ﰡ
له الحكم وإليه وحده الأمر كله، وإليه وحده ترجعون فتحاسبون، وتجازون على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر...
سورة العنكبوت
مكية كلها في قول بعضهم، وعن ابن عباس إنها مكية إلا عشر آيات من أولها، والظاهر أنها نزلت بين مكة والمدينة كما قال على بن أبى طالب... وهي تسع وستون آية. وعلى العموم فإنها تدور حول بيان حقيقة الإيمان، وما يصادف المؤمنين من فتن تصهرهم وتقوى روحهم ومع ذلك فالنصر للإيمان، وقد جاء القصص مؤيدا لذلك مع ضرب المثل لقوة الكفار وآلهتهم، ونتيجة الجهاد في سبيل الله.
شحذ عزائم المسلمين وتقوية إرادتهم وتهديد أعدائهم [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤)مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
أَحَسِبَ النَّاسُ أظنوا وتخيلوا لا يُفْتَنُونَ الفتنة: الابتلاء والاختبار بالشدائد التي تصادف الناس أَنْ يَسْبِقُونا أى: يفوتونا فلا ننتقم منهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس حكمهم يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أى: يأمل في لقائه وثوابه، قيل:
يخاف لقائه.
لقد ذكر الفخر الرازي- رحمه الله- في تفسيره مسائل في تفسير هذه الآية، منها مسألة في حكمة افتتاح هذه السورة بقوله الم وأنا ألخصها فيما يأتى:
البليغ الحكيم إذا خاطب مشغول البال، أو من هو في غفلة، يقدم ما يجعل المخاطب يلتفت إليه، ويتجه بقلبه ثم يشرع فيما يريده، وهذا المقدم قد يكون كلاما له معنى مفهوم مثل: اسمع. التفت تنبه إلخ، وقد يكون أداة استعملت للتنبيه كأدوات النداء والاستفتاح مثل أمحمد. يا على: ألا يا خالد، وقد يكون المقدم صوتا غير مفهوم كالتصفير مثلا أو التصفيق باليد إلخ.
ومن المألوف في أساليب اللغة أن ألفاظ التنبيه تستعمل عند الغفلة على حسبها، وتستعمل على شكل واسع إذا كان المقصود من الكلام مهما، وموضعه خطيرا.
وإذا قدم المتكلم البليغ على كلامه لفظا غير مفهوم المعنى، كان ذلك أدعى للالتفات، وأقوى في التنبيه لما بعده مثل الحروف الهجائية التي تفتتح بها السور فإن قال قائل: ما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟ فالجواب: أن عقل البشر قاصر عن إدراك الأشياء الجزئية والحكم المقصودة من ذلك، والله ورسوله أعلم بذلك كله.
ولكن هذا لا يمنع من ذكر ما يوفقنا الله له فنقول (أى الفخر) : كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو القرآن، واقرأ أول سورة البقرة وآل عمران. والأعراف. ويس. وق والقرآن المجيد. والحواميم إلا ثلاث سور: سورة مريم، والعنكبوت هذه، والروم...
ولعل الحكمة كما قلنا سابقا أن القرآن عبء ثقيل، وفيه أحكام وحكم، وهو دستور
ولعل بدء السورة التي ليس في أولها ذكر للكتاب كما هنا وفي سورة الروم، ومريم بحروف ليست لها معاني معروفة لخطر ما بدئت به وأهميته حتى احتاجت إلى هذا التنبيه، ولا عجب ففتنة المسلم كما هنا، وذكر زكريا ويحيى وعيسى كما في سورة مريم والإخبار بالمغيبات في سورة الروم غاية الأهمية ولقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع، وهو موضوع شائك ولعل سلوى الجميع فيه وفي أمثاله قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة آل عمران آية ٧].
المعنى:
ألم. أظن الناس أن يتركوا لأنهم قالوا آمنا في حال أنهم لا يفتنون، ولا يبتلون بأنواع المحن والفتن؟ التي تمحص المتقين المخلصين من المنافقين الكاذبين وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران ١٥٤].
نزلت هذه الآيات في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كسلمة بن هشام. وعياش بن أبى ربيعة. والوليد بن الوليد.
وعمار بن ياسر. وياسر أبوه وسمية أمه، فكانت صدورهم تضيق بذلك وربما استنكر بعض الناس أن يمكن الله الكفار من المؤمنين!.
فنزلت هذه الآية مسلية ومعلنة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبار للمؤمنين وفتنة لهم وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [سورة آل عمران آية ١٤١].
قال بعض العلماء: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه فهي باقية في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم موجود حكمها ما دام هناك إسلام وحق يدافع عنه بعض الناس، فلا بد من وجود إيذاء وشدائد لهم.
ولقد فتنا الذين من قبلهم، وابتليناهم قديما كما ابتلينا إبراهيم بإلقائه في النار، وكما
وروى البخاري عن خباب ابن الأرت: قال شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟.
فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دين الله. والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلّا الله والذّئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون».
فليعلن الله الذين صدقوا أى: فليظهرن الله الذين صدقوا، وليظهرن الكاذبين، إذ علمه بهم حاصل قبل الاختبار وبعده.
بل أحسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا فلا ندركهم؟ أظنوا أنهم يفوتوننا فلا ننتقم منهم. لا. بل إن ربك لبالمرصاد، وسيجازيهم على أعمالهم جزاء وفاقا.
ألا ساء حكمهم وتقديرهم إن فهموا أنهم يسبقوننا.
من كان يرجو لقاء الله ويؤمل ثوابه، ويخاف عقابه فليستعد لذلك اليوم استعدادا كاملا، وليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، فإن أجل الله لآت له، وإن وقته المضروب للقائه آت بلا شك، فمن الخير له الاستعداد لذلك اللقاء بالعمل الصالح، والله هو السميع لكل قول، العليم بكل فعل.
وقد مضت حقائق ثلاثة: هي اختبار المؤمن بالفتن، وعقاب العاصي على العمل، وجزاء المحسن الذي يرجو لقاء ربه آت بلا شك ولا جدل، وربك الغنى عن عباده الطائعين، ولا يضره عصيان العاصين، ومن جاهد نفسه وهواه، واتبع طريق الحق والعدل والكرامة فإنما يجاهد لنفسه لا لغيره مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها «١» إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «٢».
والذين آمنوا وعملوا الصالحات من الأعمال لنكفرن عنهم سيئاتهم التي قد يلمون بها. فالإنسان لا بد أن يرتكب بعض السوء وإن لم يشعر به خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
«٣».
(٢) سورة الإسراء الآية ٧.
(٣) سورة التوبة الآية ١٠٢.
