بسم الله الرحمن الرحيم
٩٤- سورة الشرحمكية، وقيل مدنية، وهو الأقوى عندي فإن اسقرار هذه النعم المعدودة فيها إنما كان بالمدينة المنورة كما لا يخفى، وآيها ثمان.
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشرحمكية. وقيل: مدنية، وهو الأقوى عندي. فإن استقرار هذه النعم المعدودة فيها، إنما كان بالمدينة المنورة، كما لا يخفى. وآيها ثمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشرح (٩٤) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أي: ألم نوسعه بإلقاء ما يسره ويقويه، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام، وتأييده وعصمته، حتى علم ما لم يعلم وصار مستقرّ الحكمة ووعاء حقائق الأنباء، والهمزة لإنكار النفي. ونفي النفي إثبات. ولذا عطف المثبت عليه. وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه، مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه، وما خفي منه. استعمل في القلب الشرح والسعة، لأنه محل الإدراك لما يسرّ وضده. فجعل إدراكه لما فيه مسرة يزيل ما يحزنه، شرحا وتوسيعا. وذلك لأنه بالإلهام ونحوه، مما ينفس كربه ويزيل همه، بظهور ما كان غائبا عنه وخفيّا عليه، مما فيه مسرته. كما يقال (شرح الكتاب) إذا وضحه. ثم استعمل في الصدر الذي هو محل القلب مبالغة فيه. لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه. ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطا. ثم سموا ضده ضيقا وقبضا. وهو من المجاز المتفرع على الكناية بوسائط، وبعد الشيوع زال الخفاء وارتفعت الوسائط- هذا ما حققه الشهاب.
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قال الشهاب: الوزر الحمل الثقيل. ووضعه:
إزالته عنه. لأنه إذا تعدى ب (على) كان بمعنى التحميل. وإذا تعدى ب (من) كان بمعنى الإزالة. والإنقاض: حصول النقيض وهو صوت فقرات الظهر. وقيل: صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه. فالإنقاض، التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض، أي صوت، كما قاله الأزهريّ.
والوجه الأول أقوى، وفي الآية، على كلّ، استعارة تمثيلية. والوضع ترشيح لها وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطا في قبول الإيمان وصحته. وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة. فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.
وعن مجاهد: أي لا أذكر إلا ذكرت معي. قال الشهاب وهذا- أي المأثور عن مجاهد- إن أخذ كلية خالف الواقع. فإنه كم ذكر الله وحده! وكم ذكر الرسول ﷺ وحده! وإن عين موضعا فهو ترجيح بلا مرجح. وإن جعلت القضية مهملة، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة.
قال: وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر، ويردّ السائل غير صفر، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها. فإن ذكره ﷺ مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب.
فلا ترى مشهدا من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك. فلا ينفك ذكره ﷺ عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتدّ بها، فتتجه الكلية. فإن قلت: من أين لك هذا التقييد، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟
قلت: المقام ناطق بهذا القيد. فإن المراد التنويه بذكره ﷺ وإشاعة قدره، الدال على قربه ﷺ من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد. وأي إشاعة أقوى من الآذان؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر.
ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعيّ في أول (رسالته الجديدة) وبينه السبكيّ في تعليقة على الرسالة فقال رحمه الله تعالى:
قال الإمام رضي الله تعالى عنه عن مجاهد في تفسير الآية: لا أذكر إلا ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدا رسول الله. قال الشافعيّ: يعني
قال السبكيّ: هذا الاحتمال من الشافعيّ جيد جدّا. وهو مبني على أن المراد بالذكر، الذكر بالقلب، وهو صحيح. فعلى هذا يعم. لأن الفاعل للطاعة أو الكافّ عن المعصية امتثالا لأمر الله تعالى به، ذاكرا للنبيّ ﷺ بقلبه، لأنه المبلغ لها، عن الله. وهذا أعم من الذكر باللسان، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها. قال الشافعيّ: فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظا في دين أو دنيا. أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد ﷺ سببها. فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر على الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله، تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل:
فأنت باب الله أيّ امرئ | أتاه من غيرك لا يدخل؟ |
فالحصر إضافيّ. انتهى كلام الشهاب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشرح (٩٤) : الآيات ٥ الى ٨]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إشارة إلى أن الذي منحه، صلوات الله عليه، من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة. وهو أن مع العسر يسرا. ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب. (وأل) في (العسر) للاستغراق ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه. فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدوّ، وقلة الوسائل إلى المطلوب. ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف. فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعدّ لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة. وقد كان هذا حال النبيّ ﷺ فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك، وهو
لطيفة:
تنكير (يسرا) للتعظيم. والمراد يسر عظيم وهو يسر الدارين. وفي كلمة (مع) إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر. فهو استعارة، شبه التقارب بالتقارن، فاستعير لفظ (مع) لمعنى (بعد) وقوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تكرير للتأكيد، أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة. وعليه أثر: «١» (لن يغلب عسر يسرين) فإن المعرّف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهودا أو جنسا. وأما المنكّر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول فَإِذا فَرَغْتَ أي من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فَانْصَبْ أي خذ في عمل آخر واتعب فيه. فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل، قاله الإمام وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ
أي في الدعوة إليه. أي لا ترغب إلا إلى ذاته، دون ثواب أو غرض آخر، لتكون دعوتك وهدايتك إليه، قال القاشانيّ.
وقال ابن جرير: اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه. إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد، والأظهر عندي، اعتمادا على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل- أن يكون معنى قوله تعالى فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم، بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار، شكرا لله على ما أنعم، وأرغب إليه خاصة ابتغاء لمرضاته. فتكون الآيتان بمعنى سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال: فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب. وهو ظاهر. نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعه. إلا أن السياق والنظائر- وهو أهم ما يرجع إليه- يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه. والله أعلم.