكُونَ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ. وَالْأَظْهَرُ مِنْ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، أَرَادَ بِهِ إِعْلَانَ مُكَابَرَتِهِمُ الْحَقَّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمُعْجِزَةِ سَلَامَتِهِ مِنْ حَرْقِ النَّارِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَوْثَانِ قَرِيبًا.
وَمَحَطُّ الْقَصْرِ بِ إِنَّمَا هُوَ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ أَمَّا قَصْرُ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى
كَوْنِهَا أَوْثَانًا فَقَدْ سَبَقَ فِي قَوْلِهِ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً [العنكبوت: ١٧] أَيْ مَا اتَّخَذْتُمْ أَوْثَانًا إِلَّا لِأَجْلِ مَوَدَّةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ دَلَالَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِإِبْطَالِهَا فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ بَقَائِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ هُوَ مَوَدَّةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا الدَّاعِيَةَ لِإِبَايَةِ الْمُخَالَفَةِ. وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ وَالْإِلْفُ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بَيْنِكُمْ شَامِلًا لِلْأَوْثَانِ.
وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ. فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَا يُخَالِفُهُ وَإِنْ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ، وَيُحِبُّونَ الْأَوْثَانَ فَلَا يَتْرُكُونَ عِبَادَتَهَا وَإِنْ ظَهَرَتْ لِبَعْضِهِمْ دَلَالَةُ بُطْلَانِ إِلَهِيَّتِهَا قَالَ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٦٥].
235
قَالَ الْفَخْرُ: أَيْ مَوَدَّةً بَيْنَ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَتِهَا فَإِنَّ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ اللَّذَّاتُ الْجِسْمِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْمَجْنُونِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى قَضَاءِ حَاجَةٍ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ إِرَاقَةِ مَاءٍ وَهُوَ بَيْنَ مَجْمَعٍ مِنَ الْأَكَابِرِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مِنَ الْحَيَاءِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ بَلْ يُحَصِّلُ مَا فِيهِ لَذَّةُ جِسْمِهِ. فَهُمْ كَانُوا قَلِيلِي الْعُقُولِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ اللَّذَّاتُ الْجِسْمِيَّةُ فَلَمْ يَتَّسِعْ عَقْلُهُمْ لِمَعْبُودٍ غَيْرِ جُسْمَانِيٍّ وَرَأَوْا تِلْكَ الْأَصْنَامَ مُزَيَّنَةً بِأَلْوَانٍ وَجَوَاهِرَ فَأَحَبُّوهَا.
وَفِعْلُ اتَّخَذْتُمْ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِمْرَارُ وَالْبَقَاءُ عَلَى اتِّخَاذِهَا بَعْدَ وُضُوحِ حُجَّةِ بُطْلَانِ اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ مَوَدَّةَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا بِدُونِ إِضَافَةٍ، وبَيْنِكُمْ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَوَدَّةَ مَنْصُوبًا غَيْرَ مُنَوَّنٍ بَلْ مُضَافًا إِلَى بَيْنِكُمْ، وبَيْنِكُمْ مَجْرُورٌ أَوْ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَظْرُوفِ إِلَى الظَّرْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَرْفُوعًا مُضَافًا عَلَى أَنْ تَكُونَ (مَا) فِي إِنَّمَا مَوْصُولَةً وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبُ مَفْصُولَةً، ومَوَدَّةَ خَبَرُ (إِنَّ) تَكُونُ كِتَابَةُ إِنَّمَا مُتَّصِلَةً مِنْ قَبِيلِ الرَّسْمِ غَيْرِ الْقِيَاسِيِّ فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْهَا بِأَنَّهَا مَوَدَّةٌ إِخْبَارًا مَجَازِيًّا عَقْلِيًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاتِّخَاذَ سَبَبٌ عَنِ الْمَوَدَّةِ. وَلِمَا فِي الْمَجَازِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ كَانَ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْخَبَرِ بَعْدَ تَأْكِيدِهِ بِ (إِنَّ) فَيَقُومُ التَّأْكِيدَانِ مَقَامَ الْحَصْرِ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ كَمَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ، أَيْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِعَادَةِ الْخَبَرِ حَيْثُ يُثْبِتُ ثُمَّ يُؤَكِّدُ بِنَفْيِ مَا عَدَاهُ.
وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ إِفَادَةِ الْحُكْمِ بَلْ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. وَنَظِيرُهُ جُمْلَةُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ فِي
قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ (١) :
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا
_________
(١) لطبيب لقب أبي عَبدة واسْمه يزِيد بن عَمْرو. وَتب فِي أَكثر النّسخ من كتب الْأَدَب مخطوطه ومطبوعها: الطَّبِيب بموحدتين بَينهمَا تحتية وَفِي قَلِيل من كتب الْأَدَب بتحتية بعد الطَّاء وَلم أَقف على من حقق ضَبطه بِوَجْه لَا التباس فِيهِ.
236
وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ شَائِبَةُ ثُبُوتِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِذْ يَكْتَسِبُونَ بِذَلِكَ مَوَدَّةً بَيْنَهُمْ تَلَذُّ لِنُفُوسِهِمْ قَرَنَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ إِلَخْ تَنْبِيهًا لِسُوءِ عَاقِبَةِ هَذِهِ الْمَوَدَّةِ وَإِزَالَةٍ لِلْغُرُورِ وَالْغَفْلَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا إِنْ كَانَتْ تُعْقِبُ نَدَامَةً آجِلَةً.
وَمَعْنَى يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَكْفُرُونَ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا إِذْ يَجْحَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا.
وَمَعْنَى وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَلْعَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْآخَرِينَ إِمَّا لِأَنَّ الْمَلْعُونِينَ غَرُّوا اللَّاعِنِينَ فَسَوَّلُوا لَهُمُ اتِّخَاذَ الْأَصْنَامِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذِهِ مَخَازٍ تَلْحَقُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّهُمْ مِنْ عَذَابِ الْخِزْيِ بِقَوْلِهِ وَمَأْواكُمُ النَّارُ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّهُمْ جَمِيعًا مِنِ انْعِدَامِ النَّصِيرِ فَقَالَ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ فَنَفَى عَنْهُمْ جِنْسَ النَّاصِرِ. وَهُوَ مَنْ يُزِيلُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْخِزْيَ. وَجِيءَ فِي نَفْيِ النَّاصِرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ هُنَا خِلَافًا لِقَوْلِهِ آنِفًا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت: ٢٢] لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَأَلَّبُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَتَجَمَّعُوا لِنُصْرَةِ أَصْنَامِهِمْ كَانَ جَزَاؤُهُمْ حِرْمَانَهُمْ مِنَ النُّصَرَاءِ مُطَابَقَةً بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْحَالَةِ الَّتِي جُوزُوا عَلَيْهَا. عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ سَوَاءٌ فِي إِفَادَةِ نَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ من الْجِنْس.
[٢٦]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢٦]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اعْتِرَاضَ التَّفْرِيعِ، وَأَفَادَتِ الْفَاءُ مُبَادَرَةَ لُوطٍ
بِتَصْدِيقِ إِبْرَاهِيمَ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ لُوطٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِلَّا لُوطٌ لِأَنَّهُ الرَّجُلُ الْفَرْدُ الَّذِي آمَنَ بِهِ وَأَمَّا امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَةُ لُوطٍ فَلَا يَشْمَلُهُمَا اسْمُ الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت: ١٦] الْآيَةَ لِأَنَّ الْقَوْمَ خَاصٌّ بِرِجَالِ الْقَبِيلَةِ قَالَ زُهَيْرٌ:
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
237
وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ زَوْجُهُ (سَارَّةٌ) وَزَوْجُ لُوطٍ وَاسْمُهَا (مَلِكَةٌ). وَلُوطٌ هُوَ ابْن (هاران) أَخِي إِبْرَاهِيمَ، فَلُوطٌ يَوْمَئِذٍ مِنْ أُمَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [العنكبوت: ٢٤].
فَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ أَعْلَنَ أَنَّهُ مُهَاجِرٌ دِيَارَ قَوْمِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أمره بمفارقة ديار أَهْلِ الْكُفْرِ.
وَهَذِهِ أَوَّلُ هِجْرَةٍ لِأَجْلِ الدِّينِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا هِجْرَةً إِلَى رَبِّهِ. وَالْمُهَاجَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهَجْرِ: وَهُوَ تَرْكُ شَيْءٍ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ، وَالْمُفَاعَلَةُ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ لِأَنَّ الَّذِي يَهْجُرُ قَوْمَهُ يَكُونُونَ هُمْ قَدْ هَجَرُوهُ أَيْضًا.
وَحَرْفُ إِلى فِي قَوْلِهِ إِلى رَبِّي لِلِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ إِذْ جَعَلَ هِجْرَتَهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُهَاجِرَ إِلَيْهَا كَأَنَّهَا هِجْرَةٌ إِلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَكُونُ إِلى تَخْيِيلًا لِاسْتِعَارَةٍ مَكْنِيَّةٍ أَوْ جَعَلَ هِجْرَتَهُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَعْبُدُ أَهْلُهُ اللَّهَ لِطَلَبِ مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ كَأَنَّهُ هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَتَكُونُ إِلى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعَارَةً لِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً.
وَرُشِّحَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَهِيَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي، لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَزِيزًا يَعْتَزُّ بِهِ جَارُهُ وَنَزِيلُهُ.
وَإِتْبَاعُ وَصْفِ الْعَزِيزُ بِ الْحَكِيمُ لِإِفَادَةِ أَنَّ عِزَّتَهُ مُحْكَمَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَهَا الْمَحْمُودَ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِثْلَ نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَنَصْرِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ فَيَكُونُ زِيَادَةَ تَأْكِيدِ مَعْنَى الْعَزِيزُ.
وَقَدْ مَضَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ وَبِلَادِهِمْ مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ
238

[٢٧]

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢٧]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ.
هَذَا الْكَلَامُ عُقِّبَتْ بِهِ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ تِبْيَانًا لِفَضْلِهِ إِذْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ وَهَبْنا، وجَعَلْنا الْإِعْلَامَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ تَمَامِ الْقِصَّةِ كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ فِي ذِكْرِ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمَ. والْكِتابَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ فَالتَّوْرَاةُ، وَالْإِنْجِيلُ، وَالزَّبُورُ، وَالْقُرْآنُ كُتُبٌ نَزَلَتْ فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَيْنِ: أَجْرًا فِي الدُّنْيَا بِنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَبِحُسْنِ السُّمْعَةِ وَبَثِّ التَّوْحِيدِ وَوَفْرَةِ النَّسْلِ، وَأَجْرًا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْكَمَالِ، أَيْ مِنْ كُمْلِ الصَّالِحِينَ.
[٢٨- ٣٠]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٢٨ الى ٣٠]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠)
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ
الِانْتِقَالُ مِنْ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى قَوْمِهِ إِلَى رِسَالَةِ لُوطٍ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ شَابَهَ إِبْرَاهِيمَ فِي أَنْ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الرِّجْزِ. وَالْقَوْلُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَالْقَوْلِ فِي آيَةِ وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت: ١٦] الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَمَا بَيْنَ الْآيَاتِ مِنْ تَفَاوُتٍ هُوَ تَفَنُّنٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ، إِلَّا قَوْلَهُ هُنَا إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ نَظِيرٌ فِيمَا مَضَى.
وَقَوْمُ لُوطٍ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
239
وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ تَوْكِيدٌ لِتَعَلُّقِ النِّسْبَةِ بِالْمَفْعُولِ لَا تَأْكِيدٌ لِلنِّسْبَةِ، فَالْمَقْصُودُ
تَحْقِيقُ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ فَاحِشَةٌ، أَيْ عَمَلٌ قَبِيحٌ بَالِغُ الْغَايَةِ فِي الْقُبْحِ، لِأَنَّ الْفُحْشَ بُلُوغُ الْغَايَةِ فِي شَيْءٍ قَبِيحٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ شَاعِرِينَ بِشَنَاعَةِ عَمَلِهِمْ وَقُبْحِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْإِخْبَارِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّوْبِيخِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِهَمْزَتَيْنِ: هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهَمْزَةِ (إِنَّ).
وَقَرَأَ الْجَمِيع أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بِهَمْزَتَيْنِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجَدْتُ الْأَوَّلَ أَيْ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ فِي الْإِمَامِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ يَاءٍ، أَيْ بِغَيْرِ الْيَاءِ الَّتِي تُكْتَبُ الْهَمْزَةُ الْمَكْسُورَةُ عَلَى صُورَتِهَا وَرَأَيْتُ الثَّانِي (أَي إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) بِحَرْفَيِ الْيَاءِ وَالنُّونِ اه. (يَعْنِي الْيَاءَ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالنُّونُ نُونُ إِنَّ). وَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِالْإِمَامِ مُصْحَفَ الْبَصْرَةِ أَوِ الْكُوفَةِ فَتَكُونُ قِرَاءَةُ قُرَّائِهِمَا رِوَايَةً مُخَالِفَةً لِصُورَةِ الرَّسْم.
وَجُمْلَة أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ إِلَخْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ، بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ على جملَة أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ مِنْ قَوْلِهِ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ إِلَخْ لِأَنَّ قَطْعَ السَّبِيلِ وَإِتْيَانَ الْمُنْكَرِ فِي نَادِيهِمْ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ إِتْيَانُ الْفَاحِشَةِ.
وَأُدْخِلَ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ عَلَى جَمِيعِ التَّفْصِيلِ وَأُعِيدَ حَرْفُ التَّأْكِيدِ لِتَتَطَابَقَ جُمْلَةِ الْبَدَلِ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا لِأَنَّهَا الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلَةِ عِنْدَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا عُطِفَ عَلَيْهَا تَكُونُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ.
وَقَطْعُ السَّبِيلِ: قَطْعُ الطَّرِيقِ، أَيِ التَّصَدِّي لِلْمَارِّينَ فِيهِ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ. وَكَانَ قَوْمُ لُوطٍ يَقْعُدُونَ بِالطُّرُقِ لِيَأْخُذُوا مِنَ الْمَارَّةِ مَنْ يَخْتَارُونَهُ.
فَقَطْعُ السَّبِيلِ فَسَادٌ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ أَفْسَدُ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ. وَأَمَّا إِتْيَانُ الْمُنْكَرِ فِي نَادِيهِمْ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا نَادِيَهُمْ لِلْحَدِيثِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا
240
وَمُقَدِّمَاتِهَا كَالتَّغَازُلِ بِرَمْيِ الْحَصَى اقْتِرَاعًا بَيْنَهُمْ على من يرومونه، وَالتَّظَاهُرِ بِتَزْيِينِ الْفَاحِشَةِ زِيَادَةً فِي فَسَادِهَا وَقُبْحِهَا لِأَنَّهُ مُعِينٌ عَلَى نَبْذِ التَّسَتُّرِ مِنْهَا وَمُعِينٌ عَلَى شُيُوعِهَا فِي النَّاسِ.
وَفِي قَوْلِهِ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ تَشْدِيدٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّهُمُ الَّذِينَ سَنُّوا هَذِهِ الْفَاحِشَةَ السَّيِّئَةَ لِلنَّاسِ وَكَانَتْ لَا تَخْطِرُ لِأَحَدٍ بِبَالٍ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَفَاسِدِ تَكُونُ النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنِ ارْتِكَابِهَا لِعَدَمِ الِاعْتِيَادِ بِهَا حَتَّى إِذَا أَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى فِعْلِهَا وَشُوهِدَ
ذَلِكَ مِنْهُ تَنَبَّهَتِ الْأَذْهَانُ إِلَيْهَا وَتَعَلَّقَتِ الشَّهَوَاتُ بِهَا.
وَالنَّادِي: الْمَكَانُ الَّذِي يَنْتَدِي فِيهِ النَّاسُ، أَيْ يَجْتَمِعُونَ نَهَارًا لِلْمُحَادَثَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدْوِ بِوَزْنِ الْعَفْوِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ نَهَارًا. وَأَمَّا مَكَانُ الِاجْتِمَاعِ لَيْلًا فَهُوَ السَّامِرُ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَجْلِسِ نَادٍ إِلَّا مَا دَامَ فِيهِ أَهْلُهُ فَإِذَا قَامُوا عَنْهُ لَمْ يُسَمَّ نَادِيًا.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ.
الْكَلَامُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ [العنكبوت: ٢٤] الْآيَةَ، وَالْأَمْرُ فِي ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ لِلتَّعْجِيزِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ فِي أَثْنَاءِ دَعْوَتِهِ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ لُوطٍ فِيمَا مَضَى لَكِنَّ الْإِنْذَار من شؤون دَعْوَةِ الرُّسُلِ.
وَأَرَادَ بِالنَّصْرِ عِقَابَ الْمُكَذِّبِينَ لِيُرِيَهُمْ صِدْقَ مَا أَبْلَغَهُمْ مِنْ رِسَالَةِ اللَّهِ.
وَوَصَفَهُمْ بِ الْمُفْسِدِينَ لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِشَنَاعَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَيُفْسِدُونَ النَّاسَ بِحَمْلِهِمْ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَتَدْرِيبِهِمْ بِهَا، وَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَمْهِيدٌ لِلْإِجَابَةِ بِالنَّصْرِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يحب المفسدين.
241

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٢]

وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢)
لَمَّا أَدَاةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهَا ظَرْفٌ مُلَازِمٌ الْإِضَافَةَ إِلَى جُمْلَةٍ.
وَمَدْلُولُهَا وُجُودٌ لِوُجُودٍ، أَيْ وُجُودُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُ جُمْلَتَيْنِ: أُولَاهُمَا فِعْلِيَّةٌ مَاضَوِيَّةٌ وَتُضَافُ إِلَيْهَا لَمَّا، وَالثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةٌ أَوِ اسْمِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ مِنْ فِعْلٍ أَوِ اسْمٍ مُشْتَقٍّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ لَمَّا اسْمُ الْجَزَاءِ تَسَامُحًا.
وَلَمَّا كَانَتْ لَمَّا ظَرْفًا مُبْهَمًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَيْهَا لَمَّا مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ، إِذِ التَّوْقِيتُ الْإِعْلَامُ بِمُقَارَنَةِ زَمَنٍ مَجْهُولٍ بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ. فَوُجُودُ لَمَّا هُنَا يَقْتَضِي أَنَّ مَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ بِالْبُشْرَى أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ
لِلْبُشْرَى، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْبُشْرَى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِاقْتِضَاءِ لَمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، فَالْبُشْرَى هِيَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى آنِفًا وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوءة وَالْكتاب [العنكبوت: ٢٧] كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَالْبُشْرَى: اسْمٌ لِلْبِشَارَةِ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ مَسَرَّةٌ لِلْمُخْبَرِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبِشَارَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٩].
وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِإِبْرَاهِيمَ أَنْ قَدَّمَ لَهُ الْبُشْرَى قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِحِلْمِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى: قَالُوا لإِبْرَاهِيم إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِلَخْ.
وَالْقَرْيَةُ هِيَ (سَدُومُ) قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلْإِهْلَاكِ وَقُصِدَ بِهِ اسْتِئْنَاسُ إِبْرَاهِيمَ لِقَبُولِ هَذَا الْخَبَرِ الْمُحْزِنِ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الْعَدْلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْعِقَابُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ يَقْتَضِيهِ.
242
وَالظُّلْمُ: ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْفَوَاحِشِ، وَظُلْمُهُمُ النَّاسَ بِالْغَصْبِ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالتَّدَرُّبِ بِهَا.
وَقَوْلُهُ إِنَّ فِيها لُوطاً خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ بِسُنَّةِ اللَّهِ مَعَ رُسُلِهِ مِنَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَحِلُّ بِأَقْوَامِهِمْ. فَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْمَلَائِكَةِ بِتَخْصِيصِ لُوطٍ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمُ الْقَرْيَةُ فِي حُكْمِ الْإِهْلَاكِ، وَلُوطٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِالْأَصَالَةِ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَشْمَلَهُ الْإِهْلَاكُ. وَلِهَذَا قَالَ إِنَّ فِيها لُوطاً بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ وَلَمْ يَقِلْ: إِنَّ مِنْهَا.
وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا يُرِيدُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ بِأَحْوَالِ مَنْ فِي الْقَرْيَةِ، فَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا اقْتَضَاهُ تَعْرِيضُهُ بِالتَّذْكِيرِ بِإِنْجَاءِ لُوطٍ، أَيْ نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْكَ بِاسْتِحْقَاقِ لُوطٍ النَّجَاةَ عِنْدَ اللَّهِ، وَاسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ الْعَذَابَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَسْبِقُونَ اللَّهَ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَكَانَ جَوَابُهُمْ مُطَمْئِنًا إِبْرَاهِيمَ. فَالْمُرَادُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِمَنْ فِي الْقَرْيَةِ عِلْمُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ، أَوِ الْكَرَامَةِ بِالنَّجَاةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ أَعْلَمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ سَابِقٌ عَلَى عِلْمِهِ وَلِأَنَّهُ عِلْمُ يَقِينٍ مُلْقًى مِنْ وَحْيِ اللَّهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ إِذْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ لَمْ يُوحِ اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ عِلْمٌ تَفْصِيلِيٌّ لَا إِجْمَالِيٌّ، وَعُمُومِيٌّ لَا خُصُوصِيٌّ. فَلِأَجْلِ هَذَا الْأَخِيرِ أَجَابُوا بِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها. وَلَمْ يَقُولُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِلُوطٍ، وَكَوْنُهُمْ أَعْلَمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ
فِي هَذَا الشَّأْنِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ لِإِبْرَاهِيمَ عِلْمَ النُّبُوءَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مَتَى سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِعَمَلٍ. وَبِالْأَوْلَى لَا يَقْتَضِي كَوْنُهُمْ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْحَقِّ إِنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ، وَلِكُلِّ فَرِيقٍ عِلْمٌ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَخَصَّهُ بِهِ كَمَا خَصَّ الْخَضِرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ مُوسَى، وَخَصَّ مُوسَى بِمَا لَا يَعْلَمُهُ الْخَضِرُ، وَلِذَلِكَ عَتَبَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى لَمَّا سُئِلَ: هَلْ يُوجَدُ أَعْلَمُ مِنْكَ؟
فَقَالَ: لَا، لِأَنَّهُ كَانَ حَقُّ الْجَواب أَن يفكر فِي أَنْوَاعِ الْعِلْمِ.
243
وَجُمْلَةُ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفُ عَلَيْهَا وَفُصِّلَتْ، فَقَدْ عَلِمُوا بِإِذْنِ اللَّهِ أَنْ لَا يَنْجُوَ إِلَّا لُوطٌ وَأَهْلُهُ، أَيْ بِنْتَاهُ لَا غَيْرَ وَيَهْلِكُ الْبَاقُونَ حَتَّى امْرَأَةُ لُوطٍ.
وَفِعْلُ كانَتْ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَكُونُ، فَعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَشْبِيهًا لِلْفِعْلِ الْمُحَقَّقِ وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ الَّذِي مَضَى مِثْلَ قَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْكَوْنُ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، كَمَا فِي آيَة النَّمْل [٥٧] قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمَاضِي حَقِيقَةً.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ فِي سُورَة النَّمْل.
[٣٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣٣]
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣)
قَدْ أَشْعَرَ قَوْله إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت: ٣١] أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَحِلُّونَ بِالْقَرْيَةِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يُخْبِرُوا لُوطًا بِحُلُولِهِمْ بِالْقَرْيَةِ، وَأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اسْتِجَابَةً لِطَلَبِ لُوطٍ النَّصْرَ عَلَى قَوْمِهِ، فَكَانَ هَذَا الْمَجِيءُ مُقَدَّرًا حُصُولُهُ، فَمِنْ ثَمَّ جُعِلَ شَرْطًا لِحِرَفِ لَمَّا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى [العنكبوت: ٣١].
وأَنْ حَرْفٌ مَزِيدٌ لِلتَّوْكِيدِ وَأَكْثَرُ مَا يُزَادُ بَعْدَ لَمَّا وَهُوَ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الرَّبْطِ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ لَمَّا، فَهِيَ هُنَا لِتَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَمَسَاءَةِ لُوطٍ بِهِمْ. وَمَعْنَى تَحْقِيقِهِ هُنَا سُرْعَةُ الِاقْتِرَانِ وَالتَّوْقِيتِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ تَنْبِيهًا على أَن الْإِسَاءَة عَقَّبَتْ مَجِيئَهُمْ وَفَاجَأَتْهُ مِنْ غَيْرِ رَيْثٍ، وَذَلِكَ لِمَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَةِ مُعَامَلَةِ قَوْمِهِ مَعَ الْوَافِدِينَ عَلَى قريتهم فَلم يكون لُوطٌ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا فِي صُورَةِ رِجَالٍ فَأُرِيدَ هُنَا
التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْمَسَاءَةِ وَضِيقِ الذَّرْعِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ جَاءُوا لِإِهْلَاكِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَقُولُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ.
وَلَمْ تَقَعْ أَنْ الْمُؤَكِّدَةُ فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ لِأَنَّ فِي تِلْكَ السُّورَةِ تَفْصِيلًا لِسَبَبِ إِسَاءَتِهِ وَضِيقِ ذَرْعِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَانَ التَّأْكِيدُ هُنَا ضَرْبًا مِنَ الْإِطْنَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ وَتَفْسِيرِهَا هُنَاكَ.
وَبِنَاءُ فِعْلِ سِيءَ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْمَفْعُولِ دُونَ فَاعِلِهِ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَقالُوا لَا تَخَفْ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا وَقَعَ عَقِبَ مَجِيءِ الرُّسُلِ لُوطًا. وَقَدْ طُوِيَتْ جُمَلٌ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وَهِيَ الْجُمَلُ الَّتِي ذُكِرَتْ مَعَانِيهَا فِي قَوْلِهِ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٨- ٨١]. وَقَدَّمُوا تَأْمِينَهُ قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّهُمْ مُنْزِلُونَ الْعَذَابَ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ تَعْجِيلًا بِتَطْمِينِهِ.
وَعَطْفُ وَلا تَحْزَنْ عَلَى لَا تَخَفْ جَمْعٌ بَيْنَ تَأْمِينِهِ مِنْ ضُرِّ الْعَذَابِ وَبَيْنَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّ الَّذِينَ سَيَهْلِكُونَ لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يَحْزَنَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ أُولَئِكَ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُحْزَنُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا مُنَجُّوكَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَمْرَيْنِ.
وَاسْتِثْنَاءُ امْرَأَتِهِ مِنْ عُمُومِ أَهْلِهِ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ التَّعْلِيلِ لَا مِنَ النَّهْيِ، فَفِي ذَلِكَ مَعْذِرَةٌ لَهُ بِمَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى هَلَاكِ امْرَأَتِهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَحْسَبُهَا مُخْلِصَةً لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُنَجُّوكَ بِسُكُونِ النُّونِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْديد الْجِيم.
[٣٤]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣٤]
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقَعَتْ بَيَانًا لِمَا فِي جُمْلَةِ لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [العنكبوت: ٣٣] مِنَ الْإِيذَانِ بِأَنَّ ثَمَّةَ حَادِثًا يَخَافُ مِنْهُ وَيَحْزَنُ لَهُ.
وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ الْمُؤْلِمُ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُفُقِ وَقَدْ
مَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَة هود.
[٣٥]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣٥]
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت: ٢٨] إِلَخْ عَطْفُ آيَةٍ عَلَى آيَةٍ لِأَنَّ قِصَّةَ لُوطٍ آيَةٌ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْخَبَرِ، وَآثَارَ قَرْيَةِ قَوْمِهِ آيَةٌ أُخْرَى بِمَا يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُهُ لِأَهْلِ الْبَصَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً فِي آخِرِ الْقِصَّةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَنُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ وَلَيْسَتْ ضَمِيرَ الْمَلَائِكَةِ. وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَمْرٍ.
وَمَفْعُولُ تَرَكْنا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آيَةً فَيُجْعَلُ (مِنْ) حَرْفَ جَرٍّ وَهُوَ مَجْرُورٌ وَصْفًا لِ آيَةً قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ لِلِاهْتِمَامِ فَيُجْعَلُ حَالًا مِنْ آيَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ تَرَكْنَا آيَةً صَادِرَةً مِنْ آثَارِهَا وَمُعَرِّفَةً خَبَرَهَا، وَهِيَ آيَةٌ وَاضِحَةٌ دَائِمَةٌ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ إِلَى الْآنِ وَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِ بَيِّنَةً، وَلَمْ تُوصَفْ آيَةُ السَّفِينَةِ بِ بَيِّنَةً فِي قَوْلِهِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: ١٥]، لِأَنَّ السَّفِينَةَ قَدْ بَلِيَتْ أَلْوَاحُهَا وَحَدِيدُهَا أَوْ بَقِيَ مِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ إِلَّا بَعْدَ تَفْتِيشٍ إِنْ كَانَ.
وَيَجُوزُ جَعْلُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، فَتَكُونُ (مِنْ) مَفْعُولًا مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ (قَرْيَةٍ). وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨]. وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنَ الْقَرْيَةِ آثَارًا دَالَّةً لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآثَارِ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِهَا. وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ هِيَ بَقَايَا قَرْيَتِهِمْ مَغْمُورَةٌ بِمَاءِ بُحَيْرَةِ لُوطٍ تَلُوحُ مِنْ تَحْتِ الْمِيَاهِ شَوَاهِدُ الْقَرْيَةِ، وَبَقَايَا لَوْنِ الْكِبْرِيتِ وَالْمَعَادِنِ الَّتِي رُجِمَتْ بِهَا قَرْيَتُهُمْ وَفِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَدِلَّةٍ بِاخْتِلَافِ مَدَارِكِ الْمُسْتَدِلِّينَ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بِقَوْلِهِ تَرَكْنا، أَوْ يُجْعَلُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا صِفَةً ل آيَةً.

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَةً ٣٦]

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦)
عَطْفٌ على وَلُوطاً [العنكبوت: ٢٨] الْمَعْطُوفِ على نُوحاً [العنكبوت: ١٤] الْمَعْمُولِ ل أَرْسَلْنا [العنكبوت: ١٤]. فَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا.
وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ إِلَى قِصَّةِ مَدْيَنَ وَرَسُولِهِمْ أَنَّ مَدْيَنَ كَانَ
مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْجَاهُ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا أَنْجَى لُوطًا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ إِلى مَدْيَنَ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ فِي وَصْفِ شُعَيْبٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى كَوْنِهِ أَخًا لَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَقَوْلُهُ فَقالَ عَطْفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ فَعُقِّبَ إِرْسَالُهُ بِأَنْ قَالَ.
وَالرَّجَاءُ: التَّرَقُّبُ وَاعْتِقَادُ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِتَرَقُّبِ الْيَوْمِ الْآخِرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٠]. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ شُعَيْبٍ فِي سُورَة هود.
[٣٧]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣٧]
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧)
الْأَخْذُ: الْإِعْدَامُ وَالْإِهْلَاكُ شَبَّهُ الْإِعْدَامَ بِالْأَخْذِ بِجَامِعِ الْإِزَالَةِ.
والرَّجْفَةُ: الزِّلْزَالُ الشَّدِيدُ الَّذِي تَرْتَجِفُ مِنْهُ الْأَرْضُ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ سُمِّيَتْ بِالصَّيْحَةِ لِأَنَّ لِتِلْكَ الرَّجْفَةِ صَوْتًا شَدِيدًا كَالصَّيْحَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ.
وَقَدْ أُشِيرَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ إِلَى مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ فِيهِ، وَهُوَ الْمُصَابَرَةُ عَلَى إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْكَافِرِينَ، وَنصر الله إيَّاهُمَا، وَتَعْذِيبُ الْكَافِرِينَ وَإِنْجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ

[٣٨]

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣٨]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ وَقَوْمِ لُوطٍ أُكْمِلَتِ الْقَصَصُ بِالْإِشَارَةِ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ قَدْ عُرِفَ فِي الْقُرْآنِ اقْتِرَانُ هَذِهِ الْأُمَمِ فِي نَسَقِ الْقَصَصِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ.
وَانْتِصَابُ عَادًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيرُهُ: وَأَهْلَكْنَا عَادًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى آنِفًا فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [العنكبوت: ٣٧] يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْإِهْلَاكِ، قَالَهُ الزَّجَاجُ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِهْلَاكٌ خَاصٌّ مِنْ بَطْشِ اللَّهِ تَعَالَى، فَظَهَرَ تَقْدِيرُ:
وَأَهْلَكْنَا عَادًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرُ فِعْلُ (وَاذْكُرْ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَمُقَدَّرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى ضَمِيرِ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [العنكبوت: ٣٧] وَالتَّقْدِيرُ:
وَأَخَذَتْ عَادًا وَثَمُودًا. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: ٣]. وَهَذَا بَعِيدٌ لِطُولِ بُعْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ نَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ (وَأَخَذْنَا) يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: ٤٠] لِأَنَّ (كُلًّا) اسْمٌ يَعُمُّ الْمَذْكُورِينَ فَلَمَّا جَاءَ مُنْتَصِبًا بِ أَخَذْنا تَعَيَّنَ أَنَّ مَا قَبْلَهُ مَنْصُوبٌ بِمِثْلِهِ وَتَنْوِينُ الْعِوَضِ الَّذِي لَحِقَ (كُلًّا) هُوَ الرَّابِطُ وَأَصْلُ نَسْجِ الْكَلَامِ:
وَعَادًا وَثَمُودًا وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ إِلَخْ كُلُّهُمْ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ هِيَ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْمَعْنَى:
تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَسَاكِنِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا فَأُهْلِكُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ.
وَمَسَاكِنُ عَادٍ وَثَمُودَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَمَنْقُولَةٌ بَيْنَهُمْ أَخْبَارُهَا وَأَحْوَالُهَا وَيَمُرُّونَ عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى الشَّامِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي تَبَيَّنَ عَائِد إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ يَتَبَيَّنُ لَكُمْ إِهْلَاكُهُمْ أَوْ أَخْذُنَا إِيَّاهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملَة وَعاداً وَثَمُودَ.
وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ. وَالْمُرَادُ: زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ الشَّنِيعَةَ فَأَوْهَمَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّهَا حَسَنَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٨].
وَالصَّدُّ: الْمَنْعُ عَنْ عَمَلٍ. والسَّبِيلِ هُنَا: مَا يُوَصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ الْحَقِّ وَهُوَ السَّعَادَةُ الدَّائِمَةُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِتَسْوِيلِهِ لَهُمْ كُفْرَهُمْ قَدْ حَرَمَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَكَأَنَّهُ مَنَعَهُمْ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقٍ يُبَلِّغُهُمْ إِلَى الْمَقَرِّ النَّافِعِ.
وَالِاسْتِبْصَارُ: الْبَصَارَةُ بِالْأُمُورِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ وَاسْتَمْسَكَ وَاسْتَكْبَرَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ بَصَائِرَ، أَيْ عُقُولٍ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي صَدِّهِمْ عَنِ السَّبِيلِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ اقْتِضَاءٌ أَنَّ ضَلَالَ عَادٍ كَانَ ضَلَالًا نَاشِئًا عَنْ فَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الْمُتَأَصِّلِ فِيهِمْ وَالْمَوْرُوثِ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْجُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصدق رسلهم.
[٣٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣٩]
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩)
كَمَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِقُرَيْشٍ بِالْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهَا، كَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ لِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبِي لَهَبٍ، بِصَنَادِيدِ بَعْضِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَانُوا سَبَبَ مُصَابِ أَنْفُسِهِمْ وَمُصَابِ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ، إِنْذَارًا لِقُرَيْشٍ بِمَا عَسَى أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنْ جَرَّاءِ تَغْرِيرِ قَادَتِهِمْ بِهِمْ وَإِلْقَائِهِمْ فِي خَطَرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ. وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ. وَتَقَدَّمَتْ قَصَصُهُمْ وَقِصَّةُ قَارُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
249
فَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَيِّنَاتِ لِفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ فَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي تَحَدَّاهُمْ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ فَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنْهَا وَاتَّبَعَهُ هَامَانُ وَقَوْمُهُ. وَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لِقَارُونَ فَنَهْيُهُ عَنِ الْبَطَرِ.
وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا عَنْ عِنَادٍ وَكِبْرِيَاءَ لَا عَنْ جَهْلٍ وَغُلَوَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: ٢٣] فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ لَا يُظَنُّ أَنَّ فِطْنَتَهُمْ لَمْ تَبْلُغْ بِهِمْ إِلَى تَحَقُّقِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقٌ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ حَقٌّ وَلَكِنْ غَلَبَتِ الْأَنَفَةُ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ [العنكبوت: ٣٨].
وَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت:
٣٨].
وَتَعْلِيقُ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ ب فَاسْتَكْبَرُوا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اسْتِكْبَارَ كُلٍّ مِنْهُمْ كَانَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا، فيومىء ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا فِي الْأَرْضِ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْهُودُ هُوَ أَرْضُ كُلٍّ مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْهُودُ الْكُرَةَ الْأَرْضِيَّةَ مُبَالَغَةً فِي انْتِشَارِ اسْتِكْبَارِ كُلٍّ مِنْهُمْ فِي الْبِلَادِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَعُمُّ الدُّنْيَا كُلَّهَا.
وَمَعْنَى السَّبْقِ فِي قَوْلِهِ وَما كانُوا سابِقِينَ الِانْفِلَاتُ مِنْ تَصْرِيفِ الْحُكْمِ فِيهِمْ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٩]، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيِ اسْتَكْبَرُوا فِي حَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يُفِدْهُمِ اسْتِكْبَارُهُمْ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ الْكَوْنِ بَعْدَ النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ مَا حَسَبُوهُ نَتِيجَةَ اسْتِكْبَارِهِمْ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَنَالُهُمْ أَحَدٌ لِعَظَمَتِهِمْ. وَمَثَلُ هَذَا الْحَالِ مَثَلُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ قَتَلَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ وَجَدَهُ مُحْتَضَرًا: أَنْتَ أَبُو جَهِلٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ لَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي (أَيْ زَرَّاعٍ يَعْنِي رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ أَهْلُ حرث وَزرع).
250