أرأيت إلى هذه الآيات الكريمة التي تشحذ العزائم وتربط على القلوب ببيان أن المؤمن صاحب العقيدة لا بد من ابتلائه، وأن هذه سنة الله قديما وحديثا، مع بيان أن المسيء الذي يسيء المؤمن سيجازى على عمله حتما، وقد بين الله أنه لا بد من يوم يجازى فيه المحسن والمسيء وهو قريب الحصول، وهذا العمل الصالح من العبد يكون خيرا له لا لغيره، والله يكفر عنه سيئاته ويجازيه على أعماله أحسن الجزاء- اللهم وفقنا واهدنا إلى سوء السبيل.
مدى فتنة الكفار للمؤمنين، وتهديد الله للكفار وللمنافقين [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ١٣]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أى: أمرناه، فكلمة وصى في اللغة كأمر في معناها وتصرفها حُسْناً أى: بأن يفعل معهم حسنا، أى: فعلا ذا حسن، أو هو نفس الحسن مبالغة فِتْنَةَ النَّاسِ أى أذاهم واستعمال القوة والعنف في الرد عن الإسلام أَثْقالَهُمْ أوزارهم.
لا يزال الكلام في فتنة المسلمين وردهم بالقوة عن الإسلام، والذين فتنوهم المستضعفون، ومن فتنهم هم الكفار الأقوياء أصحاب الجاه والسلطان، ومن كان يملك رقابهم، وهناك صنف آخر من المعذبين الذين فتنوا هم الأبناء والأقارب والذين فتنهم آباؤهم وأقاربهم مستخدمين سلاح العطف وصلة الرحم، ولذا نبه الله هنا على ذلك، ونزلت تلك الآية وآية لقمان وآية الأحقاف في سعد بن أبى وقاص.
وروى عن سعد قال: كنت بارا بأمى فأسلمت فقالت: لتدعن دينك أولا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي ويقال لك: يا قاتل أمك، وبقيت يوما ويوما فقلت يا أماه! لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلى، فلما رأت ذلك أكلت، ونزلت الآية.
المعنى:
ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل معهما فعلا حسنا، وقلنا له: إن جاهداك لتشرك بالله ما ليس لك به علم، أى: ما لا علم لك بألوهيته كالأصنام، والمراد بنفي العلم المعلوم كأنه قال: وإن جاهداك وحملاك بالفتنة والإغراء على أن تشرك بالله شيئا لا
وصى الله الإنسان بوالديه وأمره بالإحسان إليهما، ثم نبهه إلى عدم طاعتهما، إذا أراداه على الشرك، إذ كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثم قال: إلىّ مرجعكم، نعم إلى الله وحده ترجع الأمور وسيجازى كلا على ما عمل فلا يحدثن أحد من الناس نفسه بجفوة والديه إذا أشركا، ولا يحرمهما من بره وعطفه في الدنيا إذا عصيا، وإياه ومتابعتهما على الشرك بل اثبت في دينك، واستقم كما أمرت فالله معك، وسيجازيك على هذا كله، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات، وصبروا على المكروه والأذى في سبيل الله فأولئك يدخلون الجنة مع الصالحين والأنبياء والمرسلين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
يا أخى لا تظن أن مرتبة الصلاح هينة فلله در الإمام الشافعى حيث يقول: «أحبّ الصّالحين ولست منهم». وهذا النبي سليمان بن داود يدعو ربه أن يدخله مع الصالحين وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «١». وفي إبراهيم يقول الله وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «٢».
هذا هو حال المؤمنين الذين فتنوا واختبروا في دينهم كبلال وصهيب وآل ياسر كلهم: وهذا سعد بن أبى وقاص يبتلى بأمه وكانت أحب الناس إليه، وهذا حال من فتن من صناديد قريش وزعماء الكفار.
ولكن أليس في المجتمع المسلم منافقون ضعاف الإيمان إذا فتنوا رجعوا عن دين الله؟.
نعم فيه ذلك، إذ لا يخلو منهم زمان ولا مكان، والمحن هي محك الاختبار، وفيها الامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب.
وها هم أولاء يقولون آمنا بالله فإذا أوذوا في سبيل الله، وافتتنوا في دينهم، ومحصوا بالابتلاء الواقع، وانكشفت الستائر، وجعلوا فتنة الناس تمنع من الثبات في دينه كما يمنع عذاب الله من الكفار، وإذا نصر الله المسلمين ليقولن: إنا كنا معكم، وكنا ثابتين على دينكم فأعطونا من الغنائم! أو ليس الله بأعلم بما في الصدور؟! وهو يعلم السر
(٢) سورة البقرة الآية ١٣٠.
وانظر إلى مدى فتنة الكفار، وإغراء المسلمين على ترك دينهم!!! وصحائف التاريخ مملوءة بأخبار المعذبين من الصحابة، وأخبار العتاة المجرمين من زعماء الكفر، وليتهم وقفوا عند حد الإغراء بالعذاب والتنكيل بالإيذاء البدني بل لما رأوا أنهم لم يفلحوا في ذلك، وثبت المسلمون، أو فروا بدينهم إلى الحبشة، ثم إلى المدينة.
ولما رأوا أن فتنتهم المادية لم تؤت ثمرها أخذوا يفتنونهم بالحيلة والإغراء بكافة الطرق.
انظر إليهم وهم يقولون.
وقال الذين كفروا للذين آمنوا: اتبعوا سبيلنا، وارجعوا إلى ديننا، ونحن نتحمل عنكم خطاياكم إن كان هناك حساب أو جزاء.
ولقد ثبت أن صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث ولا أنتم، فإن كان ذلك فإننا نتحمل عنكم الإثم، وما هم بحاملين من ذنوبهم وآثامهم شيئا، إذ كل امرئ بما كسب رهين إن هؤلاء الزعماء لكاذبون في هذا القول، وليحملن أثقال أنفسهم وأوزارها، وأثقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا حملها للمؤمنين، وهي أثقال وأوزار الذين كانوا سببا في ضلالهم
«من سنّ في الإسلام سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» حديث شريف.
وقال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «٢».
وليسألن يوم القيامة سؤال تقريع وتوبيخ عما كانوا يفترون ويختلقون من أكاذيب وأباطيل.
(٢) سورة النحل الآية ٢٥.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
المفردات:
الطُّوفانُ ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو موت أو ظلام ليل.
وهذه قصة نوح- عليه السلام- أطول الأنبياء عمرا، دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع هذا فلم يؤمن معه إلا قليل، وقد سيقت تسلية وعبرة لمن يعتبر، وقد ذكر بعدها قصص بعض الأنبياء لهذا الغرض.
المعنى:
ولقد أرسلنا نوحا- وقد ورد أنه أول نبي أرسل- إلى قومه وكانوا أهل كفر وفسق وعصيان فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ويذكرهم بيوم القيامة، ولكنهم كانوا يردون عليه أسوأ رد وأفحشه، وقد بذل نوح منتهى ما في وسعه كبشر، وطال الزمن وهو يدعوهم أن يقلعوا عن عبادة الأصنام فلم يزدهم دعاؤه إلا إعراضا واستكبارا، وقال نوح: رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا كبارا، وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فقال لما ضاق به الأمر: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا.
