تفسير سورة العنكبوت

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة العنكبوت مكية
وهي تسع وستون آية وسبع ركوعات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الم أَحَسِبَ١ الهمزة للإنكار ﴿ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا ﴾ على عافية وفراغ، ولما كان صلة أن مشتملة على مسند، ومسند إليه يسد مسد مفعولي حسب، وهذا هو الأولى ﴿ أَن يَقُولُوا آمَنَّا ﴾ أي : بأن أو لأن ﴿ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ بل يمتحنهم الله بالمصائب، ومشاق التكاليف ليميز المخلص من المنافق
١ قال الشعبي: نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا يقبل فيكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل، ومنهم من نجا فأنزل الله هاتين الآيتين / ١٢ معالم..
﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ١ اللَّه ﴾ ليتعلق علمه بالامتحان عمليا حاليا يتميز به ﴿ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ في إيمانهم ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ فيه
١ وفي البخاري: فليعلمن الله، علم الله ذلك إنما هي بمنزلة فليميز الله كقوله: ﴿ليميز الله الخبيث﴾ (الأنفال: ٣٧) /١٢..
﴿ أَمْ حَسِبَ ﴾ أم متقطعة ﴿ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ﴾ يعجزونا فلا نقدر على انتقامهم ﴿ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا
﴿ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ ﴾ وصوله إلى ثوابه أو من يخشى حسابه وجزاءه ﴿ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ فليستعد وليعمل لذلك الوقت المضروب للجزاء فإنه آت لا محالة أو معناه من يأمل لقاء الله في الجنة فوقت اللقاء آت فليبادر إلى ما يحقق رجاءه ولذلك قال بعض المحققين : هذه تعزية من الله للمشتاقين إلى لقائه ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ فيعلم الأقوال والعقائد
﴿ وَمَن جَاهَدَ١ نفسه في منعها عن المناهي، وحملها على المعروف ﴿ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم
١ ولما أمره بالمبادرة والاستعداد قال: ﴿ومن جاهد﴾ إلخ /١٢ وجيز..
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أحسن جزاء أعمالهم
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾ بإيتاء أو بإيلاء والديه ﴿ حُسْنًا ﴾ أي : فعلا ذا حسن أو للمبالغة جعل الفعل حسنا لفرط حسنه، قيل تقديره : وصيناه بتعهد١ الوالدين افعل بهما حسنا، وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ ﴾ أي : وقلنا إن جاهداك ﴿ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ ﴾ بإلاهيته ﴿ عِلْمٌ ﴾ فإن ما لا يعلم صحته لا يتبع سيما إن علم بطلانه ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾ في ذلك فلا طاعة في معصية ﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ مرجع الكل المؤمن والمشرك والبار والعاق ﴿ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ بالجزاء عليه، نزلت٢ في سعد بن أبي وقاص حلفت أمه، إنها لا تأكل ولا تشرب حتى تموت إن لم يرجع ابنها٣( * ) من الإسلام
١ من جملة ما فتناه /١٢ وجيز..
٢ رواه مسلم /١٢ وجيز..
٣ (*) في الأصل (ابنه)..
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ﴾ جملة ﴿ الصَّالِحِينَ ﴾ وكمال الصلاح منتهى الدرجات
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ﴾ أصابه مضرة من المشركين للإيمان بالله ﴿ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ ﴾ ما أصابه من جهتهم في الصرف عن الإيمان ﴿ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ في الآخرة فجزع من عذابهم وأطاعهم كما يجزع ويطيع الله من يخافه وشتان ما بينهما، أو معناه إذا نزل عليهم مصبية اعتقدوا أنها من نقمة الله للإسلام فارتدوا ﴿ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ ﴾ فتح وغنيمة ﴿ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ في الدين فأعطونا من المغنم ﴿ أَوَلَيْسَ اللَّهُ ﴾ عطف على محذوف أي : أقوْلهُم ينجيهم وليس الله ؟ ﴿ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ من الإخلاص والنفاق
﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ يعرف المؤمنين حقيقة ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ١ لا يشتبه عليه ولا يمكن الإلباس عليه
١ بترك الإسلام عند نزول البلاء واختلفوا في نزول هذه الآية قال مجاهد: نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم في بدر وهم الذين نزل فيهم ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم﴾ [النساء: ٩٧]، وقال قتادة: نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، وقال الشعبي هذه الآيات العشر من أول السورة إلى ها هنا مدنية وباقي السورة مكية /١٢ معالم..
