تفسير سورة العنكبوت

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة العنكبوت
مكّيّة وهى تسع وستون اية وقال الشعبي عشر آيات من أولها مدنيّة ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اخرج ابن ابى حاتم عن الشعبي ان ناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم اصحاب رسول الله ﷺ من المدينة انه لا يقبل منكم اقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين الى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم.
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ فكتبوا إليهم انه قد انزل فيكم كذا وكذا فقالوا نخرج فان اتبعنا أحد قاتلنا فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فانزل الله فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا الاية واخرج ايضا عن قتادة قال نزلت فى ناس من اهل مكة خرجوا يريدون النبي ﷺ فعرض لهم المشركون فرجعوا فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم فخرجوا فقتل من قتل وخلص من خلص فنزل فيهم وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا الاية وذكر البغوي عن ابن عباس قال أراد بالناس الّذين أمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم واخرج ابن سعيد وابن جرير وابن ابى حاتم عن عبيد الله بن عمير قال نزلت فى عمار بن ياسر إذ كان يعذب فى الله احسب النّاس الاية وكذا ذكر البغوي قول ابن جريح وقال قال مقاتل نزلت فى مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول من يدعى الى باب الجنة من هذه الامة قلت وهو أول من خرج من المسلمين مبارزا يوم بدر فقتله عامر بن الحضرمي بسهم وكان أول من قتل كذا فى سبيل الرشاد ولمّا جزع عليه أبواه وامرأته
انزل الله تعالى فيهم هذه الاية- وقوع الاستفهام بعد الم دليل على استقلاله والمراد بالحسبان الظنّ وهو متعلق بمضمون جملة للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك يقتضى مفعولين او ما يسدّ مسدهما كقوله ان يتركوا والاستفهام للانكار والتوبيخ وان يّقولوا تقديره لان يقولوا وهم لا يفتنون حال من فاعل يقولوا والمعنى أظنوا أتركهم غير مفتونين لقولهم آمنّا فالترك اوّل مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم هو الثاني كقولك حسبت ضربه للتأديب او المعنى احسبوا أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم أمنا يعنى لا يحسبوا ذلك بل يمتحتهم الله بالمشاق كالمهاجرة والمجاهدة وانواع المصائب فى الأنفس والأموال والأولاد ليتميز المخلص من المنافق والثابت فى الدين من المضطر فيه ولينالوا بالصبر عليها عوالى الدرجات. وذكر البغوي ان الله تعالى أمرهم فى لابتداء بمجرد الايمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكوة وسائر الشرائع فشق على بعضهم فانزل الله هذه الاية فالمعنى احسبوا ان يتركوا على مجرد الايمان وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي فان مجرد الايمان وان كان مانعا عن الخلود فى العذاب لكن نيل الدرجات يترتب على وظائف الطاعات ورفض الشهوات.
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمناشير ومنهم من قتل وابتلى بنوا إسرائيل بفرعون يسومهم سوء العذاب الجملة متصل بقوله احسب او بقوله لا يفتنون يعنى ذلك سنة قديمة جارية فى الأمم كلها فلا ينبغى ان يتوقع خلافه او معترضة لتسلية المؤمنين فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا فى قولهم أمنا معطوف على قوله ولقد فتنّا وفيه التفات من التكلم الى الغيبة وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ الله عالم ازلا ومعنى الاية ليتعلقن علمه حاليا يتميز به الذين صدقوا فى الايمان من الذين كذبوا فيه وينوط به ثوابهم وعقابهم وقيل معناه ليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه وقال مقاتل ليرين الله وقيل لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ اى الكفر والمعاصي فان العمل يعم افعال القلوب والجوارح أَنْ يَسْبِقُونا ان يفوتنا فلا نقدر على الانتقام منهم وان مع صلتها ساد مساد مفعولى حسب معطوف على احسب وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة
والاضراب لان هذا الحسبان ابطال من الحسبان الاول لان فى الحسبان الاول يقدران لا يمتحن لايمانه وفى هذا ان لا يجازى بمساويه وقالوا الاول فى المؤمنين وهذا فى الكافرين قلت وجاز ان يكون أم متصلة والإنكار ورد على أحد الحسبانين المتردد فيهما بالهمزة وأم والنكرة فى حيز النفي المستفاد من الإنكار يعم فالمعنى كلا الحسبانين باطلان فلا تحسبوا ايها المؤمنون ان لا تمتحنوا بل تمتحنون بالمصائب لتنالوا الدرجات الرفيعة ولا يحسب أعداؤكم ان لا يعذبهم الله فى الدنيا والاخرة بل يعذبهم الله فى الدنيا بايدى المؤمنين وفى الاخرة بعذاب من عنده والحاصل ان المؤمنين يمتحنون بالمصائب ثم يكون الغلبة لهم فى اخر الأمر ساءَ ما يَحْكُمُونَ ما موصولة مرفوعة على الفاعلية او موصوفة منصوبة على التميز من الضمير المبهم المرفوع والمخصوص محذوف اى بئس الذي يحكمونه حكمهم هذه او بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا.
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قال ابن عباس الرجاء بمعنى الخوف اى من يخشى البعث والحساب وعذاب الله وقال سعيد بن جبير من كان يطمع فى ثواب الله قلت وجاز ان يكون المعنى من كان يرجوا رؤية الله فيستدل بهذه الاية ان رؤية الله فى الدنيا غير واقع الا ما قيل ان رسول الله ﷺ راى ربه ليلة المعراج وكان ذلك خارجا من الدنيا فمن ادعى رؤية الله فى الدنيا برأى العين فقد كذب فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ يعنى أجل لقائه يحذف المضاف ووقته الموعود له لَآتٍ لا محالة قال مقاتل يعنى يوم القيامة لكائن فليبادر الى ما يحقق رجاءه وينجوه عما يخاف عنه وهذا كقوله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً... وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوال العباد الْعَلِيمُ.
بعقائدهم وأفعالهم وَمَنْ جاهَدَ اعداء الله يعنى الكفار فى الحرب او نفسه فى الكف عن الشهوات المنهية والترفع والصبر على الطاعات والشيطان فى دفع وساوسه عطف على الشرطية السابقة فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لان منفعته راجعة إليها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لا حاجة له الى طاعتهم وانما كلف عبادة رحمة عليهم ومراعاة لمصالحهم الجملة تعليل لما سبق.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعنى نذهب سيئاتهم
بحسناتهم عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر رواه مسلم وقد مر فى تفسير قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ منصوب بنزع الخافض الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ اى بأحسن أعمالهم وهو الطاعة يعنى لا نضيعها وقيل معناه نعطهم اكثر مما عملوا عشر أمثالها الى سبع مائة ضعف الى ما شاء الله وقيل احسن بمعنى حسن-.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ الوصية التقدم الى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أمرناه بإتيان فعل ذا حسن او كانه فى ذاته حسن تفرط حسنه متلبسا ذلك الفعل بوالديه اى يبرهما ويعطف عليهما وقيل معناه ووصّينا الإنسان ذا حسن بان يبرهما اخرج مسلم والترمذي والبغوي وابن ابى حاتم وابن مردويه عن سعد بن ابى وقاص وهو سعد بن مالك ابو إسحاق الزهري أحد العشرة المبشرة رضى الله عنه كان من السابقين الأولين وكان بارّا بامه انه لما اسلم قالت امه وهى حمنة بنت ابى سفيان بن امية بن عبد الشمس (قد امر الله بالبر وفى رواية) قالت ما هذا الّذى أحدثت والله لا اطعم طعاما ولا اشرب شرابا حتى أموت او تكفر وفى رواية حتى ترجع الى ما كنت عليه او أموت فتعير بذلك ابد الدهر يقال قاتل امه فنزلت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي بإضمار القول اى وقلنا له وان جاهداك لتشرك بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بالوهيته عبر عن نفيها بنفي علم بها اشعارا بان ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وان لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بالادلة القطعية بطلانه فَلا تُطِعْهُما فى ذلك قال رسول الله ﷺ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق رواه احمد والحاكم وصححه عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري وفى الصحيحين وسنن ابى داؤد والنسائي عن على رضى الله عنه لا طاعة لاحد فى معصية الله انما الطاعة فى المعروف. قال البغوي ثم انها اى أم سعد مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب وقيل لبثت ثلاثة ايام كذلك فجاء سعد وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى ان شئت كلى وان شئت فلا تأكلى فلمّا أيست منه أكلت وشربت إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
بالجزاء عليه ونزلت ايضا فى قصة أم سعد التي فى لقمان والتي فى الأحقاف.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ من الأنبياء والشهداء والأولياء اى نجعلهم فى جملتهم ونحشر معهم او فى مدخلهم وهى الجنة والكمال فى الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين فان كمال الصلاح عبارة عن عدم شىء الفساد فى الاعتقاد والأعمال والأخلاق والاشغال عطف على وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ وما بينهما اعتراض- اخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قوم من اهل مكة قد اسلموا وكانوا يخفون الإسلام فاخرجهم المشركون معهم يوم بدر فاصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فاكرهوا فاستغفر لهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الاية فى سورة النساء فكتبوا بها الى من بقي بمكة منهم وانه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت.