وكان أن صنع السفينة وركبها هو والمؤمنون وترك الكفار فغرقوا جميعا، وأخذهم الطوفان وهم ظالمون، ونجاه الله هو ومن معه في الفلك المشحون، وجعل ربك سفينة نوح آية وعبرة للعالمين، فهل من مدكر؟!!.
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
أَوْثاناً الوثن: هو ما اتخذ من جص أو حجر، والصنم ما كان من معدن، والتمثال: ما لوحظ فيه أن يكون مثالا لكائن حي إِفْكاً الإفك: الكذب مأخوذ من الأفك وهو صرف الشيء عن وجهه، والكذب كلام مصروف عن وجهه النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ هي إعادة الخلق في الآخرة تُقْلَبُونَ تردون وَلِيٍّ صديق وناصر أو متولى أمر الإنسان حَرِّقُوهُ أحرقوه مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ لتتوادوا بينكم وتتواصلوا.
وتلك قصة إبراهيم أبى الأنبياء فانظر يا أيها الرسول كيف كان موقفه مع قومه وما انتهى إليه أمره وأمرهم، والأمر كله لله.
المعنى:
واذكر إبراهيم وقت أن قال لقومه اعبدوا الله، والمراد ذكر ما حصل في الوقت، أرسل الله إبراهيم حين بلغ من السن والعلم مبلغا صح معه أن يكون رسولا يهدى إلى الحق فقال لقومه: اعبدوا الله واتقوه، ما لكم من إله غيره، وهو المستحق للعبادة
إنما تعبدون من دون الله أوثانا لا خير فيها، ولا نفع يرجى منها بل هي حجارة لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، إنما تعبدون من دون الله أوثانا. والحال أنكم تخلقون إفكا، واختلاقهم الإفك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء له على أنهم هم الذين صنعوها وخلقوها للإفك والكذب.
إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا، فابتغوا عند الله الرزق كله، فإنه هو الرزاق ذو القوة المتين، الذي له ملك السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وهو الحكيم الخبير، إذا كان كذلك فاعبدوه وحده، واشكروا له حق شكره، إليه وحده ترجعون فاستعدوا للقائه بعبادته وشكره على نعمه.
وإن تكذبوني فلا تضروني أبدا؟ فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أمم، وما أصابهم من ذلك ضرر، ولكن الأمم قد أضروا أنفسهم بذلك، إذ الواجب على الرسول البلاغ، وعلى الله الحساب، فإذا بلغ كل ما أنزل إليه وأدى الرسالة كاملة فلا عليه شيء بعدها أبدا سواء آمن به الناس أم كفروا.
وهذه الآيات والتي بعدها إلى قوله- تعالى-: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ:
محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم أو هي معترضة نزلت في شأن الرسول صلّى الله عليه وسلم وشأن قريش في أثناء قصة إبراهيم، والمناسبة بين القصة وبين الكلام المعترض ظاهرة، إذ كل في موضوع واحد وهو تكذيب الأمم لرسلها، وقصة إبراهيم ذكرت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فوحدة الموضوع والغرض موجودة، والآيات التي ذكرت بعد هذه الآية من توابعها، ألا ترى أن الله بين التوحيد أولا ثم أشار إلى الرسالة ثانيا بقوله وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
وقد شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك ذكر بعضها عن بعض.
أعموا ولم يروا كيفية بدء الخلق؟ ولما كان العقل يعلم أن البدء من الله بلا شك لأن الخلق الأول لا يتصور أن يكون من مخلوق، وإلا لما كان أول الخلق، وإذا كان
وهو المنفرد ببدء الخلق، ومن قدر على ذلك فهو القادر وحده على أن ينشئ النشأة الأخرى يوم القيامة إن الله على كل شيء قدير، وفي النشأة الأخرى يعذب من يشاء ممن يستحق العذاب من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة.
وما أنتم يا بنى آدم بمعجزين الله في الأرض ولا في السماء، وليس في وسعكم الهرب من قضاء الله في جهة السفل أو جهة العلو، وما لكم من غير الله ولى ولا نصير ينصركم من عذابه.
والذين كفروا بآيات الله، ولقائه أولئك يئسوا من رحمة الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، أولئك لهم عذاب مؤلم موجع، أما المؤمنون بالله ولقائه فأولئك يرجون رحمته، إن رحمة الله قريب من المحسنين ولنرجع إلى إبراهيم ماذا حصل له؟.
لما أمرهم بعبادة الله- تعالى-، وبين خطأهم في عبادة الأوثان، وظهرت حجته عليهم فما كان جواب قومه على قوله لهم: اعبدوا الله واتقوه، واتركوا عبادة الأوثان، وما أنا إلا نذير وبشير، وعلى البلاغ فقط، واعلموا أن هناك يوما للحساب والعقاب ومن خلق الخلق أولا قادر على الإعادة ثانيا.
فما كان جواب قومه على ذلك إلا أن قال كبارهم ورؤساؤهم: اقتلوه، أو حرقوه بالنار، يا عجبا لهم!! يدعوهم إلى الخير، ويبصرهم بالطريق الحق فيكون المآل القتل أو الإحراق.
ولكن أيتركه ربه الذي أرسله للخلق ووعده بالعصمة والحفظ؟ كلا كلا: فقد أنجاه الله من النار حين قذفوه فيها، وقال الله لها: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم
إن الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة بينكم، أى: لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها لا ينفعكم بل يكون عليكم، بدليل قوله بعد ذلك ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً على معنى أن هذه المودة التي في الدنيا ستنقلب بينكم إلى تلاعن وتباغض، وتعاد، يتلاعن المتبوعون والتابعون، ويتلاعن العبدة كلهم مع الأصنام وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، ومأواكم النار جزاء ما عبدتم غير الله، وما لكم من ناصرين ينصرونكم وقت الشدة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم خالص من الذنوب..
ولما خرج من النار إبراهيم سليما معافى آمن لوط بنبوة إبراهيم.
وقال إبراهيم: إنى مهاجر إلى أمر ربي أى: حيث أمرنى، وقد هاجر من سواد العراق ومعه زوجته سارة، ولوط ابن أخيه أو ابن أخته، والله أعلم، هاجر من سواد العراق إلى حران ثم منها إلى فلسطين، ونزل لوط قرية سدوم.
ووهبنا إلى إبراهيم- بعد إسماعيل- إسحاق ومن نسله يعقوب، وجعلنا في ذريته النبوة فكانت الأنبياء كلها بعد إبراهيم من ذريته، وآتيناه الكتب فنزلت التوراة على موسى والزبور على داود والإنجيل على عيسى والقرآن على محمد، وكلهم من نسله، وآتيناه أجره في الدنيا حيث يحمده الكل، ويؤمن به ويمجده، وهو في الآخرة من الصالحين الذين لهم الدرجات العلا.
