تفسير سورة القارعة

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ)
[الْقَارِعَةُ (١) *]
أورد ابن عرفة أن المبتدأ لابد أن يكون معلوما، والخبر مجهولا، فإن [كانت*] القارعة خبرا في الجملة الثانية بطل كونه مبتدأ في الأولى، وأجيب بوجهين: إما أنه فيهما مبتدأ [وخبره*] في الثانية (ما) فهو معلوم، وإما بأن ما تعملونه من حيث كونها قارعة بمعنى أنها تقرع الأسماع ومجهولة من حيث ما يشاء من قروعها من الخير [والشر*] وتفريق أجزاء [الجسم*]، وغير ذلك، قلت: وضعف بعض الأول بأن سيبويه نص أن الاستفهام هو المبتدأ، مثل: من زيد الآتي؟، مثل: كيف زيد؟؛ لأجل أن كيف ظرف، قال: ولا يصح تضعيفه بأن يقال: إنه وخبره خبر عن الأول، وانظر لما تقدم في الواقعة.
قال أبو حيان: وقرأ عيسى بنصبهما على إضمار اذكروا القارعة، فـ (ما) زائدة للتوكيد، والقارعة توكيد لفظي للأول، ابن عرفة: الصواب أن (ما) نافية فيه، والفاعل فيه فعل، أي ما يعلم القارعة والأصل عدم الزيادة.
قوله تعالى: [(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ... (٤) *]
ابن عطية: [يَوْمَ*]: ظرف العامل فيه القارعة، واعترضه أبو حيان بأنه إن أراد لفظ القارعة الأول وهو في صفة الألف واللام، فيلزم الفصل بين الصلة والموصول بآخر بأجنبي وأيضا فقد قيل: القارعة علم، وعلى هذا فلا [يعمل*] في الظرف وإن أراد الثاني فلا يعطيه المعنى، وأجاب ابن عرفة: عن كون القارعة علما، فلا يعلم أن الجوامد قد تعمل في الظروف نحو: أنا ابن مارية أنا [... ]، وقال الزمخشري: [الظرف نصب بمضمر*] بمعني دلت عليه القارعة أي يقرع يوم، وقيل: العامل مقدر أي اذكر يوم، ويكون العامل [مقدرا*] أي اذكر، قال ابن عرفة: فعلى هذا يكون عاملا فيه عمل الفعل في المفعول به، وعلى الأولين يعمل فيه عمل الفعل في الظرف، قلت: لأن الذكر لَا يكون في ذلك اليوم، وإنما يذكر اليوم نفسه.
ونقل عن المفسر المشرقي أن (ما) في القارعة صفة للقارعة، (وَمَا أَدْرَاكَ) اعتراض، (يَوْمَ يَكُونُ) خبر القارعة الأولى، ورده ابن عرفة: بأن جملة الاستفهام غير خبرية، فلا يصح كونها صفة إلا على إضمار القول مثل: جاؤوا [بِمَذْقٍ*] هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ؟، قال ابن عرفة: ويحتمل أن تكون الجملتان معا اعتراضا، كما قالوا في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧). إلا ابن مالك فيما أظن، ذكر أنه بجملتين دليل.
قوله تعالى: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)﴾
قيل العهن الصوف الأحمر، وقيل [الصوف المصبغ*] ألوانا، واحتج هؤلاء بقول زهير:
كَأَنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كلِّ مَنْزِلٍ نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ [الفَنَا*] لم يُحَطَّمِ
و [الفَنَا*] عنب الثعلب وحبه قبل التحطيم فيه الأصفر والأحمر والأخضر.
ابن عرفة: هو عنب الذئب عندنا، وقال: لَا علم الذات [نفت] من الشيء، والعهن [الصوف المصبوغ*] المشبه بحب [الفَنَا*]، و [الفَنَا*] شجر له حب أحمر شبه ما تفت من العهن الذي يزين به الهودج إذا نزلت بغصون [الفَنَا*]، وقوله: لم يحطم أراد أنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة، وإنما تشتد حمرته ما دام صحيحا.
ابن عرفة: وذكر صاحب فقه اللغة أن البعض لَا يصدق إلا على الصوف الملون والمنقوش المتخلخل الأجزاء، وهو الذي ليست أجزاؤه متراصة ولا ينفصل بعضها من بعض، فإن فصل موضع شيء هنا وشيء هناك فذاك تفريق لَا نفش.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦)﴾
ابن عرفة: الفاء إما للاستئناف، أو للسبب على وجهين: إما باعتبار الوجوه، مثل: قاتل زيد فظفر بعدوه، وإما باعتبار الذكر البعضي، مثل: نزل بزيد أمر مهول فقتل عدوه، وسبيت زوجته وسلب ماله؛ فالأول هنا غير الثاني؛ لاستحالة كون الشيء سببا في نفسه، وكذلك هو في هذه الآية، والموازين إما جمع موزون، أو جمع ميزان، فعلى الأول الله زاد الرجحان بخلاف الثاني، وهل الموزون الصحف أو الثواب [المعد*] على الأعمال، وأما على الأعمال أنفسها فيستحيل وزنها؛ لأنها [أعراض*] قد ذهبت، قال: وظاهر كلام ابن عطية أن المؤمنين لَا بد أن ترجح كفة حسناتهم، لكن من رجحت منهم حسناته على سيئاته لم يدخل النار بوجه، ومن ساوت حسناته سيئاته اقتص منه بقدر سيئاته، ثم يدخل الجنة، والكفار ترجح سيئاتهم على حسناتهم، قال: والمشهور عند أهل السنة أنه ميزان بكفين وعمود.
قال ابن عرفة: والآية عندي من حذف [التقابل*] أي (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧) ومرتبة خالية، (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) فهو في عيشة كارهة وأمه هاوية، قال:
ومن الأظهر أن (ما) موصولة تقتضي وجود الموضوع للحكم عليه، والشرطية لَا تدخل على وجوده، ولا على إمكان وجوده، ومعنى (أُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩).. : إما أنها أم لهم مأوى، وإما أنها [جهنم*] وهو الأظهر، لقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠).. قال: وعلى الأول يعود الضمير على المفهوم من السياق، أي ما هي منزلته، ووصفها بـ (حَامِيَةٌ (١١).. إشارة إلى التفاوت الذي بينها وبين نار الدنيا، فنار الدنيا بالنسبة إليها ساكنة.
* * *
Icon