وَمِنَ النَّاسِ عطف على ما سبق ذكر المؤمنين اولا ثم ذكر المنافقين مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بان عذبهم الكفار على الإسلام جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ الأذى الذي لحقهم من الكفار كَعَذابِ اللَّهِ فى الاخرة اى جزع من عذاب الناس ولم يصبر فاطاع الناس وترك الإسلام كما يترك المسلمون الكفر والمعاصي بخوف عذاب الله فى الاخرة والجملة الشرطية عطف على صلة من قال ابن عباس رض فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزّبوا فقالوا نخرج فان اتبعنا أحد قاتلناه فنزلت ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا الاية فكتبوا بذلك فخرجوا فلحقهم فنجا من نجا وقتل من قتل- واخرج عن قتادة انها نزلت فى القوم الذين ردهم المشركون الى مكة وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ
اى فتح وغنيمة للمؤمنين لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ فى الدين جواب قسم محذوف فى اللفظ وفى المعنى جزاء للشرط وهذه الشرطية معطوفة على شرطية سابقه اعنى فاذا أوذي وقيل الاية نزلت فى المنافقين ويؤيده قوله تعالى أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ الهمزة للانكار والواو للحال والإنكار راجع الى الحال والمعنى ليس الحال انهم يقولون ذلك وليس الله
لعالم بما فى صدورهم بل الحال ان الله عالم بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإخلاص والنفاق فيجازى المنافقين على نفاقهم او للعطف على مضمون ما سبق يعنى نافقوا ولا يخفى ذلك على الله.
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ جواب قسم محذوف والجملة معترضة وعدا للمؤمنين ووعيدا للمنافقين او معطوف على مضمون انكار نفى علمه تعالى تأكيد له الَّذِينَ آمَنُوا مخلصين وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ فيجازى كلا على حسب ما أضمر قال الشعبي هذه الآيات العشر من أول السورة الى هنا مدنية وما بعدها مكية.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كفار مكة كذا قال مجاهد لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا قال الكلبي ومقاتل قاله ابو سفيان لمن أمن من قريش اتبعوا ديننا وملة ابائنا عطف على ما سبق من ذكر المنافقين وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ اى ان كان ذاك خطيئة او ان كان ذاك خطيئة ان كان بعث ومواخذة أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة فى تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم تشجيعا لهم وقال الفراء لفظه امر ومعناه جزاء مجازه ان اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله تعالى فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ولمّا كان فى كلامهم تشجيعا على الكفر والمعاصي ردّ الله عليهم قولهم وكذبهم بقوله تعالى وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ الجملة حال من فاعل قال إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فى الاخبار بالحمل عنهم المستفاد من قولهم ولنحمل خطاياكم من الاولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ اى أوزار أعمالهم التي عملوا بانفسهم جواب القسم المقدر وهو حكاية قسم لا انشائية فهو خبرية معطوفة على ما هُمْ بِحامِلِينَ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ لما تسببوا له بالإضلال وهو الحمل على المعاصي من غير ان ينقص من أوزار اتباعهم وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سوال تقريع وتبكيت عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل التي أضلوا بها-.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ عطف على قوله وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وفيه التفات من الغيبة الى التكلم فَلَبِثَ عطف على أرسلنا فدل على انه بعد الإرسال فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء يقال لما طاف بكثرة من سيل ظلام او نحوها طوفان يعنى فغرقوا وَهُمْ
ظالِمُونَ بالكفر حال من مفعول أخذهم قال ابن عباس بعث نوح لاربعين سنة وبقي فى قومه يدعوهم الف سنة الا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وكان عمره الفا وخمسين سنة- أخرجه ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردوية وذكره البغوي. وعن وهب انه عاش الفا واربع مائة سنة فقال له ملك الموت يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا قال كدار لها بابان دخلت وخرجت لم يقل تسع مائة وخمسين عاما لان اللفظ اخصر ولان المقصود بيان طول مصابرته على مكايد أمته فكان ذكر الالف افخم.
فَأَنْجَيْناهُ يعنى نوحا وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ الذين ركبوها معه من أولاده واتباعه وكانوا ثمانين وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث وقد مر فى سورة هود وسورة الأعراف تمام القصة وَجَعَلْناها اى السفينة او الحادثة آيَةً لِلْعالَمِينَ يتعظون ويستدلون بما.
وَإِبْراهِيمَ عطف على نوح يعنى وأرسلنا ابراهيم او منصوب بإضمار اذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ظرف لارسلنا اى أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف الحق وامر الناس به او بدل اشتمال منه ان قدّرا ذكر وَاتَّقُوهُ اى خافوا واحذروا عذابه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه تعليل للامر بالعبادة والتقوى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جزاؤه محذوف والتقدير ان كنتم تعملون الخير والشر وتتميزون بينهما او كنتم تنظرون بنظر العلم دون نظر التعصب والجدال او كنتم من اولى العلم والتميز لا يخفى عليكم ان ذلكم خير لكم مما أنتم عليه.
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً حجارة لا تضر ولا تنفع وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً منصوب على المصدر اى تكذبون كذبا او تقولون قولا ذا افك فى تسميتها الهة وادعاء شفاعتها عند الله او على العلية اى تخلقونها وتنحتونها للافك او على المفعولية على ان المعنى تخلقون شيئا ذا افك والجملة معترضة لبيان شناعة حالهم وكذا ما بعده او استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث انه زور وباطل إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الأوثان وغيرها لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً دليل اخر على شرارة ذلك من حيث انه لا يجدى نفعا ورزقا يحتمل المصدر اى لا يستطيعون ان يرزقوكم ويحتمل ان يراد به المرزوق وتنكيره
للتعميم والتحقير اى لا يملكون شيئا من الرزق فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كله فانه المالك لا غير وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ متوسلين الى مطالبكم مقيدين لما اعطاكم من النعم بشكره مستعدين للقائه بهما فانه إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ حال مقدرة من فاعل اشكروا-.