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٠]

فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
أَفَادَتِ الْفَاءُ التَّفْرِيعَ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَمِنِ اسْتِكْبَارِ الْآخَرِينَ، أَيْ فَكَانَ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ أَنْ أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمُ الْعَظِيمَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَعَنِ اسْتِكْبَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ الْمُفَرَّعُ هُوَ أَخْذُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَشْعَرَ بِهِ مَا قَبْلَ التَّفْرِيعِ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ لِيُفْضَى بِذِكْرِهِ إِلَى تَفْصِيلِ أَنْوَاعِ أَخْذِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً إِلَى آخِرِهِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ إِلَخْ لِتَفْرِيعِ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ عَلَى الْإِجْمَالِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فَتَحْصُلُ خُصُوصِيَّةُ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ.
فَأَمَّا الَّذِينَ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حَاصِبٌ فَهُمْ عَادٌ. وَالْحَاصِبُ: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ، سُمِّيَتْ حَاصِبًا لِأَنَّهَا تَقْلَعُ الْحَصْبَاءَ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو وجرة السَّعْدِيُّ:
صَبَبْتُ عَلَيْكُمْ حَاصِبِي فَتَرَكْتُكُمْ كَأَصْرَامِ عَادٍ حِينَ جَلَّلَهَا الرَّمْدُ
فَجَعَلَ الْحَاصِبَ مِمَّا أَصَابَ عَادًا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ قَوْمُ لُوطٍ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ [الْقَمَر: ٣٤] لِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ مَرَّ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى عَذَابِهِمْ مُفَصَّلًا فَلَا يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْإِجْمَالِ.
وَالَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ هُمْ ثَمُودُ. وَالَّذِينَ خَسَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ هُوَ قَارُونُ وَأَهْلُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخَسْفِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٨١، ٨٢]. وَالَّذِينَ أَغْرَقَهُمْ: فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَمَنْ
مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا. وَقَدْ جَاءَ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ.
وَالْأَخْذُ: الْإِتْلَافُ وَالْإِهْلَاكُ شَبَّهَ الْإِعْدَامَ بِالْأَخْذِ بِجَامِعِ إِزَالَةِ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانِهِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ فِعْلُ أَخَذْنا. وَقَدْ نُفِيَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ظُلْمُ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ إِيلَامَهُمْ كَانَ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ نَوْعِ الْجَزَاءِ يُوصَفُ بِالْعَدْلِ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ الْوَصْفَ بِالظُّلْمِ فَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ سَمْعًا لَا عَقْلًا فِي مَقَامِ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا فِي
مَقَامِ التَّكْوِينِ فَلَا. وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ هُوَ تَسَبُّبُهُمْ فِي عَذَابِ أَنْفُسِهِمْ فَجَرُّوا إِلَيْهَا الْعِقَابَ لِأَنَّ النَّفْسَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِرَأْفَةِ صَاحِبِهَا بِهَا وَتَفْكِيرِهِ فِي أَسْبَابِ خَيرهَا.
والاستدراك ناشىء عَنْ نَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ فِي عِقَابِهِمْ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ مُوجِبِ الْعِقَابِ فَالِاسْتِدْرَاكُ لِرَفْعِ هَذَا التَّوَهُّم.
[٤١]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤١]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
لَمَّا بُيِّنَتْ لَهُمُ الْأَشْبَاهُ وَالْأَمْثَالُ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي اتَّخَذَتِ الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ أَصْنَامُهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ لِحَالِ جَمِيعِ أُولَئِكَ وَحَالِ مَنْ مَاثَلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي اتِّخَاذِهِمْ مَا يَحْسَبُونَهُ دَافِعًا عَنْهُمْ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، بِحَالِ الْعَنْكَبُوتِ تَتَّخِذُ لِنَفْسِهَا بَيْتًا تَحْسَبُ أَنَّهَا تَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْمُعْتَدِي عَلَيْهَا فَإِذَا هُوَ لَا يَصْمُدُ وَلَا يَثْبُتُ لِأَضْعَفِ تَحْرِيكٍ فَيَسْقُطُ وَيَتَمَزَّقُ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وَتُعْلَمُ مُسَاوَاةُ غَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: ٤٢] فَضَمِيرُ اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ.
وَجُمْلَةُ اتَّخَذَتْ بَيْتاً حَالٌ مِنَ الْعَنْكَبُوتِ وَهِيَ قَيْدٌ فِي التَّشْبِيهِ. وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا مَعَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ قَابِلَةٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ عَلَى أَجْزَائِهَا فَالْمُشْرِكُونَ أَشْبَهُوا الْعَنْكَبُوتَ فِي الْغُرُورِ بِمَا أَعَدُّوهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ أَشْبَهُوا بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ فِي عَدَمِ الْغَنَاءِ عَمَّنِ اتَّخَذُوهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَتَزُولُ بِأَقَلِّ تَحْرِيكٍ، وَأَقْصَى مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْهَا نَفْعٌ ضَعِيفٌ وَهُوَ السُّكْنَى فِيهَا وَتَوَهُّمُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ كَمَا يَنْتَفِعُ الْمُشْرِكُونَ بِأَوْهَامِهِمْ فِي أَصْنَامِهِمْ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ فِي
هَذِهِ السُّورَةِ [٤٣].
والْعَنْكَبُوتِ: صِنْفٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ ذَاتُ بُطُونٍ وَأَرْجُلٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، مِنْهَا صِنْفٌ يُسَمَّى لَيْثَ الْعَنَاكِبِ وَهُوَ الَّذِي يَفْتَرِسُ الذُّبَابَ، وَكُلُّهَا تَتَّخِذُ لِأَنْفُسِهَا نَسِيجًا تَنْسِجُهُ مِنْ لُعَابِهَا يَكُونُ خُيُوطًا مَشْدُودَةً بَيْنَ طَرَفَيْنِ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ
الْجُدْرَانِ، وَتَتَّخِذُ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْخُيُوطِ جَانِبًا أَغْلَظَ وَأَكْثَرَ اتِّصَالَ خُيُوطٍ تَحْتَجِبُ فِيهِ وَتُفَرِّخُ فِيهِ. وَسُمِّيَ بَيْتًا لِشَبَهِهِ بِالْخَيْمَةِ فِي أَنَّهُ مَنْسُوجٌ وَمَشْدُودٌ مِنْ أَطْرَافِهِ فَهُوَ كَبَيْتِ الشِّعْرِ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ مُعْتَرِضَةٌ مُبِيِّنَةٌ وَجْهَ الشَّبَهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَجْرِي مَجْرَى الْمِثْلِ فَيُضْرَبُ لِقِلَّةِ جَدْوَى شَيْءٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَدْيَانَ الَّتِي يَعْبُدُ أَهْلُهَا غَيْرَ اللَّهِ هِيَ أَحْقَرُ الدِّيَانَاتِ وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فِيمَا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ مِنَ الضَّلَالَاتِ كَمَا تَتَفَاوَتُ بُيُوتُ الْعَنْكَبُوتِ فِي غِلَظِهَا بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الدُّوَيْبَّاتِ الَّتِي تَنْسِجُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَجُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ لَا بِجُمْلَةِ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ. فَتَقْدِيرُ جَوَابِ لَوْ هَكَذَا: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ، أَيْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ انْعِدَامَ غَنَاءِ مَا اتَّخَذُوهُ عَنْهُمْ. وَأَمَّا أَوْهَنِيَّةُ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَلَا يجهلها أحد.
[٤٢]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٢]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢)
لَمَّا نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ بِمَا تَضَمَّنَهُ التَّمْثِيلُ مِنْ حَقَارَةِ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَقِلَّةِ جَدْوَاهَا بِقَوْلِهِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: ٤١] الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَعْقَبَهُ بِإِعْلَامِهِمْ بِعِلْمِهِ بِدَقَائِقِ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَاخْتِلَافِ مُعْتَقَدَاتِ الْقَبَائِلِ الَّتِي عَبَدَتْهَا، وَأَنَّ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ بِهَا ضَرْبَ ذَلِكَ الْمَثَلِ لِحَالِ مَنْ عَبَدُوهَا وَحَالِهَا أَيْضًا دَفْعًا بِهِمْ إِلَى أَنْ يَتَّهِمُوا عُقُولَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِم النّظر من حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ تَعْرِيضًا بِقُصُورِ عِلْمِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٦]، فَهَذَا تَوْقِيفٌ لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي عِلْمِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الَّتِي عَلِمَهَا اللَّهُ وَأَبْلَغَهُمْ دَلَائِلَهَا النَّظَرِيَّةَ وَنَظَائِرَهَا التَّارِيخِيَّةَ، وَقَرَّبَهَا إِلَيْهِمْ بِالتَّمْثِيلَاتِ الْحِسِّيَّةِ فَعَمُوا وَصَمُّوا عَنْ هَذَا وَذَاكَ.
وَمَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً مُعَلِّقَةً فِعْلَ يَعْلَمُ عَنِ الْعَمَلِ،
وَتَكُونَ مِنْ زَائِدَةً لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ، وَمَجْرُورُهَا مَفْعُولٌ فِي الْمَعْنى لتدعون
253
ظَهَرَتْ عَلَيْهِ حَرَكَةُ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ مَوْجُودًا وَلَكِنَّكُمْ تَدْعُونَ أُمُورًا عَدَمِيَّةً، فَفِيهِ تَحْقِيرٌ لِأَصْنَامِهِمْ بِجَعْلِهَا كَالْعَدَمِ لِأَنَّهَا خُلُوٌّ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَهِيَ فِي بَابِهَا كَالْعَدَمِ فَلَمَّا شَابَهَتِ الْمَعْدُومَاتِ فِي انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ الْمَزْعُومَةِ لَهَا اسْتُعْمِلَ لَهَا التَّرْكِيبُ الدَّالُّ عَلَى نَفْيِ الْوُجُودِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَلَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَعَوْا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ سَابِقَهُ وَلَاحِقَهُ يَأْبَاهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٣]، ولَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦٨]،
وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ،
أَيْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا مَوْجُودَاتٌ كَالْعَدَمِ ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ وَلِعَبَدَتِهَا مَثَلًا بِالْعَنْكَبُوتِ الَّذِي اتَّخَذَهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْكَلَامُ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَفِي أَنَّهَا كَالْعَدَمِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً مُعَلِّقَةً فِعْلَ يَعْلَمُ عَنِ الْعَمَلِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ:
عَلِمْتُ هَلْ زِيدٌ قَائِمٌ، أَيْ عَلِمْتُ جَوَابَهُ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ لِمَا فِي مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مِنَ الْإِبْهَامِ، أَيْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَدْعُوَّاتِ الْعَدِيدَةِ فِي الْأُمَمِ. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ جَوَابَ سُؤَالِ السَّائِلِ «مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ»، أَيْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَمِنْ عِلْمِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ بِالْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَلِلْمَعْبُودَاتِ مَثَلًا بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَنْتُمْ لَوْ سُئِلْتُمْ: مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَتَلَعْثَمْتُمْ وَلَمْ تُحِيرُوا جَوَابًا فَإِنَّ شَأْنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَفْهَامِ السَّقِيمَةِ أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ صَاحِبُهَا بَيَانَهَا بِالْقَوْلِ وَشَرْحَهَا، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَتَأَلَّفُ مِنْ تَصْدِيقَاتٍ غَيْرِ مُتَلَائِمَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهَا تَقْرِيرَهَا فَلَا يَلْبَثُ قَلِيلًا حَتَّى يَفْتَضِحَ فَاسِدُ مُعْتَقَدِهِ مِنْ تَعَذُّرِ إِفْصَاحِهِ عَنْهُ.
وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَعْلَمُ هُنَا مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ بِمَعْنَى (يَعْرِفُ) وَجَعَلَ مَا مَوْصُولَة مفعول يَدْعُونَ والعائذ مَحْذُوفًا، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ إِسْنَادَ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِلَى الله يؤول إِلَى إِسْنَادِ فِعْلِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى اللَّهِ بِنَاءً عَلَى إِثْبَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ فِعْلِ (عَلِمَ) وَفِعْلِ (عَرَفَ) عِنْدَ مَنْ
254
فَسَّرَ الْمَعْرِفَةَ بِإِدْرَاكِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ آثَارِهِ وَخَصَائِصِهِ الْمَحْسُوسَةِ، وَأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنَ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ شَاعَ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَنَسَبِهَا.
وَعَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ (١) «الْعلم معرفتان مجتمعان، فَفِي قَوْلِكَ: عَرَفْتُ زَيْدًا قَائِمًا، يَكُونُ (قَائِمًا) حَالًا مِنْ (زَيْدًا)، وَفِي قَوْلِكَ: عَلِمْتُ زَيْدًا قَائِمًا، يَكُونُ (قَائِمًا) مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ (عَلِمْتُ) اه. يُرِيدُ أَنَّ فِعْلَ (عَرَفَ) يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إِدْرَاكُ الذَّاتِ، وَفِعْلُ (عَلِمَ) يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكَيْنِ هُمَا إِدْرَاكُ الذَّاتِ وَإِدْرَاكُ ثُبُوتِ حُكْمٍ لَهَا، عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِسْنَادُ فِعْلِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا يؤوّل بِمَعْنَاهَا.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ فِي مَعَانِي مَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَيَّنَ حَقَارَةَ حَالِ الْأَصْنَامِ وَاخْتِلَالِ عُقُولِ عَابِدِيهَا فَلَمْ يَعْبَأْ بِفَضْحِهَا وَكَشْفِهَا بِمَا يَسُوءُهَا مَعَ وَفْرَةِ أَتْبَاعِهَا وَمَعَ أَوْهَامِ أَنَّهَا لَا يَمَسُّهَا أَحَدٌ بِسُوءٍ إِلَّا كَانَتْ أَلْبًا عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ لِلْأَصْنَامِ حَظٌّ فِي الْإِلَهِيَّةِ لَمَا سَلِمَ مَنْ ضُرِّهَا مَنْ يُحَقِّرُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما تَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٤٢] كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا فَضَحَ عُقُولَ عُبَّادِهَا لَمْ يَخْشَهُمْ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بَلْهَ ذَاتَهُ، فَهُوَ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ، وَحَكِيمٌ لَا تَنْطَلِي عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ وَالسَّفَاسِطُ بِخِلَافِ حَالِ هَاتِيكَ وَأُولَئِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدْعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوب بالتحتية.
[٤٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٣]
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ فَسَادَ مُعْتَقَدِهِمْ فِي الْأَصْنَامِ، وَأَعْقَبَهُ بِتَوْقِيفِهِمْ عَلَى جَهْلِهِمْ بِذَلِكَ، نَعَى عَلَيْهِمْ هُنَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِتَفَهُّمِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي قُرِّبَتْ إِلَيْهِمْ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُبَيِّنُهُ الِاسْمُ الْمُبْدَلُ مِنْهُ وَهُوَ الْأَمْثالُ.
_________
(١) نَقله عَنهُ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي كتاب «العواصم من القواصم»
.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الْأَذْهَانِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ حَصَلَ فِي ذِهْنِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْأَمْثَالِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي مِنْهَا هَذَا الْمَثَلُ بِالْعَنْكَبُوتِ.
وَجُمْلَةُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِامْتِنَانِ وَالطَّوْلِ لِأَنَّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ تَقْرِيبًا لِفَهْمِ الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
«وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُثُلَ وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيئَاتِ الْمَعَانِي وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُتَحَقِّقِ وَالْغَائِبَ كَالْمَشَاهَدِ». وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَزِيَّةِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَلِهَذَا أُتْبِعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِجُمْلَةِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. وَالْعَقْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْفَهْمِ، أَيْ لَا يَفْهَمُ مَغْزَاهَا إِلَّا الَّذِينَ كَمُلَتْ عُقُولُهُمْ فَكَانُوا عُلَمَاءَ غَيْرَ سُفَهَاءِ الْأَحْلَامِ.
وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا جُهَلَاءُ الْعُقُولِ، فَمَا بَالُكَ بِالَّذِينَ اعْتَاضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَلَالَتِهَا بِاتِّخَاذِهَا هُزُءًا وَسُخْرِيَةً، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ [الْحَج: ٧٣]، وَقَوْلَهُ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: ٤١] قَالُوا: مَا يَسْتَحْيِي مُحَمَّدٌ أَنْ يُمَثِّلَ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالْبَعُوضِ. وَهَذَا مِنْ بُهْتَانِهِمْ، وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ الْبُلَغَاءُ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا، وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صاحبتها مقَام.
[٤٤]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٤]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَمَ انْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُجَّةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا وَنَتَائِجِهَا الْمُوَصِّلَةِ إِلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ مُسْتَوْفَاةً مُغْنِيَةً لِمَنْ يُرِيدُ التَّأَمُّلَ وَالتَّدَبُّرَ فِي صِحَّةِ مُقَدَّمَاتِهَا بِإِنْصَافٍ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِإِفَادَةِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذِ انْتَفَعُوا بِمَا هُوَ أَدَقُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ حَالَةُ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فِي دَلَالَةِ الْكَائِنَاتِ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ
اللَّهُ، وَأَنْ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ حَقِيقًا بِمُشَارَكَتِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ اهْتَدَوْا إِلَى الْعِلْمِ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ خِلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِذَلِكَ. فَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْقِلُوهَا لَيْسُوا بِعَالِمِينَ أَخْذًا مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا اعْتُبِرَ الْمَعْنَى الْوَصْفِيُّ مِنْ قَوْلِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ أَخْذًا مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا اعْتُبِرَ عُنْوَانُ الْمُؤْمِنِينَ لَقَبًا.
وَالِاقْتِصَارُ عِنْدَ ذِكْرِ دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ عَلَى انْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ الْمُفِيدِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ يُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلَقَهُمَا عَلَى أَحْوَالِهِمَا كُلِّهَا بِمَا لَيْسَ بِبَاطِلٍ.
وَالْبَاطِلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا وَفَاءَ فِيهِ بِمَا جُعِلَ هُوَ لَهُ. وَضِدُّ الْبَاطِلِ الْحَقُّ، فَالْحَقُّ فِي كُلِّ
عَمَلٍ هُوَ إِتْقَانُهُ وَحُصُولُ الْمُرَادِ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧].
وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا يَشْمَلُ ذَاتَهُمَا وَالْمَوْجُودَاتِ الْمَظْرُوفَةُ فِيهِمَا. وَهَذَا الْخَلْقُ الْمُتْقَنُ الَّذِي لَا تَقْصِيرَ فِيهِ عَمَّا أُرِيدَ مِنْهُ هُوَ آيَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ وَعَلَى صِفَاتِ ذَاته وأفعاله.
[٤٥]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٥]
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٥)
بَعْدَ أَنْ ضَرَبَ اللَّهُ لِلنَّاسِ الْمَثَلَ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ جَاءَ بِالْحُجَّةِ الْمُبَيِّنَةِ فَسَادَ مُعْتَقَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَنَوَّهَ بِصِحَّةِ عَقَائِدِ الْمُؤْمِنِينَ بِمُنْتَهَى الْبَيَانِ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ مَطْلَبٌ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِهِ بِالْخِطَابِ الَّذِي يَزِيدُ تَثْبِيتَهُ عَلَى نَشْرِ الدَّعْوَةِ وَمُلَازِمَةِ الشَّرَائِعِ وَإِعْلَانِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَمَا فِيهِ زِيَادَةُ صَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَمَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا قُدْوَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَسَيِّدُهُمْ فَأَمْرُهُ أَمْرٌ لَهُمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ كَقَوْلِهِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ [هود: ١١٢] قُرْآن إِذْ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْإِرْشَادِ.
257
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ اتْلُ لِيَعُمَّ التِّلَاوَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها إِلَى قَوْله وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١) [النَّمْل: ٩١، ٩٢].
وَأَمَرَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَمَلٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْأَمْرُ يَشْمَلُ الْأُمَّةَ فَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ النَّفْسَانِيِّ فَقَالَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَمَوْقِعُ إِنَّ هُنَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّعْلِيلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَاقْتَصَرَ عَلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ دُونَ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لِمَا فِي هَذَا الصَّلَاحِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ سِرٍّ إِلَهِيٍّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ النَّاسُ إِلَّا بِإِرْشَادٍ مِنْهُ تَعَالَى فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا تَنْهَى الْمُصَلِّيَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ حَقِيقَةُ النَّهْيِ غَيْرَ قَائِمَةٍ بِالصَّلَاةِ تَعَيَّنَ أَنَّ فِعْلَ تَنْهى مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ بِعَلَاقَةٍ أَوْ مُشَابَهَةٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تُيَسِّرُ لِلْمُصَلِّي تَرْكَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الصَّلَاةَ صَارِفَةُ الْمُصَلِّي عَنْ أَنْ يَرْتَكِبَ الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ فَإِنَّ الْمُشَاهَدَ يُخَالِفُهُ إِذْ كَمْ مِنْ مُصَلٍّ يُقِيمُ صَلَاتَهُ وَيَقْتَرِفُ بَعْضَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَصْرِفُ الْمُصَلِّيَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مَا دَامَ مُتَلَبِّسًا بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ لِقِلَّةِ جَدْوَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ يَصْرِفُ الْمُشْتَغِلَ بِهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ.
وَإِذْ كَانَتِ الْآيَةُ مَسُوقَةً لِلتَّنْوِيهِ بِالصَّلَاةِ وَبَيَانِ مَزِيَّتِهَا فِي الدِّينِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ تُحَذِّرُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ تَحْذِيرًا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ طَرَائِقُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ مِنْهَا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لِلصَّلَاةِ مِنْ ثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَرَضٌ آخَرُ وَلَيْسَ مُنْصَبًّا إِلَى تَرْكِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَكِنَّهُ مِنْ وَسَائِلِ تَوْفِيرِ الْحَسَنَاتِ لَعَلَّهَا أَنْ تَغْمُرَ السَّيِّئَاتِ، فَيَتَعَيَّنَ لِتَفْسِيرِ
_________
(١) فِي المطبوعة (فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا).
258
هَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرًا مَقْبُولًا أَنْ نَعْتَبِرَ حُكْمَهَا عَامًّا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِصَلَوَاتِ الْأَبْرَارِ، وَبِذَلِكَ تَسْقُطُ عِدَّةُ وُجُوهٍ مِمَّا فَسَّرُوا بِهِ الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَذَلِكَ عِنْدِي بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْبَاتِ صَلُحَتْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ وَخَامَرَهَا ارْتِقَابُ اللَّهِ تَعَالَى فَاطَّرَدَ ذَلِكَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَانْتَهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» اه. وَفِيهِ اعْتِبَارُ قُيُودٍ فِي الصَّلَاةِ لَا تُنَاسِبُ التَّعْمِيمَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَحِقُّ أَنْ يُلَقَّنَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي ابْتِدَاءِ تَلْقِينِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُ تَنْهى عَلَى الْمَجَازِ الْأَقْرَبِ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ تَشْبِيهُ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِالنَّهْيِ، وَتَشْبِيهُ الصَّلَاةِ فِي اشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ بِالنَّاهِي، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مُذَكِّرَاتٍ بِاللَّهِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَلِّي كَالْوَاعِظِ الْمُذَكِّرِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذْ يَنْهَى سَامِعَهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ.
وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: صَدِيقُكَ مِرْآةٌ تَرَى فِيهَا عُيُوبَكَ. فَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الْأَقْوَالِ تَكْبِيرٌ لِلَّهِ وتحميده وتسبيحه والتوجيه إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَطَلَبِ الْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ مِنْهُ وَاجْتِنَابِ مَا يُغْضِبُهُ وَمَا هُوَ ضَلَالٌ، وَكُلُّهَا تُذَكِّرُ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْ عِصْيَانِهِ وَمَا يُفْضِي إِلَى غَضَبِهِ فَذَلِكَ صَدٌّ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وَفِي الصَّلَاةِ أَفْعَالٌ هِيَ خُضُوعٌ وَتَذَلُّلٌ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِلُزُومِ اجْتِلَابِ مَرْضَاتِهِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْ سَخَطِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَصُدُّ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وَفِي الصَّلَاةِ أَعْمَالٌ قَلْبِيَّةٌ مِنْ نِيَّةٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِأَنَّ الْمَعْبُودَ جَدِيرٌ بِأَنْ تُمْتَثَلَ أَوَامِرُهُ وَتُجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ.
فَكَانَتِ الصَّلَاةُ بِمَجْمُوعِهَا كَالْوَاعِظِ النَّاهِي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَمْ يَقِلْ تَصُدُّ وَتَحُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي صَرْفَ الْمُصَلِّي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
259
ثُمَّ النَّاسُ فِي الِانْتِهَاءِ مُتَفَاوِتُونَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ هُوَ مِنْ حِكْمَةِ جَعْلِ الصَّلَوَاتِ مُوَزَّعَةً عَلَى أَوْقَاتٍ مِنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ لِيَتَجَدَّدَ التَّذْكِيرُ وَتَتَعَاقَبَ الْمَوَاعِظُ، وَبِمِقْدَارِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ تَزْدَادُ خَوَاطِرُ التَّقْوَى فِي النُّفُوسِ وَتَتَبَاعَدُ النَّفْسُ مِنَ الْعِصْيَانِ حَتَّى تَصِيرَ التَّقْوَى مَلِكَةً لَهَا. وَوَرَاءَ ذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ بِهَا تَيْسِيرُ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، فَقَالَ: سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ»
أَيْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي قَوْلِهِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَكُلَّمَا تَذَكَّرَ الْمُصَلِّي عِنْدَ صَلَاتِهِ عَظَمَةَ رَبِّهِ وَوُجُوبَ طَاعَتِهِ وَذَكَرَ مَا قَدْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَانَتْ صَلَاتُهُ حِينَئِذٍ قَدْ نَهَتْهُ عَنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
والْفَحْشاءِ: اسْمٌ لِلْفَاحِشَةِ، وَالْفُحْشُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمَقْبُولِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْفَاحِشَةِ: الْفَعْلَةُ الْمُتَجَاوِزَةُ مَا يُقْبَلُ بَيْنَ النَّاسِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٩]. وَالْمَقْصُودُ هُنَا مِنَ الْفَاحِشَةِ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبِالْمُنْكَرِ: مَا يُنكره الشَّرْع وَلَا يَرْضَى بِوُقُوعِهِ.
وَكَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْفَاحِشَةِ وَالْمُنْكَرِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى اخْتِلَافِ جِهَةِ ذَمِّهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فَيَكُونُ عَطْفُ عِلَّةٍ عَلَى عِلَّةٍ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ هُوَ الصَّلَاةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَة: ٩] أَيْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الصَّلَاةِ الَّذِي هُوَ كَالِاسْمِ لَهَا إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، أَيْ إِنَّمَا كَانَتْ نَاهِيَةً عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِأَنَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ اللَّهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبٌ الْمُفَاضَلَةَ مَقْصُودٌ بِهِ قُوَّةُ الْوَصْفِ كَمَا فِي قَوْلِنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا تُرِيدُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كَبِيرٍ آخَرَ.
260
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ. وَالْمَعْنَى:
وَاذْكُرِ اللَّهَ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ تَذَكُّرَ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذِكْرَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ لِيَعُمَّ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ أَيْضًا مَسْلُوبٌ الْمُفَاضَلَةَ وَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ تَذَكُّرَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، أَيْ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَذَرَ غَضَبِهِ، فَالتَّفْضِيلُ عَلَى بَابِهِ، أَيْ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ النَّهْيِ، وَذَلِكَ لِإِمْكَانِ تَكْرَارِ هَذَا الذِّكْرِ أَكْثَرَ مِنْ تَكَرُّرِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْضَلُ مِنْ شُكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ. فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَمَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْبِرِّ أَرْدَفَهُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٣- ١٧]. وَذَلِكَ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ عَادَ بِهِ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَتَفْظِيعِ الشِّرْكِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: ٤٢] إِلَى هُنَا.
وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ وَقَوْلُهُ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وَالصُّنْعُ: الْعَمَلُ
261

