تفسير سورة التين

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة التين من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾ ؛ هذا قسَمٌ برب التينِ والزيتون، وجوابهُ ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ ﴾. وسُئل ابن عباسٍ عن التينِ والزيتون فقالَ :((هُوَ تِينُكُمْ هَذا)).
وفي تخصيصِ التِّين من بين سائرِ الفواكه أنه ثَمَرُ شجرةٍ مثل الخبيص على مقدار اللُّقمة، ظاهرهُ مثلُ باطنهِ، وباطنهُ مثل ظاهرهِ، لا يخالطهُ قِشْرٌ، ولا نوَى على صفةِ ثمار الجنَّة. والزيتونُ ثمرُ شجرةٍ يُعصَرُ منها الزيتُ بما فيه من الطِّيب، وإصلاحِ الغداء في أكثرِ الأطعمة مع الاصطباحِ به والادِّهان به. وعن قتادةَ قال :((التِّينُ هُوَ دِمَشْقُ، وَالزَّيْتُونُ هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ))، وقال القتيبيُّ :((هُمَا جَبَلاَنِ بالشَّامِ، يُقَالُ لَهُمَا طُورُ تَيْنَا وَطُورُ زَيْنَا ؛ لأنَّهُمَا يُنْبتَانِهِمَا)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَطُورِ سِينِينَ ﴾ ؛ هو الجبلُ بمَديَنَ الذي كلَّم اللهُ تعالى بها موسى عليه السلام، وسِينِينَ وسيناءَ من أسماءِ ذلك الجبل، وعن السديِّ أنه قال :((مَعْنَى سِينِينَ الشَّجَرُ)).
ويقال : معناهُ : المباركُ. وعن عكرمةَ :((أنَّ مَعْنَاهُ الْجَبَلُ فِي الشِّتَاءِ ؛ لأَنَّهُ كَثِيرُ النَّبَاتِ وَالأَشْجَار)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهَـاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ﴾ ؛ يعني مكَّة ؛ لأنَّ أهلَها في أمنٍ من الغارةِ، وكانوا إذا سافَرُوا لم يُتعرَّض لَهم لحرمَةِ الحرَمِ، والصيدُ في الحرمِ آمنٌ، ومَن قتلَ قتيلاً، ثم لجأَ إلى الحرمِ لم يقتَصَّ منه في الحرمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ ؛ أي في أحسنِ صُورةٍ واعتدالٍ على أحسنِ صورة وهيئةٍ، وعلى كمالٍ في العقلِ والفهم، وذلك أنَّ الله خلقَ كلَّ شيء منكَبّاً على وجههِ إلاّ الإنسانَ. وَقِيْلَ : خلَقنا الإنسان مديدَ القامةِ يتناولُ ما يأكلهُ بيدهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾ ؛ أي ردَدناهُ إلى أرذلِ العمُرِ، وإلى حالِ الهرَمِ وفَقْدِ العقلِ بعد الشَّباب والقوَّة. وقال بعضُهم : معناهُ : ردَدناهُ إلى أسفلِ درَكاتِ النار في أقبحِ صُورةٍ.
ثم استثنَى المؤمنين المطيعينَ، فإنَّهم لا يُرَدُّونَ إلى أسفلِ سَافِلين، ويجوز أنْ يكون هذا استثناءً منقطعاً بمعنى لكن، ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ ؛ أي الطاعاتِ فيما بينهم وبين ربهم، ﴿ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ ؛ أي ثوابٌ غير مقطوعٍ ؛ أي لا ينقطعُ ثوابُهم بموتِهم.
وفي الحديث :" إنَّ الْمُؤْمِنَ إذا عَمِلَ فِي حَالِ شَبَابهِ وَقُوَّتِهِ، ثُمَّ مَرِضَ أوْ هَرِمَ، كَتَبَ اللهُ لَهُ حَسَنَاتِهِ، كَمَا كَانَ يَعْمَلُ فِي حَالِ شَبَابهِ وَقُوَّتِهِ، لاَ يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ ".
وعن رسولِ الله ﷺ أنَّهُ قالَ :" إذا مَاتَ الْمُؤْمِنُ فَدُفِنَ فِي قَبْرِهِ قَالَ مَلَكَانِ : يَا رَب قَدْ مَاتَ عَبْدُكَ فُلاَنٌ، فَأْذنْ لَنَا أنْ نَصْعَدَ إلَى السَّمَاءِ فَنُسَبحَكَ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلاَئِكَتِي يُسَبحُونَنِي، فَيَقُولُونَ : يَا رَب فَأَيْنَ تَأْمُرُنَا ؟ فَيَقُولُ : قُومَا عَلَى قَبْرِ عَبْدِي فَسَبحَانِي وَكَبرَانِي وَاحْمَدَانِي وَهَلِّلاَنِي، وَاكْتُبَا ثَوَابَ ذلِكَ لِعَبْدِي حَتَّى أبْعَثَهُ مِنْ قَبْرِهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾ ؛ أي ما يحمِلُكَ على التكذيب أيُّها الكافرُ بعدَ هذا البيانِ من الله تعالى بمجازاةِ الله في الآخرة. وَقِيْلَ : معناهُ : ما يكذِّبُكَ أيُّها الإنسانُ بعدَ الصُّورة الحسَنة والشباب، ثم الهرمِ والموت والحساب، أفلا تعتبرُ بحالِكَ لتعلمَ أنَّ الذي خلقَكَ قادرٌ على أنْ يبعثَكَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ ؛ أي أليسَ اللهُ بأفضلِ الفاضِلين وأعدلِ العادلين، وكان ﷺ إذا قرأ السُّورةَ قَالَ :" بَلَى يَا رَب أنْتَ أحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأنَا عَلَى ذلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ".
Icon