وَإِنْ تُكَذِّبُوا اى تكذبونى فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ رسلا من قبلى فلم يضرهم تكذيبهم إياهم وانما أضر أنفسهم حيث تسبب لمّا حلّ بهم من العذاب فكذا تكذيبكم وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الذي يزيل الشك يعنى لا يضره تكذيب من كذّبه وليس الواجب عليه هداية الخلق إذ ليس ذلك فى وسعه- هذه الاية وما بعدها الى قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ
جاز ان يكون من كلام ابراهيم من جملة قصته وجاز ان يكون اعتراضا بذكر شأن النبي ﷺ وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفى القصة من حيث ان مساقها تسلية لرسول الله ﷺ بان أباه خليل الله كان فى مثل حالك من مخالفة القوم وتكذيبهم إياه.
أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ ابو بكر «وخلف- وابو محمد» وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية خطابا والباقون بالياء التحتانية غيبة الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم ينظروا ولم يروا او الواو للحال والإنكار انكار لحال عدم الرؤية عند التكذيب تقديره فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ والحال انهم قد رأوا- كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ اى كيفية بدء خلقهم قلم يعتبروا به خلقهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم يخرج طفلا ثم يتحول أحوالا حتى يموت ثُمَّ يُعِيدُهُ الى الحيوة بعد الموت معطوف على او لم يروا لا على يبدئ فان الرؤية غير واقعة عليه ويجوز ان يأوّل الاعادة بأن ينشئ فى كل سنة مثل ما كان فى السنة السابقة من النبات والثمار ونحوها فحينئذ يعطف على يبدئ ويجوز ان يعطف على يبدئ ويجعل وقوع الرؤية على ما يدل على إمكان الاعادة رؤية عليها مجازا إِنَّ ذلِكَ الاعادة او ما ذكر من الامرين عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر فى فعله الى شىء ولا يتعب فيه.
قُلْ سِيرُوا حكاية خطاب من الله تعالى لابراهيم عليه السّلام بتقدير القول يعنى قلنا لابراهيم قل سيروا او خطاب لرسول الله ﷺ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
على اختلاف الأجناس والأحوال ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ كان القياس ان يقول (فانظروا كيف بدا الله الخلق ثمّ ينشئ النّشاة الآخرة) فغيره على هذا النمط لان المقصود اثبات جواز الاعادة- فلمّا قررهم فى الإبداء بانه من الله احتج بان الاعادة مثل الإبداء فمن كان قادرا على الإبداء لا يعجزه الاعادة فكانه قال ثم الذي أنشأ النشأة الاولى هو الذي ينشئ النّشاة الاخرة فللتنبيه على هذا المعنى ابرز الله اسمه وأوقعه مبتدا- قال بعض المحققين ثمّ ينشئ النّشاة الآخرة معطوف على محذوف مفهوم ممّا سبق تقديره قل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ فقد أنشأ الله النشاة الاولى ثم الله الذي أنشأ النشاة الاولى ينشئ النشاة الاخرة.
قرأ ابن كثير وابو عمرو النّشأة بفتح الشين ممدودا هاهنا وفى النجم والواقعة والباقون بإسكان الشين من غير الف ووقف حمزة على وجهين فى ذلك أحدهما ان يلقى الحركة على الشين ثم يسقطها طردا للقياس والثاني ان يفتح الشين ويبدّل الهمزة الفا اتباعا للخط قال الداني ومثله قد يسمع من العرب إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لان قدرته مقتضى ونسبة ذاته الى الممكنات بأسرها سواء فيقدر على النشاة الاخرى كقدرته على الاولى.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه فى الاخرة بالنار وفى الدنيا بالخذلان او بالحرص او بسوء الخلق او بالاعراض عن الله او اقتراف البدعة وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته بإدخال الجنة فى الآخرة وفى الدنيا بالتأييد والقناعة وحسن الخلق والإقبال على الله واتباع السنة وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تردون.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربكم عن ادراككم فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ان فزرتم من قضائه بالتواري فى الأرض او الهبوط فى مهاريها او بالتحصن فى السّماء او القلاع الذاهبة فيها وجاز ان يكون ولا فى السماء تقديره ولا من فى السّماء عطفا على اسم ما كقول حسان
فمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يحرسكم عن بلاء يظهر فى الأرض او ينزل من السماء ويدفعه عنكم-.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيته او باياته المنزلة فى كتبه وَلِقائِهِ اى بالبعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي اى ييئسون منها يوم القيامة
او المراد بالرحمة الجنة وهم آيسون فى الدنيا منها لانكارهم البعث وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذه ان كان من كلام ابراهيم فالتقدير قال الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وان كان معترضا من الله تعالى فمعطوف على قوله قل سيروا لا على مقولة قل ثم رجع الى قصة ابراهيم فقال.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ عطف على أرسلنا ابراهيم إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ قال ذلك بعضهم لبعض او قاله واحد منهم وأسند الفعل الى كلهم لرضائهم به فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ معطوف على محذوف تقديره فاتفقوا على تحريقه فقذفوه فى النار فانجاه الله منها بان جعله بردا وسلاما إِنَّ فِي ذلِكَ الانجاء لَآياتٍ هى حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها فى زمان يسيرو إنشاء روض فى مكانها لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانهم هم المنتفعون بها-.
وَقالَ ابراهيم لقومه عطف على قال يقوم اعبدوا الله إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ مصدر بمعنى المفعول يعنى مودودا او على تقدير المضاف اى سبب مودة قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي «اى الايس- ابو محمد» ويعقوب بالرفع «بلا موييل- ابو محمد» مضافا الى بَيْنِكُمْ بالجر على انه خبر مبتدا محذوف اى هى مودودة او سبب مودة بينكم يعنى يود بعضكم بعضا ويتواصلون بسبب اجتماعكم على عبادتها- والجملة صفة أوثانا او خبر ان على ان ما مصدرية او موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الاول اى انما اتخذتموه من دون الله أوثانا سبب للمودة منكم وقرأ «وروح- ابو محمد» حفص وحمزة مودّة مضافا الى بينكم منصوبا على العلية اى لتتودوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادة الأوثان وأوثانا المفعول الاول لاتخذتم ومفعوله الثاني محذوف اى اتخذتم أوثانا معبودين من دون الله وجاز ان يكون مودة مفعوله الثاني بتقدير مضاف او بتأويلها بالمودودة اى اتخذتم أوثانا سبب المودة بينكم او مودودة وقرأ نافع وابن عامر وابو بكر مودّة منونة ناصبة بينكم منصوبا على ما ذكرنا فى قراءة حفص فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بمودة يعنى مودة بينكم تنحصر فى الدنيا وتنقطع بعده ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يكون الاخلّاء بعضهم لبعض عدوّ يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا اى يقع التناكر والتلاعن بين الكفار او بينهم وبين الأوثان والجملة معطوفة
على مقولة قال وَمَأْواكُمُ جميعا ايها العابدون والمعبودون النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها.
فَآمَنَ عطف على قال لَهُ اى لابراهيم لُوطٌ لكونه معصوما عن تكذيب الأنبياء وهو أول من صدق ابراهيم وكان ابن أخيه هاران وَقالَ ابراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من قومى إِلى رَبِّي اى الى حيث أمرني ربى او الى حيث يتيسّر لى هناك عبادة ربى. او المعنى انى مهاجر من قومى معرض عنهم متوجها الى ربى وهى السفر فى الوطن على اصطلاح الصوفية قال المفسرون هاجر ابراهيم من كوثى (وهو من سواد كوفة) الى حران ثم اتى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر «١» فنزل ابراهيم فلسطين ولوط السدوم قالوا كان ابراهيم حين هاجر ابن خمس وسبعين سنة إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعنى من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يأمرنى الا بما فيه صلاحى.