[٤٦]

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٦]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ [العنكبوت: ٤٥] الْآيَةَ، بِاعْتِبَارِ مَا
تَسْتَلْزِمُهُ تِلْكَ مِنْ مُتَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكَفِّ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ تَوْطِئَةٌ لِمَا سَيَحَدُثُ مِنَ الدَّعْوَةِ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مُجَادَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تَعْرِضُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِبَّانِ نُزُولِ أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى وَشْكِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مُجَادِلَةً لِلْمُشْرِكِينَ غَلِيظَةً عَلَيْهِمْ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْعَنْكَبُوتِ، وَقَوْلُهُ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ هَيَّأَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرِيقَةَ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَوْدِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [العنكبوت: ٤٧] الْآيَاتِ.
وَجِيءَ فِي النَّهْيِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِيَعُمَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ إِذْ قَدْ تَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِينَ مُجَادَلَاتٌ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غَيْرِ حَضْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَبْلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ.
وَالْمُجَادَلَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى رَأْيٍ اخْتَلَفَ فِيهِ صَاحِبُهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧]. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِحُكْمِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى
5
يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهَا هَلْ نُسِخَتْ أَمْ بَقِيَ حُكْمُهَا لِأَنَّ ذَلِكَ خُرُوجٌ بِهَا عَنْ مَهْيَعِهَا. وَالْمُجَادَلَةُ تَعْرِضُ فِي أَوْقَاتِ السِّلْمِ وَأَوْقَاتِ الْقِتَالِ.
وأَهْلَ الْكِتابِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْيَهُودُ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَالْقُرَى حَوْلَهَا. وَيَشْمَلُ النَّصَارَى إِنْ عَرَضَتْ مُجَادَلَتُهُمْ مِثْلَ مَا عَرَضَ مَعَ نَصَارَى نَجْرَان.
وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُسْتَثْنًى مِنْ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَثْنَى، تَقْدِيرُهُ: لَا تُجَادِلُوهُمْ بِجِدَالٍ إِلَّا بِجِدَالٍ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وأَحْسَنُ اسْمُ تَفْضِيلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ فَيُقَدَّرُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، أَيْ بِأَحْسَنَ مِنْ مُجَادَلَتِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْ مُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاكُمْ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَجُوزُ كَوْنُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحُسْنِ، أَيْ إِلَّا بِالْمُجَادَلَةِ الْحُسْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [١٢٥]. فَاللَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ أَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالْحُسْنَى كَمَا اقْتَضَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ، وَبَيْنَ أَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالشِّدَّةِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ٧٣]، فَإِنَّ الْإِغْلَاظَ
شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ وَمِنْهَا الْمُجَادَلَاتُ وَلَا يَخْتَصُّ بِخُصُوصِ الْجِهَادِ فَإِنَّ الْجِهَادَ كُلَّهُ إِغْلَاظٌ فَلَا يَكُونُ عَطْفُ الْإِغْلَاظِ عَلَى الْجِهَادِ إِلَّا إِغْلَاظًا غَيْرَ الْجِهَادِ.
وَوَجْهُ الْوِصَايَةِ بِالْحُسْنَى فِي مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ غَيْرُ مُشْرِكِينَ بِهِ فَهُمْ مُتَأَهِّلُونَ لِقَبُولِ الْحُجَّةِ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِهِمُ الْمُكَابَرَةُ وَلِأَنَّ آدَابَ دِينِهِمْ وَكِتَابِهِمْ أَكْسَبَتْهُمْ مَعْرِفَةَ طَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ فَيَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ فِي مُجَادَلَتِهِمْ عَلَى بَيَانِ الْحُجَّةِ دُونَ إِغْلَاظٍ حَذَرًا مِنْ تَنْفِيرِهِمْ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ تَصَلُّبِهِمْ وَصَلَفِهِمْ وَجَلَافَتِهِمْ مَا أَيْأَسَ مِنْ إِقْنَاعِهِمْ بِالْحُجَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَعَيَّنَ أَنْ يُعَامَلُوا بِالْغِلْظَةِ وَأَنْ يُبَالَغَ فِي تَهْجِينِ دِينِهِمْ وَتَفْظِيعِ طَرِيقَتِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ نُجُوعًا لَهُمْ.
6
وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي ابْتِدَاءِ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِقَدْرِ مَا يُسْمَحُ بِهِ رَجَاءُ الِاهْتِدَاءِ مِنْ طَرِيقِ اللِّينِ، فَإِنْ هُمْ قَابَلُوا الْحُسْنَى بِضِدِّهَا انْتَقَلَ الْحُكْمُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. والَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَابَرُوا وَأَظْهَرُوا الْعَدَاءَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَأَبَوْا أَنْ يَتَلَقَّوُا الدَّعْوَةَ فَهَؤُلَاءِ ظَلَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمَيْنِ حَسَدًا وَبُغْضًا عَلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِنَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ، وَجَعَلُوا يَكِيدُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشَأَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَكُلُّ هَذَا ظُلْمٌ وَاعْتِدَاءٌ.
وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ قَبْلَ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسَالِمِينَ الْإِسْلَامَ وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ
كَمَا قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟
فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ»

