تفسير سورة العنكبوت

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
سورة العنكبوت
مكية وآياتها ٦٩
بسم الله الرحمان الرحيم
إلا الصدر منها العشر الآيات فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة هذا أصح ما قيل هنا. و الله أعلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ٦١ أ/ وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وآله
تفسير «سورة العنكبوت»
وهي مكّيّة إلا الصدر منها العشر الآيات فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة هذا أصحّ ما قيل هنا والله تعالى أعلم.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)
قوله تعالى: الم تقدم الكلام على هذه الحروف.
وقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ نزلت هذه الآيةُ في قوم من المؤمنينَ بمكةَ وكان كفار قريش يؤذونهم، ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك وربما استنكر بعضهم أن يُمَكِّنَ اللهُ الكفرةَ من المؤمنين.
قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآيةُ مسليةً، ومعلمةً أن هذه هي سيرة الله في عباده اختباراً للمؤمنين، ليعلم الصادقَ من الكاذِبَ «١»، و «حِسبَ» بمعنى «٢» : ظَنَّ.
والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريد بهم: المؤْمنين مع الأنبياء في سالف الدّهر.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤ الى ٧]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٠٥).
(٢) في ج: معناه.
وقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أم: معادلةٌ للهمزة في قوله:
أَحَسِبَ [العنكبوت: ٢] وكأنه تعالى قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يُفْتَنُوْنَ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئاتِ في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون عقابَ الله تعالى ويعجزونه، ثم الآيةُ بَعْدَ تَعُمّ كلّ عاصٍ، وعاملٍ سيئةٍ من المسلمين وغيرهم، وفي الآية وعيد شديد للكفرة الفاتنين، وفي قوله تعالى:
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ تثبيت للمؤمنين، وباقي الآية بَيِّنٌ، والله الموفق.
وقال ص: قول ع «١» : أم: معادِلة للألْفِ في قوله: أَحَسِبَ يقتضي أنها هنا متصلة وليس كذلك بل «أم» هنا: منقطعةٌ مقدرة ب «بل» للإضراب، بمعنى:
الانتقال لا بمعنى الإبطال، وهمزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ فلا تقتضي جواباً، انتهى.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. إخبار عن المؤْمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من الْبِدَارِ إلى الله تعالى نوه بهم- عز وجل- وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة وهم الذين فتنهم الكفار.
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ، أي: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ١١]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما رُوِيَ عن قتادةَ «٢» وغيره: أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وذلك أنه هاجر فحلفت أمه أن لا تستظلَّ بظلٍّ حتى يرجع إليها ويكْفُرَ بمحمدٍ، فلجَّ هو في هجرته، ونزلت الآية.
وقيل: بل نزلت في عياش بن أبي ربيعة وكانت قصته كهذه ثم خَدَعَهُ أبو جهل
(١) ينظر: «المحرر» (٤/ ٣٠٦).
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٢٤) رقم (٢٧٧٠١)، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٠٧)، والسيوطي (٥/ ٢٧٠) بنحوه، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة.
ورده إلى أمه. الحديث في كتب السيرة، وباقي الآية بيِّن. ثم كرر تعالى التمثيلَ بحالة المؤْمنين العاملين ليحركَ النفوس إلى نيل مراتبهم.
٦١ ب قال الثعلبي: قوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ/ أي: في زُمْرَتهم.
وقال محمد بن جرير «١» : في مدخل الصالحين: وهو الجنة.
وقيل: فِي بمعنى: «مع» و «الصالحون» : هم الأنبياء والأولياء، انتهى.
وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله: الْمُنافِقِينَ، نزلت في المتخلفين عن الهجرة المتقدِّم ذكرهم قاله ابن عباس «٢». ثم قررهم تعالى على علمه بما في صدورهم، أي: لو كان يقينُهم تامّاً وإسلامُهم خالصاً لما توقَّفُوا ساعة ولَرَكِبُوا كلَّ هول إلى هجرتهم ودار نبيهم.
وقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ هنا انتهى المدني من هذه السورة.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا... الآية، رُوِيَ: أن قائلَ هذه المقالةِ هو: الوليد بن المغيرة، وقيل: بل كانت شائعة من كفار قريش لاتباع النبي صلى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ... الآية، لأنه يلْحق كل داع إلى ضلالة كفل منها حسبما صرّح به الحديث المشهور «٣».
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٤ الى ١٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨)
(١) ينظر: «الطبريّ» (١٠/ ١٢٤).
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٢٥) رقم (٢٧٧٠٦) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٠٨) بنحوه.
(٣) تقدم تخريجه، وهو حديث: «من دعا إلى ضلالة... ».
