تفسير سورة الجن

القطان
تفسير سورة سورة الجن من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

النفر: ما بين الثلاثة والعشرة. عجبا: عجيبا بعديعا لا يشبهه شيء من كلام الناس. الجد: بفتح الجيم العظمة والوقار والقدر. يقال جد يجد جدا: عظم، وفي الحديث «تبارك اسمك وتعالى جَدّك» السفيه: الجاهل، الطائش. سفه يسفه سفها وسَفاها وسفاهة: خفّ وجهل وطاش. شططا: غلوا، وافراطا. يعوذون: يستجيرون ويلتجئون. كان الرجل في الجاهلية اذا امسى في مكان خالٍ يقول: أعوذُ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، ولا يعوذ بالله. رهقا: إثما، وحَمْلَ المرء على ما لا يطيق.
قل يا محمد لأمتك: أوحى اللهُ إليَّ أنه استمعَ إلى تلاوة القرآنِ جماعةٌ من الجنِّ فدُهِشوا من عَظَمتِه وبلاغته فقالوا لقومهم: إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ، فدُهِشوا من عَظَمت~هـ وبلاغته فقالوا لقومهم: إنّا سَمِعْنا قرآناً بدينعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ، يدعو الى الهُدى ﴿فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً﴾. وقل لهم: إنه جلَّ وعلا ما اتخذَ زوجةً ولا ولدا. وعلى لسان الجنّ أخبرهم يا محمد انه كان يقول سفهاؤنا على الله قولاً بعيداً عن الحقّ والصواب، وأنّا كنا نظنّ أن لن يَكذِب احد على الله تعالى فينسبَ اليه الزوجة والولد، ويصفه بما لا يليق به. وكذلك أخبر قومك يا محمد أن بعض الجن يقولون إن رجالاً من الانس كانوا يستعيذون برجال من الجن ولا يستعيذون بالله فزادهم الجن ضلالا وطغيانا. وأن الجنّ ظنّوا كما ظننتم معشَرَ الانس، ان الله لن يبعثَ أحداً بعد الموت ولن يبعثَ رسولاً من البشَر إليهم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وحفص: وأنه تعالى بفتح الهمزة وكل ما هو معطوف عليها، وذلك في احد عشر موضعا الى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله...﴾. وقرأ الباقون بكسر الهمزة في هذه المواضع كلها الا في قوله تعالى ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ﴾ [الجن: ١٨] فانهم اتفقوا على الفتح.
اما من قرأ بالفتح في هذه المواضع فعلى العطف على قوله «فآمنا به» كأنه قيل فصدقناه وصدّقنا انه تعالى جدّ ربنا الخ... واما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا...﴾.
لقد أراد الجن ان يستمعوا خبر السماء فوجدوها ﴿مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً﴾ تنقضّ عليهم، وقالوا: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً﴾ يهلكه ويحرقه.
وان الجن قالوا: نحن لا نعلم، أعذابٌ أُريد بمن في الأرضِ من هذه الحِراسَة الشديدة على السّماء لمنعِ الاستماع، أم أرادَ بهم ربُّهم خيراً وهدى.
وان الجن منهم الأبرارُ الصالحون، ومنهم دون ذلك ﴿كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً﴾ وفرقاً شتّى وأهواءَ مختلفة.
وأنا أيقنّا أنا لن نُعجز اللهَ أينما كنّا في الأرض، ولن نُعجِزَه هَرَباً من قضائه، فإنّ الله قادرٌ علينا حيث كنّا.
وأما لما سَمِعْنا القرآن آمنّا به، فمن يؤمن بربِّه فلا يخافُ نَقْصاً من حَسَناته، ولا ظُلماً يلحقه أبدا.
وأنا فريقان: مسلمون مُقرون بالحق، وقاسِطون جائرون عادِلون عن الحق، فمن أسلمَ ﴿فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً﴾ وقصَدوا سبيلَ الحق، ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ يوم القيامة.
الى هنا انتهى كلام الجن. ثم عاد الحديث الى ذِكر ما أُوحيَ الى الرسول الكريم فقال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً﴾.
أوحى الله إلى الرسولِ الكريم ﷺ أنه لو استقام الانسُ والجنُّ على الحقّ والعملِ بشريعة العدل، ولم يَحِيدوا عنها - لأسقيناهم ماءً غزيرا، ولرزقناهم سَعة في الرزق ورخاءً في العيش. يقال سقاه وأسقاه. والفعلان وردا في القرآن الكريم.
