تفسير سورة الصف

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الصف من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (فاللام مزيدة) أي للتأكيد، وقيل للتعليل، أي سبحوا لأجل الله ابتغاء وجهه، لا طلباً لثواب، ولا خوفاً من عقاب، وهذا أعلى مراتب العمل، وقد تقدم نظير ذلك، وأعاد ما الموصولة في قوله: ﴿ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ هنا، وفي الحشر والجمعة والتغابن لأنه الأصل، وتركه في الحديد مشاكلة لقوله فيها بعد﴿ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الحديد: ٢] وقوله:﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾[الحديد: ٤].
قوله: ﴿ لِمَ تَقُولُونَ ﴾ استفهام إنكاري، جيء به للتوبيخ لمن يدعي ما ليس فيه، فإن وقع ذلك إخباراً عن أمر في الماضي فهو كذب، وإن وقع في المستقبل يكون خلفاً للوعد، وكلاهما مذموم، ولام الجر داخلة على ما الاستفهامية، وحذفت ألفها، لذلك قال ابن مالك: وما في الاستفهام إن جرت حذف   ألفها وأولها الها إن تقفقوله: (في طلب الجهاد) سبب نزول هذه الآية: أنه لما سمع أصحاب رسول الله، مدح الجهاد ومدح أهل بدر، قالوا: لئن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد، فنزلت هذه الآية توبيخاً لهم، وهذا خارج مخرج التخويف والزجر، وقيل: نزلت في المنافقين، كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم، خرجنا معكم وقاتلنا، فلما خرج النبي وأصحابه، نكصوا على عقبهم وتخلفوا، وحينئذ فتسميتهم مؤمنين بحسب الظاهر، والذم على حقيقته. قوله: (إذا انهزمتم بأحد) تعليل لقوله: ﴿ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾.
قوله: (تمييز) أي محمول عن الفاعل، والأصل كبر مقت قولهم، والمقت أشد البغض، وهو من أمثلة التعجب في مقام الذم. قوله: (ينصر ويكرم) هذا معنى المحبة في حق الله لأن حقيقتها وهو ميل القلب مستحيل على الله، ومن لازم الميل الإكرام والنصر، فأطلق على الله باعتبار هذا الكلام. قوله: (حال) أي من الواو في ﴿ يُقَاتِلُونَ ﴾ وقوله: (أي صافين) فسره بمشتق لصحة الحالية، ومفعوله محذوف أي أنفسهم. قوله: (ملزق بعضه إلى بعض) أي كأنه بني بالرصاص، أو معنى المرصوص: الملتئم الأجزاء، المستويها، المحكمها، ومن كان كذلك لا يهزم ولا يقام. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ ﴾ ذكر قصة موسى وعيسى اجمالاً، تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، ليصبر على أذى قومه، وتذكيراً لتفاصيلها المتقدمة، وابتدأ بقصة موسى لاسبقيته في الزمن. قوله: (قالوا إنه آدر) وسبب تهمتهم له بذلك، ستره للعورة من صغره فلم يروه فعيبوه بذلك، وتقدم ذلك عن قوله تعالى﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ ﴾[الأحزاب: ٦٩] الآية. قوله: (وكذبوه) معطوف على (قالوا) أي عيبوه في جسمعه، وأنكروا ما جاء به وكذبوه. قوله: ﴿ وَقَد ﴾ (للتحقيق) أي تحقق علمهم برسالته، وذلك يوجب تعظيمه ويمنع ايذاءه. قوله: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ مقتضى هذا التركيب، أن زيغهم لازاغة الله قلوبهم، مع أن الأمر بالعكس، لأن العبد لا يزيغ، إلا إن أزاغه الله وصرفه عن الهدى. وأجيب: أنهم لما فعلوا سبب الزيغ، وهو إيذاء موسى، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وقت إيذائهم، على وفق ما أراده أزلاً، وقد أشار لذلك المفسر، ويشهد لذلك قضية إبليس، فإنه كانت مطيعاً، فلما خالف مولاه وعاند زاغ، فأزاغ الله قلبه وطرده، موافقة لما نجزه بإرادته أزلاً، فزيغ العبد سبب لازاغة الله له، باعتبار إظهاره القدرة لذلك الآن، على وفق ما أراده الله ونجزه أزلاً فليحفظ. قوله: (الكافرين في علمه) هذا جواب عما يقال: إن الله هدى كثيراً من الكفار بأن وفقهم للإسلام. وحاصل الجواب: أن من أسلم وهداه الله، لم يكن في الأزل مكتوباً كافراً، وأما من علم الله كفره في الأزل يهديه، ولا بد من موته على الكفر، ولو عاش طول عمره مسلماً.
قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ﴾ معمول لمحذوف تقديره (اذكر) وإنما كررت قصة موسى وعيسى، بل وقصة غيرهما، لأن المقصود الاتعاظ ودوامه، فإذا ذكر الشيء أولاً وثانياً، كان المقصود منه دوام تذكره والاعتبار به، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل. قوله: (لأنه لم يكن له فيهم قرابة) أي لأنه لا أب له فيهم، وإن كانت أمه من أشرافهم. إن قلت: هو منهم باعتبار أمه، قلت: النسب إنما هو من جهة الأب. قوله: ﴿ مُّصَدِّقاً ﴾ حال من الضمير المستتر في رسول لتأويله بمرسل، وكذا قوله: ﴿ وَمُبَشِّراً ﴾.
قوله: ﴿ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ ﴾ خصها لأنها أشهر الكتب عندهم. قوله: ﴿ يَأْتِي مِن بَعْدِي ﴾ الجملة صفة لرسول، وكذا قوله: ﴿ ٱسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ والياء في ﴿ بَعْدِي ﴾، إما مفتوحة أو ساكنة، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ ٱسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ يحتمل أن يكون أفعل تفضيل من المبني للفاعل، والمعنى أكثر حامدية لله تعالى من غيره، ويحتمل أن يكون من المبني للمفعول، أي أكثر محمودية من غيره، أي كون الخلق يحمدونه أكثر، من كونهم يحمدون غيره وخص أحمد بالذكر دون محمد، مع أنه أشرف أسمائه صلى الله عليه وسلم لوجوه، الأول: كونه مذكوراً في الانجيل بهذا الاسم. الثاني: كونه مسمى في السماء به، الثالث: لأن حمده لله، سابق على حمد الخلق له في الدنيا ويوم القيامة، فحمده قبل شفاعته لأمته، وحمد الخلق له بعدها، وقال بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم له أربعة آلاف اسم، منها نحو سبعين من أسمائه تعالى، كرؤوف ورحيم. قوله: (جاء أحمد للكفار) هذا أحد قولين للمفسرين في مرجع الضمير في جاءهم، والثاني أنه عائد على عيسى. قوله: (أي المجيء به) اسم مفعول من جاء، وأصله مجيوء بوزن مضروب، نقلت ضمة الياء للساكن قبلها وهو الجيم، فالتقى ساكنان الواو والياء، فحذفت الواو وكسرت الجيم. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: (ووصف آياته) بالجر عطف على نسبة. قوله: ﴿ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ ﴾ الجملة حالية، أي يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين، فيجعل ما كان إجابته افتراء الكذب على الله. قوله: (منصوب بأن مقدرة واللام مزيدة) أي في مفعول ﴿ يُرِيدُونَ ﴾ للتوكيد، ويصح أن تكون للتعليل، والمفعول محذوف، والتقدير يريدون إبطال القرآن ليطفئوا، وهناك طريقة لبعض النحويين، أن اللام بمعنى أن الناصبة، فيكون الفعل منصوباً بها، قوله: (شرعه وبراهنيه) هذا أحد أقوال في تفسير النور، وقيل هو القرآن، وقيل الإسلام، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل إنه مثل مضروب بمن أراد إطفاء الشمس بفيه، فكما أنه لا يفيد ذلك من أراد إبطال الحق فلا يفيده، وفي الكلام استعارة تبعية، حيث شبه الأبطال بالأطفاء، واستعار اسم المشبه به للمشبه، اشتق من الاطفاء بمعنى يبطلون، وسبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، واتصل الوحي بعدها. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ يُرِيدُونَ ﴾ وقوله: (مظهر) ﴿ نُورِهِ ﴾ هذا جواب عما يقال: إن الاتمام لا يكون إلا بعد النقصان، فأجاب: بأن المراد بالاتمام، إظهاره في المشارق والمغارب، قوله: (وفي قراءة بالإضافة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ ﴾ بدل من قوله: ﴿ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ﴾.