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ﴾ ديننا وطريقنا ﴿ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ﴾ إن كان ذاك خطيئة عطفوا ﴿ ولنحملن ﴾ وهو أمر لأنفسهم على ﴿ اتبعوا ﴾ وهو أمر للمؤمنين إرادة للمبالغة وأن كليهما لا بد من الحصول، وهذا قول صناديد قريش ﴿ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ ﴾ أي : شيئا من خطاياهم ﴿ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ١ في إنجاز وعدهم هذا
١ وحاصل المعنى إن تتبعونا، وبلغكم في ذلك مكروه، فنحن نرفع منكم مكروهكم، فالجزاء خبر لا يطابق الواقع فهو كذب صريح، ومن قال: الوعد إنشاء وليس الكذب إلا في الخبر والجواب أن لو سلمنا ذلك فهذا الإنشاء ملزم لخبر والكذب باعتبار اللازم /١٢ وجيز..
﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ ﴾ أثقال أنفسهم ﴿ وَأَثْقَالًا ﴾ أخر ﴿ مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ وهي أثقال أوزار من أضلوه من غير أن ينقص من أوزار متبعيهم شيئا ﴿ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ سؤال تقريع وتوبيخ ﴿ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ من الأباطيل.
﴿ وَلَقَدْ١ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ ﴾ بعد نبوته ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ٢ عَامًا ﴾ هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ﴾ بعد هذه المدة لما لم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾
١ ولما كان السياق للبلاء والامتحان والصبر ذكر من الرسل من هو أولهم وطال صبره ولم يفتر عزمه عن النصح تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له ولأصحابه فقال: ﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له: إن نوحا لبث هذه المدة الكثيرة يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل فصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر /١٢..
﴿ فَأَنجَيْنَاهُ ﴾ نوحا ﴿ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ﴾ من كان معه فيها ﴿ وَجَعَلْنَاهَا ﴾ السفينة أو القصة ﴿ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ١ عن ابن٢ عباس : بعث نوح وهو ابن أربعين سنة وعاش بعد الطوفان ستين، فمجموع عمره ألف وخمسون سنة، وفي جامع الأصول أنه عاش بعد الطوفان خمسين، ومدة الطوفان سنة أشهر آخرها يوم عاشوراء
١ من بعدهم فقد هلك سوى أصحاب السفينة وما بقي في الديار ديار ولما كان بلاء إبراهيم وصبره من أعظم البلايا لقذفه في النار وكون عدوه أباه أتبع حكايته حكاية نوح، فقال: ﴿وإبراهيم إذ قال لقومه﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ عزاه بعض المحشين إلى الحاكم /١٢..
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ ﴾ عطف على نوحا ﴿ إِذْ قَالَ ﴾ ظرف لأرسلنا ﴿ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ مما أنتم عليه ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الخير والشر
﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ ﴾ تكذبون ﴿ إِفْكًا ﴾ كذبا في أنها شركاء الله شفعاء أو تنحتونها للإفك، جعل نحتهم خلقا وإيجادا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا ﴾ ولا يكون المعبود إلا الرازق، ورزقا مفعول به من غير تأويل، والتنكير للتعميم ﴿ فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْق ﴾ كله فإنه مالكه وحده ﴿ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ فاستعدوا للقائه
﴿ وَإِن تُكَذِّبُوا ﴾ أي : تكذبوني ﴿ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ﴾ رسلهم كقوم شيث وإدريس ونوح، ولم يضرهم تكذيبهم فلا يضرني تكذيبهم ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ ﴾ اللام للجنس ﴿ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ وهذه الآية والتي بعدها إلى قوله :﴿ فما كان جواب قومه ﴾ الأظهر أنها من جملة قول إبراهيم لقومه، ويحتمل أن يكون معترضة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفيسا بين نصيحته وجواب قومه، أي : وإن تكذبوا محمدا إلخ
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ﴾ من العدم ﴿ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ عطف على ﴿ أو لم يروا ﴾ لا على ﴿ يُبدئ ﴾ فإنه في معرض الاستدلال من الأول على الثاني وما تعلق به رؤيتهم وإنما هو إخبار١ على حياله ﴿ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ الإعادة بعد الإنشاء ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾
١ قيل: معناه يعيد الأشياء كالنبات والأشجار إن قطعت أو يبست وكالثمار إن قطفت /١٢ وجيز..