وَوَهَبْنا لَهُ بعد إسماعيل إِسْحاقَ بعد ما ايس من الولادة لكبر سنه وكبر امرأته وكونها عاقرا وَيَعْقُوبَ ولد الولد نافلة وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ اى ابراهيم النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ من التورية والإنجيل والزبور والفرقان وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته إلينا فِي الدُّنْيا ج بإعطاء الولد فى غير او انه والذرية الطّيّبة كذا قال السدىّ واستمرار النبوة فيهم وانتماء اهل الملل اليه والثناء والصلاة عليه الى اخر الدهر كذا قالوا- قلت لعل اجره فى الدنيا اللذة فى الذكر والفكر والعبادة لله فوق ما يستلذون بها اهل الدنيا من المستلذات الحسنة نظيره قوله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ اى فى عداد الكاملين فى الصلاح عطف على اتيناه اجره فى الدّنيا وغير الأسلوب من الفعلية الى الاسمية للدلالة على استمرار الاخرة دون الدنيا.
وَلُوطاً عطف على ابراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي بالهمزتين على الاستفهام للانكار والتوبيخ والباقون بهمزة واحدة على الخبر لَتَأْتُونَ جواب قسم محذوف الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة فى القبح ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ هذه الجملة صفة
(١) عن اسماء بنت ابى بكر قالت هاجر عثمان الى الحبشة فقال النبي ﷺ انه أول من هاجر بعد ابراهيم ولوط وعن ابن عباس قال اوّل من هاجر الى رسول الله ﷺ عثمان بن عفان كما هاجر لوط الى ابراهيم. وعن زيد بن ثابت قال قال رسول الله ﷺ ما كان بين عثمان ورقية وبين لوط من مهاجر ١٢ منه رحمه الله.
للفاحشة على طريقة ولقد امر على اللّئيم يسبّنى او حال او مستأنفة لكونه فاحشة.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بيان للفاحشه وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وذلك انهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن مرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم وقيل معناه تقطعون سبيل النساء بايثار الرجال على النساء وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ اى فى مجالسكم ولا يقال النادي النادي الا لما فيه اهله روى البغوي عن ابى صالح مولى أم هانى بنت ابى طالب رضى الله عنها قالت سالت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قلت ما المنكر الذي كانوا يأتون قال كانوا يحذفون اهل الطرق ويسخرون بهم رواه احمد والترمذي وغيرهما قوله يحذفون اهل الطريق اى يرمونهم بالبنادق قال البغوي ويروى انهم كانوا يجلسون فى مجالسهم عند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فاذا مر بهم عابر سبيل قيل خذوهم فايّهم أصابه فهو اولى به وقيل كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرنه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك وقال القاسم بن محمد كانوا يتضارطون فى مجالسهم وقال مجاهد كان يجاهد بعضهم بعضا فى مجالسهم وعن عبد الله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض وعن مكحول قال كان من اخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصغير والحذف واللوطية فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ عطف على قال إِلَّا أَنْ قالُوا استهزاء ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما اوعدتنا به من نزول العذاب او فى استقباح تلك الافعال او فى دعوى النبوة المفهوم من التوبيخ.
قالَ لوط رَبِّ انْصُرْنِي بانزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة واستبانها لما بعدهم وصفهم بذلك مبالغة فى استنزال العذاب واشعارا بانهم أحقاء بان يعجل لهم العذاب-.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بالبشارة بالولد والنافلة اعنى إسحاق ويعقوب قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية سدوم والاضافة لفظية لان معناه الاستقبال إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تعليل لاهلاكهم بإصرارهم وتماديهم فى ظلمهم الذي هو الكفر والمعاصي.
قالَ ابراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً اعتراض عليهم بان فيها من لم يظلم او معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم قالُوا اى
الرسل وهم الملائكة نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ قرأ حمزة والكسائي بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل وَأَهْلَهُ تسليم لقوله مع ادعاء مزيد العلم وجواب عنه بتخصيص اهل القرية بمن عداه وعدى اهله او تأقيت الإهلاك بإخراجهم عنها وفيه تأخير البيان عن الخطاب وذلك جائز وانما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إِلَّا امْرَأَتَهُ زق كانَتْ فى علم الله تعالى مِنَ الْغابِرِينَ الباقين فى العذاب او فى القرية تعليل للاستثناء-.
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ اى الحقه المساءة والغم بِهِمْ اى بسبب الرسل مخافة ان يقصدهم قومه بسوء وان صلة لتأكيد الفعلين واتصالهم وَضاقَ لوط بِهِمْ بسبب الرسل ذَرْعاً تميز من النسبة والذرع الطاقة يقال فلان طويل الذراع اى شديد القوة لان طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيرها والمعنى ضاق طاقته بشأنهم وتدبير أمرهم فى الحفظ عن قومه وَقالُوا اى الرسل لما راوا فيه اثر الغم والمساءة لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ على تمكّنهم منّا او لا تخف تمكّنهم منا ولا تحزن باهلاكنا إياهم إِنَّا مُنَجُّوكَ
تعليل للنهى قرأ ابن كثير «ويعقوب وخلف ابو محمد» وحمزة والكسائي وابو بكر بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل وموضع الكاف نصب عند الكوفيين ويؤيده عطف وَأَهْلَكَ بالنصب وعند البصريين محل الكاف جر ونصب أهلك بإضمار فعل اى وننجى أهلك او بالعطف على المحل البعيد للكاف فان الاضافة اللفظية فى حكم الانفصال وهو فى الأصل منصوب إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ قرأ ابن عامر بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال.
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً اى عذابا سمّى بذلك لانه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا ارتجس اى اضطرب مِنَ السَّماءِ قال مقاتل الخسف والحصب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها اى من قريات لوط آيَةً بَيِّنَةً قال ابن عباس هى اثار منازلهم الخزية وقال قتادة هى الحجارة الممطورة التي اهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الامة وقال مجاهد هى ظهور الماء الأسود على وجه الأرض وقيل هى حكايتها الشائعة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون فى الآيات تدبر ذوى العقول..
وَإِلى مَدْيَنَ متعلق بمحذوف تقديره وأرسلنا الى مدين معطوفا على ولقد أرسلنا
نوحا أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قيل الرجاء هاهنا بمعنى الخوف يعنى خافوا عذاب اليوم الاخر او المعنى افعلوا فعلا ترجون به ثواب الاخرة فاقيم المسبب مقام السبب وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال موكدة لعاملها وجاز ان يكون الحال منتقلة والمعنى لا تفسدوا فى الأرض على قصد الإفساد احتراز عما إذا أفسدوا على قصد الإصلاح كالقتل والجرح وتخريب الديار وقطع الأشجار فى حرب الكفار من اهل الحرب.
فَكَذَّبُوهُ فى دعوى النبوة فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة وقيل صيحة جبرئيل لان القلوب ترجف فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين والمراد من دارهم بلدهم او دورهم ولم يجمع للامن من اللبس.
وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بإضمار اذكر او فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا معطوف على قوله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قرأ حمزة وحفص ويعقوب ثمود غير منصرف على تأويل القبيلة وَقَدْ تَبَيَّنَ مع ما عطف عليه جملة معترضة لَكُمْ يا اهل مكة مِنْ مَساكِنِهِمْ اى بعض مساكنهم او المعنى قد تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي فَصَدَّهُمْ الشيطان عَنِ السَّبِيلِ اى سبيل الّذى بيّن لهم الرسل الموصل الى الجنة وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ قال مقاتل وقتادة والكلبي كانوا معجبين فى دينهم وضلالتهم يحسبون انهم على الهدى والمعنى انهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين- وقال الفراء كانوا عقلاء ذوى البصائر متمكنين من النظر والاستبصار لكنهم لم يفعلوا وقيل معناه كانوا مبينين ان العذاب لاحق بهم بأخبار الرسل لكنهم ألحوا حتى هلكوا.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ معطوفون على عاد قيل قدم قارون لشرف نسبه وفيه اشعار بان الكفر والعصيان من شريف النسب أقبح وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ اى فائتين بل أدركهم امر الله بالتعذيب. من سبق طالبه إذا فاته.
