تفسير سورة الجمعة

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

اليهود في المدينة وقد نكّل النبي ﷺ بهم في السنة الهجرية الخامسة بعد وقعة الخندق. وقد أشير إلى ذلك في سورة الأحزاب. فعلى أقل تقدير تكون سورة الجمعة قد نزلت قبل ذلك وبالتبعية قبل سورة الأحزاب. وهذا ما يبرر تقديم تفسيرها على هذه السورة. والله تعالى أعلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)
. (١) الأمّيين: الذين لا كتاب عندهم من الله. وهي هنا تعني العرب.
(٢) ولما يلحقوا بهم: الضمير في (بهم) عائد إلى الأميين موضوع الكلام في الآية الأولى كما تلهمه روح الآية وسياقها. وبخاصة كلمة (منهم) قبل الجملة.
الآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. احتوت تقرير خضوع كل من في السموات والأرض لله وتقديسهم له. وهو العظيم القدسية. العزيز الحكيم.
والآيات الثلاث احتوت تقريرا لما كان من عناية الله تعالى بالعرب وفضله عليهم وهو صاحب الفضل الذي يؤتي فضله من يشاء بعد أن كانوا في ضلال مبين وذلك:
١- بإرساله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهّر نفوسهم ويعلمهم كتاب الله وكل ما فيه من حكمة وسداد.
٢- وبعدم اقتصار ذلك على الحاضرين منهم وشموله لأناس أو أجيال منهم لم يلحقوا بهم بعد.
329
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات التالية وتمهيد لها.
وقد انطوت في حدّ ذاتها على معاني التنويه والمنّ الرباني بما كان من فضل الله على العرب وتكريمهم وتشريفهم بنبيه العربي وكتابه العربي. وفي هذا تلقين قوي بما يجب عليهم من إخلاص واستمساك شديدين بدين الله وكتابه وسنّة رسوله التي هي الحكمة التي علّمهم إياها النبي. ثم بما يجب عليهم من الدفاع عن هذا التراث المجيد وحفظه نقيّا صافيا طاهرا شكرا لله على ما كرّمهم به من عروبة نبيه وكتابه التي كان لهم فيها رفعة الذكر وعلوّ القدر وخلود الاسم وقوة السلطان الروحي بين أمم الأرض عامة والأمم الإسلامية خاصة.
وهذه المعاني كلّها مما انطوى في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سابقة «١» وعلّقنا عليها بما يقتضي، حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك وتذكير العرب به في المناسبات المختلفة والمتجددة.
ولقد ورد في فصل التفسير من صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «كنّا عند النبي ﷺ حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ:
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه رسول الله وسلمان الفارسي فينا فوضع يده عليه وقال:
والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء»
«٢». وقد أورد الطبري وغيره بالإضافة إلى هذا الحديث الذي أوردوه أقوالا معزوة إلى مجاهد
(١) انظر تفسير آيات سورة الأنبياء [١٠] والزخرف [٤٣- ٤٤] والحج [٧٨] والبقرة [١٤٣].
(٢) التاج، ج ٤ ص ٢٣٤.
330
وغيره منها أن المقصودين هم الأعاجم ومنها أنهم الذين يدخلون الإسلام إلى يوم القيامة من عرب وعجم.
ولا يبدو الحديث تفسيرا حاسما للجملة ولا حاصرا للفئات التي ذكرت الآيات أنهم لما يلحقوا بهم. وكل ما يمكن أن يفيده الحديث هو بشرى تحققت باعتناق أهل فارس الدين الإسلامي في جملة من اعتنقه من العرب وغير العرب.
وكلمتا (منهم وبهم) يجعلان صرف المعنى إلى الأميين موضوع الكلام والمعطوف عليهم هو الأولى والمعقول. وكلمة الأميين رادفت في القرآن العرب. وجاء مفردها وصفا للنبي ﷺ في آيات سورة الأعراف [١٥٧ و ١٥٨] والسورة نزلت في أواسط العهد المدني على الأرجح ثم أخذ العرب يدخلون في الإسلام جماعة بعد جماعة حتى إذا تمّ فتح مكة واعتنق أهلها الإسلام أخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا من كل صوب بحيث يصح القول إن الجملة قد تضمنت تطمينا أو بشرى ربانية تحققت في حياة النبي ﷺ والله أعلم.
هذا، وحديث أبي هريرة في حدّ ذاته يفيد كما قلنا في تعريف السورة أن السورة نزلت دفعة واحدة وأن فصولها مترابطة. والله تعالى أعلم.