﴿ قُلْ سِيرُوا ﴾ حكاية كلام الله لإبراهيم على التقدير الأول ﴿ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ مع اختلاف أجناسهم ﴿ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ١ الْآخِرَةَ ﴾ عطف على سيروا ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ تعلق قدرته على جميع الممكنات على السواء.
١ وأصرح باسمه الأقدس في كيف يبدأ الله وأضمر ثم يعيده وهنا أضمر وأبرز بالعكس من الأول الدلالة على تفخيم النشأة الآخرة كأنه قيل: ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو ينشئ النشأة الآخرة /١٢ وجيز..
﴿ يُعَذِّبُُ مَن يَشَاء ﴾ تعذيبه ﴿ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء ﴾ رحمته ﴿ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴾ تردون
﴿ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ ربكم إن هربتم ﴿ فِي الْأَرْضِ ﴾ بالتواري فيها ﴿ وَلَا فِي السَّمَاء ﴾ بالتحصن فيه أو ولا في السماء لو كنتم فيها قيل تقديره ولا من في السماء ﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِير ﴾ لو أراد الله بكم ضرّا.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ بكتبه أو بدلائل وحدته ﴿ وَلِقَائِهِ ﴾ البعث ﴿ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي { لإنكارهم البعث والجنة { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ لكفرهم
﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ١ قَوْمِهِ ﴾ أي : إبراهيم له ﴿ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ أي : عذبوه أحد العذابين ﴿ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ بعد ما قذفوه فيها بأن جعلها عليه برادا وسلاما ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ إنجائه منها ﴿ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ فإن الكفار غير موفقين على التدبر في مثل ذلك
١ لما بين إبراهيم سفههم في عبادة الأوثان رجعوا إلى الغلبة التي هي عادة العاجز عن الجواب /١٢ وجيز..
﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي : لتودّوا بينكم وتتواصلوا كما يتفق الناس على مذهب ليكون ذلك سبب تحابهم، وثاني مفعولي اتخذ محذوف وهو آلهة أو هو مودة بحذف مضاف، أي : سبب مودة، أو بأنها بمعنى مودودة وقراءة رفعها على تقدير هي مودة، أو سبب مودة على أنها صفة ( أوثانا ) أو خبر لأن، وما موصولة، أي : إن الذين اتخذتموهم ﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا ﴾ كلما دخلت أمة لعنت أختها ﴿ وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِين ﴾
َ﴿ فَآمَنَ لَهُ ﴾ لإبراهيم ﴿ لُوطٌ ﴾ هو ابن أخي إبراهيم لا ابن أخته فإنه لوط بن هارون بن آزر وهو أول من آمن به، وفي الحديث ( ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك خاطب به امرأته١( * ) ) فالمراد والله أعلم أن ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام ﴿ وَقَالَ ﴾ إبراهيم ﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ٢ من قومي ﴿ إِلَى رَبِّي ﴾ هاجر من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الشام ومعه لوط وامرأته سارة ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ فيمنعني من الأعداء، ويوفقني بما هو صلاحي
١ جزء من حديث أخرجه البخاري مطولا في قصة إبراهيم وبناء البيت..
٢ قال النخعي وقتادة: الذي قال إني مهاجر هو إبراهيم، قيل هو أول من هاجر إلى الله وترك بلده وسار إلى حيث أمره الله بالمهاجرة إليه عن أنس قال: أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله) خرجه أبو يعلي / ١٢ فنح. [أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (١٣١١) بسند ضعيف]..
﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ وهو ولد إسحاق تولد في حياة إبراهيم ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ أي : جنسه وكل نبي بعده كان من ذريته ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ جمع له بين السعادتين سعادة الدنيا أي : الرزق الواسع، والمنزل الرحب، والزوجة الحسنة، والثناء الجميل إلى يوم القيامة، وسعادة الآخرة وهي لا يعرفها إلا الله
﴿ وَلُوطًا ﴾ عطف على نوحا ﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾ أرسل في حياة خليل الله إلى أهل سدوم ﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾ الفعلة القبيحة ﴿ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ١ استئناف مقرر لغاية قباحتها
١ يعني: أتأتون تلك الفعلة القبيحة مبتدعين غير مسبوقين بها وفيه دليل على أنه لم ينزل [في اللسان (نز): فلان نزيز أي: شهوان، وقتلته النزة أي: الشهوة] ذكر على ذكر قبل قوم لوط /١٢ وجيز..
﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ١ السَّبِيلَ ﴾ فإنهم كانوا يقتلون المارين وينهبون أموالهم، وقيل : يقطعون سبيل النسل ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ﴾ مجلسكم الغاصة ﴿ الْمُنكَرَ٢ وفي الحديث ( هو حذف أهل الطريق بالحصى والاستهزاء بهم )، أو الصفير ولعب الحمام وحل أزرار القبا ومضغ العلك وتطريف الأصابع بالحنا، أو الضراط والضحك والفحش في المزاح ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ٣ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ في النبوة، أو في الوعيد
١ قيل: المراد سبيل الولد بتعطيل الفروج، وهم أول من لاط رجالهم وسحقت نساؤهم /١٢ وجيز..
٢ وفي المنكر خلاف في حديث أحمد والترمذي وحسنه هو الاستهزاء بالمارين [ضعيف]، وعن الكثير كانوا يأتون الرجال في مجالسهم ينظر بعضهم بعضا / ١٢..
٣ أما ما وقع من جوابهم ﴿أخرجوا آل لوط من قريتكم﴾ [النمل: ٥٦] في آية أخرى فإنهم قالوا أولا في جوابه: ائتنا بعذاب الله ثم تكرر لما منه نهي ووعد ووعيد قالوا: ﴿أخرجوا﴾ فهذان جوابهم /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ١ بإنزال العذاب عليهم.
١ فإنهم مصرون لا يذعنون الحق بوجه /١٢ وجيز..
﴿ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا ﴾ الملائكة ﴿ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى ﴾ من الله بإسحاق وولده جاءوا على طريقة أضياف ﴿ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ﴾ سدوم ﴿ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ مستمرين على الكفر والفسق
﴿ قَالَ ﴾ إبراهيم ﴿ إِنَّ فِيهَا ﴾ في القرية ﴿ لُوطًا ﴾ وهو نبي غير ظالم ﴿ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ الباقين في العذاب
﴿ وَلَمَّا أَن جَاءتْ ﴾ أن صلة زيدت لاتصال الفعلين، وتأكيدهما ﴿ رُسُلُنَا لُوطًا ﴾ بعدما ساروا من عند إبراهيم في صورة أمارد حسان ﴿ سِيءَ بِهِمْ ﴾ جاءته المساءة والغم بسببهم ﴿ وَضَاقَ١ بِهِمْ ذَرْعًا ﴾ أي : عجز وضاق بسببهم وتدبير أمرهم طاقته فإنه خاف عليهم من قومه ﴿ وَقَالُوا ﴾ لما رأوا غمه ﴿ لَا تَخَفْ ﴾ علينا ﴿ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ﴾ نصب أهلك لعطفه على محل الكاف أو بإضمار فعل ﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾
١ أن مزيدة لاتصال الفعلين كأنه قيل لما أحس بمجيئهم فاجأ به المساءة من غير مكث خيفة عليهم من القوم وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه وطاقته، وقد جعلت العرب ضيق الذارع عبارة عن فقد الطاقة والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجزة والقدرة /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا ﴾ عذابا ﴿ مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ بسبب فسقهم
﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا ﴾ من كلام الله تعالى ﴿ مِنْهَا ﴾ من قرية لوط ﴿ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ هي آثار منازلهم الخربة أو أنهارهم المسودة أو الأحجار الممطورة التي أهلكوا بها
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ﴾ عطف على نوحا إلى قومه ﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا ﴾ اخشوا ﴿ الْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ وقيل : افعلوا ما ترجون به ثواب يوم الآخر من إقامة المسبب مقام السبب ﴿ وَلَا تَعْثَوْا ﴾ العثو أشد الفساد ﴿ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ يعني لا تزيدوا١ في الفساد حال كونكم مفسدين
١ فإن العثي أشد الفساد /١٢ وجيز..