قصة لوط مع قومه [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
الْفاحِشَةَ أى: الفعلة الفاحشة المتناهية في القبح، قيل: هي إتيان الرجال في أدبارها وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أى: الطريق الْمُنْكَرَ الأمر المخالف للشرع المجافى للطبع السلم كاللواط وأنواع الفحش بِالْبُشْرى بالبشارة بإسحاق ويعقوب الْغابِرِينَ الباقين في العذاب سِيءَ بِهِمْ جاءته المساءة والغم بسبهم
المعنى:
- واذكر لوطا وقت أن قال لقومه: إنكم لتأتون الفعلة المتناهية في الفحش، التي ما سبقكم بفعلها أحد من الجن والإنس لأنها مما تشمئز منها الطباع، وتعافها النفوس.
أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم، وتتركون النساء، وتقطعون السبيل حيث تفعلون الفاحشة بمن يمر بكم فترك الناس الطريق لذلك: وتأتون في ناديكم المنكر شرعا وعقلا وعرفا، وذلك أنهم ابتدعوا منكرات ما سبقهم إليها أحدا من خلق الله وقد وعظهم لوط ونصحهم كثيرا وخوفهم عاقبة هذا العمل فلم يأبهوا ولم يرتدعوا، فلما ألح عليهم بالعظات والإنذار ما كان جواب قومه إلا أن قالوا استهزاء به: ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا، إن كنت من الصادقين في دعواك، قال لوط لما يئس منهم، ونفد صبره:
يا رب انصرني بإنزال العذاب على هؤلاء القوم الذين عاثوا في الأرض الفساد فاستجاب الله الدعاء، فأرسل ملائكة لإهلاكهم، وأمرهم أن يبشروا إبراهيم بذرية طيبة مباركة فجاءوا أولا لإبراهيم بالبشرى بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وقالوا له: إنا مهلكوا أهل قرية لوط إن أهلها كانوا ظالمين وكافرين.
قال إبراهيم: إن فيها لوطا، وأنتم تعرفون من هو.. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته إنها كانت من القوم الفاسقين، فاستحقت أن تكون من الباقين في العذاب المهين.
ولما أن جاءت رسل الهلاك إلى لوط سىء بهم وحزن، وضاق بهم صدره، لأنهم جاءوا في صورة غلمان مرد حسان، فجاء أهل القرية إلى لوط طالبين ضيوفه ليفعلوا معهم الفاحشة، وقد جهد لوط في ردهم، وبالغ في ذلك حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته فلم يصغوا إليه، فلما رأت الملائكة حيرته وتغير حاله، قالوا له: لا تخف ولا تحزن إنا جئنا للتنكيل بأولئك القوم، وإنا منجوك وأهلك إلا امرأتك إنها كانت من الباقين في العذاب، وإنا يا لوط منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء وعذابا تضطرب له النفس وتتزلزل، كل ذلك بما كانوا يفسقون، وقد أخرجت الملائكة لوطا
قصص مدين وعاد وثمود وغيرهم [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
الرَّجْفَةُ الزلزلة يقال رجف يرجف أى اضطرب جاثِمِينَ باركين على اركبهم ميتين سابِقِينَ فائتين غير مدركين حاصِباً ريحا حاصبا أى: فيها حصباء يقال حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء الصَّيْحَةُ الصرخة الشديدة.
المعنى:
وإلى مدين أرسلنا لهم أخاهم شعيبا فدعاهم إلى الإيمان بالله وقال لهم: يا قوم اعبدوا الله ربكم مالكم من إله غيره، وارجوا اليوم الآخر أى: افعلوا ما ترجون به العافية في يوم الحساب والجزاء، وإياكم والفساد في الأرض، فإن عاقبته وخيمة.
فكذبوه ولم يؤمنوا به فأخذتهم الصيحة بالعذاب فارتجفت قلوبهم واضطربت حيث لا ينفع الاضطراب والخوف، وأصبحوا في ديارهم جائمين على ركبهم ميتين كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟ فهل من مدكر؟ وأهلكنا عادا لما أرسلنا لهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسله، فكذبوا وكفروا، وأهلكنا ثمود لما أرسلنا لهم أخاهم صالحا يدعوهم إلى عبادة الله فكفروا به وكذبوه.
وها أنتم أولاء يا أهل مكة، ويا مشركي العرب قد تبين لكم ذلك، أى: إهلاكهم وهم قد زين لهم الشيطان أعمالهم فكانت عاقبة أمرهم خسرا، وكانوا مستبصرين أى:
عقلاء أصحاب فكر ونظر ولكنهم لم ينتفعوا بذلك!! أفليس من العقل والحكمة أن تعتبروا وتتعظوا بهؤلاء.
وأهلكنا قارون لما طغى ولم يمتثل أمر الله، وأهلكنا فرعون وهامان، ولقد جاءهم موسى بالبينات من عند ربهم فاستكبروا في الأرض، ولكنهم ما كانوا سابقين وفائتين بل أدركهم أمر الله وبطشه إن بطش ربك لشديد.
فكلا من هؤلاء وهؤلاء أخذنا بذنبه إذ كل نفس بما كسبت رهينة فمنهم من أرسلنا عليه ريحا حاصبة أهلكته وهم قوم لوط إنهم كانوا قوما يعملون الخبائث، ومنهم من أخذته الصيحة بالعذاب كمدين وثمود، صيحة ترجف الأرض منها والجبال فكانت
ومنهم من أغرقنا كقوم نوح وفرعون، لما طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وما كان الله ليظلمهم أبدا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون..
مثل اتخاذ الأصنام آلهة [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)
المفردات:
أَوْلِياءَ أصناما يرجون نفعها الْعَنْكَبُوتِ حشرة معروفة أَوْهَنَ أضعف مَثَلُ المثل الصفة التي تشبه المثل في الغرابة.
لما بين الله تعالى أنه أهلك المشركين وأفناهم حينما كذبوا الرسل، وكان هذا بمثابة تعجيل العذاب لهم في الدنيا زيادة على ما أعد لهم في الآخرة من عذاب مقيم ولم ينفعهم في الدارين من دون الله معبود.
المعنى:
مثل هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء والحال أنهم لم ينتفعوا منها بشيء أبدا مع أنهم اتخذوها راجين النفع والشفاعة منها كمثل العنكبوت اتخذت بيتا من نسيجها، وإن أوهن البيوت لبيوت العنكبوت.