فَكُلًّا اى كل واحد منهم منصوب بقوله أَخَذْنا اى عاقبناه بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً اى الريح التي تحمل الحصباء وهى الحصى الضعيف وهم قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعنى ثمود ومدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعنى قارون
وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعنى قوم نوح وفرعون وقومه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ اى يعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالتعريض للعذاب.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعنى مثل الكفار فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا من الأصنام كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ فيما اتَّخَذَتْ بَيْتاً فى الوهن والخوار بل ذاك اوهن فان لهذا حقيقة وانتفاعا ما يعنى مثل دينهم كمثل بيت العنكبوت او المعنى مثل الكفار الذين اتخذوا من دون الله اولياء بالنسبة الى الموحد كمثل العنكبوت بالنسبة الى رجل بنى بيتا من حجر وجصّ والعنكبوت «١» يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والتاء فيه كتاء الطاغوت ويجمع على عناكيب وعكاب واعكب وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بيت اوهن واقل وقاية للحر والبرد منه هذه الجملة حال او مستانفة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يرجعون الى علم لعلموا ان هذا مثلهم وان دينهم اوهن من ذلك.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ على إضمار القول اى قل للكفرة انّ الله يعلم ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قرأ ابو عمرو «ويعقوب- ابو محمد» وعاصم يدعون بالباء على الغيبة حملا على ما قبله من ذكر الأمم والباقون بالتاء للخطاب الى كفار مكة وما استفهامية منصوبة بيدعون فيعلم معلقة منها ومن للتبيين او نافيه ومن مزيدة وشىء مفعول يدعون والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل او مصدرية وشىء مصدر او موصولة مفعول ليعلم ومفعول يعلم عائده المحذوف والكلام وعيد لهم وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تعليل لما سبق فان من فرط الغباوة اشراك ما لا يعدل شيئا بمن هذا شأنه وان الجماد بالاضافة الى القادر على كل شىء البالغ فى العلم وإتقان الفعل كالمعدوم وان من هذا صفته قادر على مجازاتهم.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها اى ما يعقل حسن تلك الأمثال وفائدتها إِلَّا الْعالِمُونَ الّذين يتدبرون فى الأشياء على ما ينبغى فيعقلون عن الله سبحانه روى البغوي عن عطاء وابى الزبير عن جابر رض انه تلى هذه الاية وَتِلْكَ
(١) عن على قال قال رسول الله ﷺ دخلت انا وابو بكر العار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن ١٢
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال العالم من عقل عن الله فعمل بطاعنه واجتنب معصية وكذا روى الثعلبي والواحدي وروى ابو داود بن الحرمي كتاب العقل من طريق الحارث بن اسامة وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات.
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فان المقصود بالذات من خلقها افاضة الخير والدلالة له على ذاته وصفاته كما أشار اليه بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق لَآيَةً دالة على وجود الله تعالى وعلمة وقدرته وإرادته ووحدته وتنزهه عن المناقص لِلْمُؤْمِنِينَ فانهم هم المنتفعون بها.
(الجزء الحادي والعشرون).
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ اى القران تقربا الى الله بتلاوته وتحفظا لاتعاظه وأحكامه واعتبارا بامثاله واستكشافا لمعانيه فان القاري المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لا ينكشف له أول مرة حتى يتمثل لاوامره وينتهى عن مناهيه وَأَقِمِ الصَّلاةَ المفروضة إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى هذه الجملة تعليل للامر باقامة الصلاة عَنِ الْفَحْشاءِ اى ما ظهر قبحه شرعا وعقلا وَالْمُنْكَرِ للانتهاء عن المعاصي من حيث انها تذكر الله وتورث للنفس خشية قال البغوي روى عن انس رضى الله عنه قال كان فتى من الأنصار يصلى الصلوات الخمس مع رسول الله ﷺ ثم لم يدع شيئا من الفواحش الا ركبه فوصف لرسول الله ﷺ حاله فقال رسول الله ﷺ ان صلاته تنهاه يوما فلم يلبث ان تاب وحسن حاله- وفى مسند إسحاق والبزار وابى يعلى عن ابى هريرة قال جاء رجل الى النبي ﷺ قال ان فلانا يصلى بالليل فاذا أصبح سرق قال ان صلاته تنهاه. قال البغوي قال ابن عباس رض وابن مسعود فى الصّلوة منتهى ومزدجر عن معاصى فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد صلاته من الله الا بعدا- وقال الحسن وقتادة من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه- وقيل المراد بالصلوة القران كما فى قوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ يعنى بالقران فى الصلاة ولا شك ان القران ينهى عن الفحشاء والمنكر- روى البغوي عن جابر قال قال رجل للنبى ﷺ انّ رجلا يقرأ القران بالليل كله فاذا أصبح سرق قال ستنهى قراءته- وفى رواية قيل يا رسول الله ان فلانا يصلى بالنهار ويسرق باللّيل قال ان صلاته ستردعه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عطاء ولذكر الله اكبر من ان يبقى معصية والمراد بذكر الله الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر. وانما غير عنها بالذكر
205
للتعليل بان اشتمالها للذكر هو السبب لكونها مفضية الى الحسنات ناهية عن السيئات- وقد ورد فى فضل الذكر أحاديث منها حديث ابى الدرداء رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ الا أنبئكم بخير أعمالكم وأذكاها عند مليككم وارفعها فى درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله- رواه مالك واحمد والترمذي وابن ماجة الا ان مالكا وقفه على ابى الدرداء وعن ابى سعيد الخدري رضى الله عنه عن رسول الله ﷺ انه سئل اى العباد أفضل وارفع درجة عند الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات قيل يا رسول الله ومن الغازي فى سبيل الله فقال لو ضرب بسيفه الكفار حتى تنكسر وتخضب دما لكان الذاكرون الله كثيرا أفضل منه درجة رواه احمد والترمذي وقال الترمذي حديث غريب وعن عبد الله بن بسر قال جاء أعرابي الى رسول الله ﷺ قال اى الناس خير قال طوبى لمن طال عمره وحسن عمله قال يا رسول الله ﷺ قال اى الناس خير قال طوبى لمن طال عمره وحسن عمله قال يا رسول الله اى الأعمال أفضل قال ان تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله- رواه احمد والترمذي وعن ابى هريرة قال كان رسول الله ﷺ يسير فى طريق مكة فمر على جبل يقال له حمدان فقال سيروا هذا حمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات- رواه مسلم وعن ابى موسى قال قال رسول الله ﷺ مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت. متفق عليه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ان الله ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون اهل الذكر فاذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا الى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم الى السماء قال فيسئلهم ربهم (وهو اعلم بهم) ما يقولون عبادى قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجّدونك قال فيقول هل راؤنى قال فيقولون لا والله ما راوك قال فيقول كيف لو راونى قال يقولون لو راوك كانوا أشدّ لك
عبادة وأشدّ لك تمجيدا واكثر لك تسبيحا قال فيقول فما يسئلون قالوا يسئلونك الجنة قال يقول هل راوها فيقولون لا والله ما راوها قال يقول كيف لو راوها قال يقولون لو انهم راوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد طلبا وأعظم فيها رغبة قال فلم يتعوذون قال يقولون من النار قال يقول فهل راوها قال يقولون لا والله يا رب ما راوها قال يقول
206
فكيف لوراوها قال يقولون لو راوها كانوا أشد لها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فاشهدكم انى قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم انما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم- رواه البخاري وروى مسلم نحوه وفيه قال يقولون رب فيهم عبد خطاء انما مرّ فجلس معهم قال فيقول ولغفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم- وعن انس قال قال رسول الله ﷺ إذا امررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال قال حلق الذكر. رواه الترمذي وروى مسلم من حديث معاوية رض ان رسول الله ﷺ خرج على حلقة من أصحابه فقال وما اجلسكم هاهنا قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للاسلام ومنّ به علينا قال ان الله عزّ وجلّ يباهى بكم الملائكة- وعن مالك قال بلغني ان رسول الله ﷺ كان يقول ذاكر الله فى الغافلين كالمقاتل خلفه الفارين وذاكر الله فى الغافلين كغصن اخضر فى شجر يابس وذاكر الله فى الغافلين مثل مصباح فى بيت مظلم وذاكر الله فى الغافلين يريه مقعده من الجنة وهو حى وذاكر الله فى الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم من بنى آدم والبهائم- رواه رزين وعن معاذ بن جبل قال ما عمل آدمي عملا انجاله من عذاب الله من ذكر الله- رواه مالك والترمذي وابن ماجه وعن ابى سعيد شهد على رسول الله ﷺ انه قال لا يقعد قوم يذكرون الله الا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ورواه مسلم وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ انا عند ظن عبدى بي وانا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وان ذكرنى فى ملاء ذكرته فى ملاء خير منهم متفق عليه وقال قوم معنى قوله تعالى ولذكر الله اكبر لذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك عن ابن عباس رض وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير قال البغوي ويروى ذلك مرفوعا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبي ﷺ والمعنى انه لا تقصروا فى ذكر الله فان ذكركم إياه يفضى الى ذكره إياكم ولذكره إياكم أفضل من ذكركم إياه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ لا يخفى عليه شىء كذا قال عطاء.