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ... الآية، العطفُ بالفاءِ يقتضي ظاهرُه أنه لَبِثَ هذه المدةَ رسولاً يدعو إلى عبادة الله تعالى، والطُّوفانُ:
العظيمُ الطامي، ويقال ذلك لكل طامٍ خَرَجَ عن العادة من ماء، أو نار، أو موت.
وقوله: وَهُمْ ظالِمُونَ يريد: بالشرك. ثم ذكر تعالى قصةَ إبراهيم عليه السلام وقومِه، وذلك أيضاً تمثيل لقريش.
وقوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً قال ابن عباس «١» : هو نحت الأصنام.
وقال مجاهد «٢» : هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... الآية، هذه الحالةُ هي على ما يظهر مع الأحيان من إحياءِ الأرض، والنبات وإعادته ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور، ثم أمر تعالى نبيّه محمّدا صلى الله عليه وسلّم، ويحتملُ أن يكون إبراهيم عليه السلام بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج، بالسير في الأرضِ، والنظر في أقطارها، والنَّشْأَةَ الْآخِرَةَ: نشأةُ القيام من القبور.
وقوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ... الآية، قال ابن
(١) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٢٩) رقم (٢٧٧٢٠) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣١١)، وابن كثير (٣/ ٤٠٧).
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٢٩) رقم (٢٧٧١٩) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣١١)، والسيوطي (٥/ ٢٧٤) بنحوه، وعزاه للفريابي، وابن جرير عن مجاهد.
زيد «١» : لا يعجزه أهلُ الأرض في الأرض، ولا أهلُ السَّمَاءِ في السماء إن عصوه. وقيل:
معناه: ولا في السماء لو كنتم فيها. وقيل: المعنى: ليس للبشر حيلةٌ إلى صعودٍ أو نزول يفلتون بها. قال قتادة: ذَمَّ الله قوماً هانوا عليه فقال: أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي...
الآية.
قال ع «٢» : وما تَقَدَّمَ من قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ... إلى هذه الآيةِ المستأَنفةِ يُحْتَمَلُ أَن يكونَ خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلّم، ويكون اعتراضا في قصَّة إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يكونَ خطاباً لإبراهيم عليه السلام ومحاورة لقومه وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه.
وقوله تعالى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي بأن جعلها برداً وسلاماً.
قال كعب «٣» الأحبار- رضي الله عنه-: ولم تحرقِ النارُ إلا الحبل الذي أو ثقوه به وجعل سبحانه ذلك آية، وعبرةً، ودليلاً على توحيده لِمن شرح صدره ويسره للإيمان. ثم ذكر تعالى أن إبراهيم- عليه السلام- قررهم على أنَّ اتخاذَهم الأوثانَ إنما كان اتباعاً من بعضهم لبعضٍ وحفظاً لمودتهم الدنيوية وأنهم يوم القيامة يَجْحَدُ بعضُهم بعضاً، ويتَلاَعَنُون لأن توادَّهم كان على غير تقوى، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: ٦٧].
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٦ الى ٣٥]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠)
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
(١) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٣١) رقم (٢٧٧٢٦).
(٢) ينظر: «المحرر» (٤/ ٣١٢).
(٣) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٣٢) رقم (٢٧٧٢٧) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣١٢- ٣١٣)، والسيوطي (٥/ ٢٧٤) بنحوه، وعزاه لكعب.
292
وقوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ/ لُوطٌ معناه: صدق، وآمن: يتعدى باللام والباء، والقائل ٦٢ أإِنِّي مُهاجِرٌ هو إبراهيم عليه السلام. قاله قتادةُ والنخعيُّ «١» وقالت فرقةٌ: هو لوط- عليه السلام-.
وقوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا... الآية، الأجرُ الذي آتاهُ الله في الدنيا: العافيةُ من النار ومن المَلِكِ الجائرِ. والعملُ الصالحُ أو الثناءُ الحسنُ قاله مجاهد «٢» ويدخل في عموم اللفظ غيرُ ما ذُكِرَ.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، أي: في عداد الصالحين الذين نالوا رضا الله عز وجل، وقول لوط عليه السلام: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، قالت فرقة: كان قطعُ الطريقِ بالسلب فاشياً فيهم، وقيل غيرُ هذا، والنادي، المجلس الذي يجتمع الناس فيه. واخْتُلِفَ في هذا المُنْكَرِ الذي يأتونه في ناديهم: فقالت فرقة: كانوا يحذفونَ الناسَ بالحصباءِ ويَسْتَخِفُّونَ بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هانىءٍ عن النبي صلى الله عليه وسلّم»
: وَكَانَتْ خُلقهُمْ مُهْمَلَةً لاَ يَرْبِطُهُمْ دِينٌ وَلاَ مروءة، وقال
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ٣١٤).
