ﰡ
قال ابن جرير : اختلف القراء في قراءة قوله تعالى :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار، لا أقسم مفصولة من أقسم سوى الحسن والأعرج، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرآن ذلك : لأقسم بيوم القيامة. بمعنى أقسم بيوم القيامة.
ثم دخلت عليها لام القسم والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع لا مفصولة، أقسم مبتدأه على ما عليه قراء الأمصار بإجماع الحجة من القراء عليه.
وقد اختلف الذين قرؤوا ذلك على الوجه الذي اخترنا قراءته في تأويله، فقال بعضهم : لا صلة، وإنما معنى الكلام :﴿ أقسم بيوم القيامة ﴾، وعزاه إلى سعيد بن جبير.
وقال آخرون : بل دخلت لا توكيداً للكلام.
وذكر عن أبي بكر بن عياش في قوله :﴿ لا أقسم ﴾. توكيد للقسم كقوله : لا والله.
وقال بعض نحويي الكوفة : لا، رد لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار.
ثم ابتدىء القسم، فقيل :﴿ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ وكان يقول : كل يمين قبلها رد كلام، فلا بد من تقديم لا قبلها، ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحداً واليمين التي تستأنف، ويقول : ألا ترى أنك تقول مبتدئاً : والله إن الرسول لحق، وإذا قلت : لا والله، إن الرسول لحق، فكأنك أكذبت قوماً أنكروه، واختلفوا أيضاً في ذلك هل هو قسم أم لا.
وذكر الخلاف في ذلك، والواقع أن هذه المسألة من المشكلات من حيث وجود اللام، وهل هي نافية للقسم أم مثبتة ؟ وعلى أنها مثبتة فما موجبها ؟ هل هي رد لكلام سابق أم تأكيد للقسم ؟ وهل وقع إقسام أم لا ؟ كما ذكر كل ذلك ابن جرير.
وقد تناولها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في كتابه دفع إيهام الاضطراب في موضعين الأول في هذه السورة. والثاني في سورة البلد عند قوله تعالى :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ [ البلد : ١ ]، فبين في الموضع الأول أنها أي لا : نافية لكلام قبلها فلا تتعارض مع الإقسام بيوم القيامة فعلاً الواقع في قوله تعالى :﴿ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴾ [ البروج : ٢ ].
والثاني أنها صلة، وقال : سيأتي له زيادة إيضاح، والموضع الثاني :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ [ البلد : ١ ]، ساق فيه بحثاً طويلاً مهماً جداً نسوق خلاصته..
وسيطبع الكتاب إن شاء الله مع هذه التتمة فليرجع إليه. خلاصة ما ساقه رحمة الله تعالى علينا وعليه :
قال : الجواب عليها من أوجه. الأول، وعليه الجمهور أن لا هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله :
ما منعك إذا رأيتهم ضلوا ألا تتبعني. يعني أن تتبعني.
وقوله :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾.
وقوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾.
وقول امرىء القيس :
فلا وأبيك ابنة العامري | لا يدع القوم أني أفر |
ما كان يرضى رسول الله دينهم | والأطيبان أبو بكر ولا عمر |
في بئر لا حور سرى وما شعر | بإفكه حتَّى رأى الصبح شجر |
تذكرت ليلى فاعترَتني صبابة | وكاد صميم القَلب لا يتقطع |
وقوله :﴿ أقسم ﴾ : إثبات مستأنف.
وقيل : إن هذا الوجه، وإن قال به كثير من العلماء، إلا أنه ليس بوجيه عندي، لقوله تعالى في سورة القيامة ﴿ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، لأن قوله :﴿ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ يدل على أنه لم يرد الإثبات المستأنف بعد النفي بقوله ﴿ أقسم ﴾ والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضاً ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به. فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية. والمراد أنه لا يعظم بالقسم، بل هو في نفسه عظيم أقسم به أولاً. وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني، ولا يخلو عندي من نظر.
الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء، أشبعت فتحتها. والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو. ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث الحارث :
الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء، أشبعت فتحتها. والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو. ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث الحارث :
وتَضحك مني شيخة عبشمية | كأن لم ترى قَبلي يَسيرا يمانيا |
وقول الراجز :
إذا العجوز غضبت فطلق | ولا ترضاها ولا تملق |
ينباع من ذفرى غضوب جسرة | زيافة مثل العتيق المكدم |
ثم ساق الشواهد على الإشباع بالضمة والكسرة، ثم قال : يشهد لهذا الوجه قراءة قنبل :﴿ لأقسم بهذا البلد ﴾ بلام الابتداء، وهو مروي عن البزي والحسن. والعلم عند الله تعالى ا ه. ملخصاً.