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٥ الى ٨]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
. (١) أسفار: جمع سفر وهو الكتاب.
331
في الآيات:
١- تنديد لاذع باليهود. فقد أتاهم الله التوراة وأمرهم بالسير عليها وتدبر ما فيها وتنفيذه، وهذا معنى حمّلوا التوراة، فلم يفهموها ولم يقوموا بحقها وانحرفوا عنها، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل كتبا لأنه لا ينتفع بما فيها. وبئست حالة قوم مثل حالتهم بتكذيبهم آيات الله. ولن ينالوا توفيق الله وتسديده لأن الله لا يوفق الظالمين أمثالهم.
٢- وأمر للنبي ﷺ بتحدّيهم. فإذا كانوا صادقين في زعمهم أنهم أولياء الله وأصحاب الحظوة لديه دون سائر الناس فليتمنوا الموت الذي يقرّبهم إلى الجزاء الأخروي العظيم الذي يمنّون النفس به.
٣- وتقرير بحقيقة واقعهم. فإنهم لا يتمنون الموت أبدا لأنهم يخافون المصير الرهيب بسبب ما اقترفوه وقدموه بين أيديهم من الآثام. وإن الله لهو العليم بالظالمين.
٤- وإنذار لهم. فالموت الذي يخافونه ويتهربون منه ملاقيهم لا محالة.
وإنهم لراجعون إلى الله عالم الحاضر والمستقبل والمغيب ومنبّأون بما عملوا ومحاسبون عليه.
تعليق على الآية مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها والآيات السابقة لها سلسلة واحدة. نزلت دفعة واحدة. وفي سياق موقف جدلي قام بين النبي ﷺ واليهود. وتفاخر اليهود فيه وتبجحوا بأنهم أولياء الله وأحباؤه وموضع حظوته وأن الدار الآخرة خالصة لهم دون سائر الناس. بل ويستلهم من روح آيات السورة الأربع الأولى أنهم قالوا فيما قالوه إن الله جعل النبوة فيهم خاصة
332
وأنكروا- بناء على ذلك- نبوة النبي لأنه عربي. فنزلت الآيات تكذبهم وتندد بهم وتتحداهم وتفحمهم بأسلوب قوي نافذ ولاذع.
وننبّه على أن مثل هذه المزاعم والأقوال والمواقف قد حكيت عن اليهود في آيات عديدة في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مرّتا وفي سورتي النساء والمائدة اللتين تأتيان بعد مما يدل على أنها كانت تتكرر منهم في المناسبات المختلفة.
وهذا الموقف من اليهود لا يمكن أن يكون منهم إلّا في ظرف كانوا فيه في المدينة على شيء من القوة والاعتداد. وهذا يصدق عليهم في السنين الخمس الأولى من الهجرة. وهو ما جعلنا نقدم السورة على ما شرحناه في مقدمتها.
ولقد جاء في آية سورة الأعراف [١٥٧] التي سبق تفسيرها أن أصحاب التوراة والإنجيل يجدون النبي الأمّي مكتوبا في كتابيهما المذكورين وقلنا في سياق تفسيرها إن الآيات كانت تتلى علنا ولا ريب في أنها كانت تعبر عن حق وحقيقة يسلم بهما أصحاب الكتابين. ولقد جاء في آية سورة الأحقاف [١٠] التي سبق تفسيرها أن من الإسرائيليين من شهد وآمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك تقرير لواقع لا شك فيه. ولقد جاء في آية سورة الأنعام [١١٤] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وهذا تقرير لواقع لا شكّ فيه. ولقد جاء في آيات سورة الإسراء [١٠٧ و ١٠٨] وآيات سورة القصص [٥٢- ٥٥] أن الذين أوتوا العلم والكتاب اعترفوا وآمنوا بصدق القرآن ورسالة النبيّ. وجاء في آية سورة آل عمران [١٩٩] وسورة النساء [١٦٢] أن من أهل الكتاب ومن الراسخين في العلم من بني إسرائيل من اعترف وآمن بصدق رسالة النبي. وهذا وذاك تقرير لواقع لا شكّ فيه فيكون تنديد الآية الأولى التي نحن في صددها وتمثيل المنكرين لنبوة النبي من اليهود بالحمار الذي يحمل الأسفار محلّين ملزمين مفحمين لأن الذين أنكروا نبوة النبي الأمي أنكروا ما هو وارد في توراتهم الذي جعل بعضهم يسلّمون به ويؤمنون بالقرآن وبالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم.