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٣٤) رقم (٢٧٧٣٥) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣١٤)، وابن كثير (٣/ ٤١١). [.....]
(٣) أخرجه الترمذيّ (٥/ ٣٤٢) كتاب التفسير: باب «ومن سورة العنكبوت»، حديث (٣١٩٠)، وأحمد (٦/ ٣٤١)، والطبريّ في «تفسيره» (١٠/ ١٣٦) رقم (٢٧٧٤٥)، والحاكم (٢/ ٤٠٩)، والطبراني في «الكبير» (٢٤/ ٤١١- ٤١٢) رقم (١٠٠٠، ١٠٠١، ١٠٠٢) كلهم من طريق أبي صالح مولى أم هانىء عن أم هانىء به..
وقال الترمذيّ: حديث حسن.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢٧٦)، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «الصمت»، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والشاشي في «مسنده»، وابن مردويه، والبيهقي في «الشعب»، وابن عساكر.
293
مجاهد «١» : كانوا يأتون الرجالَ في مَجَالِسِهِمْ وبعضُهُمْ يرى بَعْضاً.
وقال ابن عباس «٢» : كانوا يَتَضَارَطُونَ ويَتَصَافَعُونَ في مجالسهم، وقيل غير هذا، وقد تقدم قصص الآيةِ مكَرِّراً والرجزُ: العذابُ.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي: من خبرها وما بقي من آثارها، والآية:
موضع العبرة، وعلامة القدرة، ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
وقوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ... الآية، الرجاء في الآية: على بابه، وذهب أبو عُبَيْدَةَ إلى أن المعنى: وخافوا، وتَعْثَوْا معناه: تفسدوا، والسَّبِيلِ: هي طريق الإيمان، ومنهجُ النجاة من النار، وما كانُوا سابِقِينَ، أي: مفلتين أخذنا وعقابنا، وقيل: معناه: وما كانوا سابقينَ الأمَمَ إلى الكُفْر، وباقي الآية بيّن.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)
(١) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٣٧) رقم (٢٧٧٥٢)، وذكره البغوي (٣/ ٤٦٦)، وابن عطية (٤/ ٣١٥)، والسيوطي (٥/ ٢٧٦)، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» عن مجاهد.
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٣١٥).
294
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، قيل: معناه: إن الله يعلم الذين تدعون من دونه من جميع الأشياء، وقيل: ما نافية وفيه نظر، وقيل: ما استفهامية، قال جابر: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ: العَالِمُ:
مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ تعالى فَعَمِلَ بطاعته وانتهى عن معصيته.
وقوله تعالى: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: لا للعبث واللعب بل ليدل على سلطانه وتثبيت شرائعه، ويضع الدلالة لأهلها ويعم بالمنافع إلى غير ذلك مما لا يحصى عداً. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أُوحِيَ إليه، وإقامة الصلاة، أي: إدامتها والقيام بحدودها. ثم أخبر سبحانه حُكْماً منه أن الصلاة تنهى صاحبَها وممتثلَها عن الفحشاء والمنكر.
قال ع «١» : وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجبِ من الخشوعِ، والإخبات «٢» وتذكرِ الله، وَتَوَهِّمِ الوقوف بين يديه، وإنَّ قلبه وإخلاصه مُطّلَعٌ عليه مَرْقُوبٌ صَلُحَتْ لذلك نَفْسُهُ، وتذلَّلَتْ، وخَامَرَها ارتقابُ الله تعالى فاطَّرَدَ ذلك في أقواله، وأفعاله، وانتهَى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكَدْ يَفْتُرُ من ذلك حتى تظله صلاةٌ أخْرى يرجع بها إلى أفضل حاله فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاةَ المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، وقد رُوِيَ عن بعض السلف: أنه كان إذا أقام الصلاة ارتعد، واصفر لونُه، فكُلِّم في ذلك، فقال: إني أقف بين يدي الله تعالى.
قال ع «٣» : فهذه صلاة تنهى- ولا بد- عن الفحشاء/ والمنكر، وأما من كانت ٦٢ ب صلاته دائرةً حول الإجزاء، بلا تذكر ولا خشوع، ولا فضائل فتلك تترك صاحبَها من منزلته حيثُ كانَ.
وقوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عباس «٤» وأبو الدرداء «٥» وسلمان «٦» وابن
(١) ينظر: «المحرر» (٤/ ٣١٩).
(٢) أخبت لله: خشع. وأخبت إلى ربه أي اطمأن إليه. والإخبات: الخشوع والتواضع.
ينظر: «لسان العرب» ١٠٨٧.
(٣) ينظر: «المحرر» (٤/ ٣١٩).