ولعل السر في جعل المثل دائرا حول اتخاذ العنكبوت بيتا ولم يقل نسيجا، أن البيت يكون للظل والوقاية من حر الشمس وزمهرير البرد، ومنع العدوان إلى غير ذلك من المنافع، ولكن بيت العنكبوت لا يفيد شيئا ولا يقي خطرا. فكذلك معبوداتهم لا تنفع شيئا، ولا تدفع ضررا، على أن نسيج العنكبوت من حيث كونه بيتا لا يفيد فكذلك الأصنام من حيث كونها آلهة لا تنفع ولا تضر، حقا. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون!.
ولعل السر في اختيار لفظ الأولياء بدل الآلهة إبطال الشرك الخفى، وهو العبادة للرياء والسمعة فإن من يفعل ذلك يصدق عليه أنه اتخذ من دون الله وليا...
وانظر إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ بعد التمثيل... ! على معنى إن الله يعلم أنهم لا يدعون من دونه شيئا له وجود، وهو العزيز الحكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم العليم الخبير، ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلا.
وتلك الأمثال الرائعة التي هي من عيون الكلام لعمق أثرها في النفس، وقوة فعلها في العقل نضربها للناس لا للبهائم والجمادات، وما يعقلها ويدرك سرها ويقف على إشاراتها إلا العالمون، ويقول الفخر: العلم الحدسى التجريبى يعلمه العاقل والعلم الفكرى الدقيق يعقله العالم، وذلك كالأمثال، ومن هنا ندرك السر في تعبير القرآن:
وما يعقلها إلا العالمون.
آداب إسلامية [سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٤٥]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)
لقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر- أى ألم به أمر شديد- هم إلى الصلاة وحالة الكفار والمشركين الذين لم ينتفعوا بالقصص والأمثال قد تؤلم فجاءت هذه الآية سلوى وعلاجا وإرشادا وتأديبا. فالمناسبة ظاهرة.
ولا شك أن العلاج الوحيد لكل الأزمات، والدواء الوحيد لكل الأدواء، هو القرآن وتلاوته العمل بما فيه.
ولعلك يا أخى تستشف معى من وضع هذه الآية هنا أن آلامنا ومتاعبنا كافة مسلمة تدين بالإسلام قد يكون معظمه من تلك الناحية والحوادث تؤيد هذا، ولعل العلاج من هذا كله، ومن أمراضنا الداخلية هو القرآن وتلاوته وحفظه للعمل به لا للتغنى به ولا للرقى!!.
المعنى:
اتل يا محمد، وكذا كل مسلم، اتل ما أوحى إليك من الكتاب الكامل الذي لا ريب فيه، واعمل بما فيه، ففيه نجاتك وخيرك وعلاجك.
والصلاة عملية تطهير لصاحبها، وتتكرر لتغسل أدرانه، وما قد يكون علق بنفسه وروحه من غبار الدنيا، وهي كما يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ما معناه: هي نهر أمام بيتك تغتسل منه خمس مرات فهل يبق عليك درن ووسخ؟!!.
الصلاة الحقيقية التامة الأركان، المستوفية الشروط، المقومة بأركانها وسننها وآدابها، الصادرة من قلب برىء خالص، سليم من الرياء والنفاق، مملوء بالخوف من الله والرجاء في عفوه.
هذه الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، عن ابن عباس وابن مسعود قالا:
«في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصى الله- تعالى- فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزد بصلاته من الله- تعالى- إلا بعدا» وقال الحسن وقتادة «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه» ومن هنا ندرك كيف يقع من بعض المصلين فحش ومنكر؟ والجواب أنها صلاة بلا روح صلاة بلا خشوع ولا خضوع، صلاة فيها رياء وسمعة، صلاة لا يمكن أن تنهى عن فحشاء ومنكر.
فليست الصلاة تنهى بقيامها وركوعها وسجودها لا. إنما تنهى بذكر الله وتذكره أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «٢» ومن هنا قال الله وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ والله يعلم الغيب والشهادة، وهو العليم بذات الصدور، فراقبوا الله مراقبة من يعلم أن الله يسمعه ويراه.
والذكر النافع هو الذي يكون مع العلم وإقبال القلب وتفرغ النفس مما سوى الله، وأما ما لا يتجاوز اللسان فشيء آخر، والله يعلم ما تصنعون وفقنا الله للخير.
(٢) سورة الرعد الآية ٢٨.
المتخلفون بغير عذر وموقف المسلمين منهم ٣ كيف كان الأعراب ٥ الناس أنواع ٧ الصدقة، والتوبة، والعمل ١١ صنف آخر من المتخلفين ١٣ مسجد الضرار. ولم بنى، وموقف الرسول منه ١٤ من هم المؤمنون الكاملون؟ ١٩ الاستغفار للمشركين ومتى يؤاخذ الله على الذنب؟ ٢١ التوبة وشروطها، والصدق وفضله ٢٣ وجوب الجهاد مع رسول الله وجزاؤه ٢٧ طلب العلم فريضة ٢٩ توجيهات في قتال الكفار ٣١ المنافقون واستقبالهم للقرآن ٣٢ الرسول عليه الصلاة والسلام ونفسه الكريمة ٣٤ سورة يونس عليه السلام ٣٦ المظاهر الكونية ودلالتها على أصول الإيمان ٣٨ المؤمن والكافر وعاقبة كل ٤٢ من طبائع الإنسان وغرائزه ٤٤ من أوهام المشركين والرد عليهم ٤٦ هكذا فطر الله الناس ٤٩ اقتراح المشركين آيات كونية ٥٠ هكذا طبع الإنسان وخلقه ٥١ المثل البليغ لحياة الدنيا ٥٣ ترغيب في الجنة وتنفير من النار ٥٥ من مشاهد يوم القيامة ٥٧ نقاش مع المشركين لإثبات التوحيد وبطلان الشرك ٥٨ القرآن كلام الله ومعجزة النبي وموقفهم منه ٦٢ هكذا الدنيا وهذه نهايتها ٦٦ القول الفصل في الرد على المشركين وعلى استعجالهم العذاب ٦٦ القرآن الكريم وأغراضه الشريفة ٧٠ لون آخر في ثبات الوحى والنبوة ٧٢ مراقبته تعالى لعباده، واحاطته بكل شيء علما ٧٣ من هم أولياء الله؟ ٧٤ العزة لله ٧٦ كيف يكون لله ولد؟! ٧٧ قصة نوح عليه السلام ٧٩