333

[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٩ الى ١١]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
. (١) إذا نودي: إذا أذّن لأنّ في الأذان دعوة للمسلمين إلى الصلاة (حيّ على الصلاة- حيّ على الفلاح). وقد استعمل هذا الفعل في مثل هذا الموقف في إحدى آيات سورة المائدة وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً [٥٨].
في الآيات:
١- أمر موجّه للمسلمين بترك البيع والسعي إلى ذكر الله في المساجد حين يؤذّن المؤذن وينادي للصلاة يوم الجمعة.
٢- وإباحة لهم بالانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله بالكسب والعمل بعد انقضاء الصلاة.
٣- وتنديد بفريق منهم كانوا يتركون النبي قائما في المسجد يوم الجمعة ويخرجون إذا ما رأوا أو سمعوا بتجارة أو لهو. ويغفلون بذلك عن أن ما عند الله هو خير من اللهو والتجارة وأنه خير الرازقين.
تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه بخطورتها الدينية والاجتماعية ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة يوم عيد وعطلة عامّا للمسلمين
والآيات فصل مستقل عن الآيات السابقة. ولا تبدو حكمة وضعه بعدها
334
واقتصار السورة عليه وعلى الفصل السابق له إلّا إذا صحّ ما ذكرناه في المقدمة.
ونرجو ذلك.
وقد روى البخاري والترمذي في مناسبة نزول الآية الأخيرة فقط من هذه الآيات حديثا عن جابر قال: «أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبيّ ﷺ فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنزل الله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً» «١».
ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث ورووا زيادة مهمة لم ترد في الصحاح. ومن ذلك ما رواه البغوي أن الانفضاض كان بسبب سماع طبل صاحب القافلة. وأن النبي ﷺ غضب من ذلك حتى قال: «والذي نفس محمّد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا». وفي رواية: «أنه سأل كم بقي في المسجد فقالوا اثنا عشر رجلا وامرأة فقال لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء». وفي رواية رواها الطبري: «أن الانفضاض تكرّر ثلاث مرات على ثلاث جمع لم يكن يبقى في كلّ جمعة إلّا اثنا عشر رجلا وامرأة وأن النبي قال في الثالثة والذي نفسي بيده ولو اتّبع آخركم أولكم لالتهب عليكم الوادي نارا، وأنزل الله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً... إلى آخر الآية».
والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث نزلت دفعة واحدة في مناسبة تسلل المسلمين من المسجد. وقد احتوت الأولى والثانية بيانا تمهيديا بخطورة شهود صلاة الجمعة. وترك البيع في وقتها كمقدمة للتنديد. وفي هذا إذا صح صورة من صور المسلمين في العهد المدني. والراجح أنها صورة للمسلمين المستجدين من غير الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار الذين تواترت الروايات على أنهم كانوا مستغرقين في الله ورسوله، وأيّدت ذلك الآيات العديدة التي مرّت أمثلة منها.
وروح الآيات تلهم أن صلاة يوم الجمعة والقيام للخطبة بين يديها مما كان جاريا ومفروضا قبل نزولها وأنها نزلت للحثّ على شهودها وبيان خطورتها
(١) انظر التاج ج ٤ ص ٢٣٤- ٢٣٥ وكلمة (عير) بمعنى القافلة ومن ذلك في سورة يوسف وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢).
335
والتنديد بالمنفضين عنها أو المهملين فيها. وهذا المعنى يكون صحيحا وحاسما إذا صحّ ترجيحنا بأن الآيتين الأولى والثانية نزلتا مع الآية الثالثة دفعة واحدة وهو ما نرجوه.
وهناك روايات وآثار تؤيد ذلك حيث روى ابن هشام عن ابن إسحاق أن النبي ﷺ نزل في قباء حينما جاء من مكة مهاجرا فأقام فيها أياما وأن صلاة الجمعة أدركته في بني سالم بن عوف فصلّاها في مسجدهم الذي أسّسه لهم في بطن وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلّاها بالمدينة «١». وهذه الرواية تدل على أن صلاة الجمعة كانت تقام في مكة أيضا قبل الهجرة. وقد يؤيد هذا حديث رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن مالك وكان يقود أباه بعد ذهاب بصره قال: «كان أبي إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة فسألته عن ذلك فقال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة قلت كم أنتم يومئذ؟ قال أربعون» «٢». وأسعد بن زرارة هو أحد زعماء الأوس الذين بايعوا النبي ﷺ في مكة وتعاقدوا معه. ولا ريب أنه تلقى واجب صلاة الجمعة عنه كما تلقى عنه واجبات الإسلام الأخرى...