فأنت ترى أنه رحمة الله قدم فيها أربعة أوجه صلة، ونفي الكلام قبلها، وتأكيد للقسم، ولام ابتداء. واستدل له بقراءة قنبل أي ﴿ لأقسم ﴾ متصلة، أما كونها لام ابتداء لقراءة قنبل والحسن، فقد تقدم أن ابن جرير لا يستجيز هذه القراءة لإجماع الحجة من القراء على قراءتها مفصولة ﴿ لا أقسم ﴾.
ولعل أرجح هذه الأوجه كلها أنها لتوكيد القسم، كما ذكر ابن جرير عن نحويي الكوفة والله تعالى أعلم.
هذا الحسبان قد جاء مصرحاً به في قوله تعالى :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسي خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ].
وجاءه الجواب :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ يس : ٧٩ ] الآية.
كل المفسرين على أن المعنى نجعل بنانه متساوية ملتحمة كخف البعير، أي لا يستطيع أن يتناول بها شيئاً ولا يحسن بها عملاً.
وهذا في الواقع لم نفهم له وجهاً مع السياق، فهو وإن كان دالاً على قدرة الله وعجز العبد. ولكن السياق في إنكار البعث واستبعاده ومجيء نظير ذلك في سورة يس، يرشد إلى أن سبحانه قادر بعد موت العبد وتلاشيه في التراب وتحول عظامه رميماً، فهو قادر على أن يعيده تماماً، كما أنشأه أول مرة، ومن ضمن تلك الإعادة أن يسوي بنانه، أي يعدلها وينشؤها كما كانت أول مرة، والعلم عند الله تعالى.
ويرشد له قوله تعالى :﴿ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ]، ومن الخلق ما كان عليه خلق، خلق هذا الإنسان المكذب المعترض، فهو سبحانه يعيده على ما كان عليه تماماً، وهذا أبلغ في القدرة وأبلغ في الإلزام يوم القيامة. والعلم عند الله.
قرىء ﴿ برق ﴾ بكسر الراء وفتحها فبالكسر فزع، ودهش أصله من برق الرجل، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، ومنه قول ذي الرمة :
لو أن لقمان الحكيم تعرضت | لعينيه ميّ سافراً كاد يبرق |
وكنت أرى في وجه مية لمحة ***فأبرق مغشياً على مكانيا
وبرق بالفتح شق بصره، وهو من البريق، أي لمع بصره من شدة شخوصه.
قال أبو حيان : والواقع أنه لا مانع من إرادة المعنيين ما دامت القراءتان صحيحتان، وقد يشهد لهذا النص في سورة إبراهيم في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ -٤٣ ].
قال ابن كثير : ينظرون من الفزع هكذا وهكذا، لا يستقر لهم بصر من شدة الرعب.
المراد ﴿ بما قدم ﴾ هنا هو ما قدمه من عمل ليوم القيامة، كما في قوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [ الفجر : ٢٣ -٢٤ ] وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه عند قوله تعالى ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ ﴾ من سورة الزمر.
بينه قوله تعالى :﴿ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [ الإسراء : ١٤ ].
وقوله :﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] وتقدم في سورة الكهف.
أي أنها لا تنفعه آنذاك، كما في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ [ غافر : ٥٢ ].
وقد بين تعالى بعض معاذيرهم تلك في مثل قوله تعالى :﴿ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ [ القصص : ٦٣ ].
وقوله :﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾ [ الصافات : ٣٢ ].
وقوله :﴿ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٦ -١٠٨ ].
وقوله :﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾. [ الملك : ١٠ -١١ ]
فيه النهي عن تحريك لسانه صلى الله عليه وسلم، وبيان أن الله تعالى عليه جمعه وقرآنه، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان لشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه، يحرك لسانه عند الوحي فنهى عن ذلك.
وقد بين تعالى مدى هذا النهي ومدة هذه العجلة في قوله تعالى ﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [ طه : ١١٤ ] وفيه الإيماء إلى حسن الاستماع والإصغاء عند الإيحاء به كما في آداب الاستماع ﴿ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٤ ].