قوله: ﴿ بِٱلْهُدَىٰ ﴾ أي البيان الشافي، والمراد به القرآن والمعجزات الظاهرة. قوله: ﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴾ إنما عبر أولاً بالكافرون، وثانياً بالمشركون، لأن الرسول في ابتداء أمره، يأتي بالتوحيد ويأمره به، فيخالفه المشركون، فإذا ظهر أمره واشتهر، حسده جميع الكفار، وأرادوا ابطال ما جاء به من المعجزات والبراهين، فعير في كل بما يناسبه.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ ﴾ الخ، سبب نزول هذه الآية، قول الصحابة لرسول الله: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به، وقيل:" نزلت في عثمان بن مظعون، وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أذنت لي فطلقت خولة وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ولا أنام الليل أبداً، ولا أفطر النهار أبداً، فقال: صلى الله عليه وسلم: " إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام، وإنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم، فمن رغب عن سنتي فليسي مني " فقال عثمان: وددت يا نبي الله أن أعلم إي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها؟ فنزلت "والاستفهام إخبار في المعنى، وذكر بلفظ الاستفهام تشويقاً، لكونه أوقع في النفس، وتسمية الجهاد تجارة لقوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾[التوبة: ١١١] الآية. قوله: (بالتخفيف والتشديد) سبعيتان. قوله: ﴿ تُؤْمِنُونَ ﴾ في محل رفع خبر مبتدأ مقدر، أي وهي تؤمنون، أو جملة مستأنفة لا محل لها من الاعراب، واقعة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما هي؟ فأجاب بما ذكر. قوله: ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ أي المذكور من الايمان والجهاد. قوله: ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي من كل شيء. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أشار المفسر إلى أن الجواب مقدر، وإلى أن ﴿ تَعْلَمُونَ ﴾ متعد حذف مفعوله. قوله: ﴿ مِن تَحْتِهَا ﴾ أي من تحت أشجارها وغرفها. قوله: ﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ﴾ الخ، روي عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن قوله تعالى: ﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ﴾ فقال: على الخبير سقطت، سألت رسول الله صلى عليه وسلم عنها فقال:" قصر من لؤلؤة في الجنة، في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، وفي كل بيت سبعون سريراً، في كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً أو وصفية، فيعطي الله المؤمن من القوة في غداة واحدة، ما يأتي على ذلك كله ". قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ ذلك أي المذكور من غفران الذنوب وادخال الجنان.
قوله: (ويؤتكم نعمة) ﴿ أُخْرَىٰ ﴾ أشار المفسر بتقدير هذا العامل إلى أن ﴿ أُخْرَىٰ ﴾ صفة لمحذوف مفعول لفعل مقدر، وهذا المقدر معطوف على المذكور قبله، والمراد يؤتكم في الدنيا، فهو إخبار عن نعمة الدنيا، بعد الاخبار علكى نعمة الآخرة. قوله: ﴿ نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ ﴾ خبر مبتدأ مضمر، أي تلك النعمة الأخرى ﴿ نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ ﴾، وقوله: ﴿ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ أي معجل، وهو فتح مكة، أو فارس والروم ﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ معطوف على محذوف أي قل﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ ﴾[الصف: ١٠] الخ.
﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ والمعنى: أخبر عامة المؤمنين، بأن هذا الفضل العظيم عام، لكل من اتصف بما تقدم من الايمان وما بعده. قوله: (وفي قراءة بالاضافة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (كما كان الحواريون كذلك) أي أنصار الله، والمعنى: كونوا أنصار الله معي، كما كان الحواريون أنصار الله لما سألهم عيسى بقوله: ﴿ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ ﴾؟ قوله: ﴿ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ﴾ من إضافة الوصف إلى مفعوله، أي نحن الذين ننصر الله، أي ننصر دينه كما تقدم. قوله: (وقيل كانوا قصارين) فعلى هذا الحوار قائم بالثياب، وعلى الأول قائم بذواتهم. قوله: ﴿ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ ﴾ مرتبط بمحذوف تقديره: فلما رفع عيسى إلى السماء، افترق الناس فيه فرقتين ﴿ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ ﴾ الخ، وروي عن ابن عباس: لما رفع عيسى تفرق قومه ثلاث فرق، فرقة قالت: كان الله فارتفع، وفرقة قالت: كان ابن الله فرفعه إليه، وفرقة قالت: كان عبد الله ورسوله فرفعه، وهم المؤمنون، واتبع كل فرقة طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرتين، فلذلك قوله تعالى: ﴿ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية. قوله: (فاقتتلت الطائفتان) أي وظهرت الكافرة، حتى بعث الله محمداً، ظهرت المؤمنة على الكافرة. روى المغيرة عن ابراهيم قال: وأصبحت حجة من آمن بعيسى عليه السلام ظاهرة، بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام كلمة الله وعبده ورسوله.
Icon