ولقد روي فيما روي «٣» أن أهل يثرب رأوا أن يتخذوا لهم يوما يجتمعون فيه كما كان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فاختاروا يوم الجمعة. كما روي «٤» أن كعب بن لؤي رتّب أو سنّ اجتماعات عامة تقوم في هذا اليوم وبدّل اسمه من (العروبة) إلى يوم الجمعة. والمتبادر أن اسم اليوم وما توخّي منه أعمّ من نطاق يثرب وأقدم. وأن للاسم دلالة ظاهرة على معناه. وأن لرواية سنة كعب وتغييره اسم اليوم من العروبة إلى الجمعة أصلا وحقيقة مع ترجيحنا أن يكون الاجتماع المسنون ذا صبغة أو غاية دينية طقسية واجتماعية معا. وقد تكون فكرة
(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١١١- ١١٢.
(٢) التاج، ج ١ ص ٢٤٧- ٢٤٨ ومعنى جمع بنا صلّى بنا صلاة الجمعة.
(٣) تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي ج ٥ ص ٢٤٦.
(٤) المصدر نفسه.
336
التفرغ للصلاة أو لبعض الطقوس الدينية أو عقد اجتماعات عامة في يوم الجمعة في الجاهلية مقتبسة من اليهود والنصارى في الأصل أو قد لا تكون. فهناك أمم قديمة كثيرة كان لها أيام أسبوعية خاصة للاجتماعات الدينية والاجتماعية العامة لا تمتّ إلى النصرانية ولا إلى اليهودية كما لا يخفى.
على أن سكوت الروايات عن الإشارة بشيء هام إلى هذا الاجتماع الأسبوعي الجاهلي القديم يدلّ على أنه لم يظلّ على خطورته الأولى أو بالأحرى على أنه قد أهمل في عهد الجاهلية المتأخر ولم تبق له إلّا ذكرى الاسم فأحياها الإسلام ليكون هذا اليوم العربي الأسبوعي يوما مشهودا لذكر الله واجتماع المسلمين للصلاة في وسطه وسماع الخطبة والموعظة من رسول الله والأئمة من بعده.
وظاهر مما تقدم أن تشريع صلاة الجمعة في الإسلام كان في بدئه مكّيا ونبويا ثم صار بالآيات التي نحن في صددها قرآنيا ولعلّ في إيراد الآيات الثلاث بعد فصل التنديد باليهود ردّا على ما خمّناه من تفاخر هؤلاء بيوم معين في الأسبوع كله عندهم. فالله سبحانه قد جعل للمسلمين أيضا يوما معينا له هو يوم الجمعة ولقد رويت أحاديث عديدة في تعيين الله يوم الجمعة للمسلمين وفي فضلها وفضل صلاتها ووجوب شهودها والاحتفال لذلك، منها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان والنسائي جاء فيه: «قال النبيّ ﷺ نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا تبع فيه. اليهود غدا والنصارى بعد غد» «١».
وحديث عن أبي هريرة رواه مسلم والنسائي وأحمد جاء فيه: «سمعت رسول الله ﷺ يقول على أعواد منبره لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين» «٢». وحديث عن أبي الجعد الضّمري رواه أصحاب السنن والحاكم جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من ترك ثلاث جمع تهاونا بها
(١) التاج، ج ١ ص ٢٤٤- ٢٦٢.
(٢) المصدر نفسه.
الجزء السابع من التفسير الحديث ٢٢
337
طبع الله على قلبه» «١». وحديث عن ابن عباس رواه الشافعي جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: على كلّ محتلم رواح الجمعة وعلى كلّ من راح الجمعة الغسل» «٢».
وحديث رواه أبو داود والبيهقي عن طارق بن شهاب جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقا في كتب لا يمحى ولا يبدل» «٣» وحديث رواه أبو داود والنسائي عن حفصة جاء فيه: «قال النبيّ ﷺ الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم في جماعة إلّا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبيّ أو مريض» «٤».
وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن سلمان الفارسي وأبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويطّهر ما استطاع من الطهر ويدّهن من دهنه ويمسّ من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين ثم يصلّي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلّم الإمام إلّا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» «٥». ولفظ أبي داود: «من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومسّ من طيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخطّ أعناق الناس ثم صلّى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من صلاته كانت كفّارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها» «٦». وحديث رواه ابن ماجه وعبد السلام عن عبد الله بن سلام قال: «سمعت رسول الله يقول على المنبر في يوم الجمعة ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته» «٧». وحديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «على كلّ مسلم حقّ أن يغتسل في كلّ سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده». ولفظ النسائي «على كلّ رجل مسلم في كلّ سبعة أيام غسل هو يوم
(١) التاج، ج ١ ص ٢٤٤- ٢٦٢.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه. - وهذا الحديث والله لم يجعل شهود صلاة الجمعة جماعة واجبا على المرأة والصبي والعبد المملوك فهو لا يمنع ذلك لمن أراد واستطاع منهم كما هو المتبادر.
(٥) المصدر نفسه وتفسير ابن كثير. [.....]
(٦) المصدر نفسه.
(٧) المصدر نفسه.
338
الجمعة» «١». وحديث رواه الترمذي جاء فيه: «من تخطّى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنّم» «٢». وحديث رواه الخمسة إلّا أبا داود جاء فيه: «إنّ رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها غير مسلم وهو قائم يصلّي يسأل الله شيئا إلّا أعطاه إيّاه وأشار بيده يقلّلها» «٣». وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي موسى عن وقت هذه الساعة أن رسول الله قال: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» «٤». وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» «٥».
وهناك أحاديث أخرى اكتفينا بما تقدم حيث تدل كثرتها على ما كان من اهتمام رسول الله ﷺ لصلاة الجمعة وشهودها والتطهر والتزين والتجمّل لها وحيث ينطوي في هذا ما ينطوي من تعليم وتأديب رائعين. وخطورة واجتماع الجمعة الاجتماعية أيضا واضحة بالإضافة إلى خطورته الدينية. حيث يجتمع المسلمون جميعهم في المساجد في المدن والقرى في مشهد رائع عظيم فيذكرون اسم الله ويصلّون له ويستمعون لوعظ الخطباء. وقد يدخل هذا في حكمة التنبيه والإنذار القرآنية والنبوية. ولقد كانت هذه الخطورة أشدّ وأعظم في زمن رسول الله وخلفائه الراشدين حيث كانوا هم الذين يخطبون الناس خطبا تتناول أمور المسلمين العامة الحاضرة سياسية واجتماعية وجهادية وأخلاقية حثّا وزجرا وتعليما وإرشادا وإخبارا واستشارة. ومن الواجب حتما على المسلمين وخطبائهم أن يلتزموا بالأمر الرباني والنبوي والسنّة النبوية والراشدية.
ولقد استدل الفقهاء والمفسرون من جملة وَتَرَكُوكَ قائِماً على أن النبي ﷺ كان يلقي خطبة الجمعة وهو واقف. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال:
(١) المصدر السابق وتفسير ابن كثير.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
339
«كان النبيّ ﷺ يخطب ثمّ يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن» «١». وفي رواية: «كان للنبيّ خطبتان يجلس بينهما» «٢».
وهناك بعض أحكام فرعية للفقهاء فيها بعض الخلاف ليس هنا موضع التبسّط فيها غير أننا نرى أن نشير إلى نقطة هامة كثر القول فيها وهي فكرة اتخاذ يوم الجمعة يوم عطلة وراحة للمسلمين. فالذي يتبادر لنا أن الأمر بترك البيع والسعي إلى الصلاة كان من مقتضى الواقع أو بسبب كون البيع هو الذي كان يشغل الناس عن السعي إلى صلاة الجمعة أكثر. ولا يعني أن الذين لا يبتاعون مسموح لهم أن يتابعوا ما هم فيه من عمل وغير مأمورين إلى تركه والسعي إلى صلاة يوم الجمعة حينما يؤذن لها. بحيث يصحّ القول إن الآيات هي في صدد شهود الصلاة وسماع الخطبة في وقتها المعيّن، وحظر البيع والاشتغال بأمور الدنيا المباحة في هذا الوقت وإباحة ذلك بعد انقضاء الصلاة. وليس فيها ما يمنع اتخاذ هذا اليوم يوم راحة وعطلة أسبوعية كما أنه ليس فيها ما يوجب ذلك. وهذا شأن كسائر الشؤون الاجتماعية المباحة متروك لما يراه المسلمون ويتفقون عليه فيما يتبادر لنا. وإذا كان رأي أولي الأمر وعاداتهم المباحة مما يكون مرجحا في شؤون مسلمين التي لم يرد فيها نصّ فإن ذلك في جانب اتخاذ هذا اليوم يوم راحة وعطلة أسبوعية عام لأن الأولي الأمر ومصالح الحكومة جرت على هذا منذ الأمد الطويل. ولقد رأينا المفسر القاسمي يقول إن جملة: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تدل على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة الذي فيه تشبيه بأهل الكتاب. ولسنا نرى هذا محلّه. فالآيات انطوت على تقرير كون الممنوع هو البيع والشراء وقت الصلاة ثم إباحتهما بعدها.