(٤) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٤٦) رقم (٢٧٧٩٠)، وذكره البغوي (٣/ ٤٦٩)، وابن عطية (٤/ ٣٢٠)، وابن كثير (٣/ ٤١٥)، والسيوطي (٥/ ٢٨٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٥) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٤٧) رقم (٢٧٨٠١) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٠)، وابن كثير (٣/ ٤١٥)، والسيوطي (٥/ ٢٨١)، بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير عن أبي الدرداء.
(٦) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٤٧) رقم (٢٧٨٠٢)، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٠)، وابن كثير (٣/ ٤١٥).
295
مسعود «١» وأبو قرة «٢» : معناه: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وقيل: معناه: ولذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. وقال ابن زيد وغيره: معناه: ولذكر الله أكبر «٣» من كل شيء. وقيل لسلمان: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ فقال: أَمَا تَقْرَأُ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. والأحاديثُ في فَضْلِ الذّكْر كثيرةٌ لا تنحصر.
وقال ابن العربي في «أحكامه» «٤» : قوله: ولَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فيه أربعة أقوال:
الأول: ذكر الله لكم أفضلُ من ذكرِكم له أضاف المصدر إلى الفاعل.
الثاني: ذكر الله أفضل من كل شيء.
الثالث: ذكر الله في الصلاة أفضل من ذكره في غيرها يعني: لأنهما عبادتان.
الرابع: ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة وهذه الثلاثة الأخيرة من إضافة المصدر إلى المفعول، وهذه كلها صحيحةٌ، وإن للصلاةِ بركةً عظيمةً، انتهى.
قال ع «٥» : وعندي، أن المعنى: ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجُزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة، لأنَّ الانتهاءَ لا يكونُ إلا من ذَاكِرٍ للَّهِ تعالى، مراقب له، وثوابُ ذلك الذكر أن يذكُرَه الله تعالى، كما في الحديث الصحيح: «ومن ذَكَرَنِي فِي مَلإِ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإِ خَيْرٍ مِنْهُمْ» «٦» والحركاتُ التي في الصلاة لا تأثيرَ لها في نهي، والذكرُ النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرُّغه إلا من الله تعالى. وأما ما لا يتجاوز اللسانَ ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضةُ الهدى ونور العلم عليه وذلك ثمرة ذكر العبد ربّه.
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٠)، وابن كثير (٣/ ٤١٥)، والسيوطي (٥/ ٢٨٠)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في «زوائد الزهد»، وابن جرير عن ابن مسعود.
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٤٧) رقم (٢٧٨٠٣)، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٠)، والسيوطي (٥/ ٢٨٠)، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن جابر قال: سألت أبا قرة.
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٠).
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٤٨٧).
(٥) ينظر: «المحرر» (٤/ ٣٢٠). [.....]
(٦) تقدم تخريجه، وهو حديث: «أنا عند ظن عبدي بي».
296
قال الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: ١٥٢].
وعبارة الشيخ ابن أبي جمرة: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ معناه: ذكره لك في الأزل أن جعلك من الذاكرينَ له أكبرٌ من ذكرِك أنت الآن له، انتهى.
قال القُشَيْريُّ في «رسالته» : الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وهو العمدة في هذا الطريق ولا يصل أحد إلى الله سبحانه إلا بدوام الذكر، ثم الذكرُ على ضربين: ذكر باللسان، وذكرٌ بالقلب، فذكر اللسان: به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب، والتأثيرُ لذكر القلب، فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه، وقلبه فهو الكامل في وصفه، سمعتُ أبا علي الدقاق يقول: الذكر منشورُ الولاية، فمن وُفِّقَ للذكر فقد وُفِّقَ للمنشور ومن سُلِبَ الذكرَ فقد عُزِلَ، والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات. وأسند القشيريُّ عن المظفر الجصاص قال: كنت أنا ونصرَ الخراط ليلةً في موضع فتذاكرنا شَيْئاً من العلم فقال الخراط:
الذاكر للَّه تعالى فائدته في أول ذكره: أنْ يعلمَ أنَّ الله ذكَره فبذكر الله له ذِكرُه، قال:
فخالفته، فقال: لو كان الخضرُ هاهنا لشهد لصحته، قال: فإذا نحن بشيخٍ يجيء بين السماء والأرض، حتى بلغ إلينا وقال: صدق الذاكر للَّه بفضل الله، وذكره له ذكرَه، فعلمنا أنه الخضر عَليه السلام، انتهى. وباقي الآيةِ ضَرْبٌ من التَوعُّدِ وحثٌّ على المراقبةِ، قال البَاجِيُّ في «سنن الصالحين» :/ قال بعض العلماء: إن الله عز وجل يقول: «أيّما عبد ٦٣ أاطّلعت عَلَى قَلْبِهِ فَرَأَيْتُ الغَالِبَ عَلَيْهِ التَّمَسُّكَ بِذِكْرِي تَوَلَّيْتُ سِيَاسَتَهُ، وَكُنْتُ جَلِيسَهُ وَمُحَادِثَهُ وَأَنِيسَهُ». انتهى.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)
وقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هذه الآية مَكيةٌ، ولم يكن يومئذٍ قتالٌ، وكانتِ اليهودُ يومئذٍ بمكة وفيما جاورها، فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدالٌ واحتجاجٌ في أمر الدينِ وتكذيب، فأَمر الله المؤمنين ألا يجادلوهم إلا بالتي هي أحسن دعاءً إلى الله تعالى وملاينةً، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين وحصلت منه أذية فإن هذه الصنيفة استُثْنِيَ لأهل الإسلام معارضَتُهَا بالتغيير عليها،
297
والخروج معها عن التي هي أحسن. ثم نُسِخَ هذا بَعْدُ بآية القتال وهذا قول قتادة «١» وهو أحسن ما قيل في تأويل الآية.