وَلا تُجادِلُوا يعنى لا تخاصموا عطف على أقم الصّلوة اى ولا تجادل أنت والمؤمنون أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي اى بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ الخصال يعنى بالقرءان والدعاء الى الله
باياته والتنبيه على حججه فالمستثنى مفرغ او المعنى الا بالتي هى احسن مما يفعله الكافرون يعنى معارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح فالمستثنى منقطع لان النصح ليس بمجادلة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بنبذ العهد او عدم قبول الجزية فقاتلوهم حتى يسلموا او يعطوا الجزية عن يدوّهم صاغرون كذا قال سعيد بن جبير ان المستثنى اهل الحرب والباقي بعد الثنيا اهل الذمة والظاهر انه كان الحكم بحسن المجادلة قبل الأمر بالقتال لان الاية مكية فالمراد حينئذ بالذين ظلموا المفرطون فى الاعتداء والعناد والقائلون بإثبات الولد وبان يد الله مغلولة وبانّ الله فقير ونحن اغنياء فحينئذ جاز مجادلتهم بالعنف وعلى هذا قال قتادة ومقاتل هذه الاية منسوخة باية السيف وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ بيان لحسن المجادلة. ويحتمل ان يكون المعنى ولا تجادلوا اهل الكتاب إذا أخبروا مما ذكر فى كتبهم يعنى لا تكذبوهم الّا الّذين ظلموا منهم يعنى الا من اخبر بشئ معلوم قطعا انه كاذب فيه كقولهم بتأبيد دين موسى او قتل عيسى او كون عيسى ابن الله ونحو ذلك فحينئذ يجب تكذيبه والمباهلة عليه وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ اى مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عن ابى هريرة رضى الله عنه قال كان اهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لاهل الإسلام فقال رسول الله ﷺ لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنّا بالله وما انزل إلينا وما انزل إليكم الاية- رواه البخاري وعن ابى نملة الأنصاري انه بينما هو جالس عند رسول الله ﷺ جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة فقال يا محمد هل يتكلم هذا الميت فقال رسول الله ﷺ لا اعلم فقال اليهودي انها تتكلم فقال رسول الله ﷺ ما حدثكم اهل الكتب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا امنّا بالله وكتبه ورسله فان كان باطلا لم تصدقوهم وان كان حقّا لم تكذبوهم.
وَكَذلِكَ اى كما أنزلنا على من قبلك أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ وحيا مصدقا لسائر الكتب الالهية وهو تحقيق لقوله فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ به يعنى مومنى اهل الكتب عبد الله بن سلام وأمثاله او المعنى الذين آتَيْناهُمُ الْكِتابَ كانوا يؤمنون به قبل مبعث
النبي ﷺ وَمِنْ هؤُلاءِ اى من اهل مكة او من العرب او ممن فى عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم من الكتابين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى بالقران وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الاضافة للعهد يعنى بايات القران إِلَّا الْكافِرُونَ يعنى الكافرون بالله وبالكتب كلها يعنى من كذب بالقران فقد كذب بالتوراة والإنجيل ايضا لانهما مصدقان للقران فتكذيبه تكذيب بهما فمن أنكر القران وادعى الايمان بالتورية فدعواه باطل قال قتادة الجحود انما يكون بعد المعرفة عرفوا ان محمدا حق والقران حق فجحدوا.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا يا محمد ص عطف على كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ما انزل إليك الكتاب مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ ولا تكتبه بِيَمِينِكَ ذكر اليمين زيادة تصوير للمنفى ونفى للتجوز فى الاسناد إِذاً يعنى إذا كنت قاريا للكتب المتقدمة كاتبا لها لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ اى الكافرون يعنى اهل مكة وقالوا لعله التقطه من كتب الأقدمين كذا قال قتادة وانما سماهم مبطلين لكفرهم او لارتيابهم بانتفاء وجه واحد مع وجود المعجزات المتكاثرة وقيل معناه لا ارتياب اهل الكتاب لوجدانهم نعتك فى كتبهم بالامى كذا قال مقاتل فيكون على هذا ابطالهم باعتبار الواقع دون المقدر.
بَلْ هُوَ اى القران آياتٌ بَيِّناتٌ واضحة الدلالة على صدقها إضراب عما فهم فيما سبق يعنى ما هذا القران مختلقا من عندك ولا مخطوطا بيمينك بل هو آيات بينات فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى المؤمنين الذين حملوا القران يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه وهى من خصائص القران كونه آيات بينات الاعجاز وكونه محفوظا عن التحريف والاسقاط لقوله تعالى وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وكونه محفوظا فى الصدور بخلاف سائر الكتب فانها لم تكن معجزة فكانوا يحرفون الكلم منها عن مواضعها وما كانت تقرا الا من مصحف وقال ابن عباس بل هو يعنى محمدا ﷺ ذوايات بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من اهل الكتاب لانهم يجدون نعته ووصفه فى كتبهم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ الظلم وضع الشيء فى غير موضعه يعنى آياتنا معجزة واضحة الدلالة على صدقها لظما ومعنى فمن جحد بها بعد وضوح اعجازها فهو الظالم المكاير للحق.