والإباحة لا تعني الإيجاب. وفي الأحاديث السابقة حثّ نبوي على الاحتفال بيوم الجمعة من لبس ثوب نظيف غير ثوب المهنة والاغتسال والتطيّب مما يمكن أن يكون فيه تدعيم لفكرة اتخاذ هذا اليوم يوم عيد وعطلة وراحة للمسلمين، والله تعالى أعلم.
(١) التاج ج ١ ص ٢٤٤- ٢٦٢، وتفسير ابن كثير.
(٢) المصدر نفسه.
340
كلمة في حالة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد
لقد قرأنا في كتاب مبادئ الفقه الإسلامي في العبادات للشيخ الفاضل محمد سعيد الوفي طبعة ثالثة الصفحة ٨٩ حديثا: رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن ماجه عن زيد بن أرقم عن النبي ﷺ أنه قال في يوم جمعة كان يوم عيد أيضا:
«أيّها الناس إنّ هذا اليوم قد اجتمع لكم فيه عيدان فمن أحبّ أن يشهد معنا الجمعة فليفعل ومن أحبّ أن ينصرف فليفعل». ولم نجد هذا الحديث في كتاب التاج الجامع للكتب الخمسة التي منها كتابا أبي داود والنسائي. وإنما قرأنا حديثا قريبا منه في مجمع الزوائد هذا نصّه: «عن ابن عمر قال: اجتمع عيدان في عهد رسول الله ﷺ يوم فطر وجمعة فصلّى بهم رسول الله ﷺ العيد ثم أقبل عليهم بوجهه فقال يا أيّها الناس قد أصبتم خيرا وأجرا. وأنا مجمعون فمن أراد أن يجمع معنا فليجمع ومن أراد أن يرجع إلى أهله فليرجع». رواه الطبراني في الكبير من رواية إسماعيل بن إبراهيم التركي عن زياد بن راشد أبي محمد السماك ولم أجد من ترجمها. ومجمعون مأخوذ من الجمعة. وجملة ولم أجد من ترجمهما لمؤلف الزوائد وعنى على الأغلب الراويين إسماعيل وزياد. ونقول تعليقا على ذلك إن الإجابة لنداء الجمعة فرض قرآني واجتماع وصلاة العيد سنّة. ولا يصح فيما يتبادر والله أعلم أن يستغنى عن الفرض بالسنّة مع عظم خطورة هذا الفرض وما ورد في تركه من أحاديث صحيحة عديدة أوردناها قبل قليل... حتى ولو قيل إن الاستغناء هو عن حضور اجتماع وخطبة الجمعة ولا يعني سقوط صلاة الظهر. وهذا ما يجعلنا نتوقف في هذا الحديث إلّا إذا كان النبي ﷺ أذن لأناس لا يسمعون نداء الجمعة أو لا تجب عليهم لعذر ما، والله تعالى أعلم.