ت: قال عزُّ الدين بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ في «اختصاره لقواعد الأحكام» «٢» : فائدة: لا يجوز الجدال والمناظرة إلا لإظهار الحقِّ ونُصْرَتِهِ ليُعْرَفَ ويُعْمَلَ به، فمن جادل لذلك فقد أطاع، ومن جادَلَ لغرضٍ آخر، فقد عصى وخَابَ، ولا خير فيمن يتحيَّلُ لِنُصْرَةِ مذهبه مع ضعفه وبُعْدِ أدلته من الصواب، انتهى.
تنبيه: رَوَى الترمذيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «الحَيَاءُ وَالْعِيُّ: شُعْبَتَانِ مِنَ الإيمَانِ، والبَذَاءُ وَالبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النَّفَاقِ» «٣». وروى أبو داود والترمذيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّ اللهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ بلسانها» حديث «٤»
(١) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٥٠) رقم (٢٧٨٢٢) بنحوه، وذكره البغوي (٣/ ٤٧٠) بنحوه، وابن عطية (٤/ ٣٢١) بنحوه، وابن كثير بنحوه (٣/ ٤١٥)، والسيوطي (٥/ ٢٨٢)، وعزاه لأبي داود في «ناسخه»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف» عن قتادة.
(٢) قال «المقري» في «قواعده» : لا يجوز التعصب إلى المذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج، وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ، أو المرجوحية عند المجيب، كما يفعله أهل الخلاف، إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة، والتعليم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق، فالحق أعلى من أن يعلى، وأغلب من أن يغلب. وقال أيضا: ولا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص من بهجتها، ويذهب بالثقة بظاهرها فإن ذلك إفساد لها، وغض من منزلتها، لا أصلح الله المذاهب بفسادها، ولا رفعها بخفض درجاتها، فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح لنا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل لا يجوز الرد مطلقا لأن الواجب أن ترد المذاهب إليها كما قال «الإمام الشافعي»، لا أن ترد هي إلى المذاهب ولله درّ علي- رضي الله عنه- أي بحر علم ضم جنباه! - إذ قال لكميل بن زياد لما قال له: أترانا نعتقد أنك على الحق، وأن طلحة، والزبير على الباطل؟!: اعرف الرجل بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.
وما أحسن قول أرسطو لما خالف أستاذه أفلاطون: تخاصم الحقّ وأفلاطون، وكلاهما صديق لي، والحق أصدق منه. انظر «القواعد» (٢/ ٣٩٧) وما بعدها بتصرف، وينظر: «القواعد الصغرى» بتحقيقنا ص ١٠٩.
(٣) أخرجه الترمذيّ (٤/ ٣٧٥) كتاب البر والصلة: باب ما جاء في العي، حديث (٢٠٢٧)، وأحمد (٥/ ٢٦٩)، والحاكم (١/ ٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤١٠- بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن مطرف أبي غسان عن حسان بن عطية عن أبي أمامة مرفوعا.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث أبي غسان محمد بن مطرف.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
(٤) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٢٠) كتاب الأدب: باب ما جاء في المتشدق في الكلام، حديث (٥٠٠٥)، والترمذيّ (٥/ ١٤١) كتاب الأدب: باب ما جاء في الفصاحة والبيان، حديث (٢٨٥٣)، وأحمد (٢/ ١٦٥، ١٨٧) من طريق نافع بن عمر الجمحي عن بشر بن عاصم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
298
غريب، انتهى وهما في «مصابيح البغوي». وروى أبو داودَ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الكَلاَمِ لِيَسْبِيَ بِه قُلُوبَ الرِّجَالِ، أَوِ النَّاسِ- لَمْ يَقْبَلِ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً» «١» انتهى.