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾ الزلزلة أو الصيحة أخرجت قلوبهم، أو عذاب يوم الظلة، وقد مر في سورة الأعراف وهود والشعراء ﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ باركين على الركب ميتين
﴿ وَعَادًا وَثَمُود ﴾ منصوبان بفعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا وعدم انصراف ثمود بتأويل القبيلة ﴿ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾ بعض مساكنهم باليمن أو تبين لكم إهلاكهم من جهة مساكنهم إذا رأيتموها ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ السيئة١ ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ عن الطريق المستقيم ﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ عقلاء عند أنفسهم معجبين برأيهم أو كانوا في نفس الأمر متمكنين من النظر إلى مستبصرين بضلالهم لكنهم لجوا
١ حتى حسبوها حسنة /١٢..
﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ﴾ عطف على عادا وثمودا ﴿ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ١ فائتين بل أدركهم أمر الله
١ قيل: ما كانوا سابقين الأمم إلى الكفر تلك عادة الأمم مع الرسل /١٢ وجيز..
﴿ فَكُلًّا ﴾ من المذكورين ﴿ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ﴾ ريحا صرصرا تحمل الحصباء فتلقيها عليهم، وتقتلعهم من الأرض ثم تنكسهم على أن رأسهم فتشدخهم، فكأنها أعجاز نخل منقعر، وهم قوم عاد ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ﴾ وهم ثمود ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ ﴾ قارون ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ﴾ فرعون وهامان وروي عن ابن عباس أن الأول قوم لوط، والرابع قوم نوح، والأظهر ما ذكرنا قال بعض المحدثين : الرواية منقطعة عن ابن عباس ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ فيما فعل بهم ﴿ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ فاستحقوا مقت الله
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء ﴾ يتكلون إليه ﴿ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾ تعتمد عليه وتحسب أنه لها بيتا ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ﴾ لا بيت أضعف من بيتها مما يتخذه الهوام لا يدفع حرا ولا بردا، ولا يحجب عن الأعين ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ لعلموا أن هذا مثلهم
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾ أي : الذي تدعونه من دون الله من شيء أي : شيء١ كان فيجازيكم قيل ما نافية ومن شيء مفعول تدعون يعني الله يعلم أنهم ما يعبدون شيئا من دون الله، بل الذي يعبدون لا شيء، فعلى هذا التوكيد للمثل وتجهيل لهم، ولا يخفى بعده ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ فيقدر على الانتقام ولا يظلم، بل في أفعاله حِكَم
١ من ملك أو بشر أو حجر أو شجر، وهو يجازيكم /١٢ وجيز..
﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ ﴾ هذا المثل ونظائره ﴿ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ﴾ نبينها تقريبا لما بعد من أفهامهم ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا ﴾ لا يفهمهما ولا يتدبر فيها ﴿ إِلَّا الْعَالِمُونَ١ في الحديث في تفسير تلك الآية العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه
١ وكان جهلة قريش يضحكون قائلين: إن رب محمد يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، ولما بين أنه هو العزيز الحكيم أثبت ما بين بشيء مشاهد دال على ذلك، فقال: ﴿خلق الله السموات والأرض﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ لا على وجه العبث ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ لا على وجه البعث ﴿ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ١ فإنهم يتدبرون في صنائع ملكه.
