تفسير سورة العنكبوت

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة العنكبوت
مكية إلا من آية ١إلى غاية ١١ فمدنية وآياتها ٦٩ نزلت بعد الروم.

سورة العنكبوت
مكية إلا من آية ١ إلى غاية ١١ فمدنية وآياتها ٦٩ نزلت بعد الروم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة العنكبوت) الم ذكر في البقرة أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا نزلت في قوم من المؤمنين، كانوا بمكة مستضعفين منهم عمار بن ياسر وغيره، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، فضاقت صدورهم بذلك. فآنسهم الله بهذه الآية، ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار، ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى، والثبوت على الإيمان، فأعلمهم الله تعالى أن تلك سيرته في عباده، يسلط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب، ولفظها مع ذلك عام، فحكمها على العموم في كل من أصابته فتنة، من مصيبة أو مضرة في النفس والمال وغير ذلك، ومعنى حسب ظنّ، وأن يتركوا مفعولها، والهمزة للإنكار، وهم لا يفتنون في موضع الحال من الضمير في يتركوا تقديره غير مفتونين، وأن يقولوا: تعليل في موضع المفعول من أجله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي يعلم صدقهم علما ظاهرا في الوجود، وقد كان علمه في الأزل والصدق والكذب في الآية يعني بهما صحة الإيمان والثبوت عليه، أو ضدّ ذلك.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أم معادلة لقوله: أحسب الناس، والمراد بالذين يعملون السيئات الكفار، الذين يعذبون المؤمنين، ولفظها مع ذلك عام في كل كافر أو عاص، ومعنى يسبقونا: يفوتون من عقابنا ويعجزوننا، فمعنى الكلام نفي سبقهم. كما أن معنى الآية قبلها، نفي ترك المؤمنين بغير فتنة مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ الآية: تسلية المؤمنين، ووعد لهم بالخير في الدار الآخرة، والرجاء هنا على بابه، وقيل:
هو بمعنى الخوف، وأجل الله هو الموت، ومعنى الآية: من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا، على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله، فيجازيه فإن لقاء الله قريب الإتيان، وكل ما هو آت قريب
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي منفعة جهاده فإنما هي لنفسه،
فإن الله لا تنفعه طاعة العباد، والجهاد هنا يحتمل أن يراد به القتال، أو جهاد النفس حُسْناً منصوب بفعل مضمر تقديره: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسنا، أو مصدرا من معنى وصينا أي وصية حسنة وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وأنه لما أسلم حلفت أمه: أن لا تستظل بظل حتى يكفر، وقيل: نزلت في غيره ممن جرى له مثل ذلك، فأمرهم الله بالثبات على الإسلام، وألا يطيعوا الوالدين إذا أمروهم بالكفر، وعبّر عن أمر الوالدين بالجهاد مبالغة.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم، فإذا عذبهم الكفار رجعوا عن الإيمان، فإذا نصر الله المؤمنين قالوا: إنا كنا معكم، فمعنى أوذي في الله أوذي بسبب إيمانه بالله، وفتنة الناس، تعذيبهم، وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي قال الكفار للمؤمنين: اكفروا كما كفرنا، ونحمل نحن عنكم الإثم والعقاب إن كان، وروي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة حكاه المهدوي، وقولهم: ولنحمل خطاياكم: جزاء قولهم: اتبعوا سبيلنا، ولكنهم ذكروه على وجه الأمر للمبالغة، ولما كان معنى الخبر صحة تكذيبهم فيه أخبره الله أنهم كاذبون: أي لا يحملون أوزار هؤلاء، بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزار أتباعهم من الكفار.