. فَلَمَّا جَاءَ الْمَدِينَةَ دَعَاهُمْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ قَدِمَ فِيهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَأَخَذُوا مِنْ يَوْمِئِذٍ يَتَنَكَّرُونَ لِلْإِسْلَامِ.
وَعَطْفُ وَقُولُوا آمَنَّا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ تَعْلِيمٌ لِمُقَدِّمَةِ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَهَذَا مِمَّا يُسَمَّى تَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَتَقْرِيبُ شُقَّةِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ تَأْصِيلُ طُرُقِ الْإِلْزَامِ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى كَذَا وَكَذَا فَلْنَحْتَجَّ عَلَى مَا عَدَا ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا أُمِرُوا بِقَوْلِهِ هُنَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبِيلَ إِلَى الْوِفَاقِ وَلَيْسَ هُوَ بِدَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الْمُجَادَلَةِ لِأَنَّ الْمُجَادَلَةَ تَقَعُ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ وَلِأَنَّ مَا أُمِرُوا بِقَوْلِهِ هُنَا هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُجَادَلَةُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّا يُخَالِفُ عَقَائِدَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. [آل عمرَان: ٦٥- ٦٧]. وَلِأَجْلِ أَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمُجَادَلَةِ عُطِفَتْ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا
شَمِلَتْهُ الْمُجَادَلَةُ لَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا فَصْلَهَا لِأَنَّهَا مِثْلُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ.
وَمَعْنَى بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا الْقُرْآنُ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَأِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ جَحَدُوا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ
7
كِتَابًا عَلَى غَيْرِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ عَطْفُ صِلَةِ اسْمٍ مَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، أَيِ الْكِتَابُ وَهُوَ «التَّوْرَاةُ» بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ إِلَيْكُمْ. وَالْمَعْنَى:
إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِكِتَابِكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْحَرِفُوا عَنَّا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [الْمَائِدَة: ٥٩]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودَ يُؤْمِنُونَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. فَهَذَانِ أَصْلَانِ يَخْتَلِفُ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ.
وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مُرَادٌ بِهِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَرِيقُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَفَرِيقُ الْمُخَاطَبِينَ. فَيَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِوَصْفِ مُسْلِمُونَ أَحَدَ إِطْلَاقَيْهِ وَهُوَ إِسْلَامُ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ عَدَمُ الْإِشْرَاكِ بِهِ، أَيْ وَكِلَانَا مُسْلِمُونَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا نُشْرِكُ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ مُسْلِمُونَ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفْرِدُوا الله بالإلهية.
[٤٧]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧)
هَذَا عَوْدٌ إِلَى مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّنْزِيلِ الْبَدِيعِ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ، فَهُوَ بَدِيعٌ فِي فَصَاحَتِهِ، وَشَرَفِ مَعَانِيهِ، وَعُذُوبَةِ تَرَاكِيبِهِ، وَارْتِفَاعِهِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَفِي تَنْجِيمِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى بَدَاعَةِ تَنْزِيلِهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الَّذِينَ عَلَّمَهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ يُصَدِّقُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَدْرَى بِأَسَالِيبِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَعْلَمُ بِسِمَاتِ الرُّسُلِ وَشَمَائِلِهِمْ.
8
وَإِنَّمَا قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَأَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَنَّ فِي آتَيْناهُمُ الْكِتابَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ٤٤].
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ إِيمَانِ هَذَا الْفَرِيقِ بِهِ، أَيْ إِيمَانُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مُسْتَمِرٌّ يَزْدَادُ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ فِي الذِّهْنِ بِكَثْرَةِ مُمَارَسَةِ أَحْوَالِهِمْ وَجِدَالِهِمْ. وَهَكَذَا اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ حَيْثُ يُذَكِّرُ هؤُلاءِ بِدُونِ سَبْقٍ مَا يَصْلُحُ لِلْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَدْ أَلْهَمَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٩]. وَالْمَعْنَى: وَمِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، أَيْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَالَّذِينَ يُسَلِمُونَ مِنْ بَعْدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي بَاطِنِهِ وَلَا يُظْهِرُ ذَلِكَ عِنَادًا وَكِبَرًا مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ إِلَى أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ مَكَّةَ مَنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ جُحُودًا مِنْهُمْ لِأَجْلِ تَصَلُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكافِرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فِي الْوَصْفِ الْمُعَرَّفِ، أَيْ إِلَّا الْمُتَوَغِّلُونَ فِي الْكُفْرِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ، لِيَظْهَرَ وَجْهُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَا يَجْحَدُ وَبَيْنَ الْكافِرُونَ
إِذْ لَوْلَا الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا يَجْحَدُ إِلَّا الْجَاحِدُونَ.
وَعَبَّرَ عَن الْكِتابَ ب (الْآيَات) لِأَنَّهُ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسَبَبِ إِعْجَازِهِ وَتَحَدِّيهِ وَعَجْزِ الْمُعَانِدِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ ابْتِدَاءً إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ جُحُودَهُمْ وَاقِعٌ، وَفِيهِ تَهْيِئَةٌ لِتَوَجُّهِهِ إِلَى مَنْ عَسَى أَنْ يَجْحَدَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دُونِ أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْآنَ فَإِنْ فَعَلُوهُ فَقَدْ أَوْجَبُوا ذَلِكَ على أنفسهم.
9

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٨]