١ المتدبرين في صنائع خلقه، ولما أفاد القرآن هذا الإخبار ودل على أن فهم أمثاله من رسوخ الإيمان خاطب سيد أهل الإيمان بتلاوة ما يفيد الإخبار، فقال: ﴿اتل ما أوحي إليك﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ أمره بقراءة القرآن ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ أي : إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك، وفي الحديث :﴿ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا١ بعدا ) أو مراعاتها تجره إلى الانتهاء، وفي الحديث٢ ( قيل له عليه السلام إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال : سينهاه ما تقول ) والصلاة تنهاه على ذلك حين الصلاة { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ وأفضل من كل شيء فالصلاة لما كانت كلها مشتملة بذكره تكون أكبر من غيرها من الطاعة، أو ذكر الله لعباده أكبر من ذكرهم إياه، وهذا هو المنقول عن كثير من السلف ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ فيجازيكم
١ أخرجه الطبري وغيره عن ابن عباس /١٢ فتح. [رواه الطبراني في الكبير وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ثقة، ولكنه مدلس، كذا قال الهيثمي في (المجمع)، (٢/٢٥٨)]..
٢ رواه الإمام أحمد وغيره/١٢ وجيز. [أخرجه أحمد (٢/٤٤٧) وصحح إسناده الشيخ الألباني كما في تعليقه على المشكاة (١٢٣٧)]..
﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ إلا بطريقة هي أحسن فإن من أراد الاستبصار منهم إذا رأوا منكم لينا وسمعوا منكم حججا لاهتدوا، قال تعالى :﴿ ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] الآية، والظاهر أنها غير منسوخة بآية السيف ﴿ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ بالإفراط في المعاداة فانتقلوا معهم من الجدال إلى الجلاد ﴿ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ هذا كأنه من المجادلة الحسنة ﴿ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ ﴾، خاصة ﴿ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ فيه تعريض بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ مثل ذلك الإنزال ﴿ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ كتابا مصدقا لسائر الكتب قال ابن جرير : معناه أنزلنا إليك الكتاب يا محمد كما أنزلنا على من قبلك من الرسل ﴿ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ كمؤمني أهل الكتاب ﴿ وَمِنْ هَؤُلَاء ﴾ الذين بين ظهرانيك ﴿ مَن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ كمؤمني العرب ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا ﴾ مع ظهور معجزاتها ﴿ إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴾ المتوغلون فيه
﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ﴾ قبل نزول القرآن ﴿ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ ذكر اليمين زيادة تصوير لما نفي عنه من كونه كاتبا ﴿ إِذًا ﴾ لو كان شيء من التلاوة والخط ﴿ لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ فيقولون لعله قرأه والتقطه من الكتب المتقدمة
﴿ بَلْ هُوَ ﴾ القرآن ﴿ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ يتلونه من حفظهم لا من مصاحفهم وذلك من خاصة هذا الكتاب فإن سائر الكتب ما كان يقرأ إلا من المصاحف، ولهذا جاء في صفة أمة محمد في الكتب المتقدمة صدورهم أناجيلهم أو معناه، بل العلم بأنك أميّ لا تقرأ أو لا تخط آيات بينات في صدور العلماء الأخيار ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ١ المكابرون مع وضوح دلائل صدقه
١ ختمت الأولى بالكافرين، لأنه قسيم للمؤمنين لقوله: ﴿ومن هؤلاء من يؤمن به﴾ والثانية بالظالمين لأنه جحد بعد إقامة الحجج والدلائل /١٢ وجيز..
﴿ وَقَالُوا لَوْلَا ﴾ هلا ﴿ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ كناقة صالح، وعصا موسى ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ﴾ هو القادر على إنزالها لا غير ﴿ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ١ ليس من شأني إنزال الآيات.
١ فأنا على شغلي /١٢..
﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ﴾ أي : ألم يردعهم عن طلب آية ولم يكفهم ﴿ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ مع علمهم بأنك أمي لا تخط ولا تقرأ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ القرآن وإنزاله ﴿ لَرَحْمَةً ﴾ نعمة ﴿ وَذِكْرَى ﴾ تذكرة ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ فإنهم المنتفعون به.