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً الظاهر أنه لبث هذه المدة بعد بعثه، ويحتمل أن يكون ذلك من أول ولادته، وروي أنه بعث وهو ابن أربعين سنة، وأنه عمر بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن قيل: لم قال ألف سنة، ثم قال إلا خمسين عاما؟
فاختلف اللفظ مع اتفاق المعنى؟ فالجواب أن ذلك كراهة لتكرار لفظ السنة، فإن التكرار مكروه إلا إذا قصد به تفخيم أو تهويل وَجَعَلْناها آيَةً يحتمل أن يعود الضمير على السفينة، أو على النجاة، أو على القصة بكمالها
وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً هو من الخلقة يريد به
123
نحت الأصنام فسماه خلقة على وجه التجوّز، وقيل هو من اختلاق الكذب لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً الآية: احتجاج على الوحدانية ونفي الشركاء، فإن قيل: لم نكّر الرزق أولا، ثم عرّفه في قوله: فابتغوا عند الله الرزق؟ فالجواب: أنه نكره في قوله: لا يملكون لكم رزقا لقصد العموم في النفي، فإن النكرة في سياق النفي تقتضي العموم. ثم عرّفه بعد ذلك لقصد العموم في طلب الرزق كله من الله، لأنه لا يقتضي العموم، في سياق الإثبات إلا مع التعريف فكأنه قال: ابتغوا الرزق كله عند الله وَإِنْ تُكَذِّبُوا الآية يحتمل أن تكون من كلام إبراهيم أو من كلام الله تعالى، ويحتمل مع ذلك أن يراد به وعيد الكفار وتهديدهم، أو يراد به تسلية النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن تكذيب قومه له، بالتأسي بغيره من الأنبياء، الذين كذبهم قومهم.
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ يقال بدأ الله الخلق وأبدأه بمعنى واحد، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة، والمعنى: أو لم ير الكفار أن الله خلق الخلق فيستدلون بالخلقة الأولى على الإعادة في الحشر، فقوله: ثم يعيده ليس بمعطوف على يبدأ، لأن المعنى فيهما مختلف، لأن رؤية البداءة بالمشاهدة، بخلاف الإعادة فإنها تعلم بالنظر والاستدلال، وإنما هو معطوف على الجملة كلها، وقد قيل: إنه يريد إعادة النبات، وإبدائه، وعلى هذا يكون ثم يعيده عطفا على يبدئ لاتفاق المعنى، والأول أحسن وأليق بمقاصد الكلام إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني إعادة الخلق وهي حشرهم، ثم أمرهم بالسير في الأرض ليروا مخلوقات الله فيستدلوا بها على قدرته على حشرهم، ولذلك ختمها بقوله: إن الله على كل شيء قدير وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي ترجعون وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لا تفوتون من عذاب الله وليس لكم مهرب في الأرض ولا في السماء أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي يحتمل أن يكون يأسهم في الآخرة، أو يكون وصف لحالهم في الدنيا، لأن الكافر يائس من رحمة الله، والمؤمن راج خائف، وهذا الكلام من قوله: أو لم يروا، إلى هنا: يحتمل أن يكون خطابا لمحمد ﷺ معترضا بين قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون
124
خطابا لإبراهيم وبعد ذلك ذكر جواب قومه له
مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ نصب مودة على أنها مفعول من أجله أو مفعول ثان لاتخذتم، ورفعها «١» على أنها خبر ابتداء مضمر أو خبر إن، وتكون ما موصولة ونصب بينكم على الظرفية، وخفضه بالإضافة فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ تضمن آمن معنى انقاد، ولذلك تعدّى باللام وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي القائل لذلك إبراهيم، وقيل: لوط، وهاجرا من بلادهما بأرض بابل إلى الشام وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم، وعلى ذريته أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ قيل أراد قطع الطرق للسلب والقتل، وقيل: أراد قطع سبيل النسل بترك النساء وإتيان الرجال وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ النادي المجلس الذي يجتمع فيه الناس، والمنكر فعلهم بالرجال، وقيل: إذايتهم للناس وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى الرسل هنا الملائكة والبشرى بشارة إبراهيم بالولد وهو قوله: «فبشروه بغلام حليم» أو بشارته بنصر سيدنا لوط، والأول أظهر أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني قرية سيدنا لوط، قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ليس إخبارا بأنه فيها، وإنما قصد نجاة سيدنا لوط من العذاب الذي يصيب أهل القرية، وبراءته من الظلم الذي وصفوه به، فكأنه قال: كيف تهلكون أهل القرية وفيها لوط، وكيف تقولون إنهم ظالمون وفيهم لوط مِنَ الْغابِرِينَ قد ذكر «٢» وكذلك سيء بهم رِجْزاً مِنَ السَّماءِ أي عذابا وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قيل: الرجاء هنا الخوف،
(١). مودة: قرأها بالرفع أبو عمرو والكسائي.
(٢). مر شرح الغابرين في سورة الأعراف: ٨٣. وأيضا سيء في هود: ٧٧.