وقوله تعالى: وَقُولُوا آمَنَّا الآية، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراةَ بالعبرانيةِ ويفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ «٢» »، وقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» وَرَوَى ابنُ مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوْكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا: إمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وإمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ» «٣».
وقوله تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريدُ: التوراة والإنجيل كانوا في وقت نزول الكتاب عليهم يؤمنون بالقرآن. ثم أخبر عن معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم أن منهم أيضاً مَنْ يؤمن به ولم يكونوا آمنوا بَعْدُ، ففي هذا إخبارٌ بغيب بَيَّنَه الوجودُ بَعْدَ ذلك.
قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ يُشْبِهُ أَن يُرَادَ بهذا الانحناءِ كفارُ قريش. ثم بيَّن تَعَالى الحجةَ وأوضحَ البرهانَ: أَن مما يقوى أَنَّ نزولَ هذا القرآن مِن عِنْدِ الله أن محمداً- عليه السلام- جاء به في غاية الإعجاز والطُّول والتَّضَمُنِ للغيوب، وغير ذلك؟ وهو أمِّيَّ لا يقرأ ولا يكتب ولا يتلو كتاباً/ ولا يخط حروفاً ولا سبيلَ له إلى ٦٣ ب التعلم، ولو كان ممن يقرأ أو يخط، لارتاب المبطلون، وكان لهم في ارتيابهم مُعَلَّق، وأما ارتيابهُم مع وضوحِ هذهِ الحجةِ فظاهرٌ فساده.
قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ يعني: القرآن، ويحتمل أن يعودَ على أمر محمد صلى الله عليه وسلّم والظَّالِمُونَ والْمُبْطِلُونَ يعمّ لفظهما كلّ مكذّب للنبي صلى الله عليه وسلّم، ولكنّ عظم
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٢٠) كتاب الأدب: باب ما جاء في المتشدق في الكلام، حديث (٥٠٠٦) من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه البخاري (١٣/ ٣٤٥) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء»، حديث (٧٣٦٢) وفي (١٣/ ٥٢٥) كتاب التوحيد: باب ما يجوز من تفسير التوراة، حديث (٧٥٤٢)، والطبريّ في «تفسيره» (١٠/ ١٥١) رقم (٢٧٨٢٣) من حديث أبي هريرة.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢٨٢)، وزاد نسبته إلى النسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الشعب».
(٣) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠/ ١٥١) رقم (٢٧٨٢٥)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢٨٢)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.
299
الإشارةَ بهما إلى قريش لأنهم الأهم قاله مجاهد «١».
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ الضمير في: قالُوا لقريش ولبعض اليهود لأنهم كانوا يعلِّمون قريشاً مثل هذه الحجة على ما مر في غير ما موضع. ثم احتج عليهم في اقتراحهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات ومعجز للجن والإنس فقال سبحانه:
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ... الآية.
وقوله: آمَنُوا بِالْباطِلِ يريد: الأصنام وما في معناها.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)
وقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يريد: كفارَ قريش، وباقي الآية بَيِّنٌ مما تقدم مكرّراً والله الموفق بفضله. وبَغْتَةً: معناه: فجأة: وهذا هو عذاب الدنيا كيوم بدر ونحوه. ثم توعدهم سبحانه بعذاب الآخرة في قوله: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ... الآية.
وقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ...
الآيات، هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الكائنين بمكَّة على الهجرة. قال ابن جبير «٢»، وعطاء «٣» ومجاهد «٤» : إن الأَرْض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم
(١) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٥٢) رقم (٢٧٨٣٢) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٢)، والسيوطي (٥/ ٢٨٣) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٥٦) رقم (٢٧٨٤٥- ٢٧٨٤٦) بنحوه، وذكره البغوي (٣/ ٤٧٢) بنحوه، وابن عطية (٤/ ٣٢٤)، والسيوطي (٥/ ٢٨٥) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير.
(٣) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٥٦) رقم (٢٧٨٤٧) بنحوه، وذكره البغوي (٣/ ٤٧٢) بنحوه، وابن عطية (٤/ ٣٢٤)، والسيوطي (٥/ ٢٨٥)، وعزاه لابن أبي الدنيا في «العزلة»، وابن جرير عن عطاء.
(٤) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٥٦) رقم (٢٧٨٤٩) بنحوه، وذكره البغوي (٣/ ٤٧٢) بنحوه، وابن عطية (٤/ ٣٢٤)، والسيوطي (٥/ ٢٨٥)، وعزاه للفريابي، وابن جرير عن مجاهد.