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ ﴾ الباء يزاد في فاعل كفى ﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا ﴾ يرى تبليغي ونصحي، وتكذيبكم وتعنتكم ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ فلا يخفى عليه حالي وحالكم ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ ﴾ كالطواغيت ﴿ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ في صفقتهم
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ كما يقولون : أمطر علينا حجارة من السماء ﴿ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ لعذاب قومك ﴿ لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ ﴾ عاجلا ﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً١ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ بإتيانه
١ منصوب بالمصدر لأنها نوع من الإتيان /١٢ ومنه..
﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ لا يبقى منهم أحد إلا دخلها
﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ ﴾ ظرف محيطة يعني لا يليق استعجالهم، ومثل هذا العذاب معد لهم وعن بعض السلف : إن جهنم هو البحر، وهو محيط بهم ينتثر فيه الكواكب ثم يستوقد فيكون هو جهنم، وفي مسند الإمام أحمد أنه قال عليه السلام :( البحر١ هو جهنم ) فعلى هذا يوم ظرف لمحذوف، أي : يوم يغشاهم العذاب كيت وكيت٢ ﴿ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ﴾ الله ﴿ ذُوقُوا ﴾ جزاء ﴿ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
١ قال في الفتح: وفي هذا نكارة شديدة فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة /١٢..
٢ يقصر الوصف عن بيانه /١٢..
﴿ يَا عِبَادِيَ١ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي٢ وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ نصب فإياي بفعل يفسره ما بعده، وهو جواب شرط محذوف، أي : أرضي واسعة فإن لم تتمكنوا في إخلاص العبادة في أرض فاعبدوني في غيرها ولما حذف الشرط عوض عنه تقديم المفعول مع أن التقديم مفيد للاختصاص نزلت في ضعفة المسلمين الذين لم يستطيعوا الهجرة إلى المدينة، أو في قوم خافوا من ضيق العيش، وتخلفوا عن الهجرة
١ ولما أبلغ في الإنذار وحذر من الذنوب الكبار لم يهمل الإشارة إلى الصغار وقال: ﴿إن جهنم لمحيطة بالكافرين﴾ وقد تكرر أن هذه المواعظ للمؤمنين خاطبهم لطفا وعناية وقال: ﴿يا عابدي الذين آمنوا﴾ /١٢ وجيز..
٢ فيه أنه يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته قال على القاري: وأما اليوم فإنا بحمد الله لم نجد أعوانا على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني وأظهر له من مكة حرمها الله تعالى. أقول: لولا ما فيه الآن من استطالة أهل البدع على أهل السنة وإيثار التنظيمات السلطانية على الأحكام الرحمانية، وظلم أهل المكس على الحجاج، وعدم الانتصاف من أهل الاعتساف على العمل بالسنة والتمسك بالحق، والله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. قال سهل: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين قلت: وأنى لنا هذا اليوم ؟! لو عملنا أرضا طائعة على وجه البسيطة على حسب ما نطق به الكتاب والسنة أو ما ذهب إليه فقهاء الأمة لخرجنا إليه إن شاء الله تعالى، ولكن كم أمنية ضاعت فإنا لله وإنا إليه راجعون /١٢ فتح البيان..
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ فاستعدوا له بأي طريق تيسر لكم أو خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم ﴾ ننزلنّهم ﴿ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا ﴾ نصب غرفا على قراءة لنبوئنهم أي : لنقيمنهم مفعول ثان أيضا لإجرائه مجرى لننزلهم أو بنزع الخافض أو تشبيه الظرف المعين بالمبهم لأنه منكر كأرضا في ﴿ أو اطرحوه أرضا ﴾ [ يوسف : ٩ ] ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ ذلك
﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ على مفارقة الأوطان والمشاق لله ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ ﴾ لا على غيره ﴿ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
﴿ وَكَأيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ لا ترفع رزقها معها ولا تدخره ﴿ اللَّهُ يَرْزُقُهَا١ وَإِيَّاكُمْ ﴾ أيضا إن كنتم تجمعون تدخرون فلا تخافوا على معيشتكم بالهجرة ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ ﴾ لأقوال العباد ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بأحوالهم فلا يغفل عنهم أبدا
١ قال سفيان بن عيينة: ثلاث تدخر الفأر، والنمل، والبشر لا رابع لها، في الحديث: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن كذا في الوجيز. [صحيح وانظر صحيح الجامع (٥٢٥٤)].