وقيل: هو على بابه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ يعني نقصهم المكيال والميزان
الرَّجْفَةُ هي الصيحة وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي آثار مساكنهم باقية تدل على ما أصابهم وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ قيل: معناه لهم بصيرة في كفرهم وإعجاب به، وقيل: لهم بصيرة في الإيمان، ولكنهم كفروا عنادا، وقيل: معنى: مستبصرين عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال، ولكنهم لم يفعلوا وَما كانُوا سابِقِينَ أي لم يفوتونا فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً الحاصب الحجارة، والحاصب أيضا الريح الشديدة، ويحتمل عندي أنه أراد به المعنيين، لأن قوم سيدنا لوط أهلكوا بالحجارة، وعاد أهلكوا بالريح، وإن حملناه على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد في معنيين كقوله: «إن الله وملائكته يصلون على النبي» ويقوي ذلك هنا لأن المقصود هنا ذكر عموم أخذ أصناف الكفار وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعني ثمود ومدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعني قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعني قوم نوح وفرعون وقومه مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً شبه الله الكافرين في عبادتهم للأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيفا، فكان ما اعتمدت عليه العنكبوت في بيتها ليس بشيء، فكذلك ما اعتمدت عليه الكفار من آلهتهم ليس بشيء لأنهم لا ينفعون ولا يضرون أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أي أضعفها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ما موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذي قبلها وقيل: هي نافية، والفعل معلق عنها والمعنى على هذا: لستم تدعون من دون الله شيئا له بال، فلا يصلح أن يسمى شيئا بِالْحَقِّ أي بالواجب لا على وجه العبث واللعب.
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ إذا كان المصلي خاشعا في صلاته، متذكرا لعظمة من وقف بين يديه، حمله ذلك على التوبة من الفحشاء والمنكر فكأن الصلاة ناهية عن ذلك وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قيل: فيه ثلاثة معان الأول أن المعنى أن الصلاة أكبر من
غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله، لأن ذكر الله أعظم ما فيها، كأنه أشار بذلك إلى تعليل نهيها عن الفحشاء والمنكر، لأن ذكر الله فيها هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر:
الثاني أن ذكر الله على الدوام أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة، لأنها في بعض الأوقات دون بعض: الثالث أن ذكر الله أكبر أجرا من الصلاة ومن سائر الطاعات، كما ورد في الحديث ألا أنبئكم بخير أعمالكم قالوا: بلى قال: ذكر الله «١»
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي لا تجادلوا كفار أهل الكتاب إذا اختلفتم معهم في الدين إلا بالتي هي أحسن، لا بضرب ولا قتال، وكان هذا قبل أن يفرض الجهاد، ثم نسخ بالسيف، ومعنى إلا الذين ظلموا: أي ظلموكم، وصرحوا بإذاية نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل:
معنى الآية لا تجادلوا من أسلم من أهل الكتاب فيما حدثوكم به من الأخبار إلا بالتي هي أحسن، ومعنى إلا الذين ظلموا على هذا من بقي منهم على كفره، والمعنى الأول أظهر وَقُولُوا آمَنَّا هذا وما بعده يقتضي مواعدة ومسالمة، وهي منسوخة بالسيف، ويقتضي أيضا الأعراض عن مكالمتهم، وفي الحديث: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، فإن كان باطلا لم تصدقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم «٢».
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي كما أنزلنا الكتاب على من قبلك أنزلناه عليك فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني عبد الله بن سلام وأمثاله، ممن أسلم من اليهود والنصارى وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أراد بالذين أوتوا الكتاب أهل التوراة والإنجيل، وأراد بقوله:
من هؤلاء من يؤمن به كفار قريش، وقيل: أراد بالذين أوتوا الكتاب المتقدّمين من أهل التوراة والإنجيل، وأراد بهؤلاء المعاصرين لمحمد ﷺ منهم كعبد الله بن سلام وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ هذا احتجاج على أن القرآن من عند الله، لأن النبي ﷺ كان لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء بالقرآن. فإن قيل: ما فائدة قوله بيمينك؟ فالجواب أن ذلك تأكيد للكلام، وتصوير للمعنى المراد إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت تقرأ أو تكتب لتطرق الشك إلى الكفار، فكانوا يقولون: لعله تعلم هذا الكتاب أو قرأه، وقيل: وجه الاحتجاج أن أهل الكتاب كانوا يجدون في كتبهم أن النبي ﷺ أمي لا يقرأ ولا يكتب، فلما جعله الله
(١). رواه أحمد عن أبي الدرداء ج ٦ ص ٤٤٧.