الهجرةُ عنها إلى بلد حق وقاله «١» مالك.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٧ الى ٦٣]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣)
وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ تحقيرٌ لأمرِ الدنيا ومخاوفِها، كأن بعضَ المؤمنين نظر في عاقبةٍ تلحقه في خروجه من وطنه أنه يموت أو يجوع ونحو هذا فحقَّر الله سبحانه شَأْنَ الدنيا، أي وأنتم لا محالة ميتون ومُحْشَرُون إلينا، فالبِدَارُ إلى طاعة الله والهجرة إليه أولى ما يُمْتَثَلُ. ذكر هشامُ بنُ عبْدِ اللَّهِ القرطبيُّ في تاريخه المسمى ب «بهجة النفس» قال: بينما المنصور جالسٌ في منزله في أعلى قصره إذ جاءه سهم عائر فسقط بين يديه فذُعِرَ المنصورُ منه ذُعْراً شديداً، ثم أخذه فجعل يقلّبه، فإذا مكتوبٌ عليه بين الرِّيشَتَيْنِ: [الوافر]
أَتَطْمَعُ في الحياة إلى التنادي وتحسب أنّ ما لك مِنْ مَعَادِ
سَتُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِكَ وَالْخَطَايَا وََتُسْأَلُ بَعْدَ ذَاكَ عَنِ الْعِبَادِ
ومن الجانب الآخر: [البسيط]
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأَيَّامِ إذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وَسَاعَدَتْكَ اللَّيَالِي فاغتررت بِهَا وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الكَدَرُ
وفي الآخر: [البسيط]
هِيَ الْمَقَادِيرُ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا فاصبر فَلَيْسَ لَهَا صَبْرٌ على حَالِ
يَوْماً تُرِيكَ خَسِيسَ القَوْمِ تَرْفَعُه إلَى السَّمَاءِ وَيَوْماً تَخْفِضُ العَالِي
ثم قرأ على الجانب الآخر من السهم: [البسيط]
مَنْ يَصْحَبِ الدَّهْرَ لاَ يَأْمَنْ تَصَرُّفَهُ يَوْماً فَلِلدَّهْرِ إحْلاَءٌ وإمرار
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٤).
301
لِكُلِّ شَيْءٍ وَإنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ إذَا انتهى مَدُّهُ لاَ بُدَّ إقْصَارُ
انتهى.
وقرأ حمزة «١» :«لنثوينهم من الجنة غرفا» : من أثوى يُثْوِي بمعنى: أقام.
وقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ... الآية: تحريضٌ على الهجرة لأَن بعضَ المؤمنين فكَّر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة، وقالوا: غربةٌ في بلد لاَ دَارَ لنا فيه ولا عقار، ولا من يطعم، فمثل لهم بأَكثر الدواب التي لا تتقوت ولا تدخر، ثم قال تعالى: اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ فقوله: لاَّ تَحْمِلُ يجوز أن يريدَ مِن الحَمْلِ، أي: لا تَنْتَقِلُ ولا تنظر في ادخاره.
قاله مجاهد «٢» وغيره. «٣»
قال ع: والادِّخار ليسَ من خُلُق الموقنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لاِبْنِ عُمَرَ: «كَيْفَ بِكَ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةِ منَ النَّاسِ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَةٍ بِضَعْف اليَقِينِ» «٤»، ويجوز أن يريدَ من الحمالة أي: لا تتكفّل لنفسها.
قال الداوديّ: وعن علي بن الأقمر: لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي: لا تدخر شيئاً لغدٍ، انتهى. وفي الترمذي عن عمر بْنِ الخَطَّابِ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً» «٥». قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح. انتهى.
(١) ينظر: «السبعة» (٥٠٤)، و «الحجة» (٥/ ٤٣٨)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٩٠)، و «معاني القراءات» (٢/ ٢٦١)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٢٩)، و «العنوان» (١٥٠)، و «حجة القراءات» (٥٥٤)، و «شرح شعلة» (٥٣٨)، و «إتحاف» (٢/ ٣٥٢). [.....]
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٥٨) رقم (٢٧٨٥٣) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٥).
(٣) ينظر: «المحرر» (٤/ ٣٢٥).
(٤) تقدم.