استطراد إلى الأذان في الإسلام
إن تعبير يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يعني الأذان وقد عبّر به بذلك في آية أخرى في سورة المائدة. وقد رأينا من المناسب أن
341
نستطرد هنا فنقول إن هناك بعض الآثار في أوليته وكيفيته. فهناك حديث يرويه الطبراني عن ابن عمر جاء فيه: «إنّ النبي ﷺ لما أسري به إلى السماء أوحي إليه بالأذان» «١». وقال الطبراني إن من رواة هذا الحديث طلحة بن زيد الذي ينسب إليه الوضع، وكونه موضوعا واردا لأن مقتضاه أن يكون الأذان مكّيا وهو ما لا يعقل لأن المسلمين كانوا في مكة ضعفاء وفي قلة ويجتمعون للصلاة سرّا. وفي طبقات ابن سعد روايات عن الزهري عن سعيد بن المسيب وفي موطأ مالك حديث عن يحيى بن سعيد. ويستفاد منهما أنه كان ينادي منادي النبي الصلاة جامعة فيجتمع الناس فلما صرفت القبلة نحو الكعبة أمر بالأذان، وهذا يفيد أنه كان في العهد المدني وهو الأوجه الأرجح. ومما ذكرته الروايات أن النبي قد أهمّه هذا الأمر فاقترح بعضهم الضرب بخشبتين وبعضهم الضرب بالبوق وبعضهم الضرب بناقوس. فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد الخزرجي في منامه رجلا مرّ وعليه ثوبان خضراوان وفي يده ناقوس فسأله أن يبيعه له فقال له ماذا تريد به فقال لجمع الناس للصلاة فقال له أنا أحدثك بخير من ذلك تقولون الله أكبر. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلّا الله. فلما أفاق أتى النبي ﷺ فأخبره فقال له قم مع بلال فالق عليه ما قيل لك وليؤذن بذلك ففعل. وجاء عمر فقال رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله ﷺ فلله الحمد فذلك أثبت. وفي رواية أن مما ألقي عليهما جملة (الصلاة خير من النوم) لأذان الصبح) «٢».
ومهما يكن من أمر فإن هناك حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي محذورة أن النبي ﷺ علّمه الأذان والإقامة. وصيغة الأذان هي: الله أكبر.
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. زاد في رواية ترفع صوتك فيها ثم تقول: أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. زاد في رواية تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا
(١) مجمع الزوائد ج ١ ص ٣٢٩.
(٢) انظر موطأ مالك ج ١ ص ٣٦، وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ١١ و ١٢.
342
إله إلّا الله. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حيّ على الصلاة. حيّ على الصلاة. حيّ على الفلاح. حيّ على الفلاح. فإن كان لصلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم.
الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. وصيغة الإقامة بعد حيّ على الفلاح قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله» «١». وهناك حديث يرويه الخمسة عن أنس قال: «أمر رسول الله ﷺ بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلّا الإقامة» «٢». وهناك حديث يرويه الطبراني عن بلال: «أنه كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره رسول الله أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم» «٣». ونبّه الطبراني على أن أحد رواة هذا الحديث ضعيف. وتبقى جملة (الصلاة خير من النوم) من تعليم النبي الأول على ما جاء في الحديث الأول.
وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي جحيفة قال: «رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وأصبعاه في أذنيه ورسول الله في قبة حمراء من أدم» «٤». وفي رواية «لما بلغ حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر» «٥».
وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي سعيد قال: «إنّ رسول الله ﷺ قال: إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» «٦». وزاد غير البخاري «ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه عشرا. ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» «٧».
(١) التاج، ج ١ ص ١٤٦- ١٤٨، ومعنى ما جاء في الحديث الثاني أن الجمل في الأذان تكون شفعا وفي الإقامة وترا إلا كلمات (قد قامت الصلاة) فتكون شفعا.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) مجمع الزوائد ج ١ ص ٣٣٠. [.....]
(٤) التاج، ج ١ ص ١٤٦- ١٤٨.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه.
(٧) المصدر نفسه.
343
وهناك حديث رواه الخمسة إلّا مسلما عن جابر قال: «إنّ رسول الله ﷺ قال من قال حين سمع النداء اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة» «١». وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن أنس عن النبي ﷺ قال: «لا يردّ الدعاء بين الأذان والإقامة» «٢». وحديث رواه أبو داود جاء فيه: «قال رجل يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا. فقال قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه» «٣».
والأذان الإسلامي فريد رائع في بابه. وفيه هتاف متكرر بأعلى الصوت على ملأ الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ونحلهم بأن الله أكبر من كل شيء فتمتلىء النفس المؤمنة قوة بذلك واستغناء عن غير الله واستصغارا لغير الله. وفيه دعوة متكررة إلى الفلاح والنجاح بالصلاة والتي يعبد بها المؤمن ربّه الأكبر عبادة خاضعة فيتلو فيها قرآنه المجيد ويسبّح باسمه ويحمده على نعمه ويلتمس منه الرشد والهداية بالإضافة إلى الشهادة المتكررة بنبوة محمد ﷺ الذي شاء الله أن يكون خاتم أنبيائه وأن يكون الدين الذي جاء به دين الإنسانية جميعا. ويتكرر هذا كل يوم خمس مرات ليلا ونهارا في جميع أقطار الدنيا التي ينتشر فيها المسلمون.