(٢). الحديث رواه أحمد عن أبي نملة الأنصاري ج ٤ ص ١٣٦ وأوله: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم.
كذلك قامت عليهم الحجة، ولو كان يقرأ أو يكتب لكان مخالفا للصفة التي وصفه الله بها عندهم، والمذهب الصحيح أن رسول الله ﷺ لم يقرأ قط ولا كتب. وقال الباجي وغيره:
أنه كتب لظاهر حديث الحديبية، وهذا القول ضعيف
بَلْ هُوَ آياتٌ الضمير للقرآن، والإضراب ببل عن كلام محذوف تقديره: ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ المعنى كيف يطلبون آية والقرآن أعظم الآيات، وأوضحها دلالة على صحة النبوة، فهلا اكتفوا به عن طلب الآيات قُلْ كَفى بِاللَّهِ ذكر معناه في [الرعد: ٤٣] وفي الأنعام «١» وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الضمير للكفار يعني قولهم: ائتنا بما تعدنا، وقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء وشبه ذلك وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى أي لولا أن الله قدّر لعذابهم أجلا مسمى لجاءهم به حين طلبوه وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً يحتمل أن يريد القتل الذي أصابهم يوم بدر، أو الجوع الذي أصابهم بهم بتوالي القحط، أو يريد عذاب الآخرة، وهذا أظهر لقوله: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ أي يحيط بهم، والعامل في الظرف محذوف، أو محيطة إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
تحريض على الهجرة من مكة، إذ كان المؤمنون يلقون فيها أذى الكفار، وترغيبا في غيرها من أرض الله، فحينئذ هاجروا إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي ننزلنهم وقرأ حمزة والكسائي: نثوينهم بالثاء المثلثة من الثوى وهو الإقامة في المنزل وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي: كم من دابة ضعيفة لا تقدر على حمل رزقها، ولكن الله يرزقها مع ضعفها، والقصد بالآية: تقوية لقلوب المؤمنين، إذ خافوا الفقر والجوع في الهجرة إلى بلاد الناس: أي كما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا
(١). لم أعشر عليها فب الأنعام، وربما كان هناك خطأ في اسم السورة لأنه ذكرها بعد الرعد ولعل الصواب: الإسراء: ٩٦.
هاجرتم من بلدكم
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ في الموضعين: إقامة حجة عليهم فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ حمدا لله على ظهور الحجة، ويكون المعنى إلزامهم أن يحمدوا الله لما اعترفوا أنه خلق السموات والأرض بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إضراب عن كلام محذوف تقديره: يجب عليهم أن يعبدوا الله لما اعترفوا به ولكنهم لا يعقلون لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة الدائمة التي لا موت فيها، ولفظ الحيوان مصدر كالحياة فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ الآية: إقامة حجة عليهم بدعائهم حين الشدائد، ثم يشركون به في حال الرخاء.
لِيَكْفُرُوا «١» أمر على وجه التهديد، أو على وجه الخذلان والتخلية، كما تقول لمن تنصحه فلا يقبل نصحك: اعمل ما شئت أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً الضمير لكفار قريش، والحرم الآمن: مكة، لأنها كانت لا تغير عليها العرب كما تغير على سائر البلاد، ولا ينتهك أحد حرمتها وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ عبارة عما يصيب غير أهل مكة من القتال أو أخذ الأموال وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا يعني: جهاد النفس من الصبر على إذاية الكفار واحتمال الخروج عن الأوطان وغير ذلك، وقيل: يعني القتال، وذلك ضعيف لأن القتال لم يكن مأمورا به حين نزول الآية لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي لنوفقنهم لسبيل الخير وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ المعنى أنه معهم بإعانته ونصره.
(١). اللام في ليكفروا: قرأها ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون قرءوها بالسكون أي جعلوها لام الأمر.
وكذلك قوله: وليتمتعوا. وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر بكسر اللام فب الكلمتين، وجعلوها لام كي. وقد رجح الطبري القراءة الأولى من باب التهديد والوعيد.
Icon