وَما كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)
هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِصِفَةِ الْأُمِّيَّةِ الْمَعْرُوفِ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّهُ مُوحًى إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَعْظَمُ دَلَالَةٍ وَقَدْ وَرَدَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: ٥٢] وَقَوْلِهِ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
[يُونُس: ١٦].
وَمَعْنَى: مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ كِتَابًا حَتَّى يَقُولَ أَحَدٌ:
هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ مِمَّا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ.
وَلَا تَخُطُّهُ أَيْ لَا تَكْتُبُ كِتَابًا وَلَوْ كُنْتَ لَا تَتْلُوهُ، فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ حَالَتَيِ التَّعَلُّمِ، وَهَمَا التَّعَلُّمُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّعَلُّمُ بِالْكِتَابَةِ اسْتِقْصَاءً فِي تَحْقِيقِ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي يَحْفَظُ كِتَابًا وَلَا يَعْرِفُ يَكْتُبُ لَا يُعَدُّ أُمِّيًّا كَالْعُلَمَاءِ الْعُمْيِ، وَالَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَلَا يَحْفَظُ عِلْمًا لَا يُعَدُّ أُمِّيًّا مِثْلَ النُّسَّاخِ فَبِانْتِفَاءِ التِّلَاوَةِ وَالْخَطِّ تَحَقَّقَ وصف الأمية.
وإِذاً جَوَابٌ وَجَزَاءٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ بِ (لَوْ) لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا وَلا تَخُطُّهُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كُنْتَ تَتْلُو قَبْلَهُ كِتَابًا أَوْ تَخُطُّهُ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.
ومجيء جَوَاب إِذاً مُقْتَرِنًا بِاللَّامِ الَّتِي يَغْلِبُ اقْتِرَانُ جَوَابِ (لَوْ) بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْطٌ بِ (لَوْ) كَمَا فِي قَول قريظ الْعَنْبَرِيِّ:
لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مَنْ ذُهْلِ ابْنِ شَيْبَانَا
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لَانَا
قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» :(إِذَنْ) هُوَ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَيْتَ الثَّانِيَ مَخْرَجَ جَوَابِ قَائِلٍ قَالَ لَهُ: وَلَوِ اسْتَبَاحُوا إِبِلَكَ مَاذَا كَانَ يَفْعَلُ بَنُو مَازِنٍ؟ فَقَالَ:
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا: إِذَنْ لَقَامَ، جَوَابَ (لَوْ) كَأَنَّهُ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ. وَهَذَا كَمَا
تَقُولُ: لَوْ كُنْتَ حُرًّا لَاسْتَقْبَحْتَ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبِيدُ إِذَنْ لَاسْتَحْسَنْتَ مَا يَفْعَلُهُ الْأَحْرَارُ اه. يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: إِذَنْ لَقَامَ، بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ: لَمْ تَسْتَبِحْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٩١]. وَالِارْتِيَابُ: حُصُولُ الرَّيْبِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ الشَّكُّ.
وَوَجْهُ التَّلَازُمِ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْكِتَابَةِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ عَلَى نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَبَيْنَ حُصُولِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا لَاحْتَمَلَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ كُتُبٍ سَالِفَةٍ وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا خَطَّهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ كَلَامٍ تَلَقَّاهُ فَقَامَ الْيَوْمَ بِنَشْرِهِ وَيَدْعُو بِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ مُوجِبَ رَيْبٍ دُونَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبَ جَزْمٍ بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتَهُ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْكُتُبِ وَالْقَصَصِ وَالْخُطَبِ وَالشِّعْرِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُسْتَدْعِيًا تَأَمُّلًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ خُطُورِ خَاطِرِ الِارْتِيَابِ عَلَى الْإِجْمَالِ قَبْلَ إِتْمَامِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بِحَيْثُ يَكُونُ دَوَامُ الِارْتِيَابِ بُهْتَانًا وَمُكَابَرَةً.
وَتَقْيِيدُ تَخُطُّهُ بِقَيْدِ بِيَمِينِكَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَمِينِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨].
وَوَصْفُ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمُبْطِلِينَ مَنْظُورٌ فِيهِ لِحَالِهِمْ فِي الْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا مَعَ انْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْكَذِبِ فَكَانَ تَكْذِيبُهُمُ الْآنَ بَاطِلًا، فَهُمْ مُبْطِلُونَ مُتَوَغِّلُونَ فِي الْبَاطِلِ، فَالْقَوْلُ فِي وَصْفِهِمْ بِالْمُبْطِلِينَ كَالْقَوْلِ فِي وَصفهم بالكافرين.
[٤٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٩]
بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)
بَلْ إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْفَرْضُ من قَوْله: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: ٤٨]، أَيْ بَلِ الْقُرْآنُ لَا رَيْبَ يَتَطَرَّقُهُ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ كُلُّهُ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى صدق
11
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَلِمَا أَيَّدَ ذَلِكَ الْإِعْجَازَ مِنْ كَوْنِ الْآتِي بِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَكُنْ يَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ كِتَابًا وَلَا يَخُطُّ، أَيْ بَلِ الْقُرْآنُ آيَاتٌ لَيْسَتْ مِمَّا كَانَ يُتْلَى قَبْلَ نُزُولِهِ بَلْ هُوَ آيَاتٌ فِي صَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْمُرَادُ مِنْ: صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ صدر للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ.
والْعِلْمَ الَّذِي أُوتِيَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النبوءة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً [النَّمْل: ١٥]. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ كَوْنَهُ فِي صَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ شَأْنُ كُلِّ مَا يُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ حِينَ نُزُولِهِ، فَإِذَا أُنْزِلَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخُطَّهُ الْكَاتِبُونَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ كِتَابًا لِلْوَحْيِ فَكَانُوا رُبَّمَا كَتَبُوا الْآيَةَ فِي حِينِ نُزُولِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: ٩٥] وَكَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ نُزُولِهِ مَتْلُوًّا، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَتْلُوًّا قَبْلَ نُزُولِهِ. هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْإِضْرَابِ عَنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو كِتَابًا قَبْلَ هَذَا الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ حَالِ تَلَقِّي الْقُرْآنِ، فَذَلِكَ هُوَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ كَمَا قَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: ١٩٣، ١٩٤] وَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: ٣٢].
وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِلْغَرَضِ وَإِكْمَالٌ لِمُقْتَضَاهُ، وَلِهَذَا فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ
الضَّمِيرِ. وَيَلْتَئِمُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ بَلْ هُوَ أُلْقِيَ فِي صَدْرِكَ وَهُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ صُدُورَ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُفَّاظِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَتْمِيمًا لِلثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ وَأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ صِفَةً لِ آياتٌ وَالْإِبْطَالُ مُقْتَصِرٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ.
12
وَجُمْلَةُ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَحَدُوا آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لَا إِنْصَافَ لَهُمْ وَشَأْنُ الظَّالِمِينَ جَحْدُ الْحَقِّ، يَحْمِلُهُمْ عَلَى جَحْدِهِ هَوَى نُفُوسِهِمْ لِلظُّلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل: ١٤] فَهُمْ مُتَوَغِّلُونَ فِي الظُّلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي وَصْفِهِمْ بالكافرين والمبطلين.
[٥٠]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٥٠]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)
لَمَّا ذَكَرَ الْجَاحِدِينَ لِآيَةِ الْقُرْآنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَوَصَفَهُمْ بِالْكَافِرِينَ وَالْمُبْطِلِينَ وَالظَّالِمِينَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَقَالَتِهِمُ النَّاشِئَةِ عَنْ جُحُودِهِمْ، وَذَلِكَ طَلَبُهُمْ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَاتٍ مَرْئِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا تَصْدِيقًا لِلرَّسُولِ كَمَا خَلَقَ نَاقَةَ صَالِحٍ وَعَصَا مُوسَى، وَهَذَا مِنْ جَلَافَتِهِمْ أَنْ لَا يَتَأَثَّرُوا إِلَّا لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنْتَصِبُ لِلْمُعَانَدَةِ مَعَهُمْ فَهُمْ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ مَا يَرْغَبُونَهُ لِيَجْعَلُوا مَا يَسْأَلُونَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ حَدِيثَ النَّوَادِي حَتَّى يَكُونَ مَحْضَرُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِمْ كَمَحْضَرِ الْمُشَعْوِذِينَ وَأَصْحَابِ الْخَنْقَطَرَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْتُ بَيَانَ هَذَا الْوَهْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَات مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٧].
وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقُدْرَةِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى فَلِكَوْنِهَا مَنُوطَةً بِإِرَادَتِهِ شُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ عِنْدَ مَالِكِهِ.
وَأَفَادَتْ إِنَّمَا قَصْرَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى صِفَةِ النِّذَارَةِ، أَيِ الرِّسَالَةِ لَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى خَلْقِ الْآيَاتِ أَوِ اقْتِرَاحِهَا عَلَى رَبِّهِ، فَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ رَدًّا عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَوْصُوفِ بِالرِّسَالَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَوَارِقِ الْمُشَاهَدَةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ أَنَّ التَّبْلِيغَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْخَوَارِقِ عَلَى حَسَبِ رَغْبَةِ
النَّاسِ وَاقْتِرَاحِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مَعْذُورِينَ فِي عَدَمِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ إِذَا لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةٍ حَسَبَ اقْتِرَاحِهِمْ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِ الرِّسَالَةِ وَصْفُ النَّذِيرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ وَهُوَ تَوَقُّعُ الشَّرِّ.
وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ لِلْإِنْذَارِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا يُخْبِرُ بِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ:
آياتٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ: آيَةٌ.
وَالْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْجِنْسِ، فَالْآيَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةٌ فِي التَّصْدِيق.
[٥١]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٥١]
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [العنكبوت: ٥٠] وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْمُجَادَلَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ إِنْكَارِيٌّ. وَالْمَعْنَى: وَهَلْ لَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ كُلَّ مِقْدَارٍ مِنْ مَقَادِيرِ إِعْجَازِهِ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ زُهَاءُ سِتَّةِ آلَافِ آيَةٍ. وَمِقْدَارُ كَلِّ ثَلَاثِ آيَاتٍ مِقْدَارٌ مُعْجِزٌ، فَيَحْصُلُ مِنَ الْقُرْآنِ مِقْدَارُ أَلْفَيْ مُعْجِزَةٍ وَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ.
والْكِتابَ: الْقُرْآنُ، وَعُدِلَ عَنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَالْعَلَمِ عَلَيْهِ إِلَى لَفْظِ الْكِتَابِ الْمَعْهُودِ لِإِيمَائِهِ إِلَى مَعْنَى تَعْظِيمِهِ بِأَنَّهُ الْمُشْتَهَرُ مِنْ بَيْنِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَجُمْلَةُ: يُتْلى عَلَيْهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالٌ، لِأَنَّ الْكِتَابَ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ لِلْوَصْفِ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ مَادَّةُ التِّلَاوَةِ مِنَ الِانْتِشَارِ وَالشُّيُوعِ. وَاخْتِيرَ الْمُضَارِعُ دُونَ الْوَصْفِ بِأَنْ يُقَالَ:
مَتْلُوًّا عَلَيْهِمْ، لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمُضَارِعُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ، فَحَصَلَ مِنْ مَادَّةِ يُتْلى وَمِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ.
14
وَقَدْ أَشَارَ قَوْلُهُ: يُتْلى عَلَيْهِمْ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى خَمْسِ مَزَايَا لِلْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
الْمَزِيَّةُ الْأُولَى: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ يُتْلى عَلَيْهِمْ مِنِ انْتِشَارِ إِعْجَازِهِ وَعُمُومِهِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْآفَاقِ وَالْأَزْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَصُّ بِإِدْرَاكِ إِعْجَازِهِ فَرِيقٌ خَاصٌّ فِي زَمَنٍ
خَاصٍّ شَأْنَ الْمُعْجِزَاتِ الْمَشْهُودَةِ مِثْلَ عَصَا مُوسَى وَنَاقَةِ صَالِحٍ وَبُرْءِ الْأَكْمَهِ، فَهُوَ يُتْلَى، وَمِنْ ضِمْنِ تِلَاوَتِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تُحَدِّتُ النَّاسَ بِمُعَارَضَتِهِ وَسَجَّلَتْ عَلَيْهِمْ عَجْزَهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ قَبْلِ مُحَاوَلَتِهِمْ إِيَّاهَا فَكَانَ كَمَا قَالَ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ وَالْمُعْجِزَاتُ الْأُخْرَى مُعْجِزَاتٌ زَائِلَةٌ.
الْمَزِيَّةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مِمَّا يُتْلَى، فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْفَعُ مِنْ كَوْنِ الْمُعْجِزَاتِ الْأُخْرَى أَحْوَالًا مَرْئِيَّةً لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْمَتْلُوِّ إِدْرَاكٌ عَقْلِيٌّ فِكْرِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ فَكَانَتْ مُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ أَلْيَقُ بِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ عُصُورِ الْعِلْمِ الَّتِي تَهَيَّأَتْ إِلَيْهَا الْإِنْسَانِيَّةُ.
الْمَزِيَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً فَإِنَّهَا وَارِدَةٌ مَوْرِدَ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ اكْتِفَائِهِمْ بِالْكِتَابِ وَفِي التَّعْلِيلِ تَتْمِيمٌ لِمَا اقْتَضَاهُ التَّعْبِيرُ بِالْكِتَابِ وَبِ يُتْلى عَلَيْهِمْ، فَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْكِتابَ لِيَسْتَحْضِرَ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا وَلِلتَّنْوِيهِ بِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَتَنْكِيرُ (رَحْمَةً) لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا. فَالْكِتَابُ الْمَتْلُوُّ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ رَحْمَةٌ لَهُمُ اشْتِمَالَ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ رَحْمَةٌ وَصَلَاحٌ لِلنَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ، فَالْقُرْآنُ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرْشِدَةً إِلَى تَصْدِيقِهِ مِثْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَهُوَ أَيْضًا وَسِيلَةُ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ وَآدَابٍ لِلْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ وَبِذَلِكَ فَضَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إِلَّا تَصْدِيقَ الرَّسُولِ الْآتِي بِهَا.
الْمَزِيَّةُ الرَّابِعَةُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَذِكْرى فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَوَاعِظَ وَنُذُرٍ وَتَعْرِيفٍ بِعَوَاقِبِ الْأَعْمَالِ، وَإِعْدَادٍ إِلَى الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَذْكِيرٌ بِمَا فِي تَذَكُّرِهِ خَيْرُ الدَّارَيْنِ، وَبِذَلِكَ فَضَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الصَّامِتَةِ الَّتِي لَا تُفِيدُ أَزْيَدَ مِنْ كَوْنِ الْآتِيَةِ عَلَى يَدَيْهِ صَادِقًا.
15
الْمَزِيَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا مَتْلُوًّا مُسْتَطَاعًا إِدْرَاكُ خَصَائِصِهِ لِكُلِّ عَرَبِيٍّ، وَلِكُلِّ مَنْ حَذَقَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ مِثْلَ أَيِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، يُبْعِدُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ نَفَثَاتِ السَّحَرَةِ وَالطَّلَاسِمِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ طَاعِنٌ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ تَخَيُّلَاتٌ كَمَا قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ [الزخرف: ٤٩] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ رَأَوْا مُعْجِزَةَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ:
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: ٢]، فَأَشَارَ قَوْلُهُ: يُعْرِضُوا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْهُمْ فِي مُعْجِزَةٍ مَرْئِيَّةٍ.
وَعُلِّقَ بِالرَّحْمَةِ وَالذِّكْرَى قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ مَنَافِعُ مِنَ الْقُرْآنِ
زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْمُعْجِزَاتِ الْأُخْرَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ مَنْفَعَةُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذِهِ مَزَايَا عَظِيمَةٌ لِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ حَاصِلَةٌ فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْبَتِهِ وَمُسْتَقِلَّةٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ وَتَكْمِيلِهِ بِالدَّعْوَةِ وَبِتَكْرِيرِهَا.
وَاسْتِحْضَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِ: (قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) دُونَ أَنْ يُقَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ، لِمَا فِي لَفْظِ قَوْمٍ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ، أَيْ لِقَوْمٍ شِعَارُهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا، يَعْنِي لِقَوْمٍ شِعَارُهُمُ النَّظَرُ وَالْإِنْصَافُ فَإِذَا قَامَتْ لَهُمْ دَلَائِلُ الْإِيمَانِ آمَنُوا وَلَمْ يُكَابِرُوا ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَالْفِعْلُ مُرَادٌ بِهِ الْحَالُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَكْتَفُوا بِمُعْجِزَتِهِ وَاقْتَرَحُوا آيَاتٍ أُخْرَى لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.
[٥٢]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٥٢]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
بَعْدَ أَنْ أَلْقَمَهُمْ حَجَرَ الْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ أُمِرَ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَمَّا اسْتَمَرَّ تَكْذِيبُهُمْ بَعْدَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ اسْتِدْرَاجُ الْمُخَاطَبِ.
وكَفى بِاللَّهِ بِمَعْنَى هُوَ كَافٍ لِي فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
16
وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الْحَاكِمِ عُدِّيَ بِظَرْفِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الْمَلِكِ:
وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ مِ الْحِيَارَيْنِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ
وَجُمْلَةُ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ شَهِيدًا فَهِيَ تَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ التَّوْكِيدِ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
بَعْدَ أَنْ أَنْصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً اسْتَمَرَّ فِي الِانْتِصَافِ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا الْبَاطِلَ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الْحُكُومَةِ وَالْقَضِيَّةِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ إِنْ تَأَمَّلُوا فِي إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِإِلَهِيَّتِهِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ مَا لَيْسَ حَقِيقًا بِالْإِلَهِيَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَتَعَيَّنَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ فَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤]، وَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَيَّامَ جَاهِلِيَّتِهِ:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ آمَنُوا وكَفَرُوا مُحَسِّنُ الْمُضَادَّةِ وَهُوَ الطِّبَاقُ.
وَالْبَاطِلُ: ضِدُّ الْحَقِّ، أَيْ مَا لَيْسَ بِحَقِيقٍ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، أَيْ مَا لَيْسَ بِإِلَهٍ حَقٍّ وَلَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ وَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ بِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. وَأَمَّا كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ فَلِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَكَفَرُوا بِأَعْظَمِ صِفَاتِهِ وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ لَهُمْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيْ جُمْلَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ الْعَظِيمِ بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ خُسْرَانٍ فِي جَانِبِ خُسْرَانِهِمْ كَالْعَدَمِ
17
فَكَأَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِالْخُسْرَانِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ الْمُرَكَّبُ الْمُفِيدُ قَصْرَ الْخُسْرَانِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ الْعُظْمَى الْأَبَدِيَّةُ. وَاسْتُعِيرَ الْخُسْرَانُ لِانْعِكَاسِ الْمَأْمُولِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُكِدِّ تَشْبِيهًا بِحَالِ مَنْ كَدَّ فِي التِّجَارَةِ لِيَنَالَ مَالًا فَأَفْنَى رَأْسَ مَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: ١٦].
[٥٣- ٥٥]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٥]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ [العنكبوت: ٥٠] اسْتِقْصَاءً فِي الرَّدِّ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ وَإِبْطَالًا لِتَعِلَّاتِ إِعْرَاضِهِمُ النَّاشِئِ عَنِ الْمُكَابَرَةِ، وَهُمْ يُخَيِّلُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَعْرَضُوا لِعَدَمِ اقْتِنَاعِهِمْ بِآيَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومناسبة وُقُوعه هَذَا أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَكَانَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُنْذِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ وَكَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهُ بِهِ ذَكَرَ تَوَرُّكَهُمْ عَلَيْهِ عَقِبَ ذِكْرِ الْكُفْرِ. وَاسْتِعْجَالُ الْعَذَابِ: طَلَبُ تَعْجِيلِهِ وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ. وَقَصْدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِخْفَافُ بِالْوَعِيدِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي سُورَةِ [يُونُسَ: ١١]، وَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ
قَبْلَ الْحَسَنَةِ
فِي سُورَةِ [الرَّعْدِ: ٦]. وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْعَذَابِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَحُكِيَ اسْتِعْجَالُهُمِ الْعَذَابَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالِ اسْتِعْجَالِهِمْ لِإِفَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤].
وَقَدْ أَبْطَلَ مَا قَصَدُوهُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَذَلِكَ أَنَّ حُلُولَ الْعَذَابِ لَيْسَ بِيَدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا جَارِيًا عَلَى طَلَبِهِمْ وَاسْتِبْطَائِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُقَدِّرُ لِوَقْتِ حُلُولِهِ بِهِمْ فِي أَجَلٍ قَدَّرَهُ بِعِلْمِهِ.
18
وَالْمُسَمَّى أُرِيدَ بِهِ الْمُعَيَّنُ الْمَحْدُودُ أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥].
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا الْأَجَلُ الْمُعَيَّنُ لِحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا لِأَنَّ كُفْرَهُمْ يَسْتَحِقُّ تَعْجِيلَ عِقَابِهِمْ وَلَكِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَأْخِيرَهُ لِحِكَمٍ عَلِمَهَا، مِنْهَا إِمْهَالُهُمْ لِيُؤْمِنَ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بَعْدَ الْوَعِيدِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَفِزُّهُ اسْتِعْجَالُهُمُ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ حَكِيمٌ لَا يُخَالِفُ مَا قَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ، حَلِيمٌ يُمْهِلُ عِبَادَهُ. فَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ فِي وَقْتِ طَلَبِهِمْ تَعْجِيلَهُ، ثُمَّ أَنْذَرَهُمْ بِأَنَّهُ آتِيهِمْ بَغْتَةً وَأَنَّ إِتْيَانَهُ مُحَقَّقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَامُ الْقَسَمِ وَنُونُ التَّوْكِيدِ وَذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ الْمُقَدَّرِ لَهُ. وَقَدْ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ بَغْتَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ [الْأَنْفَال: ٤٢] فَاسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ اللَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَعْظَمَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ أَعْقَبَ إِنْذَارَهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ بِإِنْذَارِهِمْ بِالْعَذَابِ الْأَعْظَمِ. وَأُعِيدَ لِأَجْلِهِ ذِكْرُ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالْعَذَابِ مُعْتَرَضًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ اسْتِعْجَالِهِمْ فَإِنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ فَأُنْذِرُوا بِعَذَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَعْجَلُ مِنَ الْآخَرِ. وَفِي إِعَادَةِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ تَهْدِيدٌ وَإِنْذَارٌ بِأَخْذِهِمْ، فَجُمْلَةُ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فَهُمَا عَذَابَانِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْعَطْفِ.
وَالْإِحَاطَةُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِهِمْ مِنْهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْكافِرِينَ الْمُسْتَعْجِلُونَ، وَاسْتُحْضِرُوا بِوَصْفِ الْكَافِرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبُ إِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِهِمْ. وَاسْتُعْمِلَ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي الْإِحَاطَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مَعَ أَنَّ شَأْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَنْ يُفِيدَ الِاتِّصَافَ فِي زَمَنِ الْحَالِ، تَنْزِيلًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ زَمَانِ الْحَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ.
وَيَتَعَلَّقُ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ بِ (مُحِيطَةٌ)، أَيْ تُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ.
وَفِي قَوْلِهِ: يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ تَصْوِيرٌ لِلْإِحَاطَةِ. وَالْغَشَيَانُ:
التَّغْطِيَةُ وَالْحَجْبُ.
19
وَقَوْلُهُ: مِنْ فَوْقِهِمْ بَيَانٌ لِلْغَشَيَانِ لِتَصْوِيرِهِ تَفْظِيعًا لِحَالِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨] وَتَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْغَشَيَانِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْعَذابُ وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ احْتِرَاسٌ عَمَّا قَدْ يُوهِمُهُ الْغَشَيَانُ مِنَ الْفَوْقِيَّةِ خَاصَّةً، أَيْ تُصِيبُهُمْ نَارٌ مِنْ تَحْتِهِمْ تَتَوَهَّجُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فَوْقَهَا، وَلَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْحَالِ بِالْوَاوِ وَكَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِ يَغْشاهُمُ لِأَنَّ الْغَشَيَانَ هُوَ التَّغْطِيَةُ فَتَقْتَضِي الْعُلُوَّ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ عَامِلٌ مَحْذُوفٌ. وَقَدْ عُدَّ هَذَا الْعَمَلُ مِنْ خَصَائِصِ الْوَاوِ فِي الْعَطْفِ أَنْ تَعْطِفَ عَامِلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْمُولُهُ- كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى:
يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
يُرِيدُ: وَمُمْسِكًا رُمْحًا لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ- يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَالْجُرْمِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ صَالِحٍ لِلتَّعَلُّقِ بِالْمَذْكُورِ فَيُقَدَّرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَضْمِينُ فِعْلِ يَغْشاهُمُ معنى (يصيبهم) و (يَأْخُذُهُمْ). وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكِنَايَةُ عَنْ أَنَّ الْعَذَابَ مُحِيطٌ بِهِمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ الْجَانِبَانِ الْأَيْمَنُ وَالْأَيْسَرُ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْكِنَايَةِ قَدْ حَصَلَ. وَالْمَقَامُ مَقَامُ إِيجَازٍ لِأَنَّهُ مَقَامُ غَضَبٍ وَتَهْدِيدٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٧] لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ لِإِلْحَاحِ الشَّيْطَانِ فِي الْوَسْوَسَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَيَقُولُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَيَقُولُ اللَّهُ. وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ أَيِمَّةِ الْبَلَاغَةِ، أَوْ يُقَدَّرُ: وَيَقُولُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِجَهَنَّمَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَيَقُولُ الْعَذَابُ، بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلنَّارِ أَصْوَاتًا كَأَنَّهَا قَوْلُ الْقَائِلِ: ذُوقُوا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِالنُّونِ وَهِيَ نُونُ الْعَظَمَةِ.
20
وَمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا كَانَ بِقَدْرِ الْمَجْزِيِّ أُطْلِقُ عَلَيْهِ
اسْمُهُ مَجَازًا مُرْسَلًا أَوْ مجَازًا بالحذف.
[٥٦]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٥٦]
يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ: جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت: ٥٢]، وَجُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً [العنكبوت: ٥٨] الْآيَةَ. وَهَذَا أَمْرٌ بِالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ عِنَادَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَصْدِيقِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ آذَنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى دَارِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ مَا بَيْنَ مُسْلِمِينَ وَبَيْنَ يَهُودٍ فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ فِي جِوَارِهِمْ آمَنِينَ مِنَ الْفِتَنِ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مُسْتَضْعَفِينَ قَدْ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا إِظْهَارَ إِيمَانِهِمْ خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَ الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي أَوَّلِ هَذِه السُّورَة [العنكبوت: ١٠]، وَكَانَ لَهُمُ الْعُذْرُ حِينَ كَانُوا لَا يَجِدُونَ مَلْجَأً سَالِمًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَطَاعُوا الْهِجْرَةَ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمَّا أَسَلَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ زَالَ عُذْرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ إِذْ أَصْبَحَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
. فَقَوْلُهُ: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
كَلَامٌ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرَكَّبًا فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ فِي الْأَرْضِ بِلَادًا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَقْطُنَهَا آمِنًا، فَهُوَ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا
أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ فَرَّعَ عَلَى كَوْنِهَا رَحْبًا قَوْلَهُ: فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ. وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ فَرَّعَ عَلَى كَوْنِهَا وَاسِعَةً الْأَمْرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لِلْخُرُوجِ مِمَّا كَانَ يُفْتَنُ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُكْرَهُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: ١٠٦].
فَالْمَعْنَى: أَنَّ أَرْضِي الَّتِي تَأْمَنُونَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَاسِعَةٌ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ وَالْقُرَى الْمُجَاوِرَةُ لَهَا مِثْلَ خَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَقَيْنُقَاعَ، وَمَا صَارَتْ كُلُّهَا مَأْمَنًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْقُرَى أَحْلَافٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أَنَّ عِلَّةَ الْأَمْرِ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ هِيَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ إِظْهَارِ
التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدِّينِ. وَهَذَا هُوَ الْمِعْيَارُ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يُفْتَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُ فِي دِينِهِ وَتَجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ أَحْكَامٌ غَيْرُ إِسْلَامِيَّةٍ. وَالنِّدَاءُ بِعُنْوَانِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ. وَمُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ أَنَّ (عِبَادَ) إِذَا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ غَالِبًا إِلَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ كَقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: ١٧]، وَعَلِيهِ فالوصف بِ الَّذِينَ آمَنُوا
لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُمْ فُتِنُوا إِلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ
فَاءُ التَّفْرِيعِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُونِ
إِمَّا مُؤَكِّدَةٌ لِلْفَاءِ الْأُولَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ التَّفْرِيعِ فِي الْفِعْلِ وَفِي مَعْمُولِهِ، أَيْ فَلَا تَعْبُدُوا غَيْرِي فَاعْبُدُونِ وَإِمَّا مُؤْذِنَةٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ نَاصِبُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ تَأْكِيدًا لِلْعِبَادَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِيَّايَ اعْبُدُوا فَاعْبُدُونِ، وَهُوَ أَنْسَبُ بِدَلَالَةِ التَّقْدِيمِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفَادَ الْأَمْرَ بِتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ كَانَ ذِكْرُ الْفَاءِ عَلَامَةَ تَقْدِيرٍ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ قُصِدَ مِنْ تَقْدِيرِهِ التَّأْكِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٠].
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ نُونِ الْوِقَايَةِ تَخْفِيفًا، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. ونظائره كَثِيرَة.
[٥٧]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٥٧]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧)
اعْتِرَاضٌ ثَانٍ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ قُصِدَ مِنْهَا تَأْكِيدُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ [العنكبوت: ٥٢] إِلَى آخِرِهَا، وَالْوَعْدُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً [العنكبوت: ٥٨] أَيِ الْمَوْتُ مُدْرِكٌ جَمِيعَ الْأَنْفُسِ
ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ. وَقُصِدَ مِنْهَا أَيْضًا تَهْوِينُ مَا يُلَاقِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَذَى فِي اللَّهِ وَلَوْ بَلَغَ إِلَى الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ الْخَالِدِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُهُمْ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
[العنكبوت: ٥٦]. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ:
يَغْشاهُمُ الْعَذابُ [العنكبوت: ٥٥].
[٥٨- ٥٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٥٩]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ [العنكبوت: ٥٢].
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَر، أَي نبوّئنهم غُرَفًا لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ.
وَالتَّبْوِئَةُ: الْإِنْزَالُ وَالْإِسْكَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٩٣]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَ نُونِ الْعَظَمَةِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: لَنُثَوِّيَنَّهُمْ بِمُثَلَّثَةٍ بَعْدَ النُّونِ وَتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْوَاوِ مِنْ أَثْوَاهُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ إِذَا جَعَلَهُ ثَاوِيًا، أَيْ مُقِيمًا فِي مَكَانٍ.
وَالْغُرَفُ: جَمْعُ غُرْفَةٍ، وَهُوَ الْبَيْتُ الْمُعْتَلَى عَلَى غَيْرِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٥].
وَجُمْلَةُ: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ إِلَخْ... إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ وَتَعْجِيبٍ عَلَى الْأَجْرِ الَّذِي أُعْطُوهُ، فَلِذَلِكَ قُطِعَتْ عَنِ الْعَطْفِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ صَبَرُوا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمُ
الَّذِينَ صَبَرُوا. وَالْمُرَادُ: صَبْرُهُمْ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَتَحَمُّلِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَاقُوهُ فَتَوَكَّلُوا عَلَى ربّهم وَلم يعبأوا بِقَطِيعَةِ قَوْمِهِمْ وَلَا بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثُمَّ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ فِرَارًا بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ مُقَابَلَةُ غشيان الْعَذَاب للْكفَّار مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ بغشيان النَّعيم للْمُؤْمِنين مِنْ فَوْقِهِمْ بِالْغُرَفِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ بِالْأَنْهَارِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لِلِاهْتِمَامِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آل عمرَان [١٥٩] [٦٠]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٠]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت: ٥٧] فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا هَوَّنَ بِهَا أَمْرَ الْمَوْتِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَكَانُوا مِمَّنْ لَا يَعْبَأُ بِالْمَوْتِ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: إِنَّا لَا نَخَافُ الْمَوْتَ وَلَكِنَّا نَخَافُ الْفَقْرَ وَالضَّيْعَةَ. وَاسْتِخْفَافُ الْعَرَبِ بِالْمَوْتِ سَجِيَّةٌ فِيهِمْ كَمَا أَنَّ خَشْيَةَ الْمَعَرَّةِ مِنْ سَجَايَاهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١] فَأَعَقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ رِزْقَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُهُمْ. وَضَرَبَ لَهُمُ
الْمَثَلَ بِرِزْقِ الدَّوَابِّ، وَلِلْمُنَاسَبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
[العنكبوت: ٥٦] مِنْ تَوَقُّعِ الَّذِينَ يُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ أَنْ لَا يَجِدُوا رِزْقًا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يُهَاجِرُونَ إِلَيْهَا، وَهُوَ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ ذِكْرِ التَّوَكُّلِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت: ٥٩]،
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»
. وَلَعَلَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي الْحَدِيثِ مَقْصُودٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْأَوَّلُونَ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُمْ رِزْقَهُمْ لِتُوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِمْ أَمْوَالِهِمْ بِمَكَّةَ لِلْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَتَوَكُّلِهِمْ هُوَ حَقُّ التَّوَكُّلِ، أَيْ أَكْمَلُهُ وَأَحْزَمُهُ فَلَا يَضَعُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُمْ.
24
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَأَيِّنْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وكأين من نبيء قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٦].
وَقَوْلُهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا خَبَرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهُ إِفَادَةُ الْحُكْمِ، بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرَكَّبًا فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ضَمَانِ رِزْقِ الْمُتَوَكِّلِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَمْثِيلُهُ لِلتَّقْرِيبِ بِضَمَانِ رِزْقِ الدَّوَابِّ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَسِيرُ فِي الْأَرْضِ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، وَهِيَ السَّوَائِمُ الْوَحْشِيَّةُ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ هُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ الَّذِي هُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ وَجْهِ سَوْقِ قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا وَلِذَلِكَ عَطَفَ وَإِيَّاكُمْ عَلَى ضَمِيرِ دَابَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ: التَّمْثِيلُ فِي التَّيْسِيرِ وَالْإِلْهَامِ لِلْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَسَائِلُ الرِّزْقِ مُخْتَلِفَةٌ.
وَالْحَمْلُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَسِيرُ غَيْرَ حَامِلَةٍ رِزْقَهَا لَا كَمَا تَسِيرُ دَوَابُّ الْقَوَافِلِ حَامِلَةً رِزْقَهَا، وَهُوَ عَلَفُهَا فَوْقَ ظُهُورِهَا بَلْ تَسِيرُ تَأْكُلُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي التَّكَلُّفِ لَهُ، مِثْلَ قَوْلِ جَرِيرٍ:
حُمِّلْتَ أَمْرًا عَظِيمًا فَاصْطَبَرْتَ لَهُ أَيْ لَا تَتَكَلَّفُ لِرِزْقِهَا. وَهَذَا حَالُ مُعْظَمِ الدَّوَابِّ عَدَا النَّمْلَةِ وَالْفَارَةِ، قِيلَ وَبَعْضُ الطَّيْرِ كَالْعَقْعَقِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَرْزُقُها دُونَ أَنْ يَقُولَ: يَرْزُقُهَا اللَّهُ، لِيُفِيدَ بِالتَّقْدِيمِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ يَرْزُقُهَا لَا غَيره، فَلَمَّا ذَا تَعْبُدُونَ أَصْنَامًا لَيْسَ بِيَدِهَا رِزْقٌ.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ. فَالْمَعْنَى:
اللَّهُ يَرْزُقُكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ لِدُعَائِكُمُ الْعَلِيمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي أَعْمَالِكُمْ وَتَوَكُّلِكُمْ وَرَجَائِكُمْ مِنْهُ الرزق.
25