قدرة الله وآيات وحدانيته ٣٢٢ مثل الأوثان والأصنام ٣٢٥ من نعم الله علينا ٣٢٧ مشهد من مشاهد يوم القيامة ٣٢٩ أجمع آية للخير والشر ٣٣٢ من أدب القرآن وتوجيهه ٣٣٦ المرتدون عن الإسلام والعياذ بالله ٣٣٨ عاقبة من يكفر بالنعمة ٣٤١ نقاش المشركين في معتقداتهم ٣٤٣ منهاج الوعاظ والدعاة ٣٤٥ سورة الإسراء ٣٤٩ خلاصة لتاريخ بنى إسرائيل ٣٥٣ من نعم الله علينا ٣٥٧ من أراد العاجلة ومن أراد الباقية ٣٦١ دعائم المجتمع الإسلامى ٣٦٣ الرد على من يدعى لله شريكا ٣٧٤ السر في كفرهم وعنادهم ٣٧٦ شبهتهم في البعث والرد عليهم ٣٧٧ مناقشة المشركين في عقائدهم ٣٨٠ أصل الداء ٣٨٣ من نعم الله علينا ٣٨٥ بعض مشاهد يوم القيامة ٣٨٧
- موقف المشركين من الدعوة الإسلامية ٧٤٢ قصة موسى مع فرعون وملئه ٧٤٥ قصة إبراهيم ٧٥٥ قصة نوح مع قومه ٧٦٠ قصة هود مع قومه ٧٦٢ قصة صالح مع قومه ثمود ٧٦٥ قصة لوط مع قومه ٧٦٨ قصة شعيب مع أصحاب الأيكة ٧٧٠ الحديث عن القرآن وموقف المشركين منه ٧٧٢ نصائح ربانية ٧٧٦ الرد على من يصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه كاهن أو شاعر ٧٧٨ سورة النمل- افتتاح السورة بالكلام عن القرآن وأثره ٧٨١ موسى بالوادي المقدس ٧٨٣ من نعم الله على داود وسليمان وقصة النملة ٧٨٥ قصة الهدهد أو بلقيس ٧٨٨ صالح مع قومه ثمود ٧٩٤ قصة لوط مع قومه ٧٩٧ الشواهد الدالة على الوحدانية والقدرة ٧٩٨ اعتقادهم في البعث ٨٠٢ القرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وسلّم ٨٠٤ من مناظر يوم القيامة مع ذكر مقدماته ٨٠٦ من علامات يوم القيامة ٨٠٩ ختام سورة النمل ٨١١ سورة القصص- افتتاح السورة والكلام على قصة فرعون ٨١٣ قصة موسى ٨١٦ ولادته وإرضاعه ٨١٦
[الجزء الثالث]
[بقية سورة العنكبوت]كيف ندعو أهل الكتاب إلى الإسلام [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)
المفردات:
وَلا تُجادِلُوا المجادلة: المناقشة يَجْحَدُ الجحد: إنكار الشيء بعد معرفته لَارْتابَ: لشك الْمُبْطِلُونَ: غير المحقين فيما ذهبوا إليه.
وهذا شروع في إرشاد أهل الكتاب ومعالجتهم ودعوتهم إلى الدين الحق دين الفطرة السليمة، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهم السلام، وهم قوم يقولون بوجود الله واليوم الآخر والتصديق ببعض الكتب والأنبياء، هذه عقائدهم الأساسية، وإن حاولوا طمسها في بعض الأحيان والأحوال.
والخلاصة أن علينا نشر الدعوة لأنها دعوة عامة شاملة صالحة لكل زمان ومكان وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.. [سورة الأنعام آية ١٩] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [سورة الأعراف آية ١٥٨].
والذي ندعوه إن قبل الإسلام فقد كفى الله المؤمنين القتال، وإن حاربنا ووقف في طريقنا وكمّم أفواه دعاتنا لا سيما إن كان من مشركي العرب الذين بالغوا في عداوة الإسلام حاربناه، ودعوتنا إلى الإسلام أولا تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
لهذا لا نعجب إن رأينا آيات في القرآن تحثنا على الدعوة إلى الإسلام بالحسنى وآيات تأمرنا بالقتال وتحث عليه فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.. [التوبة ٥].
المعنى:
ادع إلى سبيل ربك، وانشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن رأيت ممن تخاطبه إعراضا وشكا فيما دعوته إليه أو جحدا وإنكارا فجادلهم بالتي هي أحسن واعلم بأن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله فيجازيه على عمله، ولا شيء عليك أيها الداعي، فإن تحرجت المسألة وانتهت إلى جدال بالعنف والشدة والقتال على أنهم هم البادئون لا أنتم أيها المسلمون، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم على الأذى في أول الأمر لهو خير للصابرين.
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن من أختها عملا بقوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت ٣٤].
وأهل الكتاب منهم المعتدلون في آرائهم ومعتقداتهم البعيدون عن الشرك وإثبات الولد والتثليث، وهؤلاء يؤمنون بالله وبكتابهم ونبيهم وباليوم الآخر فليس بيننا وبينهم إلا الإيمان بمحمد مع عيسى أو موسى، وأظن أن هؤلاء بعد توفيق الله لهم وشرح صدورهم للإسلام لا يحتاجون إلا إلى نقاش بسيط وجدال بالتي هي أحسن.
نعم إذا سلك أهل الكتاب طريقا معوجا بأن نقضوا العهود. وألّبوا الناس ضد الإسلام، ووقفوا في سبيل نشر دعوته بالقوة، ومنعوا دعاته بالعنف والشدة فلم يسلكوا في رد الإسلام الحجة والبرهان بل سلكوا سبيل القوة والبطش، أليس هؤلاء قد ظلموا وتجاوزوا الحد المعقول؟ أمن العدل والكرامة أن يقف الإسلام منهم موقف الخزي والذل، ويطأطئ رأسه احتراما لظلمهم وعنفهم؟ كلا وألف كلا! فلن يقف الإسلام موقف المتفرج ممن يهدم بيته ويقض مضجعه- ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ورجاله يبغون إحدى الحسنين- بل يقابل الشدة بمثلها ويمنع الظلم بالقتال.
وانظر إلى تأديب القرآن وإرشاده لنا بأن نقول عند الجدال بالحسنى: نحن يا أهل الكتاب آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وآمنا بأنبيائكم ورسلكم فنحن قوم لم نفرق بين نبي ونبي، ولم نؤمن ببعض الكتب دون بعض، على أن الكل يؤمن بالله الأحد الفرد الصمد، ونحن له مسلمون ومنقادون فما المانع أن تكونوا كذلك؟ وتؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم على أنه خاتم الأنبياء، ورسالته ناسخة لكل الرسالات، فالدستور الجديد ينسخ العمل بالقديم. وقد بشر بالقرآن وبمحمد في كتبكم، ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه على موسى وعيسى أنزلنا إليك يا محمد الكتاب. أى: القرآن، فليس من العدل أن نؤمن ببعض الكتب ونكفر ببعض، فالذين آتيناهم الكتاب كموسى وعيسى وداود يؤمنون بالنبي محمد وبكتابه بل وبشروا به وأمروكم بتصديقه إذا ظهر بعلاماته المعروفة عندهم.
ومن هؤلاء، أى: أهل الكتاب المعاصرين من يؤمن به ويصدق لأنه آثر الباقية على الفانية، ولم تغره الدنيا بزخارفها كأمثال عبد الله بن سلام، وتميم الأنصارى وغيرهم كثير.