وَقالُوا عطف على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وما بينهما معترضات لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ
كما انزل على الأنبياء من قبل مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى قرأ نافع وابن عامر والبصريان وحفص آيات على الجمع والباقون اية على التوحيد قُلْ يا محمّد ص إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ اى فى قدرته مربوطا بإرادته لست أملكها فاتيكم بما تقرحون وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأنى الا الانذار وابانة بما أعطيت من الآيات.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الهمزة للانكار والتوبيخ والواو للحال من فاعل فعل مقدر تقديره أتطلبون منك اية والحال انه لم يكفهم اية قوية مغنية عما اقترحوه أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ وأنت امّىّ الْكِتابَ المعجز الجامع لانواع العلوم الشريفة مطابقا لما قبله من الكتب يُتْلى عَلَيْهِمْ يدوم تلاوته عليهم متحدين به
لم يقترن بزمان وهى تخبرنا... عن المعاد وعن عاد وعن ارم
دامت لدنيا ففاقت كل معجزة... من النبيّين إذ جاءت ولم تدم
إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الّذى هو اية مستمرة مبينة لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اى تذكرة لمن همه الايمان دون التعنت هذه الاية تعليل للتوبيخ- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم والدارمي فى مسنده وابو داود فى المراسيل من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة مرسلا قال جاء ناس من المسلمين بكتف كتب فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال النبي ﷺ كفى بقوم ضلالة ان يرغبوا عما جاء به نبيهم الى ما جاء به غيره الى غيرهم فنزلت أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ. روى ان كعب بن الأشرف قال يا محمد من يشهد بانك رسول الله فنزلت.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يخفى عليه شىء الجملة صفة لشهيدا او تعليل لكفى وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس يعنى بغير الله وقال مقاتل يعنى الذين عبدوا الشيطان وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فى تجارتهم حيث اختاره الباطل على الحق واشتروا النار بالجنة هذه الجملة معطوفة على كفى.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ عطف على قالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ نزلت الاية حين قال النضر بن الحارث فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ... وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى قال ابن عباس يعنى ما وعدتك ان لا أعذب قومك ولا استأصلهم وأؤخر عذابهم الى يوم
القيامة كما قال بل الساعة موعدهم والسّاعة أدهى وامرّ وقال الضحاك مدة أعمارهم لانهم إذا ماتوا صاروا الى العذاب وقيل يوم بدر لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب وقيل الاجل بَغْتَةً فجاة فى الدنيا كوقعة بدر او فى الاخرة عند نزول الموت بهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ إعادة تأكيدا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ عطف على لياتينّهم بغتة يعنى سيحيط بهم يوم يأتيهم العذاب. او هى الان كالمحيطة لاحاطة الكفر والمعاصي التي يوجبها لهم واللام للعهد على وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على موجب الإحاطة او للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم.
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف لمحيطة او لمقدر مثل كان كيت وكيت مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ اى من جميع جوانبهم وَيَقُولُ قرأ نافع والكوفيون بالياء يعنى ويقول الله او بعض ملائكته بامره والباقون بالنون على التكلم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ اى جزاء ما كنتم تَعْمَلُونَ يا عِبادِيَ قرأ ابو عمرو «ويعقوب وخلف- ابو محمد» وحمزة والكسائي بحذف الياء فى الوصل وفتحها الباقون فى الوصل وأثبتوها ساكنه فى الوقف الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي
قرأ ابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها بإسكانها واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
ايّاى منصوب بفعل مضمر يفسره الشرطية الواقعة بعدها والفاء جزاء شرط محذوف تقديره ان لم تستطيعوا ان تعبدونى فى الأرض التي كنتم فيها فاعبدونى فى ارض غيرها فحذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول حتى صار الضمير المتصل منفصلا وأفاد تقديمه معنى الاختصاص وصار فاياى اعبدوا ثم أضمر الفعل الناصب وفسره بقوله فاعبدونى ليفيد التأكيد كانّه قال فاعبدونى فاعبدونى قال مقاتل والكلبي نزلت فى ضعفاء المسلمين بمكة يقول ان كنتم بمكة فى ضيق من اظهار الايمان فاخرجوا الى ارض غيرها يمكن لكم فيها اظهار الايمان كالمدينة ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
وقال مجاهد إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
فهاجروا وجاهدوا فيها وقال سعيد بن جبير إذا عمل فى ارض بالمعاصي فاخرجوا منها ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
وقال عطاء إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
وكذلك يجب على كل من كان فى بلده يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك ان يهاجر الى حيث يتهيا له العبادة وقيل نزلت فى قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا نخشى من الجوع ان هاجرنا فانزل الله هذه الاية لم يعذرهم بترك الخروج
قال مطرف بن عبد الله إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
اى رزقى لكم واسع فاخرجوا قال رسول الله ﷺ من فرّ بدينه من ارض الى ارض ولو شبرا استوجب الجنة وكان رفيق ابراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم رواه الثعلبي من حديث الحسن مرسلا.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ اى واجد حرارته وكربه لا محالة كما يجد الذائق طعم المذوق فلا تقيموا دار الشر اى خوفا من الموت بل لا بد لكم من الاستعداد لها بعبادة الله ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم بأعمالكم فهاجروا فى سبيل الله نجازيكم عليه قرأ ابو بكر باليا على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ففيه الالتفات من الغيبة الى الخطاب.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ قرأ حمزة والكسائي لنثوينّهم بالتاء المثلثة ساكنة وتخفيف الواو وبالياء من غير همزة يقال ثوى الرجل وأثويته إذا أنزلته منزلا والباقون بالباء الموحدة وفتحها وتشديد الواو وهمزة بعدها اى لننزلهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أعالي قال صاحب البحر المواج لنبوّئنّهم بالباء الموحدة فعل متعد الى مفعول واحد ومجرده لازم وغرفا منصوب بنزع الخافض ليس مفعولا ثانيا له الا على تضمينه معنى لننزلن تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله تقديره عرف الجنة او أجرهم.
الَّذِينَ صَبَرُوا على ذية المشركين والهجرة للذين الى غير ذلك من المحن والشاق لاجل مرضاة الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعتمدون على ان يرزقهم من حيث لم يحتسبوا- قال البغوي عن النبي ﷺ قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقنا اذاهم المشركون هاجروا الى المدينة فقالوا كيف نخرج الى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فنزلت.
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ محتاجة الى الغذاء من البهائم والطيور لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا معها ولا تدخر لغد قال سفيان بن على بن أرقم ليس شىء من خلق الله يدخر الا الإنسان والفارة والنمل اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ حيثما كنتم يعنى انها مع ضعفها وعدم ادخار أرزاقها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء فى انه لا يرزقها وإياكم الا الله تعيشون كما تعيشون وتموتون كما تموتون فاجتهادكم عبث فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوالكم سمع
قولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة الْعَلِيمُ بما فى قلوبكم من ضعف اليقين اخرج عبد بن حميد وابن ابى حاتم والبيهقي وابن عساكر بسند ضعيف وكذا ذكر البغوي عن ابن عمر قال دخلت مع رسول الله ﷺ حائطا من حوائط الأنصار فجعل رسول الله ﷺ يلتقط الرطب بيده ويأكل فقال يا ابن عمر كل فقلت لا أشتهيها يا رسول الله قال لكنى أشتهيها وهذه صبح رابعة منذ لم اطعم طعاما ولم أجده فقلت انا لله المستعان قال يا ابن عمر لو سالت ربى لاعطانى مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر رض إذا عمرت وبقيت فى قوم يحيئون رزق سنة ويضعف اليقين قال فو الله ما برحنا ولارمنا حتى نزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ الاية. عن انس قال ان النبي ﷺ كان لا يدخر شيئا لغد. رواه الترمذي وصححه وعن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغذ وخماصا وتروح بطانا- رواه الترمذي وابن ماجة وعن ابن مسعود- قال قال رسول الله ﷺ ليس من شىء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار الا قد أمرتكم به وليس من شى يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة الا قد نهيتكم عنه وان روح القدس نعت فى روعى ان نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها الا فاتقوا الله واجملوا فى الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق ان تطلبوا بمعاصي الله فانه لا يدرك ما عند الله الا بطاعته- رواه البغوي فى شرح السنة وذكره فى المعالم-.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعنى اهل مكة شرط فى جواب قسم محذوف مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جملة استفهامية واقعة بتأويل المفرد فى محل النصب على المصدرية لقوله سالتهم تقديره سالتهم هذا السؤال لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فاعل لفعل محذوف تقديره ليقولنّ خلقهن الله وقوله ليقولن جواب للقسم لفظا وجزاء للشرط بمعنى يعنى والله لا يقولن الا هذا الجواب لما تقرر فى العقول من انتهاء الممكنات الى واحد واجب لذاته فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعنى فكيف يصرفون عن توحيدهم بعد إقرارهم بذلك.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يحتمل ان يكون الموسع له والمضيق عليه واحدا على التعاقب فى الزمان وان يكون على
وضع الضمير موضع من يشاء اى ويقدر لمن يشاء منهم لان من يشاء منهم غير معين وكان الضمير مبهما مثله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) يعلم مصالح كل شىء ومفاسده قال الله تعالى ان من عبادى المؤمنين لمن يسئلنى الباب من العبادة فاكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الغناء ولو أفقرته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الفقر ولو أغنيته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الصحة ولو أسقمته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لا يصلح إيمانه الا السقم ولو اصححته لافسده ذلك انى أدبر امر عبادى بعلمي فى قلوبهم انى عليم خبير- رواه البغوي فى حديث طويل عن انس وسنذكره فى سورة الشورى إنشاء الله تعالى.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعنى اهل مكة عطف على لان سالتهم والكلام فيه مثل ما مرّ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعنى اهل مكة معترفون بان موجد الأشياء كلها بسائطها ومركباتها أصولها وفروعها هو الله لا غير ومع ذلك يشركون به فى العبادة بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شى قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك عن مثل هذه الضلالة او على تصديقك واظهار حجتك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ «١» قبح صنيعهم وتناقض أقوالهم حيث يقرون بانه المبدأ لكل ما عداه ومع ذلك يشركون به اخس الموجودات وأعجزها.