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦١]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١)
هَذَا الْكَلَامُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت: ٥٢] تَعْجِيبًا مِنْ نَقَائِضِ كُفْرِهِمْ، أَيْ هُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَإِنْ سَأَلَهُمْ سَائِلٌ عَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ ذَلِكَ وَلَا يُثْبِتُونَ لِأَصْنَامِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْخَلْقِ فَكَيْفَ يَلْتَقِي هَذَا مَعَ ادِّعَائِهِمُ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْنَامِهِمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعَنْ إِبْطَالِ إِشْرَاكِهِمْ بِهِ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا.
وَهَذَا الْإِلْزَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِذَا سُئِلُوا إِلَّا الِاعْتِرَافَ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ كُلَّمَا نَزَلَ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَيَتْلُوهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَسَامِعِهِمْ فَلَوِ اسْتَطَاعُوا إِنْكَارَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ لَصَدَعُوا بِهِ.
وَضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَاسْتَعْجَلُوا بِالْعَذَابِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ.
وَتَخْصِيصُ تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَظَاهِرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِمَا فِي حَرَكَتِهِمَا مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِنَّةِ عَلَى النَّاسِ إِذْ نَاطَ بِحَرَكَتِهِمَا أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَار وَضبط الْمَشْهُور وَالْفُصُولِ.
وَتَسْخِيرُ الشَّيْءِ: إِلْجَاؤُهُ لِعَمَلٍ شَدِيدٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَخَّرُ- بِالْفَتْحِ- ذَا إِرَادَةٍ أَمْ كَانَ جَمَادًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٥٤].

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٢]

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢)
هَذَا إِلْزَامٌ آخَرُ لَهُمْ بِإِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَافْتِضَاحِ تَنَاقِضِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ إِلَى قَوْلِهِ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣١]. وَإِنَّمَا جَاءَ أُسْلُوبُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ
مُخَالِفًا لِأُسْلُوبِ الَّذِي قَبْلَهُ وَالَّذِي بَعْدَهُ فَعَدَلَ عَنْ تَرْكِيبِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ [العنكبوت: ٦١] تَفَنُّنًا فِي الْأَسَالِيبِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ.
وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالرِّزْقِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ عِبَادَهُ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ الْمُخْتَارُ فِي تَصَرُّفِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَقَادِيرِ حَاجَاتِهِمْ وَلَا عَلَى مَا يَبْدُو مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُرْزَقُونَهُ.
وَبَسْطُ الرِّزْقِ: إِكْثَارُهُ، وَقدره: تقليله وتقتيره. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ الرَّازِقُ لِأَحْوَالِ الرِّزْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٦]. فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٣٧] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَجَمَعَ بَيْنَ ضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِهَا وَبَيْنَ كَوْنِ الْآيَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي آخِرِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ الْبَسْطِ وَالْقَدْرِ. وَزِيَادَةُ لَهُ بَعْدَ وَيَقْدِرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ آيَةِ سُورَةِ الرَّعْدِ وَآيَةِ الْقَصَصِ لِلتَّعْرِيضِ بِتَبْصِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ابْتُلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ مِنِ اعْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ آنِفًا: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت: ٦٠] بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي الرِّزْقِ هُوَ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ لِمَا يَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْهُ مِنَ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَغُلِّبَ فِي هَذَا الْغَرَضِ جَانِبُ الْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا لَمْ يُعَدَّ يَقْدِرُ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَعْنَى الْقَدْرِ
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: ٧]. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ عَيَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْفَقْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: إِنْ هَاجَرْنَا لَمْ نَجِدْ مَا نُنْفِقُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ عَائِدٌ إِلَى (مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ (مَنْ يَشَاءُ) عَامٌّ لَيْسَ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ عُمُومَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ عِبادِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِفَرِيقٍ وَيَقْدِرُ لِفَرِيقٍ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَارٍ عَلَى حِكْمَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ صَبْرَ الصَّابِرِينَ وَجَزَعَ الْجَازِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ٣]، قَالَ تَعَالَى:
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
[آل عمرَان: ١٨٦].
[٦٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٣]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
أُعِيدَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِيَتَّصِلَ رَبْطُ الْأَدِلَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى قُرْبٍ. فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُنْزِلُ الْمَطَرَ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ فَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرُوهَا وَهِيَ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ.
وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِانْفِرَادِهِ تَعَالَى بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَنْسُبُونَ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا الْعَادِيَةِ كَمَا تَبَيَّنَ فِي بَحْثِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيَّيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ، أَنَّهُ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ فِي كَلَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْسُبُونَ الْإِنْبَاتَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ سَبَبَ الْإِنْبَاتِ وَهُوَ الْمَطَرُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ الْإِنْبَاتَ مِنَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَفِي هَذَا الْإِدْمَاجِ اسْتِدْلَالٌ تَقْرِيبِيٌّ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَةِ
28
اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الرّوم: ٥٠] وَقَالَ: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الرّوم: ١٩].
وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الْجَاثِيَةِ [٥] فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها.
وَقد أَشَارَ قَوْله مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلَى مَوْتِ الْأَرْضِ، أَيْ مَوْتِ نَبَاتِهَا يَكُونُ بِإِمْسَاكِ الْمَطَرِ عَنْهَا فِي فُصُولِ الْجَفَافِ أَو فِي سِنِين الْجَدْبِ لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِكَوْنِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ لِإِرَادَتِهِ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَرْضِ كَانَ بَعْدَ حَيَاةٍ سَبَقَتْ مِنْ نَوْعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِمَاتَتِهَا، وَيعلم مِنْهُ أَن مُحْيِيَ الْحَيَوَانِ وَمُمِيتَهُ بِطَرِيقَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ. فَانْتَظَمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: ٦١] إِلَى هُنَا أُصُولُ صِفَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ: الْخَلْقُ، وَالرِّزْقُ،
وَالْإِحْيَاءُ، وَالْإِمَاتَةُ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عُقِّبَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْمَدَهُ بِكَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْحَمْدِ.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
لَمَّا اتَّضَحَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ لِأَصْنَامِهِمْ شِرْكٌ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ نِظَامِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِإِبْطَالِ شِرْكِهِمْ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ وَلَا تَأْوِيلَهُ بَعْدَ أَنْ قَرَعَتْ أَسْمَاعَهُمْ دَلَائِلُهُ وَهُمْ وَاجِمُونَ لَا يُبْدُونَ تَكْذِيبًا فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ صِدْقُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَكَذِبُهُمْ فِيمَا تَطَاوَلُوا بِهِ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى أَنْ نَصَرَهُ بِالْحُجَّةِ نَصْرًا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ بِالْقُوَّةِ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهَا إِذْ
29
هُوَ الَّذِي لَقَّنَهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ وَمَا كَانَ يَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ.
فَهَذَا الْحَمْدُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ الْحُجَجُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِحُجَّةِ إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقُيُودِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِهَا، وَكَذَلِكَ تَرْجِعُ مَعَهَا مُتَعَلِّقَاتُهَا- بِكَسْرِ اللَّامِ- وَقَرِينَةُ الْمَقَامِ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ حُجَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْحُجَجِ تَسْتَأْهِلُ أَنْ يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَى إِقَامَتِهَا فَلَا تَخْتَصُّ بِالْحَمْدِ حُجَّةُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [٢٥] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَلِذَلِكَ لَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اعْتِرَاضًا.
وبَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ حَمْدِ اللَّهِ عَلَى وُضُوحِ الْحُجَجِ إِلَى ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَتَفَطَّنُونَ لِنُهُوضِ تِلْكَ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ فَكَأَنَّهُمْ لَا عَقْلَ لَهُمْ لِأَنَّ وُضُوحَ الْحُجَجِ يَقْتَضِي أَنْ يَفْطِنَ لِنَتَائِجِهَا كُلُّ ذِي مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عُقُولَ لَهُمْ.
وَإِنَّمَا أُسْنِدَ عَدَمُ الْعَقْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ مِنْ عُقَلَائِهِمْ وَأَهْلِ الْفِطَنِ مِنْهُمْ مَنْ وَضُحَتْ لَهُ تِلْكَ الْحُجَجُ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكفْر عنادا.
[٦٤]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٤]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)
هَذَا الْكَلَامُ مُبَلَّغٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
[العنكبوت: ٦٣] فَإِنَّ عُقَلَاءَهُمْ آثَرُوا بَاطِلَ الدُّنْيَا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي وَضَحَ لَهُمْ، وَدَهْمَاءَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِغَيْرِ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَجَمِيعَهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَأَعْقَبَ اللَّهُ مَا أَوْضَحَهُ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ بِأَنْ نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كَالْخَيَالِ وَأَنَّ الْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقُّ. وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ يَسْرِي إِلَى الْحَيَاةِ نَفْسِهَا.
30
وَاللَّهْوُ: مَا يَلْهُو بِهِ النَّاسُ، أَيْ يَشْتَغِلُونَ بِهِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُكَدِّرَةِ أَوْ يَعْمُرُونَ بِهِ أَوْقَاتُهُمُ الْخَلِيَّةُ عَنِ الْأَعْمَالِ.
وَاللَّعِبُ: مَا يُقْصَدُ بِهِ الْهَزْلُ وَالِانْبِسَاطُ. وَتَقَدَّمُ تَفْسِيرُ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَوَجْهُ حَصْرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِيهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٢].
وَالْحَصْرُ: ادِّعَائِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ زَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَوْجِيهِ اسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَيَاةِ وَهِيَ إِشَارَةُ تَحْقِيرٍ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ مُشِيرًا إِلَى الْمَوْتِ:
مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
وَلَمْ تُوَجَّهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَيَاةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَحْقِيرُ الْحَيَاةِ فَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ تَحْقِيرِهَا، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: ٣١ فَذَكَرَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مَا سَيَظْهَرُ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ مِنْ ذَهَابِ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا سدى.
وَأمر تَقْدِيمُ ذِكْرِ اللَّهْوِ هُنَا وَذِكْرِ اللَّعِبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَلِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى اسْمِ إِشَارَةٍ يُقْصَدُ مِنْهُ تَحْقِيرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِأَنَّهَا لَعِبٌ مُشِيرًا إِلَى تَحْقِيرِهَا لِأَنَّ اللَّعِبَ أَعْرَقُ فِي قِلَّةِ الْجَدْوَى مِنَ اللَّهْوِ.
وَلَمَّا أُشِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [العنكبوت: ٦٣] زَادَهُ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقُّ فَصِيغَ لَهَا وَزْنُ الْفِعْلَانِ الَّذِي هُوَ صِيغَة تنبىء عَنْ مَعْنَى التَّحَرُّكِ تَوْضِيحًا لِمَعْنَى كَمَالِ الْحَيَاةِ بِقَدْرِ الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ التَّحَرُّكَ وَالِاضْطِرَابَ أَمَارَةٌ عَلَى قُوَّةِ الْحَيَوِيَّةِ فِي الشَّيْءِ مِثْلَ الْغَلَيَانِ وَاللَّهَبَانِ. وَهُمْ قَدْ جَهِلُوا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ مِنْ أَصْلهَا فَلذَلِك قَالُوا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلِيلُهُ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ هُوَ الْجَواب مقدّما.
31