وما يجحد بآياتنا الظاهرة التي تدل على صدق رسولنا محمد إلا الكافرون، وأنتم
وها كم دليلا آخر على صدق محمد في رسالته، ولعله أوضح مما مضى: يا أهل الكتاب ويا أتباع الأنبياء وأصحاب الكتاب. هذا النبي العربي وصفه عندكم أنه أمى، ما كان يتلو كتابا، ولا يخط بيمينه حرفا، ولم يجلس إلى معلم، ولم يستمع إلى مدرس ومع هذا فقد أتى بالقرآن المعجز في أسلوبه وعلومه، وقصصه وأحكامه وتشريعه، أليس في هذا دليل على صدقه؟! على أنه إذا كان قارئا عالما ثم أتى بهذا القرآن المحكم، ذلك الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما كان يصح أن يرتاب في صدقه إلا المبطلون، فإن جميع علماء الأرض لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ومعينا، فكيف يرتاب إنسان في أن هذا القرآن نزل من عند الله على محمد، وهو المعجزة الشاهدة على صدقه إلى الأبد، ولا يشك في هذا إلا رجل غير محق في رأيه، بل هو آيات بينات واضحات في صدور الذين أوتوا العلم والمعرفة، ولذا ورد.. «هذه الامّة أناجيلهم في صدورهم» وبعد هذا ما يجحد بآيات ربك إلا الظالمون الذين يعرفون الحق ثم ينأون عنه حسدا من عند أنفسهم وبغيا.
وأنتم يا أهل الكتاب إذا جحدتم هذه الآية، وكفرتم بتلك الرسالة المحمدية لزمكم إنكار الرسل والكفر بالكتب كلها. وكنتم ملحقين بالمشركين الظالمين، وما يجحد بآياتنا بعد ذلك إلا الظالمون.
ذكر بعض الشبه والرد عليها [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٥]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤)
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)
شَهِيداً: يشهد بصدق. أَجَلٌ مُسَمًّى: معلوم محدد بَغْتَةً: فجأة يَغْشاهُمُ: يصيبهم.
المعنى:
وقالوا: لولا أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم آيات من ربه، تكون دليلا على صدقه، ومعجزة بينة له تثبت أنه رسول من عند الله، وكأنهم لم يكتفوا بالقرآن على أنه معجزة مع أنه أكبر شاهد على صدق الرسول كما مضى من قبل.
ومن الذي قال ذلك؟ أهم مشركو مكة أم أهل الكتاب؟ قال بعض العلماء: إنهم المشركون! وقال بعضهم: هم أهل الكتاب لأن الكلام معهم والرد عليهم.
وقد رد الله على من يطلب آية فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إنما الآيات التي تطلبونها عند الله وليس عندي شيء منها، إنما وظيفتي الإنذار فقط، ومن شاء فليؤمن
أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم، وقد تحداهم ربك أن يأتوا بمثله أو بسورة منه وأن يتعاونوا في ذلك مجتمعين مع شهدائهم وأوليائهم فعجزوا عن هذا مع التحدي الشديد اللهجة، وهم قوم عرب يؤلمهم جدا أن يهزموا، أفلا يكفيهم هذا معجزة؟ ولو أتاهم ربك بآيات كآيات موسى وعيسى لقالوا: سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون!! على أنهم قوم عرب نبغوا في صناعة البلاغة والبيان فيكونون أقدر الناس على فهم حقيقة الإعجاز فيه، كسحرة فرعون بالنسبة إلى عصا موسى. لا يا قوم! إن في ذلك الكتاب لرحمة، وأى رحمة أكثر من هذا؟ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً وإنه لذكرى وأى ذكرى؟
فهو الباقي، وكل آية مادية تفنى، وهل يكون غيره دليلا على صدق رسالة باقية إلى الأبد؟ فهو الآية المستمرة الباقية على مر الدهور والسنين بخلاف ناقة صالح، وعصا موسى، وإبراء الأكمه من عيسى- عليهم جميعا الصلاة والسلام- نعم هو الكتاب الذي يتلى، وهو الآية التي لا تنقضي عجائبها، ولا تخلق جدتها، بل كلما تقدم الزمن وتقدم العلم ظهرت أسرار الشريعة، وحقائق القرآن واضحة جلية سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.. [سورة فصلت آية ٥٣].
هو رحمة وذكرى وعظة وعبرة ولكن لقوم يؤمنون.
قل لهم يا محمد: كفى الله شهيدا، وكفاه بيني وبينكم حكما مقسطا يشهد بصدقى وهو العليم الخبير بخلقه، ويعلم ما في السموات والأرض، وأنا أدّعى أنى رسوله فلو كنت كاذبا لقطع منّى الوتين، ولخسف بي وبداري الأرض، وكنت من المهلكين، وكيف يكون ذلك. وهو يرعاني ويكلؤنى بعين لا تنام، ويحرسنى بيد لا ترام!! والذين آمنوا بالباطل، وصدقوا بالتّرهات والأراجيف، والذين كفروا بالله، أولئك جميعا هم الخاسرون، أما الأولون فهم أهل الكتاب الذين لم يتبعوا الحق، وأما الآخرون فهم المشركون الضالون.
يا عجبا لهم يستعجلونك بالعذاب، وإن جهنم لمحيطة بهم، يوم يغشاهم العذاب من كل جانب، ويصب عليهم من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، وما عهدوا نارا تأتى من فوق ومن أسفل، ولكنها نار وقودها الناس والحجارة. ثم يقال لهم- تأنيبا وتوبيخا- ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون.
توجيهات إلهية للمسلمين [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٥ الى ٦٤]
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم غُرَفاً الغرف: جمع غرفة، وهي الحجرة وَكَأَيِّنْ أى: كم بمعنى كثير من الدواب سَخَّرَ: ذلل دَابَّةٍ: كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان يقال له دابة يُؤْفَكُونَ يصرفون يَقْدِرُ لَهُ يضيق عليه، أى: يقتر عليه رزقه لَهْوٌ اللهو: الاشتغال بما لا يعنى وما لا ينفع عن النافع المفيد، وفي المصباح: اللهو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة، واللعب: هو العبث الْحَيَوانُ: الحياة الدائمة الخالدة الجديرة باسم الحياة.
المعنى:
بعد ما وفي الحق- تبارك وتعالى- الكلام على المشركين وأهل الكتاب أخذ يوجه نصائح للمسلمين، وهم في أشد الحاجة إليها، وخاصة حينما جاهروا بالدعوة واشتد إيذاء الكفار لهم في مكة، وهذه التوجيهات تهدف إلى خلق المؤمن الكامل الذي يبيع نفسه وماله ووطنه في سبيل إعلاء كلمة الله.