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا اشارة تحقير إِلَّا لَهْوٌ وهو ما يشغله عما يغنيه فان اشتغال المرء بالدنيا يشغله عما يفيده فى الحيوة المؤبدة وَلَعِبٌ اى عبث سميت بها لانها فانية وما يفعل المرء فى الحيوة الدنيا من الطاعات فهى ليست من الدنيا بل هى من امور الاخرة لظهور ثمرتها فيها وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ اى دار الحيوان يعنى ليس فيها الا الحيوة لامتناع طريان الموت عليها او جعلت ذاتها حيوة للمبالغة والحيوان مصدر بمعنى الحيوة أصله حييان قلبت الياء الثانية واو او هو ابلغ من الحيوة لما فى بناء فعلان من الدلالة من الحركة والاضطراب اللازم للحيوة ولذلك اختير عنها هاهنا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فناء الدنيا وبقاء الاخرة لم يؤثروا الدنيا على الاخرة.
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وخافوا الغرق متصل بما دل عليه شرح حالهم اى هم على ما وضعوا من الشرك والعناد إذا ركبوا فى الفلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى يدعون
(١) وفى الأصل لا يعلمون-
كائنين فى صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون الا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بانه لا يكشف الضر الا الله فَلَمَّا نَجَّاهُمْ الله إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ اى فاحبؤا المعاودة الى الشرك عطف على الشرطية السابقة- قال عكرمة كان اهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فاذا اشتدت بهم الريح ألقوها فى البحر وقالوا يا رب يا رب وعلى قوله مخلصين له الدين على الحقيقة يعنى كانوا عند الشدائد يخلصون الدين لله ويتركون الشرك وعند النجاة يعودون الى الشرك.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هذا لام الأمر ومعناه التهديد والوعيد كقوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اى ليجحدوا نعمة الله فى انجائه إياهم وقيل هى لام كى اى يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة الانجاء او المعنى لا فائدة لهم فى الإشراك الا الكفر والتمتع بما يستمتعون به فى العاجلة من غير نصيب فى الاخرة على خلاف عادة المؤمنين المخلصين فانهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ويجعلون نعمة النجاة ذريعة الى ازدياد الطاعة وَلِيَتَمَتَّعُوا قرأ ابن كثير «وخلف- ابو محمد» وحمزة والكسائي وقالون عن نافع بسكون اللام فهو لام الأمر على قراءتهم والباقون بكسر اللام نسقا على قوله ليكفروا وحينئذ يحتمل لام الأمر ولام كى فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك حين يعاقبون.
أَوَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم ينظروا ولم يروا اهل مكة أَنَّا جَعَلْنا مكة حَرَماً مصونا عن النهيب والتعدي آمِناً اهله عن القتل والسبي وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ عطف على جملة محذوفة مفهومة عما سبق تقديره انّا جعلنا مكّة حرما آمنا لا يغار ولا يتعرض أهلها وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ- وقد كان العرب يختلسون الناس قتلا وسبيا ولا يتعرضون اهل مكة أَفَبِالْباطِلِ الهمزة للانكار والفاء للتفريع على مضمون ما سبق يعنى أنعم الله على اهل مكة هذه النعمة وهم بعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها مما لا يقدر عليه الا الله سبحانه بالباطل يعنى بالأصنام او بالشيطان وجاز ان يكون المراد بالباطل كل شىء سوى الله لقوله ﷺ الا ان احسن القول قول لبيد الا كلّ شىء ما خلا الله باطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره وتقديمه للاهتمام او الاختصاص على طريق
المبالغة وقيل المراد بنعمة الله محمد ﷺ والقران.
وَمَنْ أَظْلَمُ يعنى لاحد اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان زعم ان له شريكا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ اى الرسول والقران لَمَّا جاءَهُ فى كمّا تشفيه لهم بانهم لم يتوقفوا ولم يتاملوا حين مجئ الرسول بل سارعوا الى التكذيب أول ما سمعوا أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ استفهام تقرير للثواء يعنى الا يستوحبون الثواء اى القرار فى جهنم وقد افتروا على الله وكذّبوا بالحق مثل هذا التكذيب او تقرير لاجترائهم يعنى الم يعلموا ان فى جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة.
وَالَّذِينَ جاهَدُوا الجهاد بذل الوسع والطاقة والمراد الذين بذلوا وسعهم بطاقتهم فى محاربة الكفار ومخالفة النفس والهوى فِينا اى فى ابتغاء مرضاتنا ونصرة ديننا وامتثال او أمرنا والانتهاء عن مناهينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا اى سبل السير إلينا والوصول الى جنابنا وصولا بلا كيف او لنرينهم سبل الخير ونوفّقهم سلوكها قال الله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وعن ابى الدرداء انه قال معناه والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم الى ما لم يعلموا. وعن عطاء والّذين جاهدوا فى رضائنا لنهدينّهم سبل ثوابنا وعن الجنيد الَّذِينَ جاهَدُوا فى التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص وقال سفيان بن عيينة إذا اختلف الناس فانظروا الى ما عليه اهل الثغور فان الله قال وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقال الحسن أفضل الجهاد مخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض وَالَّذِينَ جاهَدُوا فى طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به. وقال سهيل بن عبد الله والّذين جاهدوا فى اقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة وقال ابن عباس رض والّذين جاهدوا فى طاعتنا لنهدينّهم سبل ثوابنا وفى الحديث من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم قوله لنهدينهم سبلنا جواب قسم محذوف والجملة القسمية خبر للموصول والموصول المبتدا مع خبره عطف على الّذين أمنوا وعملوا الصّلحت وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر والاعانة فى الدنيا والثواب والمغفرة فى العقبى وقالت الصوفية ان الله لمع
216
المحسنين معية غير متكيفة يدركها بصائر اهل البصائر- هذه الجملة عطف على والّذين جاهدوا وجاز ان يكون حالا من فاعل لنهدينّهم والعائد وضع الظاهر موضع الضمير تقديره وانّا لمع المحسنين والتصريح باسمه تعالى لمزيد التأكيد والله اعلم تم تفسير سورة العنكبوت من التفسير المظهرى (ويتلوه تفسير سورة الروم ان شاء الله تعالى) فى التاسع من رجب من السنة السادسة بعد الف ومائتين سنة ١٢٠٦ هج والله اعلم.
217
Icon