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)
أَفَادَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لَيْسَ هُوَ وَاحِد مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِخُصُوصِهِ وَلَكِنَّهُ مَجْمُوعُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْفَاءُ. وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ أَيِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِلْغَائِهِمْ مَا فِي أَحْوَالِهِمْ مِنْ دَلَائِلِ الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِهَا لَا يَضْرَعُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ، فَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى إِلْزَامِهِمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ دُعَاؤُهُمْ حِينَ لَا يُشْرِكُونَ فِيهِ إِلَهًا آخَرَ مَعَ اللَّهِ بَعْدَ إِلْزَامِهِمْ بِمُوجِبَاتِ اعْتِرَافَاتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ أصنامهم فِي شؤون مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَسْتَنْصِرُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَصَابَهُمْ هَوْلٌ تَوَجَّهُوا بِتَضَرُّعِهِمْ إِلَى اللَّهِ.
وَإِنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ حَالَ خَوْفِهِمْ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ مَا فِي سُورَةِ يُونُسَ وَمَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ لِأَنَّ أَسْفَارَهُمْ فِي الْبَرِّ كَانُوا لَا يَعْتَرِيهِمْ فِيهَا خَوْفٌ يَعُمُّ جَمِيعَ السَّفَرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ قَوَافِلَ، مَعَهُمْ سِلَاحُهُمْ، وَيَمُرُّونَ بِسُبُلٍ يَأْلَفُونَهَا فَلَا يَعْتَرِضُهُمْ خَوْفٌ عَامٌّ، فَأَمَّا سَفَرُهُمْ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُمْ يَفْرَقُونَ مِنْ هَوْلِهِ وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ وَفْرَةُ عَدَدٍ وَلَا قُوَّةُ عُدَدٍ، فَهُمْ يَضْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ بِطَلَبِ النَّجَاةِ وَلَعَلَّهُمْ لَا يَدْعُونَ أَصْنَامَهُمْ حِينَئِذٍ.
فَأَمَّا تَسْخِيرُ الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا كَانُوا يَطْمَعُونَ بِهِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا كَانَ يُخَامِرُهُمُ الْخَوْفُ عِنْدَ رُكُوبِهِمْ فِي الْبَحْرِ لِقِلَّةِ الْفَهْمِ بِرُكُوبِهِ إِذْ كَانَ مُعْظَمُ أَسْفَارِهِمْ فِي الْبَرَارِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْدِيَةُ الرُّكُوبِ بِحَرْفِ (فِي) عِنْدَ قَوْلِهِ وَقالَ ارْكَبُوا فِيها فِي سُورَةِ هُودٍ [٤١]. وَالْإِخْلَاصُ: التَّمْحِيضُ وَالْإِفْرَادُ.
والدِّينَ: الْمُعَامَلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّعَاء، أَي ادعوا اللَّهَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ أَصْنَامُهُمْ. وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ.
فَجِيءَ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا إِلَى الْإِشْرَاكِ فِي حِينِ حُصُولِهِمْ فِي الْبَرِّ، أَيْ أَسْرَعُوا إِلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ زِيَارَةِ أَصْنَامِهِمْ وَالذَّبْحِ لَهَا. وَالْمُفَاجَأَةُ عُرْفِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِرْسَاءُ فِي الْبَرِّ وَالْوُصُولُ إِلَى مَوَاطِنِهِمْ فَكَانُوا يُبَادِرُونَ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ السَّفَرِ.
وَاللَّامُ فِي لِيَكْفُرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ لَامُ كَيْ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ يُشْرِكُونَ.
وَالْكُفْرُ هُنَا لَيْسَ هُوَ الشِّرْكُ وَلَكِنَّهُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بِما آتَيْناهُمْ فَإِنَّ الْإِيتَاءَ بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ وَبِقَرِينَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَى يُشْرِكُونَ فَالْعِلَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلْمَعْلُولِ وَكُفْرَانُ النِّعْمَةِ مُسَبَّبٌ عَنِ
الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَادرُوا إِلَى شؤون الْإِشْرَاكِ فَقَدْ أَخَذُوا يَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ، فَاللَّامُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، شَبَّهَ الْمُسَبَّبَ بِالْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ حَرْفُ التَّعْلِيلِ عِوَضًا عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَأَمَّا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَلِيَتَمَتَّعُوا بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قِرَاءَةِ وَرْشٍ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ. وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِسُكُونِهَا فَهِيَ لَامُ الْأَمْرِ، وَهِيَ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ تُسَكَّنُ وَتُكْسَرُ، وَعَلَيْهِ فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ نَظِيرَ قَوْلِهِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:
٤٠] وَهُوَ عَطْفُ جُمْلَةِ التَّهْدِيدِ عَلَى جُمْلَةِ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِلَخْ نَظِيرَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٣٤] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ الْقَصِيرُ زَمَنُهُ.
وَجُمْلَةُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى التهديد بالوعيد.
[٦٧]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٧]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧)
هَذَا تَذْكِيرٌ خَاصٌّ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِنَّمَا خُصُّوا مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قُدْوَةٌ لِجَمِيعِ الْقَبَائِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَقْبَلَتْ وُفُودُ الْقَبَائِلِ مُعْلِنَةً إِسْلَامَهُمْ.
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت: ٦٥] بِاعْتِبَارِ مَا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجُمْلَةُ مِنْ تَقْرِيعِهِمْ عَلَى كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَجُعِلَتْ نِعْمَةُ أَمْنِ بَلَدِهِمْ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ رُؤْيَتِهِ، فَقَوْلُهُ أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً مَفْعُولُ يَرَوْا.
وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٥٧]، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ الْأَمْنِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْقَبَائِلِ حَوْلَ مَكَّةَ وَمَا بَعُدَ مِنْهَا يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَغَاوَرُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ لَا يَعْدُو عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مَعَ قِلَّتِهِمْ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ عَلَيْهِمْ.
وَالْبَاطِلُ: هُوَ الشِّرْكُ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ فِي هَذِه السُّورَة العنكبوت [٥٢]. و (نعْمَة اللَّهِ) الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ الَّذِي مِنْهُ إِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَمَا عَدَاهُ مِنَ النِّعَمِ الْمَحْسُوسَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَمِنَ النِّعَمِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوا لَأَدْرَكُوا عِظَمَهَا، وَمِنْهَا نِعْمَةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَالْمُضَارِعُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ دَالٌّ عَلَى تجدّد الْفِعْل.
[٦٨]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٨]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
لَمَّا أَوْفَاهُمْ مَا يَسْتَأْهِلُونَهُ مِنْ تَشْنِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَسُوء انتظام شؤونهم جَاءَ فِي عَقِبِهِ بِتَذْيِيلٍ يَجْمَعُهَا فِي أَنَّهَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، ثُمَّ جَزَاهُمُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى اللَّائِقَ بِحَالِهِمْ وَهُوَ أَنَّ النَّارَ مَثْوَاهُمْ.
وَافْتَتَحَ تَشْخِيصُ حَالِهِمْ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ وُجُودِ فَرِيقٍ هُمْ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ تَوْجِيهًا لِأَذْهَانِ السَّامِعِينَ نَحْوَ الْبَحْثِ هَلْ يَجِدُونَ أَظْلَمَ مِنْهُمْ حَتَّى إِذَا أَجَادُوا التَّأَمُّلَ وَاسْتَقْرَوْا مَظَانَّ الظُّلْمَةِ وَاسْتَعْرَضُوا أَصْنَافَهُمْ تَيَقَّنُوا أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ ظُلْمٌ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ هَؤُلَاءِ.
34
وَإِنَّمَا كَانُوا أَشَدَّ الظَّالِمِينَ ظُلْمًا لِأَنَّ الظُّلْمَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى أَحَدٍ بِمَنْعِهِ مِنْ حَقِّهِ وَأَشَدُّ مِنَ الْمَنْعِ أَنْ يَمْنَعَهُ مُسْتَحِقَّهُ وَيُعْطِيَهُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَأَنْ يُلْصِقَ بِأَحَدٍ مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ وَعَدَمَهُ قَدْ يَثْبُتَانِ بِحُكْمِ الْعَوَائِدِ وَقَدْ يَثْبُتَانِ بِأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ وَقَدْ يَثْبُتَانِ بِقَضَايَا الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الثُّبُوتِ وَمَدَارُ أُمُورِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ سَلَبُوا عَنْهُ مَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِدَلَالَةِ الْعُقُولِ، وَأَثْبَتُوا لَهُ مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِدَلَالَةِ الْعُقُولِ، وَعَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُكْرَانِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعَقْلُ، وَعَلَى رَمْيِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ بِشَهَادَةِ الْعَقْلِ وَالْعَادَةِ الَّتِي عَرَفُوهَا مِنْهُ بُهْتَانًا وَكَذِبًا فَكَانُوا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَضَعُوا أَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَوَاضِعَهَا فَكَانُوا أَظْلَمَ النَّاسِ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِمْكَانِ أَقْوَى مِنْ عَدَمِ الْحُصُولِ.
وَتَقْيِيدُ الافتراء بِالْحَال الموكّدة فِي قَوْلِهِ كَذِباً لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ الِافْتِرَاءِ لِأَنَّ اسْمَ الْكَذِبِ مُشْتَهَرٌ الْقُبْحَ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ الِافْتِرَاءُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ الِاخْتِلَاقَ تَعَمُّدًا لَا تُخَالِطُهُ شُبْهَةٌ. وَتَقْيِيدُ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ بِقَوْلِهِ لَمَّا جاءَهُ لِإِدْمَاجِ ذَمِّ الْمُكَذِّبِينَ بِنُكْرَانِ نِعْمَةِ إِرْسَالِ الْحَقِّ إِلَيْهِمُ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرُوهَا قَدْرَهَا، وَكَانَ شَأْنُ الْعُقَلَاءِ أَنْ
يَتَطَلَّبُوا الْحَقَّ وَيَرْحَلُوا فِي طَلَبِهِ، وَهَؤُلَاءِ جَاءَهُمُ الْحَقُّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَكَذَّبُوا بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ لَمَّا التَّوْقِيتِيَّةَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ حَصَلَ بِدَارًا عِنْدَ مَجِيءِ الْحَقِّ، أَيْ دُونَ أَنْ يَتْرُكُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُهْلَةَ النَّظَرِ.
وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَتَقْرِيرٌ لَهَا لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا إِيذَانًا إِجْمَالِيًّا بِجَزَاءٍ فَظِيعٍ يَتَرَقَّبُهُمْ، فَكَانَ بَيَانُهُ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ وَهُوَ بِأَلْفَاظِهِ وَنَظْمِهِ يُفِيدُ تَمَكُّنَهُمْ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ إِذْ جُعِلَتْ مَثْوَاهُمْ. فَالْمَثْوَى: مَكَانُ الثَّوَاءِ. وَالثَّوَاءُ: الْإِقَامَةُ الطَّوِيلَةُ وَالسُّكْنَى.
35
وَعَلَّقَ ذَلِكَ بِعُنْوَانِ الْكَافِرِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْكَافِرِينَ) تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانَ بِضَمِيرِهِمْ فَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِإِحْضَارِهِمْ بِوَصْفِ الْكُفْرِ.
وَالْهَمْزَةُ فِي أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَأَصْلُهَا: إِمَّا الْإِنْكَارُ بِتَنْزِيلِ الْمُقِرِّ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِيَكُونَ إِقْرَارُهُ أَشَدَّ لُزُومًا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِفْهَامِ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَتِ التَّقْرِيرَ لِأَنَّ إِنْكَارَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ لِلْمَنْفِيِّ وَهُوَ إِثْبَاتٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ بِالْهَمْزَةِ هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ النَّفْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَى التَّقْرِيرِ بِشَهَادَةِ الذَّوْقِ وَلِيَاقَةِ مَقَامِ مَدْحِ الْخَلِيفَةِ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِمَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ. جُعِلَ كَوْنُ جَهَنَّمَ مَثْوَاهُمْ أَمْرًا مُسَلَّمًا مَعْرُوفًا بِحَيْثُ يُقِرُّ بِهِ كُلُّ مَنْ يُسْأَلُ عَنْهُ كِنَايَةً عَنْ تَحَقُّقِ الْمَغَبَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ إِيمَاء الْكِنَايَة.
[٦٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٦٩]
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
خُتِمَ تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ وَذَمُّهُمْ بِالتَّنْوِيهِ بِالْمُؤْمِنِينَ إِظْهَارًا لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِهِمْ فَلَا يَخْلُو مَقَامُ ذَمِّ أَعْدَائِهِمْ عَنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ الْأَعْدَاءَ غَيْظًا وَتَحْقِيرًا. والَّذِينَ جاهَدُوا فِي اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَوَّلُونَ فَالْمَوْصُولُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ. وَهَذَا الْجِهَادُ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْفِتَنِ وَالْأَذَى وَمُدَافَعَةِ كَيْدِ الْعَدُوِّ وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ أول السُّورَة
[العنكبوت: ٦] وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ جِهَادُ الْقِتَالِ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ قَبْلُ. وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ سَبَبُ الْخَبَرِ. وَمَعْنَى جاهَدُوا فِينا
36
جَاهَدُوا فِي مَرْضَاتِنَا، وَالدِّينِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لَهُمْ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ، يُقَالُ: هِيَ ظَرْفِيَّةُ تَعْلِيلٍ تُفِيدُ مُبَالَغَةً فِي التَّعْلِيلِ.
وَالْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ وَالتَّوْفِيقُ بِالتَّيْسِيرِ الْقَلْبِيِّ وَالْإِرْشَادِ الشَّرْعِيِّ، أَيْ لَنَزِيدَنَّهُمْ هُدًى.
وَسُبُلُ اللَّهِ: الْأَعْمَالُ الْمُوصِلَةُ إِلَى رِضَاهُ وَثَوَابِهِ، شُبِّهَتْ بِالطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَنْزِلِ الْكَرِيمِ الْمُكْرِمِ للضيف.
وَالْمرَاد ب الْمُحْسِنِينَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُحْسِنِينَ، أَيْ كَانَ عَمَلُ الْحَسَنَاتِ شِعَارَهُمْ وَهُوَ عَامٌّ. وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ فِي عِدَادِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَهَذَا أَوْقَعُ فِي إِثْبَاتِ الْفَوْزِ لَهُمْ مِمَّا لَوْ قِيلَ: فَأُولَئِكَ الْمُحْسِنُونَ لِأَنَّ فِي التَّمْثِيلِ بِالْأُمُورِ الْمُقَرَّرَةِ الْمَشْهُورَةِ تَقْرِيرًا لِلْمَعَانِي وَلِذَلِكَ
جَاءَ فِي تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ»
. وَالْمَعِيَّةُ: هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعُمُومِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِهَا مَعْطُوفَةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُهِمَّ مِنْ سَوْقِهَا هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَعُطِفَتْ عَلَى حَالَتِهِمُ الْأُخْرَى وَأَفَادَتِ التَّذْيِيلَ بِعُمُومِ حُكْمِهَا.
وَفِي قَوْلِهِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا إِيمَاءٌ إِلَى تَيْسِيرِ طَرِيقِ الْهِجْرَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَأَهَّبُونَ لَهَا أَيَّامَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
37

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٣٠- سُورَة الرّوم
بِسم الله الرّحمن الرّحيم هَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى سُورَةُ الرُّومِ فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السُّورَةِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهَا ذِكْرُ اسْمِ الرُّومِ وَلَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِالِاتِّفَاقِ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلَفِ فِي مَكِّيَّتِهَا وَلَا فِي بَعْضِ آيِهَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:
أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فَتَكُونُ عِنْدَهُ مَدَنِيَّةً. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ إِلَى قَوْلِهِ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: ١- ٥] وَكَانَ يَقْرَؤُهَا غُلِبَتِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ، وَأَنَّهُ قَرَأَ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الرّوم: ٣] بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، وَنَسَبَ مِثْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَتَأَوَّلَهَا أَبُو السُّعُودِ فِي «تَفْسِيرِهِ» آخِذًا مِنَ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى غَلَبِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ. قَالَ أَبُو السُّعُودِ: وَغَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الرّوم: ١٧] الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّ الَّذِي كَانَ فَرْضًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ هُوَ رَكْعَتَانِ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَيَسَّرِ لِلْمُسْلِمِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى شُذُوذٍ.
وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ
39
وَقَبْلَ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ غَلَبَ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ كَانَ فِي عَامِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَلِذَلِكَ اسْتَفَاضَتِ الرِّوَايَاتُ وَكَانَ بَعْدَ قَتْلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ غَلَبَ الرُّومِ لِلْفُرْسِ وَقَعَ بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعِ سِنِينَ مِنْ غَلَبِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ الَّذِي نَزَلَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ السُّورَةُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ بِتَقْدِيمِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَقَدْ حُمِلَ عَلَى التَّصْحِيفِ كَمَا رَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْقُشَيْرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ نُزُولَ سُورَةِ الرُّومِ كَانَ فِي سنة إِحْدَى قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ انْتِصَارَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ يُوَافِقُ يَوْمُهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَعَدَدُ آيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ. وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ سِتُّونَ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّهُ لَمَّا تَحَارَبَ الْفُرْسُ وَالرُّومُ الْحَرْبَ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الرّوم: ٢، ٣] وَتَغَلَّبَ الْفُرْسُ عَلَى الرُّومِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرِحِينَ بِغَلَبِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّ الْفُرْسَ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَكَانَ حَالُهُمْ أَقْرَبَ إِلَى حَالِ قُرَيْشٍ وَلِأَنَّ عَرَبَ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ كَانُوا مِنْ أَنْصَارِ الْفُرْسِ وَكَانَ عَرَبُ الشَّامِ مِنْ أَنْصَارِ الرُّومِ فَأَظْهَرَتْ قُرَيْشٌ التَّطَاوُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ مَقْتًا لَهُمْ وَإِبْطَالًا لِتَطَاوُلِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى الْفُرْسِ بَعْدَ سِنِينَ. فَلِذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: ١- ٤]، وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
أَوَّلُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ سَبَبُ نُزُولِهَا عَلَى مَا سَرَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَغَلُّبِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ، فَقَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى تَطَاوُلَ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَتَحَدَّاهُمْ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلرُّومِ فِي الْغَلَبِ عَلَى الْفُرْسِ بَعْدَ سِنِينَ قَلِيلَةٍ.
40
Icon