يا عبادي الذين آمنوا بالله ورسوله إن أرضى واسعة فهاجروا فيها وفروا بدينكم من عنت المشركين أعداء الله وأعدائكم، يا عبادي إن ضاق بكم موضع فإياى فتوجهوا لأن أرضى واسعة. وهذا تحبيب للمسلمين في الهجرة مع رسول الله، وكانت واجبة قبل فتح مكة ثم بعدها لا هجرة، وإنما المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
وها هي ذي المرغبات في الجهاد والهجرة في سبيل الله يسوقها الله فيقول:
كل نفس مهما كانت لا بد أن تذوق الموت، وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تجعل الخوف من الموت سببا في الخضوع والذلة، والمكث في دار الكفر حبا في الدنيا مع أنك مفارقها حتما وميت حتما، وإلى الله وحده ترجع الأمور كلها، فمن العقل أن تعمل لذلك اللقاء، وتدخر ليوم الحساب ما تقدم من صالح الأعمال.
وها هم أولاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة أماكن عالية ولننزلنهم فيها غرفا تجرى من تحتها الأنهار، وخالدين فيها وذلك جزاء المحسنين، ونعم أجر العاملين أجرهم. وهم الذين صبروا على الأذى ما دام المصير خيرا للدين والدعوة، وعلى ربهم يتوكلون إن سافروا وهاجروا في سبيل الله أو قاموا بعمل نافع.
وإذا كان الأمر كله بيد الله، وهو الرزاق ذو القوة المتين، فاعلم أنه يرزق من ليس له حيلة حتى يعجب صاحب الحيلة، ويرزق الطير يغدو خماصا ويروح بطانا نعم كم من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها من حيث لا تعلم، ويرزقكم يا أيها المهاجرون وإن لم يكن معكم زاد ولا نفقة، وهو السميع لكل قول، العليم بكل فعل، وهذا غرس لمبدأ التوكل على الله، وقد كان ذلك كذلك فقد هاجر المسلمون إلى المدينة ثم فتح الله لهم الدنيا.
ومن الغريب لئن سألتهم من خلق السموات والأرض، وما فيهما من عوالم لا يعلمها إلا خالقها؟ ومن سخر الشمس والقمر تسخيرا يحير العقول في إدراك سره ونظامه؟، فتسخير الشمس والقمر بهذا الوضع الذي ينشأ منه الليل والنهار، والفصول السنوية من صيف وشتاء وربيع وخريف أدل على كمال القدرة وتمام العلم وحسن النظام من نفس خلق الشمس والقمر، ولعل هذا هو السر في تعبير القرآن بسخر، ولئن سألتهم عن هذا ليقولن الله فكيف تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك؟! كيف تقرون بأن الله خالق
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به موات الأرض، وعطاش الحيوان؟
ليقولن الله! عجبا لهم فكيف يشركون معه غيره؟! قل لهم: الحمد لله قد لزمتكم الحجة، وقد أقررتم بذلك. والحمد لله على ما أنزل من مطر أحيا به الأرض بعد موتها، الحمد لله على كل حال.
بل أكثرهم لا يعقلون إدراك هذه الأسرار.
وما هذه الحياة الدنيا التي يتكالب عليها الناس إلا لهو ولعب، فهي في حقارتها وسرعة زوالها وانقضائها، وأنه لا خير فيها ولا دوام لها كاللهو واللعب، وإن الدار الآخرة لهى الحياة الدائمة، الحياة الكاملة التي لا زوال فيها ولا انقضاء، لو كانوا يعلمون ما يبقى على ما يفنى، وفي هذا أيضا تنفير من الدنيا وتحبيب في العمل الصالح.
وتربية سليمة لخلق المؤمن الكامل صاحب المثل العليا الذي يستحق من الله وصفه بالعبودية له.
بيان حال الكفار في الشدة والرخاء [سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
الْفُلْكِ: السفينة في البحر مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: صادقين في نياتهم حَرَماً آمِناً: حرما ذا أمن وطمأنينة مَثْوىً: مأوى ومستقر يُتَخَطَّفُ الخطف: الأخذ بسرعة، والمراد: يقتل بعضهم بعضا بسرعة ويسبى بعضهم بعضا أَظْلَمُ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
المعنى:
هذه الحياة الدنيا التي هي لهو ولعب هي السبب في كفر هؤلاء وشركهم وذلك أنه إذا انقطع رجاؤهم من الدنيا بسبب من الأسباب كأن ركبوا في الفلك واضطرب البحر وعصفت الريح، وتيقنوا الغرق، إذا حصل هذا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد، ودعوا الله مخلصين له النية، صادقين بحسب الظاهر في الدعاء، وفي الحقيقة قلوبهم مشحونة بالشرك بدليل أنه إذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ.
وكانت العاقبة أنهم كفروا بالله، وبما آتاهم من نعمه، وبما حباهم من فضل، لتكون عاقبتهم أيضا أنهم يتمتعون في الدنيا متاعا هم مهددون فيه بالفقر والمرض والموت، وفي الآخرة سوف يعلمون عاقبة ذلك كله لأنهم سيجازون الجزاء الأوفى على أعمالهم.
عجبا لهؤلاء! يدعون الله مخلصين له الدين إذا كانوا في حال شديدة من الخوف والاضطراب، وعندئذ يضلون عن الأصنام والأوثان، فإذا أمنوا على أنفسهم وزال
أعموا ولم يعلموا أن صاحب الفضل في الشدائد الذي أنجاهم من المخاوف هو الله الذي حباهم بالنعمة، وأسكنهم الحرم الأمين؟ عجبا لهم! أبالباطل وما لا خير فيه بل ما فيه الضرر يؤمنون، وبنعمة الله وفضله يكفرون؟! ولما بين الله- سبحانه- الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة، والطريق المعوج الموصل إلى النار، وحذر الناس من اتباعه، وحثهم على سلوك طريق الحق والنور، لما بين الله هذا وذاك أمر نبيه أن يقول للناس: لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب.
وها أنذا أدعى أنى رسول الله وأن ما أنزل على هو كتاب الله، وبعضكم كذبني، ولا يخلو الحال من أمرين لا ثالث لهما: إما أننى كاذب في دعواي وقد افتريت على الله الكذب، وإما أنكم قد كذبتم بالحق لما جاءكم من عنده، لكنني معترف بالحساب والجزاء لمن كذب على الله فلا يعقل أن أقدم على ذلك إذا في القرآن الذي نزل على أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ والمتنبي الكاذب كافر بلا شك.
وأما أنتم فقد كذبتموني وكفرتم بالله وباليوم الآخر، وفي جهنم مثوى القوم الكافرين أمثالكم.
وأما أنتم أيها المؤمنون فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، فإن الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وبأنفسهم أو بما قدروا عليه فالله هاديهم وموفقهم، وحافظهم وراعيهم، وهو معهم، وناهيك بالمعية القدسية، والقرب من الحضرة العلية، وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده، وربك ذو فضل عظيم.