ولنختبرهم، كيف يشكرون لله نِعمه عليهم.
﴿وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾. أي عذاباً شديداً.
ومن يغيّر او يبدّل، ولا يتّبع أوامرَ الله ونواهيَه يُدْخِله اللهُ عذاباً شاقاً لا يطيقُ له حملا.
قراءات:
قرأ هل الكوفة ويعقوب: يسلكه بالياء. والباقون نسلكه بالنون.
المساجد: جمع مسجد، موضع السجود للصلاة والعبادة، وتشمل جميع المعابد. فلا تدعوا: فلا تعبدوا. عبد الله: محمد ﷺ. لبدا: بكسر اللام وفتح الياء، جماعات والمراد: متراكمين متزاحمين. وسيأتي انه قرئ: لُبدا بضم اللام وفتح الباء، وهما لغتان. ولا رشدا: ولا نفعا. ملتحَدا: ملجأ وملاذا. امدا: غاية. رصدا: راصدا يرصده.
قل أوحي إليّ أن المساجدَ لله فلا تعبُدوا فيها مع الله أحدا. وانه لمّا قامَ محمد ﷺ يعبدُ اللهَ ويقرأُ القرآن كاد الجِنُّ يكونون مزدَحِمين عليه جماعاتٍ، نعجُّباص مما رأوه وسمِعوه.
وقال بعض المفسّرين: لمّا قامَ عبدُالله بالرسالة يدعو الله وحدَه مخالفاً المشركين في عبادَتِهم الأوثان، كادَ الكفّارُ لِتظاهُرِهم عليه وتعاوُنِهم على عَداوته يزدَحِمون متراكمين جماعاتٍ جماعات.
قل يا محمد لأولئك الّذين خالَفوك: إنما أعبدُ الله ربِّي ولا أُشركُ به في العبادة أحدا.
ثم بين انه لا يملك من الأمر شيئا وأن كل شيءٍ بيدِ الله:
﴿قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً﴾.
لستُ أملك لكم دفعَ ضرر ولا تحصيلَ هدايةٍ ونفع، وانما الّذي يملِكُ ذلك كلَّه هو الله تعالى.
ثم بين الكتاب عجز الرسول عن شئون نفسِه بعد عجزِه عن شئون غيره فقال:
﴿قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾.
إنه لا يجيرني من الله ولا يدفع عني عذابَ الله إن عصيتُه أحد، ولن أجِد من دونه ملجأً ولا ملاذا، ولن ينصرني منه ناصر.
﴿إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ﴾ إنني لا أملِك إلا تبليغاً عن اللهِ ورسالاته التي بعثني بها.
ثم بيّن جزاء الذين يعصُون الله ورسوله فقال:
﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾.
ومن يعصِ الله فيما أمَرَ به، ويكذّب برسوله - فإن جزاءه نارُ جهنم يَصلاها خالداً فيها ابدا.
﴿حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً﴾.
وعندما يرون جهنم والعذابَ الذي أُعدَّ لهم سيعلمون من هم المستضعَفون؟ المؤمنون الموحدون لله تعالى أم المشركون الذين لا ناصرَ لهم ولا معين!
ثم أمر الله رسولَه الكريم ان يقول للناس: إنه لا عِلمَ له بوقتِ الساعة، ولا يدري أقريب وقتُها أم بعيد، فهو لا يعلم شيئاً من الغَيب إلا اذا أعلمه اللهُ به. وهذا معنى قوله:
﴿إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾.
الا رسولاً ارتضاه لِعِلْمِ بعضِ الغيب، فإنه يُدخِل من بين يدي الرسولِ ومن خَلْفِه حفظةً من الملائكة تحولُ بينه وبين الوساوس، فالله يصونُ رُسلَه ويحفظهم من كل شيء.
﴿لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ﴾ وقد عَلِمَ تفصيلاً بما عندهم، ﴿وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾ فعلم عدد الموجودات كلّها، لا يغيبُ عنه شيءٌ منها.
قراءات:
قرأ ابن عامر: لُبدا بضم اللام. والباقون لبدا بكسر اللام وفتح الباء. وقرأ عاصم وحمزة: قل انما ادعو ربي بفعل الأمر، والباقون: ق لانما ادعو ربي بالفعل الماضي.
وهكذا انتهت هذه السورة الكريمة بردّ كل شيء اليه تعالى، وانه يراقب كل شيء حتى رسُله الكرام.
Icon