(٥) أخرجه الترمذيّ (٤/ ٥٧٣) كتاب الزهد: باب في التوكل على الله، حديث (٢٣٤٤)، وابن ماجه (٢/ ١٣٩٤)، كتاب الزهد: باب التوكل واليقين، حديث (٤١٦٤)، وأحمد (١/ ٣٠)، وأبو يعلى (١/ ٢١٢)، رقم (٢٤٧)، وابن حبان (٢/ ٥٠٩) رقم (٧٣٠)، وابن المبارك في «الزهد» (ص: ١٩٦- ١٩٧) رقم (٥٥٩)، والحاكم (٤/ ٣١٨)، وأبو نعيم (١٠/ ٦٩)، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (١٤٤٥)، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٣٢٨- بتحقيقنا) كلهم من حديث عمر بن الخطاب. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
302
ثم خاطب تعالى في أمر الكفار وإقامة الحجة عليهم، بأَنهم إن سُئِلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة، لم يكن لهم إلا التسليم بأنها لله تعالى، ويُؤْفَكُونَ معناه:
يصرفون.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٩]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
وقوله تعالى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وصفَ اللهُ تعالى الدنيا في هذه الآيةِ بأنها لهوٌ ولعب، أي: ما كان منها لغير وجه الله تعالى وأما مَا كان للَّه تعالى فهو من الآخرة، وأما أمورُ الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قِوَامُ العَيْشِ، والقوةُ على الطاعات فإنما هي لهو ولعب، وتأملْ ذلك في الملابِس والمطاعِم، والأقوال، والمكتسبات، وغير ذلك، وانظر أن حالةَ الغني والفقير من الأمور الضرورية واحدة:
كالتنفسِ في الهواء، وسد الجوع، وستر العورة، وتَوَقِّي الحر والبرد هذه عظم أمر العيش والْحَيَوانُ والْحَياةُ بمعنًى، والمعَنى: لا موت فيها، قاله مجاهد وهو حسن «١»، ويقال: أصله: حييان فأبدلت إحداهما واواً لاجتماع المِثْلَين. ثم وقَفَهُمْ تعالى على حالهم في البحر عند الخوف العظيم ونسيانهم عند ذلك للأصنام، وغيرها، على ما تقدم بيانه في غير هذا الموضع: ولِيَكْفُرُوا نصبٌ ب «لام كي» ثم عدَّد تعالى على كَفَرَةِ قريش نعمتَه عليهم في الحَرَمِ و «المثوى» : موضع الإقامة، وألفاظ هذه الآية في غايةِ الاقْتِضَابِ والإيجاز وجمع المعاني. ثم ذكر تعالى حالَ أوليائه والمجاهدين فيه.
وقوله: فِينا معناه: في مرضاتنا وبغيةِ ثوابِنا.
قال السدي وغيره: نزلت هذه الآيةُ قبل فَرضِ «٢» القتال.
قال ع «٣» : فهي/ قَبْلَ الجهادِ العَرْفي وإنما هو جِهَاد عامُّ في دين الله وطلب ٦٤ ب مرضاته.
(١) أخرجه الطبريّ (١٠/ ١٥٩) رقم (٢٧٨٥٨)، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٥).
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٦).
(٣) ينظر: «المحرر» (٤/ ٣٢٦).
303
قال الحسن بن أبي الحسن «١» : الآيةُ في العُبَّادِ. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما علموا «٢». وقال أبو سليمان الدَّارانيُّ: ليس الجهادُ في هذه الآية قتالَ العدو فقط بل هو نَصْرُ الدِّين والردُّ على المبطلينَ وقمعُ الظالمينَ وأعظمُه الأمر بالمعروفِ، والنهيُ عن المنكرِ، ومنه مجاهدةُ النفوسِ في طاعة الله عز وجل وهو الجهاد الأكبر قاله الحسن «٣» وغيره، وفيه حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم «رَجَعْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ» «٤» و «السُّبل» هنا يحتملُ أن تكونَ طُرَقَ الجنةِ ومَسَالِكَهَا، ويحتملُ أن تكونَ سبلَ الأعمال المؤَدِّيَةِ إلى الجنةِ، قال يوسف بن أسباط: هي إصلاح النيّة في الأعمال، وحب التَزَيُّدِ والتَفَهُّمِ، وهو أن يُجَازَى العبدُ عَلى حَسَنَةٍ بازدياد حسنةٍ وبعلمٍ يَنْقَدِحُ مِن عِلْمٍ متقدمٍ.
قال ص: وَالَّذِينَ جاهَدُوا: مبتدأ خبرُه القسمُ المحذوفُ، وجوابُه وهو:
لَنَهْدِيَنَّهُمْ، انتهى.
وقال الثعلبي: قال سهل بن عبد الله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في إقامة السنة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الجنة انتهى. واللام في قوله لَمَعَ لام تأكيد.
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٦).
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٦).
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٢٦).
(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١٣/ ٤٩٣) من حديث جابر.
وقال الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٣/ ٧) : أخرجه البيهقي في «الزهد» من حديث جابر، وقال:
هذا إسناد فيه ضعف.
304
Icon