تنبيه
إن في قوله تعالى :﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ ﴾ فيه إشارة إلى أنه نزل مفرقاً، وإشارة إلى أن جمعه على هذا النحو الموجود برعاية وعناية من الله تعالى وتحقيقاً لقوله تعالى ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ ﴾ ويشهد لذلك أن هذا الجمع الموجود من وسائل حفظه، كما تعهد تعالى بذلك : والله تعالى أعلم.
وقال أبو حيان :﴿ إن علينا جمعه ﴾ في صدرك ﴿ وقرآنه ﴾ أي تقرأه.
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ﴾.
تقدم للشيخ بيانه عند قوله تعالى :﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ [ النجم : ٥ ] من سورة النجم.
قد نبه تعالى كما جاء في مقدمة الأضواء أنه ما من مجمل إلا وجاء تفصيله في مكان آخر، وقد نص تعالى على هذا في كثير من الآيات، كما في قوله ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءايَاتُهُ ﴾ [ فصلت : ٣ ]، وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك في أول فصلت.
تقدم بيانه للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه،
عند قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ].
لم يبين ما هي التي بلغت التراقي ولكنه معلوم أنها الروح، كما في قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٢ -٨٣ ] إلى قوله ﴿ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِين ﴾َ [ الواقعة : ٨٣- ٨٤ ]، فهذه حالات النزع والروح تبلغ الحلقوم وتبلغ التراقي. وقد يترك التصريح للعلم كما في قوله تعالى :﴿ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾ [ ص : ٣٢ ] أي الشمس، وهكذا هنا فلمعرفتها بالقرائن ترك التصريح بالروح أو النفس، وقد صرح تعالى بذلك في قوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾.
اختلف في معنى ﴿ راق ﴾ هذه، فقيل من الرقية أي قال من حوله : من يرتقيه هل من طبيب يرقيه ؟ أي حالة اشتداد الأمر عليه رجاء لشفاه أو استبعاداً بأنه لا ينفعه، وقيل : من الرقى أن تقول الملائكة من الذي سيرقى بروحه أملائكة العذاب أم ملائكة الرحمة ؟
ولكن في الآية قرينة على أن الأول أرجح، لأن قول الملائكة يكون في حق الشخص المتردد في أمره، وهذا هنا ليس موضع تردد لأن نهاية السياق فيه ﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ إلى ما بعده.
وقال أبو حيان : على أنه على قول الملائكة من يرقى بروحه، يكون ذلك كراهية. منهم أن يصعدوا بها، وفي هذا نظر، لأن الله تعالى جعل ملائكة للمشركين وهم ملائكة العذاب، وملائكة للمؤمنين، وهم ملائكة الرحمة. ولا يستكره فريق منهما أن يصعد بما تخصص له، بل قد لا يسمح للآخر بما يخصه.
كما في حديث الذي قتل مائة نفس، وأدركته الوفاة في منتصف الطريق، فحضرته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يختصمون أيهم يصعد بروحه، كل يريد أن يتولى قبض روحه أولئك يقولون : إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيراً قط، وأولئك يقولون : إنه خرج تائباً إلى الله تعالى.
وهذا كما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه من ترجيح أحد المعنيين المختلف فيهما بين المفسرين لوجود قرينة في الآية. وقد وجدت القرينة وهي ما في آخر الآية والسياق من أنه ليس موضع تردد ﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ﴾ الآية والله تعالى أعلم.
رد على زعم أنه خلق سدى وهملاً، وأنه لا يحاسب ولا يسأل وبالتالي لا يبعث.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك عند قوله تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥-١١٦ ] أي تعالى الله عن العبث، وقد ساق الشيخ الأدلة الوافية هناك.
بلى إنه على كل شيء قدير، مجيء هذا الاستفهام الإنكاري أو التقريري، بعد ﴿ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ﴾. وسوق هذه الآيات. العظيمات الدالة على القدرة الباهرة، فيه رد على إنكار ضمني وهو أنه لا يعتقد وجوده سدى ولا حساب عليه إلا من استبعد البعث.
ولو أقر بالبعث لآمن بالجزاء واعترف بالسؤال وعلم أنه لم يخلق عبثاً، ولن يترك سدى. ولكن لما أنكر البعث ظن وحسب أنه يترك سدى، فجاء تذكيره بأصل خلقته وتطوره ليستخلص منه اعترافه، لأن من قدر على خلقه من منىً يمنى، وتطويره إلى علقة ثم إلى خلق سوي، فهو قادر على بعثه مرة أخرى.
وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه الأطوار في أكثر من موضع، وأحال عليها عند قوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى ﴾ [ النجم : ٥٤- ٤٧ ] في سورة النجم.