والله أكبر والعزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
(١) التاج، ج ١ ص ١٤٦- ١٤٨.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
344
سورة الأحزاب
في هذه السورة مواضيع عديدة ومتنوعة. منها ما هو تشريعي في صدد إلغاء أحكام التبني والظهار. ومنها ما هو حربي في صدد وقعتي الأحزاب وبني قريظة.
وفيها فصل في تخيير نساء النبي ومواعظ لهن وفيها ما فيه استدراك لمسألة طلاق الزوجة قبل المسيس. ومنها ما له علاقة بأزواج النبي ﷺ وبيوته وزواجه بمطلقة ابنه بالتبني. وفيها حملات على الكفار والمنافقين.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر ترتيب نزولها بعد سورة آل عمران. وقد ذكر ذلك في تراتيب عديدة أخرى. وهناك رواية تذكر أنها نزلت بعد الأنفال وأخرى بعد سورة النور. والتدقيق في مضامين فصول السورة وما روي من ظروف نزولها يسوّغ القول إنها نزلت في فترات متباعدة ثم ألّف بينها. ولقد احتوت مثلا فصلا في أنكحة النبي ﷺ يدلّ فحواه وما روي في نزوله على أنه نزل بعد نزول الآية التي فيها تحديد لعدد الزوجات في سورة النساء التي ذكر الرواة ترتيبها بعد هذه السورة. وفيها آيات في صدد تزوج النبي ﷺ بمطلقة ابنه بالتبني زيد ولا بد من أن ذلك كان قبل نزول آية النساء في تحديد عدد الزوجات، لأن في السورة آية تحرّم على النبي ﷺ الزواج بعد تحديد العدد وإقراره على زوجاته اللاتي في عصمته.
ولقد ذكرت الروايات أن النبي ﷺ تزوج بعض زوجاته في أثناء زيارته للكعبة في السنة السابعة للهجرة حيث يسوغ هذا القول أن تأليفها قد تأخر إلى وقت متأخر من العهد المدني. أما ترتيب المرتبين لها في النزول بعد سورة آل عمران أي كرابعة سورة فلم نر له مبررا إلا احتمال كون مطلعها قد نزل مبكرا على بعده لأن مطلعها الذي فيه تسفيه لتقاليد التبني والظهار متصل بحادث زواج النبي ﷺ بمطلقة متبنيه
345
كما نرجح. ولأن في الروايات ما قد يفيد أن هذا الحادث لم يقع مبكرا. ولم نر أي مبرر لرواية نزولها بعد الأنفال أو بعد النور.
ومهما يكن من أمر فإننا بعد تقديمنا سورة الحشر صار وضعها بعدها سائغا لأن وقعتي الأحزاب وبني قريظة قد وقعت بعد قليل من وقعة بني النضير التي نزلت فيها سورة الحشر وبذلك نكون قد راعينا التسلسل الزمني للسيرة النبوية.
هذا، ولقد روي عن عائشة أم المؤمنين: «أن هذه السورة كانت تقرأ مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلّا ما هو الآن» «١». وقد روى المفسر النسفي: «أن أبيّ بن كعب سأل أبا ذرّكم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين فقال والذي يحلف أبي به إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول». ولقد قرأنا منها آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم). وقد حمل النسفي- راوي الحديث- كلام أبي على أن المقصد منه هو الإشارة إلى ما نسخ من القرآن في عهد النبي. غير أن حديث عائشة صريح بأنها تقصد أن إسقاط معظم السورة كان في زمن عثمان.
والحديثان غير موثقين ولم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة والتوقف فيهما أولى. ومن الجدير بالذكر أن مصحف عثمان إنما نقل عن المصحف الذي حرر في زمن أبي بكر رضي الله عنهما فلم يكن أي احتمال لإسقاط معظم السورة من مصحف عثمان. ولقد كانت عائشة ذات شخصية قوية ومن مراجع القرآن والسنّة ولا يعقل أن تسكت عن هذا الإسقاط لو كان واقعا ولا يعقل أن يهمل اعتراضها.
ومع ما في تعليل النسفي لحديث أبي بن كعب من وجاهة فإننا نشك في أن يكون قد وقع نسخ آيات أو فصول كثيرة من السورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فإن مثل هذا الحادث الخطير لا يعقل أن لا يرد فيه روايات وثيقة تحتوي بيانات وافية.
(١) الإتقان ج ٢ ص ٢٦.
346
Icon