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم ﴾ أي : أهل مكة ﴿ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي : إذا كان هذا جوابهم فكيف يصرفون عن توحيده فإنهم مقرون بأنه خالقها
﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِر ﴾ يضيق ﴿ لَهُ ﴾ هذا الضمير غير عائد إلى من، بل وضع موضع لمن يشاء بجامع كونهم مبهمين، وهذا من توسعهم فيتعدد المرزوق أو عائد إليه والتعدد بحسب أحواله يبسط له تارة ويقبض له أخرى ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ يعلم مصالحهم ومفاسدهم وهذه الآية لبيان أنه كما هو خالق فهو رازق، وهم معترفون به أيضا كما يبين بقوله :١
١ والآية لبيان أنه كما هو الخلق فهو الرازق، وهم معترفون بذلك أيضا وكيف لا ﴿ولئن سألتهم﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ فإن المطر هو السبب الكلي لوجود الرزق، وهم مع اعترافهم بخالقيته ورازقيته يعدلون عنه ﴿ قُلِ ﴾ يا محمد :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ على ظهور حجتك عليهم، وعلى عصمتك عن مثل تلك الضلالة ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ ما يقولون من الدلالة على بطلان الشرك.
﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ إشارة تحقير ﴿ إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ كما يجتمع الصبيان سويعة مبتهجين، ثم يتفرقون وليس في أيديهم سوى إتعاب البدن ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ الحياة الحقيقية التي لا موت فيها، فكأنها في نفسها حياة والحيوان مصدر حي وقياسه حية ففيه شذوذان قلب الياء واوا وترك الإدغام ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ حقيقتها لعلموا صحة١ ما قلنا
١ ولم يؤثروا دار الفناء عليها فالخزف الباقي أحسن من الذهب الفاني سيما إذا كان الخزف هو الفاني /١٢ وجيز..
﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ يدعون أصنامهم ولا يدعونها، يبين أنهم مع الاعتراف بخالقيته ورازقيته في بعض الأحيان يعترفون بوحدانيته ومع ذلك يشركون ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ فاجئوا المعاودة إلى شركهم من غير تأمل وسبب،
﴿ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ﴾ من النعم ﴿ وَلِيَتَمَتَّعُوا ﴾ اللام لام الأمر على التهديد من باب ﴿ اعملوا ما شئتم إنه بما تعلمون بصير ﴾ ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ عاقبة ما فعلوا
﴿ أَوَلَمْ١ يَرَوْا ﴾ أهل مكة ﴿ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ﴾ جعلنا بلدتهم ذا أمن لا يغار على أهله ﴿ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ يختلسون تغزوا العرب بعضهم بعضا حولهم، وهم آمنون مع قتلهم وكثرة العرب ﴿ أَفَبِالْبَاطِلِ ﴾ أي : أبعد لهذه النعمة الظاهرة بالصنم ﴿ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ حيث أشركوا به غيره
١ ولما أوعدهم لاطفهم بنعمة جليلة ظاهرة فقال: ﴿أو لم يروا﴾ الآية /١٢..
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ ﴾ بالرسول أو القرآن ﴿ لَمَّا جَاءهُ ﴾ بلا تأمل واستعمال فكر ﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴾ تقرير لثوائهم فيها أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الافتراء وكذبوا هذا التكذيب
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا١ في حقنا ومن أجلنا ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ الطرق الموصلة إلى جنابنا وثوابنا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل٢ الخير ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ٣ بالنصرة والإعانة.
والحمد لله حق حمده
١ في حقنا ورضانا ولم يجاهدوا في أنفسهم والشياطين /١٢ وجيز..
٢ قوله: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ [محمد: ١٧] /١٢..
٣ عن عيسى كلمة الله صلوات الله وسلامه عليه (إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك) رواه ابن أبي حاتم/١٢ وجيز..
Icon